الخلاصة في حياة الأنبياء
موسى وهارون عليهما السلام
في الزمن الماضي كان يعيش في مصر ملك جبار طاغية، يعرف بفرعون، استعبد قومه وطغى عليهم، وقسم رعيته إلى عدة أقسام، استضعف طائفة منهم، وأخذ في ظلمهم واستخدامهم في أخس الأعمال شرفًا ومكانة، وهؤلاء هم بنو إسرائيل الذين يرجع نسبهم إلى نبي الله يعقوب-عليه السلام- وقد دخلوا مصر عندما كان سيدنا يوسف -عليه السلام- وزيراً عليها.
وحدث أن فرعون كان نائمًا، فرأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحرقت مصر جميعها إلا بيوت بني إسرائيل، فلما استيقظ، خاف وفزع من هذه الرؤيا، فجمع الكهنة والسحرة وسألهم عن تلك الرؤية فأخبروه بأن غلامًا سيولد في بني إسرائيل، يكون سببا لهلاك أهل مصر، ففزع فرعون من هذه الرؤيا العجيبة، وأمر بقتل كل مولود ذكر يولد في بني إسرائيل، خوفا من أن يولد هذا الغلام.
ومرت السنوات، ورأى أهل مصر أن بني إسرائيل قل عددهم بسبب قتل الذكور الصغار، فخافوا أن يموت الكبار مع قتل الصغار، فلا يجدون من يعمل في أراضيهم، فذهبوا إلى فرعون وأخبروه بذلك، ففكر فرعون، ثم أمر بقتل الذكور عامًا، وتركهم عامًا آخر.
فولد هارون في العام الذي لا يُقتل فيه الأطفال. أما موسى فقد ولد في عام القتل، فخافت أمه عليه، واحتار تفكيرها في المكان الذي تضعه فيه بعيدًا عن أعين جنود فرعون الذين يتربصون بكل مولود من بني إسرائيل لقتله، فأوحى الله إليها أن ترضعه وتضعه في صندوق، ثم ترمي هذا الصندوق في النيل إذا جاء الجنود، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص.
(1/178)
فجهزت صندوقًا صغيرًا، وأرضعت ابنها، ثم وضعته في الصندوق، وألقته في النيل عندما جاء جنود فرعون، وأمرت أخته بمتابعته، والسير بجواره على البر لتراقبه، وتتعرف على المكان الذي استقر فيه الصندوق.
وظل الصندوق طافيًا على وجه النهر وهو يتمايل يمينًا ويساراً، تتناقله الأمواج من جهة إلى أخرى، ثم استقرت به تلك الأمواج ناحية قصر فرعون الموجود على النيل، ولما رأت أخته ذلك أسرعت إلى أمها لتخبرها بما حدث. وكانت السيدة آسية زوجة فرعون تمشي في حديقة القصر كعادتها، ويسير من خلفها جواريها، فرأت الصندوق على شاطئ النهر من ناحية القصر، فأمرت جواريها أن يأتين به، ثم فتحنه أمامها، ونظرت آسية في الصندوق، فوقع نظرها على طفل صغير، فألقى الله في قلبها محبة هذا الطفل الصغير.
وكانت آسية عقيمًا لا تلد، فأخذته وضمته إلى صدرها ثم قبلته، وعزمت على حمايته من القتل والذبح، وذهبت به إلى زوجها، وقالت له في حنان ورحمة: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة القصص.فلما رأى فرعون تمسك زوجته بهذا الطفل، وافق على طلبها ولم يأمر بقتله، واتخذه ولدًا
ومرت ساعات قليلة وزوجة فرعون تحمل الطفل فرحة مسرورة به، تضمه إلى صدرها وتقبله، وفجأة بكى موسى بشدة، فأدركت السيدة آسية أنه قد حان وقت رضاعته فأمرت بإحضار مرضعة لترضعه، وتهتم بأمره، فجاء إلى القصر عدد كثير من المرضعات، لكن الطفل امتنع عن أن يرضع منهن، مما جعل أهل القصر ينشغلون بهذا الأمر، واشتهر هذا الأمر بين الناس، فعرفت أخته بذلك، فذهبت إلى القصر، وقابلت السيدة آسية زوجة فرعون، وأخبرتها أنها تعلم مرضعة تصلح لهذا الطفل. ففرحت امرأة فرعون، وطلبت منها أن تسرع، وتأتي بتلك المرضعة، فذهبت إلى أمها فوجدتها حزينة على ابنها حزنًا كبيرًا، فأخبرتها بما حدث بينها وبين زوجة فرعون، فهدأت نفس أم موسى وارتاح بالها.
ذهبت أم موسى مع ابنتها إلى قصر فرعون، ولما دخلته أتوها بالرضيع، وبمجرد أن قدمت له ثديها أقبل عليه الطفل وشرب وارتوى، وأخذت الأم ابنها إلى بيته الذي ولد فيه، فعاش موسى فترة رضاعته مع أبيه وأمه وإخوته، ولما عاد إلى قصر فرعون اهتموا بتربيته تربية حسنة، فنشأ وتربى كأبناء الملوك والأمراء قويًّا جريئًا متعلماً.
كبر موسى، وصار رجلاً قويًّا شجاعًا، وذات يوم، كان يسير في المدينة فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من قومه بني إسرائيل، والآخر قبطي من أهل مصر، فاستغاث الإسرائيلي بموسى، فأقبل موسى، وأراد منع المصري من الاعتداء، فدفعه بيده فسقط على الأرض ميتًا، فوجد موسى نفسه في موقف عصيب، لأنه لم يقصد قتل هذا الرجل، بل كان يريد الدفاع عن مظلوم فقط، وحزن موسى، وتاب إلى الله ورجع إليه، وأخذ يدعوه سبحانه أن يغفر له هذا الذنب.
(1/180)
ولكن سرعان ما انتشر الأمر في المدينة، وأخذ الناس يبحثون عن القاتل، ليعاقبوه، فلم يعثروا عليه، ومرت الأيام، وبينما موسى كعادته يسير في المدينة؛ فوجد الرجل الإسرائيلي نفسه يتشاجر مع مصري آخر، واستغاث مرة ثانية بموسى فغضب موسى من هذا الأمر، ثم تقدم ليفض هذا النزاع، فظنَّ الإسرائيلي أن موسى سيقبل عليه؛ ليضربه لأنه غضبان منه، فقال له: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (19) سورة القصص.
وعلم المصريون أن موسى هو القاتل، فأخذوا يفكرون في الانتقام منه، وجاء إليه من ينصحه بأن يبتعد عن المدينة. فخرج موسى من المدينة وهو خائف، يتلفت يمينًا ويساراً يترقب أهلها، ويدعو الله أن ينجيه من القوم الظالمين.
خرج موسى وليس في ذهنه مكان معين يتوجه إليه، ثم هداه تفكيره إلى أن يذهب إلى أرض مدين، فتوكل على الله، وواصل السير إليها.
فلما وصل إلى مدين، توجه ناحية شجرة بجوار بئر، وجلس تحتها فوجد فتاتين، ومعهما أغنامهما تقفان بعيدًا عن الازدحام حتى ينتهي الناس، فتقدم موسى منهما، وسألهما عن سبب وقوفهما بعيدًا، فأخبرتاه أنهما لا يسقيان حتى ينتهي الناس من سقي أغنامهم، ويخف الزحام، وقد خرجا يسقيان لأن أباهما شيخ كبير لا يستطيع أن يتحمل مشقة هذا العمل، فتقدم موسى وسقى لهما أغنامهما، ثم عاد مرة أخرى إلى ظل الشجرة ليأخذ المزيد من الراحة بعد عناء السفر. وأخذ يدعو ربه قائلاً: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24) سورة القصص
ولما عادت الفتاتان إلى أبيهما، قصتا عليه ما حدث، فأعجب الأب بهذا الرجل الغريب وشهامته ومروءته، وأمر إحدى ابنتيه أن تخرج إليه، وتدعوه للحضور حتى يكافئه، فجاءت إليه إحدى الفتاتين لتخبره بدعوة الأب، فلبى موسى الدعوة، وذهب إلى إحدى الفتاتين لتخبره بدعوة الأب، فلبى موسى الدعوة، وذهب إلى هذا الرجل الصالح، فسأله الرجل عن اسمه وقصته، فقص عليه موسى ما حدث، فطمأنه الشيخ، وطلبت إحدى الفتاتين من أبيها أن يستأجر موسى ليعينهما فهو رجل قوي أمين.
وقد عرض الشيخ على موسى-عليه السلام-أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يعمل عنده أجيرا لمدة ثماني سنوات، أو عشرًا إذا شاء.
فوافق موسى على هذا الأمر، وتزوج إحدى البنتين، واستمر يرعى الغنم عند ذلك الشيخ عشر سنين، ثم أراد موسى الرحيل والعودة بأهله إلى مصر، فوافق الشيخ الصالح على ذلك، وأكرمه وزوده بما يعينه في طريق عودته إلى مصر.
سار موسى بأهله تجاه مصر، حتى حل عليهم الظلام، فجلسوا يستريحون من أثر هذا السفر، حتى يكملوا المسير بعد ذلك في الصباح، وكان الجو شديد البرودة، فأخذ موسى يبحث عن شيء يستدفئون عليه، فرأى ناراً من بعيد، فطلب من أهله الانتظار؛ حتى يذهب إلى مكان النار، ويأتي منها بشيء يستدفئون به
توجه موسى وفي يده عصاه ناحية النار التي شاهدها، ولما وصل إليها نداء يقول: ( يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) [طه: 11-16]. ثم سأله الله-عز وجل-عما يحمله في يمينه. فقال موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (18) سورة طه.
فأمره الله-عز وجل-أن يلقي هذه العصا، فألقاها فانقلبت العصا وتحولت إلى ثعبان كبير يتحرك ويسير بسرعة، فولَّى موسى من الخوف هاربًا، فأمره الله -عز وجل-أن يعود ولا يخاف، وسوف تعود عصاه كما كانت أول مرة، فمد موسى يده إلى تلك الحية ليأخذها، فإذا بها عصا كما كانت
وكان موسى أسمر اللون، فأمره الله-عز وجل-أن يدخل يده في ثيابه ثم يخرجها، فخرجت بيضاء ناصعة البياض، فكانت هاتان معجزتين من الله لنبيه موسى، لتثبيته في رسالته المقبلة إلى فرعون وملئه، ثم أمره الله-عز وجل-بالذهاب إلى فرعون لهدايته وتبليغه الدعوة، فاستجاب موسى لأمر ربه، ولكنه قبل أن يذهب أخذ يدعو ربه بأن يوفقه لما هو ذاهب إليه، ويسأله العون والمدد، فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35))[طه: 25-35].
فاستجاب الله-عز وجل-دعاءه، فتذكر موسى أنه قتل رجلاً من المصريين، فخاف أن يقتلوه، فطمأنه الله-سبحانه-بأنهم لن يصيبوه بأذى، فاطمأن موسى.
وعاد موسى إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حدث بينه وبين الله-عز وجل-، ليشاركه في توصيل الرسالة إلى فرعون وقومه، ويساعده في إخراج بني إسرائيل من مصر، ففرح هارون بذلك، وأخذ يدعو مع موسى ويشاركه في نشر الدعوة.
(1/184)
وكان فرعون شديد البطش والظلم ببني إسرائيل فتوجه هارون وموسى -عليهما الصلاة والسلام-إلى ربهما يدعوانه بأن ينقذهما من طغيان فرعون. فقال لهما الله تعالى مطمئنًا ومثبتًا: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) [طه: 43-48].
فلما ذهب موسى مع أخيه هارون إلى فرعون قاما بدعوته إلى الله، وإخراج بني إسرائيل معهم، لكن فرعون راح يستهزئ بهما، ويسخر منهما، ومما جاءا به، وذكر موسى بأنه هو الذي رباه في قصره وظل يرعاه حتى قتل المصري وفرَّ هاربًا، فأخبره موسى أن الله قد هداه وجعله نبيًّا، لكي يدعوه إلى عبادة الله وطاعته، ولكن فرعون لم يستجب له، فعرض عليه موسى أن يأتي له بدليل يبين له صدق رسالته. فطلب فرعون منه الدليل إن كان صادقًا، فألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية كبيرة، فخاف الناس وفزعوا من هذا الثعبان، فمد موسى يده إليها وأخذها فعادت عصا كما كانت. ثم أدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء ناصعة البياض.
ولكن فرعون يعلن في قومه أن موسى ساحر، فأشار عليه القوم أن يجمع السحرة من كل مكان لمواجهة موسى وسحره، على أن يكون هذا الاجتماع يوم الزينة، وكان هذا اليوم يوم عيد فرعون وقومه، حيث يجتمع الناس جميعًا، في مكان فسيح أمام قصر فرعون للاحتفال
وسارع فرعون في إعلان الموعد لجميع الناس، ليشهدوا هذا اليوم، وكتب إلى كل السحرة ليعدوا العدة لذلك اليوم.. وجاء اليوم المنتظر، وتسابق الناس إلى ساحة المناظرة، ليروا من المنتصر؛ موسى أم السحرة؟
وقبل أن يخرج فرعون إلى موسى اجتمع مع السحرة، وأخذ يرغبهم ويعدهم ويمنيهم بآمال عظيمة إذ ما انتصروا على موسى وأخيه وتفوقوا عليهما، وكان السحرة يطمعون فيما عند فرعون من أجر ومكانة.
وبعد لحظات خرج فرعون ومن خلفه السحرة إلى ساحة المناظرة، ثم جلس في المكان الذي أُعد له هو وحاشيته، ووقف السحرة أمام موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-.
بعد ذلك رفع فرعون يده إيذانا ببدء المناظرة. وعرض السحرة على موسى أحد أمرين؛ إما أن يلقي عصاه أولاً أو يلقوا عصيهم أولاً. فترك لهم موسى البداية.
فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فسحروا أعين الناس، وتحولت جميع الحبال والعصيان إلى حيات تسعى وتتحرك أمام أعين الحاضرين، فخاف الناس من هول ما يرونه أمامهم، حتى موسى وهارون-عليهما السلام-أصابهما الخوف، ليس من هذه الحيات المزيفة ، ولكن من غفلة الناس الذين أخذوا يلوِّحون لفرعون بالنصر قبل أن يضع موسى عصاه ، فأوحى الله لموسى ألا يخاف ويلقي عصاه، فاطمأن موسى وأخوه لأمر الله، ثم ألقى عصاه فتحولت إلى حية عظيمة تبتلع حبال السحرة وعصيهم. فلما رأى السحرة ذلك علموا أنها معجزة من معجزات الله وليست سحرًا، فشرح الله صدورهم للإيمان بالله وتصديق ما جاء به موسى فسجدوا لله الواحد الأحد، معلنين إيمانهم برب موسى وهارون.
وهنا اشتد غيظ فرعون وأخذ يهدد السحرة، ويقول لهم: (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71))[طه: 71].
(1/186)
لكن السحرة لم يخافوا ولم يفزعوا من كلامه وتهديداته، بعد أن أدخل الله في قلوبهم نور الحق والإيمان، فقالوا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76))[طه: 72-76].
فغضب فرعون غضبا شديدا، وأخذ المضللون من قومه يحرضونه على موسى وبني إسرائيل، فأصدر فرعون أوامره لجنوده أن يقتلوا أبناء الذين آمنوا من بني إسرائيل، ويتركوا النساء، واستطاع فرعون بهذه التهديدات أن يرهب الضعاف والذين في قلوبهم مرض من قوم موسى، فلم يؤمنوا به خوفًا من فرعون وبطشه، وحتى أولئك الذين آمنوا لم يسلموا تمامًا من الخوف والرهبة من فرعون.
فلما رأى موسى ما أصاب قومه من خوف وهلع، توجه إلى الله بدعاء أن ينجيه والمؤمنين من كيد فرعون.
وأخذ فرعون يفكر في حيلة للخلاص من موسى، وذات يوم جمع أعوانه وعشيرته وأعلن لهم ما توصل إليه، وهو أن يقتل موسى ..وبعد أن انتهى من كلامه إذا برجل من قومه وعشيرته قد آمن بموسى سرًّا يقول له: ({وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28]، ثم أخذ يدعو المصريين للإيمان بالله ويحذرهم من العذاب. فأعرض فرعون عنه ولم يستمع إلى نصيحته.
ومرت الأيام، وأخذ فرعون وأعوانه في تعذيب بني إسرائيل وتسخيرهم في العمل، ولم يسمع لما طلبه منه موسى في أن يتركه وقومه يخرجون من مصر إلى الشام فسلط الله عليهم أعوام جدب وفقر حيث قلَّ ماء النيل، ونقصت الثمار، وجاع الناس، وعجزوا أمام بلاء الله-عز وجل-، وأنزل الله بهم أنواعًا أخرى من العذاب إضافة إلى ما هم فيه كالطوفان الذي أغرق زروعهم وديارهم، والجراد الذي أكل ما بقي من زروعهم وأشجارهم وسلط عليهم السوس، فأكل ما اختزنوه في صوامعهم من الحبوب والدقيق، وأرسل إليهم الضفادع، فأقلقت راحتهم، وحوَّل مياههم التي تأتي من النيل والآبار والعيون دمًا.
كل هذه البلايا أصابت فرعون وقومه، أما موسى ومن آمن معه فلم يحدث لهم أي شيء، فكان هذا دليلاً وبرهانًا على صدق ما جاء به موسى وأخيه هارون.
ومرت الأيام، واستمرت تلك البلايا، بل إنها كانت تزداد يومًا بعد يوم، فذهب المصريون إلى فرعون يشيرون عليه أن يطلق سراح بني إسرائيل مقابل أن يدعو موسى ربه أن يكشف ذلك الضر عنهم، ويشفع لهم عند ربه هذا العذاب والضيق.
فدعا موسى ربه، حتى استجاب له، وكشف ما أصاب فرعون وقومه من عذاب وبلاء.
(1/188)
وزاد فرعون في عناده وكفره بالله، ولما رأى موسى إصرار فرعون على كفره وجحوده، وتماديه في غيِّه وتكذيبه بكل الآيات التي جاء بها، رفع يديه إلى السماء متوجهًا إلى الله متضرعًا ومتوسلاً إليه سبحانه أن يخلص بني إسرائيل من يدي فرعون وجنوده، وأن يعذب الكفرة بالعذاب المهين.
واستجاب الله-سبحانه وتعالى-دعاء نبيه ورسوله موسى، وجاء الأمر الإلهي إلى موسى أن يخرج مع بني إسرائيل من مصر ليلاً، ولا يخاف من العاقبة، وأخبره أن فرعون سيتبعه، ولكن الله منجيه هو ومن آمن معه وسيغرق فرعون وجنوده.
فأخبر موسى بني إسرائيل بالخبر، وطلب منهم أن يتجهزوا للخروج معه إذا جنَّ الليل، فأسرع قوم موسى يتجهزون للرحيل من مصر، فهي الساعة التي طال انتظارهم بها.
وسار موسى وقومه في اتجاه البحر، وبعد ساعات طويلة كان موسى ومن معه قد قطعوا شوطًا طويلاً على أقدامهم، ووصل خبر خروج بني إسرائيل من مصر إلى فرعون فهاج هياجًا شديدًا، وأصدر أوامره أن يجتمع إليه في الحال جميع جنوده.
وفي لحظات اجتمع إلى فرعون عدد كبير من الجنود والفرسان، فأخذهم وخرج بهم يتعقب أثر موسى وقومه حتى أدركهم عند شروق الشمس، وهنا تملك بني إسرائيل الرعب والفزع من هول الموقف الذي هم فيه، فالبحر أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، فراحوا يتخيلون ما سيوقعه فرعون بهم من ألوان العذاب والنكال، وظنوا أن فرعون سيدركهم لا محالة.
(1/189)
فأخذ موسى يطمئنهم ويذكرهم بأن الله سينصرهم وينجيهم، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، ففعل، فانشقَّ طريق يابس، فاندفع بنو إسرائيل فيه قبل أن يصل فرعون وجنوده إليهم، ولما وصل فرعون ومن معه إلى الشاطئ، كان بنو إسرائيل قد خرجوا إلى الشاطئ الآخر، ولما رأى فرعون أن الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل مازال موجودًا، اندفع هو الآخر بجنوده للحاق بهم، ولما وصل فرعون وجنوده إلى منتصف البحر، تحول الطريق إلى ماء، وغرقوا جميعاً. ولما أدرك فرعون أنه سيغرق أراد أن ينجو بحيلة فقال: { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس.
لكن هيهات لقد نفذ أمر الله، وغرق فرعون وعاين الموت، وأيقن أنه لا نجاة له منه، وفي هذا الوقت لا تنفع التوبة، ولا ينفع الندم، لقد بلغت الروح الحلقوم، وجاء إيمان فرعون متأخراً فقد حضر الموت، وفات أوان التوبة. قال تعالى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء .
وبعد أن لفظ فرعون أنفاسه الأخيرة، حملت الأمواج جثته، وألقتها على شاطئ البحر ليراها المصريون، ويدركوا جميعًا أن الرجل الذي عبدوه وأطاعوه من دون الله، لم يستطع دفع الموت عن نفسه، وأصبح عبرة لكل متكبر جبار. {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (92) سورة يونس .
(1/190)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ ، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ أَنْ يُلْقِيهِ بِجَسَدِهِ سَوِيّاً بِلاَ رُوحٍ ، لِيَتَحَقَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مَوْتِهِ وَهَلاَكِهِ ، فَتَكُونَ تِلْكَ آيَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ ، لاَ يَتَّعِظُونَ بِهَا ، وَلاَ يَعْتَبِرُونَ(1).
( وَكَانَ هَلاَكُ فِرْعَونَ وَنَجَاةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، " فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ : مَا هَذا الذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا يَوْمَ ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ . فَقَالَ النَّبِيُّ لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ " ) ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ )(2)
وبعد أن عبر بنو إسرائيل البحر، ساروا متوجهين إلى الأرض المقدسة، وفي الطريق رأوا قومًا يعبدون أصنامًا، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا مثل هؤلاء الكفار، فصبر موسى عليهم وبين لهم جهلهم، وبين لهم نعم الله عليهم التي لا تحصى، وأن الله فضلهم على خلقه، وأنه نجاهم من فرعون وجنوده، وهو وحده المستحق للعبادة والطاعة. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (138) سورة الأعراف .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 294)
(2) - برقم (4680)
(1/191)
وواصل موسى ومن معه المسير، وحرارة الشمس تلفح وجوههم، فذهب بنو إسرائيل إلى موسى يشكون له ذلك، فسخر الله لهم الغمام يقف معهم إذا وقفوا، ويسير معهم إذا ساروا، ليظلهم ويقيهم ليهيب الشمس الحارقة. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (57) سورة البقرة .
ولما عطشوا أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه التي يحملها معه الحجر، فرفع موسى عصاه وهوى بها على حجر في الجبل وإذا بمعجزة جديدة من معجزات موسى تحدث أمام عيون بني إسرائيل، حيث تتفجر بمجرد وقوع العصا على الحجر اثنتا عشرة عينًا، بعدد قبائل بني إسرائيل الذين كانوا معه، مما جعل موسى يخص لكل قبيلة عينًا تشرب منها. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة .
(1/192)
ولما جاعوا أدركتهم نعمة الله، حيث ساق لهم المن، وهو نوع من الحلوى، والسلوى وهو نوع من الطير يشبه السمان، فأخذوا يأكلون منه، ولكنهم سرعان ما سئموا هذا الطعام وملُّوا منه، فذهبوا إلى موسى يشكون له ذلك {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (61) سورة البقرة.
فتعجب موسى، ثم أخبرهم بأن ذلك يكون في الأرض، فليذهبوا إلى مكان يزرعون فيه ويعملون حتى يتحقق لهم ما يطلبون.
وعاش بنو إسرائيل في أمان واطمئنان، وأصبحوا في حاجة إلى قانون يحتكمون إليه، وشريعة تنظم حياتهم، فأوحى الله إلى موسى أن يخرج بمفرده إلى مكان معين، ليعطيه الشريعة التي يتحاكم إليها بنو إسرائيل وتنظم حياتهم، فاستخلف موسى أخاه هارون على قومه، ووعظه وذكره بالله، وحذره من المضلين الذين يحاولون أن يفسدوا غيرهم.
(1/193)
ثم ذهب الجبل الذي تلقى فيه بربه عندما كان عائدًا من مدين إلى مصر، وعنده أنزلت عليه التوراة، ولما رأى موسى إكرام ربه له، وتفضله الزائد عليه، طلب من الله أن يمكنه من رؤيته سبحانه، ظنًا منه أن رؤية الله ممكنة في الدنيا، فرد الله على موسى مبينًا أن الإنسان بتكوينه هذا لا يقدر على رؤية الله-عز وجل-، وحتى يطمئن قلب موسى، فقد أخبره الله أنه سيتجلَّى للجبل، وما على موسى إلا أن ينظر إلى الجبل، ويلاحظ ما سيحدث، ونظر موسى إلى الجبل، فرآه قد اندك وتهدم.
ولقد صور لنا القرآن ذلك: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143) سورة الأعراف.
فأخذ موسى الألواح التي فيها التوراة، وكانت تتضمن المواعظ والأحكام التي بها تنتظم حياة بني إسرائيل وتستقيم. {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة
(1/194)
وحدث في بني إسرائيل بعد أن تركهم موسى أن قام رجل منهم يعرف بالسامري، وجمع ما معهم من الحلي والذهب، وصنع لهم صنما مجوفًا على هيئة عجل إذا دخل فيه الهواء من جانب خرج من الجانب الآخر محدثا صوتًا يشبه صوت العجل، وأخبرهم أن هذا هو إلههم وإله موسى، فصدقه بنو إسرائيل، وعبدوا العجل وتركوا عبادة الله الواحد الأحد، فتوجه إليهم نبي الله هارون ينصحهم ويعظهم، وأنهم قد فتنوا بهذا الأمر، لكنهم استمروا في جهلهم، ولم ينتفعوا بنصح هارون، بل اعترضوا عليه وكادوا أن يقتلوه، وأعلنوا له أنهم لن يتركوا عبادة هذا العجل، حتى يرجع إليهم موسى. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} (148) سورة الأعراف
ولما عاد موسى ووجد قومه على تلك الحالة، غضب منهم غضبًا شديدًا، ومن شدة حزنه وغضبه مما فعله قومه ألقى الألواح التي فيها التوراة من يديه، وتوجه إلى أخيه هارون وأمسك برأسه وجذبه إليه بشدة، وقال له بصوت ظهر فيه الغضب: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)) [طه: 92-93].
(1/195)
فقال هارون: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94))[طه: 94]، وأخبره أن القوم كادوا أن يقتلوه، فتركه موسى وتوجه إلى السامري؛ ذلك الرجل الذي صنع هذا العجل، وسأله عن الأمر، فأخبره السامري بما حدث، فأحرق موسى ذلك العجل حتى جعله ذرات صغيرة، ثم رمى بتلك الذرات في البحر.{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) [طه/90-98]
هنا أحس بنو إسرائيل بسوء صنيعهم فندموا عليه، وأعلنوا توبتهم إلى الله، وسألوه الرحمة والمغفرة، فأوحى الله-عز وجل-إلى موسى أن هارون برئ منهم وأنه حاول معهم كثيرًا ليبتعدوا عن عبادة العجل، فاطمأن قلب موسى إلى أن أخاه لم يشارك في ذلك الإثم، فتوجه إلى الله تعالى مستغفرًا لنفسه ولأخيه، قائلاً: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (151) سورة الأعراف.
(1/196)
واختار موسى سبعين رجلاً من خيرة قومه، وذهب بهم إلى مكان حدده الله-عز وجل-، فلما وصلوا إلى ذلك المكان، فإذا بهم يطلبون أن يروا الله جهرة، فغضب موسى منهم غضبًا شديداً، وأنزل الله عليهم صاعقة دمرتهم، وأخذت أرواحهم. فأخذ موسى يدعو الله ويتضرع إليه أن يرحمهم. {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }سورة الأعراف .
وشاء الله-عز وجل-ألا يخزي نبيه موسى، فاستجاب له وأحيا أولئك الذين قتلتهم الصاعقة لعلهم يشكرون الله على نعمة إحيائهم من بعد موتهم، ورجع موسى بهم إلى قومه فأخذ التوراة وراح يقرؤها على بني إسرائيل ويشرح لهم ما فيها من مواعظ وأحكام، وأخذ عليهم المواثيق والعهود ليعلموا بما فيها من غير مخالفة، فلما وعدوه أن يلتزموا بما فيها أخذهم وسار في اتجاه الأرض المباركة وهي فلسطين، لكنهم راحوا يتنكرون للتوراة وما جاء فيها من أوامر وأحكام، فأراد الله أن ينتقم منهم، فرفع من الجبل صخرة كبيرة وحركها حتى صارت كأنها سحابة تظلهم، ففزعوا منها، وحسبوا أن الله سيلقيها عليهم، فتوجهوا إلى الله بالاستغاثة والدعاء، وتابوا إلى الله لينقذهم من الهلاك، فصرف الله عنهم تلك الصخرة رحمة منه وفضلاً.
(1/197)
ثم أوحى الله إلى موسى بأنه قد حان الوقت لاستقرار بني إسرائيل، ودخولهم الأرض المقدسة (فلسطين). ففرح موسى بذلك فرحًا شديدًا. ولكن بني إسرائيل جبناء خائفون، حيث إنهم أعلنوا ذلك لموسى فقالوا: { يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (22) سورة المائدة.
وهنا قام رجلان مؤمنان منهم، فقالا لهم: { رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (23) سورة المائدة ، فما كان رد بني إسرائيل إلا أن قالوا: { يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (24) سورة المائدة.
فاشتد غضب موسى على هؤلاء القوم الذين ينسون نعمة الله عليهم، فأخذ يدعو ربه أن يباعد بينه وبين هؤلاء الفاسقين.
فجاءه الجواب من الله عز وجل، قال تعالى: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (26) سورة المائدة .
وهكذا حكم الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض مدة أربعين سنة؛ نتيجة اعتراضهم على أوامر الله، وعدم امتثالهم لما أمرهم به موسى، وراح بنو إسرائيل يسيرون في الصحراء بلا هدى واستمروا في التيه حتى دخلوا الأرض المقدسة بعد ذلك على يد يوشع بن نون بعد أن جمع شملهم.
--------------
موسى والخضر
(1/198)
في يوم من الأيام خطب موسى-عليه السلام-في بني إسرائيل، ووعظهم موعظة بليغة، فاضت منها العيون، ورقت لها القلوب .. ثم انصرف عائدًا من حيث جاء، فتبعه رجل وسار خلفه حتى إذا اقترب منه، سأله قائلاً: يا رسول الله، هل في الأرض أعلم منك؟ قال: لا. فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم لله-سبحانه-وأوحى إليه أن في مجمع البحرين عبدًا هو أعلم منك، فنهض موسى، وسأل ربه عن علامة يعرفه بها.
فأوحى الله إليه أن يأخذ معه في سفره حوتًا ميتًا، وفي المكان الذي ستعود الحياة فيه إلى الحوت فسيجد العبد الصالح، فأخذ موسى حوتًا ميتًا في وعاء، ثم انطلق لمقابلة العبد الصالح، واصطحب معه في هذه الرحلة يوشع بن نون، وكان غلامًا صغيرًا.
سار موسى مع غلامه سيرًا طويلاً حتى وصلا إلى صخرة كبيرة بجوار البحر، فجلسا يستريحان عندها من أثر السفر، فوضعا رأسيهما وناما، وبعد فترة استيقظ الفتى يوشع بن نون قبل أن يستيقظ موسى، فرأى شيئًا عجيبًا، رأى أن الحوت تحرك ودبت فيه الحياة، ثم سقط الحوت بجوار الشاطئ، وجاء موج البحر فحمله إلى الداخل، فلما استيقظ موسى نسي الفتى أن يخبره بما حدث وأخذا يسيران في طريقهما لمقابلة الرجل الصالح.
ومرت الساعات ومازال موسى وغلامه يسيران بجد ونشاط لمقابلة الرجل الصالح، حتى أحسَّ موسى بالجوع، فطلب من فتاه أن يحضر الحوت منه، فأخبر موسى أنه نسيه هناك عند المكان الذي جلسا فيه ليستريحا من أثر التعب، وقد أحياه الله، ثم قفز وأخذ طريقه في البحر، فأخبره موسى أن هذا هو المكان الذي يريده.
(1/199)
ورجع موسى وغلامه إلى تلك الصخرة التي نسيا عندها الحوت، فوجدا رجلا جالسًا مغطًى بثوب، اسمه الخضر، فأقبل عليه موسى وألقى عليه السلام، فكشف الخضر الغطاء عن وجهه وقال: وهل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال الخضر: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا. فقال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك. يا موسى إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. وفجأة جاء طائر صغير وشرب من البحر بمنقاره، فقال الخضر لموسى: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر. [البخاري] (1).
ثم أخبر الخضر موسى بأنه لا يتحمل ما سيراه من أمره، فوعده موسى بالصبر، وحسن الطاعة، فطلب منه الخضر ألا يسأله عن شيء حتى يذكره هو له.
فوافق موسى على ذلك، وانطلقا يسيران على شاطئ البحر، فمرت من أمامهما سفينة عظيمة، فكلم الخضر أصحابها، أن يركب هو وموسى معهم، فحملوهما، ولم يأخذا منهما أجراً، لأنهم كانوا يعرفون الخضر جيدًا.
ولما سارت السفينة فوجئ موسى بأن الخضر قد خلع لوحًا من السفينة، فاقترب من الخضر، وقال له: قوم حملونا بغير نول (أجر) عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها. فقال الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً. فتذكر موسى ما اشترطه عليه الخضر، فاعتذر إليه بأنه قد نسي. فقبل الخضر عذر موسى، ولم يؤاخذه هذه المرة على نسيانه، ولما رست السفينة على الشاطئ نزل موسى والخضر وسارا تجاه القرية، وفي الطريق رأى الخضر غلامًا ظريفًا يلعب مع الغلمان فأقبل عليه وقتله، فلما رأى موسى ذلك أنكر عليه ما فعل، لأنه قتل نفسًا بغير وجه حق. فذكَّره الخضر بأنه لن يستطيع معه صبرًا.
فأحس موسى أنه قد تسرع في الاستفسار عن سبب مقتل هذا الغلام، فاعتذر للخضر، ووعده أنه إن سأله عن شيء بعد ذلك فليفارقه.
__________
(1) - صحيح البخارى (4726)
(1/200)
فقبل الخضر عذر موسى في هذه المرة أيضًا، وسارا في طريقهما حتى بلغ قرية ما، فطلبا من أهلها طعامًا فرفضوا، وبينما هما يسيران، وجدا فيها جدارًا ضعيفًا مائلاً معرضًا للسقوط، فاقترب الخضر منه، وقام بإصلاحه وتقويته، فتحير موسى في أمر هذا العبد الصالح، وتعجب من سلوكه مع أولئك الذين رفضوا أن يطعموهما، وذكر للخضر أنه يستحق أن يأخذ أجرًا على ما فعل.
فأخبره الخضر أنه لابد أن يفارقه، وأخذ يفسر له ما حدث؛ فبين له أن السفينة كانت لمساكين يعملون عليها في نقل الركاب من ساحل إلى ساحل مقابل أجر زهيد، وكان هناك ملك جبار يأخذ كل سفينة صالحة من أهلها ظلمًا وعدوانًا، وأنه أراد أن يعيبها بكسر أحد الألواح حتى لا يأخذها ذلك الطاغية، لأنه لا يأخذ السفن التالفة.
وأن الغلام الذي قتله كان أبواه مؤمنين، وكان هذا الغلام كافرًا، فرأى أن قتله فيه رحمة بأبويه وحفاظًا على إيمانهما حتى لا يتابعانه على دينه، وعسى الله أن يرزقهما غلامًا غيره خيرًا منه دينًا وخلقًا وأكثر منه برًا.
وأن الجدار كان مملوكًا لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحا، وكان تحت الجدار كنز من الذهب، ولو تركه حتى يسقط لظهر هذا الكنز، ولم يستطع الغلامان لضعفهما أن يحافظا عليه، لذلك أصلح الجدار لهما حتى يكبرا ويأخذا كنزهما بسبب صلاح أبيهما ، فإن صلاح الآباء تصل بركته إلى الأبناء.(1)
--------------
قصة بقرة بني إسرائيل
__________
(1) - الحديث بطوله في صحيح البخارى ( 4726 )
(1/201)
إن السمات الرئيسية لطبيعة بني إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه:انقطاع الصلة بين قلوبهم , وذلك النبع الشفيف الرقراق:نبع الإيمان بالغيب , والثقة بالله , والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل . ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف , وتلمس الحجج والمعاذير , والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان !لقد قال لهم نبيهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . . وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ . فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين , برحمة من الله ورعاية وتعليم ; وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه , إنما هو أمر الله , الذي يسير بهم على هداه . . فماذا كان الجواب ? لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب , واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم ! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله -فضلا على أن يكون رسول الله - أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:
(قالوا:أتتخذنا هزوا ?) .
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله ; وأن يردهم برفق , وعن طريق التعريض والتلميح , إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه ; وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله , لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:(قال:أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . .
(1/202)
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم , ويرجعوا إلى ربهم , وينفذوا أمر نبيهم . . ولكنها إسرائيل ! نعم . لقد كان في وسعهم - وهم في سعة من الأمر - أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها , فإذا هم مطيعون لأمر الله , منفذون لإشارة رسوله . ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم , فإذا هم يسألون: (قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ?) . . والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى إليهم ! فهم أولا:يقولون: (ادع لنا ربك) . . فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك ! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ! وهم ثانيا:يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم: (ما هي ?) والسؤال عن الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود الصفة - إنكار واستهزاء . . ما هي ? إنها بقرة . وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة . بقرة وكفى !
هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة , بأن يسلك في الإجابة طريقا غير طريق السؤال . إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين . يجيبهم عن صفة البقرة:قال:إنها بقرة لا فارض ولا بكر , عوان بين ذلك . .
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة , وسط بين هذا وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة:(فافعلوا ما تؤمرون) . .
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ; وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين , ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم , لا عجوز ولا صغيرة , متوسطة السن , فيخلصوا بها ذمتهم , وينفذوا بذبحها أمر ربهم , ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي إسرائيل !
لقد راحوا يسألون:(قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ?) . .
(1/203)
هكذا مرة أخرى: (ادع لنا ربك) ! ولم يكن بد - وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل - أن يأتيهم الجواب بالتفصيل:(قال:إنه يقول , إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) . .
وهكذا ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار - وكانوا من الأمر في سعة - فأصبحوا مكلفين أن يبحثوا لا عن بقرة . . مجرد بقرة . . بل عن بقرة متوسطة السن , لا عجوز ولا صغيرة , وهي بعد هذا صفراء فاقع لونها ; وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء: (تسر الناظرين) . . وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة المطلوبة ; فهذا هو الشائع في طباع الناس:أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا , وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا .
ولقد كان فيما تلكأوا كفاية , ولكنهم يمضون في طريقهم , يعقدون الأمور , ويشددون على أنفسهم , فيشدد الله عليهم . لقد عادوا مرة أخرى يسألون من الماهية:(قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) . .
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:(إن البقر تشابه علينا) . .
وكأنما استشعروا لحاجتهم هذه المرة . فهم يقولون:(وإنا إن شاء الله لمهتدون) . .
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدا , وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا وضيقا , بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة , كانوا في سعة منها وفي غنى عنها: (قال:إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث , مسلمة لا شية فيها) . .
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر . صفراء فاقع لونها فارهة فحسب . بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا - بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع ; وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة .
هنا فقط . . وبعد أن تعقد الأمر , وتضاعفت الشروط , وضاق مجال الاختيار: (قالوا:الآن جئت بالحق) . .
(1/204)
الآن ! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة ! (فذبحوها وما كادوا يفعلون) !!
عندئذ - وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف - كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:
(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها , والله مخرج ما كنتم تكتمون , فقلنا:اضربوه ببعضها . كذلك يحيي الله الموتى , ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . .
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة . جانب دلالتها على قدرة الخالق , وحقيقة البعث , وطبيعة الموت والحياة . وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة . . لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ; ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه . ولم يكن هناك شاهد ; فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته ; وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه , وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح . . وهكذا كان , فعادت إليه الحياة , ليخبر بنفسه عن قاتله , وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله ; وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين .
ولكن . فيم كانت هذه الوسيلة , والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة ? ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث ?
إن البقر يذبح قربانا كما كانت عادة بني إسرائيل . . وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل . وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء . . إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله , التي لا يعرف البشر كيف تعمل . فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: (كذلك يحيي الله الموتى) . . كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعا ولا تدرون كيف وقع ; وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر .
(1/205)
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس . ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير . . كيف ? . . هذا ما لا أحد يدريه . وما لا يمكن لأحد إدراكه . . إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية , لا سبيل إليه في عالم الفانين ! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: (ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . .
قال تعالى :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) [البقرة/67-73] }.
----------------
قصة قارون مع موسى
(1/206)
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية. فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة. فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!
استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية: قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (76) سورة القصص.
بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.
(1/207)
فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغى عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
هو الرزق لا حل لديك ولا ربط ... ولا قلم يجدي عليك ولا خط
فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً ... وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.
(1/208)
المشهد الثاني: مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه(1). ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة. وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص .
فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟
أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ..} (78) سورة القصص.
__________
(1) - قالَ سَلْمَانُ لأبي الدرداءَ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « صَدَقَ سَلْمَانُ » . صحيح البخارى (1968 )
(1/209)
أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.
ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: {.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (78) سورة القصص .
كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79) سورة القصص. وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص.
(1/210)
فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فيجب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون، الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (81) سورة القصص. فابتلعته وابتعلت داره , وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال .وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس .
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِى بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمْرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »(1).
__________
(1) - مسند أحمد (11666) صحيح لغيره -يتجلجل : يتحرك مع جلبة فى حركته
(1/211)
وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (82) سورة القصص.
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس , ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله . فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء . وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال , ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين , ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (83) سورة القصص.(1)
__________
(1) - انظر موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1080)قصة قارون
(1/212)
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها . إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله , ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .
(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه .
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه . الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها . والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (84) سورة القصص
--------------
بعض الدروس المستفادة من القصة:
1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ »(1).
2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
أما ترى البحر والصياد منتصبٌ ... لرزقه ونجوم الليل محتبكه
قد غاص في لُجة والموج يلطمه ... ... وعينه لم تزل في كلكل الشبكة
حتى إذا بات مسروراً بليلته ... ... بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه
شراه منه الذي قد بات ليلته ... ... خِلْواً من البرد في خير من البركة
سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا ... ... هذا يصيد وهذا يأكل السمكة
__________
(1) - صحيح مسلم (7028 )
(1/213)
3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
يقول أحد المتكبرين:
أتيه على جن البلاد وإنسها ... ... فلو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي
أتيه فما أدري من التيه من أنا ... ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي
4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
5- وفي قوله تعالى :(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا) . يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا , كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها , فتنمو الحياة وتتجدد , وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة , فلا ينحرفون عن طريقها , ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم , وتقبل لعطاياه , وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان , ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة , التي لا حرمان فيها , ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
(وأحسن كما أحسن الله إليك) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف , والإحسان به إلى الخلق , وإحسان الشعور بالنعمة , وإحسان الشكران .
6- من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك , غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح , غير حاسب لله حسابا , ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
(1/214)
والإسلام يعترف بالملكية الفردية , ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ; ولا يهوِّن من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل , لا يحرم الفرد ثمرة جهده , ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ; ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال , ورقابتها على طرق تحصيله , وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
7- في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
8- المتصلون بالله لهم ميزان آخر يقيم الحياة , وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا , وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم) . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص
(1/215)
ثواب الله خير من هذه الزينة , وما عند الله خير مما عند قارون. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون. . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض , والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
9 - أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!
10 - يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.
11 - أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.
12 - أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.
- - - - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
إلياس (عليه السلام)
في منطقة تسمى بعلبك (موجودة حاليًا في لبنان) كان يعيش مجموعة من بني إسرائيل، أغواهم الشيطان فانحرفوا عن منهج الله، يُقَالُ إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ نَبِيٌّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ عَبَدُوا الصَّنَمَ (بَعْلاً)، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
فَحَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ اللهِ، وَقَالَ لَهُمْ: أَلاَ تَخَافُونَ اللهَ فَتَمْتَثِلُوا لأَوَامِرِهِ، وَتَتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؟
وَاللهُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ الآبَاءِ السَّالِفِينَ فَهُوَ الحَقِيقُ بِالعِبَادَةِ.
(1/216)
فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ ضَرُورَةِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَسَيَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ فِي العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.إِلاَّ الذِين عَبَدُوا اللهَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَعذِّبُهُمْ اللهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وَجَعَلَ اللهُ ذِكْراً حَسَناً بَيْنَ النَّاسِ تَتَنَاقَلُهُ الأَجْيَالُ، وَجَعَلَهُ مُحَبَّباً إِلى النَّاسِ جَمِيعاً.
سَلاَمٌ مِنَ اللهِ عَلَى إِلْيَاسَ (وَإِلْ يَاسِينَ لُغَةٌ فِي إِلْيَاسَ).وَمِثْلُ هَذَا الجَزَاءِ الحَسَنِ الذِي جَازَى اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ إِلْيَاسَ، يُجَازِي عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ المُحْسِنِينَ.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ.
قال تعالى مبينا قصته: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) [الصافات: 123 - 132].
وقد مدح الله -سبحانه- إلياس -عليه السلام- وأثنى عليه ثناءً جميلاً، وذلك لأنه أخلص في العبادة، وأحسن في عمله، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} (85) سورة الأنعام.
- - - - - - - - - - - - - - - -
اليسع (عليه السلام)
(1/217)
نبي من أنبياء الله، ذكره الله في كتابه العزيز مرتين، وأثنى عليه، ولم يشر القرآن الكريم إلى قصة اليسع ولا إلى قومه، وروي أنه أرسل إلى بني إسرائيل بعد إلياس -عليه السلام- ومكث بينهم فترة يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته حتى توفاه الله -تعالى- وبعد وفاة اليسع -عليه السلام- كثرت ذنوب بني إسرائيل، وازدادت معاصيهم، وقتلوا من جاءهم من الأنبياء بعد ذلك فسلط الله عليهم ملوكًا جبارين يحكمونهم، وسلط الله عليهم الأعداء.
وقد بين الله -سبحانه- لنا فضل اليسع -عليه السلام- عندما ذكره مع إخوانه الأنبياء -صلوات الله عليهم- فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام/85 - 90]
(1/218)
أي وَهَدَى اللهُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ أَيْضاً : زَكَرِيّا وَابْنَهُ يَحْيِى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَإِلْيَاسَ ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ جَمِيعاً مِنَ الصَّالِحِينَ . وَكَانَتْ لِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ مِيزَةُ الزُّهْدِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها ، وَزِينَتِهَا ، لِذَلِكَ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ .
وَمِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ ، يَذْكُرُ تَعَالَى : إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ، وَاليَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوْطاً فَهَدَاهُمْ ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّة ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُهْتَدِينَ ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ .
وَهَدَى اللهُ بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - لاَ كُلّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم ، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ - . وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ .
وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ أَحَداً ، لَهَلَكَ عَمَلُهُمْ ، وَلَضَاعَ أَجْرُ أَعَمْالِ الخَيْرِ التِي عَمَلُوهَا ، ( وَهَذا تَشْدِيدٌ لأَمْرِ الشِّرْكِ ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ ) .
(1/219)
أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ (صُحُفَ إِبْرَاهِيم، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ (الحُكْمَ)، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ (هَؤلاءِ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً. (وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ).
وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً، فَاهْتَدِ، يَا مُحَمَّدُ، بِهُدَاهُمْ، وَاقْتَدِ بِهِمْ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ، وَالعَفْوِ عَنْهُم، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ (ذِكْرَى) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ.
ولقد أثنى الله على اليسع -عليه السلام- فقال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ} (48) سورة ص.
(1/220)
أي وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ.
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
داود (عليه السلام)
لقد ذكر الله لنا في القرآن قصصاً كثيرة، وهذه القصص جاءت متنوعة متكررة، بل ربما تكررت القصة الواحدة عشرات المرّات في عشرات السور، بعضها بشكل إجمالي وبعضه تفصيلي.
والقصص لم ترد في القرآن إلا لتدبرها والوقوف عندها، وكثير منها يعالج ما يستجد في حياة الناس من قضايا وأحداث، وهذا بعض معجزات القرآن. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ [ص:29]، قال الله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
إن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وإنه هو مدرستها التي تتلقى فيه دروس حياتها وتستمع فيه إلى الإرشادات والتوجيهات.
إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى، ولا مجرد آيات تُحفظ وتردد، أو تعاويذ يتبرك بها، بل هو دستور شامل، دستور للتربية كما أنه دستور للحياة العملية، بل هو منهج الحياة، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة حية، على أهل الإسلام الذين يربيهم المولى جل وعلا بالأحداث والأقدار، فيُهرعون إلى القرآن فيجدونه غضاً طرياً كأنما أنزل البارحة في أحداثهم وشؤونهم، يقدم القرآن الزاد لأمة الإسلام في جميع أجيالها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:2، 3].
(1/221)
ولهذا تتنوع القصص في كتاب الله ويكثر ضرب الأمثال للقياس والاعتبار كما قال سبحانه في إجلاء بني النضير فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الأَبْصَارِ [الحشر:2].
ولهذا المعنى تجد في سرد القصص القرآني متعة إيمانية وحقائقَ وجودية تتكرر في الأمم والأجيال ما وجدت نفس تتحرك.
ومن أكثر القصص وروداً في القرآن قصص بني إسرائيل، ومن أهم أسباب ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الأمة ستمرُّ في بعض أجيالها بالأدوار التي مر بها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف مشابهة بمواقف بني إسرائيل، فلهذا عرض الله عليها مزالق الطريق مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة، ولترى صورتها في تلك المرآة المرفوعة في آيات القرآن، فتتجنب المزالق والنكبات.
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأَه لنتلمس عنده توجيهات حياتنا المعاصرة في يومنا وغدنا، كما كان الصحابة الكرام تتلقاه، وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على بال، سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته وقصصه حية نابضة، تنبض وتتحرك وتشير إلى طريق الخلاص والنجاة، وتقول لنا: هذا فافعلوه، وهذا لا تفعلوه، وتقول لنا: هذا عدو، وهذا صديق، وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة، وكذا فاتخذوا من العدة، وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة، وعندها سندرك معنى قول الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فهي دعوة للحياة الدائمة المتجددة تحت ظلال آيات القرآن، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
(1/222)
ومن قصص القرآن ما قصه الله علينا في حادثة جرت لبني إسرائيل بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام، بعدما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذَلوا لأعدائهم، وذاقوا الويلات منهم بسبب ترك الوحي والتوراة، ثم انتفضت نفوسهم، انتفضت فيها العقيدة والإيمان، واشتاقوا للقتال في سبيل الله، وعلموا أنه لا عز لهم إلا بالجهاد في سبيله، فقالوا لنبيٍ لهم: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]}.
لقد اجتمع ملأٌ من بني إسرائيل من أهل الرأي والمشورة فقالوا لأحد أنبيائهم: عيّن لنا ملكاً نقاتل تحت رايته في سبيل الله، لا في سبيل غيره، وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في سبيل الله، فيه إشارة إلى انتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وحق، وأن عدوهم على ضلال وكفر وباطل.
إن هذا الوضوح في انتفاضة العقيدة هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل، وأنه مسلم، وعدوُه كافر، ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف، وهو في سبيل الله، فلا يغشاه غبش أو ظلمة لا يدري معها أين يسير؟!
(1/223)
واستوثق منهم نبيهم، وهو يعلم حال أمته من خُلف الوعد ونقض العهد ونكث المواثيق فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ فأنتم في سعة الآن، فأما إذا استجبتم فتقرر القتال، فتلك فريضة مكتوبة، ولا يمكن أن ننكل عنها كلمة تليق بنبي صادق يخبر عن كوامن النفوس وضعفها، وههنا تُستثار الحماسة في نفوسهم فيقولون: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.
فالأمر واضح عندهم، أعداؤهم أعداء الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبَوا أبناءهم، ولكن هذه الحماسة لم تدم، فها هو القرآن يقول: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ تذهب الحماسات التي انتفخت في ساعات الرخاء، وليست هذه سِمَة خاصة ببني إسرائيل وحدهم، بل هي سِمَة لكل جماعة أو طائفة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة وصفة بشرية عامة لا يغيرها إلاّ التربية الإيمانية العميقة، ولهذا عقب الله على فعلهم بقوله:{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }وهو يشير بشيء من الإنكار ووصم الكثرة الكاثرة بالظلم، فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي طالما تغنت به فخذلته، وهي تعرف أنه الحق وتخلت عنه للمبطلين. وكم من الناس في دنيا الناس اليوم من يعرف الحق، لكنه يخذله ولا ينصره {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
(1/224)
ثم يمضي السياق القرآني ليغور في النفس الإسرائيلية، ويقدم لنا تجارب حية نلمسها في حياتنا اليومية، وذلك بعد أن بين اختيار النبي لطالوت ملكاً عليهم، فأنكروا ذلك، وهم الذين طلبوا تعيينه ثم بيّن النبي لهم أن الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم، فهو وحي من الله ولا بد من التسليم له، ثم أخبرهم عن آية ملكه وشرعيته بمجيء التابوت{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:247، 248]}.
(1/225)
وينتقل بنا السياق القرآني إلى أهم أحداث هذه القصة فيقول:{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ [البقرة:249]}، ويتجلى في هذا المقطع مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل "طالوت" إنه مُقدِمٌ على معركة، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة قوية كثيرة العدد مدججة السلاح، فلا بد إذن من قوة كامنة يضيفها لأتباعه تقف بها أمام القوة الظاهرة الغالبة، وأدرك أن هذه القوة لا تكون إلا في الإرادة، الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، الإرادة التي تصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، الإرادة التي تُؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، مهما كان ثمنها، فتجتاز بإرادتها الابتلاء بعد الابتلاء.
ولهذا أراد طالوت أن يختبر الأتباع والجنود فقال:{ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } وصحت فراسة طالوت في أتباعه المتحمسين ويأتي الجواب بشربهم من النهر{ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ }فئة تُقاتل عدوها تُبتلى بالعطش! ومن يأمرها به؟ الله من فوق سبع سماوات! أيّ تربية هذه؟ ما الغاية؟ وما الهدف؟
لقد سقط الضِّعاف في الاختبار وتمحّص الصف، وتخلف المتخلفون بعصيانهم{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]}.
(1/226)
كان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن طالوت وأتباعه ،لأنهم بِذرة ضعف وخذلان وهزيمة، الجيوش ليست بالعدد الضخم ولا بالقوة المادية ولا بعابرات القارات ولا بالقنابل العنقودية والانشطارية، ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة وقبله الإيمان الثابت.
وكان ذلك النهر هو النهر الذي يفصل بين الأردن وفلسطين، قال السُّدي رحمه الله: كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب من النهر ستة وسبعون ألفاً، وتبقى مع طالوت أربعة آلاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من اغترف غرفة بيده رَوَى، ومن شرب منه لم يروَ).
والثابت في صحيح البخارى (3958 ) عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَمِائَةٍ ".
وهل انتهت الغربلة عند هذا الحد؟ لم تنتهِ التجارب بعد ذلك لأن النفس البشرية لا يمكن التنبؤ بمفاجآتها:{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة:249]}.
(1/227)
لم يكونوا يستشعرون أنهم قلة، فلما رأَوا الواقع رأَوا أنهم أضعف من مقاومته لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ إنهم مؤمنون لم ينكِصوا عن عهدهم مع نبيهم ولا ملكهم، ولكنهم أمام أعداد ضخمة وأسلحة متنوعة، وفي مثل هذه الحال لا يصمد إلاّ من كانت له موازين غير موازين الدنيا، برزت في هذه اللحظة الصعبة فئة قليلة من ثلاثمائة وبضعة عشر، صَفوة الصَّفوة ونخبة النخبة، برزت ههنا فئة مؤمنة متصلة بالموازين الربانية، فتكلموا من واقع إيمانهم وثقتهم بالله، أمام الجيوش الكبيرة والأعداد الغفيرة والأسلحة الثقيلة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وتأمل اللفظ كَم مّن فِئَةٍ صيغة تكثير، وهذا يدل على أن من بين الثلاثمائة وبضعة عشر قوم استقرؤوا أحوال الأنبياء والرسل من قبلهم، واستحضروا نصر الله لهم في أصعب اللحظات:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]}، وقال سبحانه في الآية الأخرى:{ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]}.
(1/228)
إن المؤمن المتجرد من موازين الدنيا، والمتعلق بالموازين الربانية، يدرك قاعدة عظيمة من قواعد السنن الربانية، هذه القاعدة تقول: إن المنصورين قلة، وعادة ما يوصفون بأنهم فئة أو شرذمة، وقد قال هذا فرعون من قبل في موسى وأتباعه: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56]}، هذه الفئة المؤمنة إذا ثبتت على إيمانها، رَقَت الدَّرج الشاق وصعِدت السلم الطويل، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، لأنها اتصلت بالله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين، وهي في كل ذلك تكِل النصر إلى الله فتقول:{ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]}، ويعللون نصرهم بعلته الحقيقية وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلولا صبرهم لما انتصروا.
ونمضي مع القصة لنرى فيها مزيداً من العبر والدروس، نشاهد فيها أن الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، لم تزلزلها كثرة العدد، ولا قوته مع ضعفها وقلتها، بل في مثل هذه اللحظات هي التي تحدد وتقرر مصير المعركة، بعد أن تجردت لربها، وأخلصت له، وانقطعت عن الخلق، واتصلت بالخالق، واستغنت عن جميع الناس، هنا يقول الله تعالى عنهم:{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:250، 251]}، فبرزوا وظهروا للعيان أمام الأعداء وقالوا:{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]}.
(1/229)
إيمان أمام كفر، وحق أمام باطل، وتَمَنٍّ للشهادةِ والموت أمام حِرْص على الحياة، ماذا تكون النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} ويُعلّمَ القرآن المؤمنين أن النصر على الأعداء بإذن الله لا بإذن غيره، ليتضح التصور الكامل للوجود، ولما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تحركه.
إن المؤمنين ستار رقيق لقدرة الله، يفعل الله بهم ما يريد، ويُنفّذ بهم ما يختار بإذنه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه، وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين، إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه مِنَّة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قَدَر الله النافذ، ثم يكرمه الله بعد كرامة الاختيار بفضل الثواب ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أُثيب.
ويستيقن المؤمن وهو يقاتل أعداء الله نبل الغاية، وطهارة القصد، ونظافة الطريق، فليس له في شيء من هذا كله مصلحة ذاتية، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد، استحق هذا كله بالنية الطيبة، والعزم على الطاعة، والتوجه إلى الله في خلوص.
ويبرز في السياق داود عليه السلام فيقول الله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة:251]}، كان داود فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مهيباً، ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك، أن الأمور لا تجري بظواهرها إنما تجري بحقائقِها، وحقائقُها لا يعلمها إلاّ هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد الله أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم الظالم على يد هذا الفتى الصغير داود، ليريَ الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم إنما هم ضعاف، يغلبهم الفتية الصغار، حين يشاء الله أن يقتلهم.
(1/230)
ومن الحكم البليغة في هذه القصة: أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، وكانت بدايات التمكين هي تلك الانتفاضة، انتفاضة العقيدة والايمان في نفوسهم، بعد الضلال والانتكاس والشرود.
وتصل بنا القصة إلى هذه الخاتمة، ويعلَن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة المادية وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العددية، حينئذ تأتي الآيات القرآنية مُعلنةً عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى، إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات، إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]}.
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث والأسماء، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموَّار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف، تموج بالناس في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات، ومن ورائها جميعاً قدرة الله تعالى، تقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف.
وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله، إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وأن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله، وابتغاءً لرضاه، وهنا يُمضي الله أمره وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
(1/231)
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله، لا بد وأن تَغْلِبَ في النهاية وتنتصر، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. قال الله تعالى:{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]}، وقال سبحانه: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18]}، وقال عز وجل:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]}، وقال تعالى:{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]}(1)..
وجمع الله لداود الملك والنبوة، فكان ملكًا نبيًّا، وأنزل عليه الزبور، وهو كتاب مقدس فيه كثير من المواعظ والحكم، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (163) سورة النساء .
وأعطى الله لداود صوتًا جميلاً لم يعطه لأحد من قبله، فكان إذا قرأ كتابه الزبور، وسبح الله، وقف الطير في الهواء يسبح الله معه، وينصت لما يقرؤه وكذلك الجبال فإنها كانت تسبح معه في الصباح والمساء، قال تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) } [ص:18-20] .
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3093)وقتل داود جالوت بتصرف واختصار
(1/232)
وأيد الله داود بمعجزات كثيرة دالة على نبوته، فألان له الحديد، حتى يسهل عليه صنع الدروع والمحاريب التي تستخدم في الحروب والقتال قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} سورة سبأ.
وقال تعالى في قصة اختبار وامتحان النبي داود عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص/21 - 26]
(1/233)
أي وَهَلْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ ذَلِكَ النَّبَإِ العَجِيبِ ، نَبَأ الخُصُومِ الذِينَ تَسَلَّقُوا سُورَ الغُرْفَةِ التِي كَانَ دَاوُدُ يَتَعَبَّدُ رَبَّهُ فِيهَا ( المِحْرَابَ ) ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّورِ ، لاَ مِنَ البَابِ ، وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ؟
وَقَدْ دَخَلَ الخَصْمَانِ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ إِلَى النَّاسِ ، فَخَافَ هُوَ مِنَ الدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ بِالتَّسَوُّرِ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ بِالتَّسَوُّرِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ شَرّاً ، فَطَمْأَنَهُ الخَصْمَانِ ، وَقَالاَ لَهُ إِنَّهُمَا خَصْمَانِ تَجَاوَزَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ ، وَقَدْ جَاءَا إِلَيْهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالحَقِّ والعَدْلِ ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَجُورَ فِي حُكْمِهِ ، وَأَنْ يَهْدِيَهُمَا إِلَى الحُكْمِ السَّوِيِّ العَادِلِ .
وَقَالَ أَحَدُ الخَصْمَينِ لِدَاوُدَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ شَاةً وَاحِدَةً وَإِنَّ صَاحِبَهُ يَمْلِكُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ شَاةً ( نَعْجَةً ) ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ مَالِكُ النِّعَاجِ الكَثِيرَةِ : أَعْطِنِي نَعْجَتَكَ لأَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِي ، وَأْكْفُلَهَا لَكَ ، وَغَلَبَنِي فِي المُحَاجَّةِ ، لأَنَّهُ جَاءَ بِحُجَجٍ - لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا دَفْعاً .
(1/234)
فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُتَكَلِّمِ مِنَ الخَصْمَين : إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ ظَلَمَكَ وَجَارَ عَلَيْكَ إِذْ طَلَبَ مِنْكَ نَعْجَتَكَ الوَحِيدَةَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ . وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الذِينَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَجورُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَثْنَاءَ التَعَامُلِ ، إِلاَّ المُتَقَّينَ الصَّالِحِينَ ، فَهؤُلاَءِ يُرَاقِبُونَ الله وَيَخْشَوْنَهُ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ والجَورِ وَلكِنَّ هَؤُلاَءِ قَلِيلُونَ .
وَلَمَّا تَوَارَى الخَصْمَانِ أَدْرَكَ دَاوُدُ أَنَّ اللهَ أَرَادَ اخْتِبَارَهُ وَفِتْنَتَهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ، وَخَرَّ سَاجِداً تَائِباً .
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ، وَغَفَرَ لَهُ ، وَسَتَكُونُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُ اللهُ بِهَا ، وَسَيَكُونُ لَهُ حُسْنُ مَرْجِعٍ ، لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِ فِي مُلْكِهِ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ : إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ ، وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى .
ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ( يَوْمَ الحِسَابِ ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ ، وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا .
وكان داود يتقرب إلى الله بالذكر والدعاء والصلاة، لذلك مدحه الله بقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص،
(1/235)
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء قَبْلَهُ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ، وَاسْتَهْزَأَتْ بِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتْكُونُ لَهُمْ، وَأَنَّ الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ سَيَكُونُونَ هُمُ المَخْذُوِلِينَ الخَاسِرِينَ.
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً بالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الكَفَرَةُ الطُّغَاةُ مِنْ قَوْمِهِ الذِين قَالُوا عَنْهُ مَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً مَجْنُونٌ، وَمَرَّةً كَذَابٌ. . وَقَالُوا عَنْهُ سَاخِرِينَ: أَأُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ دُونِنَا.
وَيُذَكِّرُ اللهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الذِي حَبَاهُ اللهُ بالقُوَّةِ والسُّلْطَانِ (ذَا الأَيْدِ)، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ أَوَّاباً كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى رَبِّهِ، طَائِعاً تَائِباً َذَاكِراً، وَكَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَكَانَ يَقُومُ ثُلُثَ الليلِ مُتَعَبِّداً رَبَّهُ. (1)
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِى يُبَلِّغُنِى حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى وَأَهْلِى وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ». قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ» .. [الترمذي] (2).
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 3866)
(2) - سنن الترمذي (3828) حسن
(1/236)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِىِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ» أخرجه البخاري. (1)
وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده، لأنه يعلم أن أفضل الكسب هو ما يكسبه الإنسان من صنع يده، عَنِ الْمِقْدَامِ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» [البخارى] (2)
وقد مات داود -عليه الصلاة والسلام- وتولى من بعده ابنه سليمان -عليه السلام- الحكم وجعله الله نبيًّا، قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16) سورة النمل.
---------------
الدروس والعبر
1 - تجليات فضل اللَّه على عباده.
ترادف نعم اللَّه على عباده عامة وعلى أنبيائه وأوليائه خاصة لا ينكره إلا جاحد، وقد خصَّ اللَّه نبيه داود بمزيد من فضله وظهر ذلك واضحًا في المظاهر الآتية:
سخر اللَّه له الجبال والطير تردد معه ذكره وتسبيحه.
ألان في يده الحديد فصار كالعجينة يصنع منه ما يشاء.
يسَّر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك فجمع له الخيرين خير الدنيا والآخرة.
أنعم عليه بالقوة في البدن والحكمة في الرأس والعدل في الحكم.
أنعم عليه بالذرية الصالحة: "وورث سليمان داود".
2 - الشكر قيد النعمة:
__________
(1) - صحيح البخارى (3420)
(2) - صحيح البخاري (2072)
شكر النعمة يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، ويمنع النقمة، وبهذا قضى العزيز الحميد، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7) سورة إبراهيم، وقليل من الناس من يعرف النعمة فيقرُّ بها للمنعم سبحانه ويشكره عليها بوضعها فيما أمر سبحانه، وكان داود عليه السلام من هذا القليل الشاكر، فاستحق من اللَّه الثناء: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ.
3 - بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم:
لم يشكر اليهود نعمة اللَّه عليهم بإنزال التوارة، فحرفوها وبدلوها ولم يعملوا بما فيها، ولم يشكروا نعمة اللَّه عليهم بتتابع الأنبياء فيهم، فآذوا أنبياء اللَّه حال حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من قتلوه، ومن ذلك ما فعلوه مع نبي اللَّه داود عليه السلام وهو المبجل فيهم، فوصفوه بالثائر السفاح الذي يحب سفك الدماء وإقامة الملك على جماجم البشر، وإن شئت التفاصيل فراجع العهد القديم، سفر الملوك الثاني الفصول من (5 - 20)، وكذلك ما نسبوا إلى نبيهم داود زورًا وبهتانًا أن داود عليه السلام قد رأى امرأة جاره وهي تغتسل فأحبَّها حبًا شديدًا، فأرسل زوجها في إحدى المعارك، وأمر القائد أن يجعله في المقدمة لعله يقتل فيتزوج امرأته، وتوراة اليهود التي كتبوها بأيديهم- وليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى- تمتلئ بهذه السفاهات التي أنزه سمع القارئ وبصره عنها.
فهم لم يتركوا نبيّا إلا أساءوا إليه، بل لم يسلم اللَّه سبحانه وتعالى من افتراءاتهم، فتعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا
ومن هنا فقد حذرنا اللَّه أن نكون مثلهم، وذكر ذلك في كتابه الكريم تصريحًا وتلميحًا. (1)
إن القرآن تحدث عن سيدنا داود عليه السلام بما يتناسب مع مقام النبوة واصفا له بأنه أواب رجاع إلى اللّه، آتاه اللّه الملك والحكمة وفصل الخطاب، وألان له الحديد وعلمه منطق الطير، وعصمه كما عصم جميع الأنبياء مما يخل بقدره وشرفه
وليس من المعقول أن يغتصب امرأة لا تحل له، أو يفكر فى حيلة يتخلص بها من زوجها ليتزوجها هو، إن هذه الحادثة يتنزه أن يتورط فيها واحد من عامة الناس فكيف بالمصطفين الأخيار من رسل الله الذين بُعثوا للدعوة إلى القيم الأخلاقية العالية، وحاول المغرمون بالغرائب والناقلون عن أهل الكتاب دون تحوط لما ينقلون أن يَحْمِلُوا على تلك الحادثة قول الله تعالى وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) [ص/21 - 26].
إن ظاهر الآيات يدل على خصومة حقيقية بين فريقين فى غنم مشتركة بينهما، وأن داود عليه السلام وقع فى خطأ، استغفر ربه منه وخر راكعا ورجع إلى اللّه، كما أن أمر الله لداود بالحكم بالحق وعدم اتباع الهوى قد يفهم منه أنه ظلم فى حكمه ومال مع الهوى، فكيف يكون ذلك؟ إن الكلام فى تفسير هذه الآيات كثيرة، وادعى بعض المفسرين أن "النعجة "هى المرأة، وأن القصة درس لداود الذى طمع فى زوجة القائد "أوريا" ولم يقنع بما عنده من النساء. وهو كلام يتنافى مع مقام الأنبياء.
ومن أحسن ما قيل فى ذلك أن الخصومة حقيقية فى شركة أغنام، وأن المتخاصمين أرادا التحاكم إلى داود على عَجل حتى يحسم النزاع غير أن داود كان إذ ذاك فى خلوته الخاصة، يعبد ربه كنظام وضعه لنفسه فى توزيع أعماله بين اللّه والناس، ولم يجد الخصمان وسيلة للوصول إليه إلا تسور المحراب الذى يتعبد فيه، فظن داود أن مجيئهم فى هذا الوقت وبهذه الصورة يراد به شر، فطمأناه وطرحا أمامه الموضوع، وبدأ أحد الخصمين بتوجيه الاتهام إلى الطرف الآخر، فنطق داود بالحكم بإدانة صاحب الغنم الكثيرة قبل أن يدلى بحجته، وهنا أحس داود أنه كان على غير صواب فى ظنه أن هؤلاء يريدون به شرا، وأن الله امتحنه بالخوف منهم، فاستغفره مما حدَّث به نفسه، ومَنَّ الله عليه بقبول استغفاره، وأنزله عنده منزلا كريما.
ثم نبهه إلى أن مما يساعد على إصابة الحق والعدل فى الحكم، التأنى، حتى تسمع حجة الطرفين معا، وعدم التأثر بمظاهر الناس، والبعد بالعواطف عن التدخل فى الحكم، فقد يكون المدعى مخطئا وظاهره يوحى بالصدق، كإخوة يوسف الذين رموه فى الجب وجاءوا أباهم عشاء يبكون مدعين أن الذئب أكله.
إن الذى وقع من داود عليه السلام هو ظنه أن الخصمين أرادا به سوءا، فندم على هذا الظن واستغفر ربه، وهو ظن له ما يبرره، والأنبياء - وإن كان ما وقع منه لا يؤاخذ عليه - مقامهم يضعهم دائما فى موضع حساس، لا يحبون أن يؤخذ عليهم ما هو فى صورة ما يؤاخذ عليه. ونطقه بالحكم قبل سماع المدعى عليه ربما كان لأنه سكت ولم يتكلم، فكان سكوته إقرارا بما نسب إليه، وتوجيه الله له باتباع الحق وعدم الميل مع الهوى-على الرغم من صواب حكمه - لا يدل على ظلمه أو ميله مع العواطف، فقد يكون توجيها بالاستمرار على اتباع الحق كما قال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) سورة الأحزاب، فلم يكن منه عصيان حتى يؤمر بالتقوى.
وبعد، فإن مما نتأسى به فى قصة داود عليه السلام الرجوع إلى الله فى كل الأحوال، والصبر على ما يقوله أهل الباطل، وعدم الأنفة من مزاولة أى عمل لكسب عيش شريف، وأن الصوت الحسن نعمة من نعم الله، تلين به القلوب وترتاح إليه الأعصاب، فليكن ترويحنا عن النفس بما شرع اللّه، وبما يعطيها نقاء وصفاء واستقامة، بعيدا عما يغضب الله " فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 134) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4603) رقم الفتوى 24594 ما ذكره المفسرون من قصة داود أكثره من الإسرائيليات
(1/239)
4 - أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده:
هذا أيضًا مما تعلمناه من قصة داود عليه السلام، فعلى الرغم من كونه خليفة في الأرض وملكًا على أمة امتد ملكها، إلا أنه كان يأكل من عمل يده: {وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد}، فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.
وهكذا الأنبياء والصالحون، فمنهم من كان يرعى الغنم، ومنهم من كان نجارًا؛ كزكريا عليه السلام، ومنهم من عمل بالنجارة زمنًا مثل نوح عليه السلام، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة رضي اللَّه عنهم كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدق من عمل يده، فقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت، حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده وفي طلب الرزق، ومن عجب أن يخفى ذلك على كثير من شبابنا ممن يدعون طلب العلم ويتخذونه حرفة لهم، حتى أصبحوا عالة على غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5 - من المعجزات المحسوسة أن ألان اللَّه الحديد لداود عليه السلام فجعله مطاوعًا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات اللَّه الكونية ودليل على قدرة اللَّه سبحانه، فهو الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وجعل الماء سلاحًا أغرق فرعون، ونجا موسى، وألان الحديد لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار؛ ولكن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة.
(1/240)
6- وفي قوله تعالى : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل - عليهم صلوات الله - الطريق الذي يضمهم أجمعين . فكلهم سار في هذا الطريق . كلهم عانى . وكلهم ابتلي . وكلهم صبر . وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً . كل حسب درجته في سلم الأنبياء . . لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات ; مفعمة بالآلام ; وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء . وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال . .
ونستعرض حياة الرسل جميعاً - كما قصها علينا القرآن الكريم - فنرى الصبر كان قوامها , وكان العنصر البارز فيها . ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها . .
لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك - صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية , لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات ; وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض ; وتتجرد من الشهوات والمغريات ; وتخلص لله وتنجح في امتحانه , وتختاره على كل شيء سواه . . ثم لتقول للبشرية في النهاية:هذا هو الطريق . هذا هو الطريق إلى الاستعلاء , وإلى الارتفاع . هذا هو الطريق إلى الله .
(1/241)
7- وهذا التسبيح من الجبال لله - تعالى - إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو - عز وجل - بدليل قوله - سبحانه - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها : المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها : أن تقييد التسبيح بكونه بالعشى والإِشراق . وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها فى كل وقت ، ولا يختص بكونه فى هذين الوقتين أو مع داود .
وخص - سبحانه - وقتي العشي والإِشراق بالذكر . للإِشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما .(1)
8- قال القرطبى في تفسيره : فإن قيل : لِم فزع داود وهو نبيّ ، وقد قويت نفسه بالنبوّة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] فقال الله عز وجل : «لاَ تَخَافا» . وقالت الرسل للوط : { لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } [ هود : 81 ].(2)
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3608)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4770)
(1/242)
ألا ترى إلى موسى وهارون - عليهما السلام - كيف قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} - أى: فرعون -، فقال الله لهما: {لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} ثم بين - سبحانه - ما قاله أولئك الخصوم لداود عندما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع، فقال: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط}.
9 - أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب، قصة حقيقية، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث.
فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله - تعالى - له. .
والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى.
(1/243)
قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم . . . وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .
والخلاصة : أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها .
قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه : " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود .
وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم .
(1/244)
ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء. فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل، وزاد فى القرآن ما ليس فيه. . لأن الله - تعالى - يقول: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} فقال لهو: لم يكونوا خصمين. ولا بغى بعهضم على بعض. ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة. ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له: {أَكْفِلْنِيهَا. .}.
10 - هناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات. منها: أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر، فإنه لما قال له: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ. .} فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل.
والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟.
قلت: ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم، ويروى أنه قال: أريد أخذها منه وأكمل نعانجى مائة فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا. وأشار إلى طرف الأنف والجبهة. .
(1/245)
والخلاصة أن الخصومة حقيقية بين اثنتين من البشر، واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة، فاستغفر ربه من ذلك الظن. فغفر الله - تعالى - له. (1)
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
سليمانُ (عليه السلام)
نبي من أنبياء الله، أرسله الله إلى بني إسرائيل، وتولَّى الملك بعد وفاة والده داود -عليهما السلام- وكان حاكمًا عادلاً بين الناس، يقضي بينهم بما أنزل الله، وسخر الله له أشياء كثيرة: كالإنس والجن والطير والرياح ... وغير ذلك، يعملون له ما يشاء بإذن ربه، ولا يخرجون عن طاعته، وإن خرج منهم أحدٌ وعصاه ولم ينفذ أمره عذبه عذابًا شديدًا، وألان له النحاس، وسخر الله له الشياطين، يأتون له بكل شيء يطلبه، ويعملون له المحاريب والتماثيل والأحواض التي ينبع منها الماء.
قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12 - 14]}.
وعلم الله -سبحانه- سليمان لغة الطيور والحيوانات، وكان له جيش عظيم قوى يتكون من البشر والجن والطير، قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} [النحل:17].
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3612)
(1/246)
وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ، أثْنَاءَ السَّيْرِ.
وكان سليمان دائم الذكر والشكر لله على هذه النعم، كثير الصلوات والتسابيح والاستغفار، وقد منح الله عز وجل سليمان -عليه السلام- الذكاء منذ صباه، فذات يوم ذهب كعادته مع أبيه داود -عليه السلام- إلى دار القضاء فدخل اثنان من الرجال، أحدهما كان صاحب أرض فيها زرع، والآخر كان راعيًا للغنم، وذلك للفصل في قضيتهما، فقال صاحب الأرض: إن هذا الرجل له غنم ترعى فدخلت أرضى ليلاً، وأفسدت ما فيها من زرع، فاحكم بيننا بالعدل، ولم يحكم داود في هذه القضية حتى سمع حجة الآخر، عندها تأكد من صدق ما قاله صاحب الأرض، فحكم له بأن يأخذ الغنم مقابل الخسائر التي لحقت بحديقته، لكن سليمان -عليه السلام- رغم صغر سنه، كان له حكم آخر، فاستأذن من أبيه أن يعرضه، فأذن له، فحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها، ويأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بلبنها وصوفها، فإذا ما انتهى صاحب الغنم من إصلاح الأرض أخذ غنمه، وأخذ صاحب الحديقة حديقته.
(1/247)
وكان هذا الحكم هو الحكم الصحيح والرأي الأفضل، فوافقوا على ذلك الحكم وقبلوه بارتياح، وأعجب داود -عليه السلام- بفهم ابنه سليمان لهذه القضية مع كونه صغيرًا، ووافق على حكم ابنه، وقد حكى الله -عز وجل- ذلك في القرآن قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) [الأنبياء/78 - 81]}.
موقف سليمان عليه السلام مع النملة فيقول الله عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} [النمل/17 - 20].
(1/248)
إن الله سبحانه وتعالى آتى سليمان خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، ومع هذا فقد أعطى عليه الصلاة والسلام، ملكاً عظيماً وسلطاناً واسعاً، ومع هذا العلم الذي أعطى سليمان، ومع هذا الملك أيضاً، لم يمنعه كل هذا، أن يأخذ درساً من أصغر مخلوقات الله، وهي النملة، ويستفيد منها، ولم يغتر بملكه ولا بعلمه عليه الصلاة والسلام، كما هو شأن بعض حاملي الشهادات في زماننا هذا، والله المستعان.
يقف سليمان عليه السلام، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطاناً كسلطانه، وملكاً كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله، بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله، فيقول في محراب ملكها، الذي يسبح فيه بحمد الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
لقد أراد الله سبحانه وتعالى، أن يصغر في عيني سليمان هذا الملك العريض، الذي بين يديه، وأن يكسر من حدة هذا السلطان المندفع، كالشهاب الذي لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كي لا يدخل على نفسه شيء، من العجب والزهو، فتقف له النملة، هذا الموقف، الذي يرى منه عجباً، فيرى سليمان عليه السلام من النملة، ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمع أحد غير النمل، الذي يعيش معها: ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
(1/249)
والدرس الذي نود أن نأخذه من موقف سليمان عليه السلام مع النملة، هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ جماعة النمل حذرها، ولتدخل مساكنها، ولتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق، ومن أين هذا الهلاك؟
من جماعة غالباً، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطن أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة، فهل يشعر من يسكن البيوت الفارهة، بما يعاني عباد الله من ساكني العشش والخيام، وكم في دنيا الناس، من المستضعفين ممن تطؤهم أقدام الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم.
وكم من مجتمعات بشرية، جرفها تيار عاتٍ من تيارات الظلم والاستبداد، وكم من مدن عامرة دمرتها رحى الحروب، التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود، وكم وكم، إنها والله لحكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة، حيوان ضئيل من مخلوقات الله، وأقلها شأناً تلقيه على الإنسانية كلها، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة، فحاد بركبه عن وادي النمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله ونعمته، فيقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
(1/250)
إن للنملة سلطاناً كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجنداً كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة، وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائماً على مواقع الخير، ترتاده لرعايتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل السلطان الحكيم، وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو، الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ نعم كان النبي سليمان عليه السلام كذلك.
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:20 - 27].
حشد سليمان عليه السلام جموعه ورعيته، فنظر فلم ير الهدهد قد حضر هذا الحفل، فتوعده سليمان عليه السلام بأشد العذاب والنقمة، {لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل:21].
(1/251)
أما كان للهدهد عذر يمكن أن يقدمه لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب، ألا يجوز أن يكون مريضاً، ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ وماذا يغني الهدهد في هذا الجمع العظيم، وماذا يجدي أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، لكنه الانضباط التام، والملاحظة العجيبة عند سليمان الملك، وكيف أنه يتفقد رعيته كاملاً، ويهمه حضورهم ووجودهم حتى لو كان مخلوقاً ضعيفاً كالهدهد.
وفي قول سليمان عليه السلام: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} درس عظيم، لابد من الوقوف عنده، فسليمان عليه السلام حين نظر ولم ير الهدهد، اتهم نفسه أولاً، فقال: مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ، ولم يقل أين الهدهد، ولم يقل: إن الهدهد غائب. لأنه يحتمل أن يكون موجوداً، لكنه هو عليه السلام ما رآه، وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا هم التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها في أيديهم، تشككوا واتهموا أولاً أسلوب تفكيرهم، الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر مرةً بعد مرة، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة، ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فلينتبه لهذه القضية.
درس آخر، يعلمنا هذا الهدهد، وهو أنه في تأخره الحضور، مع سليمان، بماذا كان منشغلاً، وما الذي أخره عن الحضور، لقد كان منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل، والإنكار على المشركين شركهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل:24].
(1/252)
لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، حيث إنهم محسوبين على الدعوة، يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية الواضحة، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ذلك، ولا يمنعهم ذلك أن يؤاكلوهم، أو يجالسوهم، أو يشاربوهم، فهل لنا في هذا الهدهد أسوة حسنة، حيث إنه أنكر على ملكة دولة في زمانها وهي ملكة سبأ.
وأما عن القصة الثالثة، لنبي الله سليمان عليه السلام، فكانت مع ملكة سبأ، وتسمى بلقيس، وأرض سبأ باليمن، وسميت كذلك نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحان، وسمي هو سبأ، لأنه أول من سبي السبي من ملوك العرب، وأدخل السبايا إلى اليمن.
فبعد ما رجع الهدهد، وأخبر سليمان عليه السلام بما رآه وشاهده في أرض اليمن، من وجود امرأة تحكمهم، وأن لها دولة، أرسل سليمان عليه السلام الهدهد، إلى أرض سبأ وأعطاه رسالة إلى ملكة سبأ، طار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، تناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية: {اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:28 - 33].
(1/253)
ولنا وقفة مع قول بلقيس، في قول الله عز وجل: {قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]، إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وإنها الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند حدوث بعض المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]
عند ذلك عزمت بلقيس على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.
ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:34 - 37]}.
رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها.
(1/254)
عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته، فقال لمن حوله من الجن، أيكم يأتيني بعرش بلقيس، قبل أن تصل إليّ مع قومها، ليروا قدرة الله عز وجل، فقال أحد العفاريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي وتحكم فيه، وكان سليمان يجلس من الصباح إلى الظهر في كل يوم للحكم بين الناس، وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه، قال تعالى:{ قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40]}.
فأمَرَ سُلَيمانُ بأَنْ يُجْرُوا بَعْضَ التَّغْيِيرِ في هَيئَةِ عَرْشِ بلْقِيسَ ليخْتَبِرَ مَعْرَفَتَهَا ، وَثَبَاتَها ، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، وَهَلْ تَستطيعُ أنْ تعرِفَ عَرْشَهَا إذا بُدِّلَ فِيهِ وَنُكِّرَ ، أمْ لا تَسْتَطيعُ ذَلِكَ .
فَلَما وصلتْ بِلقيسُ إِلى سُلَيمانَ ، عَرَضَ عليهَا عَرْشَهَا وَقَد غُيِّرَ فيهِ ، ونُكِّرَ ، وزِيْدَ فيهِ ، فَسَأَلها أهَكَذا عرشُكِ؟ ولكِنَّها اسْتَبْعَدَتْ أن يُحْمَلَ عرشُهَا مِنْ تلكَ المَسافاتِ البَعيدةِ ، فقالتْ كأَنَّهُ هُوَ ، فهُوَ يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُه وقيل إِنَّ جَوَابَها هَذا دَليلٌ على رَجَاحَةِ عَقْلِهَا ، وفِطْنَتِها وَدَهَائِها ، وثباتِ قَلْبَهَا .
(1/255)
وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً.
أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَكَانوا كَافرين قال سبحانه: {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:41 - 43]}.
كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً (صَرْحاً) عَظيماً من زُجَاجٍ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي. ثمَّ قالَ لها سليمانُ: ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ، وليسَ ماء، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ، وَقَالَتْ: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ، وخالقِ كلِّ شيءٍ.
{
(1/256)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} سورة النمل (1)
وقد أراد سليمان -عليه السلام- أن يبني بيتًا كبيرًا يُعْبد الله فيه، فكلف الجن بعمل هذا البيت، فاستجابوا له، لأنهم مسخرون له بأمر الله، فكانوا لا يعصون له أمرًا، وكان من عادة سليمان أن يقف أمام الجن وهم يعملون، حتى لا يتكاسلوا.
وَلَمّا قَضَى اللهُ تَعَالى عَليهِ المَوتَ، اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ، وَلَبِثَ فَتْرَةً وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، وَالجِنُّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدِيهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ يَنْظُرُ إِليهِمْ فَلا يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ إِليهِمُ فَلاَ يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. ثُمَّ سَخَّرَ اللهُ حَشَرَةً صَغِيرةً أَخَذَتْ تَنْخُرُ عَصَاهُ حَتَّى ضَعُفَتْ فانْكَسَرَتْ وَسَقَطَ سُلَيْمَانُ عَلَى الأَرضِ، فَعَلِمَتِ الجِنُّ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَلِلْجِنِّ أَنَّ الجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ سَاعَةَ حُدُوثِهِ، وَلَم يَنْتَظِرُوا حَتَّى تَأْكُلَ دَابَّةٌ الأَرْضِ 'َصَاهُ التِي كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيها فَيَسْقُطَ عَلى الأَرضِ، وَلَمْ يَسْتَمرُّوا فِي الأَعمَالِ الشَّاقَةِ التِي كَلَّفَهُم بِهِا سُلَيْمَانُ (العَذَابِ المُهِينِ).
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3056) سليمان عليه السلام
(1/257)
قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]}.
وادعى بعض اليهود أن سليمان كان ساحرًا، ويسخر كل الكائنات بسحره، فنفي الله عنه ذلك في قوله تعالى: قال تعالى :{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}سورة البقرة
(1/258)
وَلَقَدْ صَدَّقُوا مَا تَتَقَوَّلُه الشَّيَاطِينُ وَالفَجَرَةُ مِنُهُمْ عَلَى مَلْكِ سُلَيْمَانَ ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً وَلاَ رَسُولاً يَنْزِلُ عَلَيهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ ، بَلْ كَانَ سَاحِراً يَسْتَمِدُّ العَوْنَ مِن سِحْرِهِ ، وَأنَّ سِحْرَهُ هَذا هُوَ الذِي وَطَّدَ لَهُ المُلْكَ ، وَجَعَلَهُ يُسَيْطِرُ عَلَى الجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ ، فَنَسَبُوا بِذَلِكَ الكُفْرَ لِسُلَيْمَانَ ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الفَجَرَةَ هُمُ الذِينَ كَفَرُوا ، إِذْ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ الأَقَاوِيلَ ، وَأَخَذُوا يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِحْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَمِنْ آثَارِ مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ عَلَى المَلَكِين هَارُوتَ وَمَارُوتَ . مَعَ أنَّ هذينِ المَلَكِينِ مَا كَانَا يُعَلِّمَانِ أَحَداً حَتَّى يَقُولا لَهُ : إِنَّمَا نُعَلِّمُكَ مَا يُؤَدِّي إلَى الفِتْنَةِ وَالكُفْرِ فَاعْرِفْهُ وَاحْذَرْهُ ، وَتَوَقَّ العَمَلَ بِهِ . وَلَكِنَّ النَّّاسَ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذِهِ النَّصِيِحَةِ ، فَاسْتَخْدَمُوا ، مِمَّا تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المْرِءِ وَزَوْجِهِ .
(1/259)
لَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاءِ الشَّياطِينُ الفَجَرَةُ إِذْ تَقَوَّلُوا هَذِهِ الأقَاوِيلَ ، وَاتَّخَذُوا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ ذَرِيعَةً لِتَعْلِيمِ اليَهُودِ السِّحْرَ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ ، وَأنَّ مَا يُؤَخَذُ عَنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ لَيَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلاَ يُفِيدُهُ شَيْئاً ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ مَنِ اتَّجَهَ هذا الاتِّجَاهَ لَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ أوْ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ ، وَلَبِئْسَ مَا اخْتَارَهُ هُؤُلاءِ لأنْفُسِهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .
وَأَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ بِأَنْ وَهَبَهُ وَلَدَهُ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ عَبداً مُحْسِناً مُطِيعاً للهِ ، حَسَنَ الاعْتِقَادِ والإِيْمَانِ ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (30) سورة ص.
--------------
الدروس والعبر
بين داود وسليمان عليهما السلام
أولاً: قال تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء/78-81].
(1/260)
ومعنى الآيات الكريمة: اذكر- يا رسولنا - لقومك خاصة وللناس كافة قصة داود وسليمان عليهما السلام: إذ يحكمان في الحرث- أي حال كونها يحكمان في الزرع، قيل إنه كان عناقيد تدلت، إذ نفشت فيه غنم القوم أي انتشرت وتفرقت فيه ليلاً بلا راعٍ فرعته وأفسدته.
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآيات نقلاً عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، قال كرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم (العنب) فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله: ففهمناها سليمان. اهـ.
وحتى لا يفهم القارئ من العبارة السابقة تقليلاً من شأن داود عليه السلام عقب ربنا سبحانه وتعالى بعدها مباشرة بقوله: {وكلا آتينا حكما وعلما}، فداود عليه السلام حكم بالعدل وسليمان عليه السلام حكم بالفضل، وقد أثنى الله على حكمه الذي وفقه إليه لأنه يحب الرفق في الأمر كله كما جاء عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ». قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ «قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ» (1).
__________
(1) - صحيح البخاري (6927)
(1/261)
ثم استمرت الآيات الكريمة في بيان ما مَنَّ الله سبحانه به على كل من داود وسليمان فقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82).
وقد تناولنا ذلك فيما سبق بما يغني عن إعادته، وخلاصة القول: أن الله سبحانه قد خصَّ كلا من النبيين بما يناسبه من فضل ومنِّة، وإن تميز أحدهما بشيء عن الآخر فليس في ذلك انتقاص من فضل الآخر، وهذا أمر مقرر في الشريعة ولولا خشية الإطالة لأوردنا أدلة كثيرة على ذلك.
يجب ألا ننسى أن سليمان قد ورث داود وهو ابنه وكلما نُسب فضلٌ إلى سليمان عليه السلام فهو فضل لداود عليه السلام.
(1/262)
ثانيًا: القصة الثانية كما جاء في صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.» (1).
__________
(1) - صحيح البخارى (6769)
(1/263)
قَالَ الْعُلَمَاء : يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه . وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنْ الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن الْقَضِيَّة ، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه ، فَلَمَّا أَرَادَتْ الْكُبْرَى قَطْعه ، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه ، فَلَمَّا قَالَتْ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ حَقِيقَة ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِبَار شَفَقَتهمَا ؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ الْأُمّ ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَا ، وَلَعَلَّهُ اِسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى ، فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة الْمَذْكُورَة ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب ، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْف حَكَمَ سُلَيْمَان بَعْد حُكْم دَاوُدَ فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة وَنَقَضَ حُكْمه ، وَالْمُجْتَهِد لَا يَنْقُض حُكْم الْمُجْتَهِد ؟ فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه مَذْكُورَة : أَحَدهَا : أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا . وَالثَّالِث : لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ فَسْخ الْحُكْم إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْم إِلَى حَاكِم آخَر يَرَى خِلَافه .
(1/264)
وَالرَّابِع: أَنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَة إِلَى إِظْهَار الْحَقّ وَظُهُور الصِّدْق، فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْحُكْم كَمَا إِذَا اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ هُنَا لِخَصْمِهِ. (1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 152)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 224)
قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْفُتْيَا مِنْهُمَا لَا الْحُكْم، وَلِذَلِكَ سَاغَ لِسُلَيْمَان أَنْ يَنْقُضهُ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ فِي لَفْظ الْحَدِيث أَنَّهُ قَضَى بِأَنَّهُمَا تَحَاكَمَا، وَبِأَنَّ فُتْيَا النَّبِيّ وَحُكْمه سَوَاء فِي وُجُوب تَنْفِيذ ذَلِكَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيل الْمُشَاوَرَة فَوَضَح لِدَاوُدَ صِحَّة رَأْي سُلَيْمَان فَأَمْضَاهُ. وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: اِسْتَوَيَا عِنْد دَاوُدَ فِي الْيَد، فَقَدَّمَ الْكُبْرَى لِلسِّنِّ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ وَحَكَى أَنَّهُ قِيلَ: كَانَ مِنْ شَرْع دَاوُدَ أَنْ يَحْكُم لِلْكُبْرَى قَالَ: وَهُوَ فَاسِد لِأَنَّ الْكِبَر وَالصِّغَر وَصْف طَرْدِيّ كَالطُّولِ وَالْقِصَر وَالسَّوَاد وَالْبَيَاض، وَلَا أَثَر لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّرْجِيح، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَكَاد يَقْطَع بِفَسَادِهِ. قَالَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَال إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِسَبَب اِقْتَضَى بِهِ عِنْده تَرْجِيح قَوْلهَا، إِذْ لَا بَيِّنَة لِوَاحِدَة مِنْهُمَا، وَكَوْنه لَمْ يُعَيِّن فِي الْحَدِيث اِخْتِصَارًا لَا يَلْزَم مِنْهُ عَدَم وُقُوعه، فَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال: إِنَّ الْوَلَد الْبَاقِي كَانَ فِي يَد الْكُبْرَى وَعَجَزَتْ الْأُخْرَى عَنْ إِقَامَة الْبَيِّنَة قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيل حَسَن جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة وَلَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يَأْبَاهُ وَلَا يَمْنَعهُ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْف سَاغَ لِسُلَيْمَان نَقْض حُكْمه؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَعْمَد إِلَى نَقْضِ الْحُكْم، وَإِنَّمَا اِحْتَالَ بِحِيلَة لَطِيفَة أَظْهَرَتْ مَا فِي نَفْس الْأَمْر، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمَّا أَخْبَرَتَا سُلَيْمَان بِالْقِصَّةِ فَدَعَا بِالسِّكِّينِ لِيَشُقّهُ بَيْنهمَا، وَلَمْ يَعْزِم عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَاطِن، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِسْتِكْشَاف الْأَمْر، فَحَصَلَ مَقْصُوده لِذَلِكَ لِجَزَعِ الصُّغْرَى الدَّالّ عَلَى عَظِيم الشَّفَقَة، وَلَمْ يَلْتَفِت إِلَى إِقْرَارهَا بِقَوْلِهَا هُوَ اِبْن الْكُبْرَى لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا آثَرَتْ حَيَاته، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ قَرِينَة شَفَقَة الصُّغْرَى وَعَدَمهَا فِي الْكُبْرَى - مَعَ مَا اِنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ الْقَرِينَة الدَّالَّة عَلَى صِدْقهَا - مَا هَجَمَ بِهِ عَلَى الْحُكْم لِلصُّغْرَى. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّنْ يَسُوغ لَهُ أَنْ يَحْكُم بِعِلْمِهِ، أَوْ تَكُون الْكُبْرَى فِي تِلْكَ الْحَالَة اِعْتَرَفَتْ بِالْحَقِّ لَمَّا رَأَتْ مِنْ سُلَيْمَان الْجِدّ وَالْعَزْم فِي ذَلِكَ. وَنَظِير هَذِهِ الْقِصَّة مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِم عَلَى مُدَّعٍ مُنْكِر بِيَمِين، فَلَمَّا مَضَى لِيُحَلِّفهُ حَضَرَ مَنْ اِسْتَخْرَجَ مِنْ الْمُنْكِر مَا اِقْتَضَى إِقْرَاره بِمَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِف عَلَى جَحْده، فَإِنَّهُ وَالْحَالَة هَذِهِ يَحْكُم عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ سَوَاء كَانَ ذَلِكَ قَبْل الْيَمِين أَوْ بَعْدهَا، وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْحُكْم الْأَوَّل، وَلَكِنْ مِنْ بَاب تَبَدُّل الْأَحْكَام بِتَبَدُّلِ الْأَسْبَاب. وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: اِسْتَنْبَطَ سُلَيْمَان لَمَّا رَأَى الْأَمْر مُحْتَمَلًا فَأَجَادَ، وَكِلَاهُمَا حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَاوُدُ حَكَمَ بِالنَّصِّ لَمَا سَاغَ لِسُلَيْمَان أَنْ يَحْكُم بِخِلَافِهِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى أَنَّ الْفِطْنَة وَالْفَهْم مَوْهِبَة مِنْ اللَّه لَا تَتَعَلَّق بِكِبَرِ سِنّ وَلَا صِغَره. وَفِيهِ أَنَّ الْحَقّ فِي جِهَة وَاحِدَة، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاء يَسُوغ لَهُمْ الْحُكْم بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَ وُجُود النَّصّ مُمْكِنًا لَدَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، لَكِنّ فِي ذَلِكَ زِيَادَة فِي أُجُورهمْ، وَلِعِصْمَتِهِمْ مِنْ الْخَطَأ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا يُقِرُّونَ لِعِصْمَتِهِمْ عَلَى الْبَاطِل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ تَحَيُّلًا عَلَى إِظْهَار الْحَقّ، فَكَانَ كَمَا لَوْ اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ لِخَصْمِهِ. وَفِيهِ اِسْتِعْمَال الْحِيَل فِي الْأَحْكَام لِاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوق، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِمَزِيدِ الْفِطْنَة وَمُمَارَسَة الْأَحْوَال.
(1/265)
ثالثًا: من المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب فله أجران كما صحَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .. [رواه البخاري] (1)
الأنبياء في النهاية بشر كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم الخاص وليس بوحي، ومن هنا جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (2).
فالحاكم مثاب أصاب أو أخطأ، وعلى القاضي أن يجتهد ما استطاع، والفضل أولاً وآخرًا لله يؤتيه من يشاء.
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
زكريا (عليه السلام)
__________
(1) - صحيح البخاري (7352) 133/ 9
(2) - صحيح البخاري (6967) - الألحن: الأعرف والأقدر على بيان مقصوده
(1/266)
قال تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)[آل عمران/35-41]
قِيلَ إنَّ امْرَأَةَ عِمرَانَ كَانَتْ عَاقِراً ، فَرَأتْ طَائِراً يَزُقُّ فَرْخَهُ فَتَمَنَّتْ أنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ ، فَدَعَتِ اللهَ أنْ يَرْزُقَها وَلَداً فَحَمَلَتْ .
(1/267)
وَلَمَّا شَعَرَتْ بِالحَمْلِ نَذَرَتْ أنْ يَكُونَ حَمْلُها خَالِصاً مُتَفرِّغاً لِعِبَادَةِ اللهِ ، وَخِدْمَةِ المَعْبَدِ . وَدَعَتِ اللهَ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهَا نَذْرَها ، فَإنَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّميعُ لِدُعَائِها ، العَلِيمُ بِنِيَّتِها .
فَلَمَّا وَضَعَتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ حَمْلَها ، وَرَأتْ أنَّهُ أُنثَى ، تَحَسَّرَتْ عَلَى مَا رَأنْ مِنْ خَيْبَةِ رَجَائِها ، فَإنَّهَا نَذَرَتْ أنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ المَعْبَدِ ، وَالانْقِطَاعِ لِلعِبادَةِ ، وَالأنْثَى لاَ تُصْلُحُ لِذَلِكَ .
وَقَالَتْ رَبِّ إنّي وَضَعْتُها أنْثَى ، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَكَانَةِ الأنثَى التِي وَضَعتَها ، وَأنَّها خَيْبرٌ مِنَ الذُّكُورِ . وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى فِي القُوَّةِ وَالجَلدِ فِي العِبَادَةِ ، وَفِي احْتِمَالِ خِدْمَةِ المَعْبَدِ ، وَقَالَتْ إني سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، وَإني عَوَّذْتُها بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا نَذِيرَةً مُحَرَّرَةً لِلْعِبَادَةِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ ، وَأحَسَنَ نَشْأَتَهَا وَنَباتَها ، وَقَرَنَها بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ ، تَتَعَلَّمُ مِنْهُمُ العِلْمَ وَالخَيْرَ وَالدِّينَ .
وَجَعَلَ زَكَريَا كَافِلاً لَهَا ، إتْمَاماً لِسَعَادَتِهَا ، لِتَقْتَبِسَ مِنْهُ العِلْمَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ . وَكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا مَكَانَ مُصلاَّهَا ( المِحْرَابَ ) وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ، فَكَانَ زَكَرِيّا يَسْأَلُهَا مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ يَا مَرْيَمُ؟ فَتَرُدُّ عَلَيهِ قََائِلَةً إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الذِي يَرْزُقُ النَّاسَ جَمِيعاً بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ تَعَالَى يََرْزُقَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ رِزْقاً كَثِيراً بِلاَ حُدُودٍ؟
(1/268)
فَلَمَّا رَأى زَكَرِيَّا مِنْ كَرَامَاتِ مَرْيَمَ ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ رَأسُهُ شَيْباً ، وَأصْبَحَ شَيْخاً طَاعِناً فِي السِّنِّ ، طَمِعَ فِِي أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ مِثْلُهَا هِبَةً وَفَضْلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِراً ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ نِداءً خَفِيّاً ، وَقَالَ : يَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، إنَّكَ تَسْمَعُ دُعَاءَ الصَّالِحينَ ، وَأنْتَ القَدِيرُ عَلَى الإِجَابَةِ .
فَخَاطَبَتْهُ المَلاَئِكَةُ خِطَاباً سَمِعَهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِحْرَابِهِ ، وَمَحلِّ خَلْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ، وَقَالَتْ لَهُ إن اللهَ يُبَشِّرُكَ بِوَلدٍ يُولَدُ لَكَ اسْمُهُ يَحْيَى ، يَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُصَدِّقُ بِعِيسَى الذِي خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، إِذْ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ ، وَيَكُونُ حَلِيماً وَسَيِّداً يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الشَّرَفِ وَالعِبَادَةِ وَالعِلْمِ ، وَيَكُونُ حَصُوراً يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنِ اتِّبَاعِ شَهَواتِها ، وَيَكُونُ مَعْصُوماً عَنِ الفَوَاحِشِ ، وَسَيَكُونُ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ حِينَمَا يَبْلُغُ سِنَّ النُّبُوَّةِ .
فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَكَرِيَا مِنَ البِشَارَةِ ، أخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْ وِلاَدَةِ وَلَدٍ لَهُ بَعْدَ الكِبَرِ ، فَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ، وَقَدْ كَبِرْتُ وامْرأتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ ، فَرَدَّ عَلَيهِ المَلَكُ قَائِلاً : إنَّ اللهَ يَفْعَل مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ ، لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ ، وَلا يَتَعَاظَمُهُ أَمْرٌ ، وَلاَ يَحُولُ دُونَ نَفَاذِ مَشِيئَتِهِ حَائِلٌ .
(1/269)
قَالَ زَكَرِيَّا : رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلامَةً ( آيةً ) أَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الوَلَدِ مِنَّي . قَالَ : العَلاَمَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ أَنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ مَعَ اسْتِواءِ صِحَّتِكَ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ كَامِلَةٍ . ثُمّ أَمَرَهُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ في الصَّباحِ وَالمَسَاءِ حِينَمَا تَعْرِضُ لَهُ هذِهِ الحَالَةُ .
وقال تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) } [مريم/2-11]
هذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللهِ لِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . ( وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .
(1/270)
حِينَ دَعَا رَبَّهُ خفْيَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ( لأَنَّ الدُّعَاءَ الخَفِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الإِخْلاَصِ ، وَالْبُعْد عَنِ الرِّياءِ ) .
فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ ، وَخَارَتْ قُوَايَ ( وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ) ، وَشَابَ رَأْسِي وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلاَّ الإِجَابَةَ لِدُعَائِي ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ خَائِباً فِيمَا سَأَلْتُكَ .
وَإِنِّي خِفْتُ إِذَا مِتُّ بِلا خَلَفٍ وَلاَ وَلَدٍ أَنْ تَتَصَرَّفَ عُصْبَتِي بِالنَّاسِ تَصَرُّفاً سَيِّئاً ، وَأَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ وَالْهُدَى ، وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَداً ( وَلِيّاً ) ، يَكُونُ نَبِيّاً فَيَخْلُفُنِي فِي قَوْمِي ، وَيَسُوسُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ .
فَيَرِثُ هَذا الوَلَدُ مِنِّي الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَالحِكْمَةَ ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ المُلْكَ ، وَاجْعَلْهُ يَا رَبِّ مَرْضِيّاً عِنْدَكَ ، وَعِنْدَ خَلْقِكَ ، تُحِبُّهُ أَنْتَ ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الخَلْقِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ .
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ زَكَرِيّا ، وَقَالَ لَهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ : إِنَّنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَكَ ، وَيَكُونُ اسْمُهُ يَحْيَى ، يَكُونُ نَبِيّاً وَصَالِحَاً وَمُصَدِّقاً بِالمَسِيحِ ( كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ) ، وَلَمْ نَجْعَلْ لاسْمِهِ مُمَاثِلاً مِنْ قَبْلُ .
فَتَعَجَّبَ زَكَرِيَّا حِينَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ يُوْلَدُ لِي وَلَدٌ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ، وَأَنَا قَدْ تَقَدَّمَتْ بِيَ السِّنُّ كَثِيراً وَكَبِرْتُ ، وَقَحِلَ عَظْمِي ، وَلَمْ تَبْقَ فِيَّ قُوَّةٌ؟
(1/271)
فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ قَائِلاً (أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ المَلَكُ الَّذِي أَبْلَغَهُ البُشْرَى بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) إِنَّ جَعْلَكَ وَزَوْجَكَ تُنْجِبَانِ وَلَداً وَأَنْتَ هَرِمٌ، وَامْرَأَتُكَ عَاقِرٌ هُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ عَلَيَّ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ أَنْتَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً، وَالْخَلْقُ أَصْعَبُ مِنْ تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ، كَجَعْلِ العَاقِرِ وَلُوداً.
قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلاَمَةً وَدَلاَلَةً (آيَةً) عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي بِهِ مِنْ حَمْلِ زَوْجَتِي، لِتَسْتَقَرَّ نَفْسِي، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي؟
قَالَ الرَبُّ: العَلاَمَةُ هِيَ أَنْ يَنْحَبِسَ لِسَانُكَ ثَلاَثَ لَيَالٍ وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُعَافَى (سَوِيّاً)، وَلَيْسَ بِكَ عِلَّةٌ، وَلاَ أَنْتَ تَشْكُو مَرَضاً، فَلاَ تَسْتَطِيعَ تَكْلِيمَ النَّاسِ وَمُحَاوَرَتَهُمْ. وَخِلاَلَ هَذِهِ اللَّيَالِي تَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِعِبَادَاتِكَ، وَتَسْبِيحَ رَبِّكَ.
وَبَعْدَ أَنْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ العَلاَمَةِ، خَرَجَ زَكَرِيَّا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مُصَلاَّهُ، أَوْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ (المِحْرَابِ)، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ الكَلاَمَ، وَقَدِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِ اللهِ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا بِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ لِيُسَبِّحُوا رَبَّهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَلِيُشَارِكُوهُ الشُّكْرَ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ نَبِيّاً يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
يحيى (عليه السلام)
(1/272)
يحيى -عليه السلام- نبي من أنبياء بني إسرائيل، ظهرت آية الله وقدرته فيه حين خلقه، حيث كان أبوه نبي الله زكريا -عليه السلام- شيخًا كبيرًا، وكانت أمه عاقرًا لا تلد، وكان يحيى -عليه السلام- محبًّا للعلم والمعرفة منذ صغره، وقد أمره الله تعالى بأن يأخذ التوراة بجد واجتهاد، فاستوعبها وحفظها وعمل بما فيها، والتزم بأوامر الله سبحانه وابتعد عن نواهيه، قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (12) سورة مريم.
وقد ابتعد يحيى عن لهو الأطفال، فيحكى أنه كان يسير وهو صغير إذ أقبل على بعض الأطفال وهم يلعبون فقالوا له: يا يحيى تعال معنا نلعب؛ فرد عليهم يحيى -عليه السلام- ردًّا بليغًا فقال: ما للعب خلقنا، وإنما خلقنا لعبادة الله، وكان يحيى متواضعًا شديد الحنان والشفقة والرحمة وخاصة تجاه والديه، فقد كان مثالاً للبر والرحمة والعطف بهما، قال تعالى عن يحيى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:13 - 14].
وحمل يحيى لواء الدعوة مع أبيه، وكان مباركًا يدعو الناس إلى نور التوحيد ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، وكان شديد الحر على أن ينصح قومه ويعظهم بالبعد عن الانحرافات التي كانت سائدة حين ذاك.
(1/273)
عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّ أَبَا سَلاَّمٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْحَارِثَ الأَشْعَرِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ.
(1/274)
فَقَالَ يَحْيَى أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِى بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِى أَوْ أُعَذَّبَ فَجَمَعَ النَّاسَ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ هَذِهِ دَارِى وَهَذَا عَمَلِى فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَىَّ فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّى إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِى صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِى عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِى أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ ».
(1/275)
قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِى بِهِنَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ قَالَ « وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِى سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ » [الترمذي](1).
__________
(1) - أخرجه الترمذى (3102 ) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وهو كما قال
الجثا : جمع جثوة وهو الشىء المجموع - الشرف : المرتفع من الأرض -الورق : الفضة
(1/276)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ:" كُنَّا فِي حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ نَتَذَاكَرُ فَضَائِلَ الأَنْبِيَاءِ , أَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟ فَذَكَرْنَا نُوحًا وَطُولَ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ , وَذَكَرْنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرْنَا مُوسَى كَلِيمَ اللَّهِ , وَذَكَرْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , وَذَكَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ:مَا تَذاكُرُونَ بَيْنَكُمْ؟قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهُ , تَذَاكَرْنَا فَضَائِلَ الأَنْبِيَاءِ , أَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟ ذَكَرْنَا نُوحًا وَطُولَ عِبَادَتِهِ , وَذَكَرْنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرْنَا مُوسَى كَلِيمَ اللَّهِ , وَذَكَرْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , وَذَكَرْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ:فَمَنْ فَضَّلْتُمْ؟قُلْنَا: فَضَلَّنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , بَعَثَكَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً , وَغَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ , وَأَنْتَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَمَا إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا, قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ:أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ كَيْفَ وَصَفَهُ فِي الْقُرْآنِ , فَقَالَ: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"[مريم آية 12] , فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: "سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ"[آل عمران آية 39] لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً قَطُّ , وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا."(1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 359)(12764 )حسن
(1/277)
و عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا مَا هُمَّ بِخَطِيئَةٍ أَحْسِبُهُ قَالَ وَلاَ عَمِلَهُمَا." (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِىَ: «ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ. قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ». [البخاري] (2)
وروي أنه مات قتيلاً على يد بني إسرائيل.
- - - - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
عيسى (عليه السلام)
ذهبت امرأة عمران بمريم إلى المسجد الأقصى وفاءً بنذرها، لتنشأ فيه نشأة طيبة وتتعلم أصول دينها، وتتربى على مكارم الأخلاق، وتكفَّل زكريا برعاية مريم وكان زكريا زوجًا لخالتها، فقام بتربيتها وكفالتها ورعايتها حتى كبرت على الأخلاق الحميدة.
__________
(1) - مسند البزار (2351) صحيح
(2) - صحيح البخاري (3430)
(1/278)
عاشت مريم في محرابها تعبد الله وتسبحه وتقدِّسه، وذات يوم دخل عليها مجموعة من الملائكة على هيئة البشر، وأبلغوها ثناء الله -عز وجل- عليها، وحثوها على مزيد من الطاعة والعبادة والصلاة، فقالوا لها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران/42 - 44]}،ثم بشَّروها بولد منها سيكون نبيًّا كريمًا مؤيدًا بالمعجزات، فقالوا: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)} [آل عمران:45 - 46] فتعجبت مريم، إذ كيف يكون لها ولد وليست متزوجة، ولم يمسسها أي رجل!! فأخبرتها ملائكة الله أن هذه هي إرادة الله سبحانه القادر على كل شيء، ولم تملك مريم -عليها السلام- في هذا الأمر إلا أن تستسلم لله عز وجل، وتتحصن به في هذا المقام، لعل الله سبحانه أن يجعل لها مخرجًا.
ذات يوم وبينما هي وحدها، أرسل الله إليها الروح الأمين جبريل -عليه السلام- على هيئة بشرية وفي صورة حسنة، فلما رأته خافت وفزعت منه، فلم يكن يدخل عليها المحراب أحد غير زكريا، فتعوذت بالله من هذا الشخص الذي دخل عليها.
فطمئنها جبريل أنه رسول الله إليها، ليهب لها غلامًا طيبًا مباركًا، ونفخ فيها نفخة، فحملت على الفور، ثم اختفى جبريل -عليه السلام-.
(1/279)
ومرت الأيام، وأحست مريم بآلام الحمل، فذهبت إلى مكان بعيد خوفًا من كلام الناس في حقها، وجلست تحت ظل نخلة تفكر في أمرها وما سيكون عليه حالها بعد ولادتها، واقتربت ساعة الولادة، فتمنت أن لو كانت قد ماتت قبل أن يحدث لها ما حدث، ووضعت مريم عيسى -عليه السلام- واحتاجت إلى طعام وشراب حتى تستعيد قوتها ونشاطها، فقد أصابها الضعف بعد الولادة، وفجأة .. سمعت صوتًا يناديها ويأمرها أن تهز جذع النخلة التى تجلس تحتها، وسوف يتساقط عليها الرطب، فتأكل منها حتى تشبع. {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم/22 - 25]
وظل هذا الصوت يتكلم، وكأنه يعلم ما يدور في صدر مريم من مخاوف حينما تدخل على أهلها وعلى الناس، وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً رضيعًا هي أمه، مع أنها لم تتزوج ولم تعاشر الرجال، فقال لها ذلك الصوت: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) [مريم/26]}، وأخذت تتلفت يمينًا ويسارًا لتتعرف على مصدر الصوت الذي يناديها، لكنها لم تجد أحدًا سوى ابنها الذي ولدته منذ لحظات، فتعجبت من ذلك تعجبًا شديدًا، وأدركت على الفور أنها أمام معجزة من معجزات الله العظيمة، ففرحت بابنها فرحًا كبيرًا، وعلمت أن الله سوف يجعل لها بعد هذا الضيق فرجا و مخرجا.
(1/280)
وتوكلت مريم على ربها، وحملت ابنها الصغير عيسى -عليه السلام- عائدة إلى قومها، وبينما هي تسير، رآها قومها من اليهود فتعجبوا من ذلك وأقبلوا عليها لائمين ومعنفين، وقالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} سورة مريم.
قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [سورة مريم]
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 29 َالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم، الآية:29 - 33]
ولم تسلم مريم من إشاعات اليهود واتهاماتهم، ولما خافت على نفسها وولدها من غدر اليهود أخذت ابنها، وسارت به إلى مكان بعيد عن قومها، حتى لا يؤذوه ولما كبرت عادت به مرة أخرى إلى بيت لحم في فلسطين موطن ولادة عيسى، ولما عاد عيسى -عليه السلام- إلى قومه رأى أنهم قد انحرفوا عن المنهج الذي جاء به موسى من قبل، ومن انحرافهم أنهم كانوا يتحرجون من عمل الخير يوم السبت باعتباره يوم عطلة لا يجوز العمل فيه، فيمر عليهم اليوم دون أن يقدموا عملاً صالحًا يتقربون به إلى الله.
(1/281)
وأقبلوا على حب المال، فسيطر على نفوسهم وتفكيرهم، وأجبر الكهنةُ الفقراء على النذر للمعبد، ليأخذوه لهم مع علمهم أن الفقراء والمحتاجين في أشد الحاجة إليه، وكان بعضهم ينكر يوم القيامة، ويقولون: لا حساب ولا عقاب في الآخرة، وفئة أخرى طغت عليها الحياة وحب الدنيا، فأخذوا في ابتزاز أموال الناس بأي شكل وبأية حال، فكانت حاجة المجتمع إلى الإصلاح والهداية شديدة، فأرسل الله إليهم المسيح عيسى -عليه السلام- لهدايتهم إلى المنهج الصحيح، فذهب إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما هم فيه من جهل وضلال.
وأيد الله تعالى عيسى بالمعجزات العظيمة التي تتناسب مع أهل زمانه، لتكون دليلاً على أنه رسول من ربه، فأعطاه الله القدرة على إحياء الموتى، وشفاء المرضى الذين عجز الأطباء والحكماء عن شفائهم، وأعلمه الله بعض الغيب، فكان يعرف ما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم، فأخذ عيسى -عليه السلام- يدعو قومه إلى الطريق المستقيم، ويبين لهم المعجزات التي أيده الله بها، فقال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) [آل عمران/49 - 51]}.
(1/282)
ومع هذه العجائب والمعجزات الخارقة التى جاء بها عيسى إلى بني إسرائيل لم يؤمن به إلا القليل، واستمر أكثرهم على كفرهم وعنادهم بالإضافة إلى أنهم رموه بالسحر، ولم ييأس عيسى -عليه السلام- بل استمر يدعوهم إلى عبادة الله عسى أن يؤمنوا بالله وحده، وطلب عيسى -عليه السلام- من قومه النصرة لدين الله فهدى الله مجموعة من الفقراء والمساكين إلى الإيمان، فكان هؤلاء هم الحواريون الذين اصطفاهم الله؛ ليحملوا دعوة الحق، ويناصروا عيسى، وكان عددهم لا يزيد عن اثني عشر رجلاً.
وذات يوم أمر عيسى -عليه السلام- جميع من معه بصيام ثلاثين يومًا فصاموا، ولما أتموها طلبوا منه أن يدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فنصحهم عيسى أن يتقوا الله في هذا الأمر، فردَّ الحواريون: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (113) سورة المائدة، ولما رأى عيسى إصرار الحواريين ومن معهم من بني إسرائيل على طلب مائدة من الرحمن، قام إلى مصلاه، يدعو الله قائلاً: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [سورة المائدة]
(1/283)
وبعد لحظات، أنزل الله المائدة من السماء، والناس ينظرون إليها وهي تقترب شيئًا فشيئًا، وكلما دنت كان عيسى يسأل ربه عز وجل أن يجعلها بركة وسلامًا لا نقمة وعذابًا، ولم تزل تقترب حتى استقرت أمام عيسى، فسجد عيسى ومن معه لله شاكرين على استجابة طلبهم، ثم كشف عيسى الغطاء عن تلك المائدة، فإذا عليها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؛ وأكل الحواريون من هذه المائدة، وأكل معهم آلاف الناس الذين جاءوا لعيسى من أجل أن يشفيهم بإذن الله من أمراضهم، وصار يوم نزول هذه المائدة عيدًا للحواريين وأتباع عيسى لفترة طويلة.
وانتشر خبر عيسى في البلاد، وآمن به كثير من الفقراء والمساكين، فحقد عليه الكهنة والأغنياء من اليهود وكرهوه، وأرادوا التخلص منه، فدبروا له حيلة ماكرة، حيث ذهبوا إلى الحاكم الرومانى وأخبروه بأن عيسى رجل ثائر يحرض الناس عليهم، ويدبر مؤامرة ضد الدولة الرومانية، وظلوا يحرضون الحاكم على عيسى حتى أصدر حكمًا بإعدامه وصلبه، وبحثوا عن عيسى طويلاً فلم يجدوه، حيث أوحى الله إليه بما دبره اليهود والكفرة، فاختبأ عيسى والحواريون في الجبال يعبدون الله بعيدًا عنهم.
وفي خلال تلك الأحداث قال الله لعيسى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران، واجتمع الحاكم بكبار رجال الدولة يرافقهم الكفرة من اليهود ليتشاورا في أمر عيسى وأين ذهب وما الذي يجب صنعه تجاهه؟ وظلوا يبحثون عن نبي الله عيسى في كل مكان ليقتلوه، لكن الله سبحانه حفظه ورعاه ورفعه إلى السماء، وألقى شبهه على رجل منهم، فأخذوه ظنًّا منهم أنه عيسى فصلبوه وقتلوه.
(1/284)
وودَّع عيسى الحواريين، وبشرهم برسول يأتي من بعده يُكْمِلُ ما بدأه، وبه تتم نعمة الله على الخلائق فقال لهم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) [الصف/6]}
وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِليْهِمْ، وَإِنَّهُ مُصَدِّقٌ بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُتُبِ اللهِ وَأَنْبِيَائِهِ جَمِيعاً، وَإِنَّهُ جَاءَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي بَعْدهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَدَاعِياً إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَّسُولِ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَحْمَدُ المُبَشَّرُ بِهِ بِالأَدْلةِ الوَاضِحَةِ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ كَذَّبُوهُ، وَقَالُوا عَمَّا جَاءَهُمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ.
(وَقَدْ جَاءَ فِي الفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ السَّفْرِ الخَامِسِ مِنَ التَّورَاةِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي: (يَا مُوسَى إِنِّي سَأُقِيمُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاًَ مِنَ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ أَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَا آمُرُهُ بِهِ، وَالذِي لاَ يَقْبَلُ ذَلِكَ النَّبِيَّ الذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِي، أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ وَمِنْ سِبْطِهِ).
وَجَاءَ فِي الإِصْحَاحِ 21 مِنْ سِفَرِ أَشْعِيا بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي:
(1/285)
" وَحْيٌ مِنْ جِهَةَ بِلاَدِ العَرَبِ: فِي الوَعْرِ مِنْ بِلاَدِ العَرَبِ تَبَيتينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ العَطْشَانِ يَا سَكَّانَ أَرْضِ تِيمَاءَ وَافُوا الهَارِبَ بِخُبْزِهِ. فإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا، مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ المَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ القَوْسِ المَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الحَرْبِ. فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارٍ وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارٍ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ ".
" وَهَذِهِ النُّبُوءَةُ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى هِجْرَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى يَثْرِبَ، بَعْدَ أَنْ تَزَايَدَ إِيذَاءُ قُرَيشٍ لَهُ وَلِلمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَلَى قُرَيشٍ أَحْفَادِ عَدْنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ (وَعَدْنَانُ هُوَ قِيدَارُ) وَتَحْطِيمِ جَبُرُوتِ قُرَيشٍ وَسُلْطَانِهَا بِقْتَلِ كُبَرَائِهَا، وَأَسْرِ أَعْدَادٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ جَرَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بَعْدَ عَامٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ إِلَى يَثْرِبَ ".
وَجَاءَتِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ فِي الإِنْجِيلِ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي:
(قَالَ يَسُوعُ: إِنَّ الفَارْقَليط رُوحَ الحَقِّ الذِي يُرْسِلُهُ أَبِي يَعْلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ) (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا - الفَصْلُ 15 - وَالفَارْقَلِيط لَفْظٌ يَعْنِي الحَمْدَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالحَامِدِ وَالحَمَّادِ).
(1/286)
وظن اليهود أن عيسى هو الذي قتل، ففرحوا بذلك، لكن القرآن الكريم يؤكد لنا أنه لم يقتل، وأنه نجا من أيديهم، حيث إن الله -سبحانه- رفعه إليه، قال تعالى:
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) [النساء/157 - 159]}
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ قَالُوا سَاخِرِينَ مُسْتَهْزِئِينَ: إِنَّهُمْ قَتَلُوا المَسِيحَ عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ، وَلَمْ يَصْلُبُوهُ، وَإِنَّمَا صَلَبُوا شَخْصاً آخَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَبَهَ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَالْتَبَسَ، وَلَمْ يَتَيَّقَنُوا مِنْ أَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ بِعَيْنِهِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ. وَالأَنَاجِيلُ تَقُولُ إنَّ الذِي أَسْلَمَهُ إلى الجُنْدِ هُوَ يَهُوذا الأَسْخَرْيوطِيُّ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ عَلاَمَةً هِيَ أنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ المَسِيحَ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ.
وَانْجِيلُ بِرْنَابَا يَقُولُ إنَّ الجُنُوَد أَخَذُوا يَهُوذَا الأسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنّاً مِنْهُمْ أنَّهُ المَسِيحُ، لأنَّ اللهَ أَلْقَى عَلَيهِ شَبَهَهُ. وَالذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَفِي شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَتْبَعُونَ الظَّنَّ وَالقَرَائِنَ التِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الآرَاءِ عَلَى بَعْضٍ.
(1/287)
وَالذِي تَمَّ فِعْلاً هُوَ أنَّ اللهَ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ اليَهُودِ، وَرَفَعَهُ إلَيْهِ (وهوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إلى السَّمَاءِ)، وَاللهُ سَبْحَانَهُ عَزِيزُ الجَانِبِ، لاَ يُرَامُ جنابُهُ، وَلا يُضَامُ مَنْ لاَذَ بِبَابِهِ الكَرِيمِ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الأُمُورِ.
وقد أنزل الله -عز وجل- الإنجيل على عيسى، وأمرنا بالإيمان به، قال تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) [البقرة/136، 137]} وَقُولُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ لِهؤُلاءِ وَهؤُلاءِ: إِنّنا نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى جَميعِ الأَنبياءِ وَالمُرْسَلِينَ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ لِرَبِّنا. (كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَها لِلمُسْلِمينَ بِالعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: " لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ".
(1/288)
فَإِن آمَنَ الكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ، أي بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ، وَبِجَمِيعِ رُسُلِهِ، وَلَم يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَقَدِ اهْتَدَوْا لِلْحَقِّ، وَإِنْ تَوَلّوْا عَنِ الحَقِّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيهِمْ، وَاتَّبَعُوا البَاطِلَ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ مُخَالِفُونَ، وَسَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَيهِمْ يَا مُحَمَّدٌ، وَيُظْفِرُكَ بِهِمْ، وَهُوَ الذِي يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَعْلَمُ مَا يُدَبِّرُونَ.
ولكن أهل الكتاب حرفوا الإنجيل وبدلوا كثيرًا في آياته وأحكامه، وكان عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، ولم يأت من بعده سوى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأخبرنا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أن عيسى -عليه السلام- سوف ينزل إلى الأرض مرة أخرى في نهاية الزمان، ويدعو الناس إلى شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويكسر الصليب الذي اتخذه النصارى شعارًا لهم.
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) [النساء/159، 160]}
لاَ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ إلى الأَرْضِ، بَعْدَ أنْ رَفَعَهُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ، إلاَّ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَقْضِيَ اللهُ عَلَيهِ بِالمَوْتِ، وَيَكُونُ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَاهِداً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَأَقَرَّ بِعُبُودِيَّتِهِ للهِ.
بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَإِنَّهُ لَعلمُ لِلسَاعَةِ أى خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة.
(1/289)
وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
ففى الصحيحين عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ - يَعْنِى عِيسَى - وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» (2) ..
__________
(1) - صحيح البخارى (2222) ومسلم (406) - المقسط: العادل
(2) - سنن أبى داود (4326) صحيح
(1/290)
و عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ «مَا شَأْنُكُمْ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ «أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ قَالَ «لاَ اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ».
(1/291)
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِى عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِى كُنُوزَكِ. فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ.
(1/292)
وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ. وَيُحْصَرُ نَبِىُّ اللَّهُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِى رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلاَ يَجِدُونَ فِى الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ.
(1/293)
فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ». (1).
__________
(1) - صحيح مسلم (7560)
البخت: واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين - الحدب: الغليظ من الأرض فى ارتفاع - حرز: ضم - خلة: طريق - الذرى: جمع الذروة وهى أعلى الشئ والمراد السنام
الرسل: اللبن - يرغب: يدعو -الزلفة: المكان يحفر ليحبس فيه ماء السماء وقيل المرآة - الزهم: الريح المنتنة - الزهمة: الريح المنتنة - السارحة: الماشية - اليعاسيب: جمع يعسوب وهو ذكر النحل - عاث: أفسد - الفئام: الجماعة الكثيرة -الفخذ: حى الرجل إذا كان من أقرب عشيرته - الفرسى: جمع الفريس وهم القتلى - القحف: القشر - القطط: شديد جعودة شعر الرأس - يكن: يستر - اللقحة: الناقة ذات اللبن قريبة العهد بالولادة - الممحل: المجدب المقحط - الْمدر: القرى والأمصار واحدتها مدرة - ينسلون: يخرجون مسرعين - النغف: جمع النغفة وهو دود يوجد فى أنوف الإبل والغنم فتموت به فى أقرب وقت - يتهارجون: يجامعون النساء بحضرة الناس - المهرودة: الحلة أو الشقة وقيل الثوب المهرود الذى يصبغ بالورس والزعفران
الوبَر: البيت المتخذ من صوف الإبل والمراد أهل البادية
(1/294)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلاً مَرْبُوعاً إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطِرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ فَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَتَقَعُ الأَمَنَةُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِلِ وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لاَ تَضُرُّهُمْ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» (1).
__________
(1) - مسند أحمد (9508) صحيح
المربوع: بين الطويل والقصير - العلات: أولاد العلات الإخوة لأب من أمهات شتى -الممصر: الذى فيه صفرة خفيفة
(1/295)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (159) سورة النساء (1).
وقد ضلَّ النصارى من بعد عيسى حيث اعتقدوا أن عيسى هو ابن الله، كما اعتقد اليهود أن عزيرًا ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ولقد نفى الله ما قاله هؤلاء الكفرة، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (59) سورة آل عمران.
إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خلقه من تراب الأرض، ثم قال له: "كن بشرًا" فكان. فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
__________
(1) - صحيح البخارى (3448)
(1/296)
وسوف يحاسبهم الله -عز وجل- على قولهم ذلك، ويعاقبهم عليه عقابًا شديدًا، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [التوبة/30، 31]}.
لقد أشرك اليهود بالله عندما زعموا أن عزيرًا ابن الله. وأشرك النصارى بالله عندما ادَّعوا أن المسيح ابن الله. وهذا القول اختلقوه من عند أنفسهم، وهم بذلك لا يشابهون قول المشركين من قبلهم. قَاتَلَ الله المشركين جميعًا كيف يعدلون عن الحق إلى الباطل؟
اتخذ اليهودُ والنصارى العلماءَ والعُبَّادَ أربابًا يُشَرِّعون لهم الأحكام، فيلتزمون بها ويتركون شرائع الله، واتخذوا المسيح عيسى ابن مريم إلهًا فعبدوه، وقد أمرهم الله بعبادته وحده دون غيره، فهو الإله الحق لا إله إلا هو. تنزَّه وتقدَّس عما يفتريه أهل الشرك والضلال.
(1/297)
ويوم القيامة سوف يسأل الله -عز وجل- نبيه عيسى عن ضلال قومه وما فعلوه بعده من تأليههم له وقولهم إنه ابن الله، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة/116 - 120]}.
(1/298)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ مَا يَقُولُهُ رَبُّكَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، ثُمَّ يُذكِّر عِيسَى بِأَفْضَالِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بِحُضُورِ مَنِ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ: هَلْ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ - أَيْ مُتَجَاوِزَيْنِ بِذَلِكَ تَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالعُبُودِيَّةِ؟ فَيُنْكِرُ عِيسَى أنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ للهِ تَعَالَى: سُبْحَانَكَ! وَتَنَزَّهَ اسْمُكَ، لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي حَقٌّ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَنْتَ، لأَنَّكَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، وَتَعْلَمُ مَا تُخْفِي العِبَادُ وَمَا تُعْلِنُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، لأنَّكَ رَبِّي وَخَالِقِي، وَأَنَا عَبْدُكَ لاَ أَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِكَ.
إِنَّنِي لَمْ أَقُلْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الإِيْمَانِ، وَأَسَاسِ الدِّينِ إلاَّ الذِي أَرْسَلْتَنِي بِهِ، وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلاَغِهِ، وَهُوَ أنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ شَهِيداً عَلَى أَعْمَالِهِمْ حِينَ كُنْتُ حَيّاً بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الشَّاهِدَ الرقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ.
(1/299)
يَرُدُّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الأمْرَ وَالمَشِيئَةَ إلَى اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ، لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَيَقُولُ: إنَّ أَمْرَ العِبَادِ مَوْكُولٌ إلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ عَذَّبَهُمْ فَبِذُنُوبِهِمْ، فَهُوَ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ، وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّهُ تَعَالَى الغَفَّارُ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحُكْمِهِ.
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ.
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ بِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَالقَادِرُ عَلَيْهِ، وَالجَمِيعُ مُلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، وَالمَسِيحُ وَأمُّهُ اللَّذَانِ عَبَدَهُمَا الكَافِرُونَ، مِنْ دُونِ اللهِ، دَاخِلاَنِ تَحْتَ قَبْضَتِهِ، فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتَّكِلَ عَلَى شَفَاعَتِهَا فِيهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
--------------
الدروس والعبر
1 - كم حملت أم عيسى عليه السلام؟
(1/300)
لم يرد نص قطعي من كتاب ولا من سنة في تحديد فترة حمل مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وما ورد في ذلك إنما هو مجرد حكايات لا تستند إلى دليل صالح للاحتجاج، مثل ما قيل عن عكرمة من أنها حملت به ثمانية أشهر، وما قيل من أن مدة حملها ستة أشهر أو تسعة، كل هذا لا دليل عليه، ولعل أقرب الأقوال هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، فهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل، انظر القرطبي عند كلامه على قصة مريم في سورة مريم. والله أعلم. (1)
- - - - - - - - - - - - - -
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الخلاصة في حياة الأنبياء
محمد صلى الله عليه وسلم
في جو مشحون بزيف الباطل، وركام الجاهلية، يسوس الناس جهلهم، ويحكمهم عرفهم وعاداتهم، قتل وزنا، عهر وخنا، وأد للبنات، تفاخر بالأحساب والأنساب، ساد في البقاع قانون الغاب، فالبقاء للقوي، والتمكين للعزيز، تُغير القبيلة على الأخرى لأتفه الأسباب، تقوم الحروب الطاحنة، تزهق فيها الأرواح، وتهلك الأموال، وتسبى النساء والذراري، وتدوم السنون، وتتعاقب الأعوام، والحرب يرثها جيل بعد جيل، وأصلها بعيرٌ عُقر، وفرسٌ سبقت أخرى، أو قطيع أغنام سيق وسرق.
ساد في ذلكم المجتمع عادات غريبة عجيبة، فعند الأشراف منهم كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، بينما كان الحال في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة.
كانت الخمر ممتدح الشعراء، ومفخرة الناس، فهي عندهم سبيل من سبل الكرم، ناهيك عن صور الشرك وعبادة الأوثان، التي تصور كيف كان أولئك يعيشون بعقول لا يفكرون بها، وبأعين لا يبصرون بها، وأذان لا يسمعون بها إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4197) رقم الفتوى 17354 مدة حمل مريم بعيسى عليهما السلام
(1/301)
في هذه الأثناء حدث حادث عجيب لمكة وحرمها، رأى أبرهة الصباح نائب النجاشي على اليمن أن العرب يحجون الكعبة، فبنى كيسة كبيرة بصنعاء ليصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً ولطخ قبلتها بالعذرة، ولما علم أبرهة بذلك ثار غضبه وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة، وكان في الجيش قرابة ثلاثة عشر فيلاً، وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم، وكلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق قام يهرول، وإذا وجهوه قبل الكعبة برك فلم يتحرك، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار مثل الحمص، لا تصيب أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك، وهرب من لم يصبه منها شيء يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل مهلك، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
(1/302)
وكانت هذه الوقعة قبل مولد النبي بخمسين يومًا أو تزيد، فأضحت كالتقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وبعد أيام من هلاك ذلكم الجيش أشرقت الدنيا وتنادت ربوع الكون تزف البشرى ولد سيد المرسلين، وإمام المتقين، والرحمة للعالمين في شعب بني هاشم بمكة صبيحة يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، ولد خير البشر، وسيد ولد آدم، ولد الرحيم الرفيق بأمته أطل على هذه الحياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، فعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِى طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ دَعْوَةِ أَبِى إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ وَرُؤْيَا أُمِّى الَّتِى رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ... »(1).
__________
(1) - مسند أحمد (17627)صحيح -المنجدل : الساقط على الأرض،
(1/303)
وأرسلت على جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد، وهو اسم لم يكن معروفًا في العرب، وختنه يوم سابعه كما كانت العرب تفعل، وقد ولد يتيمًا حيث توفي والده قبل ولادته وقيل بعدها بشهرين، وأول من أرضعته بعد أمه آمنة ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت العادة عند حاضرة العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادًا على أمراض الحواضر ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولنترك الحديث لمرضعته حليمة السعدية تحدثنا عن قصة رضاعها إياه، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ أُمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا ، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ قَالَتْ وَذَلِك فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا . قَالَتْ فَخَرَجَتْ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا ، وَاَللّهِ مَا تَبِضّ بِقَطْرَةٍ وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيّنَا الّذِي مَعَنَا ، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ .
(1/304)
مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنِيهِ وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدّيهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ يُغَذّيهِ - وَلَكِنّا كُنّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْتُ بِالرّكْبِ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا ، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ نَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ فَمَا مِنّا امْرَأَةٌ إلّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قِيلَ لَهَا إنّهُ يَتِيمٌ وَذَلِك أَنّا إنّمَا كُنّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصّبِيّ فَكُنّا نَقُولُ يَتِيمٌ وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمّهُ وَجَدّهُ فَكُنّا نَكْرَهُهُ لِذَلِك ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي ، فَلَمّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْت لِصَاحِبِي : وَاَللّهِ إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا ، وَاَللّهِ لَأَذْهَبَن إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنّهُ قَالَ لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي ، عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً . قَالَتْ فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْته ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلّا أَنّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ . قَالَتْ فَلَمّا أَخَذْتُهُ رَجَعْت بِهِ إلَى رَحْلِي ، فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ ثُمّ نَامَا " وَمَا كُنّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ . فَإِذَا إنّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِبَ وَشَرِبْتُ مَعَهُ حَتّى انْتَهَيْنَا رِيّا وَشِبَعًا ، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ .
(1/305)
قَالَتْ يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا : تَعَلّمِي وَاَللّهِ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ أَخَذْت نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَالَتْ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو ذَلِكَ . قَالَتْ ثُمّ خَرَجْنَا وَرَكِبْت ( أَنَا ) أَتَانِي ، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي ، فَوَاَللّهِ لَقَطَعَتْ بِالرّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبِي ذُؤَيْبٍ ، وَيْحَك ارْبَعِي عَلَيْنَا ، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَك الّتِي كُنْت خَرَجْت عَلَيْهَا ؟ فَأَقُولُ لَهُنّ بَلَى وَاَللّهِ إنّهَا لَهِيَ هِيَ فَيَقُلْنَ وَاَللّهِ إنّ لَهَا لَشَأْنًا . قَالَتْ ثُمّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا ، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا ، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ حَتّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا . فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرّفُ مِنْ اللّهِ الزّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْتُهُ وَكَانَ يَشِبّ شَبَابًا لَا يَشِبّهُ الْغِلْمَانُ فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا . قَالَتْ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا ، لِمَا كُنّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ . فَكَلّمْنَا أُمّهُ وَقُلْت لَهَا : لَوْ تَرَكْت بُنَيّ عِنْدِي حَتّى يَغْلُظَ فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ مَكّةَ ، قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتّى رَدّتْهُ مَعَنَا .
(1/306)
قَالَتْ فَرَجَعْنَا بِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا ( بِهِ ) بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا ، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدّ ، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقّا بَطْنَهُ فَهُمَا يَسُوطَانِهِ . قَالَتْ فَخَرَجْت أَنَا وَأَبُوهُ نَحْوَهُ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقَعَا وَجْهُهُ . قَالَتْ فَالْتَزَمْته وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك يَا بُنَيّ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَانِي وَشَقّا بَطْنِي ، فَالْتَمِسَا ( فِيهِ ) شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ . قَالَتْ فَرَجَعْنَا ( بِهِ ) إلَى خِبَائِنَا .قَالَتْ وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ قَالَتْ فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ فَفَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك ؟ قَالَتْ فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ اللّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الّذِي عَلَيّ وَتَخَوّفْت الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ فَأَدّيْته إلَيْك كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ مَا هَذَا شَأْنُك ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَك . قَالَتْ فَلَمْ تَدَعْنِي حَتّى أَخْبَرْتُهَا .
(1/307)
قَالَتْ أَفَتَخَوّفَتْ عَلَيْهِ الشّيْطَانَ ؟ قَالَتْ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ كَلّا ، وَاَللّهِ مَا لِلشّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَإِنّ لِبُنَيّ لَشَأْنًا ، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ قَالَتْ ( قُلْت ) بَلَى ، قَالَتْ رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنّهُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، ثُمّ حَمَلْتُ بِهِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِنْ حَمْلٍ قَطّ كَانَ أَخَفّ ( عَلَيّ ) وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْته وَإِنّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السّمَاءِ دَعِيهِ عَنْك وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً .(1)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 162) و دلائل النبوة للبيهقي (45)وهو حديث حسن
= سنة شهباء : ذات قحط وجدب ، والشهباء الأرض البيضاء التي لا خضرة فيها لقلة المطر من الشهبة ، وهي البياض فسُمِّيت سنة الجدب بها = الأتان : الحمار يقع على الذكر والأنثى ، والأتَانُ الحمارَةُ الأنثى خاصَّةً = الشارف : الناقة المسنة التي ارتفع لبنها = بض : قطر وسال ورشح = الرواح : العودة والرجوع = الجفر : الصبي يقرب البلوغ = الظئر : المرضعة لغير ولدها ، ويطلق على زوجها أيضا = انتقع لونه : تغير من خوف أو ألم = أضجعه : أماله على جانبه = الخشية : الخوف
(1/308)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَاهُ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِى طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِى مَكَانِهِ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِى ظِئْرَهُ - فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِى صَدْرِهِ.(1)
وبعد هذه الحادثة خشيت عليه حليمة فردته إلى أمه ولما بلغ سنته السادسة توفيت أمه فكان عند جده عبد المطلب، فحنَّ عليه كأشد ما يكون الحنو، بل آثره على أولاده، فكان رسول الله يأتي وهو غلام فيجلس على فراش جده في ظل الكعبة وأعمامه حول الفراش فيقول جده: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنًا، ولما تخطى سنته الثامنة توفي جده الذي عهد بكفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه، فكان يوليه من العناية ما لا يجعله لأبنائه، ويخصه بفضل احترام وتقدير ومكانة.
ولما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام حتى وصل إلى بصرى، وكان فيها راهب يقال له بحيرًا، فلما نزل الركب، خرج وأكرمهم وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك،
__________
(1) - صحيح مسلم (431 )
المخيط : الإبرة - الظئر : المرضعة غير ولدها ويقع على الرجل والمرأة - العلقة : الدم الغليظ المنعقد -لأمه : ضم بعضه إلى بعض - المنتقع : المتغير اللون.
(1/309)
عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلاَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَلْتَفِتُ. قَالَ فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَا عِلْمُكَ فَقَالَ إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلاَ حَجَرٌ إِلاَّ خَرَّ سَاجِدًا وَلاَ يَسْجُدَانِ إِلاَّ لِنَبِىٍّ وَإِنِّى أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ. ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِى رِعْيَةِ الإِبِلِ قَالَ أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَىْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَىْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ انْظُرُوا إِلَى فَىْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.
(1/310)
قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لاَ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكُمْ قَالُوا جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِىَّ خَارِجٌ فِى هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلاَّ بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا فَقَالَ هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ قَالُوا لاَ. قَالَ فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ قَالَ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ قَالُوا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ ... وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ. (1)
وكان عليه السلام في بداية حياته قد رعى الغنم ثم لما بلغ خمسًا وعشرين سنة خرج تاجرًا إلى الشام في مال لخديجة مع غلامها ميسرة فحدثها عن خلاله العذبة، وشمائله الكريمة، وما أوتي من فكر راجح ومنطق صادق، ونهج أمين، ففاتحت خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه برغبتها الزواج من محمد فعرضت نفيسة على رسول الله الأمر، فرضي ثم كلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وأصدقها عشرين بكرة وكانت أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. فرضي الله عنها وأرضاها.
__________
(1) - سنن الترمذى (3980) حسن -وفيه زيادة حذفتها لعدم صحتها
(1/311)
ثم جاء عمه أبو طالب وعمه حمزة وخطباها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة، وكانت نعم الزوجة الصالحة، فقد ناصرته في حياتها، وبذلت كل ما تملك في سبيل إعلاء كلمة الله، لقد تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم عقلاً أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فأنجب منها جل أبنائه وبناته.
وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن تدبيره وحكمته ورجاحة عقله في حل المشكلات،ولخمس وثلاثين سنة من مولده عليه الصلاة والسلام جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فعزمت قريش على بناءها وألا يدخلوا في مالها إلا طيبًا فهدموها حتى بلغوا قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها، فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، وكاد أن يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا أول داخل من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون أول داخل هو رسول الله فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فأمر برداء ووضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل رفع الرداء إلى موضع الحجر الأسود فوضعه بيده الشريفة.
هذا هو النبي وهذه هي حياته قبل مبعثه، جمع خير ما في طبقات الناس من ميزات، كان طرازًا رفيعًا، وواحدًا فريدًا، ذا نظرة سديدة وفكر صائب، وفطنة وحسن خلق، نفر مما كان عليه قومه من خرافات وعبادات، ما وجده حسنًا شارك فيه، وما كان قبيحًا مشينًا عافه ونفر منه، وعاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً. ولا شك أن الله جل وعلا قد أحاطه بعنايته فحال بينه وبين أمور الجاهلية.
(1/312)
عن ْجَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ : لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ . فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ « أَرِنِى إِزَارِى » . فَشَدَّهُ عَلَيْهِ .(1).
كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملاً وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه الأمين.
حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد ناظرًا للكعبة الشريفة والسماء.
__________
(1) - صحيح البخارى (1582 )-طمحت : ارتفعت
(1/313)
بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا. بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر (1)،فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار وإذا بجبريل عليه السلام يأتيه رسول مرسل من ربه، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ. قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ «فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ. قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ)».
__________
(1) - سنن الترمذى (3986) وفيه ضعف
(1/314)
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3 )
المؤزر : القوى - جذعا : شابا فتيا - يتحنث : يتعبد - الروع : الفزع - زمل : لف وغطى
زمل : لف وغطى - المعدوم : الشىء المعدوم الذى لا يجدونه أو الفقير الذى صار كالمعدوم - فتر : انقطع - تقرى : تكرم الضيف وتقوم بحق ضيافته - تكسب : تعطى المال للفقير - الكل : أصله الثقل ويدخل فى حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال - الناموس : الوحى
(1/315)
فكان هذا الحادث هو بداية الوحي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف مما حدث له، فذهب إلى خديجة وطلب منها أن تغطيه، ثم حكى لها ما حدث، فطمأنته، وأخبرته أن الله لن يضيعه أبدًا، ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وحكى له ما رأى، فبشره ورقة بأنه نبي هذه الأمة، وتمنى أن لو يعيش حتى ينصره، لكن ورقة مات قبل الرسالة، وانقطع الوحى مدة، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل الوحى مرة ثانية، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « ثُمَّ فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ فَتْرَةً ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِى فَقُلْتُ زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إِلَى ( فَاهْجُرْ ) » . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَالرِّجْزُ الأَوْثَانُ . [البخارى](1).
__________
(1) - صحيح البخارى (3238 )-جئثت : فزعت - الفترة : الانقطاع
(1/316)
وبعد هذه الآيات التى نزلت كانت بداية الرسالة، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الأقربين إلى الإسلام، فكان أول من آمن خديجة زوجته، وأبو بكر صديقه، وعلي بن أبى طالب ابن عمه، وزيد بن حارثه مولاه، ثم تتابع الناس بعد ذلك في دخول الإسلام، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ )(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (4770 ) -تب : خسر
(1/317)
ولما نزل قول الله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنكر عبادة الأصنام، وما عليه الناس من الضلالة، وسمعت قريش بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذتهم الحمية لأصنامهم التى لا تضر ولا تنفع، وحاولوا أن يقفوا ضد هذه الدعوة الجديدة بكل وسيلة، فذهبوا إلى أبى طالب، وطلبوا منه أن يسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض، وكانوا يشوهون صورته للحجاج مخافة أن يدعوهم، وكانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن، ويتهمونه بالجنون والكذب، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، فحاول بعضهم تأليف شيء كالقرآن فلم يستطيعوا، وكانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الإيذاء كي يردوهم عن الإسلام، فكانت النتيجة أن تمسك المسلمون بدينهم أكثر.
(1/318)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين سرًّا في دار الأرقم بن أبى الأرقم يعلمهم أمور الدين، ثم أمرهم بعد فترة أن يهاجروا إلى الحبشة، فهاجر عدد من المسلمين إلى الحبشة، فأرسلت قريش إلى النجاشى يردهم، لكن الله نصر المسلمين على الكفار؛ فرفض النجاشى أن يسلم المسلمين وظلوا عنده في أمان يعبدون الله عز وجل، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِىَّ أَمَّنَا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لاَ نُؤْذَى وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِىِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقاً إِلاَّ أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِىِّ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِىِّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِىَّ فِيهِمْ ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَاهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ.
(1/319)
قَالَتْ فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِىِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِىَّ ثُمَّ قَالاَ لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَم يَدْخُلُوا فِى دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ.
(1/320)
فَقَالُوا لَهُمَا نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِىِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالاَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِى دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِىُّ كَلاَمَهُمْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلاَدِهِمْ وَقَوْمِهِمْ.
(1/321)
قَالَ فَغَضِبَ النَّجَاشِىُّ ثُمَّ قَالَ لاَهَا اللَّهِ ايْمُ اللَّهِ إِذاً لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلاَ أَكَادُ قَوْماً جَاوَرُونِى وَنَزَلُوا بِلاَدِى وَاخْتَارُونِى عَلَى مَنْ سِوَاىَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِى أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولاَنِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِى قَالَتْ ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- كَائِنٌ فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِىُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِى فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِى دِينِى وَلاَ فِى دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِى كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِىءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ
(1/322)
الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ - قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلاَمِ - فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أُحِلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِى جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ فَاقْرَأْهُ عَلَىَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْراً مِنْ (كهيعص) قَالَتْ فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِىُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلاَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِىُّ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَداً وَلاَ أَكَادُ.
(1/323)
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لأُنَبِّئَنَّهُ غَداً عَيْبَهُمْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ - وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا - لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَاماً وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا . قَالَ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً. فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ - قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ - فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِناً فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِى جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ . قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِىُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُوداً ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ.
(1/324)
فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِى - وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ - مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى دَبْراً ذَهَباَ وَأَنِّى آذَيْتُ رَجُلاً مِنْكُمْ - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ - رَدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلاَ حَاجَةَ لَنَا بِهَا فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّى الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَىَّ مُلْكِى فُآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِىَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُوداً عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِى - مَنْ يُنَازِعُهُ فِى مُلْكِهِ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْناً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزِنٍ حَزَنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفاً أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَيَأْتِى رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِىُّ يَعْرِفُ مِنْهُ - قَالَتْ - وَسَارَ النَّجَاشِىُّ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ قَالَتْ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ قَالَتْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَنَا.
(1/325)
قَالَتْ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا - قَالَتْ - فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِى صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِى بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ - قَالَتْ - وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِىِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِى بِلاَدِهِ وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ فَكُنَّا عِنْدَهُ فِى خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِمَكَّةَ(1).
وحاول المشركون مساومة أبى طالب مرة بعد مرة بأن يسلم لهم محمدًا إلا أنه أبى إلا أن يقف معه، فحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله منعه وحفظه.
وفي هذه الأوقات العصيبة أسلم حمزة وعمر بن الخطاب، فكانا منعة وحصنًا للإسلام، ولكن المشركين لم يكفوا عن التفكير في القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم أبو طالب بذلك جمع بني هاشم وبني عبد المطلب واتفقوا على أن يمنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه أذى، فوافق بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه كان مع قريش، فاتفقت قريش على مقاطعة المسلمين ومعهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، فكان الحصار في شعب أبى طالب ثلاث سنوات، لا يتاجرون معهم، ولا يتزوجون منهم، ولا يجالسونهم ولا يكلمونهم، حتى قام بعض العقلاء، ونادوا في قريش أن ينقضوا الصحيفة التى كتبوها، وأن يعيدوا العلاقة مع بني هاشم وبني عبد المطلب، فوجدوا الأرضة أكلتها إلا ما فيها من اسم الله.
__________
(1) - مسند أحمد (1766){1/203} حسن
الأدم : جمع أديم وهو الجلد المدبوغ - الدبْر : الجبل - سيوم : الآمنون كلمة حبشية - تناخرت : تكلمت كلام مع غضب ونفور
(1/326)
وتراكمت الأحزان فيما بعد لوفاة أبى طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة بنت خويلد، فقد ازداد اضطهاد وتعذيب المشركين، وفكَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكة إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، إلا أنهم كانوا أشرارًا، فأهانوا النبي صلى الله عليه وسلم وزيد ابن حارثة الذي كان معه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أُعُوذُ بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ بِي سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ(1)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 420) والروض الأنف - (ج 2 / ص 231)ومجمع الزوائد ( 9851)حديث حسن
(1/327)
وأثناء عودته بعث الله -عز وجل- إليه نفرًا من الجن استمعوا إلى القرآن الكريم، فآمنوا. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ ، قَالُوا : أَنْصِتُوا ، قَالُوا : صَهٍ ، وَكَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) [الأحقاف/29-32](1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3701) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا
(1/328)
وأراد الله -سبحانه- أن يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت رحلة الإسراء والمعراج، والتى فرضت فيها الصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة واطمأنت نفس النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة، ليبدأ من جديد الدعوة إلى الله، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِى صَدْرِى ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ . وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِى عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، حَتَّى عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ . فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ » .
(1/329)
قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ . قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِىَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ثُمَّ عُرِجَ بِى حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ » . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً . قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا .
(1/330)
فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْتُهُ . فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهْىَ خَمْسُونَ ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ . فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى . ثُمَّ انْطَلَقَ بِى حَتَّى انْتَهَى بِى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِى مَا هِىَ ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ » .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(349 ) 98/1
الأسودة : جمع سواد وهو الشخص - الصريف : صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه -ظهرت : علوت
(1/331)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ - قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - قَالَ - فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ - قَالَ - ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِى وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَىِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ.
(1/332)
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِىَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ.
قَالَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ.
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ -صلى الله عليه وسلم- فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
(1/333)
قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ -صلى الله عليه وسلم- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِى إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ - قَالَ - فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِىَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّى قَدْ بَلَوْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّى فَقُلْتُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِى. فَحَطَّ عَنِّى خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّى خَمْسًا. قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.
(1/334)
- قَالَ - فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّى تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً - قَالَ - فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّى حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ».(1)
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله معه لن يتركه ولا ينساه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في موسم الحج يدعو الناس إلى الإيمان بالله وأنه رسول الله، فآمن له في السنة العاشرة من النبوة عدد قليل، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ . فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ .(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (429 )
(2) - الروض الأنف - (ج 2 / ص 250)صحيح
(1/335)
فرجعوا وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ليعلمهم أمور دينهم، وقد نجح مصعب بن عمير نجاحًا باهرًا، فقد استطاع أن يدعوا كبار المدينة من الأوس والخزرج، حتى آمن عدد كبير منهم، وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة، جاء بضع وسبعون نفسًا من أهل يثرب في موسم الحج، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الثانية، وتم الاتفاق على نصرة الإسلام والهجرة إلى المدينة.
(1/336)
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ ، أَن ّالنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ وَمَجَنَّةِ وَعُكَاظٍ وَمَنَازِلِهِمْ مِنْ مِنَةٍ ، مَنْ يُؤْوِينِي ، مَنْ يَنْصُرُنِي ، حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي فَلَهُ الْجَنَّةُ ؟ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلا يُؤْوِيَهُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مِصْرَ ، أَوْ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ ، فَيَقُولُونَ لَهُ : احْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ لاَ يَفْتِنَّنَكَ وَيَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ مِنْ يَثْرِبَ ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلامِهِ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلاَّ وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الإِسْلامَ ، وَبَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا ، وَقُلْنَا : حَتَّى مَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ : يَا ابْنَ أَخِي ، لاَ أَدْرِي مَا هَؤُلاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ ، فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا ، قَالَ : هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَ نَعْرِفُهُمْ ، هَؤُلاءِ أَحْدَاثٌ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلَى مَا نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ : تُبَايعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ ،
(1/337)
وَالْكَسَلِ ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ ، وَالْيُسْرِ وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لائِمٍ ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِيَ إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ ، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ : رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنَّ يَعَضَّكُمُ السَّيْفُ فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَيْهَا إِذَا مَسَّتْكُمْ وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ وَمُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً ، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ عُذْرٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالُوا : يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ فَوَاللَّهِ لاَ نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلا نَسْتَقِيلُهَا ، قَالَ : فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلا رَجُلا فَأَخَذَ عَلَيْنَا لِيُعْطِيَنَا بِذَلِكَ الْجَنَّةَ ،(1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4251)صحيح
(1/338)
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها الصحابة أن يهاجروا إلى يثرب، فهاجر من قدر من المسلمين إلى المدينة، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى وبعض الضعفاء ممن لا يستطيعون الهجرة، وسمعت قريش بهجرة المسلمين إلى يثرب ، وبعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ"[الأنفال آية 30] قَالَ:تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَثْبِتُوهُ بِالْوَثَائِقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: لا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ نسيجُ الْعَنْكَبُوتِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلاثًا.
(1/339)
(1)
وهاجر هو وأبو بكر بعد أن جعل عليًّا مكانه ليرد الأمانات إلى أهلها.
وقالَ أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - إِلَى أَبِى فِى مَنْزِلِهِ ، فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلاً فَقَالَ لِعَازِبٍ ابْعَثِ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِى . قَالَ فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ ، وَخَرَجَ أَبِى يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ ، فَقَالَ لَهُ أَبِى يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِى كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا ، وَمِنَ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ، وَخَلاَ الطَّرِيقُ لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ ، لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَانًا بِيَدِى يَنَامُ عَلَيْهِ ، وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً ، وَقُلْتُ نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ . فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِى أَرَدْنَا فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ . قُلْتُ أَفِى غَنَمِكَ لَبَنٌ قَالَ نَعَمُ . قُلْتُ أَفَتَحْلُبُ قَالَ نَعَمْ . فَأَخَذَ شَاةً . فَقُلْتُ انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 99)(11987)حسن
(1/340)
قَالَ فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ ، فَحَلَبَ فِى قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ ، وَمَعِى إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْتَوِى مِنْهَا ، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ ، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ ، فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ، فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - قَالَ - فَشَرِبَ ، حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قَالَ « أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ » . قُلْتُ بَلَى - قَالَ - فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْشُ ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ ، فَقُلْتُ أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ « لاَ تَحْزَنْ ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا » . فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا - أُرَى فِى جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ ، شَكَّ زُهَيْرٌ - فَقَالَ إِنِّى أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَىَّ فَادْعُوَا لِى ، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ . فَدَعَا لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَجَا فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا . فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ . قَالَ وَوَفَى لَنَا .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3615 ) 246/4
الإداوة : إناء صغير من جلد - الجلد : الأرض الصلبة - ارتطمت : وقعت وارتبكت -الكثبة : القليل من اللبن وغيره
(1/341)
واستقبلهما أهل المدينة بالترحاب والإنشاد، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، وهي المرحلة المدنية، بعد أن انتهت المرحلة المكية، وقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1هـ/ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م) ونزل في بني النجار، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأسيس دولة الإسلام في المدينة، فكان أول ما صنعه أن بنى المسجد النبوي، ليكون دار العبادة للمسلمين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، كما كتب الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتني ببناء المجتمع داخليًّا، كي يكون صفًّا واحدًا يدافع عن الدولة الناشئة، ولكن المشركين بمكة لم تهدأ ثورتهم، فقد أرسلوا إلى المهاجرين أنهم سيأتونهم كي يقتلوهم، فكان لابد من الدفاع، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من السرايا، كان الغرض منها التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة، وعقد المعاهدات مع القبائل المجاورة وإشعار كل من مشركي يثرب واليهود وعرب البادية والقرشيين أن الإسلام قد أصبح قويًّا.
(1/342)
وكانت من أهم السرايا التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر سرية سيف البحر، وسرية رابغ، وسرية الخرار، وسرية الأبواء، وسرية نخلة، وفي شهر شعبان من السنة الثانية الهجرية فرض الله القتال على المسلمين، فنزلت آيات توضح لهم أهمية الجهاد ضد أعداء الإسلام،{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج/39-42] }.
وفي هذه الأيام أمر الله -سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وكان هذا إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في حياة المسلمين خاصة، والبشرية عامة. فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فَنَزَلَتْ بَعْدَ مَا صَلَّى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَحَدَّثَهُمْ فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (1204)
(1/343)
بعد فرض الجهاد على المسلمين، وتحرش المشركين بهم، كان لابد من القتال فكانت عدة لقاءات عسكرية بين المسلمين والمشركين، أهمها: غزوة بدر الكبرى في العام الثاني الهجري، وكانت قريش قد خرجت بقافلة تجارية كبيرة على رأسها أبو سفيان بن حرب، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً لقصد هذه القافلة، لكن أبا سفيان كان يتحسس الخبر فأرسل رجلا إلى قريش يعلمهم بما حدث، ثم نجح هو بعد ذلك في الإفلات بالعير والتجارة، واستعدت قريش للخروج، فخرج ألف وثلاثمائة رجل، وأرسل أبو سفيان إلى قريش أنه قد أفلت بالعير، إلا أن أبا جهل أصر على القتال، فرجع بنو زهرة وكانوا ثلاثمائة رجل، واتجه المشركون ناحية بدر، وكان المسلمون قد سبقوهم إليها بعد استطلاعات واستكشافات.
وبدأت الحرب بالمبارزة بين رجال من المشركين ورجال من المهاجرين، قُتِل فيها المشركون، وبدأت المعركة، وكتب الله -عز وجل- للمسلمين فيها النصر وللكفار الهزيمة، وقد قتل المسلمون فيها عددًا كبيرًا، كما أسروا آخرين، وبعد غزوة بدر علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها لغزو المدينة، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل وهاجمهم في عقر دارهم، ففروا بعد أن تركوا خمسمائة بعير استولى عليها المسلمون، وكانت هذه الغزوة في شوال (2هـ) بعد بدر بسبعة أيام، وعرفت بغزوة بني سليم.
(1/344)
ورأت اليهود في المدينة نصر الرسول صلى الله عليه وسلم فاغتاظوا لذلك، فكانوا يثيرون القلاقل، وكان أشدهم عداوة بنو قينقاع، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود بالمدينة ونصحهم وعرض عليهم الإسلام، إلا أنهم أبدوا استعدادهم لقتال المسلمين، فكظم الرسول صلى الله عليه وسلم غيظه، حتى تسبب رجل من بني قينقاع في كشف عورة امرأة مسلمة، فقتله أحد المسلمين، فقتل اليهود المسلم فحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع، ثم أجلاهم عن المدينة بسبب إلحاح عبدالله بن أبى بن سلول.
وفي ذي الحجة سنة (2هـ) خرج أبو سفيان في نفر إلى المدينة، فأحرق بعض أسوار من النخيل، وقتلوا رجلين، وفروا هاربين، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في أثرهم، إلا أنهم ألقوا ما معهم من متاع حتى استطاعوا الإسراع بالفرار وعرفت هذه الغزوة بغزوة السويق، كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن نفرًا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة على المدينة، فخرج لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى المكان الذي تجمعوا فيه، وكان يسمَّى بـ(ذي أمر) ففروا هاربين إلى رءوس الجبال، وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم شهرًا ليرهب الأعراب بقوة المسلمين، وكانت هذه الغزوة في أوائل صفر سنة (3هـ).
(1/345)
وفي جمادى الآخرة سنة (3هـ) خرجت قافلة لقريش بقيادة صفوان بن أمية ومع أن القافلة اتخذت طريقًا صعبًا لا يعرف، إلا أن النبأ قد وصل إلى المدينة وخرجت سرية بقيادة زيد بن حارثة، استولت على القافلة وما فيها من متاع، وفر صفوان بن أمية ومن معه، اغتاظ كفار مكة مما حدث لهم في غزوة بدر، فاجتمعوا على الاستعداد لقتال المسلمين، وقد جعلوا القافلة التي نجا بها أبوسفيان لتمويل الجيش واستعدت النساء المشركات للخروج مع الجيش لتحميس الرجال، وقد طارت الأخبار إلى المدينة باستعداد المشركين للقتال، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة، وأشار عليهم -بدءًا- أن يبقوا في المدينة، فإن عسكر المشركون خارجها، فإنهم لن ينالوا منهم شيئًا، وإن غزوا المدينة، قاتلوهم قتالاً شديدًا.
إلا أن بعض الصحابة ممن لم يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال في بدر، أشاروا على الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من المدينة، وكان على رأس المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب، ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرب، وخرج الجيش وفيه ألف مقاتل، واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا قريبًا من العدو عند جبل أحد، وما كاد وقت المعركة أن يبدأ حتى تراجع عبد الله بن أبى سلول بثلث الجيش، بزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكره على الخروج، وما أراد بفعلته إلا بث الزعزعة في صفوف المسلمين، وبقي من الجيش سبعمائة مقاتل، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل.
(1/346)
واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مكانًا متميزًا في المعركة، وجعل بعض المقاتلين في الجبل، وهو ما عرف فيما بعد بجبل الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وأمرهم أن يحموا ظهور المسلمين، وألا ينزلوا مهما كان الأمر، سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، إلا إذا بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بدأت المبارزة بين الفريقين، وقتل فيها المسلمون عددًا من المشركين، وكان معظمهم ممن كانوا يحملون لواء المشركين، حتى ألقى اللواء على الأرض، واستبسل المسلمون وقاتلوا قتالا شديدًا، واستبسل من كانوا على الجبل.
إلا أنهم لما رأوا المسلمين يجمعون الغنائم نزلوا، فذكرهم قائدهم عبد الله بن جبير إلا أنهم لم يسمعوا له، ولاحظ خالد بن الوليد، فرجع بمن كان معه، وطوق جيش المسلمين، واضطربت الصفوف، وقتل المشركون من المسلمين سبعين رجلاً واقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصيب ببعض الإصابات، والذي حاول المشركون قتله لولا بسالة بعض الصحابة ممن دافع عنه، وقد أشيع قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انتشر بين المسلمين كذب الخبر، فتجمعوا حوله صلى الله عليه وسلم، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخترق طريقًا وينجو بمن معه، وصعدوا الجبل، وحاول المشركون قتالهم، إلا أنهم لم يستطيعوا، فرجعوا وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع المشركون، فخرج بمن كان معه في غزوة أحد فحسب، ولم يقبل غيرهم إلا عبد الله بن جابر فقد قبل عذره.
(1/347)
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى وصلوا إلى حمراء الأسد، وقد أقبل معبد بن أبى معبد الخزاعي وأسلم، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة أبي سفيان إن كان قد أراد الرجوع لحرب المسلمين، وفي طريق العودة اتفق المشركون على الرجوع، فقابلهم معبد بن أبى معبد الخزاعي، ولم يكن أبو سفيان قد علم بإسلامه، فقال له: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد جمع جيشًا كبيرًا لقتالكم، كي يستأصلكم، فارجعوا، وأحدثت هذه الكلمات زعزعة في صفوف المشركين.
وبعد غزوة أحد، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا لتأديب من يريد أن يعتدي على المسلمين، كسرية أبى سلمة في هلال شهر المحرم سنة (4هـ) إلى بني أسد بن خزيمة، وبعث عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الذي أراد حرب المسلمين، فأتى عبد الله بن أنيس برأسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعث الرجيع قتل بعض الصحابة، وفي السنة نفسها، بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لأهل نجد، ليدعوهم إلى الإسلام، وفي الطريق عند بئر معونة أحاط كثير من المشركين بالمسلمين، وقتلوا سبعين من الصحابة، ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الخبر، حزن حزنًا شديدًا، ودعا على المشركين.
(1/348)
وكانت يهود بني النضير يراقبون الموقف، ويستغلون أي فرصة لإشعال الفتنة وكان بعض الصحابة قد قتلوا اثنين خطأ معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من بنود الميثاق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، أن يساعد كل من الطرفين الآخر في دفع الدية، فلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم حاولوا قتله، إلا أن الله سبحانه حفظه وأرسل إليه جبريل، يخبره بما يريدون، فبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا، ولكن عبد الله بن أبى – راس المنافقين - وعدهم بالمساعدة، فرفضوا الخروج، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة أيام، وبعدها قرروا الخروج على أن يأخذوا متاعهم، واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحهم، فأخذه، وأخذ أرضهم وديارهم، فتفرق يهود بني النضير في الجزيرة.
وفي شعبان من العام الرابع الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ألف وخمسمائة من أصحابه، لملاقاة أبى سفيان والمشركين، كما اتفقوا في غزوة أحد إلا أن أبا سفيان خاف، فتراجع هو وجيشه خوفًا من المسلمين، ويسمَّى هذا الحادث بغزوة بدر الصغرى أو بدر الآخرة، وطارت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن القبائل حول دومة الجندل تحشد جيشًا لقتال المسلمين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش من أصحابه، وفاجأهم، ففروا هاربين وكان ذلك في أواخر ربيع الأول سنة (5هـ) وبذا فقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصد كل عدوان، حتى يتسنى له الأمر لتبليغ دعوة الله.
(1/349)
ولم تنس اليهود تلك الهزائم التي لحقت بها، لكنها لا تستطيع مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذت يهود بني النضير يألبون المشركين في مكة وغيرها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى اجتمع عشرة آلاف مقاتل، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فاستشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق، فحفر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الخندق شمال المدينة، لأنه الجهة الوحيدة التي يمكن أن يأتي الأعداء منها.
وذهب زعيم بني النضير حيى بن أخطب إلى زعيم بني قينقاع المتحالفة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله ينقض العهد، إلا أن الله حمى المسلمين وحفظهم فقد أسلم نعيم بن مسعود الذي أوقع الدسيسة بين اليهود وقريش، وجعل كلا منهم يتشكك في الآخر، وأرسل الله عليهم ريحًا شديدة دمرت خيامهم، وأطفأت نيرانهم؛ فاضطروا إلى الرحيل والفرار، قالَ إِسْرَائِيلُ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ حِينَ أَجْلَى الأَحْزَابُ عَنْهُ « الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَنَا ، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ »(1). وسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق أو الأحزاب، وكانت في العام الخامس الهجري.
وقبل أن يخلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ملابس الحرب، جاءه جبريل، وأمره بأن يذهب لغزو بني قريظة هو وأصحابه، فتحرك الجيش الإسلامي وكان عدده ثلاثة آلاف مقاتل وحاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قريظة فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث اقتراحات؛ إما أن يسلموا فيأمنوا على أنفسهم، وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم، ثم يخرجوا لقتال المسلمين، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم السبت؛ لكنهم لم يجيبوه إلى شيء من ذلك.
__________
(1) - صحيح البخارى(4110 )
(1/350)
ولم يبق لهم بعد الرفض إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إلى أبى لبابة بن المنذر-وكان من حلفائهم قبل إسلامه- ليخبرهم عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أبو لبابة بني قريظة رقَّ قلبه إليهم، وأشار إليهم بيده إلى حلقه كناية عن القتل، وعلم أبو لبابة أنه خان الله ورسوله، فذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وربط نفسه، وأقسم ألا يفكه أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونزلت اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ - بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ » . فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ » . قَالَ فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ . قَالَ « لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ »(1).
وكانت الغزوة في ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وبعد غزوة بني قريظة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنصار قتلوا سلام بن أبى الحقيق، وذلك أنه كان من اليهود الذين أثاروا الأحزاب ضد المسلمين.
__________
(1) - صحيح البخارى (3043) 82/4
(1/351)
وفي شعبان من العام السادس الهجري علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زعيم بني المصطلق جمع قومه ومن قدر عليه من العرب لقتال المسلمين، فتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر، وخرج في عدد من الصحابة، حتى وصل ماء المريسيع، ففر المشركون، واستولى المسلمون على أموالهم وذراريهم، وفي هذه الغزوة كانت حادثة الإفك التي افتُري فيها على السيدة عائشة، واتهمت بالخيانة، فأنزل الله -سبحانه- براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
(1/352)
قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) [النور/11] } إِنًَّ الذينَ جَاؤوا بِحَديثِ الإِفْكِ ، وَهُوَ الكَذِبُ والبُهْتَانُ وَالافْتِرَاءُ ، هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْكُم ( عُصْبَةٌ ) فَلا تَحْسَبوا أَنَّ فِي ذَلِكَ شَرّاً لَكُمْ وَفِتْنَةُ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ، فَهُوَ لِسَانُ صِدْقٍ فِي
(1/353)
الدُّنْيَا ، وَرَفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الآخِرَةِ ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَكُمْ بِاعْتِنَاءِ اللهِ تَعَالَى بِعَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ ، إِذْ أَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي القُرْآنِِ . وَلِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ وَخَاضَ فِيهِ ، وَرَمَى أَمَّ المُؤْمِنِينَ بَشَيءٍ مِنَ الفاحِشَةِ ، جَزَاءُ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الإِثْمِ ، بِقَدَرِ مَا خَاضَ فِيهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ وَضِحِكَ سُرُوراً بِمَا سَمِعَ ، وَمِنْهُم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَقَلَّ ، وَبَعْضُهم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَكْبَرَ . والذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الإِثْمِ مِنْهُمْ ( كِبْرَهُ ) - وَهُوَ عَذَابٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ الإِفْكُ - أَقْبَحُ الكَذِبِ وأَفْحَشُهُ .
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ المُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ عَائشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا ، حَينَ أَفاضَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الإِفِكِ ، فَقَالَ تَعَالَى : هَلاَّ إِذْ سَمِعْتُمْ هَذَا القَوْلَ الذي رُمِيَتْ بِهِ أمُّ المُؤْمِنِينَ ، فَقِسْتُمْ ذَلِكَ الكَلاَمَ عَلَى أَنْفُسكُم ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَلِيقُ بِكُمْ ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَوْلَى بالبَرَاءَةِ مِنْهُ ، بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى .
(1/354)
وَقَالَ تَعَالَى : هَلاَّ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ الخَيْرَ ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ ، وَهَلاَّ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ هَذَا كَذِبٌ ظًاهِرٌ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّ الذي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُريبُ ، وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ جَاءَتْ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ صِفْوَانِ بنِ المُعَِّطلِ السلمِي ، فِي وَقْتِ الظَهِيرَةِ ، والجَيْشُ بِكَامِلِهِ يُشَاهِدُ ذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كُلَّ شُبْهَةٍ وَشَكٍّ ، وَلَوْ كَانَ فِي الأَمْرٍ مَا يُرْتَابُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً
( وَرَوْيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوب الأَنْصَارِيَّ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبٍ : يَا أَبَا أَيُّوبٍ أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قال : نَعَمْ وَذَلِكَ الكَذِبُ . أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أَُمَّ أَيُّوبٍ؟ قَالَتْ : لاَ واللهِ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَهُ ، فَقَالَ : فَعَائِشَةُ واللهِ خَيْرٌ مِنْكِ ) .
( وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أبي أَيُّوبٍ حَينَ قَالَ مَا قَالَ لَزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبٍ ) .
هَلاَّ جَاءَ الخَائِضُونَ فِي الإِفْكِ بِأَرْبَعَةَ شُهُودٍ عَلَى ثُبُوتِ مَا قَالُوا ، وَمَا رَمَوْها بِهِ ، فَإِذا لَمْ يَأْتِ هَؤُلاءِ المُفْسِدُونَ بالشُّهَدَاءِ لإِثَْبَاتِ مَا قَالُوا فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ .
وَلَوْلاَ تَفَضُّلُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُم بِبَيَانِ الأَحْكَامِ ، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَدَمِ التَّعْجِيلِ بِالعُقُوَبَةِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِالمَغْفِرَةِ ، لَنَزَلَ بِكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبَ الخَوْضِ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ أَفَضْتُمِ فِيهِ - خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ .
(1/355)
فَقَدْ تَنَاقَلْتُمْ الخَبَرَ بِأَلْسِنَتِكُمْ ، وَأَشَعْتُمُوه بَيْنَكُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ بِصِحَّتِهِ ، وَتَظُنَّونَ أَنَّ هَذَا العَمَلَ هَيِّنٌ ، لاَ يُعَاقِبُ اللهُ عَلَيْهِ ، أَوْ أَنَّ عِقَابَه يَسِيرٌ ، مَعَ أَنَّه خَطِيرٌ يُعاقِبُ اللهُ عَلَيْهِ عِقَاباً شَدِيداً .
( وَفِي الحَدِيثِ : " إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يَدْرِي مَا تَبْلُغُ يَهْوِي بِهََا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بِيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ " ) ، ( رواهُ مسلمٌ والبخاري ) .
وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا أَشَاعَهُ المُنَافِقُونَ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ والكَذِب والافْتِرَاءِ عَلَى أَمِّ المُؤْمِنِينَ الطَاهِرَةِ ، أَنْ تَنْصحُوا بِعَدَمِ الخَوْضِ فِيهِ لأَنَّهُ غَيْرُ لاَئِق بِكُمْ ، وأَنْ تَتَعَجَّبُوا مِنْ اخْتِرَاعِ هَذَا النَّوْعِ ، مِنْ الكَذِبِ والبُهْتَانِ ، وأَنْ تَقُولُوا : لاَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذًَا الكَلاَمِ ، وَلاَ أَنْ نَذْكُرَهُ لأَحَدٍِ تَنَزَّهَ اللهُ رَبُّنَا أَنْ يَقَالَ هَذَا الكَلامَُ ، عَلَى ابنةِ الصِّدِّيقِ زَوْجَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ وَبُهَتَانٌ ، وَإِنَّنا لَنَبْرَأُ إِلَى اللهِ رَبِّنَا مِنْهُ ، وَمِنْ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُه أَنْ يَكُونَ الوَسِيلةَ فِي انْتِشَارِ هَذَا القَوْلِ الكَاذِبِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ .
(1/356)
وَيَنْهَاكُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَيَعْظُمُ بِهَذِهِ المَوَاعِظِ التي تَغْرِفُونَ بِهَا عظَمَ الذَّنِبِ ، كَيْلاَ يَقَعَ مِثْلُ هَذَا مِنْكُمْ فِيمَا يَسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللهِ وشَرْعِهِ ، وَمِمَّنْ يُعَظِّمُونَ رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ صِفَةَ الإِيْمَانِ تَتَنَافَى مَعَ مِثلِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ .
وَيُنَزِّلُ اللهُ تَعَالَى لَكُمُ الآيَاتِ الدَّالَةَ عَلَى الأَحْكَامِ وَاضِحَةً جَلِيَّةَ ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَه ، حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ .
إِنَّ الذين يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ ، وَبِخَاصَّةِ أُوْلَئِكَ الذين يَتَجِرَّؤوُنَ عَلَى رَمِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ ، إِنَّمَا يَعْمَلُونَ عَلَى زَعْزَعَةِ ثِقَةِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ بالخَيْرِ والعِفَّةِ ، وَعَلَى إِزَالَةِ التَّحَرُّجِ مِنْ ارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ ، وَذَلِكَ ، عَنْ طَرِيقِ الإِيْحَاءِ بأَنَّ الفَاحِشَةَ شَائِعَةٌ فِيهَا ، وَبِذَلِكَ تَشِيعٌ الفَاحِشَةُ فِي النُّفُوسِ ، ثُمَّ تَشِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الوَاقِعِ ، فَهَؤُلاءِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَنْدَ اللهِ : فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم ، واللَّعْنِ والذَّمِّ مِنَ النَّاسِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ . وَمَنْ ذا الذي يَرَى الظَّاهِرَ والبَاطِنَ ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْه شَيءٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى العَلِيمِ الخَبِيرِ؟ فَرُدُّوا الأُمُورَ إِلَى الله تَرْشُدُوا ، وَلا َ تَْروُوا مَا لاَ علْمَ لَكُمْ بِهِ .
(1/357)
وقد أراد المنافقون أن يدسوا الفتنة بين المسلمين بعد الانتهاء من الحرب، فعن جَابِرَ - رضى الله عنه -قالَ : غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ غَضَبًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَدَاعَوْا ، وَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ . وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ . فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ » . ثُمَّ قَالَ « مَا شَأْنُهُمْ » . فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِىِّ الأَنْصَارِىَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ » . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . فَقَالَ عُمَرُ أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ »(1)..
__________
(1) - صحيح البخارى (3518 )
(1/358)
وفي هذا العام السادس من الهجرة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا فكانت بشرى من الله، بفتح مكة فيما بعد، واستعد الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة وخرج معه عدد كبير من المسلمين، ولما سمعت بذلك قريش، استعدت للحرب ، فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ، فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » .
(1/359)
ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » . فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ .
(1/360)
قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ .
(1/361)
قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ .
(1/362)
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ » .
(1/363)
فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ، اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » .
(1/364)
فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ « لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ .
(1/365)
قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » .
(1/366)
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ .
(1/367)
فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ .
(1/368)
قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .(1)
ومع أن الظاهر في بعض بنود هذه المعاهدة الظلم، إلا أنها أتاحت الفرصة لانتشار الإسلام، واعتراف قريش بالمسلمين كقوة، فدخل عدد كبير في الإسلام..
بعد هذه الهدنة، أسلم بعض أبطال قريش؛ كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة،
__________
(1) - صحيح البخارى(2731 و2732 )
(1/369)
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِى أَوْسٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ قَالَ لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الأَحْزَابِ عَنِ الْخَنْدَقِ جَمَعْتُ رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ مَكَانِى وَيَسْمَعُونَ مِنِّى فَقُلْتُ لَهُمْ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَراً وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ رَأْياً فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ قَالُوا وَمَا رَأَيْتَ قَالَ رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِىِّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِىِّ فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَىْ مُحَمَّدٍ وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا فَلَنْ يَأْتِينَا مِنْهُمْ إِلاَّ خَيْرٌ. فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الرَّأْىُ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُمْ فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِى لَهُ وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ فَجَمَعْنَا لَهُ أُدْماً كَثِيراً ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىُّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ فِى شَأْنِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ - قَالَ - فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ فَقُلْتُ لأَصْحَابِى هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّى قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ - قَالَ - فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ فَقَالَ مَرْحَباً بِصَدِيقِى أَهْدَيْتَ لِى مِنْ بِلاَدِكَ شَيْئاً.
(1/370)
قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْماً كَثِيراً - قَالَ - ثُمَّ قَدَّمْتُهُ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا فَأَعْطِنِيهِ لأَقْتُلَهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا - قَالَ - فَغَضِبَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ كَسَرَهُ فَلَوِ انْشَقَّتْ لِىَ الأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقاً مِنْهُ ثُمَّ قُلْتُ أَيُّهَا الْمَلِكُ وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ. فَقَالَ لَهُ أَتَسْأَلُنِى أَنْ أُعْطِيكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِى كَانَ يَأْتِى مُوسَى لِتَقْتُلَهُ. قَالَ قُلْتُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَكَذَاكَ هُوَ فَقَالَ وَيْحَكَ يَا عَمْرُو أَطِعْنِى وَاتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الْحَقِّ وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قَالَ فَقُلْتُ فَتُبَايِعُنِى لَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ. قَالَ نَعَمْ فَبَسَطَ يَدَهُ وَبَايَعْتُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِى وَقَدْ حَالَ رَأْيِى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَكَتَمْتُ أَصْحَابِى إِسْلاَمِى ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِداً لَرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأُسْلِمَ فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ - وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ فَقُلْتُ أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِىٌّ أَذْهَبُ وَاللَّهِ أُسْلِمُ فَحَتَّى مَتَى قَالَ قُلْتُ وَاللَّهِ مَا جِئْتُ إِلاَّ لأُسْلِمَ.
(1/371)
قَالَ فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ ثُمَّ دَنَوْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِى وَلاَ أَذْكُرُ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « يَا عَمْرُو بَايِعْ فَإِنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ». قَالَ فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ حَدَّثَنِى مَنْ لاَ أَتَّهِمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ كَانَ مَعَهُمَا أَسْلَمَ حِينَ أَسْلَمَا .(1)
وعَنْ قَيْسِ بْنِ سُمَىٍّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ». قَالَ عَمْرٌو فَوَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا مَلأْتُ عَيْنِى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ رَاجَعْتُهُ بِمَا أُرِيدُ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيَاءً مِنْهُ.(2)
__________
(1) - مسند أحمد (18251) {4/199} حسن
الأدم : جمع أديم وهو الجلد المدبوغ - الفَرق : الخوف والفزع -المنسم : الأثر والعلامة معناه تبين الطريق
(2) - مسند أحمد (18288) حسن
(1/372)
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى الإسلام، ليعلن أن الإسلام جاء للناس جميعًا، وليس مقصورًا على شبة الجزيرة العربية. عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ - فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا . فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّى ، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ . ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ . فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ . قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ .
(1/373)
قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لاَ نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا . قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ . قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ .
(1/374)
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ .
(1/375)
فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ . ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ . سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأَصْفَرِ . فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ .
(1/376)
وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ . قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ . فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ . فَنَظَرُوا إِلَيْهِ ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ . فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ .
(1/377)
ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِىٌّ ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ .
وَقَالَ إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ ، فَقَدْ رَأَيْتُ . فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (7 ) 8/1
يأثر : ينقل - الأريسيون : الفلاحون - البشاشة : مخالطة الإيمان انشراح الصدور -تجشم : تكلف -الحزاء : الكاهن -حاص : جال جولة يطلب الفرار -الدسكرة : قصر حوله بيوت السجال : مرة لنا ومرة علينا -السقف : الأسقف رئيس من رؤساء النصارى ماد : اتفق معهم على مدة
(1/378)
وبعد صلح الحديبية قامت بعض الغزوات؛ كغزوة ذي قرد، وكانت ردًّا على بعض بني فزارة الذين أرادوا القيام بعمل القرصنة ضد المسلمين، وقد أبلى فيها سلمة بن الأكوع بلاءً حسنًا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ يَقُولُ خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَرْعَى بِذِى قَرَدٍ - قَالَ - فَلَقِيَنِى غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ مَنْ أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ قَالَ فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ يَا صَبَاحَاهْ. قَالَ فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَىِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِى حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ بِذِى قَرَدٍ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْقُونَ مِنَ الْمَاءِ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِى وَكُنْتُ رَامِيًا وَأَقُولُ أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَأَرْتَجِزُ حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقَاحَ مِنْهُمْ وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً - قَالَ - وَجَاءَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ وَهُمْ عِطَاشٌ فَابْعَثْ إِلَيْهِمُ السَّاعَةَ فَقَالَ « يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ ». - قَالَ - ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفُنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَاقَتِهِ حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (4778 )
أسجح : أحسن وارفق - اللقاح : جمع لقحة وهى الناقة ذات اللبن قريبة العهد بالولادة
(1/379)
وبعد تلك الانتصارات التي قام بها المسلمون كان لابد من تأديب من كان السبب في كثير من الحروب، وهم يهود خيبر، أولئك الذين جمعوا الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بايع معه تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، حتى وصلوا قرب خيبر، وقد كانت كلها حصونًا، ففيها ثمانية حصون كبيرة منيعة واستبسل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى منَّ الله عليهم بفتح هذه الحصون، وأصبح اليهود صاغرين، وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لهم الأرض ليزرعوها على أن يكون لهم نصف الثمار، وللمسلمين نصفها، وكانت غزوة خيبر في العام السابع الهجري.
وبعد هذه الغزوة جاء جعفر بن أبى طالب ومن معه من الحبشة إلى المدينة، وفرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعودتهم، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أَفْرَحُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ "(1)
كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيى بن أخطب بعد أن أسلمت، وقد كانت من السبى، وبعد خيبر صالح يهود فدك الرسول صلى الله عليه وسلم كما صالحه أهل خيبر، كما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض اليهود ومن انضم إليهم من العرب عند وادي القرى، وفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الغنائم على أصحابه، أما النخل والأرض فقد عاملهم كما عامل أهل خيبر، ولما علم يهود تيماء بذلك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب لهم كتابًا، يدفعون بمقتضاه الجزية للمسلمين وبعد هذه الحروب والانتصارات رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4249)صحيح
(1/380)
وبعد أن أدَّبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين واليهود، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع حتى استطاع تأديب الأعراب، وكان لهذه الغزوة أثرها في قذف الرعب في قلوب الأعراب، وبذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضي على الأحزاب، ليتفرغ لنشر الدعوة الإسلامية، وكانت هذه الغزوة في العام السابع الهجري..
وفي ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى مكة لأداء عمرة القضاء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى عامل البلقاء من أرض الشام، من قبل قيصر، فأمسك الحارث، وأوثقه ثم قتله، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بالخروج لتأديب هؤلاء، فخرج ثلاثة آلاف مقاتل، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لزيد ثم لجعفر إن قتل، ثم لعبد الله بن رواحة، واتجه الجيش ناحية العدو حتى وصل إلى مكان يقال له (مؤتة) وفوجئ الجيش بأن جيش العدو عدده مائتا ألف مقاتل مقابل ثلاثة آلاف واستقر الأمر على الجهاد.
وقاتل المسلمون واستبسلوا، فقتل القائد زيد بن حارثة، ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة بعد قتال عنيف، ثم اتفق المسلمون على أن تكون الراية لخالد بن الوليد الذي استطاع إنقاذ الجيش، وإرهاب الأعداء مع كثرة عددهم، ففي اليوم الثاني للقتال غير تنظيم الجيش، حتى ظن الروم أن المسلمين جاءهم مدد، فلم يلاحقوهم، بينما انسحب خالد بالجيش بمهارة كبيرة، ولم يقتل في هذه الغزوة إلا اثنا عشر رجلاً من المسلمين، وكانت في العام الثامن الهجري.
(1/381)
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ « أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ - حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ » .(1)
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل العربية قد انضمت إلى الرومان، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جيش لتأديبهم، فلما ذهب عمرو ورأى كثرة عدد المشركين أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب مددًا، فبعث إليه بأبي عبيدة في مائتي رجل، واستطاع المسلمون هزيمة تلك القبائل، وعرفت هذه الحرب بسريَّة ذات السلاسل، وكانت بعد غزوة مؤتة في جمادى الآخرة في العام الثامن الهجري.
وحدث أن اعتدت بنو بكر -وكانت قد دخلت في حلف قريش حسب اتفاق الحديبية- على خزاعة التي دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)(2)وعلمت قريش أنها نقضت العهد، فذهب أبو سفيان إلى المدينة ليسترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رجع دون فائدة، وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف مقاتل من الصحابة لغزو مكة دون أن تعلم قريش بذلك، وفي هذه الأثناء أسلم أبو سفيان، ولما قرب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة كان أبو سفيان قد رجع ليخبر القوم.
__________
(1) - صحيح البخارى (4262 )
(2) - انظر التفاصيل في السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 9 / ص 233)(19331) صحيح
(1/382)
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة منتصرين فاتحين، واتجه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة خلفه ناحية المسجد الحرام، فاستلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود وطاف بالبيت، وهدم الأصنام التي كانت حول الكعبة، ثم نادى عثمان بن طلحة وأخذ منه مفتاح الكعبة فدخلها فوجد فيها صورًا فمحاها، وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم في قريش، ثم قال لهم: ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. فقال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (92) سورة يوسف اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ثم رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، وكان قد حان وقت الصلاة، فأمر بلال أن يصعد الكعبة، فصعدها وأذن، وأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم بعض من أكابر المجرمين الذين عذبوا المسلمين وآذوهم، فقتل بعضهم وأسلم بعضهم، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة ممن أسلم من الرجال، ثم أخذ البيعة من النساء، وأقام الرسول تسعة عشر يومًا في مكة يجدد معالم الإسلام فيها، وبعث نفرًا من أصحابه لهدم الأصنام التي كان منتشرة في مكة، وقد كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
(1/383)
وقد كان فتح مكة مرحلة فاصلة في تاريخ الإسلام، فقد كان لقريش مكانة عظيمة بين القبائل العربية، فلما رأت القبائل قريشا دخلت الإسلام، أسرعت القبائل تدخل في دين الله أفواجًا، ولكن مسيرة الجهاد لم تقف، فلقد أبت بعض القبائل العربية أن تدخل الدين الجديد، وألا تستسلم كما استسلمت القبائل الأخرى، وكان من بين هذه القبائل هوازن وثقيف، وانضمت بعض القبائل الأخرى تحت قيادة مالك بن عوف، وخرج الجيش الإسلامي ناحية (حنين) وكان مالك بن عوف قد سبقهم إليها، ووزَّع الجيش في الوادي، ولما نزل المسلمون الوادي رشقهم العدو بالنبال، حتى تقهقرت كتائب المسلمين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع شمل المسلمين الفارين وأعاد للجيش انتظامه، وحاربوا العدو، ونصرهم الله عليهم وغنموا غنائم كثيرة، وتفرق العدو إلى الطائف ونخلة وأوطاس.. وغير ذلك من الأماكن، وقد كانت هذه الغزوة في شوال من العام الثامن الهجري.
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن معظم جيش هوازن وثقيف دخلوا الطائف، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شوال وحاصرهم حصارًا شديدًا عدة أيام، وبعدها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عنهم فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم، وبعد تقسيم الغنائم جاء وفد هوازن مسلمين، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم غنائمهم، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رد الغنائم لوفد هوازن، فاستجابوا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بعدها اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى المدينة.
(1/384)
وفي العام التاسع من الهجرة، سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرومان تستعد للقاء المسلمين، وقد تجمع معها بعض القبائل العربية من النصارى، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج لقتال الروم، ودعا إلى الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، وأنفق الصحابة من أموالهم الكثير، ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا المنافقون وثلاثة من المؤمنين، وقد كان هذا الوقت شديد الحر، إلا أن المسلمين جاهدوا أنفسهم في الخروج للجهاد، ولم يكف الزاد، وسمي هذا الجيش بجيش العسرة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في رجب من العام التاسع الهجري تجاه تبوك، حتى وصل إليها وعسكر فيها خمسين يومًا.
(1/385)
ولما سمع الروم به خافوا، فلم يخرجوا لقتال المسلمين، وجاء إليه بعض الرومان واصطلحوا معه على دفع الجزية، وانتشر الخبر في الجزيرة العربية، فازداد الإسلام قوة إلى قوته، ورجعت إليه القبائل التي كانت تنوي الاحتماء بالرومان، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان من هذه السنة مظفرًا منتصرًا، وفي هذه السنة توفي النجاشي ملك الحبشة، وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، كما توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومات رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول. عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ لَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ ، فَأَعْطَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَمِيصَهُ فَقَالَ « آذِنِّى أُصَلِّى عَلَيْهِ » . فَآذَنَهُ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ - رضى الله عنه - فَقَالَ أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ « أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ قَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (80) سورة التوبة» . فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } (84) سورة التوبة .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (1269 ) 97/2
(1/386)
وفي ذي الحجة من العام التاسع الهجري بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الحج، فحج بالمسلمين، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا، فأتت القبائل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متتالية متتابعة معلنة إسلامها لله، وفي ذي الحجة من العام العاشر الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وحج بالناس حجة الوداع، بعد أن أعلمهم أمور الدين، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَىَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ. فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِى فَنَزَعَ زِرِّى الأَعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّى الأَسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَىَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِى سَلْ عَمَّا شِئْتَ.
(1/387)
فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَقَامَ فِى نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِى النَّاسِ فِى الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِى بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ « اغْتَسِلِى وَاسْتَثْفِرِى بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِى ». فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِى بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَىْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ».
(1/388)
وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِى يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَلْبِيَتَهُ قَالَ جَابِرٌ - رضى الله عنه - لَسْنَا نَنْوِى إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِى يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) « أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ». فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِىَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ».
(1/389)
ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِى بَطْنِ الْوَادِى سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ « لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ». فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِى الأُخْرَى وَقَالَ « دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِى الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لاَ بَلْ لأَبَدٍ أَبَدٍ ». وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رضى الله عنها - مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِى أَمَرَنِى بِهَذَا. قَالَ فَكَانَ عَلِىٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِى صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّى أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ « صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ « فَإِنَّ مَعِىَ الْهَدْىَ فَلاَ تَحِلُّ ».
(1/390)
قَالَ فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْىِ الَّذِى قَدِمَ بِهِ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِى أَتَى بِهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مِائَةً - قَالَ - فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِى فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ « إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِى بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ
(1/391)
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى « أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ».
(1/392)
كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ - حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ - بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِى تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِى عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِى قِدْرٍ
(1/393)
فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ « انْزِعُوا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ». فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (3009 )
استثفرى : شدى فرجك بخرقة بعد أن تحتشى قطنا- يسبح : يصلى صلاة تطوع -أَسفر : أضاء
الساجة : نوع من الأكسية الخضراء أو السوداء -المشجب : ما تعلق عليه الثياب -الظعن : جمع الظعينة وهى المرأة -غبر : بقى -انزع : استقوا -النساجة : نوع من الملاحف المنسوجة
(1/394)
وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر الهجري خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وصلى على الشهداء كأنه يودعهم، وفي ليلة من الليالي خرج إلى البقيع فاستغفر للموتى، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد عليه المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الأَسْوَدُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا ، قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ ، فَقَالَ « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » . فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، إِذَا قَامَ فِى مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّىَ بِالنَّاسِ ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ « إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » . فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى ، فَوَجَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً ، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّى أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَكَانَكَ ، ثُمَّ أُتِىَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ . قِيلَ لِلأَعْمَشِ وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى بِصَلاَتِهِ ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(664 )-الأسيف : رقيق القلب -يهادى : يمشى معتمدا عليهما
(1/395)
وفي هذه الأيام كان الرسول يخرج للناس إذا وجد خفة في نفسه، فخرج إليهم ذات مرة، فوعظهم وذكرهم، وألمح بأن أجله قد اقترب، ولم يفهم ذلك من الصحابة إلا أبو بكر، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ « إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ » . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَعَجِبْنَا لَهُ ، وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهْوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُخَيَّرَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ، إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِى بَكْرٍ » .(1)
وقبل أن يتوفَّى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم أعتق غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده.
__________
(1) - صحيح البخارى(3904 ) -الخوخة : الباب الصغير
(1/396)
وفي اليوم الأخير من مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة، فرفع الستار ورأى المسلمين يصلون الفجر، فتبسم وفي وقت الضحى صعدت الروح الطاهرة الزكية إلى ربها بعدما أدت ما عليها فحزن الصحابة -رضوان الله عليهم- حزنًا شديدًا لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَتَيَمَّمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رضى الله عنه - خَرَجَ وَعُمَرُ - رضى الله عنه - يُكَلِّمُ النَّاسَ . فَقَالَ اجْلِسْ . فَأَبَى . فَقَالَ اجْلِسْ .
(1/397)
فَأَبَى ، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ ، وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا ..(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (1241) 91/2 -تيمم : قصد - المسجى : المغطى
(1/398)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَقَالَ فِى كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ فِى ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ . وَقَالَ لَهَا فِى أَىِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ . قَالَ فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ . قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ اللَّيْلِ . فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِى هَذَا ، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِى فِيهَا . قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ . قَالَ إِنَّ الْحَىَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ . فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ .(1)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثُوا إِلَى أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَكَانَ يَضْرَحُ كَضَرِيحِ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعَثُوا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ وَكَانَ هُوَ الَّذِى يَحْفِرُ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَلْحَدُ فَبَعَثُوا إِلَيْهِمَا رَسُولَيْنِ وَقَالُوا اللَّهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ. فَوَجَدُوا أَبَا طَلْحَةَ فَجِىءَ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ أَبُو عُبَيْدَةَ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جِهَازِهِ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِى بَيْتِهِ. ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرْسَالاً.
__________
(1) - صحيح البخارى (1387 )- الخلق : البالى
(1/399)
يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا الصِّبْيَانَ وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَدٌ. لَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِى الْمَكَانِ الَّذِى يُحْفَرُ لَهُ فَقَالَ قَائِلُونَ يُدْفَنُ فِى مَسْجِدِهِ. وَقَالَ قَائِلُونَ يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا قُبِضَ نَبِىٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ ». قَالَ فَرَفَعُوا فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِى تُوُفِّىَ عَلَيْهِ فَحَفَرُوا لَهُ ثُمَّ دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسْطَ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الأَرْبِعَاءِ. وَنَزَلَ فِى حُفْرَتِهِ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ ابْنَا الْعَبَّاسِ وَشُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِىٍّ وَهُوَ أَبُو لَيْلَى لِعَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحَظَّنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ لَهُ عَلِىٌّ انْزِلْ. وَكَانَ شُقْرَانُ مَوْلاَهُ أَخَذَ قَطِيفَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَلْبَسُهَا فَدَفَنَهَا فِى الْقَبْرِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ أَبَدًا. فَدُفِنَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.(1)
__________
(1) - سنن ابن ماجه (1696 )حسن لغيره
الأرسال : الأفواج يتبع بعضها بعضا - يضرح : يحفر الشق
(1/400)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : نُعِيَ إِلَيْنَا حَبِيبُنَا وَنَبِيُّنَا بِأَبِي هُوَ وَنَفْسِي لَهُ الْفِدَاءُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسِتٍّ ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقَ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ أُمِّنَا عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْنَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِكُمْ وَحَيَّاكُمُ اللَّهُ ، حَفِظَكُمُ اللَّهُ ، آوَاكُمُ اللَّهُ ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ ، رَفْعَكُمُ اللَّهُ ، هَدَاكُمُ اللَّهُ ، رِزْقَكُمُ اللَّهُ ، وَفَّقَكُمُ اللَّهُ ، سَلَّمَكُمُ اللَّهُ ، قَبِلَكُمُ اللَّهُ ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَأُوصِي اللَّهَ بِكُمْ وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلادِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي وَلَكُمْ : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ دَنَا الأَجَلُ وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللهِ ، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَإِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى ، وَالْكَأْسِ الأَوْفَى وَالرَّفِيقِ الأَعْلَى ، أَحْسَبُهُ فَقُلْنَا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَمَنْ يُغَسِّلُكَ إِذَنْ ؟ قَالَ : رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى ، قُلْنَا : فَفِيمَا نُكَفِّنُكَ ؟ قَالَ : فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ ، أَوْ فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ ، أَوْ فِي بَيَاضِ مِصْرَ قَالَ : قُلْنَا : فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ مِنَّا ؟ فَبَكَيْنَا وَبَكَى ، وَقَالَ :مَهْلا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا ، إِذَا غَسَّلْتُمُونِي ثُمَّ وَضَعْتُمُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي فَاخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً ،
(1/401)
فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ خَلِيلِي وَجَلِيسِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جُنُودِهِ ، ثُمَّ الْمَلائِكَةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهَا ، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَلاَ تُؤْذُونِي بِبَاكِيَةٍ أَحْسَبُهُ قَالَ : وَلاَ صَارِخَةٍ وَلاَ رَانَّةٍ ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ ، وَاقْرَءُوا أَنْفُسَكُمْ مِنِّي السَّلامَ ، وَمَنْ غَابَ مِنْ إِخْوَانِي فَأَبْلِغُوهُ مِنِّي السَّلامَ ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَكُمْ فِي دِينِكُمْ بَعْدِي فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَقْرَأُ السَّلامَ أَحْسَبُهُ ، قَالَ : عَلَيَّ وَعَلَى كُلِّ مَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي مِنْ يَوْمِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قُلْنَا : يَا رَسُولِ اللهِ ، صلى الله عليه وسلم ، فَمَنْ يُدْخِلُكَ قَبْرَكَ مِنَّا ؟ قَالَ : رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي مَعَ مَلائِكَةٍ كَثِيرَةٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : غَسَّلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، وَكَانَ طَيِّبًا حَيًّا وَمَيِّتًا صلى الله عليه وسلم(1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (4397)صحيح
(1/402)
و عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : أَرَدْنَا غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَاخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا ، أَوْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهُمُ السُّنَّةَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ نَائِمٌ ذَقْنُهُ عَلَى صَدْرِهِ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ : أَمَا تَدْرُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ؟ فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَيُدَلِّكُونَهُ مِنْ فَوْقِهِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَايْمُ اللَّهِ ، لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ نِسَاؤُهُ "(1)
__________
(1) - المستدرك(4398) حسن
(1/403)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا : مَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَبَكَى وَبَكَيْنَا ، وَقَالَ : مَهْلا ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا ، إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَحَنَّطْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي ، ثُمَّ اخْرِجُوا عَنِّي سَاعَةً ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ خَلِيلِي وَجَلِيسِي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ جُنُودٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ، ثُمَّ لِيَبْدَأْ بِالصَّلاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي ، ثُمَّ نِسَاؤُهُمْ ، ثُمَّ ادْخُلُوا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا وَفُرَادَى وَلا تُؤْذُونِي بِبَاكِيةٍ ، وَلا بِرَنَّةٍ ، وَلا بِصَيْحَةٍ ، وَمَنْ كَانَ غَائِبًا مِنْ أَصْحَابِي فَأَبْلِغُوهُ مِنِّي السَّلامَ ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ عَلَى أَنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ ، وَمَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي هَذَا مُنْذُ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(1)
=================
الشمائلُ العامَّةُ
ليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى ، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب الملايين، ولكن العبرة أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبيناً معيار المحبة الصادقة:{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
__________
(1) - مسند البزار (2028) والمستدرك برقم (4399)حسن لغيره
(1/404)
بل سيرته هي المنظومة المتألفة والكوكبة المتلألئة والشمس الساطعة والسنا المشرق والمشعل الوضاء الذي يبدّد ركام الظُّلْم والظُّلَم، ولئن فات كثيرين رؤيتُه بأبصارهم، فإن في تأمُّلِ شمائله لعزاءً وسلوانا، فالمطبقون لشمائله إن لم يصحَبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا.
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما ... ... يفوتكم وصفُه هاذي شمائله
مكمَّل الذات في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... ... وفي صفاتٍ فلا تحصى فضائله
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. فرسولنا قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع، خرَّج البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لاَ تُطْرُونِى كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ »(1). .
إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.
تأملوا هديه وشمائله في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
__________
(1) - صحيح البخاري (3445 )- تطرونى : تمدحونى
(1/405)
ففي مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، كيف لا وهو المنزَّل عليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. وإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة .
وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، عَنْ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ : إِنْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »(1)..
__________
(1) - صحيح البخاري (1130)
(1/406)
وفي مجال الأخلاق تجده مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة. فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ :(يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وَحِرْزاً لِلأُمِّيِّينَ وَأَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَسْتَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ - قَالَ يُونُسُ وَلاَ صَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ - وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً وَآذَاناً صُمًّا وَقُلُوباً غُلْفاً.(1).
زانتْه في الخلق العظيم شمائلٌ ... ... يُغرى بهن ويولَع الكرماء
__________
(1) - مسند أحمد(6781) صحيح
الحرز : الحصن - سخاب : صيَّاح - الغلف : جمع الأغلف وهى القلوب المغشاة المغطاة
(1/407)
وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم }[القلم:4]، وقال تعالى :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ،وعن أَنَسٍ قالَ : مَا شَمِمْتُ شَيْئاً عَنْبَراً قَطُّ وَلاَ مِسْكاً قَطُّ وَلاَ شَيْئاً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ مَسِسْتُ شَيْئاً قَطُّ دِيبَاجاً وَلاَ حَرِيراً أَلْيَنَ مَسًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- . قَالَ ثَابِتٌ فَقُلْتُ يَا أَبَا حَمْزَةَ أَلَسْتَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَأَنَّكَ تَسْمَعُ إِلَى نَغَمَتِهِ فَقَالَ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقُولَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ. قَالَ خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَا غُلاَمٌ لَيْسَ كُلُّ أَمْرِى كَمَا يَشْتَهِى صَاحِبِى أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ لِى فِيهَا أُفٍّ وَلاَ قَالَ لِى لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَأَلاَ فَعَلْتَ هَذَا..(1)
تلك لعمرو الحق عراقةُ الخلال وسمو الخصال، وكريم الشمائل وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره. وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :(2)
أغَرُّ، عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّة ِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويُشْهَدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ، إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلهُ، فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ
__________
(1) - مسند أحمد(13663) صحيح
(2) - تراجم شعراء موقع أدب - (ج 7 / ص 467)رقم القصيدة : 12836
(1/408)
نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَة ٍ منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ
فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً، يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ
وأنذرنا ناراً، وبشرَ جنة ً، وعلمنا الإسلامَ، فاللهَ نحمدُ
وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي، بذلكَ ما عمرتُ فيا لناسِ أشهدُ
تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل مَن دَعا سِوَاكَ إلهاً، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ
لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمرُ كلهُ، فإيّاكَ نَسْتَهْدي، وإيّاكَ نَعْبُدُ
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟!
وهناك صفحة أخرى يا رعاكم الله، في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا ».(1).
وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.
وهذا أنموذج على حكمته في الدعوة، ورفقه بالمدعوين ورحمته بالناس، مسلمين وغير مسلمين،قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107]، ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان، في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان ورعاية أحطِّ حيوان، فالله المستعان.
__________
(1) - سنن الترمذى( 1195 ) صحيح
(1/409)
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال : ((دعوه، لا تزرموه))، أي: لا تنهروه، فقال لهم : ((إنما بُعثتم مبشرين، ولم تبعثوا معسرين)) وأرشده برفق وحكمه، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. متفق عليه(1).
__________
(1) - أخرجه البخاري في الوضوء (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرا، ومسلم في الطهارة (285) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس في الحديثين 215/5قول الأعرابي، وإنما أخرجه البخاري في الأدب (6010) عن أبي هريرة مفردا من غير ذكر القصة.
(1/410)
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أُسر ورُبط بسارية المسجد وهو مشرك وسيد قومه عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ، إِنْ تَقْتُلْنِى تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ . حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ . فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ ، فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى مَا قُلْتُ لَكَ .
(1/411)
فَقَالَ « أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ » ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَىَّ ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ . قَالَ لاَ ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .(1).
تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة.
بنيتَ لهم من الأخلاق ركناً ... ... فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
وكان جَنابهم فيها مُهابا ... ........ ... ولَلأخلاق أجدرُ أن تهابا
__________
(1) - صحيح البخارى (4372 )5/215
(1/412)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ :« إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ».(1)، و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سَرَّحَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْخَيْلِ وَقَالَ :« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ بِالأَنْصَارِ ». قَالَ :« اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ فَلاَ يُشْرِفَنَّ لَكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَنَمْتُمُوهُ ». فَنَادَى مُنَادِى : لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ دَخَلَ دَارًا فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ ». وَعَمَدَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ فَدَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَغَصَّ بِهِمْ وَطَافَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ ثُمَّ أَخَذَ بِجَنَبَتَىِ الْبَابِ فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الإِسْلاَمِ.
- زَادَ فِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمِ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ : ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَىِ الْبَابِ فَقَالَ :« مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ ». قَالُوا : نَقُولُ ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٍ رَحِيمٍ قَالَ وَقَالُوا ذَلِكَ ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ». قَالَ فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِى الإِسْلاَمِ"(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (6778 )
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 118)(18738) وفيه إعضال
(1/413)
ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة والبشرية جمعاء هذه الصفحات الناصعة من رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذي يجدون ذكر شمائله في توراة موسى وفي بشارة عيسى، وليعلم من يقفُ وراء الحملات المغرضة ضد الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل، ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع بين عالميته السامية وعولمتهم المأفونة في إهدارٍ للقيم الإنسانية وإزراءٍ بالمثل الأخلاقية.
وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقةَ المثلى للدعوة إلى دينها وإحياء سنة رسولها إحياءً عملياً حقيقياً، لا صوريا وشكلياً؟!
===========
الشمائل المحمدية(1)
إن محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن ميلاده من الأهمية كمثل ميلاد أيّ رجل من الناس، فقد كانت الأرض على موعد بعد أربعين عامًا من مولده مع بعثةٍ هي آخر رسالات الله إلى أهل الأرض، وكان الزمن على موعد مع كلمةِ الله الخاتمة إلى الثقلين الجن والإنس.
بعث الله نبيه محمدًا على فترة من الرسل، ففتح الله بدعوته القلوب، وأنارت رسالته الصدور، وكان للناس كالنهار يأتي بعد الليل، وكالنور يسطع من بعد الظلام.
لقد انطلق نور الدعوة من جوار الكعبة بيت الله الحرام، ليضيء المشارق والمغارب، ولتتحقق دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما الصلاة والسلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]،
وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف:6].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4272) الشمائل المحمدية
(1/414)
كان محمد صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لدعوة إبراهيم، وكان هو التصديق لبشارة عيسى. أيّ نبيٍ كان؟! وأيّ رسول ؟!
إن العبارة لتنحني أمام شمائل هذا النبي وخصاله، وأي عبارة تصلح لترجمة ما كان عليه هذا النبي الكريم؟! وإنه لشرف كبير أن يكون المرء من أتباعه والمقتدين به، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].
لقد تشرف برؤيته وصحبته والإيمان به ونصرته جيلُ الصحابة الكرام، فكانوا شهادة أخرى لنبوته في إيمانهم وإسلامهم وجهادهم، ولكن هذه الصحبة ليست خاصة بهم، فكل مسلم يمكن أن يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها.
إن الصحبة بهذا المعنى مفتوحة لكل الأجيال، فمن فاته أن يراه في الدنيا ويصحبه فيها فإنه يستطيع أن يدرك صحبته وجواره ورؤيته في الجنة.
هذا ميراثه بين الناس: ((كتاب الله وسنتي))، من أخذ بهما أدرك الصحبتين، لا أعني الصحبة الخاصة، فهذه فضيلة لأصحابه الأولين، لا يشاركهم فيها غيرهم، ولكن أقصد الصحبة العامة في الدنيا، والجوار الدائم في الآخرة.
إن رسول الله وإن كان غائبًا بشخصه عنا ـ لأنه مثل غيره من الأنبياء وافاه أجله ـ إلا أنه لم يغب أبدًا بأقواله وأعماله، فهو بيننا في كل وقت، ونحتاج يقظة وانتباهًا لنرى هديه أمامنا وسيرته حولنا وأخلاقه وفضائله عن يميننا وشمالنا.{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
أجل كانت سيرته ملهمة وموجّهة، فيها الشاهد لكل موقف من مواقف الحياة، لا يحتاج المسلمون سوى إلى البحث عنه.
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه،
وهذه لقطات من هذا الخلق القرآني:
(1/415)
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا(1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »(2)..
وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّىْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا » رواه أبو داود(3).
و عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ .. رواه البخاري(4).
__________
(1) - صحيح البخارى (3560 )
(2) - صحيح البخارى (3559 )
(3) - سنن أبى داود (4790 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى (1902 )
(1/416)
و عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ، قَالَ وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا ، قَالَ فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَرَسٍ لأَبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ فَقَالَ « لَمْ تُرَاعُوا ، لَمْ تُرَاعُوا » . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَجَدْتُهُ بَحْرًا » . يَعْنِى الْفَرَسَ . رواه البخاري(1).
و عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِى أُفًّا. قَطُّ وَلاَ قَالَ لِى لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا رواه مسلم(2).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ .. رواه البخاري(3).
و عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لاَ. رواه مسلم(4).
__________
(1) - صحيح البخارى(3040 )- العرى : لا سرج عليه
(2) - صحيح مسلم (6151 )
(3) - صحيح البخارى 32/8 (6102 )
(4) - صحيح مسلم -(6158 )
(1/417)
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيَّ - وَكَانَ وَصَّافًا - عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخْمًا مُفَخَّمًا ، يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَأَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ ، وَأَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ عَظِيمَ الْهَامَةِ ، رَجِلَ الشَّعْرِ ، إِذَا تَفَرَّقَتْ عَقِيصَتُهُ فَرَقَ فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ ، إِذَا هُوَ وَفْرُهُ ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ ، وَاسِعَ الْجَبِينِ ، أَزَجَّ الْحَوَاجِبِ ، سَوَابِغَ مِنْ غَيْرِ قَرْنٍ بَيْنَهُمَا عِرْقٌ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ ، أَقْنَى الْعِرْنِينِ ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ ، يَحْسَبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ ، كَثَّ اللِّحْيَةِ ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ ، ضَلِيعَ الْفَمِ ، أَشْنَبَ ، مُفَلَّجَ الْأَسْنَانَ ، دَقِيقَ الْمَسْرَبَةِ ، كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدَ دِمْنَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ ، مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ بَادِنَ مُتَمَاسِكَ ، سَوَاءٌ الْبَطْنُ وَالصَّدْرُ ، عَرِيضَ الصَّدْرِ ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدَ ، مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ ، عَارِيَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ ، أَشَعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِيَ الصَّدْرِ طَوِيلَ الزَّنْدَيْنِ ، رَحْبَ الرَّاحَةِ ، سَبْطَ الْقَصَبِ ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ ، سَائِرَ الْأَطْرَافِ ، خُمْصَانَ الْأَخْمَصَيْنِ ، مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ ،إِذَا
(1/418)
زَالَ زَالَ قُلَعًا ، وَتَخَطَّى تَكَفِيًّا ، وَيَمْشِي هَوْنًا ، ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا ، خَافِضَ الطَّرْفِ ، نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ ، يَبْدُرُ مَنْ لَقِيَ بِالسَّلَامِ . قُلْتُ : صِفْ لِي مَنْطِقَهُ . قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ ، لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ ، طَوِيلَ الصَّمْتِ يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ، فَصْلٌ لَا فُصُولٌ وَلَا تَقْصِيرٌ ، دَمِثٌ لَيْسَ بِالْجَافِي وَلَا الْمُهِينِ ، يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْءٌ، لَا يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ ، وَلَا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا وَلَا مَا كَانَ لَهَا ، فَإِذَا نُوزِعَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ ، لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا ، إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا ، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا ، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا فَيَضْرِبُ بِبَاطِنِ رَاحَةِ الْيُمْنَى بَاطِنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى ، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ، وَإِذَا ضَحِكَ غَضَّ طَرْفَهُ ، جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ ، وَيَفْتُرُ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ .
(1/419)
فَكَتَمَهَا الْحُسَيْنُ زَمَانًا ، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ وَوَجَدْتُهُ قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مُدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمُخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا . قَالَ الْحُسَيْنُ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ نَفْسَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ : جُزْءٌ لِلَّهِ وَجُزْءٌ لِأَهْلِهِ وَجُزْءٌ لِنَفْسِهِ . ثُمَّ جَزَّأَ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ ، فَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا ، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ ، وَقَسْمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ ، فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيُلَائِمُهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ ، وَيَقُولُ : " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، وَأَبْلِغُوا فِي حَاجَةٍ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا إِيَّاهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَاكَ ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ ، يَدْخُلُونَ رُوَّادًا وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَذِلَّةً .
(1/420)
قَالَ : فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَزِّنُ لِسَانَهُ إِلَّا مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُفَرِّقُهُمْ أَوْ قَالَ : وَلَا يُنَفِّرُهُمْ ، فَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ ،وَيَحْذَرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ سِرَّهُ وَلَا خُلُقَهُ ، يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ ، وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ وَيُقَوِّيهِ ، وَيُقَبِّحُ الْقُبْحَ وَيُوهِنُهُ ، مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ، لَا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَمِيلُوا ، لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ ، لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُهُ ، الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ ، أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ نَصِيحَةً ، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وَمُؤَازَرَةً .
(1/421)
فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجْلِسُ وَلَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ ، وَلَا يُوَطِّنُ الْأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ ، لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَصَرِّفَ ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطَةٌ وَخِلْقَةٌ ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً ، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ ، لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ ، وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ وَلَا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ ، مُتَعَادِلِينَ مُتَوَاصِينَ فِيهِ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ ، يُوَقِّرُونَ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ وَيُؤْثِرُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ .
(1/422)
قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي جُلَسَائِهِ ؟ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الْبِشْرِ ، سَهْلَ الْخُلُقِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا فَاحِشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَزَّاحٍ ، يَتَغَافَلُ عَمًّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُؤْنَسُ مِنْهُ وَلَا يُخَيِّبُ فِيهِ ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : الْمِرَاءُ وَالْإِكْبَارُ وَمِمَّا لَا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا وَلَا يُعَيِّرُهُ وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ ، مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتِهِمْ ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْهَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُوهُمْ وَيَقُولُ : " إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ فَأَرْشِدُوهُ " . وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَهُ فَيَقْطَعَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ .
(1/423)
قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ ؟ قَالَ : كَانَ سُكُوتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَرْبَعٍ : عَلَى الْحِلْمِ وَالْحَذَرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّفَكُّرِ ، فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تَسْوِيَتِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِمَاعَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَأَمَّا تَذَكُّرُهُ - أَوْ قَالَ : تَفَكُّرُهُ - فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى ، وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ فِي الصَّبْرِ فَكَانِ لَا يُوصِبُهُ وَلَا يَسْتَفِزُّهُ ، وَجُمِعَ لَهُ الْحَذَرُ فِي أَرْبَعٍ : أَخْذُهُ بِالْحُسْنَى لِيَقْتَدُوا بِهِ ، وَتَرْكُهُ الْقَبِيحَ لِيَنْتَهُوا عَنْهُ ، وَإِجْهَادُهُ الرَّأْيَ فِيمَا يُصْلِحُ أُمَّتَهُ ، وَالْقِيَامُ فِيمَا يَجْمَعُ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .(1).
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 26)(17868 )وفيه جهالة
قَالَ عَلِيُّ بن عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ، يَقُولُ: قَوْلُهُ: فَخْمًا مُفَخَّمَا الْفَخَامَةِ فِي الْوَجْهِ نُبْلُهُ وَامْتِلاؤُهُ مَعَ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ. وَالْمَرْبُوعُ الَّذِي بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَالْمَشْذُوبُ الْمُفْرَطُ فِي الطُّولِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي كُلِّ شَئٍ، قَالَ جَرِيرُ: أَلْوِي بِهَا شَذَبَ الْعُرُوقِ مُشَذَّبُ فَكَأَنَّمَا وَكُنْتُ عَلَى طِرْبَالِ وَقَوْلُهُ: رَجُلُ الشَّعْرِ الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ بِالسِّبْطِ الَّذِي لا تُكْسَرُ فِيهِ وَالْقَطِطِ الشَّدِيدِ الْجَعْوَدَةِ، يَقُولُ فَهُوَ جَعْدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ. وَالْعُقَيْصَةُ الشَّعْرُ الْمُعْقُوصُ وَهُوَ نَحْوٌ مِنَ الْمَضْفُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: مَنْ لَبَّدَ أَوْ عَقَّصَ أَوْ ضَفَّرَ فَعَلَيْهِ الْحَلْقُ. وَقَوْلُهُ أَزِجُ الْحَاجِبَيْنِ سَوَابِغٌ، الزَّجَجُ فِي الْحَوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَقَوُّسٌ مَعَ طَولٍ فِي أَطْرَافِهَا وَهُوَ السُّبُوغُ فِيهَا، قَالَ: جَمِيلُ بن مُعَمَّرٍ: إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ قَرْنٍ فَالْقَرْنُ الْتِقَاءُ الْحَاجِبَيْنِ حَتَّى يَتَّصِلا، يَقُولُ فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَبْلَجُ، وَذَكَرَ الأَصْمَعِيُّ، أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَحْسِنُ هَذَا. وَقَوْلُهُ بَيْنَهُمَا عَرَقٌ يَدُّرُهُ الْغَضَبُ، يَقُولُ: إِذَا غَضِبَ دَرَّ الْعَرَقُ الَّذِي بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ دُرُورُهُ غِلْظُهُ وَنَتْوَءَهُ وَامْتِلاءُهُ. وَقَوْلُهُ أَقْنَى الْعَرْنَيْنِ يَعْنِي الأَنْفَ وَالْقَنَا أَنْ يَكُونُ فِيهِ دِقَّةٌ مَعَ ارْتِفَاعٍ فِي قَصَبَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَقْنَى وَامْرَأَةٌ قَنْوَاءُ الأَشَمُّ أَنْ يَكُونَ الأَنْفُ دَقِيقًا لا قَنَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ كَثُّ اللِّحْيَةِ الْكُثُوثَةُ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ غَيْرَ دَقِيقَةٍ وَلا طَوِيلَةٍ وَلَكِنْ فِيهَا كَثَاثَةٌ مِنْ غَيْرِ عَظْمٍ وَلا طُولٍ. وَقَوْلُهُ ضَلِيعُ الْفَمِّ أَحْسَبُهُ يَعْنِي حِلَةً فِي الشَّفَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ أَشْنَبُ الأَشْنَبُ هُوَ الَّذِي فِي أَسْنَانِهِ رِقَّةٌ وَتَحَدُّدٌ، يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَشْنَبٌ وَامْرَأَةٌ شَنْبَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةُ لَعْسِ وَفِي اللِّثَاثِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ وَالْمُفَلَّجُ هُوَ الَّذِي فِي أَسْنَانُهُ تَفَرُّقٌ. وَالْمُسَرَّبَةُ الشَّعْرِ الَّتِي بَيْنَ الطَّلَبَةِ إِلَى السُّرَّةِ. شَعْرٌ يَجْرِي كَالْخَطِّ، قَالَ الأَعْشَى:
الأَنَ لَمَّا ابْيَضَتْ مَسْرَبَتِي وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى خَاتَمِ
وَقَوْلُهُ جِيدُ دُمْيَةٍ، الْجِيدُ الْعُنُقُ، وَالدُّمْيَةُ الصُّورَةُ. وَقَوْلُهُ ضَخْمُ الْكَرَدِيسِ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَرَادِيسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ الْعِظَامُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَظِيمُ الأَلْوَاحِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْكَرَادِيسَ رُؤُوسَ الْعِظَامِ. وَالْكَرَادِيسُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَالزِّنْدَانِ الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ فِي السَّاعِدَيْنِ الْمُتَّصِلانِ بِالْكَفَّيْنِ، وَصَفَهُ بِطُولِ الذِّرَاعِ. سَبْطُ الْقَصَبِ، الْقَصَبُ كُلُّ عَظْمٍ ذِي مُخٍّ مِثْلَ السَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَسُبُوطِهِمَا امْتِدَادِهِمَا، يَصِفُهُ بِطُولِ الْعِظَامِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: جُو عَلَيَّ فِي الْبَرَى قَصَبًا خِدَالا أَرَادَ بِالْبَرَى الأُسْوِرَةَ وَالْخِلاخِلَ وَقَوْلُهُ شَئِنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّ فَيهِمَا بَعْضُ الْغِلْظِ الأَخْمُصُ مِنَ الْقَدَمِ فِي بَاطِنِهَا مَا بَيْنَ صَدْرِهَا وَعَقِبِهَا وَهُوَ الَّذِي لا يَلْصِقُ بِالأَرْضِ مِنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوَسَطِ، قَالَ الأَعْشَى يَصِفُ امْرَأَةً بِإِبْطَائِهَا فِي الْمَشِيِّ: كَأَنَ أَخْمُصُهَا بِالشَّوْكِ مُنْتَعِلٌ وَقَوْلُهُ خُمْصَانُ، يَعْنِي أَنَّ ذَاكَ الْمَوْضِعَ مِنْ قَدَمَيْهِ فِيهِ تَجَافِ عَنِ الأَرْضِ وَارْتِفَاعٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ خُمُوصَةِ الْبَطْنِ وَهِيَ ضُمْرَةٌ، يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ خُمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خُمْصَانَةٌ. وَقَوْلُهُ مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُمَا مَلْسَوَانِ لَيْسَ فِي ظُهُورِهِمَا تَكَسُّرٌ وَلِهَذَا قَالَ: يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءَ، يَعْنِي أَنَّهُ لا ثِيَابَ لِلْمَاءِ عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ إِذَا خَطَا تَكَفَّيَا يَعْنِي التَّمَايُلَ أَخَذَهُ مِنْ تَكَفَّيَا السُّفُنُ وَقَوْلُهُ ذُرَيْعُ الْمِشْيَةِ، يَعْنِي وَاسِعَ الْخُطَا. كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ فِي صَبَبٍ، أَرَاهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ غَاضٌ بَصَرَهُ لا يَرْفَعُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمُنْحَطُّ، ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: خَافِضُ الطَّرْفِ نَظَرُهُ إِلَى الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ نَظَرِهِ السَّمَاءَ. وَقَوْلُهُ إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، يُرِيَدُ أَنَّهُ لا يَلْوِي عُنُقَهُ دُونَ جَسَدِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا بَعْضُ الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ. وَقَوْلُهُ دَمِثٌ، هُوَ اللَّيْنُ السَّهْلُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْرَجُلِ دَمِثٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَنْ يَبُولُ فَمَالَ إِلَى دَمِثٍ وَقَوْلُهُ إِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ: الإِشَاحَةُ الْحَدُّ وَقَدْ يَكُونُ الْحَذَّرُ وَقَوْلُهُ: وَيَفْتُرُ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ، وَالافْتِرَارِ أَنْ تُكَشِّرَ الأَسْنَانَ ضَاحِكًا مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةً، وَحَبُّ الْغَمَامِ الْبَرَدُ شَبَّهَ بِهِ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ، قَالَ جَرِيرٌ: يَجْرِي السُّوَاكُ عَلَى أَغَرٍّ كَأَنَّهُ بَرَدٌ تَحَدَّرَ مِنْ مُتُوَنِ غَمَامِ وَقَوْلُهُ يَدْخُلُونَ رُوَادًا، الرُّوَادُ الطَّالِبُونَ وَأَحَدُهُمْ رَائِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْالرَّائِدُ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُوَقَوْلُهُ لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ، يَعْنِي عِدَّةً وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ. لا يُوطِنُ الأَمَاكِنَ، أَي لا يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ مَوْضِعًا يُعْرَفُ إِنَّمَا يَجْلِسُ حَيْثُ يُمْكِنْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ حَاجَتُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتِهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَمِنْهُ حَدِيثُهُ عَلَيْهِ السَّلامِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُوطِنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوطِنُ الْبَعِيرُ. وَقَوْلُهُ فِي مَجْلِسِهِ لا تُؤَبِّنُ فِيهِ الْحَرِمُ، يَقُولُ لا يُوصَفُ فِيهِ النِّسَاءُ وَمِنْهُ حَدِيثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشِّعْرِ إِذَا أُبْنَتْ فِيهِ النِّسَاءُ.
(1/424)
كان على هذه الأخلاق كلها، وعلى ما هو أعظم منها.
ولقد شهد له ربه بهذه الخصال في كتبه العزيز:{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]،
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران .
هذا هو المبعوث في العرب، أهل العصبية والقبلية والجفاء والخشونة والغلظة؟! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً - ثُمَّ قَالَ - ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ - ثُمَّ قَالَ - أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِى فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِى . فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ . فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ » رواه البخاري(1).
__________
(1) - صحيح البخارى6/70( 4625 )
(1/425)
انظر ما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فالزمه فإنه طريق النجاة ، فعن خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». رواه أبو داود(1).
__________
(1) - سنن أبى داود (4609 )صحيح
النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(1/426)
ولا يخفى على مسلم أن الله سبحانه وتعالى أمر بتعظيم نبيه فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفتح:8، 9]، وتعزيره نصره وتأييده ومنع كل ما يؤذيه، وتوقيره إجلاله وإكرامه وتشريفه، وقد أعطى المولى سبحانه لهذا النبي الكريم من الصفات العالية والأخلاق العظيمة ما يدعو كل مسلم أن يحبه ويعظمه، فهو محمد أي: المحمود عند الله وعند ملائكته، عند أهل أرضه وسمائه، محمود الخصال والصفات.
من نظر في أخلاقه علم أنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل البشر، كان أصدق الناس حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأجودهم كفًا، وأعظمهم عفوًا، وأوفاهم ذمة، وأشدهم تواضعًا. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى التَّوْرَاةِ . قَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا ، وَآذَانًا صُمًّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا .أخرجه البخاري .(1)
===============
بعضُ شمائله ووصاياه(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(2125 ) الحرز : الحصن - سخاب : صيَّاح
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4934)
(1/427)
الأمرُ بالتيسير والرفق
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا »(1).
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.(2)
وعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ ».(3)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ »(4).
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ».(5).
ومن ذلك الحذر من الغضب
__________
(1) - صحيح البخارى (69 )
(2) - صحيح مسلم (687 )- شن : صبه صبا متقطعا
(3) - صحيح مسلم (6763)
(4) - صحيح مسلم (6766 )
(5) - صحيح مسلم (6767 )
(1/428)
قال جل وعلا في بيان بعض أوصاف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (37) سورة الشورى .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ »(1). .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِى . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ »(2)..
ومنه الحلم والأناة
فعَنْ زَارِعٍ وَكَانَ فِى وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلَهُ - قَالَ - وَانْتَظَرَ الْمُنْذِرُ الأَشَجُّ حَتَّى أَتَى عَيْبَتَهُ فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ « إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِى عَلَيْهِمَا قَالَ « بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا ». قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.(3)
ومن ذلك الوصية بالجار
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ »(4).
__________
(1) - صحيح البخارى (6114 )
(2) - صحيح البخارى (6116 )
(3) - سنن أبى داود (5227 ) صحيح -العيبة : مستودع الثياب
(4) - صحيح البخارى (6015 )
(1/429)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ »(1).
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ إِنَّ خَلِيلِى -صلى الله عليه وسلم- أَوْصَانِى « إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ ».(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(3).
الرحمة بالأطفال
__________
(1) - صحيح مسلم (6855)
(2) - صحيح مسلم (6856 )
(3) - صحيح البخارى (6018 )
(1/430)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضى الله عنه - وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ » . ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » .(1).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى (1303)- ظئر : زوج المرضعة غير ولدها- القين : الحداد والصائغ
(2) - صحيح البخارى (1381 )
(1/431)
وعَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ فَائْتِنَا . فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ « إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ » . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ . فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ . فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ »(1).
وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ وَهْىَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا..(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (1284 )- تقعقع : تضطرب وتتحرك
(2) - صحيح مسلم (1241)
(1/432)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ »(1)..
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ »(2).
حنانه وشفقته بالمريض
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنهم - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ « قَدْ قَضَى » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَبَكَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا فَقَالَ « أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ » .(3)
__________
(1) - صحيح البخارى (5997 )
(2) - صحيح البخارى(5998 )
(3) - صحيح البخارى(1304 ) 2/106
الغاشية : جماعة من أهله يغشونه للخدمة وغيرها -قضى : مات
(1/433)
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ ، وَكَانَ مَعَهُ غُلاَمٌ لَهُ أَسْوَدُ ، يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ ، يَحْدُو ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ »(1). ؛ إشارة إلى ما فيهن من الصفاء والنعومة والرقة, وإشارة إلى ضعفهن وقلة تحملهن، ولذا فإنهن يحتجن إلى الرفق والصبر, عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ « مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ »(2).
وكان يحب فاطمة رضي الله عنها حبًا جمًا, عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى ، كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْىُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَرْحَبًا بِابْنَتِى » . ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا ، فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ ،(3)..
__________
(1) - صحيح البخارى (6161 )
(2) - صحيح البخارى(1418 )
(3) - صحيح البخارى (3623 )248/4
(1/434)
قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
خلقه في الوفاء :
مما تحلى به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، من الأخلاق الفاضلة ، والشمائل الطيبة، الوفاء بالعهد ، وأداء الحقوق لأصحابها ، وعدم الغدر ، امتثالاً لأمر الله في كتابه العزيز حيث قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152) سورة الأنعام. وتخلق الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم ظاهر بيّن ، سواء في تعامله مع ربه جل وعلا ، أو في تعامله مع أزواجه ، أو أصحابه ، أو حتى مع أعدائه.
ففي تعامله مع ربه كان صلى الله عليه وسلم وفياً أميناً ، فقام بالطاعة والعبادة خير قيام ، وقام بتبليغ رسالة ربه بكل أمانة ووفاء ، فبيّن للناس دين الله القويم ، وهداهم إلى صراطه المستقيم ، وفق ما جاءه من الله ، وأمره به ، قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل.
(1/435)
وكان وفياً مع زوجاته ، فحفظ لخديجة رضي الله عنها مواقفها العظيمة ، وبذلها السخي ، وعقلها الراجح، وتضحياتها المتعددة ، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها ، وكان يذكرها بالخير بعد وفاتها ، ويصل أقرباءها، ويحسن إلى صديقاتها، وهذا كله وفاءاً لها رضي الله عنها، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ - قَالَتْ - فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا. قَالَ « مَا أَبْدَلَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِى إِذْ كَفَرَ بِى النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِى إِذْ كَذَّبَنِى النَّاسُ وَوَاسَتْنِى بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِى النَّاسُ وَرَزَقَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِى أَوْلاَدَ النِّسَاءِ »(1).
__________
(1) - مسند أحمد(25606){6/118} حسن
(1/436)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تَغْمُرْ يَدَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ، أَوْ حَفِظَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِكَبِيرَةِ السِّنِّ حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:مَا ذَنْبِي أَنْ رَزَقَهَا اللَّهُ مِنِّي الْوَلَدَ، وَلَمْ يَرْزُقْكِ؟ قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا إِلا بِخَيْرٍ.(1)
وكان وفياً لأقاربه
فلم ينس مواقف عمه أبي طالب من تربيته وهو في الثامنة من عمره ، ورعايته له ، فكان حريصاً على هدايته قبل موته ، ويستغفر له بعد موته حتى نهي عن ذلك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِى طَالِبٍ « يَا عَمِّ ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ » .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 320)(18557 ) حسن
(1/437)
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ » . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ :{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة.(1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ « لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِى ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ ، يَغْلِى مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ »(2).
وفيًّا مع أصحابه
__________
(1) - صحيح البخارى(1360 )
(2) - صحيح البخارى (6564 )
الضحضاح : ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار
(1/438)
وكان من وفائه لأصحابه موقفه مع حاطب بن أبي بلتعة مع ما بدر منه حين أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في أشد المواقف خطورة ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ « انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا » . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ صَدَقَكُمْ » .
(1/439)
قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ
»(1).
وفيًّا مع أعدائه
أما وفاؤه لأعدائه فظاهر كما في صلح الحديبة ، حيث كان ملتزماً بالشروط وفياً مع قريش ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لِعَلِىٍّ « اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ». قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِى مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ « اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ». قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لاَتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ». فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا قَالَ « نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ». رواه مسلم(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(3007 ) - العقاص : جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر
(2) - صحيح مسلم (4732 )
(1/440)
وتم إرجاع أبي بصير مع مجيئه مسلماً وفاءاً بالعهد. عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ - وفيه - فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » .
(1/441)
قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ .
(1/442)
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » .
(1/443)
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (2731 و2732 )
(1/444)
وعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِى أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ « انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ». رواه مسلم.(1)
وعدّ صلى الله عليه وسلم نقض العهد، وإخلاف الوعد من علامات المنافقين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » . رواه البخاري(2).
حياؤه صلى الله عليه وسلم :
الحياء خلق إسلامي رفيع يبعث على تجنب القبائح ، ويرغب الإنسان في فعل الحسن، ويمنع من التقصير في حق أصحاب الحقوق. ويكفي لبيان منزلة هذا الخلق في الإسلام ما روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ ». رواه ابن ماجه(3).
والحياء من شعب الإيمان فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ » البخاري .(4)
__________
(1) - صحيح مسلم(4740 )
(2) - صحيح البخارى (33 )
(3) - سنن ابن ماجه(4321 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى (9 )
(1/445)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حياءً وأعظمهم اتصافاً بهذا الخلق الرفيع، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ . أخرجه البخاري.(1)
وكان صلى الله عليه وسلم يستحي من الخالق سبحانه وتعالى ومن الخلق.
__________
(1) - صحيح البخارى (6102 )
(1/446)
أما حياؤه من الخالق جلّ وعلا فهو أكمل الحياء، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِى صَدْرِى ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ . وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِى عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، حَتَّى عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ . فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ » .
(1/447)
قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ . قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِىَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ثُمَّ عُرِجَ بِى حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ » . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً . قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا .
(1/448)
فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْتُهُ . فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهْىَ خَمْسُونَ ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ . فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى . ثُمَّ انْطَلَقَ بِى حَتَّى انْتَهَى بِى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِى مَا هِىَ ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ » رواه البخاري(1).
وأما حياؤه من الناس فأدلته كثيرة منها ما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ « خُذِى فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ « تَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ قَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِى » . فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ . متفق عليه.(2)
فانظر كيف حمله الحياء على الإعراض عن التفصيل في هذا الأمر، حتى تولته أم المؤمنين، لتعلقه بأمور النساء الخاصة.
__________
(1) - صحيح البخارى (349 )
الأسودة : جمع سواد وهو الشخص - الصريف : صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه -ظهرت : علوت
(2) - صحيح البخارى (314 ) ومسلم (774 )-الفرصة : قطعة من قطن أو صوف
(1/449)
ومن الأدلة على حيائه كذلك ما روي عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ بُنِىَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِىءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ قَالَ ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ ، وَبَقِىَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِى الْبَيْتِ ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ » . فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ ، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا ثَلاَثَةُ رَهْطٍ فِى الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَدِيدَ الْحَيَاءِ ، فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِى آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا ، فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (4793 )- الأسكفة : عتبة الباب
(1/450)
وهذا الحديث من أعظم الأدلة على شدة حيائه صلى الله عليه وسلم. فقد حمله الحياء على عدم مواجهة أصحابه بشأن خروجهم، حتى تولى الله تعالى بيان ذلك، إعظاماً لحق نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
حسن خلقه وعشرته :
حسن الخلق،ولين الجانب،وطيب العشرة، صفات أجمع العقلاء على حسنها ، وفضل التخلق بها. وقد توافرت الأدلة الشرعية على مدح الأخلاق الحسنة، والحض عليها ، من ذلك ما روي عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَقَالَ « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا » . رواه البخاري.(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3759 )
(1/451)
وقد كان رسول الله صلى عليه وسلم أحسن الناس سمتاً، وأكملهم خُلُقاً، وأطيبهم عشرة، وقد وصفه سبحانه بذلك فقال :{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، فما من خصلة من خصال الخير إلا ولرسول صلى الله عليه وسلم أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، وقد وصف الصحابة حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة فعن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ كَانَ عَلِىٌّ رضى الله عنه إِذَا وَصَفَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلاَ بِالسَّبِطِ كَانَ جَعْدًا رَجِلاً وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلاَ بِالْمُكَلْثَمِ وَكَانَ فِى الْوَجْهِ تَدْوِيرٌ أَبْيَضُ مُشْرَبٌ أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبُ الأَشْفَارِ جَلِيلُ الْمُشَاشِ وَالْكَتِدِ أَجْرَدُ ذُو مَسْرُبَةٍ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِى فِى صَبَبٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. رواه الترمذي(1).
__________
(1) - سنن الترمذى (3999 ) وهو حسن لغيره
جعد : منقبض الشعر غير منبسطه = الحجونة : الاعوجاج =الحدور : الإسراع من علو إلى سفل =الأدعج : شديد سواد العينين =الأدعج : شديد سواد العينين =الربعة : الرجل بين الطويل والقصير =الرجل : شعره لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما = المتردد : المجتمع القصير=المتردد : المجتمع القصير =السبط : مسترسل الشعر =المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن =المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن =الشثن : الضخم =الشثن : الضخم =المشرب : الذى فى بياضه حمرة =الأشفار : أطراف الأجفان التى ينبت عليها الشعر واحدها شفر =الأشفار : أطراف الأجفان التى ينبت عليها الشعر واحدها شفر
الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن =الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن =المطهم : السمين الفاحش والمدور الوجه = المطهم : السمين الفاحش والمدور الوجه =العريكة : الطبيعة والنفس والمراد حسن الخلق = القطط : شديد جعودة شعر الرأس =القطط : شديد جعودة شعر الرأس =تقلع : مشى كأنه ينحدر والمراد قوة مشيه وأنه يرفع رجليه ولا يمشى اختيالا =الكتد : مجتمع الكتفين من الإنسان =الكتد : مجتمع الكتفين من الإنسان =المكلثم : كثير لحم الخدين والوجه =المكلثم : كثير لحم الخدين والوجه =المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين = المشاش : رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين =الممغط : الطويل المتناهى الطول =الممغط : الطويل المتناهى الطول = تمغط : مد الشىء يستطيله = الأهدب : طويل أو كثير الهدب وهو شعر أشفار العينين =الأهدب : طويل أو كثير الهدب وهو شعر أشفار العينين
(1/452)
ووصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران.
ففي معاشرته لأصحابه من حسن الخلق ما لا يخفي، فقد كان يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويقبل الهدية ممن جادت بها نفسه و يكافئ عليها. وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقدهم ويعودهم، ويعطي كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية و الاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان ولا يواجه أحداً منهم بما يكره. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِى أُفًّا. قَطُّ وَلاَ قَالَ لِى لِشَىْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا(1).
وذكر عبد الله بن جرير البجلي رضي الله عنه معاملة النبي صلى الله عليه وسلم له فعَنْ جَرِيرٍ قَالَ مَا حَجَبَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِى إِلاَّ تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى. وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّى لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى وَقَالَ « اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ».(2)، ومعنى قوله ما حجبني: أي ما منعني الدخول عليه متى ما أردت ذلك. وهذا الذي ذكرناه من حسن خلقه وعشرته قليل من كثير وغيض من فيض
هديهُ صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه :
__________
(1) - صحيح مسلم (6151 )
(2) - صحيح مسلم (6519 )
(1/453)
كان صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، وعلى الحصير والبساط و عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَّانَ الْعَنْبَرِىِّ قَالَ حَدَّثَتْنِى جَدَّتَاىَ صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَةُ ابْنَتَا عُلَيْبَةَ - قَالَ مُوسَى بِنْتُ حَرْمَلَةَ - وَكَانَتَا رَبِيبَتَىْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ وَكَانَتْ جَدَّةَ أَبِيهِمَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمُخْتَشِعَ - وَقَالَ مُوسَى الْمُتَخَشِّعَ فِى الْجِلْسَةِ - أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ.(1)
و عََنْ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ، قالَ : لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ كَانَ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إِنَّى لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ يَدَهُ فِي يَدِي قَالَ : فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ وَأَلْقَتْ لَنَا الْجَارِيَةُ وِسَادَةً ، أَوْ قَالَ : بِسَاطًا فَجَلَسْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَتُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُ اللهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَتُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ قَالَ : قُلْتُ : فَإِنِّي مُسْلِمٌ قَالَ : فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَبْشَرَ لِذَلِكَ أَوِ اسْتَنَارَ لِذَلِكَ.(2)
__________
(1) - سنن أبى داود (4849 )حسن - الفَرق : الخوف والفزع
(2) - مسند الطيالسي (1135) وفيه جهالة
(1/454)
وعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِى الْمَسْجِدِ ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى .(1)
هدية صلى الله عليه وسلم في مشيه
عَنْ عَلِىٍّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مُشْرَبٌ وَجْهُهُ حُمْرَةً طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤاً كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ -صلى الله عليه وسلم-.(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِى فِى وَجْهِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرَعَ فِى مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.(3)
ضحك النبي صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - صحيح البخارى (475 )
(2) - مسند أحمد(757) حسن لغيره
المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن = الشثن : الضخم = الصبب : النزول من موضع منحدر والمراد أنه قوى البدن =الكراديس : جمع الكردوس وهو كل عظم تام ضخم والكراديس رءوس العظام
(3) - مسند أحمد (9178) صحيح = المكترث : المبالي المهتم
(1/455)
محمد عليه الصلاة والسلام يضحك، نعيش معه ضاحكاً، كما عشنا معه وهو باكٍ متأثر خاشع لله - عز وجل-. من الذي أضحكه ؟ إنه الله الواحد الأحد، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم.وماله لا يضحك عليه الصلاة والسلام ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح؟. لقد عشنا معه عليه الصلاة والسلام في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه وينجرح فؤاده، ونعيش معه وهو يهشّ للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
(1/456)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ - وَهُوَ الَّذِى بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ يُفَقِّهُ النَّاسَ - أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ رَكِبَ يَوْماً عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورٌ رَسَنُهُ مِنْ لِيفٍ ثُمَّ قَالَ « ارْكَبْ يَا مُعَاذُ ». فَقُلْتُ سِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « ارْكَبْ ». فَرَدَفْتُهُ فَصُرِعَ الْحِمَارُ بِنَا فَقَامَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَضْحَكُ وَقُمْتُ أَذْكُرُ مِنْ نَفْسِى أَسَفاً ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَرَكِبَ وَسَارَ بِنَا الْحِمَارُ فَأَخْلَفَ يَدَهُ فَضَرَبَ ظَهْرِى بِسَوْطٍ مَعَهُ - أَوْ عَصاً - ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ». فَقُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ». قَالَ ثُم سَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَخْلَفَ يَدَهُ فَضَرَبَ ظَهْرِى فَقَالَ « يَا مُعَاذُ يَا ابْنَ أُمِّ مُعَاذٍ هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ » ..(1)
__________
(1) - مسند أحمد (22724) حسن - الرسن : الحبل الذي تقاد به الدابة
(1/457)
وعَنْ عَلِىِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - وَأُتِىَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ (سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ « إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِى ».(1)
__________
(1) - سنن أبى داود(2604 ) صحيح
(1/458)
عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِىُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُمَارُونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَهَلْ تُمَارُونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ . قَالَ « فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ . فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا . فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ . وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ » . قَالُوا نَعَمْ .
(1/459)
قَالَ « فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ ، قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا ، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا . فَيَقُولُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ . فَيُعْطِى اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ قَدِّمْنِى عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ .
(1/460)
فَيَقُولُ فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ . فَيُعْطِى رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا ، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ . فَيَقُولُ اللَّهُ وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِى أَشْقَى خَلْقِكَ . فَيَضْحَكُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِى دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ تَمَنَّ . فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا . أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِىُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ لأَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنهما - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ قَوْلَهُ « لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ « ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (806 )الذكاء : لهب النار واشتعالها = قشبني : سمني وأهلكني = امتحشوا : احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام
(1/461)
وعن مُجَاهِدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ ، مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لِى ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى » .
(1/462)
قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ، فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
(1/463)
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى » . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ ..(1)
مزاحه ومداعبته صلى الله عليه وسلم :
المزاح والمداعبة شيء محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على النشاط والإقبال على الأعمال بجد وطاقة ، ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط الشرع ، ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن النفس يعتريها السآمة والملل ، فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على أهمية المزاح والحاجة إليه ، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل ، فقد كان صلى الله عليه وسلم ، يمازح أصحابه ، ويداعب أهله ، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم جزءاً من وقته ، ويعاملهم بما يطيقون ويفهمون. فعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا ذَا الأُذُنَيْنِ ». رواه أبو داود(2).
__________
(1) - صحيح البخارى8/121 (6452 )
(2) - سنن أبى داود (5004 ) صحيح
(1/464)
و عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِى. قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ ». قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ »..(1)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا " رواه البخاري .(2)
وعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ - قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ أَصْبِرْنِى. فَقَالَ « اصْطَبِرْ ». قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَىَّ قَمِيصٌ.فَرَفَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ قَالَ إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.(3)
__________
(1) - سنن أبى داود (5000 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى (6203 )- النغير : تصغير نغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار
(3) - سنن أبى داود (5226 ) صحيح
(1/465)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ فَقَالَ « أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ ».فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَىْءٌ فَغَاضَبَنِى فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لإِنْسَانٍ « انْظُرْ أَيْنَ هُوَ ». فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ « قُمْ أَبَا التُّرَابِ قُمْ أَبَا التُّرَابِ ».(1)
أما مزاحه مع أهله ، ومداعبته لزوجاته ، وبناته ، فكان لهم نصيب وافر من خلقه العظيم في هذا الجانب المهم ، فكان يسابق عائشة رضي الله عنها ، ويقر لعبها مع صواحبها فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِى .. رواه البخاري .(2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَىَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِى فَقَالَ « هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ».(3)
__________
(1) - صحيح مسلم (6382 ) = يقيل : ينام وقت القيلولة
(2) - صحيح البخارى (6130 )
(3) - سنن أبى داود(2580 ) صحيح
(1/466)
أما بالنسبة للصغار ، واعتنائه صلى الله عليه وسلم بهم، ومداعبته لهم ، فيظهر واضحاً جلياً فيما ورد مع الحسن و الحسين رضي الله عنهما ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ صَلاَتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا. قَالَ أَبِى فَرَفَعْتُ رَأْسِى وَإِذَا الصَّبِىُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِى فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ صَلاَتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ « كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِى ارْتَحَلَنِى فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَاجَتَهُ ». رواه النسائي(1)
زهده صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - سنن النسائى (1149 ) صحيح
(1/467)
الزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء ، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور فأعرض عنه وتركه زهدا فيه , وأما من لم يتيسر له ذلك فلا يقال إنه زهد فيه ، ولذلك قال كثير من السلف : إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس رحمة على الله الجميع ، وقال مالك بن دينار عن نفسه : الناس يقولون مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أي إنه هو الزاهد حقيقة فإن الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا , وأقلهم رغبة فيها ، مكتفياً منها بالبلاغ ، راضياً فيها بحياة الشظف ، ممتثلاً قول ربه عز وجل : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، ومع أنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى الله له الجبال ذهباً وفضة .
وعن خَيْثَمَة؛ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يُعطى أحد من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله؟ فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } (الفرقان 10)(1)،
__________
(1) - رواه الطبري في تفسيره (18/140) وتفسير ابن أبي حاتم (13951) وهو صحيح مرسل
(1/468)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَلَكًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مَعَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ الْمَلَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا فَالْتَفَتَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَوَاضَعْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا ». قَالَ فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا حَتَّى لَقِىَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.(1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ » .
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 49)(13708)حسن
(1/469)
قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا ، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ ، إِلاَّ شَيْئًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا » . عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ . ثُمَّ مَشَى فَقَالَ « إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » . ثُمَّ قَالَ لِى « مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » . ثُمَّ انْطَلَقَ فِى سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِى « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِى ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ ، فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ « وَهَلْ سَمِعْتَهُ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِى فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » رواه البخاري(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».(2)
__________
(1) - صحيح البخارى 8/118 (6444 )
(2) - صحيح مسلم (2474 )
(1/470)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ ، وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ ، فَتَبَرَّزَ ، ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) قَالَ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ . ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُمْ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى فَرَاجَعَتْنِى فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُرَاجِعْنَهُ ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ .
(1/471)
فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ . ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا أَىْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ . فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَهْلِكِى لاَ تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ عُمَرُ وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا ، فَنَزَلَ صَاحِبِى الأَنْصَارِىُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ . قُلْتُ مَا هُوَ ، أَجَاءَ غَسَّانُ قَالَ لاَ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ ، طَلَّقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ . فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ، فَجَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَشْرُبَةً لَهُ ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا ، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِىَ تَبْكِى فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لاَ أَدْرِى هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِى الْمَشْرُبَةِ .
(1/472)
فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِى بَعْضُهُمْ ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِى فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ الْغُلاَمُ فَكَلَّمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كَلَّمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرْتُكَ لَهُ ، فَصَمَتَ . فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ . فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَىَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ . فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا - قَالَ - إِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِى فَقَالَ قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ . فَرَفَعَ إِلَىَّ بَصَرَهُ فَقَالَ « لاَ » . فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ .
(1/473)
ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِى ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِى وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَسُّمَةً أُخْرَى ، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى فِى بَيْتِهِ ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ ، فَإِنَّ فَارِسًا وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ . فَجَلَسَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ مُتَّكِئًا . فَقَالَ « أَوَفِى هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِى . فَاعْتَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ « مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا » .
(1/474)
مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا ، وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا . فَقَالَ « الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ » . فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِى أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ .(1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشاً أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ « مَا لِى وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ».(2)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَدَمٍ ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ .(3)
__________
(1) - صحيح البخارى 7/38 (5191 )
الأهبة : جمع إهاب وهو الجلد قبل الدباغ =المشربة : الغرفة العالية
(2) - مسند أحمد (2796)صحيح
(3) - صحيح البخارى (6456)
(1/475)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِى ، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ . فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتِ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَلْبَانِهِمْ ، فَيَسْقِينَا .(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا أَشْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَهْلَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.(2)
و عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ . قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ .(3)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخِى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا ، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً .(4)
__________
(1) - صحيح البخارى (2567 )
المنائح : جمع منيحة وهى الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها
(2) - صحيح مسلم (7648 )
(3) - صحيح البخارى (5386 ) =السكرجة : إناء صغير يؤكل فيه القليل من الطعام
(4) - صحيح البخارى 4/3(2739 )
(1/476)
و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى ، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ .(1)
عدل النبي صلى الله عليه وسلم :
العدل خلق كريم وصفة عظيمة جليلة ، محببة إلى النفوس ، تبعث الأمل لدى المظلومين ، ويحسب لها الظالمون ألف حساب ، فالعدل يعيد الأمور إلى نصابها ، وبه تؤدَّى الحقوق لأصحابها ، به يسعد الناس ، وتستقيم الحياة ، ما وجد العدل في قوم إلا سعدوا ، وما فقد عند آخرين إلا شقوا .
والعدل خلق العظماء ، وصفة الأتقياء ، ودأب الصالحين ، وطريق الفلاح للمؤمنين في الدنيا ويوم الدين .
تحلى به الأنبياء والصالحون والقادة والمربون ، وكان أعظمهم في ذلك ،وأكثرهم قدراً ونصيباً سيد العالمين ، وخاتم الرسل أجمعين ، محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم. فالعدل خلق من أخلاقه ، ضمن شمائله العظيمة ، وصفاته الجليلة ، عدل في تعامله مع ربه جل وعلا ، وعدل في تعامله مع نفسه ، وعدل في تعامله مع الآخرين ، من قريب أو بعيد ، ومن صاحب أو صديق ، ومن موافق أو مخالف ، حتى العدو المكابر، له نصيب من عدله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا يعدل من خوطب بقول واضح مبين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة ، فكان يمتثل أمر الله عز وجل في كل شأن من شؤونه ، مع أصحابه وأعدائه ، آخذاً بالعدل مع الجميع. يعترض عليه القوم ويخطئ في حقه أناس ، فلا يتخلى عن العدل ، بل يعفو ويصفح ،
__________
(1) - صحيح البخارى (3097 )
(1/477)
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَعَثَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِىُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِىُّ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ الْعَامِرِىُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِى كِلاَبٍ وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِىُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِى نَبْهَانَ - قَالَ - فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا أَتُعْطِى صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَتَدَعُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لأَتَأَلَّفَهُمْ » فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِى » قَالَ ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِى قَتْلِهِ - يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ».(1)
__________
(1) - صحيح مسلم -(2499 )
الصناديد : جمع صنديد وهو كل عظيم شريف رئيس متغلب = الضئضئ : النسل =الكث : الكثيف =الناتئ : المرتفع
(1/478)
ويظهر هذا الخلق العظيم منه صلى الله عليه وسلم في أبهى صورة ، عندما يطلب ممن ظن أنه أخطأ في حقه ، أن يستوفي حقه ، بالقود منه ، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ شَيْئاً أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَعَالَ فَاسْتَقِدْ ». قَالَ قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.(1)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنِى سَوَادُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ بِخَلُوقٍ فَلَمَّا رَآنِى قَالَ لِى :« يَا سَوَادُ بْنَ عَمْرٍو خَلُوقُ وَرْسٍ أَوَلَمْ أَنْهَ عَنِ الْخَلُوقِ؟ ». وَنَخَسَنِى بِقَضِيبٍ فِى يَدِهِ فِى بَطْنِى فَأَوْجَعَنِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقِصَاصَ قَالَ الْقِصَاصَ فَكَشَفَ لِى عَنْ بَطْنِهِ فَجَعَلْتُ أُقَبِّلُهُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدَعُهُ شَفَاعَةً لِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(2)
__________
(1) - مسند أحمد(11531)حسن لغيره
العرجون : العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج =استقد : اقتص =أكب : التزم
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 48)(16442)حسن
(1/479)
والعدل ملازم للرسول صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله ، فهو يكره التميز على أصحابه ، بل يحب العدل والمساواة ، وتحمل المشاق والمتاعب مثلهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلاَثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ زَمِيلَىْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَقَالاَ نَحْنُ نَمْشِى عَنْكَ. فَقَالَ « مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّى وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا ».(1)
ولم ينشغل صلى الله عليه وسلم بالدولة وقيادتها ، والغزوات وكثرتها ، عن ممارسة العدل في نطاق الأسرة الكريمة ، وبين زوجاته أمهات المؤمنين ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ».(2)و عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري(3).
__________
(1) - مسند أحمد (3978) صحيح
(2) - سنن الترمذى (1170 ) صحيح لغيره
وَمَعْنَى قَوْلِهِ « لاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ». إِنَّمَا يَعْنِى بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ كَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(3) - صحيح البخارى (2593 )
(1/480)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِى قَصْعَةٍ فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « طَعَامٌ بِطَعَامٍ وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ ».(1)
وفي قضائه بين المتخاصمين كان عادلاً صلى الله عليه وسلم ، بعيداً عن الحيف والظلم ، فعَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِمْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِى حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ. رواه أبو داود(2).
وكان صلى الله عليه وسلم لا يرضى تعطيل حدود الله ، التي شرعها سبحانه لإقامة العدل بين الناس ، ولو كان الجاني من أقربائه وأحبابه ، ففي حادثة المرأة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة ،
__________
(1) - سنن الترمذى (1410 )و قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وهو كما قال .
(2) - سنن أبى داود (3571 )صحيح
(1/481)
فعَنَ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ».(1)
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالعدل في الأمور ، وعدم تغليب جانب على حساب آخر ، وإنما الموازنة وإعطاء كل ذي حق حقه ، فعن سَعِيدَ بْنِ مِينَاءَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بَلَغَنِى أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَلاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا صُمْ وَأَفْطِرْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِى قُوَّةً. قَالَ « فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ». فَكَانَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ. رواه مسلم.(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (4505 )
(2) - صحيح مسلم (2800 )
(1/482)
وبهذا الخلق العظيم ، والأدب الرفيع ، استطاع صلى الله عليه وسلم ، أن يلفت الأنظار نحوه ، ويحرك المشاعر والأحاسيس إلى مبادئه العظيمة ، ويرسم منهاجاً فريداً لخير أمة أخرجت للناس ، تحمل العدل إلى الناس أجمعين ، وتبدد به ظلمات القهر والظلم . ...
- - - - - - - - - - - - - - -
الدروس والعبر
1- إن الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح، وصفة الأمانة والصدق في التجارة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي رغبت السيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به ويسافر به إلى الشام، فبارك الله لها في تجارتها، وفتح الله لها من أبواب الخير ما يليق بكرم الكريم.
2- إن التجارة مورد من موارد الرزق التي سخرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد تدرب النبي صلى الله عليه وسلم على فنونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التاجر الصدوق الأمين في هذا الدين يُحشر مع الصديقين والشهداء والنبيين، وهذه المهنة مهمة للمسلمين ولا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين واستعبادهم وقهرهم وإذلالهم، فهو ليس في حاجة إليهم، بل هم في حاجة إليه وبحاجة إلى خبرته وأمانته وعفته.
3- كان زواج الحبيب المصطفى من السيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة وتعيش همومه(1).
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/122، 123). (2) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75.
(1/483)
قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وخديجة مثلٌ طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبًا شديدة الحساسية، ويلقون غَبنا بالغًا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم(1).
4- نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق مرارة فقْد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله -وله الحكمة البالغة- ألا يعيش له صلى الله عليه وسلم أحد من الذكور حتى لا يكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلا لفطرته البشرية، وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا ينتقص النبي في كمال رجولته شانئ، أو يتقول عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضا ليكون ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقون ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء(2)، وكأن الله أراد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الرقة الحزينة جزءًًا من كيانه؛ فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت، إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين ومداواة المجروحين(3).
__________
(1) - انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75.و السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 84)
(2) - انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/223، 224).
(3) - انظر: فقه السيرة، للغزالي ص78.
(1/484)
5- يتضح للمسلم من خلال قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، عدم اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية الشباب لطمع بمن هي أقل منه سنًا، أو بمن لا تفوقه في العمر، وإنما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم لشرفها ومكانتها في قومها، فقد كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
6- وفي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام وقوة سلطانه، من المستشرقين وعبيدهم العلمانيين، الذين ظنوا أنهم وجدوا في موضوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم مقتلا يصاب منه الإسلام، وصوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل الشهواني الغارق في لذاته وشهواته، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله، كما أنه تزوج من امرأة لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله، وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في سن الشيوخ، وقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في هذه الفترة بأن يضم إلى خديجة مثلها من النساء: زوجة أو أمة، ولو أراد لكان الكثير من النساء والإماء طوع بنانه.
(1/485)
أما زواجه بعد ذلك من السيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب، يزيدان في إيمان المسلم بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورفعة شأنه وكمال أخلاقه(1).
7- إنَّ طريقة فض التنازع كانت موفقة وعادلة، ورضي بها الجميع وحقنت دماء كثيرة، وأوقفت حروبًا طاحنة، وكان من عدل حكمه أن رضيت به جميع القبائل، ولم تنفرد بشرف وضع الحجر قبيلة دون الأخرى، وهذا من توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وتسديده قبل البعثة، إن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا كان قدرًا من الله، لحل هذه الأزمة المستعصية، التي حُلت نفسيًّا قبل أن تحل على الواقع، فقد أذعن الجميع لما يرتضيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو الأمين الذي لا يظلم وهو الأمين الذي لا يحابي ولا يفسد، وهو الأمين على البيت والأرواح والدماء.(2)
8- إن حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الأدبية في الوسط القرشي(3)، وحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة شرفان، شرف فصل الخصومة ووقف القتال المتوقع بين قبائل قريش، وشرف تنافس عليه القوم وادخره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا وهو وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين، وأخذه من البساط بعد رفعه ووضعه في مكانه من البيت(4).
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص53، 54.
(2) - انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص125.
(3) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/116).
(4) - انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص125، 126.
(1/486)
9- إن المسلم يجد في حادثة تجديد بناء الكعبة كمال الحفظ الإلهي، وكمال التوفيق الرباني في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يلاحظ كيف أن الله أكرم رسوله بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأقرب طريق وأسهله، وذلك ما تراه في حياته كلها صلى الله عليه وسلم وذلك معلم من معالم رسالته، فرسالته إيصال للحقائق بأقرب طريق، وحل للمشكلات بأسهل أسلوب وأكمله(1).
10- تهيئة الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
شاءت حكمة الله تعالى أن يعد الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمور منها:
* بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم:
دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يبعث في العرب رسولاً منهم، فأرسل محمدًا إجابة لدعوته، قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ } [البقرة: 129] وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أنزل البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء السابقين فقال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } [الأعراف: 157].
وبشر به عيسى عليه السلام، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6].
__________
(1) - انظر: الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية (1/175).
(1/487)
وأعلم الله تعالى جميع الأنبياء ببعثته، وأمرهم بتبليغ أتباعهم بوجوب الإيمان به، واتباعه إن هم أدركوه(1)كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81].
* بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:
__________
(1) - انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص101، 102.
(1/488)
عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَا صَدِيقَيْنِ لِزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَتَيَاهُ لِيُكَلِّمَ لَهُمَا سَلْمَانَ أَنْ يُحَدِّثَهُمَا حَدِيثَهُ كَيْفَ كَانَ إِسْلامُهُ ، فَأَقْبَلا مَعَهُ حَتَّى لَقُوا سَلْمَانَ ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ أَمِيرًا عَلَيْهَا ، وَإِذَا هُوَ عَلَى كُرْسِيٍّ قَاعِدٍ ، وَإِذَا خُوصٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُسَفِّهُ ، قَالاَ : فَسَلَّمْنَا وَقَعَدْنَا ، فقال له زيد يا أبا عبد الله ، إن هذين لِي صَدِيقَانِ وَلَهُمَا أَخٌ ، وَقَدْ أَحَبَّا أَنْ يَسْمَعَا حَدِيثَكَ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِسْلامِكَ ؟ قَالَ : فَقَالَ سَلْمَانُ : كُنْتُ يَتِيمًا مِنْ رَامَ هُرْمُزَ ، وَكَانَ ابْنُ دِهْقَانَ رَامَ هُرْمُزَ يَخْتَلِفُ إِلَى مُعَلَّمٍ يُعَلِّمُهُ ، فَلَزِمْتُهُ لأَكُونَ فِي كَنَفِهِ ، وَكَانَ لِي أَخٌ أَكْبَرَ مِنِّي وَكَانَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ ، وَكُنْتُ غُلامًا قَصِيرًا ، وَكَانَ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ تَفَرَّقَ مَنْ يُحَفِّظُهُمْ ، فَإِذَا تَفَرَّقُوا خَرَجَ فَيَضَعُ بِثَوْبِهِ ، ثُمَّ صَعِدَ الْجَبَلَ ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مُتَنَكِّرًا ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، فَلِمَ لاَ تَذْهَبُ بِي مَعَكَ ؟ قَالَ : أَنْتَ غُلامٌ ، وَأَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكَ شَيْءٌ ، قَالَ : قُلْتُ : لاَ تَخَفْ ، قَالَ : فَإِنَّ فِي هَذَا الْجَبَلِ قَوْمًا فِي بِرْطِيلِهِمْ لَهُمْ عِبَادَةٌ ، وَلَهُمْ صَلاحٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيَذْكُرُونَ الآخِرَةَ ، وَيَزْعُمُونَنَا عَبَدَةَ النِّيرَانِ ، وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ ، وَأَنَا عَلَى دِينِهِمْ ، قَالَ : قُلْتُ : فَاذْهَبْ بِي مَعَكَ إِلَيْهِمْ ، قَالَ : لاَ أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَسْتَأْمِرُهُمْ ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ
(1/489)
يَظْهَرَ مِنْكَ شَيْءٌ ، فَيَعْلَمُ أَبِي فَيُقْتَلُ الْقَوْمَ فَيَكُونُ هَلاكُهُمْ عَلَى يَدِي ، قَالَ : قُلْتُ : لَنْ يَظْهَرَ مِنِّي ذَلِكَ ، فَاسْتَأْمِرْهُمْ ، فَأَتَاهُمْ ، فَقَالَ : غُلامٌ عِنْدِي يَتِيمٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَأْتِيَكُمْ وَيَسْمَعَ كَلامَكُمْ ، قَالُوا : إِنْ كُنْتَ تَثِقُ بِهِ ، قَالَ : أَرْجُو أَنْ لاَ يَجِيءَ مِنْهُ إِلاَّ مَا أُحِبُّ ، قَالُوا : فَجِيءَ بِهِ ، فَقَالَ لِي : لَقَدِ اسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ تَجِيءَ مَعِي ، فَإِذَا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي رَأَيْتُنِي أَخْرَجُ فِيهَا فَأْتِنِي ، وَلا يَعْلَمُ بِكَ أَحَدٌ ، فَإِنَّ أَبِي إِنْ عَلِمَ بِهِمْ قَتَلَهُمْ ، قَالَ : فَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي يَخْرُجُ تَبِعْتُهُ فَصَعِدْنَا الْجَبَلَ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ ، فَإِذَا هُمْ فِي بِرْطِيلِهِمْ ، قَالَ عَلِيٌّ : وَأُرَاهُ ، قَالَ : وَهُمْ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ، قَالَ : ، وَكَأَنَّ الرُّوحَ قَدْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ يَصُومُونَ النَّهَارَ ، وَيَقُومُونَ اللَّيْلَ ، وَيَأْكُلُونَ عِنْدَ السَّحَرِ ، مَا وَجَدُوا ، فَقَعَدْنَا إِلَيْهِمْ ، فَأَثْنَى الدِّهْقَانُ عَلَى حَبْرٍ ، فَتَكَلَّمُوا ، فَحَمِدُوا اللَّهَ ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ ، وَذَكَرُوا مَنْ مَضَى مِنَ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ حَتَّى خَلَصُوا إِلَى ذِكْرِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ ، فَقَالُوا : بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ رَسُولا وَسَخَّرَ لَهُ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَخَلْقِ الطَّيْرِ ، وَإِبْرَاءِ الأَكْمَهِ ، وَالأَبْرَصِ ، وَالأَعْمَى ، فَكَفَرَ بِهِ قَوْمٌ وَتَبِعَهُ قَوْمٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ ابْتَلَى بِهِ خَلْقَهُ ، قَالَ : وَقَالُوا قَبْلَ ذَلِكَ : يَا غُلامُ ، إِنَّ
(1/490)
لَكَ لَرَبًّا ، وَإِنَّ لَكَ مَعَادًا ، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا ، إِلَيْهِمَا تَصِيرُونَ ، وَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النِّيرَانَ أَهْلُ كُفْرٍ وَضَلالَةٍ لاَ يَرْضَى اللَّهُ مَا يَصْنَعُونَ وَلَيْسُوا عَلَى دِينٍ ، فَلَمَّا حَضَرَتِ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْصَرِفُ فِيهَا الْغُلامُ انْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ مَعَهُ ، ثُمَّ غَدَوْنَا إِلَيْهِمْ ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَأَحْسَنَ ، وَلَزِمْتُهُمْ ، فَقَالُوا لِي : يَا سَلْمَانُ ، إِنَّكَ غُلامٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا نَصْنَعُ فَصَلِّ وَنَمْ وَكُلْ وَاشْرَبْ ، قَالَ : فَاطَّلَعَ الْمَلِكُ عَلَى صَنِيعِ ابْنِهِ فَرَكِبَ فِي الْخَيْلِ حَتَّى أَتَاهُمْ فِي بِرْطِيلِهِمْ ، فَقَالَ : يَا هَؤُلاءِ ، قَدْ جَاوَرْتُمُونِي فَأَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ ، وَلَمْ تَرَوْا مِنِّي سُوءًا فَعَمَدْتُمْ إِلَى ابْنِي ، فَأَفْسَدْتُمُوهُ عَلَيَّ قَدْ أَجَّلْتُكُمْ ثَلاثًا ، فَإِنْ قَدَرْتُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلاثٍ أَحْرَقْتُ عَلَيْكُمْ بِرْطِيلَكُمْ هَذَا ، فَالْحَقُوا بِبِلادِكُمْ ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مِنِّي إِلَيْكُمْ سُوءٌ ، قَالُوا : نَعَمْ ، مَا تَعَمَّدْنَا مُسَاءَتَكَ ، وَلا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ ، فَكَفَّ ابْنُهُ عَنْ إِتْيَانِهِمْ ، فَقُلْتُ لَهُ : اتَّقِ اللَّهِ ، فَإِنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ اللَّهِ ، وَأَنَّ أَبَاكَ وَنَحْنُ عَلَى غَيْرِ دَيْنٍ إِنَّمَا هُمْ عَبْدَةُ النَّارِ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ، فَلا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدَيْنِ غَيْرِكَ ، قَالَ : يَا سَلْمَانُ ، هُوَ كَمَا تَقُولُ : وَإِنَّمَا أَتَخَلَّفُ عَنِ الْقَوْمِ بَغْيًا عَلَيْهِمْ إِنْ تَبِعْتُ الْقَوْمَ طَلَبَنِي أَبِي فِي الْجَبَلِ وَقَدْ خَرَجَ فِي إِتْيَانِي إِيَّاهُمْ حَتَّى طَرَدَهُمْ ،
(1/491)
وَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَأَتَيْتُهُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا فِيهِ ، فَقَالُوا : يَا سَلْمَانُ : قَدْ كُنَّا نَحْذَرُ مَكَانَ مَا رَأَيْتَ فَاتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّينَ مَا أَوْصَيْنَاكَ بِهِ ، وَأَنَّ هَؤُلاءِ عَبْدَةُ النِّيرَانِ لاَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَلا يَذْكُرُونَهُ ، فَلا يَخْدَعَنَّكَ أَحَدٌ عَنْ دِينِكَ قُلْتُ : مَا أَنَا بِمُفَارِقُكُمْ ، قَالُوا : أَنْتَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ مَعَنَا نَحْنُ نَصُومُ النَّهَارَ ، وَنَقُومُ اللَّيْلَ وَنَأْكُلُ عِنْدَ السَّحَرِ مَا أَصَبْنَا وَأَنْتَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : لاَ أُفَارِقَكُمْ ، قَالُوا : أَنْتَ أعْلَمُ وَقَدْ أَعْلَمْنَاكَ حَالَنَا ، فَإِذَا أَتَيْتَ خُذْ مِقْدَارَ حِمْلٍ يَكُونُ مَعَكَ شَيْءٌ تَأْكُلُهُ ، فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ مَا نَسْتَطِيعُ بِحَقٍّ ، قَالَ : فَفَعَلْتُ وَلَقِيَنَا أَخِي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ يَمْشُونَ وَأَمْشِي مَعَهُمْ فَرَزَقَ اللَّهُ السَّلامَةَ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَوْصِلَ فَأَتَيْنَا بِيَعَةً بِالْمَوْصِلِ ، فَلَمَّا دَخَلُوا احْتَفُّوا بِهِمْ ، وَقَالُوا : أَيْنَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا : كُنَّا فِي بِلادٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا عَبَدَةُ النِّيرَانِ ، وَكُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ فَطَرَدُونَا ، فَقَالُوا : مَا هَذَا الْغُلامُ ؟ فَطَفِقُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ ، وَقَالُوا : صَحِبَنَا مِنْ تِلْكَ الْبِلادِ فَلَمْ نَرَ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا ، قَالَ سَلْمَانُ فَوَاللَّهِ : إِنَّهُمْ لَكَذَلِكَ إِذَا طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ كَهْفِ جَبَلٍ ، قَالَ : فَجَاءَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ فَحَفُّوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ أَصْحَابِي الَّذِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ
(1/492)
وَأَحْدَقُوا بِهِ ، فَقَالَ : أَيْنَ كُنْتُمْ ؟ فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا الْغُلامُ مَعَكُمْ ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيَّ خَيْرًا وَأَخْبَرُوهُ بِإِتِّبَاعِي إِيَّاهُمْ ، وَلَمْ أَرَ مِثْلَ إِعْظَامِهِمْ إِيَّاهُ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ أَرْسَلَ مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَا لَقُوا ، وَمَا صَنَعَ بِهِ وَذَكَرَ مَوْلِدَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَأَنَّهُ وُلِدَ بِغَيْرِ ذَكَرٍ فَبَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولا ، وَأَحْيَا عَلَى يَدَيْهِ الْمَوْتَى ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الإِنْجِيلَ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ ، وَبَعْثَهُ رَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَفَرَ بِهِ قَوْمٌ وَآمَنَ بِهِ قَوْمٌ ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا لَقِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَأَنَّهُ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يَعِظُهُمْ ، وَيَقُولُ : اتَّقُوا اللَّهَ وَالْزَمُوا مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ، وَلا تُخَالِفُوا فَيُخَالِفُ بِكُمْ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا شَيْئًا ، فَلْيَأْخُذْ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُومُ فَيَأْخُذُ الْجَرَّةَ مِنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ فَقَامَ أَصْحَابِي الَّذِينَ جِئْتُ مَعَهُمْ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ ، وَقَالَ لَهُمُ : الْزَمُوا هَذَا الدِّينَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَفَرَّقُوا وَاسْتَوْصُوا بِهَذَا الْغُلامِ خَيْرًا ، وَقَالَ لِي : يَا غُلامُ هَذَا دَيْنُ اللَّهِ الَّذِي تَسْمَعُنِي أَقُولُهُ وَمَا سِوَاهُ الْكُفْرُ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا أَنَا
(1/493)
بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ : إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكُونَ مَعِي إِنِّي لاَ أَخْرَجُ مِنْ كَهْفِي هَذَا إِلاَّ كُلَّ يَوْمِ أَحَدٍ ، وَلا تَقْدِرُ عَلَى الْكَيْنُونَةِ مَعِي ، قَالَ : وَأَقْبَلَ عَلى أَصْحَابِهِ ، فَقَالُوا : يَا غُلامُ ، إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ ، قُلْتُ : مَا أَنَا بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : يَا فُلانُ ، إِنَّ هَذَا غُلامٌ وَيُخَافُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي : أَنْتَ أَعْلَمُ ، قُلْتُ : فَإِنِّي لاَ أُفَارِقُكَ ، فَبَكَى أَصْحَابِي الأَوَّلُونَ الَّذِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ عِنْدَ فُرَاقِهِمْ إِيَّايَ ، فَقَالَ : يَا غُلامُ ، خُذْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا تَرَى أَنَّهُ يَكْفِيكَ إِلَى الأَحَدِ الآخَرِ ، وَخُذْ مِنَ الْمَاءِ مَا تَكْتَفِي بِهِ ، فَفَعَلْتُ فَمَا رَأَيْتُهُ نَائِمًا وَلا طَاعِمًا إِلاَّ رَاكِعًا وَسَاجِدًا إِلَى الأَحَدِ الآخَرِ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ، قَالَ لِي : خُذْ جَرَّتَكَ هَذِهِ وَانْطَلِقْ ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ أَتْبَعُهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ، وَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ تِلْكَ الْجِبَالِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ ، فَقَعَدُوا وَعَادَ فِي حَدِيثِهِ نَحْوَ الْمَرَّةِ الأُولَى ، فَقَالَ : الْزَمُوا هَذَا الدِّينَ وَلا تَفَرَّقُوا ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَنِي ، فَقَالُوا لَهُ : يَا فُلانُ كَيْفَ وَجَدْتَ هَذَا الْغُلامَ ؟ فَأَثْنَى عَلَيَّ ، وَقَالَ خَيْرًا : فَحَمِدُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَإِذَا خُبْزٌ كَثِيرٌ ، وَمَاءٌ كَثِيرٌ فَأَخَذُوا وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ مَا يَكْتَفِي بِهِ ، وَفَعَلْتُ ، فَتَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ الْجِبَالِ وَرَجَعَ
(1/494)
إِلَى كَهْفِهِ وَرَجَعْتُ مَعَهُ ، فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَحَدٍ ، وَيَخْرُجُونَ مَعَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ وَيُوصِيهِمْ بِمَا كَانَ يُوصِيهِمْ بِهِ فَخَرَجَ فِي أَحَدٍ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَعِظَهُمْ ، وَقَالَ : مِثْلَ مَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ آخِرَ ذَلِكَ : يَا هَؤُلاءِ إِنَّهُ قَدْ كَبِرَ سِنِّي ، وَرَقَّ عَظْمِي ، وَقَرُبَ أَجَلِي ، وَأَنَّهُ لاَ عَهْدَ لِي بِهَذَا الْبَيْتِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ، وَلا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهِ فَاسْتَوْصُوا بِهَذَا الْغُلامِ خَيْرًا ، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ لاَ بَأْسَ بِهِ ، قَالَ : فَجَزِعَ الْقَوْمُ فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ جَزَعِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا فُلانُ ، أَنْتَ كَبِيرٌ فَأَنْتَ وَحْدَكَ ، وَلا نَأْمَنُ مِنْ أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ يُسَاعِدُكَ أَحْوَجُ مَا كُنَّا إِلَيْكَ ، قَالَ : لاَ تُرَاجِعُونِي ، لاَ بُدَّ مِنَ اتِّبَاعِهِ ، وَلَكِنِ اسْتَوْصُوا بِهَذَا الْغُلامِ خَيْرًا ، وَافْعَلُوا وَافْعَلُوا ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ : يَا سَلْمَانُ قَدْ رَأَيْتَ حَالِي وَمَا كُنْتُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ أَنَا أَمْشِي أَصُومُ النَّهَارَ وَأَقُومُ اللَّيْلَ ، وَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْمِلَ مَعِي زَادًا وَلا غَيْرَهُ وَأَنْتَ لاَ تَقْدِرُ عَلَى هَذَا ، قُلْتُ مَا أَنَا بِمُفَارِقُكَ ، قَالَ : أَنْتَ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَقَالُوا : يَا فُلانُ ، فَإِنَّا نَخَافُ عَلَى هَذَا الْغُلامِ ، قَالَ : فَهُوَ أَعْلَمُ قَدْ أَعْلَمْتَهُ الْحَالَ وَقَدْ رَأَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا ، قُلْتُ : لاَ أُفَارِقُكَ ، قَالَ : فَبَكَوْا وَوَدَّعُوهُ ، وَقَالَ لَهُمُ : اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا عَلَى مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ فَإِنْ أَعِشْ فَعَلَيَّ
(1/495)
أَرْجِعُ إِلَيْكُمْ ، وَإِنْ مِتُّ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ ، وَقَالَ لِي : أَحْمِلُ مَعَكَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ شَيْئًا تَأْكُلُهُ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَلا يَلْتَفِتُ وَلا يَقِفُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى إِذَا أَمْسَيْنَا ، قَالَ : يَا سَلْمَانُ ، صَلِّ أَنْتَ وَنَمْ وَكُلْ وَاشْرَبْ ثُمَّ قَامَ وَهُوَ يُصَلِّي حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ لاَ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَإِذَا عَلَى الْبَابِ مُقْعَدٌ ، فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، قَدْ تَرَى حَالِي فَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ فَجَعَلَ يَتْبَعُ أَمْكَنَةً مِنَ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهَا ، فَقَالَ : يَا سَلْمَانُ إِنِّي لَمْ أَنَمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ أَجِدْ طَعْمَ النَّوْمِ ، فَإِنْ فَعَلْتَ أَنْ تُوقِظَنِي إِذَا بَلَغَ الظِّلُّ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا نِمْتُ ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَنَامَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَإِلا لَمْ أَنَمْ ، قَالَ : قُلْتُ فَإِنِّي أَفْعَلُ ، قَالَ : فَإِذَا بَلَغَ الظِّلُّ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَأَيْقِظْنِي ، إِذَا غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنَامَ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : هَذَا لَمْ يَنَمْ مُذْ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ ذَلِكَ لأَدَعَنَّهُ يَنَامُ حَتَّى يَشْتَفِيَ مِنَ النَّوْمِ ، قَالَ : وَكَانَ فِيمَا يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ يُقْبِلُ عَلَيَّ فَيَعِظُنِي وَيُخْبِرُنِي أَنَّ لِي رَبًّا وَأَنَّ بَيْنَ يَدَيْ جَنَّةً وَنَارًا وَحِسَابًا وَيُعَلِّمُنِي وَيُذَكِّرُنِي نَحْوَ مَا يَذْكُرُ الْقَوْمُ يَوْمَ الأَحَدِ ، حَتَّى قَالَ ،
(1/496)
فِيمَا يَقُولُ : يَا سَلْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَوْفَ يَبْعَثُ رَسُولا اسْمُهُ أَحْمَدُ يَخْرُجُ بِتُهْمَةَ وَكَانَ رَجُلا أَعْجَمٍيًّا لاَ يُحْسِنُ الْقَوْلَ ، عَلامَتُهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ وَهَذَا زَمَانُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ قَدْ تَقَارَبَ فَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَلا أَحْسَبَنِي أُدْرِكُهُ فَإِنْ أَدْرَكْتُهُ أَنْتَ فَصَدِّقْهُ وَاتَّبِعْهُ ، قَالَ : قُلْتُ وَإِنْ أَمَرَنِي بِتَرْكِ دِينِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ ، قَالَ : اتْرُكْهُ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَرَضِيَ الرَّحْمَنُ ، فِيمَا قَالَ : فَلَمْ يَمْضِ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى اسْتَيْقَظَ فَزِعًا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالَ لِي : يَا سَلْمَانُ ، مَضَى الْفَيْءُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ وَلَمْ أَذْكُرْ أَيْنَ مَا كُنْتَ جَعَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ ، قَالَ : أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ لَمْ تَنَمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ ذَلِكَ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْتَفِيَ مِنَ النَّوْمِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَقَامَ فَخَرَجَ وَتَبِعْتُهُ فَمَرَّ بِالْمُقْعَدِ ، فَقَالَ الْمُقْعَدُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ دَخَلْتَ فَسَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي وَخَرَجْتَ فَسَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ، فَقَامَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى أَحَدًا فَلَمْ يَرَهُ فَدَنَا مِنْهُ ، فَقَالَ لَهُ : نَاوِلْنِي يَدَكَ فَنَاوَلَهُ ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَقَامَ كَأَنَّهُ أَنْشَطَ مِنْ عِقَالٍ صَحِيحًا لاَ عَيْبَ بِهِ فَخَلا عَنْ بُعْدِهِ ، فَانْطَلَقَ ذَاهِبًا فَكَانَ لاَ يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ وَلا يَقُومُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي الْمُقْعَدُ : يَا غُلامُ احْمِلْ عَلَيَّ ثِيَابِي حَتَّى أنْطَلِقَ فَأَسِيرَ إِلَى أَهْلِي ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ
(1/497)
ثِيَابَهُ وَانْطَلَقَ لاَ يَلْوِي عَلَيَّ ، فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ أَطْلُبُهُ ، فَكُلَّمَا سَأَلْتُ عَنْهُ ، قَالُوا : أَمَامَكَ حَتَّى لَقِيَنِي رَكْبٌ مِنْ كَلْبٍ ، فَسَأَلْتُهُمْ : فَلَمَّا سَمِعُوا الْفَتَى أَنَاخَ رَجُلٌ مِنْهُمْ لِي بَعِيرَهُ ، فَحَمَلَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَتَوْا بِلادَهُمْ فَبَاعُونِي ، فَاشْتَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَجَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ بِهَا وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخْبَرْتُ بِهِ ، فَأَخَذْتُ شَيْئًا مِنْ تَمْرِ حَائِطِي فَجَعَلْتُهُ عَلَى شَيْءٍ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ نَاسًا ، وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ مَا هَذَا ؟ قُلْتُ : صَدَقَةٌ ، قَالَ لِلْقَوْمِ : كُلُوا ، وَلَمْ يَأْكُلْ ، ثُمَّ لَبِثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَخَذْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَجَعَلْتُ عَلَى شَيْءٍ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ نَاسًا ، وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ أَقْرَبُ الْقَوْمِ مِنْهُ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ لِي : مَا هَذَا ؟ قُلْتُ : هَدِيَّةٌ ، قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَأَكَلَ وَأَكَلَ الْقَوْمُ ، قُلْتُ : فِي نَفْسِي هَذِهِ مِنْ آيَاتِهِ كَانَ صَاحِبِي رَجُلا أَعْجَمِيٌّ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَقُولَ : تِهَامَةً ، فَقَالَ : تُهْمَةٌ ، وَقَالَ : اسْمُهُ أَحْمَدُ فَدُرْتُ خَلْفَهُ فَفَطِنَ بِي ، فَأَرْخَى ثَوْبًا فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي نَاحِيَةِ كَتِفِهِ الأَيْسَرِ فَتَبَيَّنْتُهُ ، ثُمَّ دُرْتُ حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتَ قُلْتُ مَمْلُوكٌ ، قَالَ : فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثِي وَحَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي كُنْتُ مَعَهُ وَمَا أَمَرَنِي بِهِ ،
(1/498)
قَالَ : لِمَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : لامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ جَعَلْتَنِي فِي حَائِطٍ لَهَا ، قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، قَالَ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : اشْتَرِهِ فَاشْتَرَانِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْتَقَنِي ، فَلَبِثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَلْبَثَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ فِي دِينِ النَّصَارَى ، قَالَ : لاَ خَيْرَ فِيهِمْ وَلا فِي دِينِهِمْ ، فَدَخَلَنِي أَمَرٌ عَظِيمٌ ، فَقُلْتُ : فِي نَفْسِي هَذَا الَّذِي كُنْتُ مَعَهُ وَرَأَيْتُ مَا رَأَيْتُهُ ثُمَّ رَأَيْتُهُ أَخَذَ بِيَدِ الْمُقْعَدِ ، فَأَقَامَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ، وَقَالَ : لاَ خَيْرَ فِي هَؤُلاءِ ، وَلا فِي دِينِهِمْ ، فَانْصَرَفْتُ وَفِي نَفْسِي مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عَلَيَّ بِسَلْمَانَ ، فَأَتَى الرَّسُولُ وَأَنَا خَائِفٌ ، فَجِئْتُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ، وَرُهْبَانًا ، وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، يَا سَلْمَانُ ، إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ كُنْتَ مَعَهُمْ وَصَاحِبُكَ لَمْ يَكُونُوا نَصَارَى ، إِنَّمَا كَانُوا مُسْلِمَيْنِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَهُوَ الَّذِي أَمَرَنِي بِاتِّبَاعِكَ ، فَقُلْتُ لَهُ : وَإِنْ أَمَرَنِي بِتَرْكِ دِينِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَاتْرُكْهُ ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَمَا يَجِبُ فِيمَا يَأْمُرُكَ بِهِ "(1)
__________
(1) -المستدرك للحاكم(6543)حسن
(1/499)
11- وفي هذا الحادث العظيم ( أعني بدأ الوحي ) تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق: 1].
وما زال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم
قال تعالى: ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [المجادلة: 11] وقال سبحانه ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) [الزمر: 9].
إن مصدر العلم النافع من الله عز وجل، فهو الذي علم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها(1).
12- إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية، حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله (القرآن) بواسطة الملك جبريل (عليه السلام)؛ وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني، أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم(2).
__________
(1) - انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص34.
(2) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/129).
(1/500)
إن حقيقة الوحي، هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين، بعقائده وتشريعاته وأخلاقه، ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم، بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمدًا كان رجلاً عصبيًا أو مصابًا بداء الصرع(1).
والحقيقة تقول: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط.
ولقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب والخوف مما سمع ورأى، وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس،(2)
وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) [الشورى: 52-53].
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص64.
(2) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص64.
(2/1)
وقال تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [يونس: 15، 16].
13- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه:
إن العلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع، والآداب وغيرها لا يكون
إلا عن طريق الوحي المنزل، قرآنًا وسنة؛ والتزام الدليل الشرعي هو منهج
الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح(1)قال تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) [الأعراف: 181].
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليمًا له، لأسباب عديدة، منها:
أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا، دون حرج ولا تردد، ولا إحجام.
ب- معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه.
ج- وكانت النصوص -قرآنًا وسنة- تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم -بصورة فردية، أو جماعية- فتخاطبهم خطابًا مباشرًا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثًا واقعية، وتعقب في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له.
__________
(1) - انظر صفة الغرباء، سلمان العودة ص83.
(2/2)
فكانوا إذا سمعوا أحدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم، كما يقول ابن عباس - رضي الله عنه -(1).
14- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان:
لقد كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح، فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته والتأله إليه، والشوق إلى لقائه، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ما عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم بذلك آثار العلم بالله والإيمان به، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم في تحصيل العلم، وإذا فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل(2).
وكان الصحابة فرسانًا بالنهار، ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية، من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون.
15- شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية، كيف لا، وأستاذها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها، وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون، الذين حرروا البشرية من رق العبودية وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية غير مسبوقة ولا ملحوقة(3).
في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة، حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية.
__________
(1) - نفس المصدر ص94.
(2) - انظر: صفة الغرباء ص97.
(3) - انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص219.
(2/3)
لقد استطاع الرسول المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربي في تلك المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعدادا خاصا ليؤهلهم لاستلام القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة، وعمالقة الدعاة.
كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول (السابقين الأولين) فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار(1).
16- فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن
إن بناء الدول وتربية الأمم، والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان، وهي كثيرة جدًا، والذي يهمنا منها في هذا الكتاب ما يتعلق بحركة النهوض تعلقًا وثيقًا.
__________
(1) - المصدر السابق ص220.
(2/4)
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى، التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها، والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله، والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض، فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا، والحياة لا تجري في الأرض عبثًا، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه(1)
17- البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي
أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات
رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها:
1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى.
2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة.
3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده.
والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان:
أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها.
__________
(1) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 145)
(2/5)
ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة(1).
إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا إلى القيام بما تؤمر به.
18- حكمة الابتلاء وفوائده:
للابتلاء حكم كثيرة من أهمها:
*- تصفية الصفوف:
جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت: 2].
*- تربية الجماعة المسلمة:
إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة، التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها، إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون»(2).
*- الكشف عن خبايا النفوس:
إنَّ الله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر، فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه(3).
__________
(1) - فقه الدعوة، عبد الحليم محمود (1/471، 472).
(2) - في ظلال القرآن (2/180).
(3) - نفس المصدر (6/387).
(2/6)
*- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
«وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد، فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار»(1).
*- معرفة حقيقة النفس:
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال(2).
*- معرفة قدر الدعوة:
«وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال»(3).
*- الدعاية لها:
__________
(1) - نفس المصدر (6/389).
(2) - نفس المصدر (2/181).
(3) - في ظلال القرآن(2/180).
(2/7)
فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
*- جذب بعض العناصر القوية إليها:
وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الإسلام دخلت إلى هذا الدين من خلال هذا الطريق(2).
*- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً »(3).
فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمله فيبتليه الله تعالى حتى يرفعه إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم(4).
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية ، ص193، 194.
(2) - انظر: فقه السيرة النبوية ، ص193، 194.
(3) - صحيح مسلم (6727 )
(4) - انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص244، وانظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك ص8: 11.
(2/8)
كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها: معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة إلى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء(1).
19- الحكمة من الهجرة إلى الحبشة:
لقد اشتد البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم، بالضرب والجوع والعطش، ورمضاء مكة والنار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.(2)
20- وفي الرحلة للطائف حكم عديدة :
__________
(1) - انظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص15: 28.
(2) - الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.
(2/9)
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعيًا: ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ) [العنكبوت: 14] فكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائبًا، وتنويعًا متكررًا ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا - فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا - وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا - ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا - ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) [نوح: 1-9]
ومع امتداد الزمن الطويل، ما توقف عن الدعوة، ولا ضعُفت همته في تبليغها، ولا ضعُفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها،فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع ويبتكر في أساليب الدعوة، ودعا سرًا وجهرًا، وسلمًا وحربًا، وجمعًا، وفردًا، وسفرًا وحضرًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام قص القصص، وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض وغيره، كما رغب وبشر، ورهب وأنذر، ودعا في كل آنٍ، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعَّال(1)فها هو عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الطائف، ثم يتردد على القبائل، ثم يهاجر ويستمر في دعوة الخلق إلى الله تعالى
__________
(1) - انظر: مقومات الدعوة والداعية، بادحدح، ص123.
(2/10)
* إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان، وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد فرجا ومخرجًا، فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء وأصبح هائما على وجهه، لجأ إلى الله بالدعاء فما أن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين مع جبريل وملك الجبال(1).
* كان مقترح ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، وهو يدخل تحت أسلوب الاستئصال، وقد نفذ في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط قال تعالى: ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [العنكبوت: 40].
إن النبي صلى الله عليه وسلم رفض منهج الاستئصال ، لأن الله تعالى يقول عنه :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء .
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص112، 113.
(2/11)
فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا »(1).
21- وفي حادثة الإسراء والمعراج عبر منها :
__________
(1) - صحيح البخارى (3231 )4/140
(2/12)
*- بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في طريقه، صابر لأمر ربه، لا تأخذه في الله لومة لائم ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ فقد آن الأوان للمنحة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعًا، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيدٍ واحد، فيكون الإمام والقدوة لهم وهو خاتمهم وآخرهم(1).
*- إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مُقدمًا على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقًا، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم وهم حول هذا النبي المصطفى وقد آمنوا به، وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوارٍ وبعد أذى الصبيان والسفهاء(2).
__________
(1) - انظر: التربية القيادية، (1/447).
(2) - انظر: التربية القيادية، (1/451).
(2/13)
*- إن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم العالية تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم، ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم، وتلقي نكيرهم واستهزائهم فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل، وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على المشركين بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق .
*- يظهر إيمان الصديق رضي الله عنه القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار قال بلسان الواثق، لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم(1).
*- إن شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [الروم: 30].
__________
(1) - انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/43).
(2/14)
*- إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءَهم أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان أن يدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع عن الديانات المنحرفة، والإيمان بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة، التي تخدم وضعًا من الأوضاع أو نظامًا من الأنظمة الجاهلية.
22- وفي الهجرة للمدينة المنورة دروس كثيرة منها :
*- الصراع بين الحق والباطل
صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40].
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [المجادلة: 21].
*- مكر خصوم الدعوة بالداعية:
أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله،(1)كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30].
__________
(1) - انظر الهجرة النبوية المباركة، ص200.
(2/15)
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال: 36].
*- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين .(1)
* الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياًّ وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح(2).
*- الإيمان بالمعجزات الحسية:
__________
(1) - انظر: الأساس في السنة،(1/357).
(2) - انظر: من معين السيرة، ص148
(2/16)
وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(1).
*- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص .
*- دور المرأة في الهجرة:
__________
(1) - انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).
(2/17)
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين(1)التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...»(2).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت:ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك»(3).
__________
(1) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206.
(2) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126.
(3) - انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.
(2/18)
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(1).
*- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح:
__________
(1) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128.
(2/19)
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاري، «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه -، وهو الذي تربى ليكون قائدا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ»، إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء.
(2/20)
فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(1)وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين(2)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض، فرارا من الحرج أو الكذب(3)؛ لأن الهجرة كانت سراًّ وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك(4).
__________
(1) - انظر: التربية القيادية (2/191، 192).
(2) - السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.
(3) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204.
(4) - انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص254.
(2/21)
وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي - رضي الله عنه - ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي - رضي الله عنه -، ولكن علياًّ - رضي الله عنه - لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة(1).
*- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام(2).
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(3).
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص68.
(2) - انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.
(3) - انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.
(2/22)
23- وفي المدينة المنورة دروس كثيرة منها :
*- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه(1).
قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ - رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [النور: 36-38].
*- التربية بالقدوة العملية:
من الحقائق الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله.
*- آصرة العقيدة هي أساس الارتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقديُّا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح(2).
__________
(1) - محمد رسول الله، محمد عرجون (3/33).
(2) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/252)
(2/23)
إن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نبي الله. قال تعالى:( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [هود: 45،46].
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [الحجرات: 10].
وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى، حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم، مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين، من أعظم الذنوب قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [التوبة: 23].
فإذا كان الله سبحانه يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم(1).
__________
(1) - انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي جزولي، ص417.
(2/24)
قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) [البقرة: 120].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) [آل عمران: 100].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [المائدة: 51].
وحدد المولى عز وجل للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان وبين لهم من يتولون قال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) [المائدة: 55-56].
فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لا يكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لا يكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله، فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه على حياتهم فمحضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين، وأصبح تاريخهم حافلاً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم.
(2/25)
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها، والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأثرته وأهوائه(1).
*- الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، فإذا وهت يتآكل كل بنيانها(2)ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب في الله في المجتمع المسلم الجديد فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِى الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِى ظِلِّى يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّى ».(3).
24- وفي غزوة بدر دروس شتى منها :
*- حقيقة النصر من الله تعالى:
__________
(1) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص156و انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/129).
(2) - انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/254)
(3) - صحيح مسلم (6713)
(2/26)
إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [آل عمران: 126]، وقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال: 10].
في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل، والمعنى: ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أى: ذو العزة التي لا ترام(1)، و(الحكيم) أى: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى(2).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/411).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (2/302) نقلاً عن حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم (1/97- 105).
(2/27)
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده، وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته. وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه، قال تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 17].
ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ - لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) [آل عمران: 127، 128].
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائما تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر، قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [الأنفال: 26].
(2/28)
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إِلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّعَمِ الوَفِيرَةِ ، فَقَدْ كَانُوا قَلِيلِي العَدَدِ ، مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ ، يَعْتَدِي عَلَيْهِمُ النَّاسُ ، خَائِفِينَ مِنْ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ ، فَقَوَّاهُمْ وَآوَاهُمْ ، وَنَصَرَهُمْ وَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّعَمِ التِي أَنْعَمَ بِهَا اللهُ عَلَيْهِمْ تَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا ، فَاللهُ تَعَالَى مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُكْرَ مِنْ عِبَادِهِ .
*-الولاء والبراء من فقه الإيمان:
رسمت غزوة بدر لأجيال الأمة صورًا مشرقة في الولاء والبراء، وجعلت خطًا فاصلاً بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني، فعاشها الصحابة واقعًا ماديًّا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت القيم الجاهلية، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه:
1- كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين، وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة في صف المشركين، وقد قتلوا جميعًا في المبارزة الأولى.
2- كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين.. وكان ابنه عبد الرحمن في صف المشركين.
وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعًا(1)فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقهم قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [النساء: 97].
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/253).
(2/29)
قال ابن عباس: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا على الخروج، فنزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ) إنهم لم يعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوافرة، ولم يكن الفاصل كبيرًا بين الصفين، ولن يعدموا لو أرادوا الفرصة في الانتقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن سهيل(1).
إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه، فإذا كان كذلك كان لأصحابه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله، إن الإيمان يصبغ السلوك، فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السمت والانفعال؛ ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين؛ لأن الإيمان الذي ادعوه لم توجد له مستلزمات فلم يؤت ثماره(2).
__________
(1) - انظر: معين السيرة، ص217.
(2) - انظر: معين السيرة، ص218.
(2/30)
ولهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصحابة الكرام في بدر مُثلاً عليا لصدق الإيمان، التي تدل على أنهم آثروا رضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا يعجب المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصادقة في قوله تعالى: ( لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [المجادلة: 22].
(2/31)
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
25- وفي غزوة أحد دروس وعبر كثيرة منها :
*- تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:
(2/32)
قال تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ - وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 137-139].
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم(1).
قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين(2).
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته، وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره. وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم(3).
وفي قوله تعالى: ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
*- تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:
__________
(1) - انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/190).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (4/216).
(3) - انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/191).
(2/33)
قال تعالى: ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) [آل عمران: 140-143].
إنْ كُنْتُمْ قَدْ أَصَابَتْكُمْ جِرَاحٌ ، وَقُتِلَ مِنْكُمْ رِجَالٌ يَوْمَ أحُدٍ ، فَقَدْ أَصَابَ أَعْدَاءَكُمْ قَرِيبٌ مِمَّا أَصَابَكُمْ ، فَلاَ يَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَقْعُدُوا وَتَتَقَاعَسُوا عَنِ الجِهَادِ بِسَبَبِ مَا أَصَابَكُمْ ، فَالمُشْرِكُونَ قَدْ سَبَقَ أنْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ أَنْتُمْ فِي أحُدٍ ، فَلَمْ يَتَقَاعَسُوا ، وَلَمْ يَقْعُدُوا عَنِ الإِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَمُبَاشَرَتِهَا ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، فَكَيْفَ تَتَرَدَّدُونَ وَأَنْتُمْ عَلَى حَقٍّ ، وَاللهُ وَعَدَكُمْ نَصْرَهُ ، وَجَعَلَ العَاقِبَةَ لَكُمْ؟ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مُدَاوَلَةُ الأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ ، فَمَرَّةً تَكُونُ الغَلبَةُ لِلْبَاطِلِ عَلَى الحَقِّ ، إذَا أَعَدَّ لَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَاطُوا ، وَتَرَاخَى أَهْلُ الحَقِّ ، وَمَرَّةً تَكُونُ الغَلَبَةُ لِلْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ . وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ تَكُونُ دَائِماً لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ . وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي المُؤْمِنينَ لِيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ ، وَلِيَتّخِذَ مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالاً يُكْرِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ .
(2/34)
يُدَاوِلُ اللهُ الأيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ لِيَمِيزَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، مِنَ المُنَافِقِينَ ، وَلِتَطْهُرَ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ المُؤْمِنِينَ مِن كُدُورَتِهَا ، فَتَصْفُوَ مِمَّا شَابَهَا وَخَالَطَهَا ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إلا بِالتَّجَارِبِ الكَثِيرَةِ ، وَالامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ ، وَلِيَكُونَ الجِهَادُ وَالحَرْبُ فِي سَبيلِ اللهِ وَسِيلةً لِتَدْمِيرِ الكَافِرِينَ الذِينَ إذا ظَفِرُوا بَغَوا وَبَطِرُوا .
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ .
يُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ شَهِدَ وَقْعَةِ أحُدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْراً ، وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ شَوْقاً لِلْقِتَالِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ لَهُمْ يَومٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ ، وَقَدْ أَلَحُّوا عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الخُرُوجِ إلَى أحُدٍ لِيُقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِهَؤُلاءِ : لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ المَوْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ قَبْلَ أنْ تُلاَقُوا القَوْمَ فِي مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ ، فَهَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ المَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عَنْ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟(1)
*-ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
__________
(1) - انظر: تفسير الرازي (9/14). (4) انظر: تفسير الكشاف (1/465) وأيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 434-436)
(2/35)
قال تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران: 146-148].
فِي هَذِهِ الآيَةِ يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَمَّا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ يَوْمَ أحُدٍ ، فَقَالَ لَهُمْ : كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ وَهُوَ يُقَاتِلُ ، وَكَانَ مَعَه جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٌ ( رِبِّيُّونَ ) مِمَّنْ آمَنُوا بِهِ ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، فَمَا وَهِنُوا ، وَمَا ضَعُفُوا بَعْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ ، وَمَا اسْتَكَانُوا ، وَمَا اسَتَذَلُّوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَفِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ دِينِهِ ، وَإِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى قِتَالِ الأَعْدَاءِ ، وَلَمْ يَهْرُبُوا مُوَلِّينَ الأَدْبَارَ ، لأنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ فِي سَبِيلِ نَبِيِّهِمْ ، فَعَلَيْكُمْ أيُّهَا المُسْلِمُونَ أنْ تَعْتَبِرُوا بِأولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ ، وَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا فَإنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ ، وَسُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ .
(2/36)
فَاحْتَسَبَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ ( الرِّبِّيُّونَ ) اللهَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الخَطْبِ ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ عِنْدَ نُزُولِ الكَوَارِث إلاَ الدُّعَاءُ إلَى اللهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا ألمُّوا بِهِ مِنْ ذنُوبٍ ، وَتَجَاوُزَوا فِيهِ حُدُودَ الشَّرائعِ ، وَأن يُثَبِّتَ أقْدَامَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ القَوِيمِ ، حَتَّى لا تُزَحْزِحَهُم الفِتَنُ ، وَلاَ يَعْرُوهُمُ الفَشَلُ حِينَ مُقَابَلَةِ الأعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ .
فَآتَاهُمُ اللهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَهُمَا ثَوَابُ الدُّنْيا ، وَجَمَعَ لَهُمْ ، إلَى ذَلِكَ الظَّفَرِ ، حُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ ، وَهُوَ الفَوْزُ بِرُضْوَانِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ ، لأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ فِي أَرْضِهِ ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِخِلاَفَةِ اللهِ فِيهَا .
*- خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:
وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها، قال تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [آل عمران: 14].
(2/37)
وقال تعالى في شأن هزيمة أحد : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (152) سورة آل عمران
(2/38)
لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ إلَى المَدِينَةِ بَعْدَ مَعْرَكَةِ أحُدٍ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ : مِنْ أَيْنََ أَصَابَنَا هَذا وَقَدْ وَعَدَنَا اللهُ تَعَالَى النَّصْرَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَفِيها يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ : إِنَّهُ صَدَقَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ نَصْر ، فَكُنْتُمْ تَقْتُلُونَهُمْ قَتْلاً ذَرِيعاً بِإذْنِ اللهِ ، وَسَلَّطَكُمْ عَلَيهِمْ ، حَتَّى إذَا أَصَابَكُمُ الضَّعْفُ وَالفَشَلُ ، وَعَصَيْتُمْ أمْرَ الرَّسُولِ ، وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ، ( وَهُوَ مَا وَقَع لِلرُّمَاةِ الذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أنْ يَلْزَمُوا مَوَاقِعَهُمْ فَتَخَلَّوا عَنْهَا ) ، وَكَانَ اللهُ قَدْ أَرَاكُمُ الظَّفَرَ ، وَهُوَ مَا تُحِبُّونَهُ ، فَكَانَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنيا ، وَيَطْمَعُ فِي المَغْنَمِ ، حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ المُشْرِكِينَ ، فَتَرَكُوا مَوَاقِعَهُمْ عَلَى الجَبَلِ ، وَمِنْكُمْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الآخِرَةَ فِي قِتَالِهِ المُشْرِكِينَ لاَ يَلْتَفِتُ إلَى المَغْنَمِ ، فَثَبَتَ مَكَانَهُ وَقَاتَلَ ، ثُمَّ أدَالَ اللهُ المُشْرِكِينَ عَلَيكُمْ ، وَجَعَلَ لَهُمُ الغَلَبَةَ عَلَيْكُمْ لِيَخْتَبِرَكُمْ ، وَيَمْتَحِنَ ثَبَاتَكُمْ عَلَى الإِيمَانِ ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ الفِعْلَ ، وَهُوَ عِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ ، وَالهَرَبُ مِنَ المَعْرَكَةِ ، وَمَحَا أَثَرَهُ مِنْ نُفُوسِكُمْ ، حِينَمَا أَظْهَرْتُمُ النَّدَمَ ، وَرَجَعْتُمْ إلَى اللهِ ، حَتَّى صِرْتُمْ وَكَأَنَّكُمْ لَمْ تَفُشَلُوا . وَلَمْ يَسْمَحِ اللهُ باسْتِئْصَالِكُمْ لأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ .
*- التعلق والارتباط بالدين وليس بالأشخاص
(2/39)
قال تعالى :{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران
لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ ، ضَعْفَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ، أوْ قُتِلَ ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
(2/40)
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا .(1)
26- وفي غزوة الخندق دروس كثيرة منها :
*- شتان بين التصور والواقع
__________
(1) - انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/616).
(2/41)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِىِّ قَالَ قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَحِبْتُمُوهُ قَالَ نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِى . قَالَ فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ. قَالَ وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَا مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا. قَالَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ يَا ابْنَ أَخِى وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْخَنْدَقِ وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ اللَّيْلِ هَوِيًّا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ « مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ». يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَرْجِعُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَمَا قَامَ رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ « مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ ». يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّجْعَةَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِى فِى الْجَنَّةِ فَما قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَكُنْ لِى بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِى فَقَالَ « يَا حُذَيْفَةُ فَاذْهَبْ فَادْخُلْ فِى الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنَا ».
(2/42)
قَالَ فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِى الْقَوْمِ وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلاَ نَارٌ وَلاَ بِنَاءٌ فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ.
فَقَالَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِى إِلَى جَنْبِى فَقُلْتُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ وَبَلَغَنَا مِنْهُمُ الَّذِى نَكْرَهُ وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ وَلاَ تَقُومُ لَنَا نَارٌ وَلاَ يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ فَارْتَحِلُوا فَإِنِّى مُرْتَحِلٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلاَثٍ فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ وَلَوْلاَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ تُحْدِثْ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِى ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ فَلَمَّا رَآنِى أَدْخَلَنِى إِلَى رَحْلِهِ وَطَرَحَ عَلَىَّ طَرَفَ الْمِرْطِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنِّى لَفِيهِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَانْشَمَرُوا إِلَى بِلاَدِهِمْ.أخرجه أحمد(1)
__________
(1) - مسند أحمد(24038)5/393 صحيح لغيره
(2/43)
هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شيء آخر، والصحابة رضي الله عنهم بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل من يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلا عن المال والجهد، وقد وضع صلى الله عليه وسلم الأمور في نصابها بقوله: «خير القرون قرني» فبين أن عملهم لا يعدله عمل.
إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدًا، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل ما فيه من جهالات وضلالات وكفر، وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض(1).
*-من أدب الخلاف:
في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .(2)
ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورًا ومثابًا، كما أن فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم(3).
__________
(1) - انظر: من معين السيرة للشامي، ص291.
(2) - صحيح البخارى (946 )
(3) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226.
(2/44)
إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً؟...
ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت؟(1)
وفي الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيه أيضا أن المختلفين في الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ،فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ.وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2).
27- وفي صلح الحديبية دروس كثيرة وعبر منها :
*- حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس:
__________
(1) - انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226.
(2) - صحيح مسلم(4584 )
(2/45)
في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، ولم يكن من عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد، وهذه سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر والتعظيم للإمام وطاعته ووقايته بالنفوس، وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أَبِى مِجْلَزٍ قَالَ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لاِبْنِ عَامِرٍ اجْلِسْ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(1).
*- هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم ؟
__________
(1) - سنن أبي داود(5231 )صحيح
(2/46)
ففي حديث عروة بن مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله حوله قال: وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ،(1).
وعن أبي جُحَيْفَةَ قالَ :خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَاجِرَةِ ، فَأُتِىَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ ، فَصَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ .(2)
__________
(1) - البخاري مع الفتح، كتاب الشروط رقم 2731، 2732.
(2) - صحيح البخاري (187 ) 1/59 - العنزة : عصا أسفلها حديدة
(2/47)
و عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ « اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِى » . فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ « أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ » . تَعْنِى إِزَارَهُ .(1)
لقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِآثَارِهِ ، وَأَوْرَدَ عُلَمَاءُ السِّيرَةِ وَالشَّمَائِل وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تُمَثِّل تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ .
قَال ابْنُ رَجَبٍ : وَالتَّبَرُّكُ بِالآْثَارِ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلاَ يَفْعَلُهُ التَّابِعُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِهِمْ فَدَل عَلَى أَنَّ هَذَا لاَ يُفْعَل إِلاَّ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل التَّبَرُّكِ بِالْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ وَالنَّوَوِيُّ : يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(1253 )= الحقو : الإزار =السدر : شجر النبق واحدته سدرة
(2) - الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم : بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، لابن رجب الحنبلي ص 46 ، وفتح الباري 3 / 130 - 131 - 144 ، وشرح صحيح مسلم للنووي ( 5 / 161 ، 7 / 143 / 44 ) .
(2/48)
وورد جواز الترك بآثار الصالحين عن عدة من السلف والخلف(1)
28- وفي فتح مكة وغزوة حنين حكم كثيرة منها:
*- كان لهذا الفتح آثار عظيمة دينية وسياسية واجتماعية
__________
(1) - انظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 3 / ص 486)و (ج 4 / ص 674)و(ج 8 / ص 545)و(ج 9 / ص 111)و(ج 9 / ص 160)و (ج 15 / ص 223)و شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 110)
شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 255)و (ج 3 / ص 353)وج 5 / ص 474)و (ج 5 / ص 499)و (ج 7 / ص 145)و(ج 7 / ص 181)و(ج 7 / ص 269)و (ج 8 / ص 34)و عون المعبود - (ج 1 / ص 65)(48 )و (ج 9 / ص 77)و شرح سنن النسائي - (ج 1 / ص 491)ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 13 / ص 128)وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 3 / ص 241)و دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (ج 4 / ص 477)و شرح سنن ابن ماجه - (ج 1 / ص 55)و(ج 1 / ص 105)و (ج 1 / ص 254)وشرح سنن النسائي - (ج 1 / ص 491)وفتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 235)(461 )و(ج 4 / ص 280)و (ج 4 / ص 306)و (ج 4 / ص 318)(1198)و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 10 / ص 70) ونيل الأوطار - (ج 6 / ص 135)
وفي فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 344)التبرك بآثار الصالحين
وذكر أدلة كثيرة وفي نهايتها قال :
إن التبرك بآثار الصالحين دليل على الحب ، ولا مانع منه ما دام فى الحد المعقول ، ولا ننسى فى هذا المقام قول المجنون :
أمر على الديار ديار ليلى * أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبى * ولكن حب من سكن الديارا
(2/49)
وقد بدأت هذه الآثار بصورة يلمسها كل من يمعن النظر في هذا الفتح المبارك، فأما الآثار الاجتماعية فتمثلت في رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس وحرصه على الأخذ بأيديهم ليعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم، وبالوضع الجديد الذي سيطر على بلدهم، وتعيين من يعلمهم، ويفقههم في دينهم، فقد أبقى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في مكة بعد انصرافه عنها ليصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، وأما الآثار السياسية فقد عين عتاب بن أسيد أميرًا على مكة، يحكم في الناس بكتاب الله، فيأخذ لضعيفهم، وينتصر للمظلوم من الظالم(1)، وأما الآثار الدينية فإن فتح مكة وخضوعها لسلطان الإسلام، قد أقنع العرب جميعًا بأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده فدخلوا فيه أفواجا(2).
*- تحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين
بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس، وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه، وقطعوا مراحله وتعاملوا مع سننه كسنة الابتلاء، والتدافع، والتدرج، وتغير النفوس، والأخذ بالأسباب، ولا ننسى تلك الصورة الرائعة وهي وقوف بلال فوق الكعبة مؤذنًا للصلاة بعد أن عذب في بطحاء مكة وهو يردد: «أحد أحد» في أغلاله وحديده، ها هو اليوم قد صعد فوق الكعبة، ويرفع صوته الجميل بالأذان وهو في نشوة الإيمان.(3)
__________
(1) - انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص266.
(2) - المصدر نفسه، ص267.
(3) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 4 / ص 108)
(2/50)
*- وفي غزوة حنين قال تعالى: ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 25-27].
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ عَلَيهِمْ ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ ، فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاقِعَ كَثِيرَةٍ ( مَوَاطِنَ ) مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ، وَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبَتَأيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ ، لاَ بِعَدَدِ المُسْلِمِينَ ، وَلاَ بِعُدَدِهِمْ ، وَلاَ بِعَصَبِيَّتِهِمْ ، وَلا بِقُوَّتِهِمْ ، وَلاَ بِكَثْرَةِ أمْوَالِهِمْ ، وَنَبَّهَهُمْ تَعَالَى إلى النَّصْرَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، قَلَّ الجَمْعُ أوْ كَثُرَ .
وَفِي يَوْمِ حُنَينٍ أعْجَبَتِ المُسْلِمِينِ كَثْرَتُهُمْ فَلَمْ تُفِدْهُمْ شَيْئاً ، فَوَلَّوا مُدْبِرِينَ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضَ عَلَى سَعَتِها مِنْ شِدَّةِ فَزَعِهِمْ ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى النَّجَاةِ سَبِيلاً ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ إلاَّ عَدَدٌ قَلِيلٌ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ ذَلِكَ ابْتِلاءً مِنَ اللهِ لَهُمْ عَلَى عُجْبِهِم بِكَثْرَتِهِمْ . ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ وَتَأيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَعَلَى المُؤْمِنِينَ ، لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ قَلَّ الجَمْعُ ) .
(2/51)
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الطُمَأنِينَةَ عَلَى رَسُولِهِ ، وَعَلَىالمُؤْمِنِينَ الذِينَ ثَبَتوا مَعَهُ ، فَأذْهَبَ رَوْعَهُمْ ، وَأزَالَ حَيْرَتَهُمْ ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ شَجَاعَتَهُمْ ، وَلَزِمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَكَانَهُ ، وَمَعَهُ القِلَّةُ التِي ثَبَتَتْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، وَاسْتَنْصَرَ الرَّسُولُ رَبَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ جُنُوداً مِنَ المَلائِكَةِ لَمْ يَرَها المُسْلِمُونَ بِأَبْصَارِهِمْ ، بَلْ وَجَدُوا أَثَرَها فِي قُلُوبِهِمْ ، بِمَا عَادَ إِلَيْهَا مِنْ رَبَاطَةَ جَأْشٍ ، وَشِدَّةِ بَأْسٍ . وَأَخَذَ الرَّسُلُ صلى الله عليه وسلم حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ قَذَفَهَا فِي وَجْهِ القَوْمِ ، فَلَمْ يَبْقَ مُقَاتِلٌ مِنْ هَوَازِنْ إلاَّ وَدَخَلَتْ فِي عَيْنِهِ أَوْ فَمِهِ حَبَّةٌ مِنْ تُرَابٍ أشْغَلَتْهُ عَنِ القِتَالِ ، وَتَرَاجَعَ الذِينَ هَرَبُوا مِنَ المُسْلِمِينَ ، إِلَى حَيْثُ كَانَ يَقِفُ رَسُولَ اللهِ وَصَحْبُهُ الثَّابِتُونَ ، وَحَمَلُوا عَلَى هَوَازِنَ فَنَصَرَهُمُ اللهُ ، وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا ، وَقَاتَلُوا رَسُولَ اللهِ ، فَأَخْزَاهُمُ اللهُ وَأَذَلَّهُمْ بِالقَتْلِ وَالسَّبْيِ ، وَهَذَا هُوَ مَصِيرُ القَوْمِ الكَافِرِينَ ، وَجَزاؤُهُمْ .
(2/52)
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ ، مِنْ بَعْدِ القَتْلِ وَالخِزْيِ وَالتَعْذِيبِ ، عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ هَوَازِنَ فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الإِسْلاَمِ ، وَقَدْ قَدِمُوا عَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمِينَ ، وَلَحِقُوا بِهِ فِي مَكَّةَ فِي مَكَانٍ يُعْرَفُ بِالجعْرانَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ المَوْقِعَةِ بِعِشْرِينَ يَوْماً ، وَحِينَئِذٍ خَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَبْيِهِمْ ، وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ ، فَاخْتَارُوا سَبْيَهُمْ ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ فَرَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَقَسَّمَ الأَمْوَالَ بَيْنَ المُقَاتِلِينَ .
29- وفي غزوة تبوك عظات وعبر جمة منها :
*معالم من المنهج القرآني في الحديث عن غزوة تبوك:
يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }[التوبة/38-40]
(2/53)
يُعَاتِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ تَخَلَّفَ ، مِنَ المُؤْمِنِينَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ ، وَكَانَ الْوَقْتُ حَارّاً قَائِظاً ، فَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ : مَا لَكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا دُعِيْتُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَكَاسَلْتُمْ وَتَبَاطَأْتُمْ ، وَمِلْتُمْ إِلَى الدَّعَةِ وَالإِقَامَةِ فِي الظِّلِ وَطِيبِ الثِّمَارِ؟ أَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ رِضاً مِنْكُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلاً مِنَ الآخِرَةِ؟ وَمَا قِيمَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا مَتَاعُهَا إِلاَّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخِرَةِ ، إِذْ يَنْتَظِرُونَ المُؤْمِنِينَ رِضْوانٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَجَنَّاتٌ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وَإِذَا لَمْ تَنْفِرُوا مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَلَمْ تَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الجِهَادِ فَإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُكُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا ، بِزَوَالِ النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا عَنْكُمْ ، وَفِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَلاَ يَصْعُبُ عَلَى اللهِ أَنٍ يَسْتَبْدِلَ قَوْماً غَيْرَكُمْ بِكُمْ ، يَخِفُّونَ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ ، وَيُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَضُرُّ اللهَ ، لأَنَّهُ الغَنِيُّ عَنِ العِبَادِ ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ .
(2/54)
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا لَمْ تَنْصُرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ ، كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجِرَ ، فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِباً بِصُحْبَةِ صَدِيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَجَأَ إلَى غَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمَا حَتَّى وَقَفُوا بِبَابِ الغَارِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكرٍ جَزِعاً : لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا . فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِالمَلاَئِكَةِ تَحْفَظَهُ وَتَحْمِيهِ ( بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ وَأَهْلَهُ السُّفْلَى ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الإِيمَانِ ( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ ، وَهُوَ مَنِيعُ الْجَانِبِ لاَ يُضَامُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .
(2/55)
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ ، وَالْخُرُوجِ جَمِيعاً مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَلْزَمَهُمْ بِالخُرُوجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ، فَقَالَ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ، وَأَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ ، وَرُكْبَاناً وَمُشَاةً وَأَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ ، لأَنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرُ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ لاَ عِزَّ لِلأُمَمِ ، وَلاَ سِيَادَةَ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ الحَرْبِيَّةِ ، وَفِيهِ أَيْضاً خَيْرُهُمْ فِي الدِّينِ لأَنَّهُ لاَ سَعَادَةَ لِمَنْ لَمْ يَنْصُرِ الحَقَّ ، وَيُقِمِ العَدْلَ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى وَالعَمَلِ بِشَرْعِ اللهِ .
وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ . }*- إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء-
لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تغلب، ومن ثم فقد فزعوا من ذكر الروم وغزوهم، ولعل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في غزوة (مؤتة) كانت مؤكدة على ما ترسخ في ذهن العربي في جاهليته من أن الروم قوة لا تقهر، فكان لا بد من هذا النفير العام لإزاحة هذه الهزيمة النفسية من نفوس العرب.
*- إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة
(2/56)
قادرة على تحدي القوى العظمى عالميا -حينذاك- ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع زعامات معاصرة، وإنما بدافع تحريري؛ حيث تدعو الإنسانية إلى تحرير نفسها من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية .
30- وفي حجة الوداع حكم عظيمة منها :
* تربية المجتمع على مبادئ أساسية:
أ- الأخوة في الله هي العروة الوثقى التي تربط بين جميع المسلمين ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [الحجرات: 10] فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ . أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا » . فَأَعَادَهَا مِرَارًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ - « فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ».(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(1739 )
(2/57)
ب- الوقوف بجانب الضعيف حتى لا يكون هذا الضعف ثغرة في البناء الاجتماعي، فأوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرقيق على أنهما نموذجان عن الضعفاء(1)، فقد شدد صلى الله عليه وسلم في وصيته على الإحسان إلى الضعفاء(2)وأوصى خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية(3).
ج- التعاون مع الدولة الإسلامية على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبدًا حبشيًّا، فإن في ذلك الصلاح والفلاح، والنجاة في الدنيا والآخرة(4)فقد بين صلى الله عليه وسلم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنها تعتمد على السمع والطاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مال عنهما فلا سمع ولا طاعة، فالحاكم أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى(5).
د- المساواة بين البشر: فقد قال صلى الله عليه وسلم: « " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ ، وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ فَضْلٌ ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ فَضْلٌ ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ فَضْلٌ ، إِلَّا بِالتَّقْوَى " »(6)
__________
(1) - انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص304.
(2) - انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص575.
(3) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص332.
(4) - انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص576.
(5) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص333.
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 12 / ص 360)(14444)وأحمد3/411 وهو صحيح لغيره
(2/58)
حيث حدد أن أساس التفاضل لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وإنما أساس التفاضل قيمة خلقية راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدا(1).
هـ- تحديد مصدر التلقي: وقد حدد صلى الله عليه وسلم مصدر التلقي والطريقة المثلى لحل مشاكل المسلمين التي قد تعترض طريقهم في الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبين للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليست وقفًا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأي تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما(2)
__________
(1) - انظر: الموسوعة في سماحة الإسلام، عرجون (2/876).
(2) - انظر: فقه السيرة للبوطي، ص333.
(2/59)
لقد وصف صلى الله عليه وسلم الداء والدواء، ووضع العلاج لكل المشكلات بالالتزام التام بما جاء من أحكام من في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: « تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ »(1)هذا هو العلاج الدائم، وقد كرر صلى الله عليه وسلم نداءه للبشرية عامة، عبر الأزمنة والأمكنة، بوجوب الاهتداء بالكتاب والسنة في حل جميع المشكلات التي تواجه البشرية، فإن الاعتصام بهما يجنب الناس الضلال ويهديهم إلى التي هي أقوم في الحاضر والمستقبل، لقد اجتازت تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه حدود الجزيرة، واخترقت حواجز الزمن، وأسوار القرون، وظل يتردد صداها حتى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلم يكن يخاطب سامعيه فيقول لهم: أيها المؤمنون، أو أيها المسلمون، أو أيها الحجاج.. بل كان يقول لهم: يا أيها الناس، وقد كرر نداءه إلى الناس كافة مرات متعددة دون أن يخصصه بجنس أو بزمان أو مكان أو لون، فقد بعثه الله للناس كافة وأرسله رحمة للعالمين(2).
31- حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته
__________
(1) - موطأ مالك (1628) 900/2 صحيح لغيره
(2) - انظر: الجانب السياسي في حياة الرسول، ص131، أحمد محمد باشميل.
(2/60)
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها: الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً وتصديقه في كل ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم, وجوب طاعته والحذر من معصيته صلّى الله عليه وسلّم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه, وإنزاله منزلته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير, واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور, ومحبته أكثر من النفس, الأهل والمال والولد والناس جميعاً, واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته صلّى الله عليه وسلّم, والصلاة عليه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ ». (1).
وإليك هذه الحقوق بالتفصيل والإيجاز كالتالي:
__________
(1) سنن أبى داود (1049 ) صحيح =أَرَمَ : بلى = أرمت : بليت
(2/61)
* ـ الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سورة التغابن, الآية: 8. , {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة الأعراف, الآية: 158., {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة الحديد, الآية: 28. , {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} سورة الفتح, الآية: 13،وقال صلّى الله عليه وسلّم: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِى وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ». (1).
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو تصديق نبوته, وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله, ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان, بأنه رسول الله, فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم(2).
__________
(1) صحيح مسلم (135 )
(2) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للقاضي عياض 2/539.
(2/62)
* ـ وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته, فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} سورة الأنفال, الآية: 20., وقال تعالى :{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} سورة الحشر, الآية: 7. وقال تعالى :{ {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} سورة النور, الآية: 54., وقال تعالى :{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النور, الآية: 63, وقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب, الآية: 71 , وقال تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} سورة الأحزاب, الآية: 36 , وقال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} سورة النساء, الآيتان: 13, 14..
(2/63)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم « مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ..» (1), وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » . (2).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ». (3).
__________
(1) البخاري ( 7137)
(2) البخاري ( 7280)
(3) مسند أحمد (5233)صحيح لغيره
(2/64)
* ـ اتباعه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه, قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران, وقال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب, وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة الأعراف, الآية: 158، فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته, فعن حُمَيْدَ بْنُ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » . (1).
__________
(1) البخاري (5063)
(2/65)
* ـ محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين, قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ »(1) . وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا » فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ وَلاَ صَدَقَةٍ ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . قَالَ « أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » . (2)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ « وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ». قَالَ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ».
__________
(1) صحيح البخارى (15 )
(2) صحيح البخارى 9/81(7153 ). السدة : الظلال المسقفة عند باب المسجد وحوله وأصله الباب والظلة تجعل فوقه
(2/66)
قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. (1).
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ » . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: « الآنَ يَا عُمَرُ » (2),وعَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ » . (3).
وعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ». (4).
__________
(1) صحيح مسلم (6881 )
(2) صحيح البخارى (6632 )
(3) صحيح البخارى 8/49(6169 ).
(4) صحيح مسلم (160)
(2/67)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ »(1).
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته, فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقة في رضى الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً, وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته ... إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ(2)
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم, واتباع سنته, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحب شيئاً آثره, وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً(3).
__________
(1) صحيح البخارى (16 )1/11
(2) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/549 و2/563.
(3) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/571 –582.
(2/68)
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »(1). أَمَّا النَّصِيحَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقه عَلَى الرِّسَالَة ، وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ ، وَطَاعَته فِي أَمْرِهِ وَنَهْيه ، وَنُصْرَتِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ ، وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ ، وَإِعْظَام حَقّه ، وَتَوْقِيره ، وَإِحْيَاء طَرِيقَته وَسُنَّته ، وَبَثّ دَعَوْته ، وَنَشْرِ شَرِيعَته ، وَنَفْي التُّهْمَة عَنْهَا ، وَاسْتِثَارَة عُلُومهَا ، وَالتَّفَقُّه فِي مَعَانِيهَا ، وَالدُّعَاء إِلَيْهَا ، وَالتَّلَطُّف فِي تَعَلُّمهَا وَتَعْلِيمهَا ، وَإِعْظَامهَا ، وَإِجْلَالهَا ، وَالتَّأَدُّب عِنْد قِرَاءَتهَا ، وَالْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم ، وَإِجْلَال أَهْلهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا ، وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ ، وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ ، وَمَحَبَّة أَهْل بَيْته وَأَصْحَابه ، وَمُجَانَبَة مَنْ اِبْتَدَعَ فِي سُنَّته ، أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابه ، وَنَحْو ذَلِكَ (2).
__________
(1) صحيح مسلم(205 )
(2) شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 144) و الشفاء بتعريف حقوق المصطفي صلّى الله عليه وسلّم للقاضي حياض 2/582 -584.
(2/69)
* ـ احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (9) سورة الفتح, وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) سورة الحجرات, وقال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور.
وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته, وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه, وسنته, وسماع اسمه وسيرته, وتعلم سنته, والدعوة إليها, ونصرتها(1).
__________
(1) الشفاء 2/595 و612.
(2/70)
* ـ الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب, ,وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِىَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِى الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِى إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِىَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ »(1). (,وعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصِلِّ عَلَىَّ ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ « فَلَمْ يُصَلِّ عَلَىَّ » صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيراً.(2) , عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ ». (3), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام“(4),وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ارْتَقَى الْمِنْبَرَ فَقَالَ :« آمِينَ آمِينَ آمِينَ ».
__________
(1) صحيح مسلم (875 )
(2) مسند أحمد (1762)صحيح
(3) سنن الترمذى (3708 ) صحيح = الترة : الحسرة والندامة
(4) النسائي 3/43, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/274.
(2/71)
فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا؟ فَقَالَ :« قَالَ لِى جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَقُلْتُ آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَقُلْتُ آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَقُلْتُ آمِينَ ». (1),وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ». (2).
* وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى واحداً وأربعين موطناً منها على سبيل المثال: الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد, وعند الخروج منه, وبعد إجابة المؤذن, وعند الإقامة, وعند الدعاء, وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة, وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم, وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة, وعند كتابة اسمه, وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات, وآخر دعاء القنوت, وعلى الصفا والمروة, وعند الوقوف على قبره, وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة, وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه, وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه(3).
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 304)(8767)صحيح
(2) سنن أبى داود (2043 )صحيح
(3) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صلّى الله عليه وسلّم للإمام ابن القيم رحمه لله تعالى.
(2/72)
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا حديث أنس رضي الله عنه لكفى عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ » (1).
* ـ وجوب التحاكم إليه والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء, وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ،ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) سنن النسائى (1305)صحيح
(2/73)
* ـ إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(1), وقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام, وقال تعالى : {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) }سورة الجن, وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } (30) سورة الزمر, وقال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (34) سورة الأنبياء, وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} سورة الأنعام, الآيتان: 162, 163..
__________
(1) سورة الأنعام, الآية: 50.
(2/74)
و عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، قَالَ : أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ذَاتَ يَوْمٍ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الضُّحَى ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ جَلَسَ مَكَانَهُ حَتَّى صَلَّى الأُولَى ، وَالْعَصْرَ ، وَالْمَغْرِبَ ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَقَالَ النَّاسُ لأَبِي بَكْرٍ : سَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُهُ ؟ صَنَعَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ قَطُّ ، فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَأَمْرِ الآخِرَةِ ، فَجُمِعَ الأَوَّلُونَ وَالآخَرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَفَظِعَ النَّاسُ لِذَلِكَ حَتَّى انْطَلِقُوا إِلَى آدَمَ وَالْعَرَقُ كَادَ يُلْجِمُهُمْ ، فَقَالُوا : يَا آدَمُ ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، قَالَ : قَدْ لَقِيتُ مِثْلَ الَّذِي لَقِيتُمْ ، انْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ إِلَى نُوحٍ : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }[سورة آل آية 33 ] ، قَالَ : فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوحٍ ، فَيَقُولُونَ : اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ ، وَاسْتَجَابَ لَكَ فِي دُعَائِكَ ، وَلَمْ يَدَعْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، فَيَقُولُ : لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلا ، قَالَ : فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى مُوسَى ، فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا ، فَيَقُولُ مُوسَى :
(2/75)
لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى عِيسَى ، فَإِنَّهُ يُبْرِيءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى ، فَيَقُولُ عِيسَى : لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي ، وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، انْطَلِقُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَلْيَشْفَعْ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ، قَالَ : فَيَنْطَلِقُ ، فَآتِي جِبْرِيلَ ، فَيَأْتِي جِبْرِيلُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ، قَالَ : فَيَنْطَلِقُ بِهِ جِبْرِيلُ ، فَيَخِرُّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، قَالَ : فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى رَبِّهِ خَرَّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ أُخْرَى ، فَيَقُولُ اللَّهُ : يَا مُحَمَّدُ ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ تُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، قَالَ : فَيَذْهَبُ لَيَقَعُ سَاجِدًا ، قَالَ : فَيَأْخُذُ جِبْرِيلُ بِضَبْعَيْهِ ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الدُّعَاءِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى بِشْرٍ قَطُّ ، قَالَ : فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، جَعَلْتَنِي سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ ، وَأَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ لأَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ صَنْعَاءَ ، وَأَيْلَةَ ، ثُمَّ يُقَالُ : ادْعُوا الصِّدِّيقِينَ فَيَشْفَعُونَ ، ثُمَّ يُقَالُ : ادْعُوا الأَنْبِيَاءَ ، قَالَ : فَيَجِيءُ النَّبِيُّ مَعَهُ الْعِصَابَةُ ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ يُقَالُ : ادْعُوا الشُّهَدَاءَ ، قَالَ : فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ
(2/76)
أَرَادُوا ، فَإِذَا فَعَلَتِ الشُّهَدَاءُ ذَلِكَ ، قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، ادْخُلُوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، قَالَ : فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، قَالَ : ثُمَّ يَقُولُ : انْظُرُوا فِي النَّارِ هَلْ مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ ، قَالَ : فَيَجِدُونَ فِي النَّارِ رَجُلا ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ ، فَيَقُولُ : أَسْمِحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي ، ثُمَّ يُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ رَجُلا آخَرَ ، فَيَقُولُ : هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ ، فَيَقُولُ : لا ، غَيْرَ أَنِّي أَمَرْتُ وَلَدِي إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي بِالنَّارِ ، ثُمَّ اطْحَنُونِي حَتَّى إِذَا كُنْتُ مِثْلَ الْكُحْلِ ، فَاذْهَبُوا إِلَى الْبَحْرِ فَذَرُّونِي فِي الرِّيحِ ، قَالَ : فَقَالَ اللَّهُ : لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مِنْ مَخَافَتِكَ ، قَالَ : فَيَقُولُ : انْظُرْ إِلَى مُلْكِ أَعْظَمِ مَلِكٍ ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ ، قَالَ : فَيَقُولُ : لِمَ تَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ ؟ فَذَلِكَ الَّذِي ضَحِكْتُ مِنْهُ مِنَ الضُّحَى .(1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
المصادر والمراجع الهامة
1. تفسير الطبري
2. تفسير ابن كثير
3. تفسير ابن أبي حاتم
4. تفسير الرازي
5. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
6. في ظلال القرآن
7. الوسيط لسيد طنطاوي
8. أيسر التفاسير للجزائري
9. التفسير الميسر
10. تفسير الكشاف
11. أيسر التفاسير لأسعد حومد
12. تفسير السعدي
13. أضواء البيان
14. التحرير والتنوير
15. المنتخب من تفسير القرآن
16. موطأ مالك
17. صحيح البخارى
18. صحيح مسلم
19. سنن أبى داود
20. سنن الترمذى
__________
(1) - مسند أبي عوانة(332 )صحيح
(2/77)
21. سنن النسائى
22. سنن ابن ماجه
23. مصنف عبد الرزاق مشكل
24. مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
25. مسند أحمد
26. أخبار مكة للأزرقي
27. أخبار مكة للفاكهي
28. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
29. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
30. المستدرك على الصحيحين للحاكم
31. المعجم الكبير للطبراني
32. المعجم الأوسط للطبراني
33. المعجم الصغير للطبراني
34. دلائل النبوة للبيهقي
35. السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
36. شعب الإيمان للبيهقي
37. سنن الدارمى
38. مسند البزار 1-14
39. مسند أبي يعلى الموصلي
40. مسند الحميدى
41. صحيح ابن حبان
42. صحيح ابن خزيمة
43. مسند الشاميين للطبراني
44. مجمع الزوائد
45. شرح معاني الآثار
46. مشكل الآثار للطحاوي
47. السلسلة الصحيحة - مختصرة
48. صحيح أبي داود
49. صحيح ابن ماجة
50. صحيح الترغيب والترهيب
51. صحيح الترمذي
52. صحيح السيرة النبوية
53. صحيح وضعيف الجامع الصغير
54. المنتقى - شرح الموطأ
55. فتح الباري لابن حجر
56. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
57. شرح ابن بطال
58. شرح النووي على مسلم
59. عون المعبود
60. فيض القدير
61. فتاوى الأزهر
62. فتاوى السبكي
63. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
64. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
65. مجموع فتاوى ابن تيمية
66. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
67. فتاوى يسألونك
68. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
69. الفقه الإسلامي وأدلته
70. الموسوعة الفقهية الكويتية
71. طرح التثريب
72. نيل الأوطار
73. الفقه على المذاهب الأربعة
74. موسوعة خطب المنبر
75. الوابل الصيِّب لابن القيم
76. الفوائد لابن القيم
77. بدائع الفوائد
78. رياض الصالحين للنووي
79. عيون الأثر
80. قصص الأنبياء
81. الشفا
82. السيرة النبوية لأبي شهبة
83. فقه السيرة للغزالي
84. فقه السيرة النبوية للبوطي
85. السيرة النبوية لأبي فارس
(2/78)
86. السيرة النبوية الصحيحة للعمري
87. الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية
88. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
89. السيرة النبوية لابن كثير
90. قراءة سياسية للسيرة النبوية
91. دولة الرسول من التكوين إلى التمكين
92. الموسوعة في سماحة الإسلام، عرجون
93. الجانب السياسي في حياة الرسول
94. صفة الغرباء، سلمان العودة
95. دولة الرسول من التكوين إلى التمكين
96. فقه الدعوة، عبد الحليم محمود
97. التمكين للأمة الإسلامية
98. فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك
99. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام للإمام ابن القيم
100. الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون
101. مقومات الدعوة والداعية، بادحدح
102. التربية القيادية
103. التاريخ الإسلامي للحميدي
104. الهجرة النبوية المباركة
105. المستفاد من قصص القرآن
106. الهجرة النبوية المباركة
107. محمد رسول الله، محمد عرجون
108. السيرة النبوية الصحيحة
109. حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول
110. السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر
111. الروض الأنف
112. زاد المعاد
113. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
114. سيرة ابن هشام
115. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
116. السيرة النبوية السباعي
117. حياة الصحابة للكاندهلوى
118. موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
119. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
120. الطبقات الكبرى لابن سعد
121. سير أعلام النبلاء [ مشكول + موافق للمطبوع ]
122. السيرة النبوية لابن إسحاق
123. تاريخ الرسل والملوك
124. البداية والنهاية لابن كثير مدقق
125. تاريخ الإسلام للذهبي
126. النهاية في غريب الأثر
127. تاج العروس
128. لسان العرب
129. مختار الصحاح
130. برنامج قالون
131. المكتبة الشاملة 2
132. كثير من مواقع النت
الفهرس العام
آدم (عليه السلام) ... 4
العبرة من قصة آدم عليه السلام ... 15
قصة ابني آدم ... 19
(2/79)
بعض الدروس والعبر ... 21
إدريس (عليه السلام) ... 23
الدروس والعبر ... 23
*- هل إدريس أول الرسل ؟ ... 23
نوحُ (عليه السلام) ... 25
بعض الدروس والعبر من قصة نوح عليه السلام ... 27
وقفات مع قصة نوح عليه السلام ... 30
هودُ (عليه السلام) ... 32
وقفات مع قصة هود عليه السلام ... 33
صالح عليه السلام ... 39
إبراهيم (عليه السلام) ... 43
لوطٌ عليه السلام ... 53
إسماعيلُ عليه السلام ... 57
إسحاقُ عليه السلام ... 62
يعقوبُ عليه السلام ... 64
يوسفُ عليه السلام ... 65
الدروس والعبر في قصة يوسف عليه السلام ... 75
أيوبُ عليه السلام ... 82
الدروس والعبر ... 84
ذو الكفل عليه السلام ... 87
يونسُ عليه السلام ... 88
الدروس والعبر ... 90
(1) الثمار العقدية للاستغفار ... 90
2- الاستغفار توحيد وتمجيد: ... 92
3-من آثارِ الاستِغفارِ النجاةُ من الفِتَن والمكدِّرات: ... 93
4- الاستغفار استقرار نفسي: ... 93
5-الاستغفار سعادة ورضوان: ... 93
6-الآثار الاجتماعية للاستغفار: ... 94
شعيبُ عليه السلام ... 96
الدروس والعبر ... 101
موسى وهارون عليهما السلام ... 104
موسى والخضر ... 114
قصة بقرة بني إسرائيل ... 116
قصة قارون مع موسى ... 119
بعض الدروس المستفادة من القصة: ... 123
إلياس (عليه السلام) ... 126
اليسع (عليه السلام) ... 127
داود(عليه السلام) ... 129
الدروس والعبر ... 137
1- تجليات فضل اللَّه على عباده. ... 137
2- الشكر قيد النعمة: ... 137
3- بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم: ... 137
4- أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده: ... 139
سليمانُ(عليه السلام) ... 143
الدروس والعبر ... 150
بين داود وسليمان عليهما السلام ... 150
زكريا (عليه السلام) ... 153
يحيى(عليه السلام) ... 156
عيسى(عليه السلام) ... 158
الدروس والعبر ... 167
1-كم حملت أم عيسى عليه السلام؟ ... 167
محمد صلى الله عليه وسلم ... 169
الشمائلُ العامَّةُ ... 209
الشمائل المحمدية ... 214
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، ... 215
بعضُ شمائله ووصاياه ... 220
الأمرُ بالتيسير والرفق ... 220
ومن ذلك الحذر من الغضب ... 221
ومنه الحلم والأناة ... 221
ومن ذلك الوصية بالجار ... 221
(2/80)
الرحمة بالأطفال ... 222
حنانه وشفقته بالمريض ... 223
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات ... 223
خلقه في الوفاء : ... 224
وكان وفياً لأقاربه ... 225
وفيًّا مع أصحابه ... 226
وفيًّا مع أعدائه ... 226
حياؤه صلى الله عليه وسلم : ... 228
حسن خلقه وعشرته : ... 231
هديهُ صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه : ... 232
هدية صلى الله عليه وسلم في مشيه ... 233
ضحك النبي صلى الله عليه وسلم : ... 233
مزاحه ومداعبته صلى الله عليه وسلم : ... 236
زهده صلى الله عليه وسلم : ... 238
عدل النبي صلى الله عليه وسلم : ... 242
الدروس والعبر ... 245
10- تهيئة الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: ... 247
* بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم: ... 247
* بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته: ... 248
13- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه: ... 253
14- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان: ... 254
15- شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة: ... 255
16- فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن ... 255
17- البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي ... 256
18- حكمة الابتلاء وفوائده: ... 257
*- تصفية الصفوف: ... 257
*- تربية الجماعة المسلمة: ... 257
*- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة: ... 257
*- معرفة حقيقة النفس: ... 258
*- معرفة قدر الدعوة: ... 258
*- الدعاية لها: ... 258
*- جذب بعض العناصر القوية إليها: ... 258
*- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات: ... 258
19- الحكمة من الهجرة إلى الحبشة: ... 259
20- وفي الرحلة للطائف حكم عديدة : ... 259
21- وفي حادثة الإسراء والمعراج عبر منها : ... 261
22- وفي الهجرة للمدينة المنورة دروس كثيرة منها : ... 262
*- الصراع بين الحق والباطل ... 262
*- مكر خصوم الدعوة بالداعية: ... 262
* الأخذ بالأسباب أمر ضروري: ... 263
*- الإيمان بالمعجزات الحسية: ... 263
*- جواز الاستعانة بالكافر المأمون: ... 263
*- دور المرأة في الهجرة: ... 264
*- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح: ... 265
(2/81)
*- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس: ... 266
23 - وفي المدينة المنورة دروس كثيرة منها: ... 267
*- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع: ... 267
*- التربية بالقدوة العملية: ... 267
*- آصرة العقيدة هي أساس الارتباط: ... 267
*- الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني: ... 269
24 - وفي غزوة بدر دروس شتى منها: ... 269
*- حقيقة النصر من الله تعالى: ... 269
*-الولاء والبراء من فقه الإيمان: ... 270
25 - وفي غزوة أحد دروس وعبر كثيرة منها: ... 271
*- تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني: ... 271
*- تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد: ... 272
*-ضرب المثل بالمجاهدين السابقين: ... 273
*- خطورة إيثار الدنيا على الآخرة: ... 274
*- التعلق والارتباط بالدين وليس بالأشخاص ... 274
26 - وفي غزوة الخندق دروس كثيرة منها: ... 275
*- شتان بين التصور والواقع ... 275
*-من أدب الخلاف: ... 276
27 - وفي صلح الحديبية دروس كثيرة وعبر منها: ... 277
*- حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس: ... 277
*- هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم؟ ... 278
28 - وفي فتح مكة وغزوة حنين حكم كثيرة منها: ... 279
*- كان لهذا الفتح آثار عظيمة دينية وسياسية واجتماعية ... 279
*- تحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين ... 279
وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ.} *- إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء- ... 282
*- إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة ... 282
30 - وفي حجة الوداع حكم عظيمة منها: ... 282
* تربية المجتمع على مبادئ أساسية: ... 282
31 - حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته ... 284
(2/82)
القصص القرآني ياسر برهامي
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود
من أعجب القصص قصة أصحاب الأخدود، وفيها بيان فضل العلم وأهمية الصبر عليه، وفضل ثبات المؤمن على الحق، وعدم قبوله للتنازلات التي تفسد دعوته ودينه، وفيها إشارة إلى نصر الله تعالى لأوليائه الصالحين على عدوهم حسياً ومعنوياً، بل سماه فوزاً كبيراً.
(1/1)
الهدف من الخلق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فإنه كلما ازدادت المحن على أمة الإسلام، وازداد ظلم أعدائها من الكفرة والمنافقين، احتاج الإنسان أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليراجع الأهداف والنتائج التي ينبغي أن تكون منه على بال، وأن يعلم الهدف الذي يسعى إليه أهل الإيمان، والذي من أجله يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، إن وضوح الهدف بإذن الله تبارك وتعالى إذا كان فعلاً مستقى من الكتاب والسنة يبعد عن الإنسان شبح اليأس، ويمنعه من القنوط أو من الشعور بالفشل في تحقيق الأهداف، فكثير من الناس إذا لم ير بعض الأهداف تتحقق أمامه يغفل عن الهدف الأعلى والأسمى الذي يريده كل مؤمن، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، وأن يوفق في ذلك، فلابد أن يكون هذا الهدف واضحاً أمامنا، أما تحقيق نصر في موضع معين، أو زمن معين فهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
وهو سبحانه وتعالى لا يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة مستمرة، فقد يتأخر النصر، وقد تحصل هزيمة، وقد يقع للمسلمين قتل وأسر وجراح وآلام كثيرة، ولكنهم إذا فهموا قضيتهم وعلموا هدفهم الحقيقي، وأن النتائج التي تتحقق على أرض الواقع ليس مقياسها حصول التمكين من عدمه، بل حقيقة الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الحكمة من وجود البشر بل وجود الإنس والجن فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إذاً لابد أن يكون هدفنا هو تحقيق العبودية لله عز وجل، وأنت أيها المؤمن لا يمنعك من ذلك مانع مهما كان الأمر، وسواء كنت ممكناً على رءوس الناس أو كنت مستضعفاً في غياهب السجون، فأنت لا يمنعك مانع من عبودية الله عز وجل، في فقرك أو غناك، في صحتك أو سقمك، في شبابك أو هرمك، أنت تعبد الله سبحانه وتعالى على أي حال؛ لأنك علمت الهدف من وجودك، وكذلك أنت تسعى إلى أن يؤمن الناس حتى ولو قتل جميع أهل الإيمان، ونحن أيضاً نسعى إلى أن يؤمن الناس وأن يعبدوا ربهم سبحانه وتعالى، فهذه غايتنا التي نسعى إليها؛ لأن هذا أمر يحبه الله وشرع من أجله الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله، وأما أن تكون نهاية المطاف في حقنا أو في حق الطائفة التي نحيا وسطها أن يمكن لهذه الطائفة فهذا خطأ.
(1/2)
أسباب عدم تمكين أهل الحق
اعلم أن طائفة الحق قد لا تمكن لأمور: إما لأن الله سبحانه وتعالى ادخر لهم من الفضل والإنعام ما لا يخطر ببالهم، ويرشدنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما من سرية تسلم وتغنم إلا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من سرية تخفق وتصاب إلا كان لهم أجرهم كاملاً)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وإما أن يكون ذلك لقصور وجد في السائرين إلى الله سبحانه وتعالى ويحتاج منهم إلى تعديل، وغالباً لا يكون النظر في التعديل إلا عند أوقات الشدائد والمحن، فيفكر الإنسان من أين أصابنا ما أصابنا؟ كما قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
فهكذا يبين لنا كتاب ربنا سبحانه وتعالى الحكم من وراء تقدير المحن، فيكون في ضمنها منح وفضائل على أهل الإسلام؛ ليراجعوا قلوبهم وأعمالهم ودعوتهم، ويتأملوا فيما يجري حولهم من تغير موازين القوى حتى تكون النهاية بفضل الله سبحانه وتعالى حتماً وقطعاً لصالح أهل الإسلام، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك لجيل أو طائفة، ولذلك نقول: عندما يشتد الأمر على المسلمين يحتاجون إلى الرجوع إلى كتاب الله والسنة؛ ليجدوا في الكتاب والسنة قصص الدعاة إلى الله عز وجل، وقصص أنبياء الله سبحانه وتعالى.
ومن لم تثمر دعوته النتائج المرجوة التي قد يرجوها الإنسان، فلا يظن أن النتيجة هي أن يحصل التمكين وأن يظهر الدين ويعلو، فهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وقد قص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه أنه عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم فرأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.
وبعض الدعاة إلى الله عز وجل كانت نتيجة دعوتهم في الدنيا موت جميع المؤمنين بل قتلهم، وكان في ذلك الانتصار، وكان في ذلك الفوز العظيم، فقصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله عز وجل في كتابه ترشدنا إلى هذه النقطة العظيمة الأهمية، فنحن نريد أن يؤمن الناس مهما حصل بعد ذلك، وإذا حققنا معاني العبودية لله سبحانه وتعالى فلا يضرنا ما جرى بعد ذلك، فإن الخطر الأعظم في فترات المحن أن يقع التنازل عن مفهوم من مفاهيم العبودية، أو أصل من أصول الإيمان، أو أن يحرف الدين ويبدل، أو أن يعتقد الناس خلاف الحق تحت ضغط الباطل، فنحن نعلم يقيناً أن الموازين بيد الله سبحانه وتعالى، وأن القوى ليست بأيدي البشر، بل الله هو الذي يهبهم الملك إذا أراد وينزعه منهم إذا شاء كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
فإذا أيقنا بذلك، فإن القضية التي ابتلينا بها اليوم هي أن جعل الله عز وجل القوة بأيدي أعدائنا؛ لينظر كيف نثبت على الإيمان، وكيف نزداد لله إيماناً وتسليماً في فترات المحن والشدائد، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويقلب قلوب العباد بما أراد، ونحن نرى في واقع الحال من ينهار إيمانه، ويزول التزامه عندما يقف في محنة، وعندما يرى أمته مستضعفة ولا يدري ما المخرج لها مما يصيبها من أعدائها، فيختار لها طريق الذل والهوان، وهو طريق التبعية والخنوع لعدوها، وأن تقبل بما يصلها من ذلك العدو الذي كان بالأمس يترك الناس أن يقولوا ما يريدون، أما اليوم فهو يقول لهم: لا تتكلموا إلا بما أريد أنا، فلا تتكلموا بما يعاديني ويعارضني، قولوا كذا ولا تقولوا كذا، علموا أولادكم كذا ولا تعلموهم كذا، وهذا موطن الخطر العظيم.
لذلك نقول: يجب ثبات المؤمنين والدعاة إلى الله عز وجل على دينهم كاملاً غير منقوص لا يترك منه أي جزء، ولا يقال: إن الدين واسع، ويمكننا أن نتكلم في الدين بأشياء كثيرة بغير ما يغضب عدونا، وبغير ما يغضب من يخالفنا في ديننا كطريقة من يريد جعل إبليس والعياذ بالله من المؤمنين؛ لأنه يقر بالربوبية ويقول: ربي الله، ويدعو الله وحده حين يدعو، فلم يتوسل إليه بأموات ولا بملائكة وإنما كما قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، وهو يقر بأن الله الخالق، ويقر بأن هناك يوم بعث فيجعله مؤمناً بالله واليوم الآخر، ولا تتعجب، فإن من الزنادقة والمنافقين والكفرة الملحدين من يجعل أكفر الكفرة أعداء الله ورسله من أكمل الناس إيماناً وتقوى، وأنهم ينبغي أن يقبل منهم كلما يقولون وما يعلنون، لذلك نحتاج إلى أن نتذاكر دائماً، ونكرر ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك القصص الذي تعطينا معنى الثبات، وتوضح لنا عدم قبول الاحتواء الذي يريده العدو والذي يريده من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسعى في الأرض فساداً، نريد أن نتذكر حتى لا نضيع في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن المتلاطمة، والتي نعلم ونوقن أن المقصود الذي يقصده الأعداء هو أن يهدموا هذه الصورة الحقيقية لدين الله، فهم يجزمون أن القوة المادية التي بأيديهم لا يمكن أن تقف في وجه طائفة قليلة ضعيفة من أهل الحق، وأن النمو الأكيد والحقيقي والطبيعي الذي فطر الله العباد عليه هو أن الحق ينمو في قلوب الناس إذا وجد، ولا يقف الباطل أمامه، بل ينهار بكل قوته المادية إذا ثبت الحق، فالحق صخرة صلبة لا يمكن أن يقف في وجهها تلك الهشاشات الباطلة، لكن بشرط أن يكون ثابتاً في القلوب، نقياً صافياً، لا يقبل الاحتواء، ولا يقبل التوجيه المنكر الباطل، ونحن نعلم أن أهل الباطل لهم وسائلهم المتعددة لكي يفرضوا باطلهم.
وفي قصة أصحاب الأخدود ما نحتاج إلى تذكره دائماً، نذكر به أنفسنا، ويذكر به بعضنا بعضاً، والقصة من قصص الكتاب ومن قصص السنة كذلك، وقد ذكرت نهايتها في القرآن العظيم، وذكر تفصيلها وبدايتها ونهايتها في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
فالله عز وجل إنما ذكر النهاية لكي تتضح لنا قضية الأهداف كما ذكرنا، ولكي نعلم أن تحقيق الإيمان هو الفوز وإن قتل من قتل من المسلمين، بل حتى لو قتلوا عن آخرهم.
(1/3)
تعريف أصحاب الأخدود الذين لعنهم الله في القرآن
قال عز وجل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:1 - 4].
أصحاب الأخدود هم الكفرة الذين حفروا الأخاديد؛ لكي تضرم فيها النيران؛ فيحرق بها المؤمنون، فالله عز وجل ذكر أن الذي قتل -أي: لعن- والذي خاب وخسر هم هؤلاء الكفرة، رغم أن النهاية التي وجدت فيما يبدو للناس انتهاء أهل الإيمان عن آخرهم، وقتلهم بذراريهم في ذلك الأخدود، قال بعض السلف: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] بالفعل، وهو أن النار التي أحرقوا بها المؤمنين التفت عليهم حتى أحرقتهم وأهلكتهم بفضل الله سبحانه وتعالى.
فهم أحرقوا المؤمنين بالنار وما وجد المؤمنون من ذلك إلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمس القرصة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فما وجد المؤمنون ألم الحرق الهائل الذي تصوره هؤلاء الكفرة، وإنما قتلوا هم بها، ومنهم من فسر قتل بلعن أي: طردوا من رحمة الله.
فالنهاية الأكيدة: أنه قد زال ملكهم ولو بعد حين، أو مباشرة بعد تلك الوقعة.
قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]، فهم مستحضرون جيداً بما يفعلونه، فلا يصح أن يقال: حدثت في غفلة أو حدثت في خطأ منا، ولم نكن ندري أن هذا سيصيبهم، إنما أصبناهم بطريق الخطأ مثلاً، لا، بل هم شهود على ما يفعلون، يعلمون جيداً ما يفعلون بالمؤمنين.
قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:7 - 8] أي: ما كان ذنب المؤمنين إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد، فالمسألة واضحة ولم يكن هناك أدنى تهمة، فالمؤمنون لم يقتلوا أحداً ولم يسفكوا دم أحد، ولم يجرحوا إنساناً من هؤلاء الكفرة، وإنما كان ذنبهم عند الكفرة أنهم آمنوا بالله!
(1/4)
الله العزيز الحميد
قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] تأمل هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات القرآنية، فالله العزيز الذي قهر عباده، هو غالب على أمره، وهو عز وجل لا يمانع ولا مرام لجنابه، ولا ينال جنابه وعظمته، بل لا يقدر الخلق أن يتطلعوا إلى أن يكون لهم الملك والعز والسلطان في هذا الكون، فأقصى شيء أن يحاول الإنسان أن يثبت ملكه على قطعة من الأرض، وربما يتسع طمعه فتتسع تلك الرقعة معه، ولكنه يبهت دائماً إذا قيل له: أتملك الشمس؟! أتملك القمر؟! أتملك أن تغير سير هذه الأرض؟! كما قال إبراهيم عليه السلام للنمرود: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
فالله العزيز في انتقامه من أعدائه، وهو سبحانه الحميد الذي يستحق الحمد، فله الحمد على ما قدر، وله الحمد على ما شرع سبحانه وتعالى، له الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، قدر سبحانه وتعالى آلاماً ومحناً، ولكنه جعل فيها من الحكم والمصالح والمنح والفضائل ما لا يحيط به عقل إنسان، ولذلك يحمد على المكروه كما يحمد على المحبوب.
وفي هذه القصة من أنواع الحمد والثناء على الله عز وجل ما لا تحيط به علوم العباد، وهو العزيز سبحانه وتعالى الحميد الذي لا يجعل تسلط الكفرة على المؤمنين عزاً لهم أو ذلاً لعباده المؤمنين، بل إنما يجعل العزة لمن أطاعه، وهو يحمد على ما قدر من تسليط الكفرة على المؤمنين من غير أن يتمكنوا من إذلالهم، فإن الذل الحقيقي هو حين يغير الإنسان عقيدته وقوله وفعله على حسب ما يريد من غلبه، هذا هو الذي قد ذل بالفعل، هذا الذي لم يعز حين يخضع لعدوه ويقول له: افعل كذا فيفعل، قل كذا فيقول، اترك كذا فيترك، احلق لحيتك فيحلقها، اترك الصلاة فيتركها، وإذا أذن له بالصلاة صلى، وإذا أذن له في الإيمان آمن، هذا هو الذل الحقيقي، وفرعون إنما أغضبه أن يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم، فالناس إذا وصلوا إلى هذا الحال وصلوا إلى الذل، وأهل الإيمان أبوا أن يذلوا، وظلوا على عزتهم معتصمين بالله عز وجل إلى أن ماتوا، فكانوا أعزة بالفعل؛ ولذلك الله العزيز يظهر في هذه القصة من عزته سبحانه وتعالى ما لا يدركه الناس وما لا يعلمونه، وما لو تأمل العبد بعضه لعلم أن الله سبحانه وتعالى لا ممانع له، فأمره نافذ، وهو غالب على أمره سبحانه وتعالى، وله الحمد عز وجل، وكما قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
(1/5)
سعة ملك الله وعظمته
قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج:9].
لا تظنوا -عباد الله- أنما جرى للمؤمنين في هذه القصة وفي غيرها أن ملك الله قد نقص، أو أن ملكه كان في السماوات دون الأرض، أو أن الكفرة أخذوا شيئاً من ملكه، فالملك لله عز وجل كما قال جل وعلا في علاه: ((لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، فالملك هو الذي أراد أن يجتبي بعض عباده ويختبرهم وينظر كيف يضحون في سبيله.
ووالله إن هذا الأمر لظاهر جلي لمن تأمل هذا الكون، أبعد أن ملك الكفرة ما ملكوا من أنواع القوة أهم يملكون شيئاً في السماوات؟! أيملكون أن يمنعوا سقوط مطر أو حصباء عليهم من السماء؟! أهم يملكون شيئاً في هذه الأرض التي تحت أرجلهم؟ لو أنها اقتربت من الشمس قليلاً أهم يستطيعون إبعادها؟! لو اقتربت من الشهب والنيازك المدمرة أهم يستطيعون منعها؟! وهذه الأرض التي نسير عليها أيملك أحد أن يوقفها عن الاهتزاز والاضطراب إذا أمرها الله بالزلزلة، وأوحى لها بأن تتزلزل وأن تخرج ما فيها؟ لا والله لا يملك أحد ذلك، وأنى للعباد أن يملكوا؟ فحقيقة أكيدة أن الله له ملك السماوات والأرض، ولكنه عز وجل إذا أراد أن يجتبي طائفة من عباده ألقاهم وسط عدوهم وجنده محيط بالعدو من كل جانب، وأعداد جنده لا يحيط علماً بها سواه، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].
ففي السماء ما من موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد، ويدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وقال جل في علاه: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، فهم الأقلون عدداً وجند الله أكثر، ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده المؤمنين لينظر ماذا يفعلون؟ أيظلون على إيمانهم وإسلامهم وطاعتهم له وسط هذه الظروف أم يتخلون عن ذلك؟ والله يحب أن يعبد سبحانه وتعالى في الشدة كما يعبد في الرخاء، ويحب أن يعبد في السراء والضراء، ويحب أن يرى من عباده المؤمنين الصبر والثبات رغم شدة المنازعة والمدافعة، ولذلك ألقى بعباده المؤمنين -الذين هم عنده في الآخرة أفضل من ملائكته، بل يجعل الملائكة تسلم عليهم وتدخل عليهم من كل باب- ألقاهم وسط هذا الجو المليء بالفتنة والمحنة، ولذلك لا تظن أبداً أن ملك الله قد نقص أو قد زال عن بقعة من الأرض، بل هو ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).
ولا تظنن أيضاً أن هذا الأمر قد وقع في غياب من الله عز وجل فلا يظن ذلك إلا كافر، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، ويقول تعالى: {اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، ويقول تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] فهو يشهد ما يقع وما يجري من قتل المسلمين، ومن أذيتهم، ومن إحراقهم هم وصبيانهم بالنار رجالاً ونساء وأطفالاً يحرقون بالنار؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله رب الغلام، وإنما ترك هذا الأمر وفي قدرته وعزته وحمده وملكه أن يغير هذا الأمر؛ لأنه يريد أن يتخذ شهداء، ويريد أن يمحص عباده المؤمنين، فهو يحب أن يعبد بأنواع من العبادات لا تقع إلا في مثل هذه الأحوال، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9].
(1/6)
الوعيد الشديد لمن آذى المؤمنين
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
انظر إلى حقيقة الأمر، فإن الكفرة أرادوا إحراق المؤمنين، فجعل الله عز وجل لهم عذاب الحريق، وأرادوا أن يدخلوا المؤمنين النار فأدخلهم الله عز وجل نار جهنم، ولكنه استثنى سبحانه وتعالى فقال: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا))، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة! فلا تنزلن الناس شيئاً من جنة أو نار، فأنت عبد تعبد الله في الشدة والرخاء، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، وتعبد الله على أي حال، فلا تقل: عدوي لابد أن ينتقم الله منه، ومن آذاني فلابد أن يصيبه الله بأنواع الأذى، بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، إذا أراد أن يهدي عبداً هداه، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم شج في وجهه وكسرت رباعيته: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128])، وتاب الله عز وجل على بعض من لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يلعنهم في الصلاة ويقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة وغير واحد، وكانوا ممن تاب الله عز وجل عليهم، فالأمر لله سبحانه وتعالى.
والذي يعذب المؤمنين والمؤمنات بأي درجة من درجات الفتنة؛ ليمنعه من طاعة وعبودية الله عز وجل، ولم يتب إلى الله عز وجل قبل موته، فإنه متوعد بعذاب جهنم وعذاب الحريق؛ لينال أشد أنواع العذاب، وأما المؤمنون فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].
إذاً: النجاح قد تحقق للطائفة المؤمنة مع أنها قتلت وأبيدت، ومع ذلك فقد فازت الفوز العظيم، الفوز الكبير، النجاح الأكبر الأتم، وهذا هو الهدف عباد الله! لذلك نقول: لنراجع أهدافنا، وماذا نريد؟ فنحن نريد الجنة ونريد مرضاة الله من خلال تحقيق العبودية له، بل حقيقة الأمر أن تحقيق العبودية مقصود لذاته، بمعنى: أن فيها الراحة والنعيم في هذه الأرض قبل أن يصل الإنسان إلى الجنة، وفي الجنة إنما يتنعم بقربه من إلهه ومولاه، فضلاً عن أنواع النعيم الحسي الذي في الجنة، فأعظم نعيم لأهل الجنة هو أنهم مقربون إلى الله عز وجل، وأنهم يسلم عليهم ربهم ويكلمهم وينظر إليهم وينظرون إليه، لذلك نقول: هذا هو الهدف، فنحن نريد أن يرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى أياً ما كانت النتائج، وأياً ما تحقق منها، وأياً ما لم يتحقق، وبأي طريقة مضت حياتنا، فالمهم أن نرضي الله سبحانه وتعالى، وأن نعبد الله عز وجل، ولذلك سوف نسير على هذا الطريق مهما رأينا من عقبات وعثرات ومعوقات، ومهما رأينا من أعداء تتكالب، بشرط أن نثبت ولا نقبل التنازل، ولا نقبل أن نجعل القرآن عضين نقبل بعضه ونترك بعضه، فهناك أشياء لا مانع من قبولها وأشياء لا تقبل، وديننا نأخذه كله، وكتابنا نؤمن به كله، وأما أعداء الله كاليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فليس لنا فيهم الأسوة، وإنما أسوتنا فيمن آمن بالكتاب كله، وهؤلاء لا يريدون أن يؤمنوا بالله سبحانه وتعالى ولا بما أنزل، فنحن لا يمكن أن نكون متابعين لهم.
(1/7)
أثر اسمي الغفور والودود في حياة الناس
قال عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14].
ليس البدء والإعادة من صنع الناس، وإنما البدء والإعادة من فعله عز وجل، وهو {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، لا يكرهه أحد على شيء، ولا يمنعه أحد من شيء.
أعظم ما يتنعم به أهل الإيمان معرفتهم بأسماء الله وصفاته، وشعورهم بالحب والاختصاص بالمغفرة، فالله اختصهم بمغفرته، فهو الغفور لهم سبحانه وتعالى، الودود الذي يحبهم ويحبونه، ويستشعرون هذا المعنى أضعافاً مضاعفة حين يبذلون أنفسهم في سبيل الله عز وجل، ولا تظنوا أن من لم يجد طعاماً فجاع، أو من لم يجد شراباً نقياً فعطش، أو من لم يجد فراشاً هنيئاً فنام عليه أنه معذب، لا إنما المعذب من لم يعرف ربه عز وجل وإن نام على أوفر الفراش، وإن وجد ألذ طعام، وإن شرب أحلى شراب، لكنه غائب القلب عن الله سبحانه وتعالى، لم يعرف صفاته، ولم يحب ربه عز وجل، فهذا لا ينفعه ما تنعم به، فالله تعالى يقول: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، والمؤمنون يشعرون بهذا الود بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى، وأكثر ما يكون عندما يضحون في سبيله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
فهم يجدون الحب والود من الغفور الودود عندما يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعندما يجاهدون في سبيل الله، وعندما لا يخافون في الله لومة لائم، وبهذا يصلون إلى حب الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، وعرشه من علامات ملكه سبحانه وتعالى، وهو أعظم المخلوقات، ومن دلائل ملكه وعظمته، وهو المجيد عز وجل.
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، فلا اعتراض لنا على فعله، بل يفعل ما يشاء، وله الحمد سبحانه وتعالى، ولا نعترض على الله، بل لا بد من حمده على ذلك، ورضانا عنه عز وجل رباً إلهاً لا خالق لنا سواه ولا مدبر لأمرنا غيره، ولا نتوكل على غيره ولا نخضع لغيره.
(1/8)
عاقبة الكافرين
قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:17 - 20].
الجنود السابقون من جنود فرعون وثمود كيف كان مآلهم؟ وكيف كانت نهايتهم؟ كذلك تكون نهاية من خالفك يا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا نهاية من خالف ما جئت به من الحق، فقول الله تعالى: (هل أتاك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تذكرة وربط بين الماضي والحاضر، فقصة أصحاب الأخدود فيها من العضات والعبر ما فيها، ولها فائدة في الواقع؛ لذا كان الخطاب المباشر، والتذكرة بفرعون وثمود مثلما جرى للذين قتلوا من الكفرة من أصحاب الأخدود ولعنوا وطردوا، وكان كيدهم في تضليل، والله سبحانه وتعالى يجعل كيد الكافرين كلهم في ضلال، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25].
قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20]، وكما ذكرنا هو عز وجل محيط بالكفرة، فلا يظن أنهم لما أحاطوا بالمؤمنين وأوشكوا أن يأخذوهم أوشكوا أن يوقفوا دعوة الحق، لا والله! بل كما قال تعالى: {واللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20].
(1/9)
عظمة القرآن
قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] صفة المجد هي من صفة الرب سبحانه وتعالى، فالقرآن مجيد عظيم عزيز كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ترك التمسك بشيء منه فهو الذي يهلك نفسه، وسيوجد الله عز وجل من يتمسك به.
قال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] أي: لا يمكن أن يمحى هذا الكتاب ولا أن يغير ولا أن يبدل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة).
(1/10)
قصة الغلام مع الراهب والساحر
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، ونرى هنا نوعين من الطواغيت ينتشرون في كل زمان ومكان، هذا الملك الذي يدعي الربوبية ويقول للناس: لا رب لكم غيري، ولا إله لكم غيري، ومن الملوك من يقولها بلسان المقال ويصرح بها، كما قالها فرعون، وكما قالها هذا الملك كما سيأتي في القصة، ومنهم من يقولها بلسان الحال حين يأمر الناس بطاعته في معصية الله وفي الكفر بالله، ويجعل الإيمان حسب الإذن كما ذكرنا عن فرعون، ففرعون له طريق ومنهج، ولذلك فهو إمام يدعو إلى النار، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقد يقال: كيف يدعون إلى النار وقد ماتوا؟ فنقول: لأنهم أسسوا طريقاً ومنهجاً وأسلوباً للحياة يعيش به هؤلاء الذين يقولون للناس: لا تؤمنوا إلا إذا أذنا لكم.
وإبليس قد يدعي الإلوهية عند سخفاء العقول، ولكنه ارتضى من معظم البشر بأن يعبدوه وهم يلعنونه، فأكثر البشر يعبدون إبليس كما قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:60 - 62] أي: خلقاً كثيراً {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62].
وأكثر الخلق يلعنونه وهم يعبدونه، وقد رضي إبليس بذلك، فهو لا يسمى إلهاً، ولكن في نفس الوقت يعامل معاملة الإله، وكم من الطواغيت يطلبون ذلك، يريدون أن يعاملوا معاملة الإله وإن لم يسموا أنفسهم آلهة، وأن يطاعوا ولا يرد كلامهم، ولو في الكفر، ولو في الشرك، ولو في معصية الله.
وهذا نوع من الطاغوت، وهذا تجبر وتكبر، وهو مفسد في الأرض وإن زعم الإصلاح، وهذا من أعظم أنواع الفساد في الأرض، أن يدعو إلى عبادة غير الله، والملك هنا يستعين بساحر يقلب له الأمور، فالساحر يسحر أعين الناس حتى يريهم الأشياء على غير ما هي عليه، وحتى يقول الناس: هذه العصا حية، وهذا الحبل ثعبان، ولكل زمان سحرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن من البيان لسحراً)، فالذي يجعل الباطل في أعين الناس حقاً يموتون من أجله، والذي يجعل الحق في أعين الناس وقلوبهم باطلاً يريدون أن يدوسوه بالأقدام، هو والله من السحرة، وهو الذي يعضد ملك هؤلاء الطواغيت، فالناس اليوم عندهم أن العفة والطهارة تخلف، وأن الفجور والفحش تقدم، ألا ترونهم في بلاد من بلاد المسلمين كان الستر والحجاب والعفة لما كان أهل الإسلام يحكمونها، فلما دخل الكفرة إلى تلك البلاد خلعت النساء الحجاب وذهبن إلى الكوافير، وتفرج الناس على الأفلام وهم يموتون جوعاً، عجباً والله! ويفتخر أعداؤهم بأنهم قد تقدموا، وقد صاروا في حرية! وليست إلا حرية الفرج والبطن فقط نعوذ بالله، لكن هذا عند الناس هو التقدم، وهو الحرية التي يريدها الكفرة، وتملأ الدنيا صياحاً، فيقال: كفانا هذا الخطاب الذي يملأ حياتنا ضيقاً ونكداً، ويعنون الخطاب الديني، فهذا يكتب في الجرائد والمجلات نسأل الله العافية، وهذا يعلم الناس الباطل على أنه حق، ويعلمهم الحق على أنه باطل حتى يكرهونه أشد من كل الجرائم، ولربما صار بعض الناس إذا يرى ابنه مثلاً يشرب المخدرات والخمر أهون عليه من أن يراه ذاهباً إلى المسجد مع المتطرفين والإرهابيين كما يسمونهم؛ لأن الأمور قد انقلبت، والسحرة قد قاموا بعملهم، فسحروا قلوب الناس قبل أعينهم حتى صار الناس يفعلون الباطل على أنه الحق، ويتركون الحق على أنه من أعظم المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في انقلاب القلوب: (حتى تصير القلوب على قلبين، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
وكما قال عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67].
لذلك نقول: فعلاً لكل زمان هذه النوعية من الطاغوتين المتعاونين، والساحر طاغوت كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حده وحكمه، وقال غير واحد من الصحابة: حد الساحر ضربة بالسيف، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
فالسحرة والكهنة من الطواغيت ومع الذين يحكمون بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء دائماً يتعاضدون ويتعاونون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، وعجيب شأن هذا الساحر! لماذا يحرص على استمرار الشر من بعده؟ أيريد ثواباً من تعليم هذا الغلام السحر؟ لا يريد ذلك قطعاً، لكنه يعمل لحساب إبليس، فما المبرر أن يسعى في إيجاد جيل من السحرة من بعده ويستمر السحر من بعده؟
الجواب
يحرص على ذلك لأنه تأتيه أوامر أخرى من إبليس اللعين أن يسعى في استمرار الشر والفساد، ونتعجب ممن لا يؤمن بالآخرة أصلاً ولا يوقن بها كعباد البقر مثلاً، لماذا يقاتلون من أجل عبادة البقر وعبادة الأصنام؟ لماذا يضحون بحياتهم؟ فالواحد منهم لا يؤمن بآخرة ولا يؤمن ببعث ونشور، ومع ذلك مستعد لأن يضحي بحياته وأن يموت من أجل أن تظل هذه العقيدة موجودة؛ لأنه كما ذكرنا يعمل لحساب الطاغوت الأكبر إبليس والعياذ بالله من ذلك.
(1/11)
أهمية غرس العقيدة في نفوس الصغار
قال: فابعث إلي غلاماً، لماذا لم يقل: رجلاً؟ لأن الغلام أسرع في التعليم، فإذا غرست فيه المبادئ فإنه سوف يكون حاذقاً فيها، وسوف يعد أجيالاً بعد ذلك من ذلك السحر الباطل والعياذ بالله.
وهذا ينبئنا بمدى خطورة تربية الأولاد، وماذا يريد الأعداء، فالأعداء من السحرة الذين يقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً يركزون جداً على تعليم الأولاد، وينشرون في صحفهم الأجنبية أن المسلمين يقولون للأولاد: إن المؤمنين أمة واحدة، وإنهم يد على من سواهم، وإن بعضهم أولياء بعض، وهذا هو مربط الخطر، وهذه هي الخشية الإسلامية كما يقولها الكاتب الذي كتب ذلك، ويقولون ويهددون: إنكم تدرسون أولادكم أن المسلمين أفضل من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ولابد لكم أن تتركوا هذا الخطاب، ولابد أن تقولوا لهم بعدم التعصب لدينهم، أما هم فيعلمون أولادهم كل مبادئ العصبية والجاهلية، ويستمرون على هذا الكفر والضلال، ولكن المسلمين حرام عليهم أن يقولوا: إن الإسلام هو الحق دون ما سواه، فانظر إلى ما يركزون عليه وما ينبغي نحن إذاً أن نهتم به، إنهم أولادنا، وسواء كانوا أولاداً لنا من صلبنا، أو أولاد المسلمين عموماً فكلهم أولادنا، ولابد أن نسعى إلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم العقيدة الصحيحة، وأن يعلموا أن الإسلام هو الحق لا حق سواه، وأنه لا يعبد بحق إلا الله، وكل عبودية لغيره فهي باطلة، ونريد أن يتربى أبناؤنا على العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم أبناؤنا الحلال والحرام، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن أو الحسين يلتقط شيئاً من تمر الصدقة فيقول له: كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟!)، فيعلمه أن هناك حلال وحرام، وأفضل من أن نقول له: عيب نقول له -إن كان الشيء حراماً-: هذا لا يجوز، والله نهى عن ذلك، أما هم يفعلون أشياء أخرى ويريدون أن يكونوا أمة الأخلاق، فأدخلوا مادة اسمها الأخلاق، ثم هذه الأخلاق لا تتدخل في دين وليس لها علاقة بدين، وإدخال هذه المادة أمر جيد، لكن لابد أن تكون من خلال قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من خلال أن هذا عيب وهذا ليس عيباً ونحو ذلك؛ لأن العيب هذا يمكن أن يتغير، فقد كان في القديم عيب أن تمشي المرأة عريانة، لكن الآن ليس عيباً، وكان عيب أن تظهر المرأة شعرها، أما الآن فليس بعيب، فالعيب سهل جداً أن يتغير، لكن الحرام لا يتغير أبداً، فالحلال والحرام قضية لابد أن يتربى الأبناء عليها.
ولابد أن نربيهم على الآداب الإسلامية ونقول لهم: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ذلك قال للغلام الذي تطيش يده في الصحفة: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، فهذه قضايا كلية لابد أن تغرس في القلوب.
ويربون على الدعوة إلى الله كما حكى الله عن لقمان أنه قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
ويربون على التواضع كما قال لقمان: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، وقبل كل شيء يعلم {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وانظروا كم رجل عنده ابن في سن التمييز وقال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فسيدنا لقمان كان ابنه موحد ونشأ في دين التوحيد، لكن يقول له: ((لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ)).
فينبغي عليك أن تقول لابنك: {لا تُشْرِكْ بِاللَّه ِ) [لقمان:13]، وبالتأكيد سيقول لك: وما هو الشرك يا أبي؟ لأنه لا يعرف معنى الشرك بالله، وأكثر أولاد المسلمين الصغار والكبار أيضاً لا يعرفون من صور الشرك إلا عبادة الأصنام فقط، فعليك أن تبين له صور الشرك الموجودة والواقعية التي لابد أن يحذرها.
(1/12)
دافع الفطرة في النفوس
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبعث إليه غلاماً يعلمه، وانتقى غلاماً حاذقاً وأرسله ليعلمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر ضربه)، قدر الله لهذا الغلام شيئاً عجيباً، وهو أن يتلقى تعليماً مزدوجاً، تعليماً من الراهب الذي أعجبه كلامه، وتعليماً من الساحر الذي يعلمه الأذى والزور والباطل، ويعلمه السحر وأن الملك هو الرب، والراهب يعلمه أن الله سبحانه وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه، وهناك رصيد كبير للساحر فيما يبدو؛ لأنه بتوجيه الملك، وهناك إعداد لأن يكون هذا ساحر الملك الذي يحتاج إليه الملك، يعني: وظيفة كبرى مهيأة لمستقبل هذا الغلام، فالملك في حاجة إلى هذا الساحر، وسبحان الله! كان الرصيد الأعظم في حق الراهب صاحب الصوت المنفرد الضعيف المختبئ في دير أو في كهف أو في طريق غير مشهور ولا معلوم لم يعد يسمعه الملك ولا جنود الملك، وكان صوته ضعيفاً لكنه يركز على الفطرة، ويصل إلى الفطرة الإنسانية المستقر فيها توحيد الله عز وجل، لذا أعجبه ذلك، ولذلك نقول لمن يقولون: ما تبنونه أنتم في سنة سوف يهدمه الباطل في شهر أو في ساعة؛ لأن الباطل بوقه عال، نقول: نعم، عنده أصوات عالية، لكن الحق له رصيد عظيم في النفوس، هو رصيد الفطرة الإنسانية السوية، فكل إنسان يميل إلى الحق؛ ولذلك نجد أنه كلما ازداد الباطل طغياناً وظلماً انصرفت قلوب العباد إلى الطاعة، وإلى الهدى، وإلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا معلوم عبر تاريخ الأمة، فكل المحن يعقبها فترات التزام، ويعقبها فترات إقبال على طاعة الله عز وجل حتى تتغير الموازين بإذن الله تبارك وتعالى.
(1/13)
فضل العلم والصبر عليه
كان الغلام إذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فهذا صبي صغير يضرب من أجل أن يطلب العلم وهو يريد أن يطلب العلم ومع ذلك يضرب ويعاقب، والضرب عند الصبي أشد شيء بلا شك، وهذا كفيل بمنعه، ولكنه يبحث عن الوسيلة التي يستمر بها في طلب العلم، وفي نفس الوقت يتخلص من أذى ذلك الساحر بالضرب، وليكن ذلك منا على بال، فهذا حرص على طلب العلم، ونحن لا يضربنا أحد لكي نترك طلب العلم ولكن الهمة الضعيفة هي السبب، فعندما يتخاذل كثير من طلاب العلم عن طلب العلم، مع أن أحداً لا يعاقبهم على طلبه، وربما مدحوا على الطلب، ونالوا من أنواع المدح ما يسعى إليه كثير من الناس، ومع ذلك الهمم ضعيفة، فلتكن همتنا جزءاً من همة ذلك الغلام الذي يحرص على طلب العلم ويبحث عن الوسيلة التي تمكنه منه ولو ضرب.
قال: (فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، وهذا يؤكد لنا أنه كان يضرب أيضاً من أهله، فصار على الغلام ضغط مزدوج، وصار يضغط عليه أهله حتى يمنعوه من الذهاب إلى مكان آخر؛ ولذلك أرشده إلى التخلص بهذه الحيلة، وهو أن يكذب عليهم مضطراً معذوراً، والكذب في الأصل محرم، لكن إذا اضطر إليه الإنسان جاز له أن يستعمله على قدر الضرورة، وعلمه ذلك الراهب فقال: إذا خشيت أهلك -ولم يقل له: استعمل الكذب على الدوام، وإنما إذا خشيت العقوبة- إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي.
وهو نوع تعريض في الحقيقة، وإن كان يجوز الكذب للتخلص من الظلم، والكذب يباح في هذه الحالة، فلو منعه والداه وأهله من طلب العلم لم يجز له أن يمتنع، ووجب عليه أن يطلب العلم الذي هو فرض عين عليه حتى ولو منعوه؛ لأن العلم لا يتم العمل إلا به، وفرض الكفاية إذا تعين بأن لم يوجد في الأمة من يقوم به فكذلك لا يطاع الوالدان ولا غيرهما في تركه، بل يطلب العلم ولو تعرض لغضبهم أو أذاهم، ويحاول أن يعرض لهم، فإن جلس مدة في أماكن أخرى فليقل: كنت في المكان الفلاني، وهو صادق فإنه قد كان في المكان الفلاني مدة من الزمن لكن ليس كل الزمن.
(1/14)
كرامة للغلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم، الراهب أفضل أم الساحر أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس)، رأى حيواناً عظيماً قد سد الطريق على الناس، فوجد في نفسه فرصة، إذاً: كان التعليم المزدوج ما زال له تأثير، فالساحر يعلمه الباطل والكفر والضلال، وتعليم الراهب هو تعليم الحق، ولكن مع التعليم المزدوج يعطينا هذا الأمل الكبير أنه سوف يثمر التعليم الحق، وأن أثره إيجابي بإذن الله، مع وجود التعليم الآخر المفسد للقلوب؛ لأن هذا الغلام كان أميل إلى أمر الراهب بلا شك، ونلاحظ هذا من عدة أجزاء في قولته قال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم، فأول شيء أنه توجه إلى الله عز وجل ولم يقل: سوف أستدعي جنود الملك مثلاً، فلجأ إلى الله وقال: اللهم! ولا شك أن الدعاء تعلمه من الراهب، وهذه فطرة في الإنسان أن يتوجه عند الشدائد إلى الله، وقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك، فهو يبحث عما هو أحب إلى الله عز وجل فقد غرس في قلبه حب الله سبحانه، وهذا الذي ينبغي أن يربى عليه كل إنسان وهو حب الله، والبحث عن حب الله عز وجل، وما هو أحب إلى الله، الله يحب كذا ولا يحب كذا، وقضية الحب هذه هي التي تغير من كائن الإنسان، بخلاف الأوامر المجردة، فليست أوامراً عسكرية أنت تفرضها على أولادك أو على تلامذتك، بل أنت ترغبهم في دين الله عز وجل، ولذلك سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه لم يلزمه على الذبح، وإنما {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].
فيدعوه إلى أن يفعل هذا الأمر اختياراً، ولم يقل له: ماذا أفعل؟ فإنه سوف يفعل بلا شك، ولكنه يريد أن يفعل الأمر اختياراً لا إكراهاً فلا يثاب على ذلك، فهذا أمر لابد أن نبحث عنه، وهو أن نحب الله عز وجل، ونغرس حب الله عز وجل في قلوب أبنائنا ومن نعلمهم.
الأمر الثالث أنه قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فقدم أمر الراهب على أنه أحب في صيغة السؤال، ثم قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير للناس ويحب الخير للناس، فالساحر يعلمه كيف يؤذي الناس، وكيف يزرع بينهم الأحقاد، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يرغب فلان إلى فلان، ويلقي البغضاء بين فلان وفلان وهكذا، أما هذا فيريد أن ينجو الناس من هذا الحيوان المفترس السبع أو غيره، وهو أيضاً يرجو، والرجاء عبادة من العبادات تعلمها من الراهب بلا شك، أيرجو نتيجة بغير أسباب ومقدمات؟ الكل يستطيع أن يرمي حجراً، لكن أن يقتل الدابة وهو موقن بأن رميته لن تقتلها ولكن الذي سوف يقتلها هو الله عز وجل فهذا لا يوجد إلا في الغلام.
ولذلك قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير لهم، ويعلم أن ذلك بقوة الله وقدرته عز وجل لا برميته.
قوله: (فرماها فقتلها ومضى الناس) هذا فيه إثبات كرامات الأولياء، فهذا الغلام الذي لم يصل بعد إلى سن الكهولة، بل حتى إلى سن الرجولة فلم يزل يقال عنه: غلام، قد صار من أولياء الله عز وجل، الذين يستجيب الله دعاءهم ويخرق العادة من أجلهم.
فرميت حجر من صبي لا تقتل سبعاً بل ولا حتى قطة ولا كلباً، فكيف تقتل الدابة العظيمة؟ هذه قدرة الله عز وجل، فهو أخذ بالأسباب ولجأ إلى الله عز وجل ودعا فاستجاب الله عز وجل دعاءه، وما يكرم الله به أولياءه من أنواع القدرة والتأثيرات كهذه الواقعة، وما يكرمهم به من أنواع العلوم والمكاشفات هي من الأمور الثابتة في الكتاب والسنة، ومما يوقن به أهل السنة والجماعة، ويعتبرونه من عقيدتهم التي لا يجوز مخالفتها، لما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليس معنى كرامات الأولياء أن نطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وما لا يقدر عليه إلا الله بل نسأل الله عز وجل ذلك، وإنما نتعبد لله بحبهم ومتابعتهم على طريقهم، ونجد في هذا أن السبق إلى الله عز وجل ليس بطول المدة، بل ربما يسبق المتأخر المتقدم.
قال: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي)، وهذا الراهب الأستاذ الذي علم هذا التلميذ، مع ذلك رأى من علامات كرامته ومحبته لله عز وجل وبحثه عن حب الله واستجابة الله لدعائه ما دله على فضله وكرامته، فلذلك اعترف له بالفضل مع أنه تلميذه، ومع أن الراهب أسبق التزاماً من الغلام، ومع أنه هو الذي علمه الدين أصلاً، ومع ذلك قد يسبق المتأخر، فالفضل لله عز وجل يؤتيه من يشاء، والعباد يتفاضلون ليس بكثرة العبادة الظاهرة بل يتفاضلون بما في قلوبهم من الحب والخير والإيمان بالله عز وجل والرغبة فيما عنده، ومن أعظم ما يسبق به إلى الله حبه سبحانه وتعالى والبحث عن محبته ومرضاته.
(1/15)
من فوائد قصة الغلام مع الراهب والساحر
الغلام ذهب ليبشر الراهب، ففيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، ويكون أولى الناس بذلك شيوخه الذين علموه، فيعرف لهم الفضل، ويقر لهم بتلك المنزلة، وهذا الراهب كان رجلاً عالماً فعلاً، ولم يكن مجرد راهب متعبد دون علم، بل كان على علم بطريق الحق وسنن الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (راهب) يدل على أنه كان بعد زمن المسيح صلى الله عليه وسلم، فإن الرهبانية إنما وجدت في أتباع المسيح، فقد كان راهباً موحداً على دين المسيح صلى الله عليه وسلم، وليس على دين التثليث وعبادة المسيح الذي هو الشرك بالله سبحانه وتعالى، فإن من قال: إن الله ثالث ثلاثة، أو قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون ولياً.
وقول الراهب: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، هذا من التواضع، ومن الإقرار بالحق، وعدم الحسد والحقد؛ لأنه لم يقل: لماذا يكون الذي علمته أفضل مني؟ أو لماذا اختاره الله علي؟ فليس المؤمن الذي يأكل قلبه الحسد، وليس المؤمن الذي يكون في قلبه الضغائن والأحقاد، وإنما هو مخلص لله عز وجل، قال: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، وعلم الراهب ذلك من سنة الله سبحانه وتعالى في الأولين والسابقين، فإن المرء لا يمكن حتى يبتلى، ولابد أن يبتلى كل من أعلن الإيمان كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
لذلك نقول: من يظن أن طريق الالتزام مفروش بالورود فإنه لا يعرف سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، فلا بد أن يعلم كل من يسير على طريق الحق أنه لابد من الابتلاء.
يقول الراهب: (فإن ابتليت فلا تدل علي) أي: إن ابتليت وقيل: من علمك هذا؟ فلا تخبرهم عني، يريد الرجل بذلك العافية؛ لأنه وإن كان كما سيأتي صبر الصبر العظيم ونشر بمنشار حديد حتى قتل رضي الله تعالى عنه إلا أنه كان يطلب العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية).
فالذي يعرض نفسه للبلاء ويقول: أنا لا يهمني البلاء، على خطر الغرور والإعجاب بالنفس وتزكيتها، وعلى خطر أن يوكل إلى نفسه؛ لأنه معجب بها، وأما الذي يفوض أمره إلى الله، ويسأل الله العافية، ويظهر عجزه وضعفه، فإنه أولى بأن يثبت بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (إن ابتليت فلا تدل علي) من الكتمان المشروع، وهو ألا يدل على من علمه الحق لأعدائه فينتقمون منه ويصيبونه بأنواع الأذى، وقد تحمل الغلام في سبيل هذه الوصية ما تحمل إلى أن شاء الله عز وجل عجزه عن تحملها.
قال صلى الله عليه وسلم: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء)، فسائر الأمراض يداويهم بالدعاء، وكان له تجربة عارف، وأقصر طريق للخير أن يلجأ إلى الله عز وجل، فكان يداويهم ويعالجهم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.
(1/16)
الزهد في الدنيا
(فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، وهذا يدل على مدى انتشار الدعوة، فقد بدأت تدخل في نطاق جلساء الملك، وبدأت تدخل في الطبقة المترفة التي لها شأنها ووزنها، سمع جليس للملك كان قد أصابه العمى، ككل البشر معرضون في فقرهم وغناهم لأنواع البلايا والمحن والأمراض وغيرها، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الأمور كلها عندهم كما هي عند الملك بالمال، فالهدايا هي الغاية المقصودة، والجوائز والأموال هي كل غرض الإنسان، فظن أن هذا الغلام كذلك، وهو يسمع إشاعات فقط، فهو يظن أن الغلام يشفي فيقول له: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وهذا الرجل مريض بأمراض عدة أخطرها مرض القنوط، وأنه يظن أن الشفاء من غير الله، وهذا شرك بالله عز وجل، ومريض بمرض الإعجاب بالمال واستعظامه، فقال: ما ههنا لك أجمع، فهو يعده شيئاً كبيراً، وهو تافه جداً عند المؤمنين.
وقوله: (كله) إشعار بأنه فعلاً معجب بالمال جداً، وأن المال هو كل شيء في حياته، فلم يلتفت الغلام إلى ذلك المال، ولم يقل له: كيف تعرض علي مالاً؟ ولا فكر حتى في أن ينقل كلامه، وإنما قال معالجاً المرض الأشد الأخطر مرض الشرك بالله (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن شئت آمنت بالله ودعوت الله لك فشفاك)، وهذا كلام عظيم، يدل على احتقار الدنيا حيث لم يذمها، قال بعض أهل الكلام في تهذيب النفوس: إن الزهد في الدنيا، نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً.
ومعنى نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أي: بخلاً، وقولهم: طلباً أي: حرصاً وطلباً لها.
وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً؛ لأن أمرها حقير جداً، فلا تستحق الذم فضلاً عن المدح، فكونه يذمها فيه دليل على أنها لا زالت عظيمة عنده، ويريد أن يعوض نفسه بمذمتها، فلما تأتي لرجل وتواسيه على أمر ذهب عنه من حطام الدنيا، يدل على أن أمرها عظيم في قلبك وقلبه، أما لو كانت صغيرة جداً فلم تنشغل بها؟ فلا يوجد أحد يواسي رجلاً من أجل دجاجة ماتت عليه؛ وذلك لأن أمرها هين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ولكن هي في القلوب، ولذلك فنحن دوماً نذمها؛ لأنها كبيرة في قلوبنا، ولو أنها صغرت في أنفسنا ما انشغلنا بذمها.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك -أي: صغير الأذنين- ميت فقال: (من يود أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! ما نود أنه لنا بشيء، فقال: إن الدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
وإنما ينشغل الإنسان بمذمة الدنيا إذا كانت كبيرة في قلبه، وبمدحها إذا كانت أكبر وأشد والعياذ بالله، فالرجل يرى أن الهدايا كثيرة جداً، والغلام لم يلتفت لها أصلاً لا بالذم ولا بالمدح، ولم يتكلم بكلمة عنها، وأهملها إلى نهاية القصة، ولم يذكرها لا بخير ولا بشر.
(1/17)
استجابة الله لدعاء الغلام بشفاء المرضى
قوله: إني لا أشفي أحداً؛ لأن الغلو في أهل الصلاح والتقوى مرض أكيد وخطير يؤدي إلى الشرك بالله، وهو واقع في هذا الرجل الذي يظن أن الغلام يشفي، فلابد من معالجة الموقف أولاً فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، وشارطه فقال: إن شئت آمنت بالله فدعوت الله لك فشفاك.
وهو يعرف أنه ليس هو الذي يشفي، وإنما هو يدعو الله ربه فيشفيه الله سبحانه وتعالى.
قال: فآمن بالله فشفاه الله تعالى، وهنا نوعان من الكرامة: استجابة الدعاء، وهو من أنواع القدرة والتأثيرات، والنوع الثاني وهو من أنواع العلوم والمكاشفات، وهو أنه قال: إن شئت آمنت فدعوت الله لك فشفاك، فهو يخبره أنه سوف يشفى، وهذا من أنواع العلوم والمكاشفات، فلا يعلم الغلام الغيب، ولكن رجا فضل الله سبحانه وتعالى، فحقق الله له رجاءه في دعائه.
(1/18)
أثر الإيمان في تغيير القلوب
أتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، وهذا دليل على أنه إذا أسلم المرء وآمن ولم يكن في عمله لدى بعض الظلمة أو الطغاة محرم، ولم يكن إعانة على الظلم جاز له أن يستمر فيه، وأما المجالسة إذا كانت لغرض الدعوة إلى الله، وبيان الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلا مانع أن يكون الإنسان في وظيفته ويستغلها في الدعوة إلى الله، كما استغل هذا الغلام حاجة الناس إليه لكي يدعوهم إلى الله عز وجل.
فهذا الجليس جلس عند الملك فرآه مبصراً، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فجليس الملك تغير تغيراً عظيماً جداً، وبالتأكيد هو يعلم عقيدة الملك، ويعلم ما يقوله الملك للناس وخصوصاً جلسائه من أنه ربهم ولا رب لهم غيره، ومع ذلك يواجهه بهذه المواجهة، فالإيمان يغير تغييراً عظيماً في النفوس.
فهذا الجليس كان قبل ذلك يقول: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وكل هدفه أن يشفى من عمى البصر، وهو أعمى القلب، ولا يشعر بأن عمى القلب أغلظ وأخطر، وبعد ذلك تغير حتى صار يجابه الملك بهذه الشجاعة وهذه القوة ويقول: ربي وربك الله، فكأنه استغل الفرصة لكي يجهر بالدعوة في مثل هذا المجلس، ولكي يقول كلمة الحق في مثل هذا المجلس، ولم يعد يهتم بالقوة والمادة والمال، وإنما صار اهتمامه أن يبلغ دعوة الحق، وأن يقول للملك: ربي وربك الله، والملك معروف بالبطش والتنكيل والتعذيب وأنواع العقوبات المختلفة، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وكان لا يعذبه بنفسه وإنما بزبانيته وأعوانه الظلمة أمثاله.
(1/19)
الحذر من احتواء الظلمة للدعوة بالترغيب
وصلت المعلومات كاملة إلى الملك، ووصل التقرير تاماً من أن الغلام هو الذي يقول للناس: ربي وربك الله، وإني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فمصدر الدعوة العلنية في الناس عرف فأحضر، فبدأ الملك بوسيلة الترغيب والاحتواء، قبل وسيلة الترهيب والتعذيب والفتنة؛ لأن وسيلة الترغيب والاحتواء أنفع في إبطال الحق، وأجدر في إزهاقه، وأيسر في ألا يكون هناك بعد ذلك مقاومة أو قبول للغلام لو قبل هذا الترغيب وهذا الاحتواء، فأتي بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، الأكمه هو الذي ولد أعمى، والبرص مرض جلدي معروف لا علاج له إلى وقتنا هذا، فبدأ أولاً يقول له: يا بني! أنت أبني، وأنت حبيبي، وأنت تبعي أنا، وهو يعرف ما يقوله للناس، لكنه ينظر أيقبل هذا الغلام مثل هذا الأمر؟ ولا مانع لديه أن يقال: هذا ساحر الملك، وأن يفعل الغلام بعد هذا ما يفعل، وليدع إلى ما يدعو إليه، طالما كان تحت غطاء الملك وإذنه، وباسم سحر الملك، فإنه يقبل بذلك، فلم يكن الملك غبياً، ولم يكن جاهلاً، أو كان يظن أن الغلام كان يقول: هذا من سحر الساحر؟ لا، بل كان يجزم بأن هذا الغلام يقول: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، ولكن كان يريد أن يحتويه.
ولذلك نقول: هذا الأمر لابد أن ينتبه له الدعاة إلى الله، وألا يقبلوا ذلك الاحتواء، ولا هذا الثوب الذي يكون مأذوناً لهم في لبسه، ويسمح لهم بالدعوة إليه من خلاله، طالما كانوا تحت توقيعات وتوجيهات الملك، وبإذن الملك ومن سحر الملك، ولو أن الغلام سمى ما يفعله سحر الملك لتركه ذلك الملك يفعل ما يشاء، ويكون عوناً له ومرغباً في اتباعه، ولكن سوف تفقد دعوته حقيقتها، وسوف تفقد تميزها، وسوف تفقد براءتها من الباطل، ويكون هذا الستار في الحقيقة قاضياً على الدعوة ومفسداً لها من أصلها.
ولذلك تنبه الغلام وقال للملك قولته التي يكررها: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فقد كان واضحاً لا يقبل مداراة ولا موالاة لذلك الملك، ولا يقبل التبعية لذلك الملك، ولذلك لا يقبل أن يقول: أنا من جنود الملك حتى لو تركه يقول ما يقول، وكم من الناس يسمح لهم بأن يقولوا أشياء كثيرة من الحق لكن بشرط أن يكون ذلك تحت توجيهات الملك، وبشرط أن يكون ذلك بإذن الملك وأمر الملك، فلابد أن تعلم أن دعوة الحق هي بإذن الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الكفرة في أن يدعو إلى الله عز وجل.
(1/20)
الصبر في الدعوة على ظلم الطغاة
قال الغلام: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه إلى أن عجز الغلام عن كتمان اسم الراهب، وقد صبر الغلام على القتل، وصبر جليس الملك على القتل، ولم يصبرا على الدلالة على بعضهم، ولا شك أنه تحمل كثيراً قبل أن ينطق، ولكن قد يصل الأمر إلى العجز فنسأل الله العافية، وإذا وصل الحال إلى ذلك كان الأمر بلا إثم إن شاء الله تبارك وتعالى.
قال: فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، وعرف مصدر الدعوة الذي كان صاحب الدعوة السرية، وهذا الذي لم يعلن نفسه للناس خطره ليس كبيراً على المجتمع، ولذلك مباشرة كان التوجيه إليه أن قيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فأتي بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
وانظر إلى صبر هذا الراهب، لم يرجع عن دينه أبداً، وهو الذي كان يقول: إذا ابتليت فلا تدل علي، ولعل من سمع هذه المقولة ظن أنه رجل ضعيف، وإذا به من أقوى الأقوياء، وشهد شهادة الحق في هذا الموطن، وأبى أن يرجع عن دينه، وتحمل في سبيل الله عز وجل حتى قتل شهيداً، فصار حياً عند الله عز وجل مع الشهداء.
ثم أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأتي، فؤتي بالمنشار، وهذه قتلة شديدة جداً، فالضرب بالسيف أهون، والقتل بالرصاص أهون.
وانظر إلى جليس الملك ذلك الذي يتحمل مثل هذا الألم العظيم، فالإسلام والإيمان يغير الإنسان أعظم تغيير، أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، هؤلاء الذين كانوا من قبل رفقة في سبيل المحافظة على هذا الملك الزائل، فمستعد أن يقتل، وأن يعذب، وأن ينتهك حرمات أصفى الأصفياء، فهذه نوعية من البشر لا تعرف إلاً ولا ذمة، ولا تعرف حرمة ولا أثراً لعلاقة إنسانية، فجليس الملك من أقرب المقربين إليه ومن خاصته وأصفيائه ومع هذا يفعل به ذلك، أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فأمر به فشق حتى وقع شقاه.
(1/21)
رعاية الله لأوليائه
أتي بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى الغلام، وموقفه يختلف عن جليس الملك وعن الراهب؛ لأنه هو الذي دعا الناس، وله منزلة في قلوبهم، وصاحب الدعوة التي سمعها الناس أمره أخطر بكثير، فلا يريد الملك أن يكون هذا الغلام بطلاً في أعين الناس، بل يحاول الاحتواء أولاً كما ذكرنا، فيبدأ بالترهيب البطيء المدى لعله أن يرجع، ويحاول بكل طريقة أن يرجع الغلام ولكن بلا فائدة، فالذي أظهر كلمة الحق عليه مسئولية ضخمة أضخم بكثير ممن يعبد الله عز وجل سراً.
والناس موقفهم سوف يتحدد بناء على موقف الغلام، هل يقبلون الحق أم يرفضونه؟ فله منزلة في قلوب الناس، ولذا حاول الملك أن يستوعبه وأن يجعله يرجع بنفسه، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا به فاصعدوا به إلى جبل كذا وكذا، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ لأنه كلما صعد ورأى المسافة ازداد خوفه، ففي هذا ترهيب طويل المدى لكي يوقع الخوف في قلبه، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، وفي هذا تفويض الأمر إلى الله، والأدب مع الله عز وجل حيث لم يقل: يا رب! أنزل عليهم صاعقة، أو يا رب! ألق بهم، بل قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فهذا توكل على الله عز وجل، وثقة في الله عز وجل، فرجف بهم الجبل فسقطوا ورجع يمشي إلى الملك، والجزاء من جنس العمل، فإنهم أرادوا أن يسقطوا الغلام من ذروة الجبل فسقطوا هم، ونجا الغلام بفضل الله عز وجل.
والغلام صاحب قضية وصاحب دعوة، ما وجدها فرصة حتى يهرب، بل رجع يمشي إلى الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ -وكان الذين معه أشداء وأقوياء جداً- قال: كفانيهم الله تعالى، وفي هذا إغاضة عظيمة للملك، فدفعه إلى نفر من أصحابه عناداً منه وغباء وجهلاً، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي: سفينة، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، وهذا غباء وجهل عظيم، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فانكفأت السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك.
فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ فالملك الآن أصبح لا يريد إلا أن يقتل الغلام غيظاً وكمداً، حتى أنه لم يفكر في عواقب الأمر، فصار يتقبل الأوامر من الغلام، وفي هذا إذلال للملك وإهانه له، فهو بقوته وبمكره لم يستطع أن يقتل الغلام.
(1/22)
حرص الغلام على انتشار الدعوة
قال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، وضع السهم في كبد القوس، ثم قل باسم الله رب الغلام وارم، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، فالغلام يدله على قتل نفسه؛ لكي يؤمن الناس، فهو يضحي بنفسه في سبيل الله عز وجل؛ لكي يؤمن الناس، مع أن قتل النفس محرم، لكن دل على قتل نفسه لأجل المصلحة العظيمة في إيمان الخلق وإيمان أهل البلد جميعاً، فهو رجا أن يؤمنوا إذا رأوا هذه الآية، ولذلك طلب منه تجميع الناس في صعيد واحد، وليست هذه رغبة للشهرة، ولكن رغبة في وصول الحق إلى الجميع.
وأمر الملك بصلبه على جذع؛ لكي يجلب عطف الناس عليه في ذلك؛ لأنه مظلوم، فهذا الغلام الذي يبرئ الأكمه والأبرص، وهذا الغلام الذي قتل الدابة، وهذا الغلام الذي يحب لنا الخير، وهذا الذي يدعو الله لنا، لماذا هو مصلوب على جذع؟ ليس له تهمة إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، فسوف يتناقل الناس ذلك، فإذا لم يكن للمسلم والداعي إلى الله، والعبد الصالح من تهمة إلا أنه قال كلمة الحق، وكان يحب الخير للناس، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الخير، وكان ذلك من أعظم أسباب الإيمان، وليحرص المسلم على ألا تكون له تهمة غير أنه يؤمن بالله ويدعو إلى الله عز وجل.
قال: ثم تصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي أمام الناس جميعاً، لا يأخذ سهماً من عنده، بل يأخذ سهماً من جعبة سهام الغلام، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، وذلك من أجل الذي لم ينظر الملك وهو يأخذ من جعبة السهام يسمعه وهو يقول ذلك.
قال: فجمع الناس في صعيد واحد، ثم صلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، وهذا غباء منقطع النظير، لكن العناد والحقد والحسد أدى به إلى ذلك، فهو يقتله بأي طريقة، قال: ثم رماه فوقع السهم في صدغه، وصدغه أي: جانب رأسه، ووضع يده على صدغه فمات، فقال: الناس آمنا بالله رب الغلام، وآمن الناس لما رأوا هذه الآيات العظيمة، وعجز الملك الذي يقول: لا رب لكم غيري عن قتل هذا الغلام الضعيف الصغير بكل جنوده وأتباعه، وكل مكره وكيده، فآمن الناس بالله عز وجل، وقولهم: رب الغلام، تشريف للغلام، كما قال سحرة فرعون: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:122]، فتشريف الغلام أضيف إليه اسم ربه سبحانه وتعالى.
(1/23)
اضطهاد الطغاة للمسلمين
قال الناس: آمنا بالله رب الغلام، فؤتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك، وانظر إلى العجب فبعد أن يرى الناس هذه الآية، لا يزال هناك من ينصح الملك هذه النصيحة المجرمة الفاسدة، وما زال هناك من لا يريد أن يؤمن ويهتدي، بل يريد أن يمنع الحق أن يصل إلى قلوب الخلق والعياذ بالله من هذه النوعية من البشر، لو رأت الآيات تلو الآيات ما استجابت، ومثلهم الذين استجابوا لفرعون في تقتيل السحرة، فقد رأوا الآيات بأعينهم ثم وجد فرعون من يقتل السحرة آخر النهار، ووجد من يقول له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف:127]، فهذه نوعية مهما رأت من آية، ومهما أتت من حجة لا يمكن أن تقبل، ولا يمكن إلا أن تظل في عبودية هؤلاء الطواغيت، والعداوة الأكيدة لدين الله عز وجل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمر بالأخدود فخدت) أي: فأمر بالحفر فحفرت في أفواه السكك، ثم أضرم فيها النيران، وقيل: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعل الناس وماتوا جميعاً، وفي بعض الأحاديث أنهم قبل أن تصل أجسامهم إلى النار قبضت أرواحهم، فألقيت أجساداً لا أرواح فيها، وهذا يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا كمس القرصة)، فهم أرادوا أن يعذبوا المؤمنين، وما وجد المؤمنون عذاباً، ففعل الناس فوقعوا فيها، حتى أتت امرأة معها صبي لها، وهذا يبين أنه كان يقتل الرجال والأطفال والنساء والعياذ بالله، فهو ظلم بين، ولكن قدر الله عز وجل هذه النهاية لهذه الطائفة أن تؤمن وتنجو عند الله، وإن لم تمكن، وكان في قدرة الله أن يمكن لها، ولكن قدر الله عز وجل أن يموت الداعي وأن يموت المدعو، وأن يقتل الجميع، وأن يمكن الكفرة من ذلك إلى أن يأتي ما أراد عز وجل من قتل أصحاب الأخدود، ومن تدميرهم وإحراقهم.
فليست العبرة بالنتيجة في هذه الأرض، وإنما العبرة بالنهاية عند الله سبحانه وتعالى.
قال: حتى أتت امرأة معها صبي لها، فتقاعست -أي: ترددت- أن تقع فيها، وقالت: أستجيب لدعوة الباطل وأترك الدين، ولا أقع فيها، فقال لها الصبي: يا أمه! اصبري فإنك على الحق.
وهذا هو الغرض الأعظم المقصود في فترات المحن، فالواجب الأكيد أن يصبر الإنسان، وأن يثبت إلى أن يفعل الله ما يشاء، وإلى أن يموت والله عز وجل راض عنه ولا يعبأ بعد ذلك بالنتائج، فالنتائج قطعاً لصالح دين الإسلام، ولن يضر الكفرة دين الله عز وجل شيئاً، بل لن يضروا الله شيئاً، وسوف ينتصر الإسلام حتماً وقطعاً ويقيناً.
فيجب أن نظل على هذا الحق الذي علمناه كاملاً بغير تجزئة ولا تبعيض، بغير أن نقبل ما يريدون، ونترك ما لا يريدون، بل نصبر على الحق، ونصبر على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الأمر كذلك كان الفوز الكبير بإذن الله تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/24)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة قوم لوط
أودع الله في كتابه العزيز كنوزاً وأسراراً لا تنقضي ولا تنتهي، ويظهر منها كل وقت وحين جديد ومفيد، ومنها: القصص المذكورة فيه وما فيها من العبر والعظات، كقصة لوط عليه السلام مع قومه، وما تضمنته من فوائد وعبر وحكم، والتي منها: أن قوة العذاب وشدته راجعة إلى عظم المعصية وشناعتها وقبحها.
ومنها: أن قوم لوط لما اقترفوا فاحشة قبيحة شنيعة عوقبوا بعذاب غير مألوف.
ومنها: أن النصر والتمكين لا يأتي إلا بعد استنفاذ كل الجهود والوسائل البشرية، وبذل كل الأسباب المتاحة.
(2/1)
فوائد القصص القرآنية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: لقد جعل الله عز وجل في قصص أنبياءه ورسله عبرة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111].
وجعل الله عز وجل في قصص أنبيائه ورسله ما يثبت به أفئدة المؤمنين، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
(2/2)
قصة قوم لوط
ونتذاكر معاً قصة من قصص أنبياء الله سبحانه وتعالى، وما فيها من العبر والعظات، التي يحتاج إليها كل مؤمن ومؤمنة في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى، وهي قصة فيها أمور متعددة ربما لم تذكر في قصة أخرى من قصص أنبياء الله، وهي قصة نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(2/3)
سبب كفر قوم لوط وبيان أنهم أول من أتى بفاحشة اللواط
فمما ذكر في هذه القصة ولم يذكر في غيرها: أن هؤلاء القوم -والعياذ بالله- كانوا أول من أتى الذكران من العالمين، وأول من أتى هذه الفاحشة الفظيعة، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى عنهم عبادة الأوثان، وإن كان يمكن أن تكون عبادة الأوثان موجودة فيهم، ولكنه سبحانه وتعالى إنما ذكر عنهم فعل هذه الفاحشة، ولا شك أن هذا أمر يلفت انتباهنا، فإن فعل الفواحش المبنية على الاستجابة للشهوات غالباً ما تكون في حيز المعاصي، والمعاصي صغائر وكبائر، وهذه الفاحشة بلا شك أنها من الكبائر.
لكن الذي ذكره الله عز وجل هو كفرهم وعقابهم على الكفر، وعذابهم المؤبد في النار والعياذ بالله، وهذا يدفعنا إلى أن نفكر في السبب الذي كفروا به، مع أنه لم يذكر عنهم عبادة الأوثان، أو عبادة الملائكة أو الصالحين كما هو في كثير من الأمم، فإن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين وعبادتهم بعد موتهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: هؤلاء أناس صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن اعمدوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها فانصبوا فيها تماثيل وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت.
أما هؤلاء القوم فشركهم من نوع آخر والعياذ بالله فهو من جنس شرك إبليس، وهو رد شرع الله سبحانه وتعالى، والاستهزاء بمن يأمرهم ويدعوهم إلى الالتزام بشرع الله، ولم يكن شركهم وكفرهم إلا استجابة لداعي الشهوات.
ويحتمل أن يكون معه أنواع أخرى من الشرك، لكن الذي ذكر عنهم: أنهم كانوا يردون شرع الله عز وجل، وإبليس كان كفره كذلك، فلم يكن كفر إبليس بأن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أو أنه سمى الأوثان آلهة وعبدها، -وإن كان يدعو إلى ذلك- بل كان أول كفره والعياذ بالله رد أمر الله وشرعه سبحانه وتعالى، والإباء والرفض لأوامر الله، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فكفرهم كان بالإباء، والاستكبار عن شرع الله عز وجل.
وهذا الشرك من أعظم أنواع الشرك وقوعاً، وخصوصاً في آخر الزمان، ففي واقع حياة الناس اليوم يرد كثير منهم شرع الله عز وجل، ويأبون الانقياد له.
وزوال الانقياد من القلب -وإن كان استجابة للشهوات في أول الأمر- يختلف اختلافاً كبيراً عن الاستجابة للشهوة دون زوال الانقياد، فالذي يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية يختلف عن الذي يرد شرع الله، ويأبى ويستكبر ويستهزئ بدين الله سبحانه وتعالى.
وأكثر منبع للفتن في آخر الزمان الشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، والعياذ بالله، فيتبين لنا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أن الكفر قد يكون ببيع الدين؛ لأجل عرض الدنيا؛ ولأجل الشهوات.
وهذا عند التأمل نجده منتشراً في أجزاء العالم كله، فنجد عبادة الشهوات وعبادة المال، وعبادة الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة والملك والرياسة والصور، وذلك الصوت الذي يقود به إبليس قطعاناً وجماعات هائلة تعد بالملايين من البشر إلى الكفر والعياذ بالله، فيستهزئون بدين الله سبحانه، ويأبون الانقياد، ويرون أنفسهم أحراراً فيما يفعلون، ويرون الحرية التي ينادون بها تشمل فعل كل ما يشتهون دون التزام بشيء من شرع الله سبحانه وتعالى، أو التزام بأوامر رسله عليهم الصلاة والسلام، فشرك الإباء والاستكبار والرد لدين الله والعياذ بالله من أخطر أنواع الشرك والكفر.
(2/4)
سبب إهلاك نساء قوم لوط
وهناك نوع ثانٍ نلحظه في قصة قوم لوط، وهو أن الله أهلك الرجال والنساء معاً وكان من ضمنهم عجوز في الغابرين، وهي امرأة لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد ذكر الله عز وجل أنهم يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من أزواجهم، كما قال عز وجل على لسان لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:165 - 166]، فلم تكن هذه المرأة ولا غيرها من نساء قوم لوط يفعلن الفاحشة؛ لأن الرجال تركوا الشابات، فكيف بالعجائز؟ فلا شك أن ذلك أولى بالترك، ولكن لماذا عذبت النساء؟ ولماذا أهلكت امرأة لوط؟ إن سبب هلاكهن هو إتيانهن بنوع آخر من الشرك، وهو شرك الرضا والمحبة والموالاة على الكفر والباطل، وعلى تكذيب الرسول وعلى معاداة الحق، وهذا النوع من أخطر أنواع الشرك والكفر الذي يقع في الأمم، ذلك أن كثيراً من الناس لا يباشرون الباطل بأنفسهم، ولكنهم يرضون بفعله، ويقرون ويصححون فعله، ويرون أن الباطل من كفر وشرك أو نفاق أو معاصٍ وذنوب حق لصاحبه، ويرضون بالمنكر فيصيرون كمن ارتكبوه.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى لذلك أمثلة كثيرة، فقوم ثمود نسب الله عز وجل إليهم قتل الناقة جمعياً، فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14]، وإنما الذي تولى العقر واحد، وهو أشقاها، كما قال تعالى: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:12 - 14]، فنسب العقر إليهم جميعاً؛ لأنهم كانوا مقرين ومساعدين ومعاونين ومؤيدين للذي عقر، كما قال عز وجل: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:29 - 31]، فعذب الجميع لأنهم رضوا، كما أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، ومعاونة لهم على منكرهم، وهي التي أخبرت قومها بأضياف زوجها.
ولوط عليه السلام لم يكن من هؤلاء القوم، وإنما هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهو الذي آمن من قوم إبراهيم، كما قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهاجر لوط مع إبراهيم وأرسله الله إلى قرى سدوم، وهي قرى في فلسطين قرب البحر الميت، وتزوج هذه المرأة من أهلها، وأرسله الله إليهم لينهاهم عن تلك الفاحشة الفظيعة، ولكنها ظلت موالية لقومها محبة لهم على كفرهم وشركهم، راضية بفعلهم، معاونة لهم على الإثم والعدوان، والكفر والطغيان، فصارت مثلهم في المصير والجزاء؛ لأن كل من رضي بالباطل فهو شريك فيه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من شهد المعصية فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن فعلها.
فعدل من الله عز وجل أن يكون حب الكافرين على كفرهم، والرضا به سبباً في الضلال والكفر والعياذ بالله.
وكثير من الناس يرى في نفسه الحق وفي نفس الوقت يصحح مذهب أهل الباطل والشرك والكفر والضلال والنفاق، فيصير منهم، ولو لم يشرك مثل شركهم، أو يفعل مثل فعلهم.
ومعنى هذا: أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، فقطاع الطريق البعض منهم يباشر قطع الطريق، والبعض يحرس، وينظر لهم من يأتي، وفي الحقيقة لن يتم عمل الذي يباشر أخذ المال أو القتل إلا بمعاونة الردء، فهذه المرأة كانت معاونة لقومها، فخرجت إليهم، وأشارت: أن احضروا سريعاً فعند لوط رجال لم يُر مثلهم في الجمال.
فهذا هو سبب هلاك النساء اللاتي رضين بالفاحشة، ورضين بالمنكر والكفر، وكن ضمن المستهزئين بالشرع، وكن مستهزئات بلوط عليه السلام، فكانت خائنة كما وصفها الله بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، وكانت خيانتها خيانة عقيدة ولم تكن خيانة فراش؛ لأنها لم تكن تفعل الفاحشة، ولم يفعل قوم لوط الفاحشة مع عجوز، أو امرأة، فقد كانوا لا يأتون النساء وإنما كانوا يأتون الذكران والعياذ بالله.
(2/5)
الواجب على أتباع الأنبياء
وفي هذه القصة معنى آخر، وهو: أن لوطاً عليه السلام لم يؤمن به من قومه رجل واحد، كما دلت عليه الآيات، كقوله تعالى حاكياً عنه: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، وهذا المعنى يجب أن يضعه الدعاة إلى الله والمؤمنون في كل وقت في الحسبان، فعلينا أن نعمل بما أمر الله، ونلتزم بشرعه، ولو لم يستجب لنا أحد، كما قال عز وجل عن لوط في خطابه لقومه: ((أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ))، فلم يؤمن به رجل واحد، وليس منهم رجل رشيد، وهذا يدلنا على قلة من استجاب للأنبياء، وثمرة هذا العلم ألا نحزن للقلة، وألا نغتر بالكثرة، بل نعمل بما أمرنا به، ولو لم يؤمن أحد، فلم يؤمن بلوط إلا بناته، ولم يؤمن به بيت واحد في القرية كلها، وكانوا فيما ذكر أهل السير نحو أربعة آلاف ألف، أي: أربعة ملايين، وآثارهم الباقية تدل على أنهم كانوا ذوي حضارة، وبعض الناس يقول: وكأن انفجاراً نووياً قد حدث، وشيئاً هائلاً قد دمر هذه القرى، وقرى سدوم بقرب البحر الميت، وهذا يدلنا على شدة عنادهم، وأنه لم يستجب منهم أحد، ولم يؤمن بلوط إلا بناته، فسبحان الله! فلابد أن يعد الداعي إلى الله عز وجل عدته لذلك، وأن يعمل لله سبحانه وتعالى، ولو لم يستجب له أحد، ولو لم يقبل دعوته أحد، فإن الله يغير وجه العالم بالقلة لا بالكثرة، والله يمكن للحق الذي تكون عليه الطائفة المؤمنة لا بكثرة عددها، ولا قوة عتادها، ولكن بقوة إيمانها واستقرار الإيمان وثباته في القلب، وبذلك لا بد من العمل دون النظر إلى النتائج، فهي بإذن الله، وليس علينا أن نحدد النتائج، ولنا أسوة في أنبياء الله الذين لم يستجب لهم أحد، فلنعمل ولنترك النتائج إلى الله سبحانه وتعالى.
(2/6)
حصول النصر بعد البلاء، وجزاء من قطع الطريق لأجل الفاحشة
وحين نتأمل في هذه القصة نجد أن البلاء يشتد ليحصل الانفراج من حيث لا ندري ولا نشعر، فالله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة نصرة للوط، وإهلاكاً لقومه، وتدميراً لهم، فأرسلهم في صور بشر، وفي هذا امتحان شديد للوط عليه السلام؛ فإنهم جاءوه في صورة رجال شبان من أحسن الناس وجوهاً، يطلبون ضيافته، ولم يخبروه بحقيقة أمرهم، وكان اليوم العصيب أشد الأيام، وهو اليوم الذي سبق الفرج والنصر، وسبق إهلاك الظالمين المجرمين.
فالله سبحانه وتعالى أرسل الفرج في صورة امتحان كما ذكر سبحانه وتعالى بأن الملائكة لم يقدموا عليه في صورة ملائكة يطمئنونه، بل جاءوه يطلبون ضيافته، وهو يعلم عجزه عن حمايتهم وعجزه عن دفع قومه عنهم، وقد نهوه عن العالمين، ومنعوه أن يضيف أحداً؛ لأنهم كانوا يقطعون السبيل لنيل الفاحشة، ويأتون في ناديهم المنكر والعياذ بالله! وهذا أظهر ما قيل في تفسير قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29].
ويمكن أن يكون قطعهم السبيل لأجل أخذ الأموال فهو قطع سبيل، ولكن نيل الفاحشة أشد منه، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم: في أن من شهر السلاح ليعتدي على أعراض الناس فليس زانياً فقط، بل هذا يتحتم قتله ولا يطبق عليه حد الزنا فقط، بل يجب قتله؛ لأنه قاطع طريق؛ ولأن الاعتداء على الأعراض أشد على الصالحين من الاعتداء على النفس والمال، وقد قال سبحانه وتعالى في اللذين كانوا يروعون المؤمنات في المدينة: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، ولذا ذكر السدي في هذه الآية: أن من شهر السلاح للاعتداء على الفروج لم يكن له جزاء إلا القتل، وهذا هو الصحيح، وقد ذكر علماء المالكية مثل ذلك فيمن اعتدى على الفروج وقطع الطريق لذلك.
وفي السيرة أن الزبير رضي الله عنه كان في طريق مع جارية له في سفر أو نحوه فمر به لصان فسألاه المال، وكان الزبير رضي الله عنه من أشجع الفرسان، فهو حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب منفرداً إلى بني قريظة وقت خيانتهم، وخرق جيش الروم في اليرموك مرتين ذهاباً وإياباً، فهذان اللصان سألاه المال، فأعطاهما المال، ثم قالا له: خلَّ عن الجارية، فرفع السيف وضربهما ضربة واحدة، فقتلهما، فإنهما لما سألاه أن يترك جاريته لينالا الفاحشة منها قتلهما، والدفع عن العرض واجب باتفاق أهل العلم بقدر الإمكان.
والمقصود: أن قوم لوط نهوه أن يضيف أحداً؛ ليتمكنوا من نيل الفواحش من المارين بهم، وكانوا يفعلون الفواحش علناً والعياذ بالله! وكانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويكشفون عوراتهم علناً، كهذه النوعية التي ترى في زماننا من عبيد الشهوات في المجتمعات المنحطة التي يكثر فيها هذا الفساد، فإنهم يفعلون هذه الفواحش أمام الناس والعياذ بالله! بل صار حالهم أسوأ من قوم لوط لما اخترعوا آلات التصوير الحديثة، فصاروا ربما يفعلون هذه الفواحش أمام الكاميرات؛ لتنقل على العالم في المشارق والمغارب، فنعوذ بالله من ذلك! وذلك من أفظع ما يضر بالفطرة ويضادها، فإن الله فطر الإنسان أن يستتر عند فعل هذه الشهوة، بل فطره على أنه يريد أن يستتر تلقائياً ويستر عورته، كما قال الله عز وجل عن آدم وحواء: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فبحثا عن الستر تلقائياً مع أنه موجود هو وزوجته فقط، ولكن لما انكشفت العورة سرعان ما بادرا إلى سترها، وذلك هو الذي فطر الله العباد عليه، وقد أنزل الله علينا لباساً يواري سوءاتنا، فالتعري أمام الناس فتنة عظيمة شيطانية كما أخبر الله عز وجل، عن ذلك فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27]، فإبليس هو الذي يريد ذلك التبرج والعري والفساد علناً، وقد فعلت الفواحش أمام الناس، وأمام الملايين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالمقصود: أنهم كانوا يأتون كل ذلك فأتى الفرج في صورة امتحان وبلاء؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، فجاءت الرسل لوطاً في صورة رجال، وقد بين الله عز وجل شدة حال لوط في ثلاثة هموم: فقد ساءه وجودهم، وساءه أن يأتيه ضيوف مع كرمه وإحسانه؛ لعجزه عن الدفاع عنهم، كما قال تعالى: ((سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا))، فضاق صدره ولم يحتمل: ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)).
فانظر إلى الشدة التي كان فيها في هذا اليوم الذي كان سابقاً بيوم واحد على يوم النصر والتمكين وهلاك الظالمين، فإن أشد ما تكون الأمور ضيقاً قبيل انفراجها، كما أن من يريد أن يرمي سهماً إلى أعلى يشد الوتر إلى أسفل جداً ثم يتركه فينطلق ليرتفع أعلى ما يمكن، ولو شده شداً ضعيفاً لارتفع ارتفاعاً ضعيفاً، وسنة الله عز وجل أن أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكلما كان في الرجل ثباتاً في الدين زيد في بلائه، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم.
(2/7)
سلب الفاحشة لإرادة الإنسان وخطرها
قال تعالى: ((وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ))، أي: شديد؛ لأنه كان يتوقع أن يأتي قومه إليه، ولذلك فهو يريد أن يخبئ أمرهم؛ ولأنه لا يعلم قوماً أخبث من قومه، فرد على الأضياف معرضاً، والأضياف يصرون على أن يكونوا ضيوفاً، وعلى أن يدخلوا إلى بيته، قال تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ))، فمن الذي جاء بهم، وقد دخلوا إلى بيت لوط وهو يحاول أن يجعله سراً؟! إنها تلك العجوز الخائنة، فإنها خرجت فأشارت إلى قومها أن احضروا سريعاً، قال تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ))، ويهرعون معناه: يسرعون، إلا أنه مبني للمجهول، وكأن هناك من يدفعهم لذلك، وبالفعل فالشيطان يدفعهم إلى مصيرهم، وهو الهلاك الحتمي؛ لينالوا مزيداً من العقاب، والعياذ بالله! وانظر إلى الشهوة التي تعمي الإنسان، فهلاكهم في الغد سيكون أعظم هلاك وهم يبحثون عن الشهوة بسرعة، ولا يفكرون إلا في نيلها، وانظر إلى امرأة العزيز كيف كانت تجذب يوسف حتى مزقت قميصه لتنال الشهوة المحرمة، ولم تشعر بخطوات سيدها الذي وصل إلى الباب! لأن الشهوة تعمي فعلاً، فتجعل الإنسان مسلوب الإرادة، مع أنه محاسب أشد الحساب على تلك الشهوة، قال سبحانه: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78]، والسيئات هنا فسرتها الآية الأخرى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81]، وقال غير واحد: اكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.
(2/8)
حد اللواط
وفاحشة اللواط -والعياذ بالله- من أفظع الفواحش، وهي أشد من الزنا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، أي: إذا كان المفعول به بالغاً مختاراً، وإلا فإذا كان طفلاً أو كان غير مكلف لم يقم عليه الحد، وحد الشذوذ -وهو: إتيان الرجال- هو القتل، وبعض أهل العلم يرى بأن يكون قتله رجماً حتماً، وبعضهم يرى قتله حرقاً، وهذا غير صحيح، وقد روي عن الصحابة الذين لم يبلغهم النهي عن التحريق بالنار فيما يظهر، وروي عن بعض الصحابة أنه يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط.
والذي عليه الشافعي رحمه الله وغيره: أنه يجب قتل اللوطي، وأنه يقتل بالسيف، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله، وهناك وجه آخر عند الشافعي وهو: أن يقام عليه حد الزنا، والصحيح: وجوب قتله، وقد ذكرنا السيئات التي كانوا يعملونها وهي: أنهم كانوا يقطعون الطريق، وحينئذ ينتهكون الفرج المحرم، وقد ذكرنا لزوم العقاب على من فعل ذلك، فقد كانوا يأتون في ناديهم المنكر، وهو: كشف العورات وفعل الفواحش علانية في مجتمعهم ونواديهم التي كانوا يجتمعون فيها.
(2/9)
إعراض قوم لوط عن النساء
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، فحاول أن ينصحهم: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي))، يدعوهم إلى بناته بأن يزوجهن لهم، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهو أنه: يدعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله ويتزوجوا بناته، وقال بعض أهل العلم: المقصود بالبنات: نساؤهم؛ فإن النبي أب لقومه، وهذا غير ظاهر من الآية، بل الذي يظهر أنه عرض بناته، ولكن لا لنيل الفاحشة كما قد يتبادر، فإن الزنا ليس بطهر، ولا يجوز أن يقدم عرضه ليدفع عن أضيافه، فهذا مستحيل، والنبي لا يقبل الدياثة أبداً، والديوث هو: من يقر الفحش في أهله، وهذا لا يدخل الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يظهر أنه عرض بناته للتزويج، وذلك أنهم إذا تابوا إلى الله زوجهم بناته.
وأما القول بأن النبي أب لقومه فهو أب للمؤمنين والمؤمنات، وذلك أن هذه الأبوة معنوية للقلوب؛ لأنه ببعثته ودعوته ولدت قلوبهم من ظلمات الجهل والكفر والظلم وخرجت إلى نور الإيمان والعلم والعدل، فولادة القلوب حق، وبها يكون النبي أباً للمؤمنين، كما قال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي مصحف أبي: (وهو أب لهم).
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)؛ لأن به تفتحت قلوبهم وعقولهم على نور الحق والإيمان، وكانت قبل ذلك في الظلمات، والقلب يولد، كما ورد عن المسيح أنه قال لأتباعه: إنكم لن تجدوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.
وكثير من الناس لا يدري شيئاً عن هذه الولادة، ويظن أن الولادة فقط ولادة الأمهات، ونحن نقول: إن هذا لمن آمن، أما الذي لم يولد قلبه فالنبي ليس أباً له، وقوله تعالى: ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) إنما هي فرع، فأمهات المؤمنين فرع عن أبوة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وليست لكل الأمة، هذا هو الصحيح؛ ولذا نقول: إن قوله تعالى عن لوط: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ))، معناه، أنه كان يدعوهم إلى التزوج من بناته، وأطهر هنا ليست على بابها في أفعل التفضيل، فكثيراً ما تستعمل صيغة (أفعل) وليس بين المفضل والمفضل عليه اشتراك، وذلك كثير في القرآن، كقوله تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، والدنيا لا بقاء لها، ولا خير فيمن طلبها دون الآخرة، وذكر أهل اللغة أمثلة على ذلك من اللغة، مثل قولهم: الثلج أبرد من النار، والنار ليس فيها برد، ولكنهم يقصدون: أن الثلج هو البارد والنار ليس فيها برودة، ونحو ذلك.
وقوله: ((هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)) أي: مما تريدون، والطهر هنا: طهر بفعل ما شرع الله عز وجل، وترك الفواحش التي هي نجس، وإرادة نيل الفاحشة تدل على نجاسة القلب والعياذ بالله.
قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، أي: أنه خاف أن يخزوه في ضيفه بفعل الفاحشة فيهم، وقوله تعالى: ((أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)) استفهام غرضه الإنكار، أي: ليس منهم رجل واحد رشيد يقبل الرشد ويرضى به، فليس عندهم إلا السفه، والعياذ بالله.
قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] أي: من رغبة، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]، أي: ما نريد إلا الرجال.
(2/10)
أهمية التوكل على الله والالتجاء إليه
ولوط عليه السلام كان يدافعهم على الباب، وهم يريدون الاقتحام والرسل بالداخل، وهو إلى تلك اللحظة لا يعلم أنهم ملائكة الله، قال سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فهو حال شديد كان يعانيه لوط عليه السلام، فهو يقول: ((لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً)) أي: لفعلت بكم وفعلت، ولدفعتكم أشد الدفع، ((أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)) أي: إلى قرابة يحمونني، فليس له منهم قرابة كما ذكرنا؛ لأنه كان من قوم إبراهيم، فهو ابن أخي إبراهيم وغريب عليهم، أما امرأته التي تزوجها منهم فقد كانت عدوة له، وموالية لقومها ضده، فلم يكن يأوي إلى قرابة، ولم يستحضر لوط عليه السلام في تلك اللحظة أنه كان يأوي إلى الله عز وجل، ولقد كان ذلك في قلبه، لكنه عنى القرابة، وذهب ذهنه إليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
فهو فعلاً كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عتب عليه في هذه الكلمة، وهو لم يترك التوكل، ولم يكن نسي أنه يأوي إلى الله عز وجل ويعتمد بقلبه عليه، ولكنها لحظة تذكر فيها الأسباب، ويذكر انعدامها عنده، فعتب عليه فيها، وذلك في حق الأنبياء درجة من درجات النقص عن الكمال، فيعاتبون عليه؛ لعلو مرتبتهم ومنزلتهم العظيمة، وهذا من جنس حسنات الأبرار وسيئات المقربين، فالواحد منا لو طرأ على قلبه مثل ذلك ما لامه أحد، ولكن العتب على الأنبياء لأجل ارتفاع منزلتهم العظيمة، وهي ليست ذنوباً في حق عموم الناس، ولكنها في حق الأنبياء نقصان عن الكمال، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بالرحمة فقال: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، وهو الله عز وجل، فكان الأفضل أن يستحضر في مثل هذه اللحظات توكله الكامل على الله عز وجل، كمن هو أعلى منه قدراً من أنبياء الله، كموسى صلى الله عليه وسلم الذي قال له أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، ففي لحظات الشدة الشديدة جداً يجب أن يقع في القلب أول وهلة ما يدل على عظيم التوكل أو أنه أقل درجة من ذلك، فموسى عليه السلام عندما تراءى الجمعان، ووصل إليهم جنود فرعون عند شروق الشمس، وتأكد أصحابه أنهم قد أدركوا، وأقسموا على ذلك، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، وأكدوا بإن وبالقسم، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فاستحضر معية الله عز وجل، وهكذا فعل من هو أعلى منه قدراً، وهو إبراهيم عليه السلام، فإنه لما ألقي في النار جعل يقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، قالها إبراهيم حين ألقي في النار.
فهو ألقي في النار ولم يلتفت إلى الأسباب، بأن تأتي ريح مثلاً أو يأتي مطر فيطفئها، وإنما قال: حسبنا الله -أي: كافينا الله- ونعم الوكيل.
قال ابن عباس: وقالها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وأعلى منهم قدراً النبي عليه الصلاة والسلام حين وصل الكفار إلى فم الغار، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقد كان خائفاً جداً على النبي عليه الصلاة والسلام، والأسباب ظاهرة جداً في هذا، وكان أبو بكر أحسن حالاً من أصحاب موسى، إذ أكدوا أنهم مدركون، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال: لو نظر أحدهم، فعلق ذلك بقوله: (لو) فإنه يحتمل ألا ينظر أحدهم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان في شأن آخر، فقال لصاحبه كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فلم يستحضر ضعفه أو عجزه بالنسبة إلى قوتهم، وقلته بالنسبة إلى كثرتهم، بل استحضر معية الله عز وجل فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فكانت العاقبة: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40].
وذكر غير واحد من السلف: أن الملائكة عتبوا على لوط قوله: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وعند ذلك بينوا حقيقة أمرهم: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، وكل هذا لأنهم أرادوا لوطاً عليه السلام نفسه بالأذى، وأرادوا أن يصلوا إليه هو، وليس فقط إلى الأضياف، وقد ذكر غير واحد من السلف من المفسرين: أن جبريل عليه السلام خرج إليهم وهم وقوف بالباب، ولوط يدافعهم، وقد عجز أن يدفعهم، وكاد الباب أن يدفعهم، وكادوا أن يدخلوا، فخرج عليهم جبريل فضربهم بطرف جناحه، وجبريل عليه السلام له ستمائة جناح، وكل جناح منها قد سد الأفق فهو ذو خلق عظيم، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37]، فكان هؤلاء الذين أرادوا مباشرة الفاحشة أشد عقاباً، وقد عوقبوا بعقوبتين: طمست أعينهم، ويقال: إنها ذهبت بالكلية ويقال: ذهب ضوءها، وعوقبوا في الصباح بعقوبة قومهم، وهي ما ذكر الله سبحانه وتعالى من أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
(2/11)
هلاك العصاة الكافرين ونجاة المؤمنين
فهؤلاء الذين أرادوا أن يصلوا إلى لوط لأذيته بشرته الملائكة بأنهم لن يصلوا إليه: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود:81]، أي: بجزء من الليل، وفسر في الآية الأخرى بأنه السحر، قال عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:33 - 34] أي: آخر الليل: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35]، فكل شاكر نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام ينجيه الله سبحانه وتعالى بفضله عز وجل.
(2/12)
ذكر الخلاف في استثناء امرأة لوط من أهله
قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، فقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل هو راجع إلى الالتفات وأن المعنى: أن امرأتك ستلتفت حين تسمع عذاب قومها أو لا؟ فقال بعضهم: إنها خرجت، ولكن عندما سمعت الوجبة وصوت العذاب الذي نزل بقومها التفتت وقالت: واقوماه! فهي ما زالت محبة لقومها إلى آخر لحظة، فأصابها حجر فقتلها، هذا قول.
والقول الآخر -وهو الصحيح الذي يدل عليه القرآن-: أنها لم تخرج أصلاً، وأن الاستثناء في قوله: ((إِلَّا امْرَأَتَكَ))، معناه: لا تسر بها، فأسر بأهلك واخرج بهم ليلاً إلا امرأتك لا تخرج معك، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، فلم يخرج منها إلا المؤمنون، وهي لم تكن مؤمنة، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36]، فكان البيت مسلماً لكنها كانت خائنة، فكانت تظهر شيئاً للوط وهي على دين قومها، فلم تخرج؛ لأن الله قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، ويدل عليه قوله عز وجل: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171]، أي: أنها بقيت ولم تخرج، وكذا قوله في هذه الآية: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، وهذا يستلزم أن يكون مما أصابها أنها رفعت، ثم أهوي بها إلى الأرض، قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] فالله عز وجل جعل من عذابهم أنهم يهوون من السماء الدنيا إلى الأرض، وهذا أشد في الرعب والهلاك من حجارة تصيبهم فقط، وذكر الله عدة عقوبات، هي: طمس الأعين لمن باشروا محاولة الاقتحام لبيت لوط، وذكر القلب فقال: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا))، وذكر الحاصب فقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].
فقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، يلزم منه أن يصيبها على الأقل ما يصيب عامة قومها، وهو: الرفع إلى السماء ثم الهوي إلى الأرض، وأن تصيبها كذلك الحجارة.
ومن قال: إنها خرجت، فقد قال: إنه أصابها الحجارة فقط، والصحيح الأول، وهو أنها لم تخرج؛ لأنها ليست مؤمنة والعياذ بالله! وذلك يدل على أن القرابة لا تنفع إذا لم يكن هناك إيمان، ولابد من المفارقة والعداوة للكفرة والبراء منهم ولو كانوا من أقرب المقربين.
قال سبحانه: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، وكأن لوطاً استعجل أكثر من ذلك، فقالوا له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
قال تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا))، أي: عند شروق الشمس بعد رحيل لوط عليه السلام وبناته، ويقال: بنتيه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82]، فاقتلع جبريل عليه السلام -فيما يذكرون- هذه القرى بسكانها ومن فيها وبيوتها، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وصياح ديوكهم، ثم أهوى بها إلى الأرض مقلوبة منكوسة، كما قال تعالى: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) وقال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]؛ لأنهم -والعياذ بالله- اختلقوا هذا الذنب، ولم يسبقهم إليه أحد من العالمين.
قال سبحانه: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: من طين قد تصلب وصار شديد التصلب، منضوداً معداً لذلك، أو متتابعاً كثيراً، والتتابع أظهر، والله أعلم.
قال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:83] أي: معلمة عند الله عز وجل، فكل حجر لشخص معين، يقال: إن كل حجر كان عليه اسم الذي يصيبه.
قال عز وجل: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، فليست هذه العقوبة خاصة بقوم لوط، بل يمكن أن تصيب غيرهم، كما جاء أنه يكون في آخر هذه الأمة قذف ومسخ وخسف بمن يفعلون الفواحش، فيقذفون بالحجارة، ويمسخون قردة وخنازير، وغير ذلك من الصفات القبيحة، وأشدها مسخ القلوب، وخسف بالزلازل التي تدفنهم في الأرض والعياذ بالله.
(2/13)
الفوائد المستفادة من قصة لوط عليه السلام
وهذه القصة تدلنا: على مدى الخطر الذي يتهدد الذين يأبون الانقياد لشرع الله، والذين يعبدون الشهوات، والذين يستهزئون بأنبياء الله وأوليائه الذين يدعونهم إلى الله عز وجل.
ونعلم منها: أن العاقبة للمتقين وإن كانوا قلة، ونعلم هوان الكفرة على الله ولو كانوا أكثر الناس، فقد كان قوم لوط أربعة آلاف ألف فيما يذكرون، أو أقل أو أكثر، وقراهم كانت عامرة، وكان يمر عليها العرب، قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40].
فالله سبحانه وتعالى جعل عاقبة المجرمين وخيمة لنراها دائماً، وهي ليست مبنية على القلة والكثرة، بل على الأعمال والصفات والأخلاق.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
(2/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة موسى مع فرعون
إن المؤمن يعتقد جازماً أن كل زخارف الدنيا فانية، وأن ملوكها زائلون، وليعلم المؤمن أن الله ناصره ومؤيده، فلا يدفع الباطل برجاء أهله، بل يدفع الباطل وكيده بالتوكل على الله عز وجل.
وخير دليل على ذلك: قصة موسى وقومه، فالمؤمنون هم أشد البشر بلاءً بعد الأنبياء، ونصر الله لهم منوط بقوة إيمانهم وصبرهم على البلايا والمحن، وفي قصة موسى مع فرعون خير دليل وعبرة لمن اعتبر.
(3/1)
القرآن حياة للقلوب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد جعل الله سبحانه وتعالى النور والهدى في كتابه المبين، وجعله حياة للقلوب، وروحاً تحيا به كما وصفه الله فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
وليس هناك مجلس نجتمع فيه أحسن من مجلس نتلو فيه آياتٍ من كتاب الله، ونتدارس ما فيها من النور والهدى والبيان، خصوصاً عندما تظلم الدنيا من حولنا، فنتلو آيات الله سبحانه وتعالى؛ لنتبعها، ولنؤمن بها، ونعمل بما فيها، ونتدارس معاً ما يغشانا الله سبحانه وتعالى لأجله برحمته، وينزل علينا ملائكته، ويذكرنا سبحانه وتعالى فيمن عنده.
(3/2)
معجزات موسى وتكبر فرعون وملئه عن قبولها
إن أكثر القصص تكراراً في القرآن العظيم قصة موسى صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت في مواضع متعددة من كتاب الله؛ لما فيها من العبر والفوائد التي تجعل المتأمل والمتدبر فيها يعلم عظمة القرآن، وبلاغة الإعجاز فيه؛ بالإضافة إلى ما فيه من بيان الحق، وإزهاق الباطل، وسنة الله سبحانه وتعالى الماضية في الصراع الذي يجري بين الحق والباطل دائماً، وسوف نتلوها من سورة يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم نذكر ما فيها من الفوائد والعظات والله المستعان.
قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:75 - 92].
نعوذ بالله من الغفلة عن آياته البينات المحكمات الواضحات المنيرات.
لقد أخبر الله عز وجل أنه بعد إهلاك الأمم والقرون المكذبة للرسل أرسل وبعث موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام إلى فرعون وملئه -والملأ هم: السادة والكبراء- بآياته، فما كان من فرعون وملئه في مقابلة الآيات العقلية والحجج السمعية والحسية والآيات المعجزات إلا أن قابلوا ذلك بالكبر، ولقد كانت الآيات في بداية الأمر هي آيات دلائل القدرة والتوحيد الذي تقر به فطر الناس جميعاً، قال تعالى: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، وقال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، وقال: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28].
ثم جاء بعد ذلك دور الآيات والمعجزات الحسية، وهي: العصا، واليد، والجدب والقحط والسنين، ونقص الثمرات، والجراد، والقمل، والضفادع، والطوفان، والدم آيات مفصلات، وكل ذلك قوبل بالكبر والعياذ بالله! ذلك المرض العضال الذي إذا وجد في مخلوق كان سبباً لارتكاسه وانتكاسه أعظم انتكاسة، بل مقدار ذرة منه -والعياذ بالله- تؤدي بالعبد إلى الحرمان من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر هو مرض إبليس والمتكبرين على أمر الله، وسبب كفر الكافرين في الأغلب كما قال عز وجل عن إبليس: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فبالكبر والإباء يرد الإنسان الحق، وينظر إلى نفسه نظرة الكمال وإلى غيره نظرة الاحتقار، وربما ازداد غروره حتى ينظر إلى شرع الله عز وجل -الذي لا يرضى أن يخضع له- نظرة الاستكبار، ويتكبر على شرع الله، ويرد أمره؛ فيكون إبليسيَّ الطريقة هالكاً مع الهالكين، فقد كان فرعون وهامان وجنودهما متكبرين هذا الكبر، وكانوا قوماً مجرمين، كما قال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76].
(3/3)
خطر السحر والسحرة
ومع أن السحر كان عند فرعون وملئه إلا أنه اتهم به موسى كما قيل: (رمتني بدائها وانسلت) ففرعون هو الذي يكره الناس على السحر؛ فقد فضحه السحرة كما حكى الله عنهم حيث يقولون: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، فهو الذي كان يعلم الصغار على يد الكبار، ويلزمهم ويكرههم على تعلم السحر ومع ذلك يتهم موسى عليه السلام بأنه أتى بالسحر، ويزعم أن ذلك بَيِّن جداً، وأنه سحرٌ مبينٌ، فأي كذبٍ أفضح من هذا؟! فهو يرى الحق أمامه بيناً جلياً ويوقن به في نفسه، ومع ذلك يتهم أهله بأنهم هم السحرة مع أنه هو الساحر، ويتهم أهله بالكذب مع أنه هو الكاذب، ويتهم أهله بأنهم يريدون الكبرياء مع أنه هو المتكبر، فسبحان الله! أي تناقض هذا؟! يتهم أهل الحق بأنهم يريدون الفساد مع أنه من أعظم المفسدين، كما قال الله تعالى حاكياً عنه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، ففرعون يتهم موسى وهارون عليهما السلام بكل أمراضه الخبيثة؛ ويظن أن كل الناس كذلك، ففي نظره أنه إذا كان هو يعمل من أجل الكبرياء، فلا بد أن موسى يريد الكبرياء، وإذا كان هو يعمل بالسحر فلا بد أن موسى أيضاً يعمل بالسحر مع أنه يوقن بالفرق، وقد علم ذلك، كما وصفهم الله بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
وكذا قال عز وجل عن موسى في خطابه لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
وهذه النوعية من البشر نوعية فظيعة مجادلة بالباطل من أجل جحد الحق، رغم وضوحه وجلائه، قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [يونس:76 - 77]، وهذا استفهام للنفي وللإنكار عليهم، فهذا لا يمكن أن يكون سحراً؛ لأن السحرة أنفسهم قد أقروا بأنه ليس بسحر، ويستحيل أن يكون سحراً.
هذا الذي يفعله فرعون في هذه القصة هو أسوة سيئة لكل من سار على طريقه ونهجه.
(3/4)
حكم السحر والسحرة
قال تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، أتى الله بهذه القاعدة الكلية؛ ليبين أن كل ساحر لا يفلح بأنواع السحر المختلفة، والسحر -والعياذ بالله- من الكبائر، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات ومقارناً للشرك فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر)، فجعله بعده مباشرة وأكثر أنواع السحر من الكفر؛ إذ كل سحر متعلم من الشياطين فهو كفر، كما قال عز وجل: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
إذاً: السحر الذي يتعلم من الشياطين هو من الكفر، وأكثر أهل العلم يرون إطلاق القول بكفر الساحر، وكثير منهم فصل فيه، وهو الصحيح، فيقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن وصف كفراً، كمن يسجد للأصنام، أو يعبد الشياطين، أو يتقرب للكواكب، ويذبح لها، أو يكتب القرآن بالنجاسات، أو نحو ذلك كفر.
وإن كان بأدوية، وتدخين وخداع البصر ونحو ذلك فإن استحله كفر، وإلَّا فهو كبيرة من الكبائر والعياذ بالله من ذلك!
(3/5)
سحر البيان وخطره
وكثير من الناس يَغْفُلُ عن نوع خطير من أنواع السحر مع أنه داخل في قوله عز وجل: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، وهو سحر البيان الذي يجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً، والسحر أصلاً: يقال للشيء الخفي الذي يدخل بلطف من غير شعور، وبطريقة غير ظاهرة في التأثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وهذا ذم لهذا النوع من البيان الذي يقلب الحقائق، وهذا السحر منتشر في أرجاء الأرض مشارقها ومغاربها، حتى إنه يجعل المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والمجرم بريئاً، والبريء مجرماً، ألم تسمعوا أن هيئة كبرى في إحدى الدول الأجنبية طالبت رئيسها بمعاقبة الفلسطينيين؛ لتسببهم في سفك الدماء وإحداث العنف، وأنهم لا بد أن يعاقبوا أشد العقاب؛ لكي يمتنعوا عن ذلك؟! وحدث بالإعلام المخرَّبِ للعقول الذي يجعل هذا المظلوم المذبوح هو الذابح! والناس هؤلاء يتصورون أنَّ عند هؤلاء المذبوحين قسوة فظيعة في التعامل، وهذا من انقلاب الأمور، كما يرى كثير من الناس التزام الحق والسنة واتباع الكتاب نوعاً من الغلو والتطرف والبعد عن الوسطية المطلوبة، ونحو هذا مما يقوله كثير من الناس، وكل هذا بسبب هذا النوع الخطير من السحر، ولكن كما قال الله: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)).
(3/6)
كيفية مواجهة السحر
وعلى الإنسان أن يواجه هذا السحر بآيات الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا السحر يضمحل كما اضمحل سحر السحرة أمام عصا موسى، فعصا موسى آية من آيات الله، وعندنا آيات من كتاب الله أعظم من كل ما سبقها من الآيات، ولذلك فلا بد أن يكون كتاب الله في صدورنا، وقلوبنا، وعلى ألسنتنا، نواجه به هذا السحر فإنه سوف يتلاشى، وسينقلب السحرة أنفسهم -بإذن الله- إلى أعوان للإسلام، وإلى مصدقين به وإذا ظللنا ندور بعيداً عن كتاب الله، ونكرر كلامهم بطريقتهم، كأن نتكلم كثيراً على طريقة المفكرين والساسة وغيرهم من غير بينة من كتاب الله فسوف ندور في دائرة مفرغة، ولن نفلح في إبطال سحرهم إلَّا بآيات الله، كما قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون: {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35].
فكل من كانت معه آيات الله فسوف يغِلبُ، ومن كان فقيراً من آيات الله وليس عنده بينات القرآن فسوف يعجز عن مواجهة السحر، وسوف يُتَّهم بالباطل، وسيظل الأمر كما هو؛ ولهذا جاءت الوصية الأكيدة بالقرآن العظيم، وبحفظه، وبتدبره وبتلاوته، وبالدعوة به إلى الله عز وجل فكلما أكثرتَ من قال الله تلاشت أمامك ظلمات الباطل، وانفتحت لك القلوب؛ لأنه كلام الله الذي تكلم الله عز وجل به، وهو نور وهدى لمن شاء الله عز وجل من عباده، وهذا بالتأكيد سوف يفتح آفاقاً للخير أضعافاً مضاعفة عما إذا تكلمنا بغيره.
(3/7)
أسباب الإعراض عن الحق
قال الله عز وجل: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78].
فهم يعرضون عن الحق بسبب أمور، منها: مخالفة هذا الأمر بالعادات والتقاليد كما قال الله: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، فهذه تهمة فظيعة عند القوم: فقد خالف المعتاد والمجتمع الذي نشأنا فيه، وخالف الطريقة المثلى -مع أنهم والله يعيشون عيشة نكد وشقاء- وانظر كيف سخرت الآلاف من البشر من أجل بناء أهرامات هائلة.
هذا كله لتكون قبراً لملك من الملوك مع أن الناس يعدون ذلك من مظاهر المدنية.
والحضارة! أما الذين بنوه فماذا كسبوا من وراء ذلك؟ فكانوا يرون أن طريقتهم المثلى والعيش الذي هم فيه لا يقبل التغيير ولا التبديل ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، والتقليد هو من جعل ملايين الناس هكذا، وهو ليس حجة بل هو شبهة، ومع ذلك لا يقبل الناس التنازل عنه، بل إن أكثرهم يكفرون بسبب التقليد.
قال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود:109]، مودة بينهم في الحياة الدنيا كما قال الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25]، فبعض الناس من أجل أن يرضي أباه أو أمه أو أقاربه يكفر بالله ويعبد صنماً وثناً من غير الله سبحانه وتعالى بأنواع العبادات، مع أن العقائد باطلة قطعاً لا يقبلها عقل.
وأنا أتعجب من وجود أناس في زماننا هذا ما زالوا يعبدون البقر! والفئران! والحجارة! لماذا؟! كل ذلك من أجل التقليد والعياذ بالله، وتعظيم الآباء والأسلاف؛ فحجة أبي جهل على أبي طالب لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، ويقول كلمة لا إله إلا الله؛ ليحاج له بها عند الله، فيقول له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب، فلم يتنازل عن دين الآباء.
فمن الخطر الكبير أن نكون مقلدين، أو لا نغير ما نشأنا عليه، بل لا بد أن تعرض الأمر الذي نشأت عليه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان حقاً قبلته، وإلا فلا بد أن ترفضه وتغيره إلى الحق؛ فدعوات الأنبياء ما قامت إلا على مخالفة ما كان عليه آباء المشركين وأجدادهم، وهذه التهمة هي التي واجهوا بها موسى، وموسى لم ننفيها، ولا ينبغي لنا أن ننفها، ولا أن نقول: نحن لن نغير الواقع والمجتمع، ولكننا سوف ندخل عليه بعض التغييرات لنصبغه بصبغة إسلامية، لا.
بل سوف نغيره بالتأكيد من جذوره حتى يكون إسلامياً محضاً من أساسه إلى ارتفاعه، فلا نقبل الموروث أياً كان، بل نقبل ما وافق الحق، ونرفض ما خالف الحق، والحق هو قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الصحابة رضي الله عنهم، فهذا هو الحق الذي به نزن الأمور.
فموسى أتى ليلفتهم وليبعدهم عما وجدوا عليه آباءهم من عبادة الأوثان وعبادة فرعون وطاعته بالكفر والعياذ بالله.
وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) هذه تهمة أخرى باطلة، وهي: أن فرعون قد اتهم موسى بأنه يريد الكبرياء والحقيقة أن فرعون وملأه هم المستكبرون، وهم الذين يعملون للدنيا، ويتكبرون في الأرض بغير الحق، ولكنهم يظنون أن كل الناس كذلك كما أن جامع المال يظن أن كل الناس تحب المال كحبه، وصاحب الملك والرئاسة يظن أن كل الناس تريدها، وأن غرض الناس كلهم كغرضه؛ فمن أجل ذلك يتمسك بها بشدة، وهذا باطل فليس أهل الإيمان ممن يريدون الرئاسة، أو الكبرياء في الأرض، ولكن أهل الإيمان يعملون لله عز وجل ولا يريدون أن يكونوا مشهورين على رءوس الناس، ولا أن يكون الناس تحت أوامرهم، وإنما يريدون أن يعبد الله عز وجل في الأرض، وهم أخفياء أتقياء، إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى، وحاجة أحدهم في صدره لا يريد لها تنفيذاً، ويصبر وهي في نفسه، وربما مات قبل أن تقضى؛ ففقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة؛ من أجل أن الدنيا لم تفتح لهم، ولم يقدموا في المجالس، ولو أقسم أحدهم على الله عز وجل لأبره.
فهذه التهمة الباطلة قديماً وحديثاً يُتَّهم بها الدعاة إلى الله، وأنهم يريدون الكبرياء والرئاسة والشهرة، وهذه التهمة لا تؤثر شيئاً في حقيقة الدعوة طالما كان الإخلاص والصدق مع الله عز وجل رائدها، وهو حقيقة أهل الإيمان بشرط أن يكونوا بالفعل متبعين للرسل، صادقين مع الله سبحانه وتعالى فإذا أخلصوا لله نصرهم ودفع عنهم هذا الاتهام الباطل.
(3/8)
مواجهة موسى مع سحرة فرعون
قال عز وجل عن قوم فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79].
فأراد فرعون جمع السحرة فأتوا له بكل ساحر من الدرجة الأولى والدرجة الثانية، فجمعوا له كل السُّحار المتقنين -وقد جاء لقط السحار صيغة مبالغة- كما في قوله سبحانه: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، وقال: ((ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ))، فجمع كمية هائلة من ذوي الخبرة لمواجهة رجلين من كل أقطار مصر وكانوا كما طلب {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79].
(3/9)
إذلال الله لعزة السحرة
ثم قال الله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80]، وهذا الأمر بالإلقاء ما هو إلا استهانة بالباطل: ألق ما أنت ملقٍ فأنا عندي الحق الذي سوف يظهر بإذن الله تبارك وتعالى؛ وذلك ليقينه بضعف ما سيلقونه مع أنه واحد وهم مئات أو آلاف.
((قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ))، فألقى السحرة ما عندهم من حبال وعصي ولم ينسوا أن ينسبوا الفضل لفرعون، فألقوا بحبالهم وعصيهم وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فكان لا بد من وضع البصمة الفرعونية على ما أتوا به، وأن ذلك من فضل فرعون، وأن عزة فرعون هي الغالبة.
وكما وصف الله فلقد أتوا بسحر عظيم: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فامتلأ الوادي بالحيات والثعابين حتى أوجس في نفسه خيفة موسى على الناس من أن يفتنوا، وقد أوشك الناس أن يوقنوا بأن السحرة سوف يغلبون، كما خاف موسى على إيمان بعض أتباعه.
(3/10)
إزهاق الله للباطل
قال الله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68 - 69]؛ فلما ألقى الله إليه ذلك تقوى موسى عليه السلام، وواجه هذا الباطل مع أنه فرد واحد، وفي يده عصاً واحدة، فقد أوحى إليه سبحانه وتعالى ما ثبته به، وأوحى الله إليه أنه هو الأعلى والظاهر، وأنه بمجرد إلقائه للعصا فسوف يضمحل هذا السحر، وموسى موقن بكلام الله؛ فلذا قال قبل أن يلقي: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس:81]، وذلك من أجل أن يلقي الرعب في قلوب الكفرة الظلمة، فهو متأكد أن الله سيبطل كل سحر، وكل ما يزيف الحق، ويجعل الباطل حقاً، والحق باطلاً، ويصور للناس الأمور على غير ما هي عليه فإن الله سيبطله {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
وهذه قضية كلية ليست خاصة بزمن موسى عليه السلام، فكل مفسد في الأرض لا يصلح الله عمله ولا بد أن يضمحل الفساد بإذن الله تبارك وتعالى فإن الفساد ينتشر وينتفش، ولكن سرعان ما يزول، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فطبيعة الباطل التي خلقها الله عليه أنه زهوق يضحمل سريعاً.
((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ))، وإذا ما قرأ المؤمن هذه الآية استراح، ففي كل موضع يواجه فيه الفساد ويطمئن؛ ويواجه أنواعاً من الضلال والمنكر سواء في مواجهة الكفرة، أو الظلمة، أو المبتدعين، أو العاصين، أو المفسدين في الأرض لمجرد الشهوات فتأكد أن عملهم سوف يحبط؛ لأن الله قال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)).
وقال الله: ((وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ))، وكيف يحق الله الحق بكلماته؟ يحقه بكلماته الكونية: كن فيكون، وكلماته الشرعية: بالوحي المنزل على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا المعنى من أعظم الأمور أهمية، وكيف أن هذا الأمر سيحصل به إبطال السحر وإبطال عمل المفسدين؛ ولهذا نؤكد أهمية الاحتجاج بكلمات الله سبحانه وتعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:82].
فالمجرمون يكرهون ظهور كلمات الله، ويكرهون ظهور الحق، ومع ذلك وعد الله سبحانه وتعالى بظهور الحق نافذاً، وهو سبحانه وتعالى صادق الوعد، ولا يخلف الميعاد، وقد وعد بظهور الإسلام ولو كرة المشركون والمجرمون {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
فإذا كنت تحمل كلمات الله فستنتصر، وسيزهق الباطل ولو كره المجرمون، فمهما كان من أمر فنتيجة الصراع حتمية معلومة، فالله يظهر الحق ويبطل الباطل، وحدث ذلك بالفعل حين ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، فكل ثعابين السحرة، وكل العصي والحبال التي توهمها الناس ثعابين أكلتها عصا موسى التي صارت ثعباناً مبيناً، وأرعب فرعون، فمن شدة الرعب بال على نفسه كما ذكر ذلك مجاهد رحمه الله.
ووقف الناس مشدوهين وظهرت الحجة البينة على الملأ الذين حشروا ضحى، بل عظم الأمر أكثر، فقد ألقى الله في قلوب السحرة الإيمان في تلك اللحظة الحاسمة زيادة في الحجة، فلو اكتفى بالأمر لكان في ذلك حجة كافية، فقد أكلت عصا موسى كل الثعابين والحيات، وكل العصي والحبال، قال تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، أذلاء ألقى الله في قلوب السحرة الإيمان.
وقال: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120].
(3/11)
سجود سحرة فرعون لله رب العالمين
فحين سجد واحد منهم سجد الجميع و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، فالناس واقفون في هذا الموقف العظيم ويرون الجنود الذين جمعهم فرعون من كل أرجاء المملكة يؤمنون بموسى، ويصرحون تصريحاً لا يحتمل الخفاء: ليس رب العالمين فرعون بل رب العالمين هو رب موسى وهارون، وشرف عظيم لموسى وهارون أن يذكر اسم الرب مضافاً إلى أسمائهما، ولم يستطع فرعون حينها أن يكذب ويقول: آمنوا بي، فأنا ربكم الأعلى.
فذهل فرعون، وإذا به يلقي بالأئمة على السحرة ويتهمهم بالمؤامرة عليه، وأن موسى زعيمهم، قال الله حكاية عنه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، فهو يعلم يقيناً كذب دعواه، واشتراط الإذن في الإيمان طريقة فرعونية قديمة فلا بد أن يأذن لهم لكي يؤمنوا ويعملوا الصالحات، ويدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان إيمانهم بغير إذن فالمصيبة عظيمة.
((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ))، قوله: (آمنتم به) متضمنة معنى التصديق، أي: صدقتم به، وقال في آية أخرى: (آمنتم له) وهي تتضمن معنى الانقياد والخضوع فهذا يفيد معنى ذاك؛ لأن الإيمان تصديق وانقياد، وليس فقط تصديقاً مجرداً.
قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ))، قال هذا مع أنه هو الذي جمعهم من كل أرجاء المملكة، فأين اجتمع بهم موسى حتى يمكر هو وهم؟ وقوله: (لتخرجوا منها أهلها) ما أرادوا إخراج أهل مصر، وإنما أرادوا منهم أن يؤمنوا، وأن يخرج بنو إسرائيل، فمن أين هذه التهم الباطلة؟ لكن من العجيب في شأن فرعون أنه يتهم تهماً وهو يعلم بأنها باطلة وهو وليها، يقول: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، أين علمهم السحر؟ فهو منذ عشر سنين لم يدخل مصر وقد كان له قبل ذلك شيعة لا يعلمهم شيئاً من السحر، ولا يعرف طريق السحر، وفرعون هو الذي يكرههم إكراهاً على السحر، وقد وجد أعواناً ينفذون له حكمه الجائر على قتل السحرة.
(3/12)
ابتلاء أهل الإيمان
قال الله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124].
لقد فعل بهم ذلك، وهو قد رأى الآيات بعينه فالعجب منه، ولكن أعجب منه جنوده الذين يطبقون أوامره فهم عبيد لفرعون ينفذون الباطل مهما كان، وهم الذين رأوا البحر ينفلق أمامهم، ودخلوا وراءه ويقول لهم: إن البحر انفلق من أجلي! طاعة عجيبة مطلقة في تنفيذ الأوامر، ولو كان بدخول البحر الذي انفلق أمام أعينكم بضربة من عصا موسى، سبحانك ربي سبحانك! فقد طمس فرعون على القلوب والأبصار والعقول بهذه الطريقة، فهذا عدل من الله عز وجل؛ لأنهم اختاروا ذلك فاستخف قومه فأطاعوه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12]، فالفسق يؤدي إلى أن يطيع الإنسان بهذه الطريقة العمياء، وكان السحرة في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء بررة، فلما سجدوا رأوا منازلهم في الجنة كما ذكر بعض السلف.
{قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، لن يضيرنا أن تقطع الأيدي والأرجل، فانظر إلى موقفهم، فمنذ لحظات كان هدفهم المال {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف:113]، يريدون مالاً ومناصباً {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114].
ليس مالاً فقط بل وتصيرون أيضاً من ذوي القربى، ومعلوم أن المقرب إلى السلطان يأخذ مالاً وزيادة، فهم في أول النهار كان همهم المال والمناصب والقرب من فرعون، وآخر النهار يقولون: اقطع وافعل ما تريد، نعوذ بالله من الطمس على القلوب ففرعون لا يتعظ أبداً.
قال سبحانه وتعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126].
(3/13)
معنى قوله تعالى (إلا ذرية من قومه)
قال سبحانه وتعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، وعلى الرغم من هذه الآيات العظيمة، من إبطال سحر السحرة وكيد فرعون، لم يؤمن من أهل مصر في ذلك الوقت إلا قلة من الشباب.
والذرية هنا فيها أقوال: القول الأول: ظاهر الآية يدل على أن المؤمنين كانوا من قوم موسى من أهل مصر؛ لأن بني إسرائيل كانوا جميعاً شباباً وشيوخاً مؤمنين بموسى.
القول الثاني: أنها تعود على فرعون، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] أي: من قوم فرعون كمؤمن آل فرعون، وقليل من الشباب.
وهذا يدلنا على أهمية مرحلة الشباب، كما يدل على القلة، وكان هؤلاء من الشباب الصغار حديثي السن، وكانوا خائفين ومع ذلك آمنوا.
وهذا الخوف لا يدفع بموافقة الباطل، وإنما يدفع بالتوكل على الله عز وجل.
((عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ))، وهذا دليل على أنهم من أهل مصر؛ لأنه قال: (وملئهم) أي: سادتهم وكبراء قومهم، وإلا فملأ بني إسرائيل كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم، وملأ الفراعنة كانوا مع فرعون فالذي يظهر أن هؤلاء من شباب مصر في ذلك الوقت، وكانوا قلة ممن استجاب، وأكثر الجنود كانوا متابعين لفرعون على الرغم من الآيات التي رأوها.
((عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ))، والفتنة في الدين: هي الصد عن سبيل الله، كأن يؤذوا بأنواع الأذى؛ ليصرفوا عن الالتزام بهذا الدين الحق، وهذا الخوف من الفتنة واقع، وذلك لوجود الأذى، وهذا امتحان من الله سبحانه وتعالى لعباد الله المؤمنين، والخوف كما ذكرنا لا يدفع بموافقة أهل الباطل في باطلهم، ولا بترك طريق الحق، ولا بالمداهنة في الدين، ولا بأن نقول مثلما يقولون، ولكن يدفع بما أمر الله به موسى صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، ثم قال تعالى: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ))، أي: متكبر ((وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)).
(3/14)
أهمية التوكل على الله عند الشدائد
قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، إذاً: يدفع خطر الفتنة بالتوكل على الله، ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا))، عليه وحده بدليل أنه قدم الجار والمجرور (عليه توكلوا) وهذا يفيد الاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده.
((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، إذاً: فالتوكل من شروط الإيمان والإسلام، وفي هذه الآية اجتماع الإيمان والإسلام، وأن معناهما واحد، وهو من المواضع القلية الوقوع، وإن كان الأغلب أنهما إذا اجتمعا افترقا فالإيمان يكون مختصاً بأعمال الباطن والإسلام بأعمال الظاهر، لكن هنا كان الإيمان والإسلام متلازمان في المعنى فالإسلام يعني الظاهر والباطن والإيمان كذلك ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا))، امتثلوا الأمر وبه دفع الله عنهم الأذى، كما قال مؤمن من آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45]، فموسى هو أول من توكل؛ لأن فرعون قال {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:26 - 27]، ((إِنِّي عُذْتُ))، أي: التجأت إلى الله، فكان موسى أول المتوكلين؛ وإذا بفرعون دائماً يبتعد عن موسى، وينسحب عنه؛ لأنه عاذ بالله، فكيف يستطيع الوصول إليه؟ مع أن العادة تقضي بأن يبدأ بكبير القوم.
ثم قال الله على لسان الملأ: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، عجيب أمرك! فلماذا لا تبدأ بموسى؟ إذ كان من المفروض أن تبدأ به فلماذا تهرب منه؟ فقد كان فرعون يهرب منه ويبتعد عن سيدنا موسى فقد صرفه الله؛ لأن ناصيته بيد الله، فالله عز وجل جعله ينصرف عن موسى صلى الله عليه وسلم، بل كما ذكرنا أنه كان إذا رأى موسى يرعب، ويخاف مع أنه يهدده بالبطش الشديد.
وموسى ساكن مطمئن، وتأمل هذه السكينة والطمأنينة ساعة ترائي الجمعان {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، سكينة عجيبة، فهذه الدنيا كلها جنود من كل أرجاء مصر، وسيدنا موسى بالنسبة لهم هو ومن معه مجموعة قليلة بالمقاييس الدنيوية، كما قال الله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56]، وكانت القضية غير ذلك، فسيدنا موسى في طمأنينة تامة وسكينة كاملة {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85]، وهذا دعاء عظيم جداً ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، والفتنة: لها تفسيران كلاهما حق، وهما متلازمان، الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنونا عن ديننا، الثاني: لا تجعلنا فتنة لهم، بمعنى: أنهم لو هزمونا وغلبونا لظنوا أنفسهم على الحق، فكان ذلك فتنة لهم ينصرفون بها، ويقولون: لو كانوا على الحق لما فعلنا بهم ما فعلنا، وكثير من الناس يزنون الحق والباطل بميزان النصر والهزيمة، فالمنتصر هو المحق، والمغلوب هو المبطل، مهما كان معه من بينات وحجج، فالضعيف المغلوب لا بد أن يكون على الباطل، والقوي المنتصر لا بد أن يكون محقاً، وهذا أمر عجيب الشأن عند أكثر الناس وبهذا يفتنون حين ينهزم أهل الإسلام.
(3/15)
أهمية الترابط والتناصر بين أفراد الدعوة
قال الله: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:86]، نجاة ليست بالأسباب، ولا بالتدبير، ولا بحسن الاختيار لكن برحمة الله، وبفضله سبحانه وتعالى، وبالتوكل على الله عز وجل خصوصاً مع انعدام الأسباب {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:86].
ولقد كان هناك واجبات لهذه المرحلة: مرحلة الفترة ما بين الخروج، وما بين تسلط فرعون الفظيع والفتنة التي يقول فيها: ((وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ))، وهي المذكورة في قوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا))، أي: اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً؛ ليكون هناك رابطة قوية بين كل فرد من الأفراد، وبين القيادة للطائفة المؤمنة حتى يكون هناك التزام وتحرك في الوقت المطلوب، فلا بد من وجود هذه القيادة التي يحصل بها هذا ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أي: يقابل بعضها بعضاً كما هو أحد القولين في تفسير هذه الآية، أو ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) والقول الثاني: صلوا في بيوتكم فهم سوف يمنعونكم من الصلاة في معابدكم أو في أبياعكم، ولكن صلوا في البيوت ولا تتركوا الصلاة ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، فلا بد من الالتزام بعبادة الله سبحانه وتعالى على أي الأحوال، فكلا التفسيرين معناه حسن وجميل، وكلها من واجبات هذه المرحلة الضرورية فالترابط يثبت الله به الأقدام، والناس إذا تفككوا سهلت هزيمتهم وأما إذا تماسكوا وتكاتفوا، وكان بعضهم لبعض كالبنيان يشد بعضه بعضاً فإن الباطل لن يستطيع هدمهم، ولذلك نقول: إن من أعظم الواجبات ألفة القلوب واجتماعها، والتعاون على طاعة الله، والتباعد عن أسباب الخلاف، كما قال الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، فلا بد أن نصلي كثيراً لله عز وجل ولا بد أن نكثر من ذكره، وعبادته فنعمل الصالحات، ونذكر الله كثيراً، ونرجوا الله واليوم الآخر، وسوف يأتي الفرج، فالصلاة طمأنينة وبها تستفتح المغاليق، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل عن زكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]؟ ألم تسمع أن الملائكة لما أرادت إبلاغ أمر الله لمريم، وتهيئتها للأمر العظيم الذي سوف تحمله، قالت لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]؟ ألم تسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بدر كان طوال الليل تحت الشجرة قائماً يصلي، ويدعو الله عز وجل؟ ألم نعلم أنه كان في ليلة الأحزاب طوال الليل يصلي لله عز وجل؟ حتى كلف أصحابه بتكليفات، وهو يصلي صلى الله عليه وسلم على الدوام، ولقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فافزعوا إلى الصلاة عباد الله فإن ذلك من أعظم ما يفتح الله به الأمور المغلقة.
((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وهذه مهمة من أعظم مهمات المرحلة، فلا بد من التبشير حتى لا تيئس النفوس ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) بماذا؟ بوعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
فالله سبحانه وتعالى، وعد ووعده حق لا يخلف؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، هكذا يبشر المؤمنين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107].
وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار؛ حتى لا يبقى بيت مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وكلها واجبات لا بد أن نتناولها فيما بيننا فنبشر أهل الإيمان بقرب الفرج؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً.
(3/16)
دعوة موسى على فرعون وملئه
وكان هنا لك واجب آخر، وهو الدعاء، فالدعاء سلاح عظيم قال الله: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).
وتأمل هذه الأدعية العظيمة ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، لم يقل: يا رب! فرعون عنده، وعنده، ولكن قال: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ))، وهذه روح إيمانية عالية جداً؛ لأن الإيمان يعلو بالإنسان فيرى أن ذلك عطاء من الله نازل من عنده وليس من جهد فرعون، فهذه الأرض كلها صغيرة جداً وهي ذرة في هذا الوجود، ولم يحصل فرعون هذا بنفسه بل الذي آتاه ذلك هو الله ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، فموسى يستحضر القدر، ويستحضر أن الله مالك الملك كما قالوا له عندما قال {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128]، استعينوا؛ لأن الله هو المالك؛ فالضر والنفع بيده سبحانه وتعالى، وكل الأمور من عنده لا من عند فرعون، فلا قهر لفرعون بل الله هو القاهر فوق عباده سبحانه وتعالى.
ولذلك قال سبحانه وتعالى عن موسى: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، فاستحضر موسى صغر هذه الحياة الدنيا وسماها دنيا وزينة وأموالاً، وذكرها بالصيغة المنكرة؛ لأن فيها تقليلاً واستحقاراً لهذا الذي أعطي فرعون؛ ولأن الله هو الذي أعطاه وليس هو الذي جمع، ولم يكن له الأمر في الجنود وإنما هذا بأمر الله، ثم استحضر أمراً آخر ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وهذا الإضلال وقع بقدر الله وإرادته، واللام للتعليل ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وليس تعليلاً شرعياً؛ فإن الله لم يأذن شرعاً أن يضل عن سبيله، ولكن قدر ذلك سبحانه وتعالى، فموسى يستحضر أن ذلك من الله عز وجل خلقاً وإيجاباً، فالله خالق أفعال العباد، وقد أعطاهم الله ليضلوا عن سبيله، ولكي تجتمع عليهم قلوب المفسدين، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]، فربنا هو الذي جعلهم يمكرون وهو يعلم أنهم يمكرون، وفي هذا فائدة لنا نحن؛ لأن الله يحب أن تظهر منا عبادات أخرى؛ كالصبر واليقين بوعده، والتوكل؛ ولأجل ذلك سخر وأوجد من يمكر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:112 - 113]، لتصغى إلى الباطل بمعنى: لتميل إلى الباطل قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، فالله هو الذي قدر ذلك، وجعلهم يفعلونه.
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لماذا قدر الله ذلك؟
الجواب
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، وجعلهم مغناطيس من أجل أن يأتي الباطل على بعضه، ولكي تصغى إليه القلوب الفاسدة، ثم تلقى بعد ذلك في النار {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
وحين تقرأ قول الله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ))، فإنك لا تستحضر قوة فرعون، ولا تستحضر كثرة ما معه، بل استحضر أن ناصيته بيد الله، وأن الله أعطاه ليبتليك أنت {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، الله الذي جعل ذلك {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فهم الذين يضلون وكفى بالله هادياً، وهم الذين يحاربون الإسلام ليهزم وكفى به عز وجل نصيراً، وسوف يظهر أن الهداية لله عز وجل، وأنه يهدي رغم كيد المضلين، وسيظهر رغم حرب المحاربين أن الله هو النصير، وأنه سينصر الإسلام ويظهر الحق بفضله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))، وتلك الدعوات شديدة جداً من أجل أن يظل فرعون مربوطاً على قلبه لا يقبل الحق هو وقومه حتى يروا العذاب الأليم، فسيدنا موسى دعا عليهم دعوة عظيمة من أجل أنهم لم يؤمنوا، فأراد أن ينزل بهم عقاب الله من كثرة ما رأى من إعراضهم وكبرهم، فدعا عليهم أن يظلوا على الكفر إلى الموت، فطمس الله على أموالهم وتحولت إلى حجارة كما قال غير واحد من أهل العلم، أو طمس عليها فلم يعد لها فائدة.
قال عز وجل: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا))، وقد كان سيدنا هارون يؤمن فسميت دعاءً أيضاً ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا))، ومعناها سوف تجاب، وسوف يؤمن فرعون حين يرى العذاب، ومع ذلك قال: (قد أجيبت).
وكان بين الدعوة هذه وإجابتها التي أخبر الله بتحققها سنين، ففي بعض الأقوال: أربعون سنة، وما نظنها وصلت إلى ذلك فالله أعلم، لكن كان بينهما مدة، ولذلك فلا تستعجل فقد أجيبت الدعوة بالفعل، فالله يجيب الدعوة في السماء قبل أن يرى الناس وقوعها على الأرض.
ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول الله: (وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)، والحين عند الناس طويل، وأما عند الله عز وجل فهو قصير، وقد أمرنا ربنا ألا نستعجل بل قال لنبيه: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فلا تقل يا رب أنزل عليهم العذاب الآن، بل اتركهم لله عز وجل فله الحكمة والعلم يفعل ما يشاء، ولعلك في فترة الشدة والإحراق أفضل منك في فترة الرخاء والإشراق.
فعندما تطلع الشمس سوف يكون الناس كلهم سائرين إلى أعمالهم، وسوف يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأما أنت فينبغي لك في فترات الإحراق والشدة وحدك أن تعبد الله ولعل هذا خير لك، فأكثر الناس لا يصبرون عن فتنة السراء، ففتنة الدنيا تأخذ الناس بعيداً عن الإسلام، فالصحابة أنفسهم يخشى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا، فلا تستعجل فإن لك أجلاً مقدراً ولعل ما أنت فيه من الشدة والضيق خير لك من السعادة التي تطلبها، فالله هو الأعلم ففوض الأمر إليه.
(3/17)
أهمية الاستقامة على أمر الله
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
فالواجب عليك أن تستقيم الاستقامة المطلوبة (وقل آمنت بالله ثم استقم)، وهي الاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، ولا ترغ روغان الثعلب بل اثبت على الحق ولا تبتعد عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تمل ولا تداهن، بل استقم على العلم والعمل والثبات والصبر والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد أن تكون هناك استقامة وهي التي أمر الله بها عند الشدائد فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وهذا الأمر هو الذي شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (شيبتني هود وأخواتها)، ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)).
إذاً: تدور مع الأوامر وتلتزمها، فنحن إنما أتينا من ترك الأوامر ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، نؤتى حين نتبع سبيل الذين لا يعلمون، فإن كان فينا من لا يعلم فلا بد من العلم ولا بد من ترك متابعة الذين لا يعلمون، ولا بد أن نتبع أهل العلم والتقوى والصلاح والاستقامة من أجل أن ننفي عن أنفسنا الجهل بتعلم العلم الواجب علينا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)).
تأمل فضل الله سبحانه وتعالى، فقد جاء الأمر من الله بأن ينطلق بنو إسرائيل مع موسى ليلاً وهم متبعون {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، إذا: فقد علم موسى بوجود المطاردة، فأنت حين تخرج وتعلم أن في طريقك من سيطاردك فاعلم أنها طريق غير آمنة ((إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ))، وسبحان الله! فقد كان في قدر الله أن فرعون سيتبعهم، ولم يخرج من أول مرة بل أخره الله فأخرج جنوده فقال الله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:53 - 56].
قال عز وجل: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ))، أليس هم الذين خرجوا بإرادتهم؟ ولكن الله يذكر فعله فيهم لنستحضر أن الأوامر من فوق، وأن الأمر من عنده، وقد كانوا جالسين على أسرتهم في الجنات والعيون فأخرجهم الله، قال عز وجل: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:57 - 63] أي: أن كل ناحية منه كالجبل العظيم على عدد أسباط بني إسرائيل؛ فانفلق البحر بضربة واحدة إلى اثنتي عشر طريقاً، وجاءت الريح فيبست الطريق {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77].
قال الله عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ولا شك أن بني إسرائيل كانوا يجرون جرياً لكي ينجوا، ولكن الله ذكر ذلك على سبيل فعله هو عز وجل فقال: ((وَجَاوَزْنَا))، منة منه وفضلاً سبحانه وتعالى على بني إسرائيل وهم ما جاوزوه بأنفسهم، ولكن الله هو الذي جاوز بهم ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، هنا نسب الفعل إلى فرعون، فقد أتبعهم فرعون ليبين فعله الذي يستحق عليه الهلاك، وذكر صفة هذا الفعل بما فيه من بغي وعدوان: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) وقال في الآية الأخرى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:78]، (بجنوده) تدل على تبعية الجنود له مثل قطيع الغنم، فهو يمشي بهم وهم يتحركون وراءه بلا عقل ومع ذلك هم مسئولون؛ لأن لهم عقولاً، فهم الذين عطلوها، ولذا قال هنا: ((وَجُنُودُهُ))؛ لأن المشاركة تقتضي الجريمة؛ ولأنهم أيضاً بغاة ومعتدون (بغياً وعدواً) إذاً: كل جندي مطيع في الباطل فهو باغٍ ومعتد ومستحق العقاب، ولذلك دائماً يذكر فرعون وهامان وجنودهما وأنهم كانوا {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6].
إذاً: لا طاعة في معصية الله، والطاعة في الكفر كفر والعياذ بالله وقال: ((بِجُنُودِهِ))؛ ليبين التبعية المذمومة، وقال في الآية الأخرى: ((وَجُنُودُهُ))؛ ليبن مسئوليتهم، وقال: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ))؛ ليبين الفعل منهم، فقد اكتسبوا الأفعال، وفي سورة الشعراء قال: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64]، فهو هنا يبين القضاء والقدر أي: أن ربنا يقربهم وهو الذي يدفع فرعون دفعاً، وإن كان يمشي بإرادته.
فالعبد يفعل وعليه المسئولية؛ لأن ربنا أعطاه قدرة وإرادة وعقلاً يفكر به، وبلغه الشرع وبناءً على ذلك هو يحاسب، والله هو الذي جعله يفعل، فلا يقول هذا قدر الله علينا، فأنت الذي اتبعته، وأنت الذي كنت باغياً معتدياً.
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64] أي: قربنا، وفعل ربنا ذلك من أجل أن نستحضر أن الأمور بيده، مثل قوله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً))، وقوله: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وقوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا))؛ لتستحضر أن الأمور من عنده، وأن شيئاً لا يخرج عن قضائه وقدره بالعدل لا بالظلم، فالله لا يظلم الناس شيئاً.
قال تعالى: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، ولما ذكر البغي والعدوان ناسب أن يكون الفعل منسوباً إليهم، قال: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ))، فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه خرجوا من الناحية الأخرى ودخل فرعون بجنوده حتى توسط بهم البحر جميعاً وهو يريد أن يدرك موسى وقومه؛ فجاءت آية جديدة من آيات الله، فالله هو الذي فلق البحر له، ولكنه طمس على قلبه وبصيرته والعياذ بالله، وفرس فرعون يتحرك أيضاً، ولما توسط البحر انغلق البحر عليهم في سكون وبساطة شديدة، وفي لحظات انتهى كل شيء، وبدأ فرعون يشرب من الماء ليغرق ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)).
وانظر إلى الذل والهوان فلم يقل: لا إله إلا الله: بل هو تابع لبني إسرائيل باقٍ معهم، فقال: إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل: سأظل أمشي وراءهم، ما قال إلا الله مع أن الصواب هو: لا إله إلا الله، ولكن هذا من أجل أن يبين لنا مدى التبعية.
((وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ))؛ لأن سيدنا موسى كان يدعو لدين الإسلام ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، فهو لا يدعو إلى اليهودية أو النصرانية المحرفة، بل الله سبحانه وتعالى جعلهم يدعون إلى الإسلام؛ لأن الدين عند الله الإسلام كما قال الحواريون لما أرادوا أن يخبروا عيسى أنهم على دينه {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، أما نحن فإننا أتباع موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فليس هناك أتباع نبي من الأنبياء حقاً إلا في أهل الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى.
قال سيدنا جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر -أي: من طين البحر- في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة)، فالنفصل لا إله إلا الله خاف سيدنا جبريل من أن يرحم الله فرعون وقت قبض روحه وينجيه؛ لأنه سيدنا جبريل يكره من يكرهه الله، فهو يريد أن يهلك؛ ليكون آية، فهو يدس الطين في فِيه من أجل ألا يتكلم مرة ثانية وألا يقول لا إله إلا الله، بل من أجل أن يسكت؛ فمن توفيق الله للعبد أن يقول: لا إله إلا الله منة من الله عليه، فهي أعظم كلمة في الوجود، (فأفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففرعون رأى آيات كثيرة جداً من أجل أن يقولها فقط مرة واحدة ولكنه ما قالها، فربنا لم يمنَّ عليه بها، وقد منَّ الله عليك بأن تقولها ربما دبر الصلاة عشر مرات، وأن تقولها وأنت جالس على أريكتك، وتقول يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وانظروا إلى ابن جدعان فقد كان يطعم ويطعم ويفعل فتسأل عائشة مشفقة عليه؛ لأنه كان يصل الرحم ويقري الضيف، ويفك الأسير، هل نفعه ذلك؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا.
إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
فنعمة من الله أن تقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وأن تكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، فهذا سيدنا جبريل لا يريد أن يتكلم فرعون بهذه الكلمة، لكن ذل فرعون فظيع، فربنا عز وجل لا يقبل مثل هذا الإيمان.
قال عز وجل: ((آلآنَ)) [يونس:91]، أي: الآن تؤمن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، وسنة الله اقتضت ألا يقبل الإيمان ممن نزل به العذاب وحضره الموت وحصلت الغرغرة، ولكن يمكن أن يقبل منه قبل ذلك بلحظات، أما إذا غرغر الإنسان أو نزل العذاب فلن تقبل توبته.
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ
(3/18)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
رحلتنا إلى الأرض
إن الله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فكان هذا كله تكريماً وتشريفاً له عليه السلام، وفي المقابل طرد إبليس، وأحل عليه اللعنة، حين أبى السجود لآدم، فحلت البغضاء في نفسه، وانتفش من قلبه الحسد لآدم فأقسم ليغوين ذريته أجمعين إلا عباد الله المخلصين؛ فكانت الكارثة والمصيبة العظمى أن أغوى آدم وحواء؛ فأهبطا من الجنة إلى الأرض بسبب إغرائه اللعين، ووسوسته المقيتة.
(4/1)
الفوائد المستفادة من قصة آدم في سورة الأعراف
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقصص القرآن معين لا ينضب، وغذاء للقلب والروح، ونور على طريق الهدى والإيمان، يلتزم الإنسان من خلاله بما بين الله عز وجل لنا من صفات الأنبياء والمرسلين، ويحذر على نفسه من صفات من خالف طريقهم المستقيم، وجعل الله سبحانه وتعالى هذا القصص أحسن القصص بما أوحى الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن العظيم، ومن القصص التي ذكرها الله عز وجل مرات في كتابه العزيز قصة وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض، وكيف بدأت قصة نبي الله آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف وقع الصراع مع إبليس؟ وما هي مغبة طاعته وقبول نصيحته الكاذبة الخادعة؟ وما هي وسائله التي يصل بها إلى إغواء الناس؟ وإنا لنرى في واقعنا وحياتنا من انتشار وسائل الشيطان بل ومن وجود صفاته القبيحة المنكرة ما يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر على نفسه من ذلك، نتلو آيات الله سبحانه وتعالى من سورة الأعراف التي ذكر الله عز وجل فيها هذه القصة ثم نذكر بعض فوائدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:11 - 27].
(4/2)
تكريم الله لآدم في خلقه له بيده
فأخبر الله عز وجل أنه خلق آدم عليه السلام، وصوره عز وجل بيده، وجعل هذه الصورة صورة مكرمة، ذلك أن من سواه الله عز وجل بيده الكريمة ليس كمن قال له: كن فكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) فالله سبحانه وتعالى كرم هذه الصورة وسواها بيده عز وجل، وذلك أن بني آدم كلهم كانوا في صلب أبيهم، وجعلهم على صورة أبيهم، فخلق آدم ثم خلق ذريته على تصويره، وكذلك خلق عز وجل أرواحهم قبل خلق أجسادهم، كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
(4/3)
جواز السجود للبشر في الأمم السابقة لإرادة التكريم
وكان هذا بعد خلق آدم عليه السلام، فدل ذلك على أن الأرواح التي أخذها الله من ظهر آدم ونثرها بين يديه قبلاً وكلمهم {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] كان ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد، قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]، وهذا تكريم لآدم عليه السلام، فقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان عبادة لله وتكريماً لآدم، طاعة لله عز وجل في ما أمر به وليس عبادة لآدم، وإنما أمروا بالسجود تكريماً له، وقد جعل الله عز وجل سجود التكريم جائزاً في الأمم السابقة كما سجد إخوة يوسف وأبواه له، قال عز وجل: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100].
والمؤمن يفعل ما أمره الله عز وجل به أياً ما كان، وهو عز وجل يكرم من شاء بما شاء، وعلى المؤمن أن يطيع، ولقد أمرنا الله عز وجل أن نطوف بالبيت، وأن نقبل الحجر الأسود، وذلك عبودية لله سبحانه مع اعتقادنا أنه لا يضر ولا ينفع، كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
(4/4)
الحكمة من خلق آدم وذريته
فكان سجود الملائكة لآدم أمراً من الله عز وجل مكرماً به لآدم الذي علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكان هذا كله من أسباب تكريمه ومنزلته العالية عند الله سبحانه وتعالى.
وجعل سبحانه وتعالى المؤمنين من ذرية آدم أكمل الخلق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] وذلك أنهم يعملون بطاعته سبحانه وتعالى رغم وجود إرادة الشر والسوء والشهوات في نفوسهم، فهم يقاومونها، والله عز وجل حين قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، تعجبت الملائكة من وجود خلق جديد مع أن الملائكة تعبد الله سبحانه وتعالى، وتفعل بما تؤمر، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون؟! ولذلك سألوا عن حكمة وجود خلق جديد مع ما أعلمهم الله من أنه سوف يوجد في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فلعلمهم أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته تعجبوا من وجود هذا النوع الذي يوجد فيه الخير والشر، ويوجد فيه الطيب والخبيث! فسألوا الله عز وجل عن حكمة إيجاد نوع يوجد فيه من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، مع قدرته عز وجل على خلق من يعبده ولا يعصيه قط؟ فقال عز وجل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ذلك أنه عز وجل يعلم وجود الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء من بني آدم، يعبدونه عبودية هي أكمل أنواع العبودية مع أن إرادتهم فيها المنازعة، ففيها إرادة الخير وإرادة الشر، وهم يعبدون الله في ظروف وأحوال تختلف عن ظروف وأحوال عبادة الملائكة، فالملائكة ليس فيهم من يعصي الله، وليس فيهم من يأمر بالمنكر، وليس فيهم من ينهى عن المعروف، وليس فيهم من يكفر بالله، وليس فيهم من يصد عن سبيل الله، فإذا وجدت عبودية لله سبحانه وتعالى في مثل هذه الأحوال في ظروف المصادة والمشاقة والبعد عن دين الله وشرعه كان ذلك أحب إلى الله عز وجل.
فمن أجل وجود هذه العبودية قدر سبحانه وتعالى وجود من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، حتى يوجد من ينهاه ومن يجاهده، ومن يحبس نفسه على طاعة الله ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله، وحتى يعبد الله سبحانه وتعالى، بعكس ما يفعله أكثر الناس، فهذه عبودية أحب إلى الله عز وجل، بل من أجلها أوجد العصاة والمجرمين؛ لكي يتعبد المؤمنون له بالصبر والاحتساب والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليتخذ الله عز وجل منهم شهداء يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه وتعالى، فله الحكمة البالغة، فهو عز وجل كرم آدم عليه السلام وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وهذه الروح ليست جزءاً من الله -تعالى الله عن ذلك- ولكنها روح أضيفت إلى الله تشريفاً وتكريماً، فهي مثل: ناقة الله، وبيت الله، ففيها إضافة تشريف، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، فروح آدم وبنيه أضيفت إلى الله إضافة ملكية للتشريف، فهي مملوكة مخلوقة لله سبحانه وتعالى.
(4/5)
سجود الملائكة لآدم تكريماً له
قال عز وجل: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، وإبليس أصله: من الإبلاس: وهو اليأس، كما سمي إبليساً؛ ليأسه من رحمة الله بعد إبائه وكفره وتكبره والعياذ بالله! وإبليس لم يكن أصلاً من الملائكة وإنما خلق من النار كما وصف الله عز وجل حيث قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] فدل ذلك على أن أصله من الجن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، فلماذا كان الأمر للملائكة أمراً لإبليس؟ لأن إبليس كان يعبد الله عز وجل حتى صار كواحد منهم، وارتفع في المنازل العالية، وهذا يدلنا على أن العبرة بالأعمال وليس بأصل الخلقة؛ فلذلك الملائكة خلقت من النور ومع ذلك فالذي خلق من الطين فآمن وعمل صالحاً يصل إلى المراتب العالية أعلى ممن خلق من النور، فهذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يصعد في المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ويرتفع إلى مراتب أعلى من جبريل عليه السلام، وهو خير الخليقة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم خليل الرحمن خير البرية بعده عليهما الصلاة والسلام، فإبليس عندما عبد الله عز وجل وكان مطيعاً لله سبحانه وتعالى صار كواحد من الملائكة.
فلما قيل للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) كان الأمر لإبليس أيضاً كواحد منهم رغم أن صفته تختلف عن صفتهم، والدليل على ذلك: أن ما وقع في نفسه مما لا يقع في أنفس الملائكة، فإن الملائكة لا يقع في أنفسها مخالفة أمر الله، لكنه مكلف، وكان في نفسه من إرادة الشر والسوء ما لا يمكن أن يقع من الملائكة الذين عصمهم الله عز وجل عن إرادة ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ))، فامتنع من السجود -والعياذ بالله- وتحولت حاله، فبعد أن كان في المنازل العالية -لنتعظ من قصة إبليس كيف أن المعصية تهوي بالإنسان وتخرجه بعد أن كان في القرب والدنو وفي السموات العلا- أصبح ذلك في الحضيض الأسفل، فمنزلة المخلوق تكون على حسب عبادته، إبليس كان في الملأ الأعلى ثم بعد ذلك لما عصى وتكبر وكفر والعياذ بالله صار إلى أسفل سافلين؛ ولذلك فالعبرة بالخواتيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها).
فلا تغتر، وكن على حذر، ولا تأمن مكر الله ولو كانت إحدى قدميك في الجنة، فخير الناس بعد الأنبياء يقولون ذلك، بل الأنبياء أنفسهم يعلمون ما كتب الله عز وجل لهم من الفوز والسعادة ولكنهم مشفقون على الدوام، ويعبدون الله إلى آخر لحظات عمرهم كما أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11 - 12] أي: ما الذي دفعك إلى عدم السجود حين أمرتك؟ وهذا مما يحتج به أهل العلم على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل بأمر فهو للوجوب، وكذلك أمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه وإنما يأمر بوحي الله، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] لذا قال العلماء: إن الآمر هو الله عز وجل أصلاً، وهو الذي له الحكم أصلاً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مبلغ عن الله، فإذا وجدت أن الله أمر فهذا واجب يلام من تركه ويعاقب، وذلك أن الأمر كان: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) فهو أمر مجرد، والأمر المجرد يقتضي الوجوب عند عامة أهل العلم، واحتجوا بظواهر الأدلة من الكتاب والسنة في مواضع كثيرة على أن الأمر للوجوب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فدل ذلك على أنه لو أمر لوجب، ولكنه لا يريد أن يشق عليهم.
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ سراقة أو غيره لما سأله في الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم! لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فذروني ما تركتكم) وإذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بشيء ابتدرنا أمره، فهذا هو الواجب، ولم يجز لنا أن نقول: هذا الأمر لماذا؟ وكيف؟ وما العلة فيه؟ وما الحكمة منه؟! فهذا ليس بأسلوب المؤمنين، فالمؤمنون يخضعون لأمر الله عز وجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
(4/6)
الصفة المشتركة بين إبليس وكثير من بني آدم
قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وهنا ظهرت عدة أمراض من إبليس اللعين والعياذ بالله، وما أكثر انتشارها في بني البشر من حيث لا يشعرون! أولاً: رد أمر الله سبحانه وتعالى، فهو لم يكن ناسياً، ولا متكاسلاً، ولم يذكر شيئاً من ذلك، فلم يقل: يا رب! أنا أخطأت، ولم يقل: يا رب! أنا نسيت، ولم يقل: يا رب! أنا لست من الملائكة مثلاً، أو: أنا خلقتي غير خلقتهم والأمر لم يشملني، فإبليس يعلم تماماً أنه مأمور ضمن الأمر للملائكة، لكنه رد الأمر على الله عز وجل، والرد من أخطر أنواع الكفر، فهو كفر الإباء والاستكبار، ولم يقل: هذا الأمر ليس من أمرك يا رب! وكثير من الناس يظن أن استحلال المعصية معناه فقط: أن يقول: إن الله لم يحرم هذا الأمر، كمن يقول مثلاً في الزنا: الزنا معصية من المعاصي وفعل الزنا ليس مخرجاً من الملة، ولكن استحلال الزنا مخرج من الملة، لكن هناك أمراً أخطر وأكثر وقوعاً وهو: أنه يعلم أن الزنا حرام لكنه يقول: لا يلزمنا هذا الأمر، فيرد الأمر على الله عز وجل، فهذا كفر الإباء ومنبعه من الكبر، كما قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فهذا كفر مثل كفر الاستحلال أو هو في الحقيقة يمكن أن يعد نوعاً من الاستحلال، بأن يرد أمر الله كمن يقول: الزنا حرية شخصية مثلاً، فهذا إباء ورد لشرع الله لا يستطيع أن يجزم ولا أن يدعي أن الله لم يحرم الزنا، ولكنه يقول: ماذا في الزنا إذا كان برضا الطرفين؟! كقصة قرأتها اليوم في الجرائد: أن فتاة بلغ أبوها الشرطة أنها اغتصبت، فاتهم طالباً -زميلاً لها وجاراً لها- بذلك؛ فقبض عليه فجيء بالفتاة فقالت: لا، أنا ذهبت بإرادتي إلى شقته وبت معه، فأطلق صراح الطالب مباشرة، فهذا أمر عجيب! فالأمر عند القوم مبني على الإكراه، أما إذا كان بالتراضي بينهما فلا بأس ولا حرج، ولا شك أن الذي وضع هذا الأمر وشرعه أصلاً يرد شرع الله عز وحل، فيمكن أن تثبت واقعة الزنا، ولكن إذا ثبت أن هذا الأمر وقع بالتراضي والاختيار فلا يكون هناك ثم جريمة والعياذ بالله! فالإباء موجود بكثرة، فعندما تدعو أحداً إلى أن يصلي يقول لك: أنا حر! أصلي إن شئت ولا أصلي إن لم أشأ والعياذ بالله! فهل هذا أمر مني أنا عندما أقول لك: صل، أقم الصلاة؟ إنه أمر الله عز وجل، فالذي يرى نفسه حراً مع أمر الله كافر وخارج عن ملة الإسلام! والذي يرى نفسه حراً مع أمر الله يفعله إن شاء ويتركه إن شاء ولا يرى لزوم الأمر عليه إبليسي المذهب، وإبليسي الطريقة! والذي يقول: أنا حر، أنا لا أسجد والعياذ بالله، فهو كمن قال الله عنه: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33] فرد الأمر على الله من أعظم أنواع الكفر، فكفر إبليس لم يكن عن طريق اتخاذ وسطاء يدعوهم مثلاً من دون الله كشرك المشركين الذين عبدوا الأوثان وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وكمن يعبد الملائكة مثلاً أو يعبد المسيح أو يعبد الأولياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، فيدعوهم، ويتوكل عليهم، ويذبح وينذر لهم، وهذا نوع من الشرك، فكفر إبليس لم يكن بذلك ولم يقل: هناك وسائط بيني وبين الله أدعوهم وأعبدهم، وإنما كان كفره كفر رد وإباء.
وهذا كفر يجهله كثير من الناس، ولا يعرف خطره، ونراه كثيراً واقعاً في مئات وآلاف وملايين من الناس وهم لا يعرفون أنه كفر والعياذ بالله!
(4/7)
الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس
وكفر الرد والإباء يؤدي إلى زوال أصل الانقياد من القلب، وأصل العبودية خضوع وانقياد مع حب، فإذا زال من القلب أصل الخضوع كفر المخلوق والعياذ بالله، فهذا إبليس كفر مع إقراره بوجود الله، ومع إقراره أن الله خلقه، ومع إقراره بيوم البعث، ومع إقراره أن الله هو الذي يمد في العمر ومع كل ذلك كفر إبليس؛ لأنه انتفى من قلبه أصل الانقياد، وانتفى من قلبه الخضوع لله عز وجل، فآدم عليه السلام عصى، وإبليس عصى، وآدم لم يكفر عليه السلام، وإبليس كفر؛ لأن آدم لما عوتب قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23].
وشتان بين من قال: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، وبين من قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]! وهذا فرق كبير جداً بين إنسان تأمره بطاعة الله فيقول: أنا مخطئ، أنا مقصر، وبين آخر يقول: دعنا من الشرع! لا ألتزم ولا أطيع! فهذا هو الذي يرد شرع الله عز وجل.
والمؤمن لا بد أن يكون في قلبه أصل الحب والانقياد، وأصل الخضوع لله عز وجل، ولذا يقال: طريق معبد أي: مذلل، فالعبودية أصلها من الذل والخضوع، ولذلك إذا زال من القلب أصل الخضوع -بمعنى: أنه لا يرى لله عليه أمراً يطاع- زال من قلبه الإيمان ولو أطاع في أوامر أخرى، ولو كان يعبد الله قبل ذلك بسنين فإنه لا يكون مؤمناً، ثم كانت الصفة الثانية التي دلت عليها الآية الكريمة: أنه يزكي نفسه، قال الله عنه: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) فتزكية النفس والإعجاب بها ورؤيتها كبيرة مرض؛ لذا كان مرض الكبر والعياذ بالله مرضاً منتشراً أيضاً في بني آدم، والذرة منه تمنع دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وإبليس رأى نفسه في المحل الأعلى فزكى نفسه، قال عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وكم تجد من الناس من يقول: أنا خير من فلان، وأنا أحسن من فلان، وأنا أعلى قدراً من فلان، وأنا أغنى من فلان، وأنا أكثر مالاً من فلان، أنا أكثر منك مالاً وولداً! كم من الرجال والنساء! المرأة تقول: أنا أجمل من فلانة، وأنا أحسن من فلانة، حتى إن أهل الدين قد يدخل فيهم هذا الداء، حتى إنه يوجد من يعبد الله عز وجل ليقال: فلان أعبد من فلان! وفلان أزهد من فلان! وهو في نفسه يقول: أنا أعلم من فلان، وأنا أكثر طاعة من فلان، نسأل الله العافية! فهذا بلاء شديد وخطير، وقد يبتلى به أهل الدنيا وأهل الدين على حد سواء؛ لذلك لا بد أن تكون حذراً من ذلك في نفسك، فاحذر أن تزكي نفسك، فمن كان على طريقة إبليس فإنه يزكي نفسه، فليست كلمة (أنا) حرام فقط، فبعض الناس يقول لك: أنا اسمي فلان! وأعوذ بالله من كلمة أنا! لا، ليست (أنا) حراماً، وإنما (أنا) هذه تصبح كلمة منكرة أي: التي فيها تزكية للنفس والشعور بالكمال، وتنقيص الآخرين وازدرائهم، فهذه هي التي فيها الذم والعيب، وليس كل (أنا) تكون محرمة يستعاذ منها، وإلا فقد ثبت في الكتاب والسنة أن يقول الإنسان: أنا.
قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))، فإبليس جاهل جهلاً عظيماً لأمور: أولاً: أن في هذا رد لشرع الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: فيه اعتقاد عدم حكمة الله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: الأمر الذي أمرت به غير مناسب فكيف تأمرني بالسجود له؟! إذاً: ففيه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته وكأنه يقول: إن الأمر غير صحيح، إبليس لا يؤمن بصفة العلم والحكمة وأن الله عز وجل حكيم يضع الأشياء في مواضعها، ويشرع الشرائع للمصالح والحكم، فهذا داء خطير موجود في كثير من الناس، فتراه يعترض على شرع الله عز وجل بعقله، ويقول: لماذا أمر الله بالشيء الفلاني؟ كان ينبغي كذا فيقترح على شرع ربنا سبحانه، ولماذا ربنا حرم الشيء الفلاني؟! ولماذا ربنا أوجب الشيء الفلاني؟! وإبليس سن سنناً لكثير جداً من الناس ليسيروا عليها، ومنها: الإعجاب بالنفس، واعتقاد عدم الحكمة في شرع الله سبحانه وتعالى، والكبر الذي يدفع الإنسان إلى عدم الالتزام بدين الله وشرعه سبحانه وتعالى.
(4/8)
غرور إبليس وجهله بمنزلة آدم
فلو تأمل إبليس لعلم أن آدم خير منه، فآدم خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33].
فإبليس كان يكتم في نفسه أنه يرى نفسه أفضل من آدم، ويكتم في نفسه الكبر والعجب والعياذ بالله! فكان عند إبليس القياس الفاسد فرد شرع الله بأن أصل خلقته من النار، وأصل خلقة آدم من الطين، والنار أفضل من الطين، فهذا القياس فاسد الاعتبار لا يجوز أن يعتمد عليه لأنه في مقابلة نص واضح، والشرع أتى بالقياس الصحيح ولم يأت بالقياس الفاسد، وأكثر انحراف الناس عن الشرع هو بسبب القياس الفاسد، فيعمل الإنسان عقله مع وجود النص، فيقول لك: لم أقتنع بهذا الأمر! فهذا أمر خطير، لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يقول لأمر من أوامر الله: أنا غير مقتنع به، لماذا غير مقتنع به؟! أمر الله عز وجل العليم الحكيم هل يعرض على العقول؟! فإبليس هو الذي فعل ذلك، وهو أمر خطير جداً نسمعه فمثلاً: ترى فتاة متبرجة يقول أبوها: إني أتركها حتى تقتنع، فتقول لك: أنا لست مقتنعة بالحجاب! وهذا أمر ربنا عز وجل في القرآن حيث يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فالذي لا يقتنع بشرع الله وأمره مع علمه بأن هذا أمر الله فهو إبليسي المذهب يسير على طريقة إبليس، فلا بد أن تلتزم بشرع الله، ولو نظر إبليس في الحقيقة لعلم أن الله نفخ في آدم من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، والعلم يقتضي التكريم، بخلاف النظر إلى أصل الخلقة، فمن الذي قال: إن الطين أقل من النار أو النار أفضل من الطين؟! لا يوجد دليل على ذلك، لكن عندما يتأمل الإنسان كل الشبهات الباطلة يجدها في النهاية لا أصل لها ولا دليل عليها، فإبليس بنى على أن النار أفضل من الطين، وبالتالي فالذي خلق من النار لا بد أن يكون أفضل من الذي خلق من الطين؛ وكذا فإن الأمر بالسجود للذي خلق من الطين أمر غير صحيح فكان رد فعله أن امتنع من السجود.
فهذه المقدمات مبناها أصلاً على قاعدة باطلة، فلا يوجد دليل على أن النار أفضل من الطين، لا دليل على ذلك، بل إن النار من صفاتها الطيش والخفة، والطين من صفاته الهدوء والسكينة والرزانة؛ ولذلك يقولون: خان إبليس أصله، فسبب طيش إبليس خلقته، وهذا الكلام قاله بعض السلف لكن ليس فيه دليل؛ لأن إبليس لما كان مطيعاً كان مرتفع المنزلة، وبعض الذين يخلقون من الطين ليس فيهم رزانة ولا هدوء ولا سكينة بل يكونون في أسفل سافلين، والعبرة بالأعمال ليس بأصل الخلقة؛ وبالتالي نقول: لو أن إنساناً نسبه شريف لكن أعماله قبيحة، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) إن أصل خلقتك أصل شريف، ولكنك لو كنت من نسل الأنبياء لخالفت سبيلهم فلست منهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي - بعض أقاربه الذين لم يؤمنوا- ألا إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
والمقصود: أن المقدمات الفاسدة والقياس الفاسد هما اللذان يؤديان إلى تحريف وتبديل وتضييع الشرع، ثم إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله، فالحذر الحذر من استعمال الرأي في مقابلة النص، كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته) وانظر إلى سهل بن حنيف عندما كان في صلح الحديبية والرسول صلى الله عليه وسلم يمضي الصلح على الشروط التي اشترطها الكفار -وهي شروط ظالمة، فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام للمصلحة- فكان بعض الصحابة يتمنون أن يردوا ذلك خصوصاً أمر أبي جندل أحد المستضعفين من المسلمين وهو ابن سهيل بن عمرو، فرده إلى أبيه يفتنه عن دينه، فما استوعب أكثر الصحابة ذلك، ولكن انظر إلى الفتح الذي حصل بالصلح، لقد كان فتحاً عظيماً مبيناً كما وصفه الله عز وجل حيث قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] فالمؤمن لا بد أن يمتثل لشرع الله ولا يعترض برأيه ولا بعقله على أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى لا يكون مثل إبليس الذي قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) والعياذ بالله!
(4/9)
أول معصية عصي الله بها
ومن صفات إبليس: الحسد، وهي أول معصية عصي الله عز وجل بها، فإبليس حسد آدم على ما فضله الله عز وجل عليه؛ ولذلك أبى السجود، وهذا الحسد منبعه من الكبر والإعجاب بالنفس، لكنه ينبت الحسد الذي يؤدي إلى بغض المحسود، والسعي في الإفساد عليه، والسعي في أذيته، وهذا إبليس أبغض آدم عليه السلام على ما فضله الله عليه، والحسد هذا في حقيقته هو اعتراض على قضاء الله، وعلى ما قسم الله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي وهب، وهو الذي فضل، فإبليس هو أول من حسد، بل إن أول جريمة قتل ارتكبت على وجه الأرض كانت بسبب الحسد، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
فالحسد هذا يكاد يقتل الناس، يقعد الإنسان يقارن بينه وبين غيره فيقول: لماذا أعطي فلان ولم أعط أنا؟! ثم تترتب على ذلك البغضاء والكراهية، ويضيق الإنسان الحاسد، وأول المعذبين بالحسد هو الحاسد؛ لذلك قالوا: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله يعني: الذي يتعذب أولاً هو الحاسد؛ لأنه يشقى بذلك الحسد، وهذا داء إبليسي والعياذ بالله! والكبر والعجب والحسد كلها أمراض إبليسية ليست من أصل صفة الإنسان، لكن أكثر الناس يخدعهم الشيطان ويجعلهم يقعون فيها، فاستعمال القياس الفاسد فيه رد لشرع الله سبحانه وتعالى، فهذه أمراض -كما ذكرنا- والعياذ بالله أدت إلى هذه الجريمة.
(4/10)
حكم ترك الصلاة
وإبليس لم يترك فقط السجود، وإنما أبى السجود، ولذلك بعض العلماء يحتج ويقول: إن من ترك الصلاة كفر كفراً ينقل عن الملة، وقد يحتجون بأن إبليس ترك السجود فكفر، ويحتجون بحديث رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن ابن آدم إذا قرأ السجدة فسجد تولى عنه الشيطان يبكي فيقول: يا ويله -يا ويل نفسه- يا ولي! أمر آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النا)، وهذا يدلنا على خطر ترك السجود لله عز وجل، وكما ذكرنا فقد كان سجود الملائكة لآدم طاعة وعبودية لله عز وجل وليس عبادة لآدم، ولكن كما ذكرنا، فالذي يأبى الصلاة هو الذي يكون مثل إبليس كافراً والعياذ بالله، أما تركها تكاسلاً فلا شك أنه كفر أيضاً، ولكن النزاع بين العلماء في كونه كفراً ناقلاً عن الملة أو كفراً لا ينقل عن الملة، وهذا القول الأخير هو قول الجمهور وهو الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهنا ذكر الترك، وكما ذكرنا فإنه لا يلزم منه الإباء، ولم يذكر ربنا عز وجل في أي موضع من القرآن أن إبليس ترك فقط، وإنما قال: ((أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) والعياذ بالله!
(4/11)
معصية إبليس أهبطته من الجنة
قال سبحانه وتعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].
تعالى إبليس على أمر الله فأهبطه الله، وتكبر فصغره الله، فالعاصي يعاقب بنقيض قصده، والله عز وجل يعاقب من خالف أمره بعكس ما يريد مما أراد من المعصية والمخالفة، فإبليس لما أبى ظن أن ذلك عزة له فصار ذلك سبباً لذله، وظن أن ذلك يحقق ذاتيته ويقول: أنا أعلى وأفضل، فجعله الله عز وجل حقيراً مذموماً مذءوماً، مدح نفسه فذمه الله لما قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))، وقال: ((اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا)) يعني: مذموماً، فعاقبه الله عز وجل بعكس ما قصد، فكل من تعزز بمعصية الله أذله الله، وكل من تكبر على طاعة الله صغره الله عز وجل، وكل من تعالى على أمر الله أهبطه الله سبحانه وتعالى.
((قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا)) أي: من المنزلة التي كنت فيها، من السموات العلى، لأنها لا تتناسب مع هذا الكبر، قال: ((فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا)).
وعندها خرج مرض إبليس الدفين بهذا الابتلاء، حيث ابتلي إبليس فما نجح في الامتحان، إذاً: فليست العبرة بطول العبادة بقدر ما يكون الثبات في مواطن الابتلاء، قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].
فإذا ذكر الله عز وجل تصاغر حتى يصير مثل الذبابة، وربما يكون المكذب الكافر من بني آدم يسمع الآيات تلو الآيات ونفسه لا تصغر، لكن إبليس يصير بقدرة الله مثل الذبابة إذا سمع ذكر الله عز وجل، هوان فظيع والعياذ بالله! ثم ينتظره الهوان الأشد يوم القيامة، فهو الآن في هوان، ويوم القيامة يكون في هوان أشد نعوذ بالله من النار!
(4/12)
معرفة إبليس لربه بعد كفره
{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] أي: أن إبليس طلب وطول العمر، طول العمر مع معصية الله عز وجل أعظم ضرراً، وطول العمر مع الكفر يزيد من الفساد، لذلك ليس طول العمر دعاء يدعى به على الدوام، إنما يكون طول العمر مع حسن العمل، {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14].
فإبليس لم يطلب من أحد، ولم يقل: سوف أبقى طول العمر أو سوف أبقى مدة الدنيا، وإنما قال: رب! فهو يعلم بعد كفره أن الله ربه، وهذا من أعظم ما يرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان: هو المعرفة، وأنه إذا عرف وجود الله صار مؤمناً، لا! إبليس يعرف وجود الله، ويعرف أنه ربه وخالقه بعد كفره، فإبليس كافر يعرف وجود الله، لذلك نقول: إن الإيمان ليس المعرفة فقط، فالإيمان قول وعمل كما قال أهل السنة، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وعمل القلب هو أعظم وأهم الأعمال؛ لأنه ينبني عليه عمل الجوارح، فإبليس يقر أن الذي يدعى هو الله، فلم يدع الملائكة ويقول: توسطوا لي عند الله لكي يمد في عمري، بل قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14].
وإبليس مقر باليوم الآخر، ولكنه كافر به؛ لذلك قال الله عز وجل عن اليهود والنصارى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فكثير من الناس يقول عن اليهود والنصارى: هؤلاء مؤمنون يؤمنون بالله واليوم الآخر، وربنا ذكر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع كونهم أوتوا الكتاب؛ لأنه ليس الإقرار بوجود الله واليوم الآخر إيمان، وإلا لأصبح إبليس مؤمناً، لا، فإبليس أكفر الكفرة؛ لأن الإيمان لا بد فيه من انقياد وحب وطاعة، والإيمان باليوم الآخر لا بد فيه من استعداد له، أما الذي يؤمن بالجنة والنار ولا يبغي الجنة ولا يفر من النار فهذا لا يكون مؤمناً باليوم الآخر؛ ولذلك لو أن إنساناً أخبرته فقلت له: هذا طعام مسموم، فقال لك: أنا مصدق لكلامك وتناول ذلك الطعام، فإنه يصبح غير مؤمن بكلامك في الحقيقة؛ لأنه لا بد مع الإيمان من خضوع وانقياد وطاعة، وإبليس إلى هذه اللحظة جاهل جهلاً عظيماً بالله سبحانه وتعالى.
(4/13)
حرمة الاحتجاج بالقدر على المعاصي
قال تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] إلى أن أخذ الوعد من ربنا عز وجل حيث قال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15]، فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
وكأنه يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه حتى أخذ الأمر والوعد من الله، فأخبر ربه بما سوف يفعله، وهذا جهل فظيع جداً بصفة العلم، فربنا يعلم ما في نفس إبليس، وأنه يريد أن يفعل ذلك ببني آدم، لكن لهوان الدنيا على الله؛ ولهوان إبليس عليه مد في عمره، قال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15] فسبحان الله! عمر إبليس الطويل زاده بعداً من الله عز وجل، فإبليس عائش من قبل أن يخلق سيدنا آدم، وسوف يظل إلى نهاية العالم، ولكن لما طلب من ربنا الدنيا عيشه ربنا الدنيا كلها، إذاً: فالدنيا هذه لا تساوي عند ربنا شيئاً، ولو كانت تساوي شيئاً ما كان أعطاها إبليس أعدى أعدائه، وأول من كفر به بهذه الطريقة، ورد الأمر عليه، ولكن لأن الدنيا هينة لا تساوي شيئاً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) يعني: هي أهون من جناح بعوضة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطاها إبليس، فعنده عرش على ماء البحر كما ثبت في الحديث، كما قال ابن صياد للنبي عليه الصلاة والسلام لما سأل له: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال: ترى عرش إبليس على البحر) فسبحان الله! إبليس عنده عرش على البحر، ومملكة وجنود وأعوان وأتباع، وكل هذا مما أعطاه الله عز وجل لهوانه ولهوان الدنيا على الله؛ لذلك عندما تجد للكفرة والظلمة ملكاً وسلطاناً وجنوداً وأتباعاً فلا تغتر؛ لأنهم قد يكونوا أهون على الله من إبليس، فهذا إبليس الذي أعطى الله له أكثر من هؤلاء نعوذ بالله! لذلك فملك أهل الكفر والعدوان والظلم ليس دليلاً على أن الله رضي عنهم، لا، فالله عز وجل أعطى إبليس كذلك: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:15 - 16].
وأول من احتج بالقدر: هو إبليس، فبدل من أن يقول: يا رب! أنا ظلمت نفسي وأخطأت، يقول: يا رب! أنت أغويتني، وأنت الذي أضللتني! وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، الذي لا يصلي يقول: إن الله لم يهدن، والذي يفطر في نهار رمضان يقول: ربي ما أراد هدايتي، والتي لا تتحجب تقول: إذا هداني ربي فسأتحجب، فهؤلاء هم على طريقة إبليس، فيقول بعضهم: لو كتب ربنا لنا الهداية لكنا اهتدينا، فهذا يحكم على نفسه أنه من الظالمين، وربنا عز وجل يقول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
إذاً: فأنت على خطر عندما تقول: إن ربنا لم يهدك؛ لأنك تحكم على نفسك أنك ظالم والعياذ بالله! فالقدر يحتج به في المصائب لا المعائب، فتب من الذنب الذي عملته إلى الله، ثم بعد هذا احتج بالقدر، وقل: إن ربي قدر علي ذلك، أما وأنت ما زلت مصراً على الذنب تقول: (بما أغويتني) فهذا سوء أدب عظيم مع الله عز وجل، وانظروا إلى أدب إبراهيم عليه السلام عندما يقول: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأدب مؤمني الجن من ذرية إبليس، لكن الإيمان هذبهم حين قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].
فالذي أراد لهم الرشد هو ربهم، وفي الشر قالوا: (أريد) مع أنهم قصدوا الله الذي أراد بهم شراً، ولكنهم تأدبوا مع الله عز وجل.
أما إبليس فيقول: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] وربنا عز وجل كتب عليه الغواية فعلاً، ولكنه لم يظلمه سبحانه وتعالى؛ لأنه جعل له قدرة وإرادة، وبها يحصل فعله، فهو الذي اختار الشر والضلال والعياذ بالله! وإلى هذه اللحظة كان يقول: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف:16] يعني: ما زال مصراً على مزيد من المعاصي وعلى معاندة أمر الله عز وجل، وهو يعلم أن الله يحب من خلقه أن يطيعوه وهو يعاكس أمر الله ويعاكس محبته، ما هذا الكره الفظيع؟! فإبليس منبع الشر والسوء خلقه الله عز وجل وهو يعلم ذلك؛ لكي يجاهده المؤمنون؛ ولكي يتعبدوا الله بمقاومته ومخالفته وارتكاب نهيه وترك أمره، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268].
فأنت عندما تترك أمر إبليس يصبح طاعة لله عز وجل، فالله جعل منبع الشرور في هذا المخلوق العجيب والعياذ بالله! قال: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي))، إذاً: فالاحتجاج بالقدر مع الإصرار على الذنب فعل إبليس؛ لذلك فإن الجبرية الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقدر ليسوا مؤمنين بالقدر، فقد قدر ربنا على إبليس ذلك، ولكن هذا الإيمان ليس إيماناً بالقدر، كما أن إيمان الجبرية بالقدر ليس إيماناً، فالذي يقول: ربي كتب علي كذا، فهو غير مؤمن بالكتابة هذه؛ لأن الإيمان بالكتابة لا يكون إلا مع السعي في الأخذ بالأسباب، فلو أنك تركت الأكل وقلت: ربي كتب علي أنني أجوع، فهل تصبح مؤمناً بالكتاب؟! ليس هذا هو الإيمان، فالإيمان ليس معرفةً بوجود الشيء وانتهى الأمر، وإن كان لا يوجد أحد في أمر الجوع والشرب سيعمل هذا الأمر أبداً، فكلهم سيقولون: أريد ماءً، أريد أن آكل، فتراه يأخذ بالأسباب، أما في أمر الدين تراه يقول: إلى أن يهديني ربي، ولو أن ربي كتب لي الهداية فسأهتدي، وربي لم يكتب لي الطاعة الفلانية، والعياذ بالله!
(4/14)
وسائل إبليس في إغواء بني آدم
قال تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، فهو يريد أن يقعد على هذا الصراط ليصدهم ويبعدهم عن صراط الله المستقيم، فإبليس يعرف الصراط المستقيم، فالإيمان عنده أبداً لم يكن فقط إيمان معرفة، فإبليس كان يعرف كل ذلك ولا يلتزم به، والصراط المستقيم هو: الإسلام، وهو دين الحق، فهو يصدهم عنه ويقعد لهم، فإذا أراد الإسلام يقول له: أتترك دين آبائك؟! كما فعل مع أبي طالب حتى مات على الكفر بسبب الشبهة، أتترك دين آبائك؟! فهو قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فإبليس كان من وراء أبي جهل الذي قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان ما قاله: هو على ملة عبد المطلب، وأكثر الناس كفار من أجل أن آباءهم وأمهاتهم كانوا كفاراً والعياذ بالله! وربما قعد له إبليس في طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أرض آبائك؟! فعصاه فهاجر، وربما قعد له في طريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فتنكح المرأة ويقتل الناس؟! فعصاه فجاهد.
قال تعالى مخبراً عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف:17]، يرغبهم في الدنيا ويكره إليهم الآخرة، فينسيهم أمر الآخرة ويجعلهم في غفلة عنها: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] يأتيهم من قبل الطاعات فيجعلهم يتكاسلون عنها، ومن قبل المعاصي فيرغبهم فيها ويوقعهم في الشهوات.
قال تعالى مخبراً عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وانتفاء الشكر أعظم وسيلة يصل بها إبليس إلى مراده، وظن إبليس أن أكثر الناس إذا نسوا الآخرة، وانشغلوا بالدنيا، وانهمكوا في الشهوات، وابتعدوا عن الطاعات فقد تركوا شكر الله، وإذا زال الشكر بالكلية حصل الكفر بالكلية والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].
فإبليس ظن ذلك وقد حصل تصديق ذلك الظن حين اتبعه أكثر الناس على ذلك، فأكثر ما يغيض إبليس وأكثر ما يقطع عليه طريقه أن تشكر نعمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والحمد والشكر هو أول ما أمرنا الله عز وجل به، وأول ما تكلم الله عز وجل به في كتابه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
فقد أمرنا أن نقول الحمد سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم، وشكر نعمة الله: أن يعلم الإنسان من قلبه أن الله عز وجل هو الذي أنعم عليه بهذا؛ فيشعر بالخضوع والمنة له سبحانه وتعالى، ثم يثني على الله بلسانه، ثم يستعمل هذه النعمة في مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك يقطع ظهر إبليس ويقطع عليه طريقه، وطريق إبليس ألا تشكر نعمة الله بأن ترى نفسك صاحب الفضل في النعم، كأن تقول: {هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:50] وكما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
فالذي لا يرى نعمة الله عز وجل عليه يستجيب لدعوة إبليس، كأن يرى نعم الله على الناس فيقول: لم ينعم علي ربي كما أنعم على الناس، فقد ظلمني ولم يعطني حقي: فهذا داء الحسد كما ذكرنا ومنبعه ذلك، لكن أن ترى نعم الله عليك الكثيرة فترى نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اليد، ونعمة الرجل، ونعمة سلامة الجسد، ولو حرمت واحدة منها تذكرت الأخريات فسوف تسعد أعظم السعادة دائماً، فإذا حرمت نعمة فقد أعطيت غيرها والخير كثير فكم تساوي يدك؟! وكم تساوي رجلك؟! كم يساوي عقلك؟! كم تساوي أذنك؟! كم يساوي قلبك الذي جعل الله عز وجل فيه الإيمان والإسلام؟! لا شك أن شكر نعمة الله سبحانه وتعالى يقطع طريق إبليس من أصله؛ ولذلك فنسيان الآخرة والانشغال بالدنيا، والإقبال على المعاصي والشهوات، وترك العبادات والطاعات كلها مرتبطة بترك الشكر؛ لذلك فإن أكثر الناس الذين لا يعرفون نعمة الله ولا يشكرونها يكونون منغمسين في هذه الأربعة كلها.
فلابد أن تقطع الطريق على إبليس فتشكر نعمة الله عز وجل، وتقبل على الطاعات والعبادات، وتبتعد عن الشهوات والمخالفات، وتقبل على ذكر الآخرة وتهتم بها، وتبتعد عن الرغبة في الدنيا وتزهد فيها، فإذا فعلت ذلك فأنت شاكر لنعم الله، قاطع على إبليس طريقه فلا يتحقق غرضه منك.
(4/15)
اعرف عدوك!
فإبليس يمكر بهذا المكر، ويعد هذه الخطة من العداوة الشديدة لبني آدم، وهو قد قال أيضاً أنه سوف يسعى في إغوائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين، قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وفي قراءة أخرى: (المخلِصِين) فهذا يدفعنا إلى أن نسعى في الإخلاص، وأن نكون مخلصين لله (والمخلَصين): الذين أخلصهم الله لعبادته، فإذا عبدت الله كنت ناجياً عند الله، فاعرف عداوة إبليس قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فهو خطر عظيم وعدو لا ينام! قال الحسن: لو نام إبليس لاسترحنا من هذه النظرة التي أنظرها.
لأن حياته ممتدة، فلو نام إبليس لاسترحنا منه لكن عداوة شديدة لا تنقطع بينه وبين بني آدم، فهو ينشر سراياه في الأرض كلها، وأعطاه الله لكل من يولد من بني آدم يولد له من ذريته مثله ليكون قرينه والعياذ بالله، فانظر إلى كم عدد الجنود الكبيرة لإبليس وكلها لا تساوي عند الله عز وجل شيئاً! وهي في الحقيقة صغيرة تافهة حقيرة؛ لأنها في معصية الله وفي الكفر به وفي الصد عن سبيله، وإن كان أكثر الناس يستجيبون له إلا من رحم الله من عباد الله المخلصين، اللهم اجعلنا منهم.
(4/16)
تهديد الله لإبليس وأتباعه
قال عز وجل: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18].
الذأم: أشد الذم، فهو مذموم مذءوم مدحور مغلوب، إذاً: فصفة إبليس أنه مغلوب دائماً، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، لذلك يسهل عليك أن تتخلص من كيده، فالجأ إلى من ينجيك، إلى من يغيثك ويعيذك، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فإذا استعذت بالله عز وجل نجاك من هذا المدحور المغلوب، وإن كان يغلب أكثر الناس لأنهم اتخذوه ولياً وهو عدوهم؛ ولأنهم رضوا به من دون الله عز وجل ليتولى شأنهم ويوجههم، ويقبلون أوامره ويجتنبون نواهيه بدلاً من أن يمتثلوا أوامر الله ويجتنبوا نواهيه.
قال تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] أي: من تبعك من بني آدم صار منك ولأملأن جهنم منكم، فانظر! قال أولاً: (منهم) ثم قال (منكم)؛ لأن هذا اختصاص بالمجموع، وإن كان أصل خلقتهم ليست من إبليس، لكن لما التزموا كلامه واتبعوا أمره صاروا منه، قال تعالى: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ))، فـ (منكم) يعني: منك وممن اتبعك من بني آدم.
(4/17)
تكريم الله لآدم بإدخاله الجنة
وكرم الله عز وجل آدم فأسكنه الجنة، قال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، وأصح أقوال أهل العلم أن هذه الجنة هي جنة الخلد، لكن كيف وآدم قد خرج منها؟! نقول: إنما هي جنة الخلد إذا دخلوها يوم القيامة، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم دخلها في المعراج ثم نزل إلى الأرض مرة ثانية، قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت إلى السدرة فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان) ورأى فيها نهر الكوثر، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الجنة ودخلها عليه الصلاة والسلام، ولكن إنما تكون جنة خلد لا يخرجون منها - {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]- إذا دخلوها يوم القيامة، أما قبل ذلك فيمكن أن يدخلها البعض ثم يخرج منها، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف:19].
فالحلال كثير! {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]، شجرة واحدة هي المحرمة، وسنة ربنا عز وجل في التشريعات تقضي بأن الحلال أكثر من الحرام، ومع ذلك فأكثر الناس يرتكبون الحرام ويتركون الحلال سبحان الله! مثلاً: ربنا أمرنا بالصلاة في خمسة أوقات في اليوم والليلة مدتها ساعة من أربعة وعشرين؛ والذي يطول الصلاة جداً يأخذ ربع ساعة في الصلاة فيقولون له: أنت طولت، ومع ذلك أكثر الناس لا يلتزمون بذلك.
والمباحات كثيرة جداً، فالنباتات المحللة كثيرة، والنباتات المخدرة قليلة جداً، ولكن كم من الناس يأخذ الحرام، واتباع الشهوات سبب لذلك؛ لذلك فربنا عز وجل حرم على آدم شجرة واحدة فقال: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19] واليهود يقولون: إنها شجرة المعرفة، والحقيقة أنه ليس هناك دليل على ذلك، بل هذا كلام فاسد من أن الذي يأكل من شجرة المعرفة يصبح عارفاً بالخير والشر، وبالتالي فربنا خاف من آدم أن يأكل من شجرة المعرفة فجعل عليها سيفاً مصلتاً يدور حولها ولهيب نار حتى لا يأكل من هذه الشجرة.
وكذلك لم يخبرنا القرآن عن نوع الشجرة، والاهتمام بأشجار التين أو البر أو كذا غير صحيح، فأهل الكتاب يهتمون بهذه الشجرة، ولكن لم يخبرنا ربنا عز وجل عنها، فهي شجرة حرمها الله عز وجل على آدم لحكمته.
(4/18)
بداية وسوسة إبليس لآدم
والله خلق آدم للأرض أولاً: ابتلاءً، لكنه ينزل بدون سبب، فربنا قدر المقادير بالأسباب، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، فالذين قالوا: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، فهل هناك احتياج إلى ذلك؟! الله عز وجل لم يخبرنا أن إبليس دخل الجنة، فالوسوسة ربما تحصل من بعيد، والآن توجد وسائل للإفساد عن بعد، كالأقمار الصناعية، فهي تفسد في الأرض مشارقها ومغاربها من بعيد جداً نسأل الله العفو والعافية، فليس بلازم أن يكون معنى (فوسوس لهما) أنه دخل الجنة، فمن الممكن أن يوسوس لهما ويخاطبهما من بعد.
قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20]، فهو عرف أن المدخل من كشف العورات: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) وقد كانا لا يريان عورتيهما، فهما إما في نور أو في غير ذلك والله عز وجل أعلم، إنما كانا لا يريان عورتيهما، فأراد الشيطان أن يبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، إذاً: فخطة إبليس اللعين والعياذ بالله هي كشف السوءات، فأول شيء يصل إليه في بني آدم أنه يدعوهم إلى كشف العورات؛ ولذلك فهذا التبرج مفسدة إبليسية كبرى، فالناس اليوم يكشفون عوراتهم؛ لكن ما هو الذي يجعله يكشف عورته أمام الناس؟! إبليس والعياذ بالله، وإلا فالفطرة السوية أنه يغطي عورته ويحب التغطية، ولا يحب أن تنكشف العورة فينقلب الحال إلى حال سيئة، وربما يتعود الناس أن يروا والعياذ بالله الصور العارية تماماً والأفلام الخطيرة الجنسية التي تكون أمام الملايين من البشر، لكن أهل الحياء يستحي ربما أن تبدو عورته أمام أهله أو أمام نفسه ربما، فكيف إذا كان هذا أمام الملايين من البشر نعوذ بالله؟! فهذا التبرج هو فتنة إبليس الأساسية؛ ولذلك فكل متبرجة وكل كاشف عن عورته أمام الناس هو تابع لأمر إبليس في هذا الباب.
(4/19)
نصيحة إبليس المخادعة لآدم وزوجه
قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20].
فقد سماها شجرة الخلد، فهو يسمي الأشياء بغير اسمها ليبرر النيل المحرم منها، كما يسمون الخمر اليوم: مشروبات روحية وكما يسمون الاختلاط: حرية وتقدماً، وكما يسمون الانحلال والفساد حضارة ومدنية، فتسمية الأشياء بغير اسمها حيلة إبليسية، قال تعالى: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ)).
إذاً: فالنهي موجود ومعروف، ولكن إبليس يسعى في تعليل النهي، فيقول: ربكما أمركما بكذا من أجل كذا، فإذاً هو لا يكره أن تكونا ملكين، ولا يكره أن تكونا خالدين، فهو يعلل النهي ليرتكبا المعصية، فما دامت لن تحقق هذا الشيء الذي نهاك عنه ربك من أجله فإذاً خالف النهي، فهو يقول له مثلاً: إن ربنا حرم علينا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من أجل العداوة والبغضاء، لكننا سنشرب الخمر ولن تحصل بيننا عداوة وبغضاء، وسنلعب الميسر من غير شجار، فهذا هو أسلوب إبليس والعياذ بالله! فأقسم لهما بالله إنه ناصح لهما، وأليس من يحلف لك إنه ينصح لك تصدقه؟! وبعض السلف يقول: من خدعنا بالله انخدعنا، وهذا كلام غلط، واستدلال غير صحيح، فاليمين التي لا نعرف كذبها نقبلها، لكن إذا كنا نعرف أنه كذاب لا نقبل كلامه وإن حلف، وإلا فقبول النصيحة هذه كلفت آدم وذريته معاناة كثيرة جداً، ومنها النزول إلى هذا الشقاء كما قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فالشقاء الذي حصل لنا هذا كان بسبب قبول النصيحة الكاذبة الخادعة التي قدر الله عز وجل ذلك لحكمه البالغة.
(وقاسمهما)، إذاً: ليس كل أحد يحلف باسم ربنا نصدقه إذا علمنا كذبه، فهو يحلف بالله إنه ناصح، قال تعالى: ((إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)).
وأما قولهم: إنه وسوس لـ حواء وهي وسوست لآدم، فالآية هذه ترد عليه، إذ قال ربنا: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وهذا كلام اليهود في التوراة التي بين أيديهم.
(4/20)
معصية آدم وحواء وعاقبتها
قال عز وجل: ((فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ))، أي: غرهما حتى قربهما إلى الشجرة وأكلا من الشجرة، وعند ذلك انكشفت العورة، قال عز وجل: ((فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)).
وضاع ذلك النعيم، فالمعصية تهتك الستر الذي بينك وبين الله وتكشف عورتك وسوأتك، فالإنسان عنده عورات ظاهرة، وعورات باطنة، فعوراته الظاهرة: عورات الجسد، وعوراته الباطنة: الظلم والجهل، فالمعاصي تكشف العورات والعياذ بالله؛ ولذلك فإن كشف العورات الظاهرة والباطنة من إرادة إبليس كما ذكرنا، قال: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا)).
أي: جعلا يخصفان عليهما كهيئة الثوب من ورق الجنة، فيلصقان الورقة بالورقة للتستر، وهذه فطرة الإنسان في التستر، وهي فطرة سوية؛ ولذلك أمرنا الله بالتستر، والله حيي ستير يحب الستر سبحانه وتعالى، فنسأل الله أن يستر عوراتنا، وأن يؤامن روعاتنا.
قال عز وجل: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] وانظر إلى البعد الذي حصل! كانا قبل ذلك قريبين، فقال: ((وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ))، لأنهما كانا قريبين من ربنا، فلما حصلت المعصية أصبحت: (تلكما) فـ (تلك) إشارة للبعيد، و (هذه) للقريب فلما عصوا ربنا بعدوا، فمن أول ما تحصل المعصية تجد أن قلبك يبتعد عن الله، نسأل الله العفو والعافية.
قال عز وجل: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23] وانظر الفرق بين الإجابة والإجابة! فإبليس {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، و ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)).
أما آدم وزوجه فقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فهذا كان بقدر، وكتبه الله عز وجل عليه قبل أن يخلقه بأربعين سنة، ومع ذلك عندما عوتب اعترف بالذنب، والاعتراف بالذنب بداية فتح باب التوبة، وفتح الخير للإنسان، وليعترف وليقل: أنا مذنب، أنا ظلمت نفسي؛ فالأبوان اعترفا بالذنب فغفر الله لهما، ومن شابه أباه فما ظلم، فإذا كنت تريد أن يغفر لك ربك، فقل: أنا مذنب! أنا مخطئ! أنا مقصر! وإذا كنت تريد أن تقول: إن ربي كتب علي أن أعمل المعاصي فأنت تبع للطريق الثانية والعياذ بالله، قال عز وجل: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24] فقوله: (اهبطوا) خطاب لآدم وحواء وإبليس، ويقال: الحية؛ على أنها هي التي أدخلت إبليس، ولا حاجة لنا إلى ذلك حيث لم يثبت في هذا حديث صحيح.
((بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) فالعداوة مشتركة، وذرية آدم بعضها يعادي بعضاً حين تبعوا إبليس وصاروا أبالسة، فصاروا أعداء لبني البشر؛ ولذلك نقول: إن الكفرة أعداء البشرية، واليهود هؤلاء أعداء البشر؛ لأنهم صاروا أبالسة وتبعاً لإبليس الذي هو عدو لنا، قال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)).
ثم قال تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25]، فحياة الناس وموتهم في الأرض، ويخرجون منها يوم القيامة، ثم أمرنا الله عز وجل بالتستر، وامتن علينا باللباس وقال: ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)) (ورياشاً) (وريشاً) وكله حق: وهو ما يتنعمون به ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى))، وهذا ستار للعورة الباطنة، التقوى هذه عبارة عن علم وعدل، فالعلم ينافي الجهل، والعدل ينافي الظلم، والإنسان ظلوم جهول يولد عريان بلا علم ولا عدل، فإذا امتثل الشرع وفق للعلم والعدل فزال عنه الظلم والجهل فسترت عورته الباطنة، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:26 - 27].
وهذه فتنة عظيمة: وهي نزع الثياب، فاللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، قال عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فالأصل أن بني آدم لا يرون الشياطين من الجن: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]، ونعوذ بالله من ولايتهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(4/21)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [1]
إن الإنسان إذا أراد العيش حُرَّاً عن كل عبودية لغير الله، مخلصاً عبادته لله، لا يخاف فيه لومة لائم، فلا بد أن يعلم أنه ملاقٍ صعاباً وابتلاءات وعوائق تعيقه عن الحق، ويجب عليه حينها أن يقارن بين صبر على عذاب مؤقت، لينال رضا الله الدائم، وراحة مؤقتة متوَّهمة في الدنيا، ثم بعدها يلقى عذاباً طويلاً، وحينها سيجد المؤمن أن الألم في الطاعة، خير من النعيم في المعصية.
(5/1)
أهمية قصة أصحاب الأخدود
فسنتكلم عن قصة من قصص القرآن العظيم، وعن قصة طائفة من المؤمنين، اشتراهم الله سبحانه وتعالى بما سلط عليهم من العدو، وكانت نهاية المطاف في هذه الدنيا فيما يبدو للناس انتصار الكفر، لكن بين القرآن حقيقة الأمر، وأن الخاسرين في الحقيقة هم الكفرة المعتدون، وأن المؤمنين قد فازوا أعظم الفوز.
فهذه القصة من القصص التي رسخت للصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم موازين الإيمان، ورسخت عندهم لزوم العمل بطاعة الله عز وجل مهما كانت النتائج ومهما كانت الابتلاءات، ورسخت عندهم أن الدعوة إلى الله عز وجل غايتها أن يؤمن الناس، وهذه هي المصلحة العظمى التي من أجلها يضحى بالروح والمال، سواء وقع التمكين أم لم يقع، وليس على الدعاة أن يمكِّن الله ي الأرض، فربما يكون قدرهم أن يظلوا في الابتلاء ما شاء الله عز وجل، أو أن تكون دعوتهم نهايتها أن يقتلوا في سبيل الله عز وجل شهداء، لكن ليس ذلك نهاية الدعوة ككل، وليس ذلك آخر المطاف في الصراع بين الحق والباطل جملة، لكن وإنما هي جولة من جولات الصراع، ويمكن أن تكون هذه نتيجتها، وبقدر الله أن بعض هؤلاء الدعاة والمؤمنين لا يرونبأعينهم ثمرة جهدهم ودعوتهم، لكن يراها من بعدهم، ويظل هؤلاء الدعاة نجوماً يقتدى بها في هذا الطريق.
هذه القصة العظيمة التي ذكرت في كتاب الله عز وجل في سورة البروج، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مفصلةً بسياق رائع بديع، فيهامن الفوائد ما لا نحصيه، وما علمنا منه هو جزء يسير مما لم نطلع عليه، ومع كثرة التأمل يزداد العبد رسوخاً في فهم هذه القصة، وما دلت عليه، وما يستفاد منها في الدعوة إلى الله عز وجل.
ولا شك أن أوقات الابتلاء، وأوقات تسلط الأعداء على المسلمين، يحتاج المؤمنون عموماً والدعاة إلى الله خصوصاً إلى التأمل فيها؛ لكي يستضيئوا بنورها في ظلمات الجهل والظلم التي تملأ العالم من حولهم؛ لكي يظلوا ثابتين على طريقهم مهما كانت المقدمات والنتائج، فليس عليهم إلا أن يؤمنوا بالله، ويسيروا في طريقهم الذي قدره الله سبحانه وتعالى لهم.
(5/2)
سياق القرآن لقصة أصحاب الأخدود
(5/3)
معنى البروج
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:1 - 22].
قال ابن كثير رحمه الله: يقسم تعالى بالسماء وبروجها، وهي النجوم العظام، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة والسدي: البروج: النجوم، وعن مجاهد أيضاً: البروج التي فيها الحرس، وقال يحيى بن رافع: البروج: قصور في السماء.
واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر.
ولا شك أن القسم الذي ابتدأت به هذه السورة إذا تأمله الإنسان شهد ملك الله عز وجل، وعلم أن السماوات والأرض، وأن الدنيا والآخرة من باب أولى ملك لله سبحانه وتعالى.
ومع ذلك قدر ما قدر من الابتلاء على أوليائه، ليس ضعفاً وليس معنى ذلك غياب الأمر عن الله، أو عدم القدرة على ما أراد، بل هو على كل شيء قدير، وهو سبحانه على كل شيء شهيد، ومع ذلك قدر ما قدر، لكي يظل شعور المؤمن بأنه في طريقه الذي يعمل فيه يزن الأمور بموازين القوة المادية الأرضية، بل يستحضر ملك الله عز وجل حين ينظر في السماء ذات البروج، ويتفكر في اليوم الموعود، كل ذلك يجعله يوقن بحقارة الدنيا وقلة قيمتها، وضعف قوة أهلها، فلا يعبأ بسلطان الكافرين والظالمين، ولا يترك دعوة الحق لأجل ما يتعرض له من أنواع الابتلاء، والله أعلى وأعلم.
(5/4)
أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: ((واليوم الموعود.
وشاهد ومشهود))
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:2 - 3]: اختلف المفسرون في ذلك.
وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة، ((وَشَاهِدٍ)) يوم الجمعة، وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه، ((ومشهود)) يوم عرفة)، وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة، ولكن إسناده ضعيف، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة وهو أشبه يعني: الأظهر والله أعلم أنه موقوف.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] قال: الشاهد يوم الجمعة، ويوم مشهود يوم القيامة.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي هريرة أنه قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة.
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا).
قال البغوي: والأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وهذا أحسن الأقوال والله أعلى وأعلم.
فقد أقسم الله بالأوقات الفاضلة، وجعل سبحانه وتعالى التفكر في هذه الأشياء دليلاً يقود الإنسان إلى معرفة ملك الله عز وجل، وقدرته سبحانه وتعالى.
(5/5)
قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج
قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، والأخدود جمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من هم من المؤمنين بالله عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدوداً، وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
ثم قال تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية.
(5/6)
سياق السنة لقصة أصحاب الأخدود
اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ وأصح ما روي فيها ما رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إليَّ غلاماً؛ لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً يعلمه، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك! فشكا ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بنى! أنت أفضل منى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء، وكان للملك جليس عمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفى الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله له فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان! من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحداً، إنما يشفى الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضاً بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتي بالراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه -أي: اقذفوه- يتدحرج إلى أن يموت فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله عز وجل، فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه في البحر، فلججوا به البحر -أي: دخلوا به البحر- فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون فيها أي: يتسابقون في الوصول إليها -فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه، فإنك على الحق)، ورواه النسائي ورواه الترمذي في تفسير هذه السورة.
(5/7)
لعن الله لأصحاب الأخدود الذين فتنوا المؤمنين
هذه القصة العظيمة ذكر الله عز وجل فيها من الآيات ما تتضمن حكماً بالغة، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين لعنوا وطردوا وأبعدوا عن الرحمة، وذكر ذلك بلفظ (قتل)، ولا شك أن ذكر الطرد واللعن بلفظ القتل الذي فعلوه بالمؤمنين أبلغ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم أرادوا قتل المؤمنين فأحيا الله عز وجل عباده المؤمنين شهداء عنده عز وجل، وقتل هؤلاء.
وقد ورد في بعض الروايات: أن النار التي أضرموها لحرق المؤمنين، بعد أن فعلوا ما فعلوا، التفت عليهم فقتلتهم، فضلاً عما أعد الله عز وجل لهم من عذاب الحريق في الآخرة، فقد كانوا يؤلمون المؤمنين بأشد ما يعرف من أنواع الألم في الدنيا، وهو ألم النار، فأُحْرِقوا بها في الدنيا وفي الآخرة، وهم يعذبون فيها فيما بين ذلك.
وإن كثيراً من الناس يظن أن الابتلاء الذي يحصل لأهل الإيمان لا يستطيع الإنسان تحمله، ولذلك يفرون من ألم الابتلاء إلى ترك الإيمان واتباع أهل الظلم والطغيان، والحقيقة أن الألم والعذاب الحقيقي في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، إنما هو لمن ترك الإيمان، وأعرض عن دين الله سبحانه وتعالى، وإن كان فيما يبدو للناس بخلاف ذلك.
بعد هذه الأقسام المتعددة، التي تدل على عظمة الله وسلطانه وملكه قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، فأخبر أن الذي قتل هم الكفرة، أصحاب الحفر التي ألقوا فيها المؤمنين.
(5/8)
معنى قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود)
قال عز وجل: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5]، هذه الجملة بدل؛ لأن الأخدود هو الذي كان فيه النار، وهذا يدلك على أن الله عز وجل تركهم يجمعون الوقود لعباد الله المؤمنين، فهو يملي لهم سبحانه وتعالى، ولم يأخذهم من أول وهلة بل أملى لهم عز وجل، فلو رأيت ظالماً يملي الله عز وجل له، فلا تظن أن ذلك بسبب قوة الظالم، وإنما لهوانه على الله عز وجل أملى الله له، فإن نهاية الكفر والظلم محتومة قطعية لا يمكن أن تتغير؛ لأن الله أراد ذلك، قال عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
قال تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6]، وفي هذا دليل على عظم جرم من وقف أو قعد يشاهد ما يفعله أهل الظلم بأهل الإيمان، فلا يجوز للمسلم أن يقعد متفرجاً على ما يجري، فإن قدر على أن يدفع عغنهم فيجب أن يدفع، وإن لم يقدر فعليه أن ينصرف ويفر بدينه، فما بالك إذا كان ذلك بأمره وإشارته أو رضاه وموافقته؟! وهذا التسلي بمشاهدة التعذيب جريمة أخرى فوق جريمة أذية المسلمين وعذابهم ومحنتهم.
قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أي: كانوا مشاهدين جالسين حول النار فلا هم رحموا عباد الله، ولا آمنوا بالله عز وجل، وهذه النوعية من البشر ليست ببعيدة عنا، بل نراها اليوم في هؤلاء اليهود المجرمين المعتدين، وغيرهم من المشركين الذين ينتهكون حرمات المسلمين، فلا تجد عندهم رحمة، مع أن المسلمين لم يفعلوا بأحد من الأمم التي ينتصرون عليها شيئاً مما يفعله هؤلاء المجرمون، فلا يوجد عند المسلمين تفنن في تعذيب أعدائهم، وإيصال الآلام لهم، وإنما كما أمرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، فلا توجد عندهم هذه القسوة في تعذيب الخلق، وأذيتهم، وإنما هم يقاتلون من استحق القتال شرعاً فقتالهم كدواء وعلاج لابد منه؛ لإنقاذ البشرية من خطر الشرك والكفر والعدوان.
(5/9)
جريمة المؤمنين عند الكفرة هي: الإيمان بالله
قال عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
هذه الصفة وهي الإيمان ينبغي أن توجد عند المسلم حتى لا تكون له جريمة عند أهل الكفر إلا أنه يؤمن بالله، فإن هذا -والله- من أعظم أسباب إهلاك المجرمين الظالمين، أنهم يعتدون على أهل الإيمان لا لشيء إلا لأنهم آمنوا، ولا لشيء إلا لأنهم أناس يتطهرون.
وهناك صفة قبيحة عند الطواغيت والظلمة، وهي أنهم ليس لديهم مانع من إنزال أشد أنواع العقاب لعباد الله بغير جريمة إلا أنهم نقموا منهم إيمانهم بالله، وهل خصلة الإيمان بالله مما يعد ذنباً؟ لا، ليس ذلك مما ينقم أبداً، ولكن أصحاب الموازين المختلة، وأصحاب الشهوات والهوى، والشبهات والضلال عندهم هذه التهمة هي أفظع التهم، وهذا تجده في مساحات عريضة من الأرض، تجد أن أشد تهمة يتهم بها الإنسان هي أن يكون ملتزماً التزاماً حقيقياً بالدين، فلو أرادوا أن يتهموه بأنه زانٍ، أو شارب خمر، أو حتى قاتل، أو حتى مدمن مخدرات، لوجدوا أن تهمة الالتزام الحقيقي بالدين ربما تكون أشد عند الظلمة والطواغيت.
فلو أن إنساناً مثلاً أراد أن ينال من شخص، ويدخل عليه الأذى في بلد مثل فلسطين أو غيرها فما عليه إلا أن يخبر عنه أنه ممن يعادي أعداء الله اليهود، ويكفيه ذلك تهمة أنه متطرف أو إرهابي، وذلك كاف أن ينال أشد أنواع الأذى والعقاب، لكنها شرف في الحقيقة لأهل الإيمان، وينبغي للمؤمن أن يحافظ على هذا الشرف، فيظل المؤمن لا جريمة له إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، وهذا سوف يكون من أسباب هلاك عدوه، ومن أسباب قبول دعوته عند الناس، كما في قصة الغلام، إذ تساءل الناس: لماذا يقتل هذا الغلام؟ لأنه آمن بالله فلنؤمن معه إذاً، وهذا هو مراد الداعية، أن يؤمن الناس بالله.
(5/10)
تأملات في معنى العزيز الحميد
ذكر الله عز وجل هذين الاسمين الكريمين من أسمائه الحسنى: العزيز الحميد، فالله عز وجل عزيز في انتقامه من أعدائه، وهو عزيز يعز عباده المؤمنين، وينصر عباده المستضعفين، وهو سبحانه وتعالى عزيز لا يغالب، أراد ذلك الملك أن يغالب ربه عز وجل، وأن يمنع وصول الإيمان إلى القلوب، وفعل هذه الأفاعيل لأجل ذلك، ومع ذلك وصل الإيمان إلى القلوب، واهتدى من أراد الله هدايته، وانتصر من أراد الله نصرته، ومن يغالب الله عز وجل يغلب؛ لأنه العزيز سبحانه وتعالى، فهو ينصر عباده المؤمنين بأسباب لا يقدر عليها الأعداء، وليست من صنع المؤمنين، بل هو الذي يصنعها عز وجل لعباده.
وأما اسم الحميد فهو سبحانه الذي يستحق الحمد على ما قدَّر وعلى ما شرَّع، كما سمعنا من كلام ابن كثير رحمه الله، فإنه قدر هذا الأمر المؤلم من الابتلاء الشديد، وقدر سبحانه وتعالى تسلط الكفرة مدة من الزمن على المؤمنين، وتمكنهم من تعذيب المؤمنين، ويملي لهم ذلك سبحانه وتعالى، وله الحمد على كل حال.
من تأمل هذه القصة العظيمة وما جرى فيها، لابد أن يحمد الله، وهي قصة تحيي قلوب المؤمنين، ويجدون فيها من أنواع الخير ما تنغمر فيه مفسدة ما جرى للمؤمنين، وما حدث من تسلط الكافرين مدة من الزمن، إلى جانب المصالح الهائلة التي في هذه القصة، فلو لم يكن فيها إلا إيمان المؤمنين، ثم شهادتهم في سبيل الله، ثم ما نالوا بعد ذلك من الفوز العظيم عند الله، فكم هي تلك المدة بالنسبة إلى مرور السنين الآن؟ وما هو أثر تسلط هؤلاء الظلمة تلك المدة، إذا نظرنا إليها الآن؟ لا شيء على الإطلاق، لا ذكر لهم بالخير، وإنما يذكرهم أهل الإسلام بالطرد واللعن فقط، وهم لم يؤثروا في واقع الحياة وفي الأرض التي نعيش فيها، بل انتهى أمرهم بالكلية، وبقيت حياة المؤمنين الشهداء في برزخهم، وبقي فوزهم العظيم يوم القيامة فله الحمد عز وجل.
فإياك أن تقول: لماذا يا رب يفعل هؤلاء ذلك بعبادك المؤمنين؟ إياك أن تقول ذلك معترضاً، إياك أن تقول: إلى متى يا رب سوف نظل يصيبنا ما يصيبنا؟ إياك أن تقول: إن الإنسان قد ضاق صدره، وأوشك أن يترك الطريق من أجل ما يقع من الظلم، بل احمدِ الله عز وجل على تسلط الكفرة وقتياً؛ ليزداد إيمانك أنت وإيمان من بعدك، فإذا صبرت وكنت قدوة في الحق، وكنت ثابتاً على طريق الحق، فزت في حياتك، وفي برزخك، ويوم القيامة، وينتفع من بعدك بثباتك وصبرك، فأنت إذا قرأت قصص الأنبياء والأولياء عرفت فائدة المحنة، وتعرف فضل الله عز وجل على خلقه، واستحقاقه الحمد على ما قدر، بل هذه القصص في الحقيقة من أعظم أسباب التربية الإيمانية لدى عباد الله المؤمنين، لو كانت الأمور دائماً سهلةً والنتائج دائماً مضمونةً، وكل من يسير في طريق الحق يأخذ النصر سهلاً، وكان الطريق مفروشاً بالورود؛ لما كان للإيمان ذلك الطعم الذي يجده من يصبر على طاعة الله عز وجل في أحلك الظروف، ولما كان شعور المؤمنين بعظم فضل الله عز وجل عليهم بالهداية، وعظم فضله عليهم بالجنة، فلو أن الجنة كانت رخيصة الثمن ما شعروا بفضلها، وإنما هي فعلاً غالية، ولذلك له الحمد عز وجل، فهو العزيز الحميد سبحانه وتعالى.
إياك أن تظن أن الله عاجز عن إعزاز عباده المؤمنين، كيف والعزة هي صفته؟! إياك أن تظن أن الابتلاء يقع من غير حكمة، كيف والحمد صفته سبحانه وتعالى فهو العزيز الحميد؟! وإياك أن تظن أيضاً أن ذلك كان لخروج شيء عن ملكه عز وجل، وأن ملكه محصور في السماوات فقط، وأما في الأرض فالملك للكفرة وللظلمة وللمعتدين، فالله هو الذي له ملك السماوات والأرض، فهو يملك الأمور كلها، ويملك أن يجعل أهل الإيمان ظاهرين في لحظة واحدة كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، ولكنه سبحانه وتعالى جعل الابتلاء للمؤمنين؛ ليذوقوا حلاوة الإيمان، وليذوق من بعدهم أيضاً حلاوة الإيمان بهذا الابتلاء.
(5/11)
معنى قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد)
قال تعالى: ((الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: لم يخرج عن ملكه أحد، ولا ذرة من ذرات هذا الوجود تخرج عن ملك الله، ولا يملك الكفرة شيئاً، فالكفرة والظلمة والمعتدون ليس لهم ملك ذرة في السماوات ولا في الأرض، والله جعلهم يفعلون بعض الأشياء ولو شاء لانتصر منهم، قال عز وجل: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
إذاً: لابد من تأمل هذه المعاني التي ذكرت في هذه القصة، وتفاصيل القصة لم تذكر في القرآن، وإنما ذكرت المعاني الإيمانية التي أعظمها استحضار معاني الأسماء والصفات، واستحضار آثارها في الوجود.
قال تعالى: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: لم يغب عنه عز وجل شيء، فهو يرى كل شيء {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، وكونه سبحانه ترك الظالمين يظلمون له الحكمة في ذلك وليس ذلك لنقص ملكه ولا لأنه لم يشهد، بل لما يترتب على ذلك من الحكم البديعة والفوائد العظيمة التي لا يحصيها العباد.
(5/12)
معنى قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات)
ذكر عز وجل في هذا القرآن العظيم الذي هو مليء بالأمور الإيمانية الأمر فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم، قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
مع أن الآية في الحقيقة نزلت في قوم هلكوا على الكفر، ولكن لأن الأمر دائماً مرتبطٌ بكل زمن يقع فيه ذلك، ومع أن هذا خبر، لكنه دعوة إلى التوبة، والمدعو هنا هو من يسمع هذه الآيات بعد ذلك، ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات وعرضوهم للفتنة، وآذوهم بسبب التزامهم بالدين وطاعتهم لله عز وجل، فهم قتلوا أولياءه، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة! وهذا له أهمية كبرى في نفس المؤمن، بحيث إنه يعمل لله عز وجل لا لنفسه، فهو لا يريد الانتصار لنفسه، ولا يستبعد أن يتوب الله عز وجل على من آذاه، ولا يقول: لابد أن ينتقم الله من عدوي، ولابد أن يأخذه الله عز وجل بأنواع العذاب في الدنيا قبل الآخرة، فلربما فتح الله له باب التوبة، كيف لا وقد وقع ذلك لمن آذى نبيه صلى الله عليه وسلم؟! لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته أنزل الله عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128])، وتاب الله على طائفة منهم، حتى ممن كان يقود الكفرة في حربهم ضد الإسلام.
قال الله عز وجل في بيان حقيقة من فتن المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتب: ((فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ))، وتأمل لفظ (عذاب الحريق)، فالمعنى قد وضح بقوله: (فلهم عذاب جهنم) فهي عذاب النار والنار تحرق، لكن أكد هذا المعنى بقوله: (ولهم عذاب الحريق)؛ لأنهم أرادوا إحراق المؤمنين، فالألم الحقيقي لم يحصل للمؤمنين وإنما حصل للكافرين، وذلك أن الشهيد لا يجد من ألم الموت إلا كمس القرصة، وهؤلاء شهداء، بل وردت روايات كثيرة في هذه القصة منها: (أن هؤلاء المؤمنين قبضت أرواحهم قبل أن يلقوا في النار، فألقوا فيها أجساداً بلا أرواح، فلم يتألموا.
إذاً/ هذا حاجز وهمي يمنعك من الالتزام، وهو خشية المخاطر التي يتعرض لها أهل الإيمان، فالألم الأكبر هو في معصية الله تعالى، إضافة إلى ما ينتظره من العذاب في الآخرة، إذا ترك الحق، فنار الآخرة أعظم من نار الدنيا، ومن أراد أن يعرف قدر نار الآخرة، فليذهب إلى أي مستشفى ليرى قسم الحروق وآلامه، مع أنه جزء بسيط من نار الدنيا، التي هي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة.
فالكفار عندما أرادوا قتل المؤمنين، قال الله عنهم {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، وعندما أرادوا إحراق المؤمنين، أحرقهم الله عز وجل حريقاً دائماً أبدياً.
(5/13)
عاقبة أهل الإيمان وما لهم
لقد بين الله حقيقة الفوز والخسران، والنصر والهزيمة، في هذه القصة وفي عموم الأحداث والوقائع، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].
فهو لم يقل: إن الذين آمنوا من أصحاب الأخدود فقط، بل جعل الأمر عاماً، كما جعل أمر الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أمراً عاماً.
(5/14)
علاقة قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد) بقصة أصحاب الأخدود
ختم الله السورة بقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، وهذا تهديد ووعيد لهؤلاء الذين غفلوا عن ملك الله وسلطانه وشهادته، وعن عزته وحمده، وغفلوا أن الله له ملك السماوات والأرض، وأن بطشه عز وجل بهم شديد.
وقال عز وجل: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] أي: الكفرة لا يبدئون أو يعيدون، بل مبادئ الأمور ونهايتها لله عز وجل، وأدنى تأمل يؤكد لك ذلك، فمن الذي بدأ حياة أي ملك أو أي ظالم من الظلمة أو أكبر رئيس من الرؤساء؟ كل هؤلاء لا يملكون شيئاً، لو ألقي في دورة المياه قبل تخلقَّه ثم ألقي عليه الماء لذهب في المجاري، ولما استطاع أن يدفع عن نفسه شيئاً، كلهم مروا بهذه المرحلة، كل ظالم منتفخ متكبر يأمر وينهى ويؤذي عباد الله عز وجل لم يكن له من بداية الأمر شيء، لا والله حتى مراحل قوته هذه بدأت من الصفر ولابد، وكان من الممكن أن يولد متخلفاً عقلياً، وكان من الممكن أن يولد مشلولاً أو أن يولد أخرساً، ما كان يملك لنفسه شيئاً، وما صنع هو أو أبوه أو أمه أو الدنيا كلها شيئاً من سمعه وبصره وهو في بطن أمه، فالله فهو الذي يبدئ، كما أن الإعادة يوم القيامة له سبحانه وتعالى، وسوف تعود هذه الأمور مرة أخرى للحساب، المؤمنون يعودون، والكفار يعودون، وكلما وقع في الدنيا سوف يسأل عنه الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13].
(5/15)
ترغيب الله سبحانه عباده في العودة إليه
قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] أي: أن الأسماء والصفات هي أساس الإيمان، وهي أعظم أثر في حياة المؤمن في توجيهه وسلوكه، فالله هو الغفور يغفر لعباده المؤمنين، الودود يحب عباده المؤمنين ويودهم ويجعل لهم وداً، وهذا أعظم ترغيب في العودة إليه حتى وإن أذنب العبد ما أذنب، وظلم ما ظلم، فإنه إذا عاد إلى الله غفر الله له فهنا ذكر الله تعالى ترغيباً وترهيباً فقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14] يعني: أيها الظالم! أنت لن تخرج عن ملك الله، ولن تقدر على الفرار من بطش الله؛ لأن الله هو الذي يبدئ ويعيد، وإن تبت غفر الله لك؛ فهو الغفور وهو الودود الذي أحب عباده المؤمنين، وليس ذلك فحسب، بل زاد أن ذكر حبه ومودته للتائب الذي سيجد أثر هذا الحب، حتى في الكائنات التي تحيط به، فلو لم يجد ثواباً إلا أثر حب الله له لكفاه سعادةً.
قال بعض السلف: إنه ليأتي على القلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب.
ومن آثار حب الله للعبيد أنه يشعر بألفة مع الكون حوله؛ لأن الله جعل له وداً كما في الحديث: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
فتحد الكائنات كلها تحبه، والعكس لمن أعرض عن ذكر الله، فهو في عذاب، تكرهه السماوات والأرض ولا تبكي عليه السماء والأرض لذنبه، قال عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] أي حياة نكدة هذه الحياة التي يعيشها الكفار؛ لأنهم فاتهم ود الله عز وجل ومحبته، نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، والعمل الذي يبلغنا حبه.
(5/16)
معنى قوله تعالى: (ذو العرش المجيد فعال لما يريد)
قال عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] وقراءة (المجيدُ) بالرفع على أنه صفة للرب، أي: الله ذو العرش وهو الذي له المجد، والقراءة الأخرى بالجر: ((ذو العرش المجيدِ)) يعني: العرش مجيد؛ لأن الرب سبحانه وتعالى مستو عليه، والاستواء على العرش علامة على كمال الملك، وهو حقيقة لائقة بجلال الله، فالله ذو العرش الذي استوى عليه استواءً يليق بجلاله، كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإثبات العرش وإثبات أن الله استوى عليه من أدلة علو الله على خلقه.
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16].
هذا هو الوصف الجامع لحقيقة معاني الربوبية، فإنه الفعال لما يريد، وصيغة المبالغة في (فعال) لأنه متمكن من الفعل، وقادر عليه قدرة تامة، وهو يفعل كل ما ترى من إعزاز وإذلال، وإحياء وإماتة، وخفض ورفع، وعذاب ومغفرة، والخلق لا يملكون إلا فعل أشياء يسيرة، وفعلهم ليس كفعل الله عز وجل، بل ليس هناك وجه للمقارنة، فالله أكبر من أن تحيط قدرة العباد بمعرفة قدره.
(5/17)
قصص مشابهة لقصة أصحاب الأخدود
ذكر الله أمثلة أخرى تشابه قصة أصحاب الأخدود فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] أي: لم يكن الظلمة من أصحاب الأخدود هم الذين فعلوا ذلك فقط، بل كانت هناك جنود معدة للصد عن سبيل الله، فكما كان في أصحاب الأخدود ملك ظالم، ففرعون كان ملكاً كبيراًً، وبدأ بذكره لأنه كان له جنود حاشدة {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56]، واليوم آلاف مؤلفة لا زالت تشهد جدران معابد الفراعنة التي عبدوا فيها غير الله، وأسماء جنودهم المتكاثرة سجلت على جدران هذه المعابد والمنازل، وكذلك انتصاراتهم، ولكن أين هم الآن؟ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:17 - 18]، لقد أتانا حديثهم أنه لا قيمة لهم كما قال أبو الدرداء: من يشتري مني ملك ثمود بدرهمين؟ إشارة منه إلى زوال ملكهم، ولأن آثار ثمود لا زالت موجودة، ومن يسكنها؟ ومن يريد أن ينتفع بها؟ لم ينتفع بها أحد، بل شرع الرسول للمؤمنين إذا مروا عليها أن يمروا مسرعين باكين، لكي لا يصيبهم ما أصابهم.
قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20] فهم الذين يكذبون الشرع، ومع ذلك فمحاولتهم في إحباط الشرع وهزيمة المؤمنين تبوء بالفشل؛ لأن الله من ورائهم محيط، فهم كانوا قد أحاطوا بالمؤمنين فيما يبدو، ولكن حقيقة الأمر أن الله أحاط بهم، وأنزل بهم ما شاء سبحانه وتعالى.
(5/18)
وصف الله للقرآن بالمجد وحفظه له
قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] أي: من تمسك بالقرآن فله صفة المجد، ومن عمل به فلا بد أن يجعل الله عز وجل له العزة والكرامة، وقد جعل الله هذا القرآن محفوظاً، فلا يحيط به ولا يقدر على معارضته أحد، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].
(5/19)
ذكر الروايات المختلفة في تفسير قصة أصحاب الأخدود
ذكرت قصص أخرى في تفسير قصة أصحاب الأخدود فيها اختلاف عن حديث صهيب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، ومن ذلك ما ذكر ابن كثير رحمه الله عن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم، فأنكر عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود، فقذف فيه من أنكر عليه منهم، فاستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها.
وعنه: أنهم كانوا من الحبشة.
وعن ابن عباس قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء، فعُرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وروى الترمذي بسند صحيح عن صهيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس-والهمس: في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له: إنك -يا رسول الله! - إذا صليت العصر همست، قال: إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته، فقال: من يقوم لهؤلاء؟ -يعني: من يقف أمامهم؟ - فأوحى الله إليه أن خيَّرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم، فاختاروا النقمة فسلط الله عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفاً، قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث، حدث بهذا الحديث الآخر قال: كان ملك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً، أو قال: فطناً لقناً، فأعلمه علمي هذا)، فذكر القصة بتمامها وقال في آخره: يقول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، حتى بلغ ((الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))، قال: فأما الغلام فإنه دفن، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، ثم قال الترمذي: حسن غريب.
قال وهذا السياق ليس فيه، وأن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، لكن الإمام مسلم والإمام أحمد صرحا بالرفع، وهي زيادة ثقة، وسياق القصة يختلف عن سياقات النصارى في قصصهم، والصحيح أنها مرفوعة، إلا أن رواية مسلم وأحمد ليس فيها تصريح بأن هؤلاء هم المذكورون في القرآن، حيث لم يقل: فأنزل الله أو فقال الله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، لكن رواية الترمذي فيها التصريح بأن هذه الآيات في شأن هذه القصة، والله أعلم.
يقول ابن كثير: وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر عن محمد بن كعب القرظي قال: وحدثني أيضاً بعض أهالي نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران -ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا: نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.
فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، وهنا سمى الغلام عبد الله بن التامر، والله أعلم.
قال: فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه، جعل يسأل عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يا ابن أخي! إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه، والتامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر، كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى أقداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذفه فيه بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها ولم يضره شيء، فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي! قد أصبته، فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله! أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعو الله له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال: لا تقدر على ذلك، قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع على الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقي به فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر ثم ضربه بعصاً في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم، حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]، الآيات.
هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة: أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه زرعة، ويسمى في زمان مملكته بـ يوسف وهو ابن بيان أسعد أبي كريب، وهو تبع الذي غزا المدينة، وكسا الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره قال ابن إسحاق مبسوطاً، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفاً، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان، ذهب فارساً وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هارباً فلجج في البحر فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريباً من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دماً، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثني بعض أهل العلم: أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط، ثم بناه فسقط، فقيل له: إن تحته رجلاً صالحاً فحفر الأساس فوجد فيه رجلاً قائماً معه سيف مكتوب فيه: أنا الحارث بن مضاض، نقمت على أصحاب الأخدود، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت، قلت: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن.
وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديماً بعد زمن إسماعيل عليه السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهو أ
(5/20)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [2]
إن ورود القصص والعظات في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لمجرد التسلي وتضييع الأوقات، وإنما وردت من أجل أن نتعظ بها، ونأخذ منها الدروس والعبر، حتى نرجع إلى الطريق المستقيم، فكم من الفوائد والعظات والعبر في هذه القصص، ومنها قصة أصحاب الأخدود، فينبغي على المسلم أن يتدبر هذه القصة ليستفيد من دروسها، وتكون له هذه الدروس نبراساً في حياته.
(6/1)
دروس وعبر من قصة أصحاب الأخدود
(6/2)
التعاون بين رءوس الطواغيت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من فوائد حديث قصة أصحاب الأخدود كما وردت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر)، أننا نرى هنا التعاون بين رءوس الطواغيت، التي تعمل في النهاية لحساب الشيطان من أجل نشر الفساد في الأرض، ومن رءوس الطواغيت كذلك الملك الذي كان يدعي الربوبية صراحة، ومثله من يدعيها ضمناً، بأن يرغم الناس بما يراه هو من شرع دون رجوع لشرع الله عز وجل، فهذا نوع من رءوس الطواغيت الموجودة؛ لأنه يدعي لنفسه صفة وحقاً من حقوق الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الحكم، والله سبحانه وتعالى له حق التشريع وحده لا شريك له، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
فالذي يدعي أن له أن يشرع للناس ما يراه هو عدلاً من غير رجوع إلى شرع الله، فهو قد تجاوز الحد، ونسب لنفسه ما هو من صفات الرب عز وجل، وما هو من حقوقه عز وجل، فبالتالي هو من رءوس الطواغيت، وربما زاد بعضهم حتى يصل إلى ما وصل إليه الملك صاحب القصة، كما كان عليه حال فرعون حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحال النمرود الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وغيرهم، ومع ذلك فكثير من الناس يستجيب لهم، رغم وضوح بطلان هذه الدعوة الباطلة التي ادعوها لأنفسهم.
والساحر الذي يدعي ملك الضر والنفع وتقريب القلوب، ويدعي تغيير الخلق، بأنه يغير الخلق هذا إلى شيء آخر، ويجعل هذا يحب هذا، أو يبغض هذا؛ فهذا أيضاً طاغوت من الطواغيت، جاوز الحد حين نسب لنفسه صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى، الذي يجب أن نصرف كل العبادات له عز وجل، ومن ذلك أن نلجأ إليه ونصمد إليه في جلب المنافع ودفع المضار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر).
وقد ثبت قتل الساحر عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، واختلف العلماء في كفر الساحر، فمنهم من أطلق تكفيره، وإن كان أصحاب هؤلاء الأئمة قد ذكروا التفصيل، ومنهم من بين -كالإمام الشافعي رحمه الله- فقال: يقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن كان يتضمن كفراً كفر، كمن يتقرب إلى الكواكب السبعة أو الشياطين، أو يتضمن كفراً بوجه من الوجوه، كمن يذبح للشياطين والأصنام، أو كمن يسجد لها، أو كمن يستهزئ بالمصحف، ونحو ذلك ممن يرتكب شركاً أكبر لتحقق له الشياطين ما يريد، فهذا النوع من السحر كفر بلا نزاع، وإذا كان سحره بغير ذلك قال الشافعي: فإن استحله كفر.
والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين ومن هاروت وماروت كفر؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]؛ لأنه لا يتمكن من هذا النوع من السحر المتعلم من الشياطين إلا بتقديم القربات لهم، وتركه الإيمان بالكلية، وأما السحر الذي هو بأدوية وتدخين وخداع بالبصر، فهذا الصحيح فيه أنه لا يكفر فاعله إلا أن يستحله.
(6/3)
الطواغيت يريدون الإفساد في الأرض
نجد هذا التعاون بين هذين الرأسين من رءوس الطواغيت للسعي للإفساد في الأرض، وكل ملك ساحر، وإن كان الأمر يختلف باختلاف الأزمنة في الكيفية، فالملوك الظلمة يحتاجون دائماً إلى السحرة لتوطيد ملكهم، وتقليب الأمور حتى يراها الناس على خلاف ما هي عليه، ولإيقاع الرهبة في نفوس الناس، ليجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فالمطلوب عندهم أن يخوفوا الناس، وأن يروا الأمور على غير ما هي عليه.
ومن أخطر أنواع السحر وأخفاها، وأوسعها انتشاراً في زمننا الحاضر وأعظمها أثراً في توطيد ملك أدعياء الربوبية؛ هو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً) رواه البخاري وغيره، فسحر البيان هو الذي يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، ويجعل الإيمان كفراً والكفر إيماناً والعياذ بالله، وذلك في قلوب الخلق الذين لم يستضيئوا بنور الوحي، فوسائل البيان والإعلام التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف هي من أشد أنواع السحر أثراً في الخلق، ونرى عجباً أن من اهتمام أدعياء الربوبية بهذا النوع من السحر الجديد القديم، أضف إلى ذلك وجاهته وحضارته المزعومة، وتقدمه وانتشاره حتى دخل كل بيت، وكل عقل وفكر، فكانت له آثار مدمرة على إدراك الأمة وتمييزها، بل على إدراك العالم كله في وقتنا الحاضر.
(6/4)
الطواغيت يريدون استمرار الشر حتى بعد موتهم
هذا التعاون هو في النهاية في حساب الشيطان، فإنه قد مات الملك ومات الساحر، ولكن بقي تعاونهما هذا -مع أنهما لا يؤمنان بالآخرة ولا يعملان من أجلها- دليلاً على حقيقة العمالة لذلك الطاغوت الأكبر -الشيطان-.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، هذا الجزء من القصة يدلنا فعلاً على هذه العمالة، فما شأنه بما يقع من بعده، كبر ومع ذلك يريد أن يستمر الشر من بعده، هل يؤمن هذا الساحر بالآخرة؟ لا، هو لا يؤمن بها، ومع ذلك يريد أن يستمر الشر إذا مات، ويخاف أن يزول السحر الذي عنده بعد موته فيقول: (ابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، فهذا يدلنا أنه عبد للشيطان، مستمع له، يسعى إلى أن تنشأ الأجيال الجديدة على نفس الباطل الذي كان عليه، وحقيقة الأمر أن اتباع الشهوات والرغبة العاجلة في التلذذ بها في الدنيا يفسر لنا ما يقومون به في حياتهم، لكن أي لذة في استمرار الشر من بعدهم إلا تلك العمالة للشيطان الذي يوحي إليهم بتلقين الضلال للأجيال القادمة، ليحصل له غرضه الخبيث الذي بينه لنا رب العالمين بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
(6/5)
الطواغيت يهتمون بالصغير حتى يغرسوا فيه مفاهيمهم
اختار الساحر الغلام، فأراد من هو في سن التنشئة وفي سن التربية، يهتم بالصغير لكي يتلقن جيداً، ولذلك فإنه لم يطلب رجلاً كبيراً، وإنما طلب من يتشرب السحر منذ نعومة أظفاره، ليكون بعد ذلك ساحراً ماهراً يحقق للملك ما يريد.
وأعداء الإسلام فعلوا مثل ذلك عندما احتلوا بلاد المسلمين، فأول ما اهتموا به هو أن يأخذوا أجيالاً من غلمان المسلمين وأبنائهم، ينشئوهم في مجتمعاتهم، وفي مدارسهم، وخصوصاً الأذكياء منهم، ويلقنونهم أنواع زخرفهم وسحرهم الذي ذكرنا أنه من أخطر أنواع السحر؛ سحر البيان، وبالفعل كان هؤلاء الذين ربوا على أيدي الأعداء هم الخنجر في قلب الأمة، فهم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا وصاروا دعاة على أبواب جهنم، كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، وأصبحوا هم أشق وأصعب أنواع الأعداء، هؤلاء هم المنافقون الذين تربوا منذ البداية على الولاء لأعداء الدين، لذلك نقول: يجب أن نعرف حقيقة أعداء الإسلام حين يهتمون بإفساد أبناء المسلمين منذ صغرهم، وتربيتهم على معاني الولاء لغير دين الله عز وجل، ولذلك يهتمون جداً بحذف كل ما يشير إليهم من مناهج التنشئة والتربية، لكي ينشأ هؤلاء الأبناء بغير قضية يعرفونها، فأين المسلمون من تربية أبنائهم؟ الأعداء يهتمون هذا الاهتمام بتربية الأبناء على مناهج الفساد، فأين المسلمون من تنشئة أبنائهم على دين الله عز وجل؟ وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلمهم أنواع التربية كلها بعد بيان القرآن، فنحن نسمع في كتاب الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذه هي التربية العقائدية، وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبته الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، هذا الكلام فيه توحيد، وفيه إيمان بالقدر، وفيه إيمان بالجزاء، وفيه سائر أنواع الإيمان، فقد دل عليها هذا الحديث باللزوم.
والتربية العبادية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، وهي أيضاً تربية أخلاقية بالتفريق بينهم في المضاجع.
والتربية على الآداب السامية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك).
والتربية على الدعوة إلى الله عز وجل -التربية الدعوية- كما قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، وكل أنواع التربية -التي تنشئ الشخص المسلم المتكامل الشخصية- مبثوثة في كتاب الله، وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلابد لنا أن نقوم بهذا الدور المهم الذي يرتكز على قلع أشجار الباطل، وحماية أبناء المسلمين منها، وغرس أشجار الحق في قلوب طلائع أمتنا وصغارها.
(6/6)
الباطل زهوق بطبعه فلا ييئس المسلم إذا رأى كثرته
قد يقول البعض: ماذا نصنع أمام الإمكانات الهائلة للباطل، فهو يمتلك وسائل البيان والإعلام ليس على مستوى البلاد فقط بل على مستوى العالم كله، والأبناء اليوم مشدودون شداً هائلاً لوسائل الإفساد التي يجدونها مفتوحة في كل مجال، وإمكانات المسلمين ضئيلة، والملتزمون منهم إمكاناتهم أقل ضآلة؟! نقول: ليس الأمر كذلك، وقصتنا تدلنا على أهمية التربية، فإن شخصاً واحداً رباه هذا الراهب -كما يأتي بيان القصة- كان سبباً في هداية أمة، ذلك أن الحق يرسخ في القلوب، والباطل زهوق بطبعه، لأن الله خلقه كذلك، فشجرة الباطل سهلة الاجتثاث، وشجرة الحق تسقيها فطرة الإنسان، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:24 - 26].
ولذلك نقول للدعاة إلى الله، وللمربين، ولكل راغب في إعلاء هذا الدين وإعداد أهله.
هذه الخطة التي بين أيدينا تدلنا على عواقب الأمور ونهاياتها مهما كانت الظروف مهيأة ومجندة لأعداء الله سبحانه وتعالى، فهذا الغلام كانت كل الجنود مجندة لإعداده لوظيفة السحر لخدمة الملك، والأجواء مهيأة لذلك أعظم تهيئة، لكن صوت الحق الذي كان خافتاً خائفاً كان أعلى وأعمق أثراً، بل كان سبباً في نقل أمة بأكملها من الظلمات إلى النور! فيا أيها المسلمون! أنقذوا أبناءكم وغلمانكم من أيدي سحرة العصر الحديث.
(6/7)
بقايا من أهل الكتاب على الحق قبيل البعثة النبوية
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان في طريقه الذي سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه)، نفهم من هذه القصة، ومن هذا الجزء أن زمن القصة كان بعد المسيح؛ لأن الرهبانية إنما عرفت فيهم، لكن هذا الراهب كان من الموحدين، كما ظهر جلياً من القصة، فهو من أهل الإيمان والتوحيد، لا من أهل التفريط والكفران وعباد الصلبان، فهو أحد غبر أهل الكتاب الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا غبرات من أهل الكتاب، إلا بقايا من أهل الكتاب)، وكان منهم كذلك سلمان رضي الله تعالى عنه، فإنه قد تلقى دعوة التوحيد على أيدي بعض هؤلاء الرهبان، وذلك قبل أن يأتي إلى المدينة ليدرك النبي الذي قد أطل في زمنه رضي الله تعالى عنه، وهذا يدلنا على أن أتباع المسيح لم يزل فيهم موحدون مؤمنون إلى زمن البعثة النبوية، رغم انتشار الوثنية وتأليه المسيح بعد الاجتماع الذي وقع في المائة الرابعة من ميلاد المسيح، والذي عقده قسطنطين -باني القسطنطينية- لما دخل في النصرانية، وعقده لتقرير مسألة ألوهية المسيح، كما يذكر ذلك مؤرخوهم، فكان التفرق والاختلاف، ونصر -خذله الله وأخزاه- قول القلة القائلة بألوهية المسيح، ونشر هذا الكفر على أنه دين المسيح، والمسيح وسائر الرسل منه برآء، فإن المسيح لم يأت إلا بالتوحيد، كما قال تعالى حاكياً عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117].
ورغم انتشار مذهب التثليث والشرك بين النصارى منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، إلا أنه قد كان هناك بقايا من الموحدين في ذلك العهد، أمثال هذا الراهب في قصتنا.
(6/8)
الرصيد العظيم في الحق في فطرة الناس
قعد الغلام إلى الراهب أثناء ذهابه لتعلم السحر، فسمع كلامه فأعجبه، ونرى هنا أن الغلام قد تلقى تربية مزدوجة، وتعليماً متناقضاً، يسمع كلام الساحر ويسمع كلام الراهب، الساحر يعلمه أن الملك هو ربه، والراهب يعلمه أن الله عز وجل لا شريك له هو ربه ورب العالين، الساحر يعلمه كيف يضر الناس، وكيف يفرق بينهم، وكيف يلعب بمشاعرهم وعواطفهم ليقلب قلوبهم بزعمه، والراهب يعلمه كيف يحب الخير للناس، وكيف ينصح لهم، وكيف يتمنى هدايتهم، ومع أن الرصيد المادي للساحر أو للملك، والفرصة مهيأة للوظيفة المرموقة لذلك الغلام في شخص الساحر إلا أنه أعجبه كلام الراهب، لذلك نقول: لا تيئسوا عباد الله! هناك رصيد هائل وراء دعوة الحق، هذا الرصيد هو أن الله خلق عباده حنفاء يميلون إلى الله عز وجل، كما قال عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فرغم كل العقبات، ورغم الترغيب والترهيب، فإن الغلام كان يرغب في وظيفة مرموقة -كما ذكرنا- ربما كانت الثانية بعد الملك مباشرة، الملك يحتاجه، ويعاقب بأنواع الضرب والتعذيب والإهانة عند الساحر إذا تأخر، ومع ذلك أعجبه كلام الراهب، أعجبه الحق فمال إليه؛ لأن (كل مولود يولد على الفطرة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا الرصيد هو الذي يجعل قلوب الخلق تنجذب بقوة هائلة إلى الحق إذا سمعته، ولو كان من فرد واحد والباطل أمة بأسرها، كيف لا وقد أخذ الله على كل منا ميثاقاً ونحن في عالم الذر؟ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، يظهر أثر هذا الميثاق في أمر الفطرة، وفي ميل كل إنسان إلى دعوة الحق.
ولا تصح مقولة من يقول: إن ما يبنيه الدعاة في سنة، يهدمه أهل الباطل في ساعة؛ لما عندهم من وسائل هائلة، فهذا قول الميئسين، قول الذين لا يفهمون حقيقة دعوة الحق، ولا طريقة الرسل، يريدون بذلك أن ييئسوا الناس من التربية، ويقولون: لا علاج إلا المواجهة المباشرة! ونقول: إن المواجهة لابد فيها من تربية، وإن المواجهة الحقيقية هي المواجهة بين المناهج حتى يظهر الحق بإذن الله تبارك وتعالى، فيزعم هؤلاء -الذين يقولون: إن الباطل يهدم في ساعة ما يبنيه الحق في سنة- أنه لابد أن يأتي التغيير في سائر المجتمع، وليس كذلك، فإن دعوة الأنبياء جميعاً لم تغير المجتمع دفعة واحدة، إنما بدأت بدعوتهم، وغالب الأمر أنه ما يستجيب لها إلا الضعفاء، كما عرف هرقل ذلك عندما سأل أبا سفيان عن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إن الضعفاء هم أتباعه، فقال: وهم أتباع الرسل، ودائماً كان تغيير الرسل هو ببناء الإيمان في القلوب، وإيجاد الشخصية المسلمة المتكاملة، ثم وجود الطائفة المؤمنة التي ينصر الله عز وجل بها دينه بما شاء بالقرآن أو السنان، فقد نصر الله عز وجل رسلاً من رسله بالقرآن والدعوة والبيان، ونصر رسلاً من رسله بالقوة والسنان.
لذلك نقول: إن هذه المقالة: إن ما يبنيه أهل الحق في سنة، يهدمه أهل الباطل في ساعة، مقولة باطلة بلا شك؛ لأن ما يبنيه أهل الباطل في ساعات إنما هو بناء هش، لا حقيقة له، وإن الحق لا يهدم في نفوس المؤمنين الصادقين، ولو ظل أهل الباطل يسعون لهدمه مدة الدنيا بأسرها، فلرب غلام ممن يتعلم في حجور العلماء، ويجلس بين أيدي أهل العلم، وهو اليوم غلام صغير لا يدرك كثيراً من الكلام؛ يكون غداً به نجاة الأمة وإنقاذها من الهلاك، بل ذلك هو الحاصل بلا ريب إن شاء الله، فكيد الشيطان ضعيف كما قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
(6/9)
التربية وطلب العلم لابد لهما من صبر وتحمل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فكان إذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، الله عز وجل قادر على أن يجعل السبل مهيأة أمام الدعاة وأمام طلاب العلم، لكنه سبحانه وتعالى قدر أن تحف الجنة بالمكاره، فهذا الغلام يضرب لأجل أنه يحضر درس العلم، وإن كانوا لا يدرون، فإنهم لو علموا بشأن الراهب لكان هناك تصرف آخر قطعاً، ولو كانت هذه البذرة يعرفون حقيقتها لربما قتل الغلام من أول أمره، ولما كان له وجود هو ولا الراهب، وإنما كان يضرب على التأخير، لماذا تأخر عن درس الفساد والعياذ بالله! ومع ذلك ظل الغلام حريصاً أتم الحرص على أن يحضر، وشكا إلى الراهب ليجد له حلاً؛ لأنه يريد أن يستمر في طلب العلم، وإخواننا الكثير منهم لا يضربهم أحد على حضور دروس العلم، ولا يؤذيهم أحد، وإنما هو مجرد وهم أحياناً، ومع ذلك فما أكثر من يتخلف، وما أقل من يواظب، وهذا الغلام لم يعلم الحق في جلسة واحدة، فإن سياق الحديث يدل على ذلك؛ لأنه كان كلما أتى الساحر ضربه، وأهله أيضاً يضربونه ذهاباً أو إياباً، فهو كان يتعلم الحق مسألة مسألة، حتى يستقر المنهج، فالدين الحق في القلب هو بذرة لابد من سقيها ورعايتها، حتى تنمو وتكبر فتصبح شجرة في القلب.
لذلك نقول: فلنتعلم من هذا الغلام الصغير، أحد أولياء الله عز وجل، الذي ضحى بنفسه مع كونه يجد الألم لكي يطلب العلم، فلماذا لا نكون صادقين في الطلب مثلما كان هذا الغلام؟ لماذا يعرض الكثير عن الدرس رغم أنه لا يضربهم أحد ولا يؤذيهم؟ وإنما هو الانشغال بالدنيا، ولنعلم أن الإعراض عن طلب العلم يؤدي إلى إعراض الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين دخلوا المسجد، فوجد أحدهم الفرجة في الحلقة فجلس فيها، ولم يجد الثاني فرجة فجلس خلفهم، وانطلق الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الأول فأوى إلى الله فآواه الله عز وجل، وأما الثاني: فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض فأعرض الله عنه)، نعوذ بالله من أن نعرض عن طاعة الله!
(6/10)
في الأمور الواجبة تقدم طاعة الله على طاعة من سواه أياً كان
كان الغلام إذا أتى أهله ضربوه، وفي هذا ما يدلنا على الجواب عن
السؤال
هل يطيع الإنسان والديه أو أهله أو من له عليه حق الطاعة في ترك دروس العلم؟ لا شك أن علم التوحيد من العلم الواجب، وكذلك ما يرتبط به عقيدة الإنسان، وكذا ما يلزمه من تصحيح العبادة والمعاملة الواجبة، وكل ما لزمه أن يتعلمه فرض عين عليه كالأخلاق الواجبة وإتيان الحلال واجتناب الحرام، فكلما لزمه عمله لزمه تعلمه، فصار فرض عين عليه، فهذا لا يجوز أن يطيع أحداً في تركه، لا والديه ولا أي إمام ولا حاكم ولا أحد، والواجب الشرعي لا يجوز أن يستأذن فيه وأن يطلب الإذن في فعله، إنما هذا مطلب فرعوني، كما قال تعالى حاكياً قول فرعون للسحرة: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]، فالذي يريد أن يستأذن في طاعة الله عز وجل إنما هو متشبه بفرعون، فإذا أمر الله فلا يجوز لأحد أن يعترض ولا أن يمنع.
وأما إذا كان العلم مستحباً، فهذا يستحب فيه الحضور ولا يلزم، وبالتالي يقدم طاعة الوالدين على هذا العلم المستحب.
وأما إذا كان فرض كفاية فهذا إما أن يكون قد تعين عليه وإما أن يكون مازال في دائرة الاستحباب، فإن كان قد تعين، بأن شرع في الطلب، فإن طلب العلم كالجهاد كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام النووي، فإذا كان قد شرع فيه فإنه يتعين عليه؛ وذلك لأن الأمة لن تجد علماء لها إذا كان طالب العلم يترك الطريق من منتصفه ويبدأ العلماء من جديد، فربما مات العلماء ومات علمهم قبل أن يولد من يخلفهم من طلاب العلم؛ لأن كل طالب سوف يطلب العلم مرة من الزمن ثم يترك الطلب، ويأتي بعد ذلك طالب يبدأ من البداية، فمثل هذا يترتب عليه ضياع هذا الفرض الذي هو فرض كفاية، ونعني بفرض الكفاية ما قاله ابن حزم رحمه الله: فرض على كل طائفة مجتمعة في قرية أو مدينة أو غير ذلك أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة من أولها إلى آخرها، فيتعلم القرآن كله، ويتعلم ما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام وغيرها، ويعلمهم ذلك، فإذا كان الأمر قد تعين عليه فإنه لا يجوز أن يطيع أحداً في تركه، وكذا إذا تعين عليه لكونه لا يوجد من يقدر على طلب هذا النوع من العلم غيره، وكذا التعليم بالأولى، وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله مسألة طاعة الوالدين في ترك السفر في طلب علم ليس بواجب ولا يحصل ضرر على الوالدين بالإذن في السفر، قال: فيه وجهان، والصحيح عدم السفر بغير إذنهما.
(6/11)
يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم تكن هناك وسيلة غيره
في هذا الجزء من القصة أرشد الراهب الغلام أن يكذب ليتخلص من الظلم، فهل يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم يكن هناك وسيلة غير ذلك؛ نقول: نعم، فإذا كانت هناك وسيلة كالتعريض أو غيره فعلها، كما قال إبراهيم عليه السلام عن سارة: إنها أخته، وهو يقصد أنها أخته في دين الله، فكان تعريضاً ولم يكن كذباً صريحاً، وقد يجب الكذب الصريح إذا تعين وسيلة لدفع الظلم خصوصاً عن غيره، فإذا لم يمكن دفعه عن دم امرئ مسلم بريء أو عرضه أو ماله إلا بالكذب وجب، وكذلك في ماله فإن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الأصل هو لزوم الصدق ولا يلجأ إلى الكذب إلا عند الضرورة، وتقدر هذه الضرورة بقدرها.
(6/12)
المسلم دائماً يلتجئ إلى الله ويبحث عما يحبه الله ويحب الخير للناس
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال الغلام: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس)، لا زالت التربية المزدوجة تؤثر على الغلام، لا زال متردداً بعض التردد، لكنه يميل إلى الحق ميلاً عظيماً، نفسه تحدثه أن الحق مع الراهب، لكن عنده بعض التردد من آثار التربية المزدوجة التي ينشأ عليها كل طالب علم يعلمه أهل الحق في مجتمع مليء بالجهل والظلم والعدوان.
نقول: هذا الغلام مال إلى الراهب وإن كان ظاهر حاله أنه متردد، والدليل على ذلك: أولاً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب) فهو دعا الله عز وجل، فالفطرة الإنسانية مشدودة مجذوبة جذباً ضرورياً للتوجه إلى الأعلى عندما يكون في شدة أو في التباس أو في أمر لا يدري كيف يعمل فيه، فإنه يدعو إلى الله عز وجل، ويلتجأ ويصمد إليه، فهو قال: (اللهم) ولم يقل: أيها الملك؛ لأن الساحر يقول له: هو الرب، بل يقول له: لا رب لك غيره، كما قال له الملك بعد ذلك: (أو لك رب غيري؟)، فلم يقل: يا أيها الملك إن كان أمر الراهب أو الساحر أحب إليك، إنما قال: (اللهم إن كان أمر الراهب)، فهذا الدعاء قطعاً تعلمه من الراهب ووافقته الفطرة.
حدثني بعض الإخوة في زمن مضى أنه كان في بعض بلاد الكفر، وكان يخرج أحياناً مع بعض الدعاة ويدعون السكارى في آخر الليل إلى أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله ويدخلوا في الإسلام، فيلقى الرجل السكران ملقاً على الطريق، وهو في سكره الكامل، فيذكره بالموت وبالله، فيرفع السكران يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، فسبحان الله! وهم إذا أفاقوا ربما أنكروا وجود الله بالكلية، لكن النفس الإنسانية مشدودة بقوة، ومجذوبة إلى التضرع إلى الله عز وجل.
فلجأ هذا الغلام بما تعلمه من الراهب قطعاً، فإنه لم يتعلم الدعاء من الساحر.
ثانياً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، فهو يبحث عما يحبه الله، وهذا الأمر بالتأكيد لم يتعلمه من الساحر؛ لأن الساحر يعلمه البغض والكراهية، وهو يريد الأمور التي يحبها الله عز وجل، وهذا المعنى يربي عليه الحكماء والعلماء والأنبياء أبناءهم، افعل ما هو أحب إلى الله، ألم تسمع قول لقمان وهو يعظ ابنه يقول: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]؟ فبماذا خوفه؟ لم يخوفه بالنار في هذا الموضع، وإن كان سيذكره في موضع آخر، لكن مبنى الأمر أن هذا الشيء لا يحبه الله، وهذا أعجب ما يطلبه الإنسان أن يفعل ما يحبه الله، وأعظم دافع للعبادة أن يذوق حلاوة حب الله عز وجل، وحلاوة ما يجد من عبادته والبحث عن مرضاته.
ثالثاً: أنه أراد قتل الدابة، وهي حيوان عظيم حبس الناس عن مصالحهم، فهو يريد أن يقتلها ليمضي الناس، وهو بلا شك غلام صغير يرمي بحجر تبلغه يده، تأمل غلاماً من غلماننا ماذا تحمل يده من حجر؟ كم يبلغ وزن هذا الحجر؟ وكم يبلغ حجمه؟ وماذا يؤثر في حيوان قد أرعب الناس كأسد مثلاً أو غير ذلك؟ وكم تبلغ ضربته إذا رماها عن بعد؟ فإنه بالتأكيد يرميها من بعد حيث يقف داعياً ثم يرمي، وهذا بلا شك يدل على أنه يرمي بضعف ولا يرمي بقوة، ولكنه يلجأ إلى الله عز وجل أن يجعل في رميته القوة ليمضي الناس، فهو يحب الخير للناس ولا يريد الشر بهم، يريد الخير لهم في دينهم ودنياهم، وهذا والله من أعظم ما يفتح القلوب، أن يعرف الناس أنك لهم ناصح، وأنك تريد بهم الخير.
ولو تأملنا في قصة مؤمن آل ياسين لأحببنا ذلك الرجل حباً لابد منه، فعلاً نجد قلوبنا تحبه؛ لأنه يحب الخير للناس حيث يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، وقد فسر السلف هذه الآية وقالوا: لا تجد المؤمن إلا ناصحاً لقومه في الدنيا والآخرة.
فالنفس مجبولة على قبول وحب من يحب الخير لها، وكان هذا مفتاح الخير، فاحرص على أن تكون صانعاً للخير محباً للخير للناس، لست تريد أن تقيم عليهم حجة ليدخلوا بها النار، ونحن نعلم أن هذا من ضمن آداب الدعوة، لكن هدفنا الأصلي هو: أن يؤمن الناس، أن يرجعوا إلى الله، وإن لم يؤمنوا فقد أعذرنا إلى الله بإقامة الحجة، لكن هناك من الناس من تكون همته أن يخرج الناس من الملة مثلاً، وأن يقيم عليهم الحجة، نيته الحكم عليهم! وهذا خلل كبير، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألا يفعل ذلك، مع أن الله يحب منه حبه للخير، ولكن من باب الرفق به؛ لأن مصلحة الرفق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأن يستمر بالدعوة، أعظم من مصلحة إهلاك نفسه حزناً عليهم ألا يؤمنوا، فسبحان الله! فحب الخير للناس أمر يحبه الله وإن لم يقع موقعه، كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام عندما جاءته البشرى قال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:74 - 76]، فهو يجادل في قوم حق عليهم الهلاك، ولن تقبل فيهم شفاعة، ومع ذلك مدحه الله عز وجل؛ لأنه بين عز وجل أن السبب الذي أداه إلى المجادلة أنه حليم أواه منيب، متضرع إلى الله، عنده حلم ورفق بالعباد، فالله يحب هذه الخصال من عباده، والله يحب من عباده الرحماء، فحب الخير للناس من أسباب فتح القلوب، ومن أسباب الاستجابة لأمر الله عز وجل.
فحب الخير للناس تعلمه الغلام من الراهب، أما الساحر فإنه يعلمه كيف يؤذي، كيف يضر، كيف يوقع بين الناس، كيف يفرق بينهم، كيف يجعلهم شيعاً متفرقين ليتمكن من السيطرة عليهم، وهذا ما يفعله كل ملوك الدنيا هم وسحرتهم وأعوانهم، همهم كيف يفرقون بين الناس، ليظل الملك والسلطان لهم، والسحرة يقومون بهذا الدور جيداً، فالأمر الذي وقع من هذا الغلام أنه أراد مصلحة الناس، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى في هذا المقام، فدعا الله عز وجل ورمى الدابة فقتلها.
رابعاً: أنه أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى حيث قال: (فاقتل الدابة) فهو رغم ضعفه وضعف رميته وصغر الحجر، أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى على قتل هذه الدابة العظيمة.
خامساً: أنه قدم في كلامه أمر الراهب على أمر الساحر فقال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، وهذا كله يدل على ميله الفطري والطبيعي إلى اتباع أمر الراهب.
(6/13)
إثبات كرامات الأولياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فرماها فقتلها ومضى الناس)، وهذا الأمر معدود في كرامات الأولياء، غلام صغير صار من أولياء الله الصالحين، وأظهر الله على يديه هذه الكرامة الخارقة للعادة، وذلك من أنواع القدرة والتأثيرات، ونحن نؤمن بإثبات كرامات الأولياء من أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفصيله أنواع الكرامة التي يمكن أن تقع، وخوارق العادات التي تقع لأولياء الله، وعلامتهم وصفتهم أنهم كما قال الله فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، ولذلك يشترط صلاح الظاهر والباطن حتى ينسب الذي جرى على يديه إلى الولاية، وإلا لو رأينا الرجل يطير في الهواء أو يسير على الماء ثم رأيناه يصادم الكتاب والسنة فلا نصدقه.
والخوارق أنواع منها: المعجزات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه، ومنها الكرامات التي تجري على أيدي أوليائه، ومنها خوارق العادات التي يقدر الله وقوعها على أيدي السحرة والكهنة إخوان الشياطين؛ ابتلاء للعباد، وإنما تعرف بحقيقة صفاتهم، كما قال عز وجل: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:221 - 224]، فنحن نعرفهم من نتائج عملهم، ومن صفاتهم، فإنه لا يجتنى العنب من شجر الشوك، فالشوك لا يجتنى منه إلا الشوك، والعنب لا يجتنى إلا من شجر العنب، كما هي حكمة نقلت عن المسيح عليه الصلاة والسلام في كيفية معرفة أدعياء النبوة الكاذبين، فآثارهم تنبؤك كيف يكون حالهم.
ولذلك نقول: التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أساسه في صفات هذا الإنسان، وهذا أظهر لدى أهل الإيمان من التفرقة بنوعية الخارق، وإن كانت نوعية الخارق تفرق، فإن سحرة فرعون مع أنهم لم يكونوا من أهل الإيمان، ولم يحسنوا أن ينظروا في صفات موسى عليه الصلاة والسلام وصفات أنفسهم، وإنما الذي ردهم إلى الإيمان نوعية الخارق حيث رأوا فعلاً أن عصا موسى قد تحولت إلى حية حقيقية، إلى ثعبان مبين حقيقي، وأيقنوا أن هذا ليس في قدرتهم، وعلموا أن موسى ليس بساحر، فآمنوا من ساعتهم، فنوعية ما يعطيه الله عز وجل من خوارق للأنبياء من المعجزات لا يمكن أن يصل إليه سحر السحرة، ولا كهانة الكهنة، خلافاً لمن يقول من المتأخرين من بعض المذاهب البدائية: إن الساحر يقدر على ما يقدر عليه الأنبياء إلا أنه لا يدعي النبوة! فهذا كذب وباطل، فإن هذا يؤدي إلى الطعن في معجزات الأنبياء، فضلاً أن الله سبحانه وتعالى ما جعل السحر أبداً يقوم مقام المعجزة، فإنما المعجزة أمر لا يقدر عليه البشر، وإنما يجريه الله على أيدي أنبيائه، ويمكن أن يجري نحواً منه على أيدي الأولياء تصديقاً للأنبياء.
وإثبات الكرامات لأولياء الله من عقيدة أهل السنة، وقد غلا بعض المنتسبين إلى بعض دعوات التوحيد حتى وصل إلى إنكار الكرامات، لينفي غلو الصوفية في الأولياء، وليس الأمر كذلك، فليس التكذيب بالحق يكون دليلاً لإبطال الغلو، بل ننهى عن الغلو، ونثبت الكرامة، كما دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما ورد في قصة مريم عليها السلام أنها كانت تجد فاكهة في غير وقتها كما ورد ذلك في التفسير، وفي قصة موسى عندما أوحى الله إلى أمه بأنه سوف يحفظه ويرده إليها ويجعله من المرسلين، فهذا من أنواع الإخبار والكشوف، وهي ليست نبيه عند عامة أهل العلم.
وفي السنة من حديث عبد الله بن أبي بكر: أنهم كانوا لا يرفعون لقمة من أسفلها إلا ربت من أسفلها أكثر منها.
وفي أنواع العلوم والمكاشفات ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي فإنه عمر)، وفي البخاري أيضاً قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه حين كان مأسوراً بمكة، ووجدته بعض بنات الحارث يوماً يأكل قطفاً من عنب بيده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمره! فالأحاديث في كرامات الأولياء متواترة، وقصة أهل الكهف من الأدلة على ذلك، وأخيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين قصصهم في ذلك كثيرة، وإن كان أعلى الكشف هو الكشف عن الحق، وأعلى أنواع التوفيق في القدرة أن يوفق الإنسان للطاعة والعبادة، وأعلى الإلهام أن يلهم الإنسان رشده.
لذلك نقول: إن كرامات الأولياء ثابتة، وهي حق، وحديثنا يدل عليها، ويمكن أن يجري شيء منها بعد الموت، وهذا ليس من فعل الولي وتدبيره وتصريفه، ولكن نعني بذلك أن الله عز وجل يحفظ بدنه مثلاً من التحلل ويحميه من أيدي الأعداء، كما في قصة عاصم رضي الله عنه حين أرسل الله الزنابير فحمت جثته، فما استطاع الأعداء أن يصلوا إليها، ثم إن السيل جاء فأخذها فلم يستطيعوا الوصول إليها، وكرامات الشهداء ببقاء أجسادهم سنين كما في قصة عبد الله بن حرام، والد جابر رضي الله تعالى عنه.
فالمقصود أن الكرامة لا تتحقق لمبتدع ضال، أو مشرك يدعو غير الله، وما يجري له من خوارق العادات كالإمساك بالثعابين، وضرب النفس بالسلاح، ودخول النار، كما هو مشهور عن أتباع الطريقة الرفاعية وغيرهم، فهو مما يفعله الشيطان بهم ليلبس أمرهم على الناس، ويكون ذريعة إلى الشرك، فمنهم من يكون تاركاً للصلاة، داعياً غير الله، صارفاً العبادات من الذبح والنذر لغير الله، وهو يزعم أن ذلك من كرامات الولي الذي يتبع طريقته، وقد اغتر بعض المعاصرين بذلك، فقال: هذه من كرامات الولي الأصلي، وهذا كلام الأستاذ سعيد حوى في (تربيتنا الروحية) فهو يقر بأن بعض هؤلاء ربما لا يصلي وفاجر في أخلاقه وسلوكه، ومع ذلك يجعلها كرامة للشيخ الرفاعي! فهذا كله من الجهل، فإن هذا لا يعتبر من أتباعه بمجرد الانتساب، فلو كان الرفاعي ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا المبتدع لا يكون من أتباعه؛ لأنه فاسق وفاجر وتارك للصلاة وفاعل للفواحش، فهذا كله من تلبيس الشيطان.
وليس إثبات الكرامة بعد الموت يعني أننا نطلب من الأولياء قضاء الحاجات، أو كشف الكربات، بل كما قال الله عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة).
فالكرامة شيء يكرمهم الله به، وليس سبباً لجواز سؤالهم، وطلب قضاء الحاجات منهم بعد موتهم أو في عدم حضورهم.
ويلزم التنبيه في هذا المقام إلى أن الإلهام والكشف في حق الولي ليس بمعصوم، بل يحتمل الخطأ والصواب، فنحن نعتبر الكشف والإلهام من أنواع العلوم والمكاشفات، ولكن ليس هذا هو الكشف المعصوم، وبالتالي فهو قابل للخطأ والصواب، وكذا الإلهام، فلابد أن يعرض على الكتاب والسنة، فسيد الملهمين عمر رضي الله عنه أخطأ يوم الحديبية، وكان ما حدثته به نفسه وسوسة، وقد عمل لها أعمالاً ليكفرها، ولم يحتج عمر على أحد من الصحابة في أي مسألة بأنه محدث أو ملهم، فالإلهام والكشف والرؤى ليس حجة شرعية يصح العمل بها، لكن قد يستأنس بها، ووقوع خوارق العادات لأحد الأولياء لا يعني عصمته أو صحة كل ما يقول به، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6/14)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [3]
إن من سنن الله تعالى الثابتة والمستمرة سنة الابتلاء والاختبار، حتى تتمايز الصفوف ويعرف الصادق من الكاذب، والناس يبتلون على قدر إيمانهم، فمن اشتد دينه اشتد بلاؤه، فلا يكون هذا البلاء إلا لمن علم الله منه إخلاصاً وصدقاً ومحبة، وهذا هو الذي يمكن له في الأرض ويستخلف فيها.
(7/1)
أثر أعمال القلوب في السبق إلى الله
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم في تكملة قصة الغلام مع الراهب: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي).
هذا الراهب المخلص لله عز وجل المربي الفاضل بسلوكه قبل قوله -رحمه الله تعالى وغفر له! - نرى في قصته قدوة لكل مربٍ وداعية وأستاذ.
فلقد علم هذا الراهب أن الغلام قد صار من أولياء الله الصالحين رغم أنه تعلم على يديه، وأنه أصغر منه سناً، ورغم أن الراهب أسبق منه التزاماً بالطاعة، وعمره في الطاعة أضعاف عمر الغلام، ومع ذلك أدرك أنه سبقه إلى الله عز وجل بكمال الصدق والإخلاص والمحبة لله سبحانه وتعالى، فأعمال القلوب هي التي يسير بها السابقون إلى الله عز وجل، فيسبقون غيرهم ممن تقدمهم في العمر، أو كان أكثر منهم عبادة لله، أو أكثر علماً، بل ربما يكون أحدهم أستاذاً لهؤلاء الصالحين، ومع ذلك يسبقونهم إلى الله عز وجل، لما جعله الله سبحانه وتعالى في قلوبهم من محبته، ورجائه، وتعظيمه، وتعظيم شرعه، واللجوء إليه، وغير ذلك من أنواع العبادات القلبية.
فلم يتكبر هذا الراهب ولم يحقد ولم يمن، ولم يقل: كيف يكون تلميذي أسبق مني؟ وكيف يرفع فوقي؟ وإنما قال له: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، فلم ينظر إلى سبقه وطول عبادته، ولا نظر إلى سنه وصغر سن الغلام، ولا إلى أنه الأستاذ والغلام التلميذ، ولا وقع في نفسه خطيئة إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] التي هي أصل أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم أسباب الكفر والعناد، والعياذ بالله! ونرى هنا أيضاً أن السبق إلى الله تعالى لا يرتبط بالسن وطول زمن العمل أو كثرته، أو سبق الالتزام؛ بقدر ما يرتبط بحال القلب وسلامته، وما يقوم به من العبودية لله تعالى: من الحب والإخلاص والخوف والرجاء والشوق إليه، وصدق اليقين والتوكل، وغيرها من عبادات القلب.
وهذه أمة الإسلام أقصر أعماراً وأضعف أجساماً من الأمم السابقة، وهي أفضل الأمم عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي قوله: (أي بني) تلطف وتحبب إلى ذلك الغلام، وذلك مع اعترافه له بالفضل، وذلك أنه ظهر منه نفع عام للناس، ولا شك أن النفع العام مقدم على النفع الخاص.
فهو له في العبادة سنون ومع ذلك ما استطاع أن يؤثر في أحد من أهل بلده إلا هذا الغلام، وهذا الغلام نفع الناس جميعاً في موقف واحد، وهذه مقدمة في أن ينفعهم فيما هو أعظم وأهم وهو إصلاح قلوبهم، وذلك بعد أن ساهم في إصلاح دنياهم بقتل الدابة، فهو لا شك سوف يقتل الطاغوت في قلوبهم أيضاً، وسيسعى إلى أن يمضوا في طريقهم إلى الله عز وجل كما مضوا في مصالحهم الدنيوية، وذلك حال كل ناصح شفيق.
كما أن علامات الولاية ظهرت في إجابة الدعوة، وفي خرق العادة له بقتل هذه الدابة حين دعا الله عز وجل.
وفي إخبار الغلام له إشعار بمدى الفرح الذي حصل للغلام بإجابة دعوته، فذهب يبشر ذلك الراهب لأن أمره أحب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يذهب ليخبر ذلك الساحر مثلاً ويقول له: قد ظهر كذا وكذا، وإنما ذهب ليبشر الراهب؛ فكان الجواب الطيب اللطيف: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني).
(7/2)
الأثر التربوي لنداء الصغير بلفظ (يا بني)
قوله: (أي بني) هذا اللفظ التربوي يستعمل للإشعار بالعلاقة الطيبة بين الكبير والصغير، حتى ولو لم يكن ابنه من النسب.
و (بني) تصغير (ابني)، وهو يدل على الشفقة التامة والمحبة، واستعمال هذا الأسلوب من هدي الأنبياء، قال عز وجل عن يعقوب: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5].
وقال تعالى عنه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وقال عز وجل عن إبراهيم: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].
وقال عز وجل عن لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: (يا بني!) فهذه الكلمة الطيبة تأخذ بقلب الشخص المربى، وتشعره بعلاقة الأبوة والحنان، وأنه ليس في ثكنة عسكرية يسمع الأوامر والنواهي والزجر الدائم المستمر دون رقة.
وهذه العلاقة العظيمة قد جعلها الله فطرة في القلوب، وأمر سبحانه وتعالى بمراعاتها شرعاً، ففي الحديث: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).
(7/3)
الابتلاء سنة ماضية لله عز وجل في عباده المؤمنين
قال: (أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، فقد عرف الراهب هذا الأمر؛ لأنه سنة ماضية، وليس كشفاً للغيب، فكل من سلك طريق الإيمان -وخصوصاً طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى- فلا بد أن يبتلى، قال عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).
وهذه السنة الكونية أخبر الشرع بها، والبلاء قد يكون بالشدة، وقد يكون بالرخاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وفائدة معرفة هذه السنة الكونية هي جعل المؤمن على استعداد لمواجهة البلاء، فيوطن النفس بذلك على الصبر والرضا، ويبعدها عن اليأس عند وقوع البلاء، فالمسلم يعرف أن البلاء موجود، فإذا وقع فلا ييأس، وربما قد يطول، وقد تكون الأمور شاقة، فإذا وطنت نفسك على تحمل المشاق، وإذا وطنت نفسك عند الرخاء ألا تغرك الحياة الدنيا بزخرفها، وأن تكون على حذر من الوقوع في أمواج فتنها، فإنك تخرج من البلاء معافى.
فلابد أن تعرف النفس مقدماً أن البلاء والأذى مرحلة من المراحل التي لابد أن تمر بها الدعوة والدعاة، بل والمؤمنون بصفة عامة، سواء كانوا من الدعاة أم من غيرهم، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت:2]، حتى ولو لم يكن داعية، فلا تظن أن الدعاة فقط هم الذين يبتلون، فقد تعرض هذا الراهب للابتلاء، ولكن أسبق منه في البلاء الذي يدعو إلى الله عز وجل، وبعد هذه المرحلة يكون الفرج من عنده سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
وفيه أنه ينبغي للمعلم أن يعلم تلامذته أن طريق الدعوة ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق مفروش بالأشواك والآلام، وإن كانت لذة القرب من الله ومحبته والشوق إلى لقائه، مع ما ينزله عز وجل من صبر عند المصائب والبلايا، تجعل المؤمنين لا يشعرون بهذه الآلام والمحن، بل ربما يستعذبونها في ذات الله عز وجل، وهذا أمر لا يحصل إلا إذا وطن الإنسان نفسه عليه، ولم يتضجر عندما ينزل به بلاء، ولم يفر ولم يضق صدره به، ولم يترك الطريق إذا نزل به البلاء؛ لأنها سنة ماضية جعلها الله علامة تدل على صدق إيمانه أو كذبه، وهو يعلم بأن الله عز وجل إذا أخرجه منها صابراً سائراً على طريقه، مستمراً في لزوم الحق، فهذا يدل على منزلته العظيمة عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، فهذا يدلنا على منزلة هذا الأمر العظيم عند الله عز وجل.
ونجد في هذا الجزء من القصة أيضاً: أن هذا الراهب كان يعرف أنه سيقع بلاء كما ذكرنا؛ لأنه من السنن الكونية، لكن هل يطلب ذلك البلاء؟ أم يسعى الإنسان ليفر منه؟
(7/4)
النهي عن طلب البلاء والفرار منه مشروع مع الثبات في المواجهة
إن الشرع يأمرنا أن نسأل الله العافية، لذلك لا يشرع لنا طلب البلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وسلوا الله العافية) ولذلك نقول: إن سؤال الله عز وجل العافية هو مما أمر به الشرع، ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للبلاء فتعريض النفس للبلاء، والمجازفة بها، وقول الإنسان: إنه لا يهمه البلاء، نوع من الغرور، والإعجاب بالنفس، والثقة الزائدة بها، وهذا أمر خطير للغاية، فهذا يدل على وجود أمراض كامنة في القلب ربما كانت سبباً لعدم التوفيق وعدم الثبات، وكانت سبباً لحصول الخذلان والعياذ بالله! فالأمر الذي أمرنا به من سؤال الله العافية هو الأمر الشرعي، ووقوع البلاء أمر قدري كوني، يجري علينا بغير طلبنا، فإذا وقع فعلى الإنسان ألّا يترك الواجب، وألّا يفعل المحرمات إلا عند الإكراه، ولا يكون كالذي قال الله عز وجل فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:140 - 11].
ولذلك نقول: إن الفرار من البلاء مشروع، فإذا وقع فعلى المرء أن يثبت، وليقدم على الجهاد الذي أمر الله به، ولذا جاء في الحديث: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، فأنت تؤدي واجباً فلا تفر من المعركة فراراً من البلاء، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
فلذلك نقول: إن الإنسان لا يتعرض للبلاء بنفسه، بل يجب عليه أن يسير في طريق الحق ملتزماً بالواجبات، تاركاً للمحرمات، سائلاً الله العافية، فإذا وقع البلاء ثبت، ولا يقول: أنا لا يهمني شيء، وأنا لا أعبأ بهذا البلاء، فهذا كلام خطير -كما ذكرنا- يدل على أنواع من الأمراض القلبية.
(7/5)
أنواع الناس مع البلاء
والناس هنا ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، فطرف في سبيل الهروب من المحنة فإنه يوالي أهل الباطل، ويوافقهم، ويتابعهم، ويترك ما أوجب الله عليه من مفارقتهم، ومعاداتهم، والقيام بالحق في وجوهم، أو يفعل ما حرم الله عليه من المعاصي طاعة لهم.
وطرف آخر يطلب البلاء بنفسه، ويدفع إليه بعمله، ويظن أنه يربي نفسه ويؤدبها، وقد وقع وهو لا يشعر في شراك العجب والغرور، وغاب عنه أن خليل الله عليه الصلاة والسلام قال عن سارة: إنها أخته؛ لكي لا يتعرض للبلاء، وهو نوع من التعريض، وأن نبي الله موسى أخبر الله عنه فقال: {خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].
وتحضرنا قصة ذلك الذي كان يقول في دعائه عازماً على الرضا: كيفما شئت فابتلني! فكان يظن أنه على أي حال فلن يضره، وسوف يكون راضياً على كل حال، فسأل الله أن يبتليه كما شاء، وهذا مخالف للشرع؛ فابتلي بالبواسير، فكان يمر على الصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لشيخكم الكذاب! فيطلب منهم الدعاء له بالشفاء؛ لأنه أصبح في منتهى التعب والبلاء، وعندما نزل به البلاء ما استطاع تحمله والصبر عليه، فكان يطلب منهم أن يدعوا له بالشفاء، وكان يسمي نفسه الكذاب، نسأل الله عز وجل أن يبعدنا عن العجب والغرور.
وأما الوسط فهم أهل الحق والاتباع، فعلموا بوقوع البلاء قدراً، والتزموا بعدم طلبه وتمنيه شرعاً، وصبروا أعظم الصبر عند نزوله، كما فعل هذا الراهب الصالح، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
(7/6)
استعمال السرية في الدعوة للحاجة
وفي هذا القول من الراهب استعمال للكتمان في بعض أمور الدعوة، فليس كل شيء قابل للإعلان والنشر، فقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة في السر مدة ثلاث سنين إلى أن تمكن من الجهر بها، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، ولا شك أن الأصل في الدعوة الجهر ما أمكن ذلك؛ لكن قد يطرأ من بطش الطغاة وظلمهم ما يقتضي الإسرار بها إلى حين زوال خطر استئصال الدعوة، وأيضاً يستعمل الكتمان بالدعوة بعد الجهر بها في المواطن التي يخشى معها ويحذر من إذاعتها، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا} فذمهم الله على إذاعة الأمر، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم السعدين إذا رجعا من بني قريظة بما يسر المسلمين من بقائهم على العهد أن يعلنا ذلك، وإذا رجعا عن نقضهم العهد أن يلحنا له لحناً يفهمه ولا يعلنا ذلك للناس؛ لأن كثيراً من الناس لن يتحمل قلبه ذلك البلاء، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الكتمان أحياناً حتى بعد التمكين والجهر بالدعوة، وهذا يكون حسب المصلحة.
فلا شك أن صفة من يذيع كل ما يسمع، أو يزعم أنه لا يصلح الكتمان نهائياً، لا شك أن هذه صفة من لم تهذبه التربية الإيمانية، فلا يدري ما يعلن وما يسر، وهذا النوع من أخطر الناس على الدعوة والدعاة، خصوصاً إذا قيل لهم عن أمر: إنه سر، فيبقى الواحد منهم قلقاً حتى يبوح به، فينتشر الخبر، بل إذا أردت أن تنشر خبراً ما فقل لواحد منهم: إن هذا سر، فسوف يظل قلقاً؛ لأنه ليس عنده التربية الإيمانية التي تجعله يكتم هذا الأمر، وهذا يقع ممن عنده ضعف التربية، وهذا لا يصلح أبداً أن تستعمل معه الكتمان أو تسر إليه بأمور، فإن ذلك يترتب عليه إعلانها بالتأكيد.
فانظر إلى نوعية ذلك الرجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذلك الذي من شيعته، الذي استصرخ موسى واستغاث به، وهو الذي رأى أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني، وهو الذي باح بالسر، فكان هذا الإسرائيلي المشاغب الغوي المبين سبباً في إفشاء سر موسى عليه الصلاة والسلام، حين قال له: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19] فسمعها الفرعوني ولم يكن قد شهد وقعة الأمس، ولم يكن قد شهد الوقعة غير موسى والإسرائيلي، فذاع الخبر، واضطر موسى للخروج من مصر فراراً بنفسه ودينه.
فالواجب هو الرجوع إلى أهل العلم أولاً قبل نشر أو إشاعة أي أمر كما أمر الله، وإن كان الأصل أن يكون علنياً، إذ بالبيان يقوم الحق، وتظهر الحجة، ولا يلجأ إلى الكتمان إلا عند العجز أو الضرورة، أو المصلحة الراجحة.
وقوله: (وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل علي) يعني: لا تخبرهم باسمي، ولا تخبرهم أني أنا الذي علمتك ذلك؛ قال له هذا لأنه يعلم أنهم سوف يبحثون عمن علمه هذا، فلن يكون قد تعلمه من فراغ، بل لا بد أن يكون قد التزم مع صاحب، ولا بد أن يكون قد التزم مع شيخ، فأين هذا الشيخ؟ ومن أين علمت هذا الكلام؟ فسوف يظلون يبحثون حتى يصلوا إلى معرفة الحقيقة.
(7/7)
أدب التداوي
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء) الأكمه هو: من ولد أعمى، وهذا أبعد في أن يشفى، والأبرص هو من به برص، وهو: مرض جلدي معروف، ولا يوجد شفاء منه إلى الآن، فكان يداوي الناس من سائر الأدواء، وذلك بدعاء صادق إلى الله عز وجل، فيستجيب الله عز وجل دعاءه.
وهذه كرامات متعددة لهذا الغلام، وفي الحديث أدب التداوي، وهو هنا عن طريق الدعاء، وليس في هذا منافاة للتوكل، ولا للرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، وإن كان طلب الدعاء من الغير في أمر شفاء الأمراض الأولى تركه، وتركه من كمال التوكل المستحب، وأما أن يدعو بنفسه لنفسه فلا يضر، أو يدعو له غيره من غير طلب منه فلا يضر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك، فقالت: أصبر) فلما قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، دعا لها، ولم يقل لها: اصبري ولك الجنة، وهذا دليل على أن طلب الدعاء في الأمور الدنيوية خلاف الأولى، أو حتى يكون الإنسان من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فينبغي ألا يطلب الإنسان الدعاء من غيره في الأمور الدنيوية، وأما الأمور الدينية من الطاعة والستر ونحو ذلك، فالمرأة كانت تتكشف فطلبت من الرسول أن يدعو لها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أويس القرني: (فإن استطعتم أن يستغفر لكم فمروه فليستغفر لكم) وهذا أمر به الصحابة الذين هم أفضل من أويس، كـ عمر رضي الله عنه، وليس في هذا منافاة للتوكل المستحب؛ لأنه في أمر ديني يريد أن يتقرب به إلى الله عز وجل.
(7/8)
حكم التداوي
إن التداوي عموماً الأصل فيه الاستحباب، وقد يكون واجباً في بعض الأحيان وذلك إذا غلب على الظن الهلاك، أو فساد عضو من الأعضاء، أو العجز عن أداء الواجبات، مع غلبة الظن بالشفاء، والمرض متفاوت بلا شك، فهناك أنواع من الأمراض وأنواع من الأدوية.
فنقول: إن هناك بعض الأحوال يكون التداوي فيها واجباً؛ كمن يعلم -مثلاً- أنه إذا لم يوقف النزيف بأنواع العلاجات استمر حتى يموت، فهذا لا يجوز له ترك التداوي، فما كان فيه إنقاذ للحياة بسرعة فلا يجوز أن يترك، والأغلب في أنواع التداوي عدم وصولها إلى هذا الحد، وهو غلبة الظن بحصول الهلاك عند تركه، وغلبة الظن بحصول السلامة عند استعماله، فأغلب الأدوية إنما هي أقل من ذلك، فلذلك نقول: هي مستحبة وليست واجبة؛ لأنه ليس هناك يقين على أن بقاء الحياة يستمر بغير ذلك.
وأما التداوي بطلب الدعاء فالأولى تركه، كما تدل عليه قصة الأعمى، وقصة المرأة السوداء، وأما من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) في وصف السبعين ألفاً على استحباب ترك التداوي مطلقاً، فهو استعمل دليلاً أخص من الدعوى، فالدليل هنا خاص بالاسترقاء والكي وليس في كل أنواع التداوي، فطلب الرقية غير طلب الدعاء من الغير، وهذا خلاف الأولى كما ذكرنا في الأمور الدنيوية.
فالأرجح أن التداوي مطلقاً هو الأفضل، وكذا الكي، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أحب أن أكتوي) وقال: (وأنهى أمتي عن الكي) أي: نهي تنزيه، واستعمله عليه الصلاة والسلام مع بعض أصحابه، وقد يكون هناك تداوٍ بمحرم، كشرب خمر أو أكل لحم خنزير أو غير ذلك، فهذا محرم بلا ريب، إلا عند الضرورة المهلكة، أي: التي يجد فيها الهلاك، كإساغة الإنسان اللقمة التي وقفت في حلقه فمنعت النفس، وليس أمامه إلا الخمر، فهذه ضرورة؛ لأن الإنسان سيموت إذا لم يتنفس، فإساغة هذه اللقمة سوف يمررها بعيداً عن مجرى النفَس، فمثل هذا الذي ضربه العلماء مثلاً لهذا الباب يجوز.
وهذا الذي فعله الناس من طلب الدعاء من الغلام يدل على أنهم كانوا أصلاً لم يحققوا كمال التوحيد، بل أكثرهم كان كافراً قبل أن يؤمن على يد هذا الغلام.
ونذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب وهو: أن طلب الدعاء من الغير مطلقاً خلاف الأولى ليس بصواب، بل لا بد من التفصيل الذي ذكرنا، فإن عكاشة بن محصن رضي الله عنه وهو واحد من السبعين ألفاً الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فقال: (ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: اللهم اجعله منهم) ولم يقل له: كيف تسأل هذا؟ إذا كنت تريد أن تكون من السبعين ألفاً فلا تسأل، فالظاهر أنه يفرق بين الأمر الديني والدنيوي، فالأمر الديني يجوز أن تسأل، بل يستحب أن تسأل، ولا يكره أن تسأل غيرك الدعاء، وأما الأمر الدنيوي كنجاح في الامتحان وكشفاء من مرض ونحو ذلك، فسل الله بنفسك، ولا تطلب من غيرك -ولو كان من الصالحين- أن يدعو لك.
(7/9)
وجوب ربط الناس عند علاجهم بالله عز وجل وعدم التعلق بالدنيا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله تعالى) يعني: أن جليساً من جلساء الملك من الطبقة المترفة سمع -بعد أن أصيب بالعمى- بغلام يداوي الناس من سائر الأدواء ويشفى، هكذا تناقل الناس: أن الغلام يشفي.
وهذا من أمراضهم القلبية التي هي أخطر من أمراضهم الجسدية، فهذا الجليس كان يفكر بطريقة مادية محضة، وهي أن الهدايا الكثيرة والمال تشتري كل شيء، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الغلام مثله مثل طبقته الذين لا يعرفون إلا لغة والسعي من أجله، نعم هو كذلك عند أكثر الناس، فأكثرهم يقولون: المال هو عصب الحياة، وليس كذلك عندنا، بل المال هذا كالنعل التي تلبسها، فيجب أن يكون كذلك.
فهذه الطبقة تظن أن كل شيء يمكن أن يحصل بالمال، فأتاه بهدايا كثيرة، وقال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) وكلمة (أجمع) تدل على أنه يراه كثيراً جداً، ويرغبه بهذه الكلمة، ولا شك أنه ينظر إليه بنظرة معظمة، فهذه الكلمة تدل على شعوره بأن هذا عظيم الشأن كبير القدر، وهذا حال أكثر الناس، فلا ميزان عندهم إلا بالمال، ولا غنى عندهم إلا به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فغنى النفس يكون بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يسد فقر الآدمي وحاجته، وأما غناه بعرض الدنيا فهو الفقر بعينه.
وهذا الغلام لم يلتفت إلى هذا الذي أتى به ذلك الجليس أدنى التفات، فلم يقل له: ما هذه الدنيا التافهة التي تريد أن تغرني وتغريني بها، أو ترغبني فيها؟ ولم يقل له: إن هذا كثير منك، وإنه لشعور طيب أن تأتيني بهذا كله، أو نحو ذلك، وإنما أعرض عن هذا بالكلية، والتفت إلى الكلمة الخطيرة المؤثرة في كلامه، حيث قال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) وذلك حين قال له: (إن أنت شفيتني)، فنبهه بذلك إلى الخطر الأعظم.
فموقفه من الهدايا موقف رائع وعظيم، وهو يدلنا على ما ينبغي أن تكون عليه الدنيا في قلوبنا، وهو إسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، فنسكت عنها بالكلية من القلب.
وهكذا يجب على الدعاة أن يجعلوا الدنيا لا قيمة لها في دعوتهم، ولا بد لهم من هدم الميزان الفاسد: ميزان تعظيم من ملكها واحتقار من فقدها، فالمجتمع الذي يريدون بناءه لا يُقبل فيه هذا الميزان الذي ضل بسببه أكثر الأمم قديماً وحديثاً من عهد نوح عليه السلام وإلى زماننا، حيث قال قوم نوح له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27]، وكل الرسل كان أغلب أتباعهم من الضعفاء والفقراء، كما قال هرقل عندما سأل أبا سفيان: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الأنبياء، فأمم كثيرة ضلت بسبب تعظيم المال.
فلا بد أن تربى الطائفة المؤمنة منذ نشأتها على عدم الاهتمام بالمال، ولا يحتاج الأمر إلى ذمه لكي تتشفى النفوس من تركه؛ لأن الإنسان إذا فاته شيء يريد أن يشتفي منه، ويريد أن يصبر نفسه عنه، ويقنعها بأنها تركت شيئاً حقيراً تافهاً، فيظل يذمه؛ لكي يصغره في قلبه، وذمه هذا دليل على منزلته عنده، ولذلك ما أحسن ما قال الهروي في حقيقة فقر الزهاد قال: نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً.
ويكون نفض اليدين من الدنيا ضبطاً -أي: بخلاً بها- عندما تكون موجودة، أو طلباً -أي: بحثاً عنها- عندما تكون مفقودة، فالبخل هو الحرص، فيحرص عندما يتطلع في الشيء الذي ليس بموجود، فيرغب في الموجود ويمسكه.
وقوله: (وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً) أي: يسكت اللسان عنها لأنها لا قيمة لها، فهل عندما يمر إنسان بدجاجة ميتة قد تعفنت يرجع إلى أهله ويقول: لقد رأيت دجاجة متعفنة وقد تركتها؛ لأنها كانت رائحتها كريهة؟! كلا، ولو ظل يتكلم بهذا فسيقولون له: لماذا تتكلم في هذا؟ ولماذا تذكر لنا هذه الأشياء التي لا تفيد شيئاً؟ لكنه لا يتكلم إلا بما له وزن عنده، ولذلك لن يذم إلا ما يريد أن يتشفى من تركه، بمعنى: أنه يريد أن يعوض نفسه؛ يقول لها: أنت أعز من ذلك، ولذلك عقب الكلام بقوله: والسلامة منها طلباً أو تركاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم (ذكر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة)، فهل إذا جلسنا في مجالسنا نقول: إن جناح البعوضة شيء يسير ونحو ذلك؟ كلا.
فلنعلم فعلاً أن ذم الدنيا إنما نستعمله لأنها أكبر بكثير من حقيقتها في نفوسنا، ونذمها ونقول: إنها حقيرة وتافهة ولا تساوي شيئاً؛ لأنها في نفوسنا ما زال لها قيمة، وأما جناح البعوضة فمن في مجالسنا يشغل نفسه بالبعوض نفسه فضلاً عن جناح البعوض؟ أو الجدي الأسك الميت، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه حين قال: (للدنيا أهون عند الله من هذا عليكم).
ولذلك عقب الكلام بقوله: (والسلامة منها طلباً) يعني: السلامة من طلبها، فلا يطلبها الإنسان؛ فإنه عندما يتركها يسلم منها، وهذا فعلاً علامة الغنى بالله، والاستغناء عن الدنيا؛ لأن بعض الناس قد يتركها ولكنه لا يسلم منها، بمعنى: أنه يتشرف بتركه، ويتشرف بزهده، ويرى أنه ترك شيئاً كبيراً لله عز وجل، فهو لم يخلص في زهده.
وكما ذكرنا في المثل الذي نحن بصدده: لا يرجع أحد إلى أهل بيته ويقول: قد كانت أمامي بعوضة فتركتها، أو قد كان أمامي دجاجة ميتة فتركتها، ومثل هذا تماماً من يقول: كان أمامي المال الحرام مفتوحاً علي فما رضيت أن آخذه، فإن هذا دليل على أنه ما زال يعظم الأمر هذا؛ لأنه لو كان فعلاً لا يساوي عنده جناح بعوضة لما قال: كان أمامي.
ومثل هذا من يقول: أمامي عمل كثير، وممكن أن آتي بفلوس من أي مكان، لكني تركت ذلك من أجل طلب العلم، أو من أجل الدعوة، أو من أجل الجهاد! فمثل هذا لا زال يعظم الدنيا في قلبه.
والكلام هذا كله جاء بسبب ذكر هذا الغلام الذي لم يأت بسيرة الهدايا، بل أعرض عنها ولم يلتفت إليها؛ فإن جليس الملك قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) فلم يقل له: أنا لا أريد الهدايا هذه، بل أهملها بالكلية، وقال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفى الله تعالى).
(7/10)
أهمية التحذير من الغلو في الصالحين
أيضاً نلحظ في هذا الجزء من القصة أن الناس من عادتهم الغلو في الصالحين، فإن هؤلاء كانوا يقولون: الغلام يشفي، فلا بد أن ينتبه الداعية إلى الله إلى تحرير الناس من هذا الغلو فيه وفي غيره؛ فإن سبب البلاء الذي دخل على كثير من الأمم هو الغلو في الصالحين، وقد يكونون صالحين بالفعل؛ ولكن بسبب الغلو وعدم التحذير منه من الصالحين أنفسهم يحصل ذلك الفساد.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو فيه، فيقول: (إياكم والغلو!) ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
وأهل العلم حذروا من تقليدهم، ومن الغلو فيهم، فلا بد أن يعالج الداعي إلى الله عز وجل هذا المرض قبل أن يصل بعض الناس إلى حد تأليه الصالحين وعبادتهم من دون الله، فهذا الغلام قبل أن يقول أي كلمة قال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى)، فبدأ بتقرير التوحيد ومحاربة الغلو، وبيان حقيقة عبوديته لله سبحانه وتعالى، ولذا قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، أي: أنا أطلب من الله، فأنا عبد سائل ولست أنا الذي أفعل.
ولا يروج على الداعية أن يظن أنه يمكنه أن يستغل غلو الناس فيه في دعوتهم إلى الالتزام بالحق الذي يقوله لهم؛ لأنهم إن قبلوا الحق لأجله هو لا لأنه الحق لم ينفعهم ذلك، ويوشك أن يتحولوا عنه إلى الباطل بمجرد غيابه هو عنهم، فالحقيقة أنهم عبدوه هو ولم يعبدوا الله، والواجب أن يعبدهم لله وحده.
وتأمل عظم موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين مات النبي صلى الله عليه وسلم فقام في الناس فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وبهذا حفظ الله الإسلام واستمرت دعوة التوحيد.
فـ أبو بكر رضي الله عنه لما قال: (من كان يعبد محمداً) لم يوجد أحد يقول: نحن نعبد محمداً، ولكن لأجل أن الناس تصوروا أنه يمكن أن تذل أو تضمحل دعوة الحق بغير الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمى أبو بكر من يظن ذلك عابداً للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات)، يعني: لا يعلق أحد التزامه بالدين على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بل لا بد أن تلتزموا في حياته وبعد وفاته بهذا الدين الذي جاء به؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع أنه لا يوجد من يحب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لكنه كان يؤمن بدعوة التوحيد، ويعبد الله وحده لا شريك له.
(7/11)
أهمية استغلال الداعية حاجة الناس الدنيوية لإيصال الحق إليهم
نلحظ أيضاً الفقه العظيم في هذا الغلام في استغلال فرصة احتياج الناس إليه في أمور دنياهم، ليوصل إليهم دعوة الحق، ويسد احتياجهم الأشد إلى أمور دينهم وأخراهم، ويجعل علاج أمراضهم الظاهرة -وهي التي يسعون لعلاجها والتخلص من ضررها- وسيلة لعلاج أمراضهم الباطنة، وهي أمراض القلوب، وأعظمها خطراً الكفر والنفاق، وهي التي لا يسعون إلى علاجها، ولا يشعرون بوجودها وضررها، مع أنها أضر عليهم.
فعمى القلب أخطر من عمى البصر، ومع ذلك فالناس إنما يبحثون عن علاج عمى الأبصار، ولا يبحثون عن علاج عمى القلوب، بل ربما ماتت القلوب ولم يبحث أصحابها عن طبيب في حياتهم، وهل هناك وجه للمقارنة بين ضرر المرض الظاهر -وهو إن استمر وأزمن أضر بالإنسان في لحظات وساعات أو قل في سنوات- وبين ضرر المرض الباطن الذي إن لقي العبد ربه به أضر به في النار أبد الآبدين؟! ومع ذلك أكثر الناس لا يبحثون عن دواء لأمراض قلوبهم، وبسبب مرض بسيط يذهب الواحد منهم إلى الطبيب خصوصاً في زماننا الذي كثر فيه الذهاب إلى الطبيب لأدنى سبب، أما أن يبحث الإنسان عن أمراض قلبه ويبحث لها عن طبيب، فإنها تكاد تقتل؛ بل قد قتلت، فإنك لا تجد من يداوي قلبه إلا من رحم الله.
فالداعية الشفيق يجعل حاجة الناس في دنياهم سلماً للوصول إلى غايته في إصلاح أخراهم، ويمكنه أن يشترط عليهم ألا يقضي حاجتهم التي يقضيها الله عز وجل عن طريقه إلا بأن يلتزموا بالإيمان والطاعة، ويكون مثل هذا الغلام الذي قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، يشارطه: إن تؤمن أدع لك، وإن تؤمن أقض لك الحاجة.
وأم سليم حين خطبها أبو طلحة وهو كافر جعلت مهرها إسلامه، فأسلم صدقاً، فتزوجته، واعجب بهذا الموقف الرائع! إنها امرأة عظيمة الحب لدينها، فقد جعلته يغير موازينه بالفعل، ولم يسلم من أجلها، ولم يسم -مثلاً- مسلم أم سليم كما كان مهاجر أم قيس، لم يسم كذلك، بل كان من أصدق الأنصار إيماناً والتزاماً وإخلاصاً؛ ولكن موقفها غير موازينه، فإنه كان يعرض مهراً وهو رضي الله عنه من الأغنياء، لكن موقف أم سليم أنها ما تريد إلا إسلامه، وأنه لا يرد لولا كفره، جعله يسلم من أجل ذلك صدقاً، وتزوجها وتزوجته فكان إسلامه مهرها، ونعم المهر كان! ولا يضر الناس ولا الداعي أن الناس إنما يستجيبون للحق أولاً لمصلحتهم الدنيوية؛ فإنهم لن يمسوا إلا والحق أحب إليهم من الدنيا وما فيها، فإن أكثر الناس يعادون الحق لأنهم يجهلونه، فإذا علموه زالت العداوة، كما في هذه القصة العظيمة.
ويمكن أن يقضي الحاجة قبلها، كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام، فإنه في أحوال مختلفة استعمل هذا الأمر بدرجات مختلفة، فمع صاحبيه في السجن عندما سألاه تأويل الرؤيا التي أقلقتهم، وكل منهما كان يريد أن يعرف مصيره في الخروج من السجن، وهذه حاجة دنيوية، فإن يوسف أخر الإجابة إلى أن عرض عليهم دعوة الحق، فعرفهم دعوة التوحيد أولاً، ثم بين لهم تأويل الرؤيا.
وعندما طلب منه تأويل رؤيا الملك كان يمكن أن يشارط، ولو شارط لأجيبت شروطه، لكنه أجاب بدون شروط؛ ليبين لهم حقارة أمر الدنيا بأسرها بما فيها أمر السجن، وأن السجن وعدمه بالنسبة له سواء، فسواء عنده الخروج أو الدخول، فلم يشارط ولم يقل: أولاً أخرجوني من السجن، بل ترك ذلك؛ لعظيم صبره وزهده في الدنيا، واستهانته بزخرفها، وهذا عند المترفين من الناس من أكثر ما يؤثر في نفوسهم، ويجعلهم يعيدون النظر في موازينهم، فالملك استغرب جداً من أنه عبر هذا التعبير الرائع، وفي نفس الوقت هو في السجن، وهذا فقال: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] أي: أخرجوه من السجن، من دون أن يقول لهم: أخرجوني، لكن سيدنا يوسف عليه السلام قال للرسول: لا، ارجع إلى ربك، أي: أنه لن يخرج حتى تثبت برآته، فبحث الملك حتى يعرف برآته، ثم قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54] أي: أحتاج إلى استخلاصه لنفسي فقط، يريد أن يكون له هو، ولا شك أن هذا يستعمله الداعية مع نوعية معينة من الناس؛ لأن الداعية إلى الله يستعمل الأمور حسب المصلحة، وحسب شدة الحاجة، وحسب نوعية الناس، فيمكن أن يؤخر قضاء الحاجة الدنيوية إلى أن يتم عرض الدعوة، ويمكن أن يقضي الحاجة الدنيوية أولاً دون مشارطة، ثم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، خصوصاً عند المترفين وعند أهل الدنيا، فإن ذلك يؤثر فيهم تأثيراً أقوى، والله أعلى وأعلم.
(7/12)
عاقبة الإيمان
وجليس الملك الذي أسلم ليشفى من العمى صار شخصاً آخر بعد حين، فقد صار قدوة للعالم في الصبر والثبات، والجهر بالحق والدعوة، وتحمل أعظم الألم في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فآمن بالله؛ فشفاه الله) وفي هذا بيان عاقبة الإيمان في الدنيا قبل الآخرة، وأنها خير عاقبة، وأن الله لا يريد بعبده المؤمن إلا خيراً، فهذا من عاجل بشرى المؤمن مع ما ينتظره عند الله عز وجل في الآخرة.
(7/13)
بيان أن الشفاء من الله تعالى وحده
وفي قوله: (فشفاه الله) بيان أن الشفاء من أفعال الله تعالى التي لا بد أن يوحد بها، فلا الطبيب ولا الدواء ولا الغذاء هو الذي يشفي، بل الله وحده هو الشافي، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً).
وإن مما يقع الناس فيه عن اعتقاد أو غير اعتقاد أن يقول أحدهم: شفاني الطبيب الفلاني، أو الدواء الفلاني، وهذا شرك، فإن كان يعتقد أنه شفاه من دون الله أو مع الله، فهذا شرك أكبر في الربوبية، وإن كان من غير اعتقاد مع معرفة أن الله هو الشافي فهذا شرك لفظي، وهو شرك أصغر محرم له حكم الكبائر.
واعلم أن من أسماء الله الحسنى الشافي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اشف أنت الشافي)، وورد في الحديث الصحيح: (إن الله هو الطبيب)، وقال أبو بكر رضي الله عنه: (الطبيب رآني فقال: إني فعال لما أريد).
والمقصود: أن الله وحده هو الذي بيده أمر الشفاء سبحانه وتعالى.
(7/14)
حكم مجالسة الظالمين والكافرين
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجلس للملك كما كان يجلس، فقال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي! قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله)، وجليس الملك كان يعلم أن الملك يدعي الربوبية، فجلس إليه وجهر بدعوة الحق في هذا المجال، وهو يعلم أن الملك سوف يكون له موقف، والدعوة في هذه المرحلة دخلت إلى طور جديد، ووصلت إلى مستوىً رفيع، وتغلغلت في المجتمع، حتى وصلت إلى الملك نفسه، وأصبح جليس الملك لساناً في الطبقة الحاكمة، قادراً على الجهر بها، وبيانها عن عقيدة وإيمان، رغم ما يعلمه حتماً من مخالفته للدين الرسمي للدولة وهو: أن الملك هو الرب، ويعلم ما سوف يجره ذلك من تبعات.
وفي هذا من الفوائد: أن مجالسة الظالمين والكافرين إن كانت بغرض دعوتهم إلى الله، ولا يكون ثمنها سكوتاً عن الحق، أو معاونة للظلم والطغيان فلا بأس بها، ولا حرمة فيها، فلا يلزم كل من التزم بدعوة الحق أن يترك منصبه الذي تبوأه في جاهليته ما دام التزم بالشرط الذي ذكرنا، وهو ألا يكون أداة للظلم، وسلاحاً للكفر والنفاق.
وأما إذا كان لا يمكنه البقاء إلا بالثمن الباهظ، وهو الإعانة على الظلم، فعند ذلك نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، ويقربون شرار الناس، فمن أدرك ذلك فلا يكون لهم عريفاً ولا شرطياً ولا خازناً، ولا جابياً).
وهناك بعض الجهلة الذين لا يفرقون بين الموالاة المحرمة ومجرد المجالسة التي تفتح المجال لإبلاغ الحق، أو الوظائف التي لا تعين على الظلم، وإنما هي إجارة مباحة، فضلاً عما قد يكون فيها من قضاء حاجة الناس، مما يحببهم في الدعوة، فيأمرون كل من التزم بترك وظيفته وهيئته، وإلا لم يكن مؤمناً، وهذا بلا شك مخالف لأدلة الشرع.
(7/15)
تغيير الإيمان لمن يعتنقه
ونرى هنا أيضاً كيف حول الإيمان هذا الجليس من رجل لا يعرف إلا الدنيا والمال والهدايا، فإنه هو الذي قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، ونرى كيف كان متعلقاً بالخلق ورجائهم، ثم تحول إلى هذه الشخصية الجديدة التي تبدو فيها الطمأنينة والرسوخ والجرأة في الحق، حتى يقول للملك في وجهه بكل ثبات: (ربي وربك الله، قال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي!)، إنها جرأة عظيمة، وثبات عظيم، فلم يقل: الغلام، ولم يقل: شفاني بعض الناس، ولم يستعمل التورية ولا التعريض، ولم يقل: بركة جلوسك على العرش أيها الملك! أو من مجالستي إياك رد بصري، كما قد يفعل أهل النفاق الذين كل شيء عندهم من توجيهات الملك، وبركة أعماله العظيمة التي لا نظير لها في الوجود! نسأل الله العافية.
فهو كان على يقين أن الملك الجبار يدعي الربوبية صراحة لا تلميحاً، وهو بالتأكيد يعلم كم بطش الملك من مظلومين، وكم قتل وسفك من الدماء وعذب الأبرياء! حتى استقر له الملك الجائر، وحتى لم يجد طيلة المدة التي قضاها يدعي الربوبية من يقول له: لست لنا برب، بل لعل جليس الملك هذا كان ممن يروج لمقولته الفاجرة، وادعائه الكاذب للربوبية؛ بل بالإنفراد بها، فهو لم يكن يقول: أنا ربكم فقط، بل قال: (أولك رب غيري؟) نعوذ بالله! فهكذا يهاجر الإيمان بالمؤمن من العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير فضل الله إلى رجاء فضل الله وحده، ومن ظلمة الجهل وموت الكفر وقسوة الشك إلى نور العلم وحياة الإيمان وراحة اليقين.
(7/16)
تنويع أهل الظلم والطغيان الأساليب في التعذيب ومواجهة الحق
وفي تعذيب الملك له نرى الأسلوب القديم الجديد! إنه قديم قدم وجود الظلم والعدوان على وجه الأرض، فهو منذ قتل ابن آدم أخاه، إن هذا الأسلوب في مواجهة الحق أسلوب قديم جديد من أهل الباطل والكفر في مواجهة الحق، فلا نقاش عندهم ولا دليل ولا حوار، إنما هو البطش والتنكيل، فهل ترون يا عباد الله! ما هو الذي بقي من ملك ذلك الملك وبطشه؟ وهل ترون ما هو الذي بقي من ملك فرعون وبطشه؟ بقيت سيرتهم التي يلعنون عليها، ولماذا نذهب بعيداً، فما هو الذي بقي من ملك من تسمى بملك الملوك (شاهن شاه) في زماننا؟ فقد كان شاه إيران السابق يسمي نفسه (شاهن شاه) أي: ملك الملوك، واحتفل بالإمبراطورية الفارسية التي كانت قبل الإسلام، وادعى أنه وارث هذه المملكة، وكأنه تخطى أمر الإسلام، وبعد سنوات زال ملكه، حتى إنه لم يجد أرضاً يدفن فيها!! فما هو الذي بقي من ملك كل طاغية جبار أيضاً؟ الإجابة واحدة: لم يبق من ذلك كله إلا الأحاديث، قال الله عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19]، وسوف يصبح كل الطغاة كذلك، وكل المتجبرين ومدعي الربوبية تلميحاً أو تصريحاً سوف يكونون بعد مدة أحاديث.
فعن قريب سيزول ملك طغاتكم أيها المعذبون! وترحلون أنتم وهم إلى دار لا ظلم فيها ولا بخس، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(7/17)
من أخبر عن غيره من الصالحين تحت شدة التعذيب
فهذا الملك أخذ جليسه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وفي هذا دليل على سقوط الإثم على المعذب والمكره إذا دل على غيره من الدعاة أو الملتزمين الصادقين، وإن كان ذلك سبباً لتعرضهم لما يتعرض له، لكن التعذيب ربما كان أشد من القتل، فسنرى كيف صبر هذا الرجل على القتل نشراً بالمناشير، ولم يصبر عن الاعتراف عن الغلام الذي علمه هذا الدين؛ بسبب العذاب.
كما أن هذا الغلام أيضاً -وهو من أولياء الله الصالحين- لم يصبر على العذاب، وصبر على القتل، فإنه تحمل في سبيل دعوته أعظم التحمل، ولم يصبر على التعذيب، فلا يجوز أن يلام إنسان ناله من هذا العذاب شيء على ما قاله ولا ما أخبر به، ولا يعد ذلك نقصاً في الإيمان، ولا خللاً في التربية، كما وقع في هذه القصة، ولكن لا بد أن يصيبه ذلك، ولا شك أنه لم يدل عليه من أول مرة، بل قال: (أخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب)، إذاً: فهذا يدل على أنه بقي مدة طويلة في هذا التعذيب.
فدل هذا الغلام على الراهب وأخبر عنه، فلا عتاب في ذلك، ومن صبر فله الأجر العظيم، ونسأل الله العافية!
(7/18)
ابتلاء الله عز وجل لأوليائه
وفي تسليط الله للملك الظالم الكافر مدعي الربوبية على المؤمنين وتعذيبهم وتمكينه من ذلك دليل على أن حكمة الله سبحانه تتضمن مثل ذلك الابتلاء، ولا يكون في هذا دليل على سخط الله على أوليائه، أو تركه نصرتهم، أو أنهم على باطل؛ ولذا لم يحفظوا، وليس الأمر كما يقول بعض الناس: طالما أنه وقع عليكم هذا البلاء إذاً أنتم على باطل، ولو كنتم على حق لما جرى لكم الذي جرى، فليس الأمر كذلك، فقد قدر الله على أنبيائه ورسله نحو ذلك من القتل والجراح، كما قال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183]، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وكسرت رباعيته في غزوة أحد، وأنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالحق يعرف بالأدلة لا بأن أهله معذبون مستضعفون، والباطل يعرف بمخالفته للحق لا بأن أهله هم الغالبون، فعن قريب يمكَّن المستضعف، ويأمن الخائف، ويجعلهم الله أئمة ويجعلهم الوارثين، وعن قريب تذل أعناق الجبابرة، ويزول ملك الطغاة، ويزهق الله باطلهم، ويجعلهم من الأسفلين.
فهذا الابتلاء فيه تمحيص للقلوب، وكفارة للذنوب، وتخليص للصف المؤمن من الكاذبين والمنافقين.
(7/19)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [4]
إن قوى الشرك تأبى إلا أن تخرج قوى التوحيد عن صفاء عقيدتها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فقد سخر الله لهذا الدين رجالاً يحملون أعباء هذه الدعوة، فيحفظون الله في سرهم وعلانيتهم، ثابتين على مبدأ الحق رغم كل صنوف التعذيب والاضطهاد الذي يلاقونه من قوى الكفر والطغيان، فيؤيدهم الله بكرامات وآيات بينات واضحات، ويعمى عنها من أعمى الله بصيرته ممن استخدم قوته وجبروته وطغيانه في محاربة أهل التوحيد.
(8/1)
صور ونماذج من أساليب الطغاة في استمالة الدعاة إلى الله إليهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الأخدود قال: (فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب).
يعني: لما عذب الملك جليسه حتى دل على الغلام، وتيقن الملك أن الغلام من وراء هذه الدعوة الجديدة على مملكته، وهو أن الغلام يدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وإلى إنكار ربوبية الملك، وعلم جيداً أن الغلام لا يقول للناس: إني أفعل ذلك بالسحر الذي أرسله الملك لكي يتعلمه من الساحر، فبدأ الملك بمحاولة خبيثة في احتواء هذه الدعوة، فليس عنده مانع أن يدعو الغلام إلى ما يدعو إليه، لكن لا بد أن يكون ذلك تحت عباءة الملك، ويكون ذلك بذكر سحر الملك وتوجيهاته، أي: لا بأس أن يفعل ما يريد بشرط أن يلبس ثوب الملك، فلم يبدأ الملك بالبطش، مع أن أسلوبه كان واضحاً جداً مع جليس الملك، وأسلوبه أيضاً كان واضحاً جداً مع الراهب ومع الغلام نفسه في مرحلة لاحقة، لكن هذه محاولة خطيرة يبدؤها الطغاة دائماً، فلا بد أن ينتبه لها كل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
إن بطشه بالغلام الذي أحبه الناس وعرفوا إحسانه إليهم، فهو الذي قتل الدابة، وهو الذي كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فلو أنه بطش به من أول الأمر لازدادت محبته في القلوب، ولجعله بطلاً أو شهيداً، ويصبح موته وقوداً دافعاً لاستمرار دعوته، فلا بد من محاولة الاستمالة أولاً فقال: (أي بني!) يعني: يا ابني الصغير! وهذه اللغة ليست لغته التي يستعملها مع الناس، ولكنها محاولة الاستمالة ومحاولة الترغيب، فأنت ابني الصغير الذي أحبه جداً، والذي أشفق عليه جداً، والذي أعده للمنازل العالية، فالنداء بالبنوة أول محاولات الاستمالة والتلطف، فهو يقول له: أنت ابني وأنا الذي توليت تربيتك.
ثم يقول: (قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) يريد أن يقول له: لا مانع عندي من استمرارك فيما تفعل بشرط أن تقول للناس: إن هذا سحر تعلمته في مدرسة الملك، وتحت إشرافه، وبرعايته وبتوجيهاته، والملك يقول له ذلك وهو على يقين من أن الغلام هو الذي قال لجليس الملك: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فربي وربك الله.
فهذه المحاولة الخبيثة من الملك إنما هي لطمس ضوء الدعوة ونورها إذا قبل أصحابها أن يلبسوا ثوب الباطل، ويعملوا تحت رايته، ويصبغوا دعوتهم بصبغة الملك وحاشيته، تلك الصبغة التي يسميها الملك وحاشيته الصبغة الشرعية.
(8/2)
واجب العلماء والدعاة في حفظ الدعوة من مخططات الطغاة
إن الدعوة إلى الله لا بد أن تتميز في سرها وعلانيتها، وفي جندها وقيادتها، وفي مبادئها وغاياتها، وفي وسائلها ومنهجها عن كل أحزاب الباطل، وهي لا بد أن ترفض هذا الطعم الخبيث، والشرف المخادع الذي يضعه لها أعداؤها حين يقولون للدعاة: إن أردتم أن تعملوا فلا مانع ما دام عملكم تحت توجيهات الملك وبأمره، وأن تضعوا شعاراته، وتدخلوا في أحزابه، وإن كنا نعلم أن دعوتكم مخالفة لهذا، وأنكم تدعون إلى الله لا إلى سحر الملك، ولكن هذا هو الثمن لاستمرار دعوتكم.
فما أخطر هذا المنهج الذي يمارسه المنافقون والكافرون في كل زمان لاحتواء الدعوة تحت سلطانهم، فهم لا يقبلون الوجود لهذه الدعوة إلا تحت راياتهم وتجمعاتهم، ومن خلال أحزابهم، وهم يعلمون جيداً أن هؤلاء الدعاة هم الدعاة، وأنهم لن يغيروا حقيقتهم، ولكنهم قبلوهم ضمن أحزاب الملك، وفي ثيابه، وتحت شعاراته؛ وذلك لعلمهم أن هذا في الحقيقة يدعم شرعية وجود الملك، ويجعل منكرهم هو المعروف الذي يتحاكم إليه، ويجعل قيادتهم الباطلة للمجتمع أمراًَ شرعياً عند أتباع الدعوة وليس فقط أمراً واقعاً يسعى الناس إلى تغييره، ويجعل شعاراتهم المفروضة في شرع الله حقاً، والباطل هو ما يخالفه والعياذ بالله، ويجعل هذه الشعارات الباطلة مرادفة لشعارات الإيمان والتوحيد، وأن الدين هو حياة الناس كلها لا يفصل عنها ولا عن جزء من أجزائها، كما أنه هو في آخرتهم عند الله هو الأصل في كل شيء.
وكذلك أن الولاء لله والحب فيه ولأجله، وأن الرابطة الدينية الإسلامية هي رابطة المجتمع لا مجرد وحدة الوطن أو القوم أو القبيلة، وأن الإسلام وحده هو الحق، وأن ما سواه من الملل باطل وكفر وعذاب في الدنيا والآخرة.
فهذه الشعارات إذا وضعت بجوار شعارات الباطل بدلاً من رايات الحق فلن تكون هناك دعوة إلى الله عز وجل، وهذه المعاني التي ذكرنا من معاني الإيمان والتوحيد لا تقوم الدعوة بدونها، ولا تكون أبداً دعوة ربانية إذا فقدتها، وسوف تضمحل تماماً عند قبول هذا الاحتواء، وعند رضا أصحاب الدعوة بإعلان الشعارات الملكية السحرية، وأن يقبل الغلام أنه يعمل بسحر الملك، فإذا رضي ذلك ثمناً لسلامة الدعاة واستمرار عملهم فإن ذلك يؤدي إلى اضمحلال الدعوة بلا شك.
وما أخطر أن يكون الدعاة إلى الله هم الذين يقولون للناس: اختاروا قيادة هذا الملك وكونوا تحت طاعته حتى ولو قالوا لهم بعد ذلك أي شيء، فحين يعلمون أن دعوتهم تحولت إلى توطيد سلطان الملك بطريقة أو بأخرى، وحين يعملون لذلك تكون دعوتهم قد فقدت ربانيتها، وإن ظنوا أنهم يحققون لها السلامة والاستمرار، فلا بد للدعاة أن يعلموا أن استمرار دعوتهم بالله لا بالناس، وأن الله عز وجل خير حافظاً وهو أرحم الرحمين، وأن علينا أن نقولها واضحة كما قالها الغلام للملك رافضاً محاولة الاحتواء الخبيث: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى.
ولا بد أن نقول للباطل: لا نعمل تحت رايتك، ولا نرضى بثيابك، ولا نقبل قيادتك، ولا نعترف برياستك، وإن كان واقع الابتلاء يفرضها علينا فهو أمر كوني لا شرعي، والواجب علينا أن نلتزم بالشرع، ونفوض أمر الكون لله يفعل فيه ما يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وليعلم الدعاة أن دعوتهم تستمد شرعيتها ووجودها من إذن الله تعالى وأمره بالدعوة، لا من إذن الناس، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]، والدعاة والعلماء هم ورثة الأنبياء بما عندهم من العلم والعمل، ودعوتهم لا تحتاج إلى إذن من الطواغيت ولا إلى شرعيتهم المزعومة، فإنها شرعية الظلم والكفر والعدوان، وشرعة الغاب التي ابتدعوها، ثم هم لا يحترمونها ولا يرعونها حق رعايتها.
إن الولاء لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والانتماء لدين الله دونما سواه أمر أساسي في الدعوة إلى الله، والبراءة من الشرك والمشركين من أوجب الواجبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1])) [الممتحنة:1].
وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فهذه المعاني كلها تفقد وتضيع أو تبهت وتضمحل في نفوس الأتباع إذا قبل أصحاب الدعوة القيادة الملكية، والسحر الملكي الذي يريد الملك أن يجعله شعاراً يعمل الغلام تحته، فإذا لم يكتفوا بالشرعية الإلهية والقيادة النبوية فإنها تضمحل معاني الولاء والبراء، ومن ثم تتحول الدعوة بعد جيل أو أجيال إلى صورة من صور الباطل، لكن أصحابها يحملون اسم الدين، ويتصورن أنفسهم دعاة الحق وحماة الإسلام، فليحذر دعاة الإسلام من شرك النفاق وهيئاته وأحزابه، ولنحافظ على صبغة دعوتنا الربانية: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].
لقد رفض الغلام أن يسمى ما يفعله سحراً، وأبى إلا أن يجابه الملك؛ لأن دعوته هي دعوة التوحيد الخالص، فبمقولته العظيمة: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) فشلت محاولة الاحتواء وإلباس الحق ملابس الجاهلية، فانكشف الملك على حقيقته، ولجأ إلى الأسلوب المعتاد من البطش والتنكيل، فمنذ لحظة كان الغلام ابنه الذي يتلطف معه، فإذا هو الآن يقع تحت أنواع التعذيب؛ ليعترف بإخوانه في هذا التنظيم السري الذي يجابه مملكة الملك، وليعترف بالذي أراد أن يقلب نظام الربوبية في هذا المجتمع، فالملك ليس رباً وإنما الله عز وجل هو الرب، ولنعلم أن الباطل لا يستحيي من تناقضه، فهذا الذي تراه في نعومة حديثه وإظهار مودته ومحبته للدعوة ومباركته لها سوف ينقض عليها هو شخصياً بأنواع التنكيل إذا ووجه بالمفارقة والمفاصلة.
وهذا الموقف لا يحتمل غير الوضوح والبيان، فعن الدعاة تؤخذ الحقيقة، ومن أفواههم وكلماتهم يعرف الناس الدين، فليحذر كل داع إلى الله أن يكذب على الله، وأن يدخل في دينه -وهو المتحدث باسمه- وفي دعوته ما ليس منه، بل هو من دين الشيطان وملة أتباعه.
(8/3)
عدم فقدان ولاية الله للدعاة بتسليط العدو عليهم، وحكم اعترافهم بإخوانهم عند الإكراه
لا يظنن أحد أن تسليط العدو على الدعاة بأنواع الأذى هو من فقدان ولاية الله، أو علامة سخطه، بل هذا الغلام ولي من أولياء الله تعالى بنص السنة، ومع ذلك سلط الله عليه عدوه حتى وصل التعذيب به إلى درجة أن اعترف بأستاذه ومعلمه الذي قال له يوماً: (فإن ابتليت فلا تدل عليّ)، لكن عجز الغلام وأكره على أن يخبر بمعلمه، وهو في ذلك معذور لا إثم عليه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، وليس الاعتراف بإخوانه في الدين عند تعرضه لمثل هذا النوع من العذاب -وإن كان يعلم أنه يصيبهم الأذى- بداخل فيما لا يجوز عند الإكراه من أذية مسلم أو معصوم؛ فإن ما أجمع عليه العلماء من أن الإكراه لا يبيح قتل مسلم أو معصوم أو انتهاك حرمته كما نقله القرطبي وغيره إنما هو في مباشرة ذلك، لا في مجرد الإخبار عن حقيقة معتقد أخيه ودينه وعمله الذي قد يكون سبباً لقتله عند الكفار الظالمين.
ولنتأمل في حكمة الله عز وجل الذي استجاب دعوة الغلام في كل ما سبق، فقد كان الغلام مستجاب الدعوة في قتل الدابة، وفي شفاء الأمراض، ومع ذلك قدر الله عليه هذا البلاء دون أن يصرفه عنه، فإما أنه صرفه عن الدعاء أصلاً برفع هذا العذاب، فلم يجعل الغلام يدعو؛ ليتم الابتلاء، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، ويكمل التمحيص، ويعرف الناس القدوة الصالحة في الثبات على الدين، وليس في الإخبار عن الراهب نقص في الدين؛ لأن ذلك من الرخص كما ذكرنا، وإن كان الأفضل الصبر على العزيمة، أو إن الله عز وجل لم يستجب دعوة الغلام في الوقت عندما دعاه؛ حتى نعلم أنه ليس لأحد مع الله عز وجل في الأمر شيء، كما قال أفضل الخلق وخليل الله وسيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، عندما جرح في وجهه وكسرت رباعيته يوم أحد: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته! فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]).
وكما دعا على أقوام من المشركين بأعيانهم فلم يستجب له فيهم صلى الله عليه وسلم، وجعل من أدلة التوحيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، والذي يظهر من القصة أن الغلام صرف عن الدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر في الحديث أن الغلام دعا ولم يستجب له، وإنما ذلك كان -والله أعلى وأعلم- صرفاً له عن أن يدعو لتفريج الكرب في هذه اللحظة؛ لكي يظهر أثر الثبات على الدين، ولكي يستفيد الدعاة إلى الله عز وجل، وأيضاً لبيان أن تسلط العدو عليهم ليس معناه فقد الولاية من الله.
(8/4)
قصة قتل الملك للراهب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه).
فقد وصل جنود الملك إلى مصدر الدعوة والرأس المدبر لها، فكان لا بد من رجوعه عن الدين الجديد حتى يرجع من اتبعه عليه، ومنهم الغلام وجليس الملك، فأمر بالرجوع بلا مواربة ودون تلطف كالذي تم مع الغلام، ولماذا لم يستعمل معه نفس الأسلوب الذي استعمله مع الغلام؟ فلم يتلطف معه بأن يقول له مثلاً: أيها الشيخ الكبير ونحو ذلك، لا، فلم يكن هناك وقت لذلك؛ لأن هذا الرجل ليس بمشهور لدى الناس، فلن يكون هناك ضرر كبير لقتله في نفوس الناس، ولن يكون هناك نفس القدر من الإنكار لدى العامة لو أنه قتل الغلام مباشرة؛ ولذا كان الغلام آخر من حاول الملك قتله؛ لأنه يعلم أن قتله سوف يرد المجتمع إلى الدين الحق، وفي قتله خطر كبير؛ لأنه صار رمزاً للدعوة، فلو أنه قتله لارتج العامة مع حبهم له، لذلك كان الأسلوب المتدرج مع الغلام، بخلاف الراهب فكان دون مواربة؛ لأن مسئولية من يقف أمام الناس يتكلم باسم الدين أعظم من الذي علمه الدين سراً فيما بينه وبينه.
فقد قتل الملك الكافرُ الظالمُ الأستاذَ الأولَ لدعوة التوحيد في هذا المجتمع بأشنع قتلة، ولم يتحرك لذلك الناس قيد أنملة لنشر رجل بالمنشار حتى يسقط نصفين، بل وللرجل الثاني من جلسائه كذلك؛ هذا لأن دعوته لم تكن علانية، بل كانت لفرد واحد وفي السر، وربما هناك أفراد لم يذكروا في هذه القصة والله أعلم.
وكان قتل الراهب بهذه الطريقة المقصود به إرهاب وإرعاب الغلام؛ لعل الغلام يرجع عن موقفه أمام الناس علانية كما دعاهم إلى التوحيد علانية، فهذا خطر إن داهن أحد في الحق وتكلم بالباطل، أو كتم دعوة الحق، لماذا تحمل الإمام أحمد رحمه الله ما تحمل؟ لأن الناس كلهم نظروا إلى الإمام أحمد ماذا سيقول، فلو أنه لم يثبت على الحق عندما اشتد عليه التعذيب لضل الناس، ولكن الله عز وجل جعله إماماً في الحق.
ولنتأمل أيضاً في هذا الجزء من القصة في صبر الراهب العابد على هذه القتلة الفظيعة؛ وهي النشر بالمنشار حتى ينفصل إلى قطعتين، ومصداق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قال له أصحابه: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، رواه البخاري.
فإذا تذكرنا أن الراهب في بداية الأمر طلب من الغلام إن ابتلي ألا يدل عليه علمنا ما يلزم أن يكون عليه حال المؤمن الصادق، فلا يسأل الله البلاء ولا يتمنى وقوعه، بل يسأل الله العافية ويأخذ بأسباب العافية، فإذا نزل البلاء كان عند ذلك رجلاً صابراً محتسباً يهون عليه عذاب الدنيا، ولا يفرط أبداً في دينه، فإن قيل: ألم يكن يسع الراهب وهو يكره على الكفر بمثل هذه القتلة الفظيعة أن يأخذ بالرخصة، ويوافق ظاهراً على الرجوع عن الدين مع طمأنينة القلب بالإيمان؟ فالجواب من أحد وجهين: الأول: أن هذا الراهب أخذ بالأفضل وهو الأخذ بالعزيمة، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء، كحال بلال عندما أكره أن ينطق بكلمة الكفر، فكان لا يجد كلمة أغيظ للكفار من: أحد أحد، فيزيدون في تعذيبه، وهانت عليه نفسه لله، فيزداد: أحد أحد، وأما عمار فأخذ بالرخصة، وبلال أفضل في هذا الموقف بلا نزاع، فالصبر على العزيمة في هذا المقام أفضل من الأخذ بالرخصة.
الثاني: أن الإكراه كان عذراً لأمة الإسلام دون الأمم السابقة، والله أعلى وأعلم.
والأول أظهر، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، مفهوم المخالفة فيه من مفهوم اللقب، ولا يلزم أن الأمم السابقة ليست كذلك.
(8/5)
قصة قتل الملك لجليسه
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه).
سبحان الله! ما أعظم الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، فهذا جليس الملك الرجل المترف المنعم من الطبقة الحاكمة، من طبقة الحاشية المقربة، ومعلوم كيف تعيش حياة اللهو واللعب، فكيف صبر جليس الملك هذا الصبر العظيم حفاظاً على دينه؟! فقد عاش الراهب عمره كله على هذا الدين، وليس بغريب أن يضحي بحياته في سبيل الدين، لكن هذا الرجل قضى أكثر عمره في الكفر، ولم يدخل الإيمان في قلبه إلا قبل قليل، ومع ذلك فقد صبر مثل صبر الراهب، ولا عجب، وانظر إلى سحرة فرعون حتى دخل الإيمان في قلوبهم منذ لحظات فآمنوا برب هارون وموسى، وكانوا قبل لحظات غاية رغبتهم: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، وغاية ما يرغبون فيه: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فسجدوا لله عز وجل حين رأوا الآية وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، فإذا بـ فرعون يتهدد ويتوعد بالصلب وتقطيع الأيدي والأرجل، وبالقتل أبشع أنواع القتل والتعذيب {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
فكانوا في أول النهار سحرة كما قال ابن عباس وفي آخر النهار شهداء بررة.
فهكذا ذهب الراهب وجليس الملك شهيدين في سبيل الله صبراً على التمسك بالدين، فأعطاهما الله الحياة الأبدية عنده سبحانه وتعالى، فسحرة فرعون وهذان الرجلان ضحوا بحياتهم فأعطوا حياة أكمل وأتم، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش).
(8/6)
قصة قتل الملك للغلام
(8/7)
الوسيلة الأولى: محاولة إسقاطه من ذروة الجبل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى).
لقد كان الملك حريصاً أعظم الحرص على أن يرجع هذا الغلام عن الدين، وكان ذلك أكثر من حرصه على رجوع الراهب أو جليسه؛ لأن الغلام هو الذي أظهر الدعوة، وارتباط الدعوة به عند الناس أظهر وأوضح، والناس كلها تنظر إليه ماذا يصنع، ورجوعه عن دينه رجوع لكل أتباعه ومحبيه، فلم يقتله بالطريقة التي قَتل بها صاحبيه: الراهب والجليس، وإنما اتخذ طريقة فيها تطويل لزمن الاستعداد للقتل، لعل ذلك أن يكون دافعاً له في إعادة التفكير، فطوّل عليه مدة الإرهاب والتخويف بالصعود إلى الجبل لعله يرجع عن الدين، فكونهم يصعدون به الجبل حتى يبلغ الذروة فهذا بلا شك ضغط نفسي طويل الأمد، لكن هيهات، إن النفس المطمئنة بالإيمان لا تعبأ بمثل ذلك، والقلب العامر بذكر الله لا يخاف من أحد غير الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فالغلام مع ضعف قوته، وكثرة عدد عدوه وقوتهم قد فوض أمره إلى الله، ودعا بهذا الدعاء العظيم: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فكم جرب هذا الدعاء الصالحون فكفاهم الله أمر عدوهم، وتأمل طمأنينته وسكونه وحسن توكله على الله، وتضرعه إليه، وتفكر كيف لم يشغل نفسه بكيف ومتى وبأي وسيلة يكون الإنقاذ والنجاة! ولم يقل: يا رب! أهلكهم الآن! يا رب ابتليهم بصاعقة من عندك! يا رب ابتليهم بزلزال من تحت أرجلهم! يا رب ابتليهم بكذا وكذا من الأمراض! وشل أيديهم! ودمر إرادتهم وافعل كذا وكذا، لا، بل قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فهكذا فوض أمره إلى الله، وهكذا يكون حسن الظن بالله والثقة به، فيشمل ذلك صدق التوكل عليه، واللجوء إليه، فتأتي النتائج على خير مما يرجو المرء، وفوق ما يرجوه، كفاه الله سبحانه وتعالى.
ولنتدبر كيف جعل الله هلاك أصحاب الملك من جنس عملهم الذي أرادوا بالغلام المؤمن، فأرادوا إسقاطه من الجبل فأسقطهم الله، فهلكوا حين حدث زلزال في الجبل، ولحظة الزلزلة يظهر فيها العجز البشري تماماً، ويظهر أن ملوك الأرض ورؤساءها ليسوا بملوك لها ولا برؤساء، وإنما هم عبيد ضعفاء ترتعد فرائصهم خوفاً، ويجرون هلعاً، فعندما يقع الزلزال ترى كل الناس يجرون لا يستطيعون البقاء، وليس هناك فرق في هذا بين كبير ولا صغير، ولا بين ملك ولا مملوك، فالكل لا يحتمل لحظة أن يكون الملك فيها لله ظاهراً كيوم القيامة، وإن كان الملك لله في كل لحظة، لكن أكثر الخلق في غفلة عن ذلك.
فعندما رجف الجبل قدر الله هلاك أصحاب الملك ونجاة الغلام، فهل وجد الغلام هذه الفرصة لكي يهرب ويتخلص من جبروت الملك وطغيانه وقد كفاه ما دبره له؟ ليس هذا سلوك الداعية الحريص على هداية الخلق، فكم بقي في أرجاء المملكة من لم تبلغه دعوة الحق، أو لم ير دلائل صدق أصحابها؛ فمن أجل ذلك رجع الغلام يمشي إلى الملك، ولك أن تتصور كم كانت دهشة الملك وهو يرى الغلام الصغير حياً يمشي إليه، وقد ذهب الأصحاب من الجنود الأشداء الأوفياء لملكهم، ذهبوا إلى غير رحمة، فيسأل الغلام متعجباً: (ما فعل أصحابك؟) فيقول الغلام الذي لا يعبأ كثيراً بالوسائل والكيفيات: كفانيهم الله تعالى.
فلم يقل له: إنهم أرادوا إسقاطي فسقطوا، فهذه أمور صغيرة لم يخبره بما جرى، ولم يجعل ما حدث من كرامة جديدة مادة للحديث حوله، بل جابه الملك بما يقض مضجعه ويغيظه، ألا وهو ذكر الله، فهذا الغلام الذي قال له: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) قال له مرة ثانية: (كفانيهم الله تعالى)، فقد جاءه بما يقض مضجعه، ويزلزل ادعاءه بالربوبية، بأن الله ربه وإلهه قد كفاه إياهم؛ ليكون ذلك مزيداً من الحجة على ذلك الملك المغرور المتكبر، الذي لو عقل وفكر وتدبر ما حدث لعلم أن الغلام محفوظ منه، وأنه لا سبيل له إليه، ولعلم حقيقة عجزه، فيجعله ذلك يتوب إلى ربه، لكن القلب إذا عمي وطبع عليه فما تغني النذر: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97].
فسبحان الله! إن الملك بالفعل عاجز تماماً، فهو عاجز في العلم، وعاجز في القدرة؛ لأنه لا يدري ما فعل أصحابه، قال: ما فعل أصحابك؟ يعني: أين ذهبوا، فهو لا يدري، وهذا نفي للربوبية، ثم إنه عجز عن تنفيذ المخطط المراد من قتل الغلام بالإلقاء من فوق الجبل.
(8/8)
الوسيلة الثانية: محاولة إغراقه في البحر
فكر المغرور في حيلة أخرى، وكأنه ظن أن ملك الله رب الغلام لا يكون إلا في الأرض اليابسة، ففكر في قتله البحر، قال: (فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -سفينة- فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى).
فبنفس الوسيلة في محاولة إرجاع الغلام عن دينه بتطويل مدة الاستعداد للقتل، فتوسطوا البحر مع استمرار التهديد بأن يقذف في وسط الأمواج التي لا يمكن لأحد أن ينجو منها في ظنهم، ونرى هنا نفس الطمأنينة والسكون والتضرع إلى الله وحده لا شريك له، وحسن الظن به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، قال الغلام: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فتنقلب السفينة، ولحظات الغرق والضر في البحر يظهر فيها أيضاً العجز البشري كاملاً، يظهر فقر الإنسان وحاجته وضعفه، كما قال عز وجل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فكم هو عاجز وضعيف هذا الإنسان، ففي لحظات الضر في البحر لا سلطان للبشر، ولا أوامر للملوك، ولا قوة للرؤساء، فيغرق الله عز وجل من شاء، وينجي برحمته سبحانه وتعالى من شاء، فغرقت سفينة أصحاب الملك، وغرقوا جميعاً، والجزاء من جنس العمل، فأرادوا أن يغرقوا الغلام فغرقوا، ونجى الله الغلام، والحمد لله رب العالمين.
فرجع الغلام يمشي إلى الملك استكمالاً لدعوته، فازدادت دهشة ذلك الجاهل الغبي الذي لا يبصر أوضح الحقائق، فيسأله: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى.
(8/9)
الوسيلة الثالثة: إرشاد الغلام للملك على طريقة قتله إياه
قال صلى الله عليه وسلم: (ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
لقد وصلت حيل ذلك الملك إلى طريق مسدود، وفشل في تحقيق أي غرضٍ من أغراضه، فلا الغلام رجع عن دينه، ولا استطاع قتله، ولا حتى تركه الغلام حراً في مملكته وهرب بنفسه ويترك الدعوة، بل عاد ليستمر فيها، فبدأت صورة الملك تهتز، وظهر بوضوح عجزه عن إيقاف السيل الجارف بدعوة الإيمان، ومع هذا فلا يزال العناد مسيطراً على فكره، فهو يريد الوصول إلى قتل الغلام بأي صورة، فيقول له الغلام: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به) وهذا الخبر من جملة كرامات الغلام، فإنه خبر عن استمرار عجز الملك في المستقبل عن قتله إلا بفعل ما يأمره به، وهذا نوع من الكشف والإلهام.
وتأمل قول الغلام للملك: (حتى تفعل ما آمرك به)، فالغلام هو الذي يأمر، والملك هو الذي يسأل عن تفاصيل الأمر ليطبقه، أي إهانة له أكثر من ذلك، وأي بطلان لدعوى الربوبية أوضح من ذلك، فهو عاجز لا يقدر، وجاهل لا يعلم، ومأمور بأمر غيره لا يستطيع أن يأمر، ولو أمر بطل أمره، ولو نفذ أمر الغلام لنفذ الأمر.
وليس الأمر للملك قطعاً، وإنما الأمر لرب الغلام، وقول الغلام للملك: (ثم تصلبني على جذع) ليظهر للجميع الظلم الواقع على الغلام بدون جريمة ارتكبها، إلا أن يقول: ربي الله، وهذا بالتأكيد من أسباب ميل الناس إليه، وتعاطفهم معه ومع دعوته، فقد فطر الله العباد على كراهية الظالم وعداوته، والميل إلى المظلوم ومناصرته، فإذا أضيف إلى ذلك أنهم يعلمون عن المظلوم حبه الخير للناس، وحرصه على الإحسان إليهم، وجربوه من قبل في قضاء حوائجهم، وكونه كان دائماً مستشعراً لمشاكلهم، في حين غابت مشاكلهم عن الملك وحاشيته، بداية من الدابة التي قتلها الغلام، وانتهاء بأمراضهم المستعصية التي كان لا يستطيع أحد مداواتها، بل ولا يلتفت الملك ولا حاشيته إلى محاولة مداواتها، فلا شك أن هذه الأمور مجتمعة تجعل هذا الجمع كله يعلم الظلم الواقع على الغلام، فعندما يتساءلون: ما جريمته؟ ولماذا صلب على الجذع؟ فسوف يقال: لا شيء إلا أنه يقول: ربي الله.
فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله حريصين على ألا يكون لهم تهمة؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله، مع إحسانهم إلى الناس، وعليهم ألا يحزنوا من الظلم الواقع عليهم، فقد قدره الله لحكم عظيمة، منها: انتشار دينه، وقبول الناس له، كما أن الظلم سرعان ما يزول فيكون لهم الأجر الجزيل عند ربهم وإلههم.
وقول الغلام للملك: (ثم خذ سهماً من كنانتي) فيه مزيد من إظهار عجز الملك، وأنه ليس بيده الأمر، فلو أخذ الملك سهماً من كنانته لما استطاع أن يقتل الغلام حتى يأخذه من كنانة الغلام؛ ليعلم الناس أن الأمر أمر رب الغلام، وأن قتل الغلام كان بإرادة الله لا بإرادة الملك.
وفي أمره أن يقول: (باسم الله رب الغلام) إعلان بالعجز التام، والافتقار القهري الاضطراري إلى الله سبحانه، وهو افتقار لا ينفعه ولا يثاب عليه؛ لأن المطلوب شرعاً هو الافتقار والعبودية الاختيارية لا الاضطرارية، وفي نطق الملك أمام الجموع: باسم الله رب الغلام، أثر عظيم في وصول الدعوة إلى من رأى ومن لم ير، وإنما سمع، فمن رأى ازداد يقيناً بقدرة الله رب الغلام وعظمته ووحدانيته.
فإن قيل: كيف أرشد الغلام الملك إلى طريقة قتله وتركه يقتله مع قدرته على الفرار، مع أن الإرشاد إلى قتل مسلم أمر يكرهه الله ويحرمه؟
و
الجواب
أن هذا يظهر لنا قضية فقه الدعوة بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فقتل الداعي إلى الله مفسدة كبرى بلا شك، ولكن مصلحة وصول دعوة الحق إلى الناس ورؤيتهم أدلة صدقها مصلحة أرجح وأكبر من مفسدة قتل الداعي، وهذا الغلام لم يكن عليه أن يؤمن الناس، ولا بيده ولا بيد غيره دون الله القدرة على أن يؤمنوا، فإنما ذلك لله وحده، لكن الواجب أن يوصلوا دعوة الحق للناس، فمصلحة الدين مقدمة على مصلحة النفس، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فمن أجل ذلك جاز للغلام أن يدل الملك على طريقة قتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه القصة: فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل ظهور الدين؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به من أجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى.
والله أعلى وأعلم.
فإن قيل: ألم يكن الغلام يعلم أنه من المحتمل أن يقتل الملكُ الناسَ لو آمنوا، بل يغلب على ظنه ذلك، وهو يعلم عجز الناس عن الدفع عن أنفسهم، فهو بالتالي قد ألزمهم الصبر على القتل؟
و
الجواب
أن الموازنة هنا بين البقاء على الكفر مع الحياة، أو الدخول في الإسلام مع القتل، ولا شك أن الدين مقدم على النفس، فإذا علمنا أن كافراً لو أسلم قتله أهله وقومه حتماً لم يجز أن نترك دعوته إلى الإيمان؛ لئلا يقتل، بل يلزم أن ندعوه إلى الإيمان ويلزمه الدخول في الدين ولو قتل، وإن كان يمكنه أن يكتم إيمانه حفاظاً على نفسه جاز له ذلك ولم يلزم الإعلان، وأما في قصتنا هنا فالأمر يختلف، فالناس لم يؤمنوا كلهم بعد، فلو تركوا لبقوا على الكفر، ولو أسلموا غلب الظن على قتلهم، ولا توجد فرصة لتعليمهم الدين جميعاً مع أمرهم بالكتمان كما فعل الراهب، فليس هناك مخالفة لما ذكرنا، لذلك نقول: إن مصلحة الدين مقدمة في هذه الحالة، وليصبروا على ذلك.
(8/10)
نتيجة قتل الملك للغلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا بالله برب الغلام).
في غباء منقطع النظير، وحقد أعمى وعناد على الباطل، ربما لا يشبهه إلا غباء فرعون وحقده وعناده عندما اقتحم البحر الذي انفلق لموسى صلى الله عليه وسلم أمامه، فعل الملك ما أمره به الغلام، وحدث ما أراد الغلام، ظهر الحق عالياً بقوة الحجة والبيان، وبكرامة الله لأوليائه الصالحين، ومالت القلوب إلى فطرتها الأولى لتوحيد الله والكفر بالطاغوت، فآمن الناس بالله رب الغلام.
فذهب الغلام شهيداً، وليس بأول الشهداء ولا بآخرهم، فهو حي عند الله عز وجل، وحييت دعوته دعوة الحق والإيمان في قلوب الناس، وتحول الشعب الجاهل المنقاد بالباطل الذي قبله لمدة سنين طويلة إلى الإيمان بالله وحده، وما أعظم شرف الغلام ومكانته حين يعرف الناس ربهم وإلههم به، فيقولون: آمنا بالله رب الغلام، هو رب العالمين سبحانه، وذكروا هنا: رب الغلام؛ شرفاً لهذا الغلام، وكفى به شرفاً، كما قال سبحانه وتعالى عن قول السحرة: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، تشريفاً لموسى وهارون، فشرف عظيم لهذا الغلام أن يقال: آمنا بالله رب الغلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فأمة كاملة آمنت بسبب غلام، فيا لفرحة أستاذه ومربيه ذلك الراهب العابد الموحد الذي لقي الله قبله، ولم ير في حياته على الأرض ثمرة دعوته، فقد مات الراهب قبل أن يؤمن أحد إلا الغلام وجليس الملك وآحاد، ولم تكن البذرة التي زرعها قد أثمرت بعد، ومات قبل أن يرى الثمرة، يا لفرحته عند لقاء الله، وقد كان سبباً في إيمان أمة، فلا تيئسوا أيها المربون أبناءكم في الدعوة، فقادة الدعوة في المستقبل القريب ودعاتها وعلماؤها ومجاهدوها هم الآن أطفال وغلمان بين أيديكم، فعسى الله أن يجعل الفرج على يد أحد منهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد والله آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت - حفرت -، وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها - يعني: ترددت أن تقع في النار وهمت أن ترجع عن دينها- فقال لها الغلام - ابنها الصبي الصغير -: يا أمه! اصبري فإنك على الحق).
أي: رغم كل الآيات التي رآها الجميع لا يزال الطغيان يجد له أعواناً ينفذون له أوامره الكفرية، ولا يزال هناك من يرى الحق أوضح من شمس النهار، ثم يتجسس للملك ويخبره بأخبار الناس، وهو يعلم أنه إنما يحذر من الإيمان، وأن المشكلة من بدايتها كانت محاولة الصد عن سبيل الله: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك.
إذاً: فماذا كان يحذر منذ أن علم قصة جليس الملك؟ كان يحذر أن يؤمن الناس، وأن يعلموا ذلك، فعلموا ذلك ورأوا الآيات، لكن سبحان الله الذي طمس على القلوب إلى هذه الدرجة، ليس فقط قلب الملك، بل قلوب الحاشية والعوام الذين يرفعون التقارير إلى الملك عن انتشار الدين الحق في المملكة وفيها: لا بد من التصرف، أي: ليس إلا مزيداً من البطش والإجرام، وهو يتفنن في طرق التعذيب والقتل، وله فيه خبرة سابقة وتجربة ماضية، فيأمر بالأخاديد تحفر في أفواه الطرق، ويأمر بقتل المؤمنين لإيمانهم حرقاً بالنار طالما أبوا الردة والرجوع عن الإسلام، فوالله إن المرء ليتعجب من وجود الأعوان والجنود الذين ينفذون مثل هذه الأوامر، وهذا مثل فرعون حين وجد من يقتل له السحرة، ومن يقتحم خلفه البحر، وكما نجد في كل زمان مع ظهور الباطل وبطلانه للناس كافة، وظهور كذبه وظلمه ونفاقه وكفره، وظهور غشه للناس، وإتعابه لهم، وأنه إنما يريد الصد عن سبيل الله ويحذر من الإيمان والتوحيد أن ينتشر في الناس، ومع ذلك نجد له الجنود والأشياع؛ لنعلم أنه من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وأنه من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون.
ولنتأمل كيف قبل الناس الوقوع في النار وصبروا هم وأطفالهم ونساؤهم؛ لأنه قد تمكن الإيمان من قلوبهم، فأصبح إلقاؤهم في النار أحب إليهم من أن يرجعوا إلى الكفر، إنها حلاوة الإيمان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث دليل على أن المسلم لو خير بين أن يقتل ويقتل صبيانه معه على التوحيد، وبين أن يؤخذوا منه فينشئوا على الكفر، لكان الخيار الذي يلزمه هو أن يقتل هو وصبيانه؛ لأن الدين مقدم على النفس كما بينا، ولا يرضى بكفر أولاده الصغار ولو كانوا دون البلوغ ودون التكليف.
وفي قول الصبي الصغير لأمه: (يا أمه! اصبري؛ فإنك على الحق) بيان الفطرة السليمة التي فطر الله العباد عليها، ومنها: الصبر على الحق إلى لقاء الله سبحانه، والله أعلم هل كان هذا الصبي في مهده؟ فهذا الذي يظهر كما في بعض الروايات: أنه كان صبياً في المهد حين تكلم، وهذا هو الصحيح الظاهر.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، وذكر سياقاً آخر مختصراً وفيه: وخد أخدوداً من نار، وقال لهم الجبار وأوقفهم عليها: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه، فقالوا: هذه أحب إلينا، وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقال لهم آباؤهم: لا نار من بعد اليوم، ووقعوا فيها، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4].
ويشهد لهذا المعنى ما ذكرنا من الحديث: (إنه لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا قرصة كقرصة النملة).
نسأل الله أن يحيينا على الدين، وأن يميتنا عليه، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(8/11)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
القصص القرآني ياسر برهامي
فتية آمنوا بربهم [1]
ذكر الله في القرآن الكريم أحسن القصص وأجملها، حتى تكون شمعة مضيئة يهتدي بها أصحاب الحق، ومن هذه القصص: قصة أهل الكهف، الذين رأوا قومهم في ضلال وجهالة، يعبدون الأصنام ويكفرون بالله الواحد الديان، فعلموا بأن ذلك ظاهر البطلان، فاعتزلوهم وما يعبدون من دون الله، فكانت هذه بداية طريق الهداية والإيمان، فزادهم الله هدىً وحفظهم، ورعاهم من أن يعتدي عليهم قومهم، فصاروا قدوة وأسوة للمؤمنين في كل زمان ومكان.
(9/1)
وقفات مع قصة أصحاب الكهف
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: سنتناول اليوم قصة جديدة من قصص القرآن الكريم، وهي قصة أصحاب الكهف الفتية المؤمنين الذين ثبتوا على دينهم، ونجاهم الله سبحانه وتعالى ممن أراد ظلمهم، فكانت هذه القصة فيها العبرة، والأسوة الحسنة لعباد الله المؤمنين في الصبر والثبات على الدين، وبيان العاقبة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين المتقين، وأنه سبحانه وتعالى يهلك الظالمين، وأن انتصروا في وقت من الأوقات، وأوهمتهم شياطينهم وأنفسهم بأن لهم الملك والسلطان في الأرض يفعلون فيها ما يشاءون.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:9 - 26].
(9/2)
معنى الكهف والرقيم
قال ابن كثير رحمه الله في قول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطه بعد ذلك.
فقال: (أم حسبت) يعني: يا محمد! {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى -وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء- أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال العوفي عن ابن عباس {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، ذلك أن هناك ما هو أعجب، فشأنهم عجيب ولكن هناك ما هو أعجب منه، وهو ما جعل الله عز وجل من دلائل قدرته والمعجزات التي آتاها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما علمه من العلم.
أما الكهف: فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: وادٍ قريب من أيلة، وأيلة في بيت المقدس، وكذا قال عطية العوفي وقتادة، وقال الضحاك: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقيم: اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم: كتاب بنيانهم يعني: الكتاب الذي كتب على بنيانهم، وجعلت فيه أسماؤهم، وكتبت فيه قصتهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم، وقول مجاهد هذا هو أقرب إلى ظاهر اللغة؛ لأن الرقيم بمعنى المرقوم، مثل قتيل بمعنى: مقتول، فهو رقيم رقم، والرقم: هو النقش أو الكتابة، كل ذلك يسمى رقماً، فهو الكتاب الذي كتبت فيه قصة هؤلاء وأسماؤهم، وجعلوه على باب كهفهم والله أعلم.
وروى عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله (الرقيم) قال: كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس.
وعن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف: بنجلوس، واسم الكهف: حيزم، والكلب: حمران.
وهذا يعطينا فكرة عما ينشغل به أهل الكتاب، وما ينقل عنهم: ما اسم الكلب؟ ما لونه؟ ما اسم الكهف؟ ما اسم الوادي؟ والقرآن كما نعلم لم يذكر لنا شيئاً من ذلك؛ لأن المقصود: هو العظة والعبرة، وهذا قد ذكرناه مرات في الفرق بين قصص القرآن، وما يذكر الله عز وجل فيه، وبين قصص أهل الكتاب من الاهتمام بالأسماء، وألوان الحيوانات، وأنواع الأشجار؛ لتثبيت القصة في أذهان الناس والاهتمام بهذه التفاصيل؛ لأن الناس الذين يسمعونها يريدون أن يتسلوا بذكر هذه التفاصيل، وأما القرآن فلن يشغلنا بذلك والله أعلى وأعلم.
ولذا قال ابن عباس: يزعم كعب، وكان يزعم كعب أنها القرية، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً، والأواه، والرقيم، فوقف ابن عباس رضي الله عنه في هذه الرواية، وإسنادها صحيح.
وعن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب أم بنيان؟ وعن ابن عباس قال: الرقيم: الكتاب.
وهذه الرواية صرح فيها بما شك فيه في الروايات التي قبلها أنه كتاب أم بينان، وهذه أقرب إلى الظاهر والله أعلم، كأنه كان متوقفاً لا يعلم ثم إنه جزم بعد ذلك، ولذلك جزم مجاهد بهذا القول فهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنه قال: كتاب بنياتهم، وكأنه جمع بين ما شك فيه ابن عباس أنه كتاب أم بنيان؟ فقال: الكتاب الذي وضع على البنيان الذي بنو عليه الناس بعد معرفتهم بالقصة.
وقال سعيد بن جبير: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم: الكتاب، ثم قرأ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9].
قال ابن كثير: وهذا هو الظاهر، وهو من الآية، وهو اختيار ابن جرير قال: الرقيم: فعيل، بمعنى: مرقوم؛ كما يقال للمقتول قتيل، وللمجروح جريح، فالمعنى: مرقوم أصحاب الكهف، والمرقوم: الكتاب المرقوم، والرقيم: الكتاب المرقوم، والله أعلم.
(9/3)
حتمية الصراع بين الحق والباطل
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:9 - 10]، يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا عنه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10]، أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) قال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ)) أي: من رقدتهم تلك وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)) أي: المختلفين فيهم ((أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد أي: إذا استولى على الغاية، ثم إن الذين اختلفوا فيهم إنما اختلفوا في مدة لبثهم فذلك يدل على أنهم تناظروا فيهم بغير علم، وأن الأمر كان يجب تفويضه إلى الله سبحانه وتعالى حتى بين الله عز وجل كم لبثوا في كهفهم، وفي هذه الآيات من سورة الكهف أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً.
فهذه مقدمة لهذه القصة حتى نرى أن قصة أصحاب الكهف والرقيم آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي آية من آيات الله المسموعة التي تدلنا على مآل ونهاية هذا الصراع الذي يجري دائماً بين الحق والباطل على ظهر هذه الأرض، ولم يزل هذا الصراع قائماً، ولا بد أن يستوعب أهل الإيمان ذلك، فلا يظنوا أن سوف يأتي عليهم زمن يستريحون فيه من مغالبة الباطل وأهله، أو أنهم يتوقفون عن العمل على إظهار الدين والدعوة إليه، ومحاربة الشرك وأهله، وذلك أنها سنة الله سبحانه وتعالى الماضية، وأن الله خلق البشر لذلك، فخلق الجن والإنس ليوجد منهم الكفار الذين يحاربهم ويصارعهم ويقاومهم أهل الإيمان؛ لتظهر أنواع من العبودية يحبها الله سبحانه وتعالى، فهي من آيات الله سبحانه وتعالى فيها القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة لعباد الله المؤمنين في صبرهم على دينهم، والقصة من القصص التي تبين بداية التسلط دائماً من الكفرة والظلمة والمجرمين، وكأن هذا عند التأمل هو الوضع أو الحال الأصلي الذي تستمر عليه قصص القرآن، وفي هذا البشارة لعباد الله المؤمنين بما يئول إليه أمرهم، وبما يحفظهم الله سبحانه وتعالى بآياته العجيبة التي إذا تأملها المتأمل علم عظيم سلطان الله سبحانه وتعالى وقدرته.
ولو تأمل المتأمل فيما يراه كل يوم من آيات الله في السموات والأرض لأيقن بعظمة الله وملكه للملك، وأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وأنه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وهذا لوحده دليل على أن ما يفعله في هذا الصراع الذي يجري في كل زمان بين المؤمنين والكافرين نهايته معلومة بإذن الله تبارك وتعالى.
(9/4)
وجوب الهجرة من أرض السوء فراراً بالدين
وهو سبحانه وتعالى يحفظ عباده المؤمنين بآيات من عنده عز وجل، قال تعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ))، وكونهم أووا يدل على أنهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر أمر عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فعليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكانٍ في الأرض، وهذه هي وظيفته، فإن تيسر له ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه فبها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، والمهم تحقيق العبودية.
فلقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهاليهم، وضحوا بقرابتهم وبوضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه، كما عرف مما ذكره المفسرون: أنهم كانوا من أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل من كان كذلك، والله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يقدموا حبه، وطاعته عز وجل على كل شيء؛ كما قال عز وجل {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فقضية العبودية هي أعظم قضيه يجب أن يحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيق العبودية في أرض ما، ووجد سعة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل إلى أرض الله، والمؤمن عبد الله يعبده عز وجل في أي مكان من الأرض تيسرت فيه هذه العبادة، ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم من أحب بلاد الله إلى الله وإليه إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يحببها إليهم كحبهم لمكة وأشد، وذلك لإقامة الدين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فراراً بدينه إلى مدين مدة من الزمن مع أنه ولد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك ببني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليقيم الجهاد، فأبى عليه بنو إسرائيل، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم انتقلوا من أرض هجرتهم من المدينة إلى الأمصار ليجاهدوا في سبيل الله، وليبلغوا دين الله.
والمقصود: تحقيق العبودية على أي صورةٍ، وعلى جميع أنواعها، فأوى الفتية إلى الكهف لأنهم عجزوا عن إقامة الدين في أرضهم، ومن عجز عن إقامة الدين في أرض ما وجب عليه أن يهاجر، وهذا الأمر أمر ثابت في كل زمان ومكان طالما وجد بهذه الصفة، فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض، وذلك أن من ولد في أرض يظهر فيها الكفر، والضلال والعصيان، وقدر على الانتقال منها إلى أرض الإسلام التي يظهر فيها الحق، ويعبد فيها الرب سبحانه وتعالى، ففرضاً عليه ذلك، وكونهم أووا إلى الكهف يدل على أنهم كانوا يريدون مكاناً يؤويهم في بلدهم، وذلك فيه من التعزية لعباده المؤمنين إذا شعروا بالمطاردة، وإذا شعروا لكونهم غير مرغوب فيهم، وأنهم لا يجدون مكاناً يطمئنون فيه فقد سبقهم إلى ذلك هؤلاء الفتية، وصبروا على ما أصابهم في ذلك.
ولقد منَّ الله عز وجل على عباده المؤمنين، وذكرهم بنعمه عليهم في إيوائهم فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، ولا شك أنه لا يعرف قدر نعمة الإيواء إلى مكان آمن إلا من علم خطر الخوف الذي يصيب المؤمن في أرض هو فيها مستضعف، ومع كونه أمراً مؤلماً إلا أن الله سبحانه وتعالى يجعل فيه الثواب العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، وذلك دليل على فضيلة الصبر على هذا الخوف، وعلى ذلك الإيذاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر فضائله لنعلمها، وأنه أوذي في الله عز وجل وما يؤذى أحد؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أول ما أعلم بالدين هناك آذاه المشركون قبل أن يستجاب له من الضعفاء، فآذوهم أشد الإيذاء، وكذا قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، وما يُخوف أحد، وذلك دليل على فضل الصبر على ذلك، وأوى: تدلنا على أنهم خافوا، ولم يجدوا من يؤويهم إلى الله سبحانه وتعالى، فآواهم الله عز وجل إلى ذلك الكهف.
(9/5)
أهمية دور الشباب في نصرة هذا الدين
وقوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، فهم فتية شبان كما سيأتي بيانهم إن شاء الله قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]: من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها فذكر تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً.
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني: الحلق، حيث كانوا صبياناً أو شباباً في أول نشأتهم، وكان من عادتهم في ذلك الزمان أن صغار السن يجعلون الحلق في آذانهم كالنساء.
فيقول: فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم أي: اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)).
الغرض المقصود من هذه الكلمة: أنهم فتية شباب، وهذا يدلنا على أهمية دور الشباب، وأن الشباب هم وقود هذه الدعوة، وليسوا يحترقون ليتقدم، وإنما يستضيئون بضوئها؛ لكي تستمر وهم يسيرون بها بإذن الله تبارك وتعالى، وهم المحركون دائماً للدعوة، والجهاد والبذل، والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثرهم شباباً، ويوم بعاث كان يوماً قدمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك اليوم الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج حتى فني أكثر شيوخ القبيلتين الذين ماتوا على الشرك والله تعالى أعلى وأعلم؛ لأنهم لو بقوا لكان الموقف نفس موقف مشايخ قريش، ومثل موقف من بقي من هؤلاء المشايخ؛ كـ عبد الله بن أبي بن سلول الذي صار رأساً للنفاق حقداً وحسداً؛ لأنه كان يريد أن يتوج، فصارت الرئاسة والإمامة في الأوس والخزرج للشباب الذين سرعان ما استجابوا بفضل الله سبحانه وتعالى لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين قاموا بواجب الدعوة إلى الله، وبواجب الجهاد، وهذا أمر ملحوظ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد رغب في من نشأ في عبادة الله شاباً وقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله)، ففترة الشباب فترة عظيمة الخطر فإما الانحراف وإما الاهتداء، وزيادة الهدى من الله سبحانه وتعالى، وقبول الدعوة فيها عظيم، كما أن الانحراف فيها كذلك خطير، فلذلك لا بد من الاهتمام بالشباب، ولا بد أن يهتم الشباب بأنفسهم، ويعلموا القدوة الحسنة من الشباب، فاليوم ينبغي أن يكون هؤلاء الفتية هم قدوتهم، ومن كانوا على الإيمان مثلهم من أصحاب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال الله عز وجل عن موسى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، فما آمن من المسلمين في زمن موسى إلا ذرية قلة من الشباب الذين آمنوا من أهل مصر، فآمنوا بموسى صلى الله عليه وسلم على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، والذي يظهر أن عامة بني إسرائيل آمنوا، لكن هل الذين آمنوا من أهل مصر كانوا من الشباب؟ ولذلك نقول: يجب أن تكون الأسوة لشبابنا دائماً هم هؤلاء المؤمنون الذين ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى، أما أن يكون الأسوة للشباب هم الفسقة والفجرة، وأصحاب المناصب والأموال، وأسوأ من ذلك المغنين والممثلين ولاعبي الكرة وغير ذلك فهذا مما تربأ به نفوس من هيأهم الله سبحانه وتعالى للمنازل العالية، فيربئوا بأنفسهم أن يرعوا مع الهمل والعياذ بالله! فأقبح شيء أن يكون هم الإنسان هذا الحطام الفاني، وأن تكون قدوته في الحياة من جمع هذا الحطام الفاني.
(9/6)
التضحية من أجل دين الله
والله عز وجل إنما ذكر وصف أهل الكهف بالفتية ليكونوا أسوة حسنة للشباب على الدوام في الثبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، وإن خالفهم من خالفهم، قال الله عز وجل: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، تركوا القصور والبيوت المهيأة وأووا إلى الكهف الذي لم يتعودوا أن يعيشوا فيه، ومع ذلك رجوا في هذا الكهف الرحمة والرشد؛ لأن العادات والمساكن المرضية، والمطعم الهنيء، والملابس النظيفة، ومكان النوم المهيأ كل ذلك لا يأسر العبد المؤمن، فتحملوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصور وبيوت مهيأة، وكانوا في مدينة، وربما تحتاج مرة أن تعيش في بيئة غير التي نشأت فيها، وفي مسكن غير الذي تعودت عليه، وفي فراش غير الذي تنام عليه لتعلم مدى الفرق بين أن يعيش الإنسان في بيت أو قصر وبين أن يبيت في كهف، ومع ذلك لم يعبئوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم، ما الذي يهون على الإنسان أن ينال طعاماً دون طعام، ولباساً دون لباس؟! كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام معدودة.
والدنيا هي أيام قليلة يمكن أن يكون للإنسان فيها طعام أقل من طعام غيره، ولباس أقل من لباس غيره؛ لكنه سوف يأخذ رزقه الذي قدره الله سبحانه وتعالى له، فما الذي يجعل الإنسان يقبل ذلك ولا يلتفت إليه؟ إنه اهتمامه بما هو أعظم وأخطر وهو أن ينال الرحمة والهداية والرشد من الله سبحانه وتعالى.
وأن يسعى في مرضات الله، وعندها يهون عليه أن يفارق القصور فضلاً عن البيوت الضيقة، وفضلاً عن الحال الذي هو في الحقيقة نوع من الضيق والكرب، والله سبحانه وتعالى إنما رغب المؤمنين في طلب الآخرة لكي لا تشغلهم الدنيا، وأما اليوم فإننا نجد أكثر الناس يقتتلون على البيوت الضيقة، ويقتتلون على المعيشة الضنكة، ويتحاسدون على أدنى أنواع اللذات والعياذ بالله! ووالله إن لذاتهم لا تساوي شيئاً عند أهل الشهوات والملذات، فإذا بالناس يحسد بعضهم بعضاً، ويقتتل بعضهم مع بعض، ويكيد بعضهم لبعض على أتفه الأمور، وإن كان أهل الأموال والدنيا هم الذين ساقوا الناس إلى هذه الغايات، وألهوهم بوسائل الإفساد عن التفكير فيما هو أهم وأعظم من أمر الآخرة، فهذا الذي دفع الناس إلا أن يتوبوا، وهم حريصون على ذلك الضنك لا يستطيعون التضحية بشيء منه على الإطلاق، فقد تكون المعيشة الضنكة من أسباب تضحيته، أما أن تجد إنساناً يعيش في ضيق وغم، وكرب وفقر، ومع ذلك لا يريد التضحية بشيء فهذا أمر عجيب! يعني: أنه يريد البقاء في المسكن الضيق الذي يعيش فيه، وإن انتقل إلى غيره لم يكن فرقاً بين مسكنٍ ضيق وبين كهف في جبل، ومع ذلك فالهمم الوضيعة هي التي جعلت الإنسان لا يريد التضحية بشيء ولا حول ولا قوة إلا بالله!
(9/7)
طلب الفتية الرحمة من الله والثبات على هذا الدين
هؤلاء الفتية ضحوا بمنازلهم المرفهة، وبوضعهم الذي كانوا فيه، وكانوا من أهل غنى كما سيذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسرين، فقد كانوا أهل سعة ومع ذلك صاروا إلى كهف، فليكن ذلك أيضاً أسوة الشباب إذا ضاق بهم أمر في سبيل الله، وإذا حصل لهم ما قد يضيق به كثير من الناس فلا بد من التحمل والصبر والاحتساب، والذي يعينك على ذلك أن ترجو الرحمة والرشد، وأن تدعو الله سبحانه وتعالى ألا يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغ العلم، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فالرحمة من الله عز وجل لتطلب: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة بأن يستر عليهم ويحفظهم، وأن ينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء وهم أرادوا الفرار بدينهم؛ ليثبتوا على ذلك الدين الذي هو أحب إليهم من كل شيء يريدون الثبات عليه، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله، فالله هو خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى.
وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه ويريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، وكما ذكرنا أن الرحمة المطلوبة في هذا الموضع: هي ستر الله عز وجل عليهم، ونجاتهم ممن يريدهم ليفتنهم عن دينهم، وليصرفهم عن هذا الدين، فأنت إذا ثبت على الدين كنت في رحمة من الله عز وجل، وتطلب منه المزيد: بأن يؤتيك الله عز وجل مزيداً من التوفيق والثبات: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان عنده مواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته يتخذ فيها قرارات، ويسير من خلالها يميناً أو شمالاً، فإما أن يستجيب لداعي الضلال الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد فيتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً، فهناك لحظات في تاريخ الإنسان لابد أن يستخرج فيها قراراً حازماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، ويترك ذلك الدين؛ لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين، وهكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بالدين وثباتاً عليه، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سيصنعون بعد ذلك؟! وإلى أين سيذهبون؟ فهم لا يعلمون، بل يطلبون من الله أن يهيئ لهم من أمرهم رشداًً، فإنما يريدون الثبات على الدين، ولا يأبهون بعملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يعلمها، فإنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، وقد كان، وهداه الله عز وجل سواء السبيل.
كذلك كان هؤلاء الفتية، فقد ثبتهم الله، وستر عن الظالمين حقيقتهم، وحفظهم سبحانه وتعالى، وثبتهم على الدين، وأرشدهم إلى ما صاروا إليه لقرارهم في ثباتهم على دينهم، وصاروا في هذه المنزلة الرفيعة حيث ذكرهم الله عز وجل في كتابه الذي يتلى إلى يوم القيامة، وصاروا ممدوحين للمؤمنين عبر العصور، يمدحه