Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 27 فبراير 2023

ج5وج6.كتاب زهر الأداب وثمر الألباب أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

 

ج5وج6.كتاب زهر الأداب وثمر الألباب

 أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

ولما قضَتْ حق العراق وأهله . . . أتاها من الريح الشمال بَرِيدها
فَمرَّتْ تفوتُ الطيرَ سَبْقاً . . . كأنها جنودُ عبيد الله وَلَتْ بُنُودها
يريد انصراف أصحاب عبيد الله بن خاقان عن الجعفري إلى سُرّ من رأى عند قتل المتوكل . وقد أخذ هذا التشبيه معكوساً من قول أبي العتاهية : الوافر :
ورايات يَحُل النصرُ فيها . . . تَمُرُّ كأنها قِطَعُ السحابِ
وقال ديك الجنّ : الخفيف :
وغريرٍ يقضي بحكمين : في الرا . . . ح بجور ، وفي الهوى بمحالِ
للنَّقا رِدْفُه ، وللخُوط ما . . . حُمِّل ليناً ، وجِيدُه للغزالِ
فَعَلَتْ مُقْلَتاه بالصّبِّ ما تَفْ . . . عَلُ جَدْوَى يَدَيْك بالأموالِ
ومن بارع الخروج قول المتنبي : البسيط :
مرّتْ بِنَا بَيْن تِرْبَيْهَا فقلت لها . . . من أين جانَسَ هذا الشادِنُ العَرَبَا
فاستضحكتْ ثم قالت كالمغيث يُرَى . . . لَيْثَ الشَرَى وهو من عِجْلٍ إذا انتسبا
واشتهار شعره ، يمنعني من ذكره .
افتتاح القصائد بالغزل
قال ابن قتيبة : سمعت بعضَ أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ بوصف الديار والدِّمَنِ والآثار ؛ فبكى وشكا ، وخاطَبَ الربع ، واستوقف الرفيق ؛ ليجعلَ ذلك سبباً لذكْر أهله الظاعنين ، إذ كانت نازلةُ العمد في الحلول والطعن على خلاف ما عليه نازلة ، المَدَرِ ؛ لانتقالهم من ماء إلى ماء ، وانتجاعهم الكَلأ ، وتتبُّعهم مساقِطَ الغيث حيثُ كان ؛ ثم وصل ذلك بالنسيب ، فبكى شدَة الوجد ، وألم الصبابة والشوق ؛ ليُمِيلَ نحوه القلوب ، ويَصْرِف إليه الوجوه ، ويستدعي إصغاءَ الأسماع ، لأن النسيب قريبٌ من النفوس ، لائطبالقلوب ، لما جعل الله تعالى في تركيب العباد من محبَّةِ الغزل ، وإلف النساء ، فليس أحدٌ يخلو من أن يكونَ متعلّقاً منه بسبب ، وضارباً فيه بسهم ، حلال أو حرام . فإذا استوثق من الإصغاء إليه ، والاستماع له ، عَقَّب بإيجاب الحقوق ؛ فرحل في شعره ، وشكا النَصَبَ والسهر ، وسُرَى الليل وحر الهجير ، وإنضاء الراحلة والبعير ، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرجاء وذِمام التأميل ، وقرّر عنده ما ناله من المكارِه في المسير ، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة ، وفَضَّله على الأشباه ، وصغّر في قدره الجزيلَ ، وهزّه لفعل الجميل ؛ فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب ، وعدل بين هذه الأقسام ، فلم يجعل واحداً أغلب على الشعر ، ولم يطل فيُمِلّ السامعين ، ولم يقطع وفي النفوس ظمأ إلى المزيد .
بين أبي تمام والبحتري
ويتعلّق بهذه القطعة ما حدَّث به الحاتمي عن نفسه ، وإن كانت الحكاية طويلة فهي غيرُ مملولة ؛ لما لبسَتْه من حُلَل الآداب ، وتزيّنتْ به من حُلى الألباب ، قال : جمعني ورجلاً من مشايخ البصرة ممن يُومَأ إليه في علم الشعر مجلسُ بعضِ الرؤساء ، وكان خبره قد سبق إليّ في عصبيّته للبحتري ، وتفضيله إياه على أبي تمام ، ووجدت صاحبَ المجلس مؤثراً لاستماع كلامِنا في هذا المعنى ، فأنشأتُ قولاً أنحيْتُ فيه على البحتري إنحاءً أسرفْتُ فيه ، واقتدحْتُ زِنادَ الرجل ، فتكلّم وتكلّمْتُ ، وخُضْنَا في أفانين من التفضل والمماثلة ، غلوتُ في جميعها غلواً شهده جميع من حضر المجلس ، وكانوا جُمّة الوقت ، وأعيان الفضل ، فاضطر إلى أن قال : ما يحسن أبو تمام يبتدئ ، ولا يخرج ، ولا يختم ، ولو لم يكن للبحتري عليه من الفضل إلا حسن ابتداءاته ، ولطفُ خروجه ، وسرعة انتهائه ، لوجب أن يقَع التسليم له ، فكيف بأوَابده التي تزدادُ على التكرار غَضَارة وجدة ، ثم أقبل عليّ ، فقال : أين يُذهب بك عن ابتدائه : الكامل :
عارضنا أُصُلاً فقلْنا الرَّبربُ . . . حتى أضاء الأقحوان الأشنبُ
واخضرَّ مَوْشيُّ البرودِ وقد بَدَا . . . منهنّ ديباجُ الخدودِ المُذهَبُ
وأنىّ لأبي تمام مثل خروجه حيث يقول : الطويل :أدارَهُمُ الأولى بدارة جُلجل . . . سقاكِ الحيَا رَوْحاته وبواكرُهْ
وجاءك يحكي يوسف بن محمد . . . فروّتْك رَيّاهُ وجَادَك ماطِرُهْ
وقد كرر هذا وزاد فيه فقال : البسيط :
تنصّب البرقُ مختالاً فقلت له . . . لو جُدْتَ جودَ بني يَزْدان لم تَزِد
ومن ذا الذي لَطُف لأن يخرج من وصف روض إلى مدح ، فقال أحسن من أقوله : الطويل :
كأنَّ سناها بالعشيِّ لصَحْبها . . . تبلُج عيسى حين يَلْفظُ بالوَعْدِ
وأنَّى لأبي تمام مثلُ حسن انتهائه حيث يقول : الطويل :
إليك القوافي نازعاتٍ شوارداً . . . يُسيَّر ضَاحِي وَشْيها ويُنَممُ
ومشرقةً في النظم غُرًّا يزيدُها . . . بهاءً وحسناً أنها لك تُنظمُ
وقوله في هذا المعنى : الطويل :
ألست المُوالِي فيك نَظْمَ قصَائدٍ . . . هي الأنجم اقتادتْ مع الليل أنجُمَا
ثناء تَخَالُ الروضَ فيه منوّراً . . . ضحًى ، وتخالُ الوَشْي فيه مُنَمْنَما
ولقد تقدم البحتري الناسَ كلهم في قوله : الكامل :
لو أنّ مشتاقاً تكلّف فوق ما . . . في وُسْعِهِ لسعى إليك المنبرُ قال أبو علي : وكنت ساكناً إلى أن استتمّ كلامه ، فكأن الجماعة أعجبهم ذلك ، عصبيةً عليّ لا عَلَى أبي تمام ؛ لأني كنت كالشَجَى معترضاً في لهوَاتهم ، وأَسرَّ كلَّ واحد منهم إلى صاحبه سرّاً يومئ به إلى استيلاء الرجل عليّ ؛ فلمّا استتمّ كلامه وبرقت له بارقةُ طمع في تسليمي له ابتدأت فقلت : لست ممن يُقَعْقَعُ له بالشَنَان ، ولا يُقْرَع له بالعصا ، لا إلهَ إلا الله استنَّت الفصالُ حتى القَرْعَى هل هذه المعاني إلا عُون مُفْتَرعة ، قد تقدم أبو تمام إلى سبْك نُضَارها ، وافتضاض أبكارها ، وجرى البحتري على وتيرته في انتزاع أمثالها وأتباعها ، فأمّا قوله : عارضْنَنَا أصلاً فقلنا الربوب ، فمن قول أبي جُوَيْرَية العبدي : الكامل :
سلّمن نحوي للوداع بمقلة . . . فكأنما نظرت إلينا الربربوقرأن بالحدَقِ المِرَاض تحية . . . كادت تكلمنا وإن لم تُعرِب
وأما قوله في صفة الغيث مخاطباً للدار : وجاءك يحكي يوسف بن محمد ، وقوله في هذا المَعْنَى : لوجدت جود بني يزدان لم تزد فمن قول أبي تمام : الكامل :
ولنُؤْيها في القلب نُؤيٌ شفهُ . . . وَلَهٌ بظَاعِنها وبالمتخلّفِ
وكأنما استسقى لهن محمد . . . من سومهنّ من الحَيا في زُخْرفِ
ومن قوله الذي تقدم فيه كلّ أحد لفظاً رشيقاً ومعنى رقيقاً : الوافر :
ديمة سَمْحةُ القياد سَكُوبُ . . . مستغيثٌ لها الثرَى المكروبُ
لو سعَتْ بقعة لإعْظَامِ نُعمى . . . لسعَى نحوها المكانُ الجديبُ
ومن هنا أخذ البحتري : لسعى إليك المنبر : الوافر :
أيها الغيثُ ، حَيِّ أهلاً بمغْدا . . . ك وعند السرى وحين تؤوبُ
لأبي جعفرٍ خلائقُ تَحْكي . . . هن قد يشبه النجيبَ النجيبُ
أنت فينا في ذا الأوان غريبٌ . . . وَهْوَ فينا في كلِّ وقتٍ غريبُ
وأما قوله : الطويل :
كأنَ سناها بالعشي لصحبها . . . تبَلُّجُ عيسى حين يلفظ بالوَعدِ
فإنما نظر فيه إلى قول دِعْبِل بن علي : المتقارب :
ومَيْثَاءَ خضراءَ زُربِيَّة . . . بها النَّوْر يلمَع في كل فن
ضحوكاً إذا لاعبَتْه الرياح . . . تأَوَّد كالشاربِ المرجَحِنْ
فشبّه صحبي سنا نَوْرِها . . . بديباج كسرى وعَصْبِ اليمنْ
فقلت : بَعُدتم ، ولكنني . . . أشبهه بجناب الحَسَن
فتى لا يرى المال إلا العطاءَ . . . ولا الكنز إلا اعتقادَ المِنَنْ
وأما قوله في صفة الغواني : يسَير ضاحي وَشْيها وينمنم وقوله في وصفها : وتخال الوشي فيه منمنماً فمن قول أبي تمام : الكامل :حلوا بها عُقَدَ النسيب ، ونَمْنَمُوا . . . من وَشْيها نشْراً لها وقَصِيدا
ومن قوله الذي أبدع فيه : الطويل :
وواللهِ لا أَنفكّ أُهدِي شوارداً . . . إليكَ تحملنَ الثناءَ المنخَّلاَ
تخالُ به بُرْداً عليك محبَّراً . . . وتحسبه عقداً عليك مفصَّلا
ألذَّ من السَلْوَى وأَطيبَ نفحةً . . . من المسك مفتوقاً وَأَيسرَ مَحْملا
أخف على قلبي وأثقلَ قيْمةً . . . وأقصرَ في قلبِ الجليس وأطْولاَ
وقول البحتري : هي الأنجم اقتادَتْ مع الليل أنجماً مأخوذ من قول أبي تمام مقصراً عنه كل تقصير عن استيفاء إحسانه حيث يقول : الطويل :
أصِخْ تستَمعْ حُرَّ القوافِي ؛ فإنها . . . كواكبُ إلا أنهنّ سُعُودُ
ولا تمكن الإخلاقَ منها فإنما . . . يلدُ لباسُ البُرْدِ وهْو جديدُ
فهذه خصال صاحبك فيما عددتَه من محاسنه التي هتكت بها ستور عَوَاره ، ونَشَرْت مطوي أسرارِه ، حتى استوضحت الجماعة أنَّ إحسانَه فيها عارية مرتجعة ، ووديعة منتزَعة ، فاسمع ما قال أبو تمام في نحو أبياتِك التي أوجبتِ الفضلَ لصاحبك حين قال مبتدئاً : الكامل :
لا أنتَ أنتَ ، ولا الديارُ ديارُ . . . خف الهوَى ، وتفضَّت الأوطارُ
كانت مجاورةُ الطلولِ وأهلها . . . زمناً عِذَابَ الوِرْدِ فهي بحارُ
وقوله : الكامل :
رفَّت حَوَاشِي الدهر فهي تمرمَرُ . . . وغدا الثرَى في حَلْيِه يتكسرُ
وقوله : الكامل : أرأَيت أَي سوالفٍ وخُدودِ . . . عَنَّتْ لنا بين اللوى وزَرودِوهل يستطيعُ أحدٌ أن يبتدئ بمثل ابتدائه : الكامل :
طللَ الجميع لقد عَفَوْتَ حميداً . . . وكفى على رُزْئي بذاك شهيدَا
دِمَنٌ كأنَّ البينَ أصبحَ طالباً . . . دمناً لدى آرامِها وحقودا
أو مثل قوله مبتدئاً : الكامل :
يا دارُ ، درَّ عليك إرهامُ الندى . . . واهتزَّ روضُك للثرى فترءَّدَا
وكسيتِ من خِلع الحيا مستَأسداً . . . أنفاً يغادرُ وحْشَهُ مستأسدَا
أو مثل قوله مبتدئاً : الطويل :
غدَتْ تستجيرُ الدمعَ خوف نَوَى غَد . . . وعاد قَتاداً عندها كلُّ مَرْقَدِ
فأذْرَى لها الإشفاقُ دمعاً مورّداً . . . من الدم يجري فوق خدِّ مورَدِ
ولقد أحسن حين ابتدأ فقال : الوافر :
نَوارٌ في صواحبها نَوارُ . . . كما فاجاك سِرْبٌ أو صُوارُ
تكذَّبَ حاسدٌ فنأَتْ قلوبٌ . . . أطاعَتْ واشياً ونأَتْ دِيارُ
وحيث يقول : الكامل :
ما في وقوفك ساعةً مِنْ بَاسِ . . . تَقْضِي ذِمامَ الأَربُعِ الأَدْرَاسِ
فلعلَّ عينَكَ أَنْ تجودَ بدَمْعِها . . . والدمعُ منه خاذِلٌ ومُواسِيوحيث يقول : الخفيف :
ما عَهِدْنا كذا نَحِيبَ المشُوقِ . . . كيف والدمعُ آيةُ المعشوقِ
وحيث يقول : الكامل :
دِمَنٌ ألمَّ بها فقال : سلامُ ، . . . كم حلَّ عقدةَ صَبْرِه الإلمامُ ؟
نحرت ركابُ الركب حتى يعبُرُوا . . . رجلاً ، وقد عنفوا عليَّ ولامُوا
وحيث يقول : البسيط :
أمَّا الرسوم فقد أَذْكَرْن ما سلفا . . . فلا تكفّنَّ عن شانيك أَوْ يَكِفَا
لا عذرَ للصبِّ أن يَقْنَى السّلوَ ولا . . . للدمع بعد مضيّ الحيّ أنْ يَقِفا
ومن اقتضاباته البعيدة قوله : الطويل :
لهانَ علينا أن نَقُولَ وتَفْعَلا . . . ونذكرَ بعضَ الفضلِ منكَ فتُفضلا
وقوله أيضاً مقتضباً الكامل :
الحقُّ أَبْلجُ والسيوفُ عَوارِي . . . فحذارِ من أَسد العَرِين حَذَارِ
ومما تقدّم فيه كلَّ واحدةٍ في حسنِ التخلص إلى المدح قوله : البسيط :
إساءةَ الحادثاتِ استنبطي نفقاً . . . فقد أظلك إحسانُ ابنِ حَسّانِ
وقوله : الطويل :
إذا العيسُ لاقَتْ بي أبا دُلَفٍ فقد . . . تَقَطّعَ ما بيني وبين النوائبِ
وقوله : البسيط :
لم يجتمعْ قطُ في مصرٍ ولا طرفٍ . . . محمدُ بنُ أبي مروانَ والنُوبُوقوله المنقطع دونه كل قول في هذا المعنى : الكامل :
إنّ الذي خلق الخلائق قاتَها . . . أقواتَها لتصرُّفِ الأَحْرَاس
فالأرضُ معروفُ السماء قرًى لها . . . وبنو الرجاء لهم بنو العباسِ
القوم ظل الله أسكن دينَهُ . . . فيهم ، وهم جَبَلُ الملوكِ الراسي
وقوله : الكامل :
عَامِي وعامُ العِيس بين وَدِيقَةٍ . . . مَسْحورةٍ وتنوفةٍ صيهودِ
حتى أغادِرَ كلَّ يوم بالفلا . . . للطير عيداً من بناتِ العيد
هيهات منها روضةٌ محمودةٌ . . . حتى تناخَ بأحمدَ المحمود
بمعرَّس العرب الذي وَجَدَتْ بهِ . . . أَمْنَ المرُوع ونجدةَ المنْجُودِ
ومن أبدع ابتدائه قوله : الكامل :
سَقى ديارَهمُ أَجشُّ هزيمُ . . . وغدَتْ عليهم نَضرَةٌ ونعيم
جادَتْ معاهدَهم عِهَادُ سحابةٍ . . . ما عهْدُها عند الديارِ ذَميمُ
ثم تخلص إلى المدح فقال وأحسن كل الإحسان :
لا والذي هو عالمٌ أنَّ النَّوَى . . . مُرّ وأن أبا الحسين كريم
ما زلتُ عن سَنَنِ الوداد ولا غَدَتْ . . . نفسي على إلفٍ سِوَاك تحومُ
ثم عاد إلى المدح ، فقال :
لمحمدِ بن الهيثمِ بن شبابةٍ . . . مجدٌ إلى حيثُ السماك مقيم
ملكٌ إذا نُسِبَ النَدَى من ملتقى . . . طَرَفَيْه فهو أخ له وحَميموأبو تمام الذي وصف القوافي بما لم يستطع وصفَها به أحد فقال : الطويل : فإنْ أنا لم يحمدكَ عنيَ صاغراً . . . عدوُك فاعلمْ أنني غيرُ حَامِدِ
بسياحَةٍ تنساقُ من غير سائقٍ . . . وتنقادُ في الآفاق من غير قائدِ
محبّبة ما إنْ تزالُ تَرَى لها . . . إلى كل أفق واحداً غَيرَ وافدِ
مخلقة لمَّا تردْ أذنَ سَامعٍ . . . فتصدرُ إلا عن يمينٍ وشاهدِ
والذي قال أيضاً في صفتها : الكامل :
جاءتْكَ من نَظْمِ اللسان قِلاَدةٌ . . . سِمْطَانِ فيها اللؤلؤُ المكنونُ
إنسيةٌ وحشيةٌ كثرَتْ بها . . . حركاتُ أهل الأرض وَهْيَ سكُونُ
حَذِيَتْ حذَاءَ الحَضْرَميّهِ أرهفت . . . وأجادَها التَخْصِير والتلْسِين
ينبوعُها خَضِلٌ ، وحَلْيُ قريضها . . . حَلْيُ الهُدى ، ونسيجُها مَوْضُون
أَحْذَاكها صَنَعُ الضمير يمدُهُ . . . حَسَبٌ إذا نضَب الكلامُ مَعِينُ
أما المعاني فهي أبكارٌ إذا . . . نُصَّتْ ، ولكن القوافيَ عُونُ
وقد أبدع في وصفها فقال : الكامل :
لم أُبْقِ حلية منطق إلا وقدْ . . . سبقتْ سوابقها إليكَ جِيَادي
أبقينَ في أعناقِ جُودِك جَوْهَراً . . . أبْقى من الأطواق في الأجيادِهل يستطيع أحدٌ أن ينسب هذا أو شيئاً منه إلى السَّرَق والاحتذاء ؟ وهل يستطيع مماثلته بشيء من شعر البحتري ، أو أشعار المحدثين في عصره ومن قبله ؟ فعَيَّ عن الجواب قصوراً ، وأحجم عن المساجلة تقصيراً ، وحكمت الجماعة لي بالقَهْر ، وعليه بالنصر ، ولم ينصرف عن المجلس حتى اعترف بتقديم أبي تمام في صنعة البديع واختراع المعاني على جميع المحدَثين . وكان يوماً مشهوداً .
حول الغناء
وقال ثُمَامة بن أشرس : كنتُ عند المأمون يوماً ، فاستأذن الغلام لعُمَيْر المأموني فكرهت ذلك ، ورأى المأمون الكراهية في وجهي ، فقال : يا ثمامة ، ما بك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، إذا غنَانا عمير ذكرت مواطن الإبل ، وكُثْبَان الرمل ، وإذا غنتْنا فلانة انبسط أَملي ، وقوي جَذلي ، وانشرح صَدْري ، وذكرت الجِنان والولدان ، كم بين أن تغنيك جارية غادة كأنها غصن بَان ، ترنو بمقلة وَسْنَان ، كأنما خلقتْ من ياقوتة ، أو خرطت من فضة ، بشعر عكاشة العميّ حيث يقول : الكامل :
من كفَ جارية كأن بَنَانَهَا . . . من فضة قد طُرفَتْ عُنابا
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها . . . تُلْقى على الكف الشمال حسابا
وبين أن يغنيك رجل كَث اللحية ، غليظ الأصابع ، خشن الكف ، بشعر ورقاء بن زهير حيث يقول : الطويل :
رأيت زهيراً تحت كَلْكَلٍ خالد . . . فأقبلْتُ أسعى كالْعَجُول أبادرُهْ
وكم بين أنْ يحضرك مَنْ تشتهي النظَر إليه ، وبين من لا يقفُ طَرفك عليه ؟ فتبسّم المأمون ، وقال : الفرق بينهما واضح ، والمنهج فسيح ؛ يا غلام ، لا تأذنْ له ، وأحْضَر طيبَ قَيْنَاته ، فظَلِلْنا في أمْتَعِ يوم .
وعكاشة هذا هو عكاشة بن عبد الصمد البصري ، نقيُ الديباجة ، ظريف الشعر ، كان شاعراً مجيداً . وقد أخذ معنى قوله أبو العباس الناشئ ، وزادَ فيه ، فقال : الكامل :
وإذا بصُرْتَ بكفها اليُسرَى حكتْ . . . يدَ حاسبٍ تُلْقي عليك صنوفا
فكأنما المضرَابُ في أوتارِهِ . . . قَلَمٌ يُمَجْمِجُ في الكتاب حروفا
ويجسُه إبهامُها فكأنما . . . في النقْر تنفي بهْرَجاً وزُيُوفَا
أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته : البسيط :تَطيرُ عنها حَصى الظُّرّانِ من بَلَدٍ . . . كما تُنُوقِد عند الْجِهْبِذِ الوَرِق
وأصله قول امرئ القيس : الطويل :
كأن صليلَ المَرْوِ حين تُشِدُّه . . . صليلُ زُيُوفٍ يُنتقَدْنَ بعَبْقَرا
وقال أبو الفتح كشاجم : الكامل :
لو لم تحرِّكْه أنامِلُها . . . كان الهواءُ يُعِيدُه نطقا
جَسَّتْهُ عالمةً بحالته . . . جَسّ الطبيب لمدنف عِرْقَا
غنّت فخِلْتُ أظنُّني طرباً . . . أَسْمُو إلى الأفلاك أو أرْقى
وحسبت يُمْناها تحركه . . . رعداً وخِلْتُ يسارَها بَرْقا
وأنشد الحاتمي لأبي بكر الصولي : الخفيف : وغناءً أرق من دَمْعة الصب وشكوى المتيَم المهجور
يَشْغَلُ المرءَ منظرٌ ثم نطقٌ . . . فهوَ يُصْغِي بظاهر وضميرِ
صافحَ السمعَ بالذي يشتهيه . . . وأذاقَ النفوسَ طعمَ السرورِ
ليس بالقائل الضعيف إذا ما . . . راض نغماً ولا الشنيع الجهيرِ
وقال أبو نُوَاس : الوافر :
وأَهْيَفَ مثل طاقةِ ياسمِينٍ . . . له حَظَّان من دُنْيَا ودِينِ
يحرَكُ حين يشدُو ساكناتٍ . . . فتنبعث الطبائع للسكونِ
وهذا مليح ، يريد حركة الجوانح للغناء ، وسكون الجوارح للاستماع . وقال الحمدوني يصف عوداً : البسيط :
وناطقٍ بلسانٍ لا ضميرَ له . . . كأنه فخذٌ نِيطتْ إلى قَدَمِ
يُبْدِي ضميرَ سِوَاهُ للقلوب كما . . . يبدي ضمير سواه منطق القلمِفي صفة القيان
ومن أَحسنِ ما قيل في صفة القيان قولُ ابن الرومي : الخفيف :
وقيانٍ كأنها أمهاتٌ . . . عاطفات على بَنِيهَا حَوَاني
مُطْفِلات وما حملْنَ جنيناً . . . مرضعات ولَسْنَ ذاتَ لَبَانِ
ملْقِمَات أطفالَهُن ثُدِيَّاً . . . ناهداتٍ كأحسنِ الرُّمانِ
مفعمات كأنها حافِلاتٌ . . . وَهْيَ صِفْرٌ من دِرة الألبانِ
كل طفل يُدعى بأَسماء شَتى . . . بين عُودٍ ومزهرٍ وكِرَانِ
أمه دَهْرَها تترجِمُ عنهُ . . . وهو بادي الغِنَى عن الترجمَانِ
وقال أبو الفتح كشاجم : المنسرح :
جاءَت بعُود كأن نَغْمَتَهُ . . . صوتُ فتاةٍ تشكو فِراقَ فتى
محفّف حفت العيونُ بهِ . . . كأنما الزهرُ حولَهُ نبتا
دارتْ ملاوِيه فيه فاختلفتْ . . . مثل اختلافِ العيونِ مذ ثبتا
لو حركتْه وراء منهزم . . . على بريدٍ لعاجَ والتفتا
وقال : الطويل :
يقولون تُبْ والكأس في كف أغيد . . . وصوت المثاني والمثالث عَالي
فقلت لهم لو كنت أزمعت توبةً . . . وشاهدت هذا في المنام بَدَالِي
وقال : الكامل :
أفدي التي كَلِفَ الفؤادُ مِنَ أجْلها . . . بالعُودِ حتى شفني إطرابا
تاهَتْ بجمع صناعتين ، وأظهرتْ . . . كبراً بذاك ، وأُعْجِبت إعجابا
قالت : فضلتك بالغناء وأنت لا . . . تشدو ، وكنا مثلَكم كتابا
فعُنِيت بالأوتار حتى لم أدع . . . نغماً ولم أغْفِل لهنَّ حسابا
وألفتها فأغار ذاك على يدي . . . قلمي وعاتبها عليه عتابا
فجعلت للقرطاس جانِبَ صدرِه . . . وجعلتُ جانب عَجزه مِضرابا
وقال : البسيط :
جاءتْ بعُودٍ كأن الحبَّ أَنحَلَهُ . . . فما يُرَى فيه إلا الوهمُ والشبَحُ
فحرّكَتْه وغنتْ بالثقيل لنا . . . صوتاً به الشوقُ في الأحشاء يَنْقَدحُبيضاء يحضرُ طيبُ اللهوِ ما حضرَتْ . . . فان نأت عنك غاب اللهو والفرَحُ
كل اللباس عليها مَعْرضٌ حَسَنٌ . . . وكلُّ ما تتغنّى فهو مقترَح
هذا من قول ابن المعتز : المتقارب :
وغنت فأَغنتْ عن المسمِعي . . . ن وارتجَّ بالطرب المجلسُ
محاسِنها نُزْهَة للعيون . . . ومَعرِضها كل ما تَلْبَسُ
وقال أيضا : الخفيف :
أشتَهي في الغناء بُحَّةَ حَلْقٍ . . . ناغِم الصوت مُتْعَبٍ مكدُودِ
كأنين المحبِّ أضعفه الشَوْ . . . قُ فضاهَى به أَنينَ العُودِ
لا أحِبُّ الأوتار تعلو كما لا . . . أَشتهي الضربَ لازِماً للعَمُود
وأحب المجنبَات كحبي . . . للمبادي موصولةً بالنَّشيدِ
كهبوب الصبا توسط حالاً . . . بين حالين شدَّة وركودِ
وقال : الخفيف :
آه من بُحَّةِ بغير انقطاع . . . لفتاةٍ موصولة الإيقاعِ
أتعبت صوتها وقد يُجْتَنى من . . . نعبِ الصوت راحةُ الأسماعِ
؟ فَغَدَت تكثر الشّجَاجَ وحطّت طبقاتِ الأوتار بعد ارتفاعِ كأنين المحبِّ خفض منهُ . . . صوتَ شكواه شدَّةُ الأوجاع
وقال بعض أَهل العصر ، وهو أبو الحسن بن يونس : الكامل :
غنَّت فأَخفت صوتها في عُودِها . . . فكأنما الصوتانِ صوتُ العودِ
غَيدَاء تأمرُ عودَها فيطِيعها . . . أبداً ، ويتبعُها اتباع وَدود
أنْدَى من النُّوَار صُبحاً صَوتُهَا . . . وأرق من نَشْر الثنا المعهودِ
فكأنما الصوتان حين تمازَجَا . . . ماءُ الغمامةِ وابنة العُنقود
وأبو الحسن هذا هو : علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى ، صاحب عبد الله بن وهب الفقيه ، وكان لأبي الحسن في الشعر مذهب حسن ، وطبع صحيح ، وحَوك مليح ، وكان عالماً بالنجوم وما يتعلق بها من علوم الأوائل ، وهو القائل : الطويل :سقَى الله أكنافَ اللِّوى كلما سقى . . . بضرْبٍ من المُزنِ الكَنَهْوَرِ هَاملِ
إذا نشرت ريح جُمانَ سحابةٍ . . . غَدَا وَهْوَ حَلْيٌ للرياضِ العَواطِلِ
به وَجْدُ رَعْد ليس بين جوانح . . . ووسواسُ وَدْقٍ ليس بين مفاصل
إذا كان خدّ البرق يلمس نبتهُ . . . تلقَّاه دُرُّ النَّور فوقَ الخمائل
وقال ، وذكر غلاماً : الكامل :
يجري النسيمُ على غلائل خَدّهِ . . . وأَرقّ منه ما يَمُزُ عليه
ناولتُه المرأة ينظرُ وَجْهَهُ . . . فكسَتْه فتنة ناظريْه إلَيْهِ
وقال ابن المعتز - وذكر المرآة : الطويل :
تبيّنني لي كلّما رُمْت نظرةً . . . وناصَحتِي من دون كل صَديقِ
يقابلني منك الذي لا عدمْتُهُ . . . بلُجّهِ ماء وهو غير غَرِيقِ
وقال أبو الفتح كشاجم يصفُ مرآة أهداها : الخفيف :
أخت شمس الصفاء في الحسن والإش . . . راق غير الإعشاء للأجفانِ
ذات طَوْق مشرف من لُجين . . . أُجريت فيه صُفْرَةُ العِقْيَانِ
فهو كالهالة المحيطة بالبد . . . ر لستّ مضن بعد ثَمانِ
وعلى ظهرها فوارسُ تلهو . . . ببُزَاةٍ تَعْدُو على غِزْلاَنِ
لك فيها إذا تأملت فأل . . . حَسَنٌ مُخْبر بنبيل الأماني
لم يكن قبلها من الماء جرم . . . حاصِرٌ نفسَه بغير ِأَوَان
عدّلت عكسها الشعاع فمبدا . . . ه إليها ورَجعه سِيانِ
وهي شمسٌ وإنْ مِثَالك يوماً . . . لاح فيها فإنها شَمْسَانِ
أينما قابلتْ مثالَكُ من أر . . . ضٍ ففيها تقابل النيران
فالقها منك بالذي ما رآه . . . خائف فانثنى بغير أَمَان
ومن ألفاظ أهل العصر في مدح الغناء
غِناؤُه كالغِنَى بعد الفقر ، وهو جَبر للكسر . غِناؤُه يبسط أَسِرَةَ الوَجهِ ، ويرفعُ حجابَ الإِذْن ، ويأخذُ بمجامِع القَلْب ، ويحرك النفوس ، ويرقص الرؤوس . فلان طبيب القلوب والأسماع ، ومحيي مَوات الخواطِرِ والطباع ، يُطْعِمُ الآذانَ سروراً ، ويقدح في القلوب نوراً القلوبُ من غنائه على خَطر ؛ فكيف الجيوب ؟ السكر على صوبِه شهادة .كل ما يغنّيه مقتَرح . لغنائه في القَلْبِ ، موقع القَطْر في الجَدْب . نغمة نغمته تطرب ، وضروب ضَرْبه لا تضطرب . وقيل : السماع مُتْعَة الأسماع ، وإدامُ المدام .
في وصف القلم
أهدى بعضُ الكتّاب إلى أخٍ له أقلاماً وكتب إليه : إنه - أطال اللهُ بقَاءك - لما كانت الكتابةُ قِوَامَ الخلافة ، وقرينة الرياسة ، وعمودَ الممْلَكة ، وأعظم الأمور الجليلة قدْراً ، وأعلاها خَطَراً ، أحببتُ أن أتحِفك من آلاتّها بما يَخِفُ عليك مَحْمله ، وتثقل قيمتُه ، ويكثر نَفْعُه ؛ فبعثتُ إليك أقلاماً من القصب النابت في الأعْذَاء ، المغذوّ بماء السماء ، كاللآلي المكنونة في الصَّدَف ، والأنوار المحجوبة بالسّدف ، تَنْبُو عن تأثير الأسنان ، ولا يثنيها غَمْزُ البَنان ، قد كسَتْها طباعها جوهراً كالوَشْي المحبر ، وفرند الديباج المنيّر ، فهيِ كما قال الكميت : المتقارب :
وبيضٍ رقاقٍ صِحاح المتو . . . نِ تَسْمَع للبيض فيها صَرِيرا
مُهَنَّدة من عَتَادِ الملوك . . . يكاد سَنَاهُنّ يُعشِي البصيرا وكقدح النبل في ثقل أَوزانها ، وقُضُب الخيزُرَان في اعتدالها ، ووشيجِ الخطّ في اطّرادها ، تَمرُ في القراطيس كالبَرْقِ اللائح ، وتجرِي في الصحف كالماء السائح ، أَحسن من العِقْيان ، في نحورِ القيَان .
وكتب عبيد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم من خراسان إلى بغداد يسأله أن يوجهَ إليه بأقلام قصبيّة : أما بعد ، فإنّا على طول الممارسة لهذه الصناعة التي غلبَتْ على الاسم ، ولزمت لزوم الوَسْم ، فحلَت محل الأنساب ، وجرت مَجْرَى الألْقاب - وجدنا الأقلام القصبية أسرعَ في الكَوَاغِدِ ، وأمرَّ في الجلود ، كما أن البَحْرية منها أسلسُ في القَراطيس ، والين في المعاطف ، وأكلّ عن تمزيقها ، والتعلق بما ينبو من شظاياها . ونحن في بلادِ قليلة القَصب ، رديء ما يوجد بها منه ؛ فأحببت أن تتقدَم في اختيار أقلام قصبيِة ، وتتأنّق في انتقائها قِبَلك ، وطلبها في منابتها ، من شُطوط الأنهار ، وأرجاء الكروم ، وأن تتيَّم باختيارك منها الشديدة المجسّ ، الصّلبة المعض ، الغليظة الشحوم ، المكتنزة الجوانب ، الضيّقة الأجواف ، الرزينة الوَزْن ، فإنها أبقى على الكتاب ، وأبعد من الحَفَاء ، وأن تقصدَ بانتقائك منها للرقاق القضبان ، اللطاف المنظر ، المقوَّمات الأوَد ، المُلْسالعُقد ، ولا يكون فيها التواء عوج ولا أَمْت ؛ وضُمَ الصافيةَ القشور ، الخفية الإُبن ، الحسنة الاستدارة ، الطويلة الأنابيب ، البعيدة ما بين الكعوب ، الكريمة الجواهر ، المعتدلة القوام ، تكادُ أسافلها تهتزُّ من أعلاها ، لاستواء أصولها برؤوسها ، المستكملة يبساً ، القائمة على سوقها ، قد تشرّبت الماءَ في لِحائها ، وانتهت في النُّضْجِ منتهاها ، لم تعجل عن تمام مصلحتها ، وإبَّانِ يُنْعِها ، ولم تؤخّر في الأيام المخوفة عاهاتها ؛ من خَصَر الشتاء ، وعَفَنِ الأنداء ، فإذا استجمعتْ عندك أمرْتَ بقطعها ذِراعاً ذراعاً ، قَطْعاً رفيقاً تتحرّز معه أن تتشعبَ رؤوسها ، أو تنشق أطرافها ، ثم عبأت منها حزماً فيما يصونها من الأوعية ، وعليها الخيوط الوثيقة ، ووجَّهْتَها مع من يحتاط في حراستها وحفظِها وإيصالها ؛ إذ كان مثلها يُتَوانى فيه ، لقلة خطرِها عند من لا يعرفُ فَضْلَ جوهرها ؛ واكتب معه بعدَّتِها وأصنافها وأجناسها وصفاتِها ، على الاستقصاء ، من غير تأخير ولا إبطاء .
فأجابه ووجه إليه مع الأنابيب : أتاني كتاب الأمير - أعزه الله - بما أمر به ولخصه ، من البعث بما شاكل نَعْتَه ، وضاهى صِفَته ، من أجتاس الأقلام ، فتيممت بِغيته قاصداً لها ، وانتهجتُ معالمَ سُبُلِه آخذاً بها ، فأنْفَذْتُ إليه حزماً أنشئت بلطيف السّقيا ، وحُسْن العهد والبُقْيا ، لم تعجل بإخراجها ، ولا بُودِرتْ قبل إدراكها ؛ فهي مستويةُ الأنابيب معتدلتها ، مثقفة الكعوب مقوّمتها ؛ لا يُرَى فيها أمْتُ زَوَر ، ولا وصم صغر ولا عِوَج ، وقد رجوت أن يجدَها الأمير عند إرادته وحسَبَ بِغُيْتَهِ .
ومن كلام منصور بن عمَار في صفة القلم ، ويقال إنه لسليمان بن الوليد الكاتب : أو ليس من عجائب اللهِ في خَلقِه ، وإنعامِه على عباده ، تعليمُه إياهم الكتابَ المفيد للباقين حكم الماضين ، والمخاطِبَ للعيون بسرائر القلوب ، على لغات مختلفة ، بمعان مفترقة معقودة ، وأحرفٍ مقلوبة ، من ألفِ وتاء ، وجيم وباء ، متباينات الصور ، مختلفات الجهات ، لِقَاحها التفكير ، ونتاجها التأليف ، تخرس مفردة ، وتنطِقُ مزدرجة ، بلا أصواتٍ مسموعهّ ، ولا ألْسُنٍ محدودة ، ولا حركات ظاهرة ، بل قلم حَرَّفَ بارِيه قطَّته ، ليعلقَ المدادُ به ، وأرْهَف جانبيه ليرد ما انتَشر عنه إليه ، وشق في رأسه ليحتبس الاستعداد عليه ، ورفع من شعبيته لتجتمع حواشي تصويره ؛ فهنالك روى القلم في شِقه ، وقفف المادة إلى صدره ، فإذا علقتها العيون حكَتْها الألسن ، فالقلوب حينئذ رَاعِية ، والآذان واعِية ، لكلام سَداه العَقْل ، وألحمه اللسان ، وأدّته اللَهَوَات ، ولفظته الشفَاه ، ووعته الأسماع ، علىاختلاف أنحاء ، من صفاتٍ وأسماء ؛ فتبارك الله أحْسَنُ الخالقين .
حمل من رسالة كتبها بعض أهل العصر ، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي ، في القلم إلى أبي عمران بن رياح : إنه لما كان القلمُ مطيةَ الفكْر والبيان ، ومُخْرِجَ الضمير إلى العِيان ، ومستنبطاً ما تُوارِيه ظلَمُ الجَنانِ إلى نُور البيان ، ومُريحَ الفطًنِ العوازب ، وجالبَ الفِكَرِ الغرائب ولسان الغائب ، وبز الكاتب . ، مكتّب الكتائب ، ومفرق الجلائب ، وعماد السّلْم ، وزناد الحرب ، ويدَ الحدثَان ، وخليفة اللسان ، ورأس الأدوات التي خصَّ الله بها الإنسان ، وشرّفه بها على سائر أصناف الحيوان ، ومركباً لآلة قد تقدَّمَتْ كلَّ آلة ، وحِكْمة سبقَتْ في الإنسان كلّ حكمة ، وقَواماً لهندسة عقلية ، ومصدراً لعَقْلِ العاقل ، وجهل الجاهل . الناقل إلينا حِكَمَ الأولين ، وحاملها عنا إلى الآخرين ، الحافظ علينا أَمْرَ الدنيا والدين ، أول شيء خلقه الله بأمره وسَبحَه ، ومَجَّده وحَمِدَه وسجدَ له ، فكان له فرسانٌ خُلِقَ لهم ، وكُنْتَ عميدَهم ، وأقرَانٌ قُصِر عليهم ، وأنت صنديدهم ، وميدان كنت زَيْنه ، ومضمار كنت عَيْنَه ، وحِلْيَة كنت سابقها ومعجزها ، وغاية كنت مَالِكها ومُحْرِزَها ، ورمت بي الأيام إلى معدنه الذي كلفت به وعنيت بطلبه ، فانفردت منه بقدح فَذّ أَوْحد ، فَرْد في منْبته ، قد ساعدت عليه السعود في فلك البروج حولاً كاملاً ، مُخْتلف يُؤلّفه أركانها وطباعها ، ومتباين أنوائها وأنحائها ، وتؤيده بقواها وجواهرها ، حتى غذَتْه عِرْقاً في الثرى معرقاً ، وأرضعته ناجماً ، وسقته مكعباً ، وأروته مقصباً ، وأظمأته مكتهلاً ، ولوحته مستحصداً ، وجللته بهاءها ، وألقت عليه عنوانها ، وأودعته أعراقها ، وَأَوراقَها وأخْلاَقها ، حتى إذا شقّ بازله ، ورقّت شمائله ، وابتسم من غشائه ، ونادى من لِحَائه ، وتعرى عن خز المصيف ، بانقضاء الخريف ، وانكشف عن لون البيض المكنون ، والصدف المخزون ، ودر البحار ، وفتات الجمار ، دعا منه نَفَق العَاج بنقبة الديباج ، وقميص الدرر بطراز النساج ، فاجتمعت له زينة الأيدي البشرية ، إلى الأيدي العلوية ، والأنسابِ الأرضية ، إلى الأنساب السماوية ، فلما قادته السعادة إليَ ، ورأيته نسيجَ وَحْدِه في الأقلام ، رأيت أولى الناس به نسيجَ وَحْدِه في الأنام ، فآثرتُك به مُؤْثِراً للصنيعة ؛ عالماً أن زين الجيادِ فرسانها ، وزين السيوف أَقرانها ، وزين بزة لابِسُهَا ، وزين أَداةٍ ممارسُهَا ، فالآن أعطيت القوس باريها ، وزناد المكارِم مُوريها ، والصمصَامة مُصلِتها ، والقناة مُعلمها ، وحلَة المَجْدِ لابِسها .
وكان النجيرمي جَيدَ الروية والبديهة في نظمه ونثره ، حلو التصريف ، مليح التأليف ، وكان يوماً عند أبي المسك كافور الإخشيدي ، فدخل عليه أبو الفضل بن عياش فقال : أَدام اللَه أَيام سيدنا الأستاذ - بالخَفْض - فتبسَّم كافور إلى أبي إسحاق ، فقالارتجالاً : البسيط :
لا غَرْوَ إن لَحَنَ الدَاعِي لسيِّدنا . . . وغُصَّ من هَيْبَةٍ بالريقِ والبَهَرِ
فمثل سيدنا حالت مهَابَتُهُ . . . بين البليغ وبين القول بالحصَرِ
فإذ يكن خفَضَ الأيام من دَهشٍ . . . من شدّةِ الخوف لا مِنْ قِلَّة البَصَرِ
فقد تفاءَلت في هذا لسيدنا . . . والفأل مأثرة عن سيّد البشَرِ
بأن أيامه خَفْضٌ بلا نَصَب . . . وأن دولته صفوٌ . بلا كدَرِ
فأمر له بثلثمائة دينار ، ولابن عياش بمائتين .
وقال حمدان الدمشقي يصف قلماً : الكامل :
للأيْم بعثته وشَقّ لِسَانِهِ . . . وله إذا لم تجْرِه إطراقُهُ
كالحيةِ النَّضْنَاضِ إلا أَنهُ . . . من حيث يَجْرِي سمّه تِرْيَاقُهُ
قال العتابي : سألني الأصمعي فقال لي : أي الأنابيب أَصْلَحُ للكتابة وعليها أَصبر ؟ فقلت : ما نشِفَ بالهجير ماؤُه ، وستره عن تلويحِه غشاؤه ، من التِّبرية القشور الدرّية الظهور ، الفضيّة الكسور ، قال : فأي نوع من البَرْي أكتب وأصْوب ؟ قلت : البرية المستوية القطّ ، عن يمين سنّها ، بَرية تأمن معها المجّة عند المطّ ، الهواء في مَشَقها فتيق ، والريح في جوفها خريق ، والمِدَاد في خرطومها رقيق ، قال : فبقي الأصمعي شاخصاً إليَ ضاحكاً لا يُحِيرُ مسألة ولا جواباً .
العتابي
والعتابي : هو كلثوم بن عمرو بن الحارث التغلبي ، يُكْنَى أبا عمرو ، قال أبو عثمان الجاحظ : كان العتابيّ ممن اجتمع له الخطابة ، والبيان ، والشعر الجيد ، والرسائل الفاخرة ، وعلى ألفاظه وحَذْوِه يقول في البديع جميعُ من يتكلف ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النَمري ، ومسلم بن الوليد الأنصاري ، وأشباههما ، وكان العتابي يَحْتذي حَذْو بشَار في البديع ، ولم يكن في المولدين أجودُ بديعاً من بشار وابن هَرْمَةَ .
والعتابي من ولد عَمْرو بن كلثوم ابن مالك بن عَتّاب بن سعد ، ولذلك قال : البسيط :إني امرُؤٌ هدم الإقتار مأثرتي . . . واجتاح ما أبدَتِ الأيامُ من خطري
أَنا ابنُ عمرو بن كلثوم يسوّدهُ . . . حيّا ربيعةَ والأحياءُ من مضرِ
أرومَةٌ عطَّلَتني من مكارمها . . . كالقوسِ عطَّلها الرامي من الوترِ
وكان صاحبَ بديهة في المنظوم والمنثور ، حسن العقل وَالتمييز ، وَالعربُ تقول : من تمنّى رجلاً حسنَ العَقل ، حسنَ البيانِ ، حسنَ العِلْم ، تمنَّى شيئاً عسيراً . وَقد اجتمع ذلك كله للعتابي .
وَعاتبه يحيى بن خالد على لباسه ، وَكان لا يُبَالي أي ثوبيه ابتذلَ فقال : أَبْعَدَ اللَهُ رجلاً مهمُه أن يكون جمالُه في لباسه وَعطره . إنما ذلك حظُ النساء ، وأَهل الأهواء ، حتى يرفعه أكبرَاه : هِمّته ، وَلبّه ، وَيعلو به معظماه : لسانُهُ ، وَقَلبه .
ودخل على الرشيد فقال : تكلَم يا عتابيّ فقال : الإيناس قبل الإبسَاس ، لا يُمْدَحُ المرء بأول صَوابه ، ولا يُذَمّ بأول خَطئه ؛ لأنه بين كلا زَوَّرَه ، أو عيّ حَصَرَه .
وذكر أبو هفّان أنَّ الرشيد لقيَه بعد قَتْل جعفر بن يحيى وزوال نِعمته ، فقال :
ما أَحْدَثت بَعْدُ يا عتابي ؟ فأنشده ارتجالاً : الطويل :
تلوم عنى تَرْكِ الغِنَى باهليّةٌ . . . طَوَى الدهرُ عنها كلّ طِرْف وتَالِدِ
رأتْ حولها النسوان يرفلن في الكُسا . . . منظمةً أَجيادُها بالقلائِدِ
أَسَرَّك أني نِلْتُ ما نال جعفرٌ . . . من الملك أو مَا نَالَ يحيى بن خالدِ
وأنَّ أمير المؤمنين أَغَصَّنِي . . . مغصَّهُما بالمُرْهَفَاتِ البوارِدِ
فإنَّ رفيعاتِ المعالِي مَشُوبة . . . بمستودعاتٍ في بطونِ الأساوِدِ
وكان متحرفاً عن البرامكة ، وفيهم يقول : البسيط :
إنَ البَرَامِكَ لا تنفك أَنْجِيَةً . . . بصفحة الدين من نجواهُمُ نَدَبُ
تجرّمَتْ حججٌ منهم ومُنْصلُهم . . . مضرَّج بدم الإسلام مختَضِبُ
واجتاز عبد الله بن طاهر بالرقة بمنزل العتَّابي ، فقال : أليس هذا منزلَ كلثوم بن عَمْرو ؟ قيل : نعم ، فثَنَى رجله ، ودخل إليه ، فأَلْفَاه جالساً في بَيْتِ كتبه ، فحادَثه وذاكَرَه ، ثم انصرف ، فتحدّث الناسُ في ذلك ، وقالوا : إن الأمير لم يَقْصِدهُ ، وإنما اجتاز به فأَخْطر ذلك الزيارةَ ، فكتب إليه : الكامل :يا مَنْ أَفادَتْنِي زِيارَتُهُ . . . بَعْدَ الخمولِ نباهةَ الذكْرِ
قالوا الزيارةُ خَطْرَة خَطَرتْ . . . ومجاز خَطْرك ليس بالخطر
فادْفَعْ مقالتهم بثالثة . . . تستَنْفد المجهودَ مِنْ شكري
لا تجعلَنَّ الوِتْرَ واحدةً . . . إن الثلاث تتمةُ الوتر
فبعثته الأبياتُ إلى أَنْ زَارَه ثلاثاً . وكان يميل إلى المأمون ، فلمّا خرج ا أمون إلى خُراسان شيعه حتى وصل معه إلى سَنْدان كِسرى ، فقال له المأمون : سألتك بالله يا عتّابي إلا عملتَ على زيارتنا إنْ صار لنا من هذا الأَمر شيء ، فلما ولي المأمون الخلافةَ ، ودخل بغداد سنة أربع ومائتين توصَّل إليه العتّابي ، فلم يمكنه الوصول ، فقال للقاضي يحيى بن اكثم : إن رأيتَ أن تُعلِم أميرَ المؤمنين بمكاني فقال : لَسْتُ بحاجب قال : قد علمت ، ولكنك ذو فضل ، وذو الفضل مِعْوان فقال : سلكتَ بي غير طريقي قال : إن الله تعالى ألحقك بجاهٍ ونعمة ، وهما يقيمان عليك بالزيادة إن شكرت ، والتغيير إن كفرت ، وأنا اليوم لك خيرٌ منك لنفسك ؛ أدعوك لما فيه زيادة نعمتك ، وأنت تأْبى ذلك ؛ ولكلِّ شيء زكاة ، وزَكاةُ الجاهِ بَذْلهُ للمستعين ، فدخل يحيى على المأمون فقال : أجِرْني من لسان العتابي ، فلَهَا عنه ، ولم يأذن له ، فلما طال عليه كتب إليه : الخفيف :
ما على ذلك افترقْنا بِسَنْدا . . . ن ولا هكذا عَهدْنا الإخَاءْ
لم أكن أحسب الخلافة يزدا . . . د بها ذو الصفاء إلا صفاءْ
تضرب الناس بالمثّقفة السُّم . . . ر على غًدْرِهمْ وتنسى الوفاءْ
يعرِّض بقتْله لأخيه على غَدره ، ونكثه لِمَا عقد الرشيد ؛ فلما قرأ المأمون الأبيات أمر أن يُدْخَل عليه . فلمّا سلّم قال : يا عتابي ، بلغتني وفادتُكَ فسرَّتْني ، وقد كَانتْ بلَغَتْني وفاتُكَ فساءتني ، وإني لحريّ بالغمّ لبُعدِك ، والسرور بقربك فقال : يا أمير المؤمنين ، لو قسم هذا الكلام على أهلِ الأرض لوسعهم عَدْلاً وأَعجزهم شكراً ، وإن رضاك لغاية المُنَى ، لأنه لا دينَ إلا بك ، إلا معك ، قال : سَلْني ، قال : يَدُك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة ، بخمسين ألفاً .
وقال العتابي وودَع جاريةً له : الخفيف :ما غَناءُ الحِذَارِ والإِشفاقِ . . . وشآبيب دَمْعِك المُهْرَاقِ
ليس يَقْوَى الفؤادُ منك على الضَ . . . دِّ ولا مُقْلَتَا طَلِيحِ المآقي
غدرات الأيامِ منتزِعَاتٌ . . . ما غَنِمْنَا من طول هذا العناق
إنْ قضَى اللهُ أن يكون تَلاَقٍ . . . بعد ما قد ترين كان تَلاقِ
هَوِّني ما عليك واقْنَيْ حَيَاءً . . . لستِ تبقين لي ولستُ بِبَاقِ
أيّنا قدَمَتْ صروفُ المنايا . . . فالذي أخرتْ سريعُ اللحاق
ويدُ الحادثات رَهْنٌ بمُرِّا . . . تٍ من العيشِ مُصْبِرَاتِ المذاق
غُرّ مَنْ ظن أن يفوت المنايا . . . وعُراها قلائدُ الأعناق
كم صَفييْنِ مُتِّعَا باتفاقٍ . . . ثم صارا لغُرْبَةٍ وافتراقِ
قلت للفرقدين والليل مُلْقٍ . . . سُودَ أكنافِه على الآفاقِ
اِبْقَيَا مَا بقيتما سوف يُرمى . . . بين شخصيكما بسَهْمِ الفِرَاقِ
بينما المرءُ في غَضَارةِ عَيْش . . . وصلاحٍ من أمرِه واتّفَاق
عطفتْ شِدّةُ الزمان فأدّت . . . ه إلى فاقةٍ وضيقِ خِنَاقِ
لا يدومُ البقاءُ للخَلْق لَكِ . . . ن دوامَ البقاء للخَلاَّق
وقال في الرشيد : الطويل :
إمامٌ له كفّ تضُمُ بَنَانُها . . . عصا الدين ممنوعاً من البَرْي عودُها
وعينٌ محيطٌ بالبريَّة طَرْفُها . . . سواءٌ عليها قُرْبُها وبَعِيدُها
وقال فيه : الطويل :
رعى أمة الإسلام فهو إمامُها . . . وأَدَى إليها الحقّ فهو أمِينُها
مقيمٌ بمستنّ الفَلاَ حَيْثُ تَلْتَقي . . . طَوَارِقُ أبكارِ الخُطوبِ وعُونُها
وكان منصور النمري سَعَى به إلى الرشيد فخافه ، فهرب إلى بلد الروم ، وله قصائد ، يعتذِرُ فيها ، جيدة مختارةٌ ، وهو مشبّهٌ في حسن الاعتذار بالنابغة الذبياني ، ومن جيّد اعتذاره قوله للرشيد ، ويقال : بل قالها على لسان عيسى بن موسى الهاشمي يخاطب الرشيد : الطويل :
جعلْتُ رجَاء العفوِ عذراً وشُبْتُهُ . . . بهيبةِ إمَا غافِرٍ أو مُعَاتبِ وَكنتُ إذا ما خفْتُ حادث نَبْوة . . . جعلتك حِصْناً من حِذَارِ النوائبِ
فأَنزلَ بي هجرانُك اليأس بعدما حللتُ بوادٍ منك رَحبَ المشاربِ
أظل ومَرعَايَ الجديبُ مكانَه . . . وآوِي إلى حافات أكدرَ نَاضِبولم يثن عن نفسي الردى غير أنها . . . تنوءُ بباق من رجائك ثائب
هي النفسُ محبوسٌ عليك رجاؤها . . . مقيّدة الآمالِ دون المطالبِ
وتحت ثياب الصبر مني ابن لَوْعةٍ . . . يظل ويُمْسِي مستلين الجوانب
فتى ظفرتْ منه الليالي بزَلةٍ . . . فأقْلَعْنَ عنه دامياتِ المخالب
حَنَانَيْك إني لم أكُنْ بعتُ عِزَّة . . . بذلٍّ ، وأحرزتُ المنى بالمواهبِ
فقد سُمْتَنِي الهجرانَ حتى أذَقْتَني . . . عقوبة زلاّتي وسوء مَناقِب
فها أنا مُقْصًى في رِضَاك ، وقابضٌ . . . على حَدِّ مصقولِ الذِّنابينِ قاضِبِ
ومنتزعٌ عما كرِهْتَ وجاعلٌ . . . هواك مثالاً بين عيني وحاجبي
وفي هذه القصيدة مما يختار أهل الصناعة : الطويل :
وأَشْعَثَ مشتاق رمَى في جفونِه . . . غريب الكَرى بين الفجَاج السباسِبِ
سَحَبْتُ له ذَيْلَ السُرَى وَهْوَ لابِسٌ . . . دُجَى الليل حتى مجّ ضوءَ الكوكب
ومن فوقِ أكوار المهَارِي لبانة . . . أُحِلّ لها أكَلُ الذّرَى والغَوَارب
وكلُّ فتى عاداتُه قَصْر شَوْقِه . . . وطيُّ الحشى دونَ الهموم العوازِب
يُسِرّ الهَوَى لم يُبْدِه نعت فرقةٍ . . . صُراخاً ، ولم تَسْمَعْ به أُذْنُ صاحبِ
إذا ادَّرع الليل انْجَلى وكأنه . . . بقيةُ هندي الحسام المضاربِ
برَكبٍ ترى كَسْر الكرى في جفونهم . . . وعَهدَ الليالي في وجوهٍ مَشَاحبِ
وقال أيضاً : الخفيف :
لو رأتني بذي المَحَارَةِ فَرْداً . . . وذِراعُ ابنة الفَلاةِ وسادِي
أُطفئ الحزنَ بالدموع إذا ما . . . حُمّةُ الشوقِ أثَّرتْ في فُؤَادي
خاشع الطرف قد توشّحَنى الضز فلانَتْ له قنَاةُ قيَادي
تِرْبَ بُؤْسٍ أخا هموم كأنّ ال . . . حُزنَ والبؤسَ وَافَيَا مِيلادِي
وكأني استشعرت ما لفظ النا . . . س من النائِرَاتِ والأحقادِ
أتصدَّى الرَّدَى وادَّرعُ اللي . . . ل بهَوْجاءَ فوقها أقْتَادِي
حَظّ عيني من الكرى خفقاتٌ . . . بين سَرْحِي ومُنْحَنَى أَعْوَادِيأوْحَشَ الناسُ جانبيَّ فما آ . . . نَسُ إلا بوحدتي وانفرادي
قد رددت الذي به أتقي النا . . . س وأبرزتُ للزمان سَوَادي
فاستهلَت عليّ تمطرني الشو . . . ق شآبيب مُزْنةٍ مِرْعَادِ
وقال : الطويل :
أمَا راع قَلْبَ العامريةِ أنني . . . غدوت ومرجوعُ السقامِ قريني ؟
وقال : الطويل :
أكاتِمُ لَوعاتِ الهَوَى ويُبِينُهَا . . . تخلّل مَاءِ الشوق بين جُفُوني
ومطووفة الإنسان في كلِّ لوعة . . . لها نظْرة موصولة بحَنينِ
بنو وهب
: وقال الحسن بن وهب بن سعيد : السريع :
اِبْكِ فمِنْ أحسن ما في البكَا . . . أنّ البكَا للوَجْد تحليلُ
وهْو إذا أنت تأمّلتهُ . . . حزن على الخدين محلول
وقد أعرق بنو وَهْب في الكتابة وأنجبوا ، ولهم في هذا الكتاب ما يشهد لهم بما نُسب إليهم ، وفيهم يقول الطائي : الخفيف :
كلُّ شِعْبٍ كنتمْ به آلَ وَهْبٍ . . . فهو شِعْبي وشِعبُ كلِّ أَديبِ
إن قلبي لكم لكالكبد الحَرىَّ وقَلْبي لغيركم كالقُلُوبِ
وفي هذه القصيدة يقول في مدح سليمان بن وهب :
ما عَلى الوُسَّج الرَّوَاتِك من عَبْ . . . بٍ إذا ما أتتْ أَبا أيوبِ
حُوَّلٌ لا فِعالُه مَرْتَعُ الذم . . . م ولا عِرْضُه مناخ العُيُوبِ
واجد بالصديق منْ بُرَحَاء الشوقِ وجدانَ غَيْرِه بالحبيب أخَذَ سليمانُ منه معنى هذا البيت الأخير ، فقال في رسالة لبعض إخوانه :ظَرْفُ الصداقة ، أرق من ظرف العلاقة ، والنفس بالصديق ، آنس منها بالعشيق .
فقال له أبو تمام : كلامك هذا أرقّ من شعْري .
والحسن بن وهب حَسَنُ الشعر والبلاغة ، جيّد اللسان ، حلو البيان ، وكان يحب بنان جارية محمد بن حمّاد ، وله فيها شعر جيد ، ولها يقول : الطويل :
أقول وقد حاولتُ تقبيلَ كفّها . . . وبي رِعدةٌ أهتزُّ منها وأسكنُ
ليهنئك أنّي أَشْجَعُ الناسِ كلّهم . . . لدَى الجربِ إلا أنني عنك أَجْبُنُ
وحضرَتْ مجلسه وبين يديه نار فأمرَتْ بإزالتها ، فقال : الكامل :
بأبي كرِهْتِ النارَ حتى أُبعِدتْ . . . فعلمْتُ ما معناكِ في إبعادها
هي ضَرَّة لكِ في الْتِمَاع ضِيائها . . . وهبوبِ نَفْحَتِها لدى إيقادها
وأَرَى صنيعك في القلوب صنيعَها . . . بسَيَالها وأَراكِها وعَرَادِها
شَركَتْكِ في كل الأمور بفِعْلها . . . وضِيائها وصَلاحِها وفسادِها
وإلى هذا ينظر قول الأمير تميم بن المعزّ : الخفيف :
ما هجرتُ المُدامَ والوردَ والبد . . . رَ بطَوْع ، لَكن برَغْم وكُرْهِ
منعتني من الثلاثة مَنْ لَوْ . . . قتلتني لم أَحكِ واللَّهِ مَنْ هِي
فالت الوردُ والمدامةُ والبد . . . رُضيائي ولونُ خدّي ووَجْهِي
قلت بخلاً بكلّ شيء فقالت . . . لا ولكن بخلت بي وبِشِبْهِي
قلت يا ليتني شبيهُكِ قالت . . . إنما يقتل المحبَّ التشَهِّي
ولمَّا مات الحسن بن وهب - وكان موته بالشام - عُزّي عنه أخوه سليمان ، فجاءَ أبو العيناء ، فقال : أنشدني أبو سعيد الأصمعي : الطويل :
لعمري لنِعْمَ المرءُ من آل جعفر . . . بحورانَ أَمْسَى أعلقَتْه الحبائلُ
لقد فقدوا عَزْماً وحزْماً وسؤدداً . . . وعِلماً أصيلاً خالفتْه المجَاهِل
فإن عِشْتَ لم أملل حياتي وإن تمت . . . فما في حياتي بعد مَوْتِك طائلُ
فقال سليمان : أحسن الله جزاءك ، ووصل إخاءَك ، إن هذا لمن أحسن الشعر ، وقد تمثّل به قتيبة حين بلغه موتُ الحجاج ، ولكني أقول كما قال كعب بن سعد الغنَوِي يرثي أخاه أبا المغوار : الطويل :
أخِي ما أخي لا فاحِشٌ عند بَيْتِه . . . ولا وَرَعُ عند اللقاء هَيُوبُحليم إذا ما سَوْرة الجهل أطلقَتْ . . . حُبَى الشيب ، للنفس اللَّجُوج غَلُوبُ
حبيب إلى الزوار غِشْيَانُ بيتِه . . . جميل المحيّا شب وهْو أرِيبُ
إذا ما تراه الرجالُ تحفظُوا . . . فلم تُنطَق العَوْرَاءُ وهْوَ قريبُ
فانصرف الناس يعجبون من علم سليمان ، وحسن جوابه ، وصحّة تمثله .
والأبيات التي أنشدها الأصمعي للحطيئة ، واسمه جَرْوَل بن أَوْس بن جُؤَيَّة بن مخزوم بن مالك بن غالب . بن قطيفة بن عَبْس بن بَغيض ، يقولها في علقمة بن عُلاَثة وفيها يقول : الطويل :
فما كان بيني لو لَقِيتُكَ سالماً . . . وبين الغِنَى إلاَّ ليالِ قلائلُ
قال سليمان بن وهب : لما جار علينا بالنكبة السلطان ، وجَفَانَا من أجلها الإخوان ، أنصفنا ابن أبي دُوَاد بتطوُّله ، وكفانا الحاجةَ إليهم بتفضله ، فكنّا وإياه كما قال الحطيئة : الكامل :
جاورتُ آل مقَلَدٍ فحَمِدتُهم . . . إذ لا يكادُ أخو جوار يُحْمَدُ
أيام مَن يُرِدِ الصنيعَة يَصْطَنِعْ . . . فينا ، ومَنْ يُرِدِ الزهادةَ يَزْهَدُ
وله فصل إلى بعض إخوانه : لك أن تعتب ، وشبيهك أن يعذر ، فهَبْ أقل الأمرين لأكثرهما ، وقدم فضلك على حقّك ، ويقينك على شكّك .
ووصف رجلاً بليغاً فقال : كان والقَهِ واسعَ المنطق ، جَزْلَ الألفاظ ، ليس بالهذرِ في لفظه ، ولا المظلم في مقصده ؛ معناه إلى القلم أسْرَع من لَفْظِه إلى السَّمْع .
وهذا ضد قول محمد بن عبد الملك الزيات في عبيد الله بن يحيى بن خاقان : هو مهزول الألفاظ ، غليظ المعاني ، سخيفُ العقل ، ضعيف العقدة ، واهِي العَزْم ، مأفونُ الرأي .
ألفاظ لأهل العصر في ذمّ الكِتَابِ والكُتَّابِ والنثر والشعر
الخَرَسُ أحسنُ من كلامه ، والعِي أبلغُ من بيانه ، خاطره يَنْبُو ، وقلمه يَكْبُو ، ويسهو ويغلط ، ويخطئ ويُسِقط . هو قصير باعِ الكتابة ، قاصِر سَعْي الخطابة ، وكُتبه مضطربة الألفاظ ، متفاوتة الأبعاضِ ، منتشرة الأوضاع ، متباينة الأغراض . الجلمُ أولى بكفه منالقَلم ، والطَاس أليقُ بها من القرطاس . كلامٌ تنبو عن قبوله الطباع ، وتتجافَى عن استماعه الأسماع . ألفاظٌ تَنْبُو عنها الآذان فتمجّها ، وتنكرها الطباع فتزُجّها . كلام لا يَرْفَعُ الطبعُ له حِجاباً ، ولا يفتحُ السمعُ له باباً . كلام يُصْدِي الرّيان ، ويصدئ الأفهام والأذهان . كلام قد تعمّل فيه حتى تبذل ، وتكلّف حتى تعسَّف . طبع جاسٍ ، ولفظ قاسٍ ، لا مساغَ له في سَمْع ، ولا وصول له مع خلو ذَرْع . كلام لا الرويّة ضربَتْ فيه بسَهْم ، ولا الفكرة جالت فيه بقِدْح . كلام تتعثَّرُ في حزونته ، وتتحيَّر الأفهامُ من وعُورته . كلمات ضعيفةُ الإتقان ، قليلة الأعيان ، مضمحلّة على الامتحان . ألفاظ تُسْتَعَارُ من الدياجي ، ومعانٍ تقدر من الأثافي . كلام بمثْلِه يتسلّى الأخرس عن كلمه ، ويفرح الأصم بصممه ، أثقل من الجندل ، وأمرّ من الحنظل ، هو هذيان المحموم ، وسوداء الهموم . كلام رثّ ، ومعنًى غَثّ ، لا طائل فيهما ، ولا طلاوة عليهما . أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه ، ولا من أحجال الكلام وغُرَره . شعر ضعيف الصنعة رديء الصَّبْغة بغيض الصفة وقد جمع بين إقواء وإيطاء ، وإبطاء وإخطاء . ما قطع في شعره شَعْرة ولا سقى قطرة . لو شعر بالنقص ما شَعر . لا يميز بين خبيثِ القول وطيّبه ، ولا يَفْرِق بين بِكْرِه وثَيِّبه . هو باردُ العبارة ، ثقيل الاستعارة . هو من بين الشعراء منبوذ بالعَرَاء . لم يلبَسْ شعرُه حلَّة الطلاوة . له شعر لا يطيب دَرْسه ، ولا يخفُّ سَرْده ، وخطٌ مضطرب الحروف ، متضاعف التضعيف والتحريف . خطّ يُقْذِي العين ويُشْحِي الصَّدْر . خطّ منحطّ ، كأنه أرجل البطّ ، وأنامل السرطان ، على الحِيطان . قلمه لا يستجيب بَرْيه ، ومداده لا يساعد جَرْيه . قلمه كالولد العاقّ ، والأخ المشاق ، إذا أدَرْتَه استطال ، وإذا قوَّمته مال ، وإذا بعثْتَه وقف ، وإذا وقفته انحرف . قلم مائل الشق ، مضطرب المشق ، متفاوت البَرْي ، معدوم الْجَرْي ، محرّف القطّ . قلم لم يُقَلَّم ظفره فهو ، يخدش القِرطاس ، وينقش الأنقاس ، ويأخذ بالأنفاس . قلم لا يُبْعث إذا بعثته ، ولا يقف إذا وقفته . قد وقف اضطرابُ بَرْيِه ، دون استمرار ، جَرْيه ، واقتطعَ تفاوت قَطّه ، عن تجويد خطه .خير الكلام
ذكر عُتبة بن أبي سفيان كلامَ العرب فقال : إن للعرب كلاماً هو أرقّ من الهواء ، وأعذب من الماءِ ، مرق من أفواههم مُروقَ السهام من قِسيها ، بكلمات مؤتلفات ، إنْ فُسِّرت بغيرها عطِلتْ ، وإن بدلت بسوَاها من الكلام استصعبَتْ ؛ فسهولةُ ألفاظِهم توهِمُك أنها ممكنة إذا سمعت ، وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طُلِبتْ . هم اللطيف فهمهم ، النافعُ علمهم ، بلغتهم نزلِ القرآن ، وبها يدرَكُ البيان ، وكلُّ نوع من معناه مُبَاينٌ لما سواه ، والناسُ إلى قولهم يصيرون ، وبهداهم يأتمّون ، أكثر الناسِ أحلاماً ، وأكرمهُم أخلاقاً .
وكان يقال : خير الكلام المُطْمِع الممتنع .
وأنشد إبراهيمُ بنُ العباس الصُّولي لخاله العباس بن الأحنف : السريع :
إليك أشكو ربّ ما حَلّ بي . . . مِنْ صدِّ هذا العاتِب المُذْنِبِ
إنْ قال لَمْ يفعل ، وإنْ سِيلَ لم . . . يبذلْ ، وإن عُوتب لم يُعْتِبِ
صبّ بعصياني ، ولو قال لي . . . لا تشربِ الباردَ لم أشربِ
ثم قال : هذا والله الشعر الحسن المعنى ، السهل اللفظ ، العَذْب المستمع ، الصعب الممتنع ، العزيز النظير ، القليل الشبيه ، البعيد مع قُرْبه ، الحَزْن مع سهولته ، فجعل الناس يقولون : هذا الكلام أحسن من الشعر .
وقال أبو العباس الناشئ يصف شعرهُ : الكامل :
يتحيّر الشعراء إن سمعوا به . . . في حُسْن صنعته وفي تأليفهِ
فكأنه في قُرْبه من فَهْمِهم . . . ونكولهم في العَجْزِ عن ترصيفه
شجرٌ بَدَا للعَيْنِ حسْنُ نباتِه . . . ؤنَأَى عن الأيدي جَنَى مقطوفِه
فإذا قرنت أبيّه بمُطِيعِهِ . . . وقرنتهُ بغَرِيبه وطريفه ألفيت معناه يطابق لَفْظَه . . . والنظم منه جليّهُ بلطِيفهِ
فأتاه متّسِقاً على إحسانه . . . قد نِيط منه رَزينه بخفيفه
هذبتُه فجعلتُه لك باقياً . . . ومنعت صرفَ الدهر عن تَصْرِيفه
وقال الناشئ في فَصْل من كتابه في الشعر : الشعرُ قَيْد الكلام ، وعقل الآداب ، وسُورُ البلاغة ، ومعدن البَراعة ، ومجال الجنان ، ومسرحُ البيانِ ، وذريعة المتوسّل ، ووسيلةُ المتوصل ، وذِمام الغريب ، وحُرْمَة الأديب ، وعِصْمة الهارب ، وعَدَّة الراهب ،ورحلة الدَاني ، ودَوْحَة المتمثل ، وروحة المتحمل ، وحاكم الإعراب ، وشاهِدُ الصواب .
وقال في هذا الكتاب : الشعرُ ما كان سَهلَ المطالع ، فصل المقاطع ، فَحْل المديح ، جَزْل الافتخار ، شجِيَ النسيب ، فكِه الغزل ، سائر المَثَل ، سليم الزلل ، عديم الخلل ، رائع الهجاء ، موجب المعذرة ، مُحَب المعتبة ، مُطْمِع المسالك ، فائت المدارك ، قريب البيان ، بعيدَ المعاني ، نَائي الأغوار ، ضاحي القرار ، نقي المستشف ، قد هُرِيقَ فيه ماءُ الفصاحة ، وأَضاء له نورَ الزجاجة ، فانهل في صادي الفهم ، وأضاء في بهيمِ الرأي . لمتأمله ترقرق ، ولمستشفّه تألّق ، يروق المتوسم ، ويسر المترسم ؛ قد أبدت صدوره مُتُونه ، وزَهَتْ في وجوهه عيونه ، وانقادت كواهله لهواديه ، وطابقت ألفاظه معانيه ، وخالفت أجناسه مبانيه ، فاطّرد لمتصفحه ، وأنار ، لمستوضحه ، واشْبَه الروضَ في وَشْي ألوانِه ، وتعقم أفنانه ، وإشراق نوَاره ، وابتهاج أنجاده بأغواره ؛ وأشبه الوشي في اتفاق رُقومِه ، واتساقِ رُسومه ، وتسطير كفوفه ، وتحبير كفُوفه ؛ وحكى العِقْد في التئام فُصوله ، وانتظام وُصوله ، وازديَان ياقوته بدُره ، وفريده بشَذْرِه ، فلو اكتنف الإيجاز موارده ، وصقَلَت مَدَاوِس الدربة مَناصله ، وشحذت مدارس الأدب فَيَاصِله ، جاء سليماً من المعايب ، مهذباً من الأَدناس ، تتحاشاه الأُبن ، وتتحَامَاه الهُجَن ، مُهدِياً إلى الأسماع بَهْجَته ، وإلى العقول حِكْمته .
وقد قلت في الشعر قولاً جعلته مثلاً لقائليه ، وأسلوباً لسالكيه ، وهو : الكامل :
الشعرُ ما قوّمتَ زَيْغ صدُورِه . . . وشددْتَ بالتهذيب أَسْرَ مُتُونِه
ورَأبتَ بالإِطناب شَعْبَ صدُوعِه . . . وفتحْتَ بالإيجاز غور عُيُونه
وجمَعْتَ بين قريبه وبعيدِهِ . . . ووصَلْتَ بين مجمّه ومَعِينه
وعقدت منه لكلّ أمر يقتضي . . . شبهاً به فقرَنْتَه بقرِينهِ
فإذا بكيت به الديارَ وأهلَها . . . أَجْرَيتَ للمحزون ماءَ شؤُونه
ووكلته بهمومه وغمومه . . . دهراً فلم يَسْر الكَرَى بجفونِه
وإذا مدَحْتَ به جواداً ماجداً . . . وقَضَيتَه بالشُكر حق دُيونه
أصفيته بنفيسِه ورَصينه . . . ومنحتَه بخطيره وثمينه
فيكون جَزْلاً في اتّفاقِ صنُوفِهِ . . . ويكون سَهلاً في اتِّسَاق فُنونِه
وإذا أردتَ كنايةً عبئ رِيبةٍ . . . باينْتَ بين ظهورِه وبُطونِه
فجعلت سامعَه يشوب شكوكهُ . . . ببيانِه وظنونه بيقينهوإذا عتبتَ على أخ في زَلَةٍ . . . أدمَجْتَ شدّته له في لِينه
فتركته مستأنِساً لدماثةٍ . . . مستيئساً لوُعُوثِهِ وحُزُونِهِ
وإذا نبذت إلى التي عُلّقتها . . . إن صارَمَتك بفاتنات شئونه
تيّمتَها بلطيفه ورقيقه . . . وشغفْتَهما بخفِّيهِ وكمينه
وإذا اعتذرتَ إلى أخ في زلَّةٍ . . . وَاشَكْتَ بين مُحِيله ومُبينه
فَيَحُورُ ذَنْبُك عند من يعتدّه . . . عَتْباً عليك مُطَالباً بيمينه
والقولُ يَحْسُنُ منه في مَنثوره . . . ما ليس يحسن منه في مَوْزُونِه
وقال الخليل بن أحمد : الشعراءُ أمراءُ الكلام ، يصرفونه أنّى شاءوا ؛ وجائز لهم ما لا يجوزُ لغيرهم ، من إطلاق المعنى وتقييده ، ومن تصريف اللَفظ وتعقيده ، ومد مقصوره ، وقَصْرِ ممدوده ، والجمع بين لغاتِه ، والتفريق بين صفاته . وقال : الشعرُ حِلْية اللسان ، ومَدْرَجَة البيان ، ونظامُ الكلام ، مقسوم غَيْرُ محظور ، ومشترك غير محصور ، إلا أنه في العرب جَوْهري ، وفي العجم صناعي .
قال أعرابي لشاعر من أبناء فارس : الشعرُ للعرب ، فكل مَنْ يقول الشعر منكم فإنما نزا على أُمّه رجل منا فقال الفارسي : وكذلك من لا يقولُ الشعرَ منكم ، فإنما نزا على أمه رجل منا .
وقال عمارة بن عقيل : أجود الشعر ما كان أَمْلَس المتون ، كثيرَ العيون ، لا يمجُّه السمع ، ولا يستأذِنُ على القلب وأُنشد الجاحظ شعرَ أَبي العتاهية فلم يَرْضَه ، وقال : هو أملَسُ المتون ، ليس له عيونٌ ، كأنه وعُمارة تجاذبا كلاماً واحداً .
وقال ابن عقيل : الشعرُ بضاعة من بضائِع العرب ، ودليل مِنْ أدلَة الأدب ، وأثارة من أثارات الحسب . ولن يهزّ الشعرُ إلا الكريمَ المَحْتِد ، الكثير السؤدد ، الكلِف بذِكْرِ اليومِ والْغَد .
ومدح بشار المهدي فلم يُعطِه شيئاً ، فقيل له : لم تُجِدْ في مَدْحه . فقال : لا والله ، لقد مدَحْته بشعرٍ لو قلت مثلَه في الدهر لما خيف صَرْفُه على حُرّ ، ولكني أُكْذِبُ في العمل ، فأُكْذِبُ في الأمل .
نظمه الناجم فقال : الوافر :ولي في أحمدٍ أَملٌ بَعِيد . . . ومَدْح حين أنشده طريفُ
مدائح لو مدَحْت بها الليالي . . . لما دارت عليَّ لها صروفُ
قال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان : صفْ لي جريراً والفرزدق والأخطل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أَما أعظمهم فَخْراً ، وأبعدُهم ذكراً ، وأحسنهم عذراً ، وأسيَرُهم مَثَلاً ، وأقلّهم غزلاً ، وأحلاهم عِللاً ، البحر الطامي إذا زَخَر ، والحامي إذا ذعر ، والسامي إذا خطر ، الذي إذا هدر جال ، وإذا خطر صال ، الفصيح اللسان ، الطويل العنان ، فالفردزق . وأما أحسنهم نَعْتاً ، وأمدَحُهُمْ بيتاً ، وأقلّهم فَوْتاً ، الذي إن هجا وضع ، وإن مدح رَفَع ، فالأخطل . وأما أَغْزَرُهم بحراً ، وأَرقُهم شعراً ، وأكثرهم ذِكراً ، الأغر الأبلق ، الذي إن طَلب لم يُسْبق ، وإن طُلب لم يُلْحَق ، فجرير . وكلُهم ذكيُ الفؤادِ ، رفيع العماد ، وَارِي الزناد .
قال مسلمة بن عبد الملك ، وكان حاضراً : ما سمعنا يا ابن صفوان في الأولين ولا في الآخرين ، أَشهدُ أنك أحسنهُم وصفاً ، وأَلْينُهُم عِطفاً ، وأخفُهم مقالاً ، وأكرمهم فعالاً . فقال خالد : أتمَّ الله عليك نِعَمه ، وأجزل لك قِسَمه . أنتَ واللّه أيها الأمير - ما علمت - كريمُ الغِراس ، عالمٌ بالناس ، جوادٌ في المَحْلِ ، بسّام عند البَذْلِ ، حليم عند الطيْشِ ، في الذِّرْوَة من قريش ، من أشراف عبد شمس ، ويومك خيرٌ من الأمس .
فضحِك هشام وقال : ما رأيت مثلك يا ابن صفوان لتخلّصك في مَدْح هؤلاء ، ووصفهم ، حتى أرضيتهم جميعاً وسَلِمْتَ منهم .
ودخل العجّاجُ على عبدِ الملك بن مروان فقال له : بلغني أنك لا تُحْسِن الهجاء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مَنْ قَدر على تشييد الأبنية ، أمكنه خَرابُ الأخبية ، قال : ما يمنعُك من ذلك ؟ قال : إنّ لنا عِزّاً يمنعُنَا من أن نُظْلَم ، وحِلْماً يمنعنا من أنْ نَظلم ، قال : لَكَلِماتُك أحسنُ من شعرك فما العزُ الذي يمنعك أن تظلم . قال : الأدب البارع ، والفهْم الناصع . قال : فما الحِلمُ الذي يمنعُك من أن تظلم ؟ قال : الأدب المستطرف ، والطبع التالد ، قال : لقد أصبحت حكيماً . قال : وما يمنعني من ذلك وأنا نَجِيّ أميرِ المؤمنين ؟ .
قال أبو إسحاق : وليس كما قال العجاج ، بل لكثير من الشعراء طباع تَنْبُو عن الهجاء كالطائي وأضْرابه ، وأصحابُ المطبوع أقدرُ عليه من أهل المصنوع ، إذ كان الهجو كالنادرة التي إذا جَرَتْ على سجيَّةِ قائلها ، وقربتْ من يَدِ متناولها ، وكانَ واسِع العطن ، كثير الفطن ، قريب القلب من اللسان ، التهبت بنارِ الإحسان .ومما يَنْحُو هذا النحو من مقامات أبي الفتح الإسكندري إنشاء بديع الزمان قال : حدّثنا عيسى بن هشام قال : طرحتْنِي النوَى مطارِحَها ، حتى إذا وطِئْتُ جُرْجان الأَقْصَى ، فاستظهرْتُ على الأيام بضِياعٍ أَجَلتُ فيها يَدَ العِمَارة ، وأموالٍ وقفتها على التجارة ، وحانوتٍ جعلته مَثابةُ ، ورُفقة اتخذتهم صَحَابة ، وجعلتُ للدار حاشِيَتي النهار ، والحانوتِ ما بينهما ، فجلسنا يوماً نتذاكرُ الشعر والشعراء ، وتلقانَا شاب قد جلس غير بعيد ، يُنْصِت وكأنه يفهم ، ويسكت وكأنه لا يعلم ، حتى إذا مال الكلامُ بنا مَيْله ، وجَرً الجَدَل فينا ذَيله ، قال : أصبتم عُذَيقهُ ووافيتم جُذَيله ، ولو شئْتُ للفظت فأفَضت ، ولو أردت لسردت ، ولجلوت الحقَّ في معرض بيانٍ يُسْمِعُ الصم ، ويُنْزِل العُصم . فقلت : يا فاضل ، اُدْنُ فقد منَّيْتَ ، وهات فقد أثنيت ، فدنا وقال : سَلُوني أُجِبْكم ، واستمعوا أُعْجِبكم .
قلنا : فما تقول في امرئ القيس ؟ قال : هو أول مَن وَقَفَ بالديار وعَرصاتِها ، واغْتَدى والطيرُ في وُكُنَاتها ، ووصف الخيلَ بصفاتها ، ولم يقل الشعرَ كاسِباً ، ولم يُجِدِ القول راغباً ، ففَضل من تفتًقَ لِلْحِيلة لسانُه ، وانتجَعَ للرغبة بنانُه .
قلنا : وما تقول في النابغة ؟ قال : ينسب إذا عَشِق ، ويَثْلُبُ إذا حَنِق ، ويمدح إذا رَغِب ، ويعتذر إذا رَهِب ، فلا يرمي إلا صائباً .
قلنا : فما تقول في طَرَفة ؟ قال : هو ماءُ الأشعار وطينتها ، وكَنز القوافي ومدينتها ، مات ولم تظهر أَسرارُ دفائنه ، ولم تطلق عِتَاق خزائنه .
قلنا : فما تقول في زهير ؟ قال : يُذيب الشعرَ والشعرُ يذيبه ، ويدعو القَوْل والسِّحْرُ يُجِيبه .
قلنا : فما تقول ، في جرير والفرزدق . وأيهما أسْبَق ؟ قال : جرير أرقّ شعراً ، وأَغْزَر غزراً ، والفرزدق أمتَنُ صخراً ، وأكثر فخراً ، وجرير أَوجَع هَجْواً ، وأشرف يوماً ، والفرزدق أكثر رَوْماً ، وأكثر قوماً ، وجرير إذا نَسب أَشْجَى ، وإذا ثَلَب أَرْدى ، وإذا مدح أسنى ، والفرزدق إذا افتخر أَجْزى ، وإذا وصف أوفى ، وإذا احتقر أزْرى .
قلنا : فما تقول في المحدَثين من الشعراء والمتقدّمينَ منهم ؟ قال : المتقدمون أشرفُ لفظاً ، وأكثرُ في المعاني حظاً ، والمتأخرون ألطفُ صُنْعاً ، وأرق نَسْجاً .قلنا : فلو أريتَ من أشعاركِ ، وروَيْتَ من أخبارك ، قال : خُذْهما في معرض واحد ، أنشد : الرجز :
أمَا تَرَوْنِي أَتغشى طِمْرا . . . مُلْتَحِفاً في الضُرِّ أمْراً إمْرَا
مُنْطَوياً عَلَى الليالي غِمْرا . . . ملاقياً منها صروفاً حُمْرا
أقصى أمانِيَ طُلُوعُ الشَعْرَى . . . فقد عُنِينَا بالأماني دَهْرَا
وكان هذا الحرُ أعلى قَدْرا . . . وماءُ هذا الوجهِ أغْلَى سِعرَا
ضربت للسرْو قِبَاباً خُضْرَاً . . . في دَارِ دَارَا وإوانِ كِسْرَى
فانقلبَ الدهرُ لبَطْنِ ظَهْرا . . . وعاد عُرْفُ العَيْشِ عندي نُكْرَا
لم يُبْقٍِ مِنْ وَفْرِيَ إلاَّ ذِكْرَا . . . ثمَّ إلى اليوم هلمَّ جَرَّا
لولا عجُوزٌ لي بُسرَّ مَنْ را . . . وأفْرخٌ دُونَ جبالِ بُصْرَى
قد جَلَبَ الدَّهرُ إليهم شرّا . . . قتَلْتُ ، يا سادةُ ، نَفْسِي صَبْرَا
قال عيسى بن هشام : فنُلْتُه ما تَاحَ ، وأعرض عنّا فَراحَ ، وجعلتُ أنفيه وأثبته ، وأُنكِره وكأني أعرفهُ ، ثم دلَّتني عليه ثناياه ، فقلت : الإسكندري واللهٍ ؛ فلقد كان فارقَنا خِشفاً ، ووافانا جِلْفاً ، ونهضتُ على إثْرِه ، ثم قبضتُ عَلَى خَصْرِه ، وقلت : اْلستَ أبا الفتح . ألم تكُنْ فينا وَليداً ، ولبثْتَ فينا من عُمْرك سنين ؟ فأَيُ عجوز لكَ بسرّ مَنْ رأى ؟ فضحك وقال : مخلع البسيط :
ويحك هذا الزمان زُورُ . . . فلا يغرَّنَّك الغُرورُ
غرٍّق وبَرِّق وكلْ وطرِّقْ . . . واسرقْ وطَلْبِقْ لمن تَزُورُ
لا تلتزم حالة ولكن . . . دُرْ لليالي كما تَدُورُ ومن إنشائه مقامة ولدها على لسان عِصْمة وذي الرمة قال : حدّثنا عيسى بن هشام قال : بينا نحن في مجتمع لنا ومعنا يومئذ رجلُ العرب حِفْظاً ورِوَاية عصْمَة بن بَدْر الفَزَارِي ، فأَفْضى الكلامُ إلى ذِكرِ مَنْ أعرضَ عن خَصْمِه حِلْماً ، أو أعرض عنه خَصْمُه احتقاراً ، حتى ذكر الصَّلَتَان العَبْدِي واللعِين المنقري ، وما كان من احتقار جرير والفرزدق لهما . فقال عصمة : سأحدِّثكم بما شاهدته عيني ، ولا أحدّثكم عن غيري : بينا أنا أسيرُ في بلاد تميم مرتحلاً نجيبة ، وقائداً جَنيبة ، عنَّ لي راكب على أوْرَقَ جَعْد اللُّغَام ، فاجتازبي رافعاً صَوْتَه بالسلام . فقلت : مَنِ الراكبُ الجهيرُ الكلامِ ، المحيي بتحيَّةٍ الإسلام ؟ فقال : أنا غَيْلان بن عُقْبَة . فقلت : مرحباً بالكريم حَسَبُه ، الشهير نسبه ، السائر منطقه . فقال : رَحُبَ وَادِيك ، وعز وادِيك ، فمن أنت ؟ قلت : عصمة بن بدر الفزاري . فقال : حيّاك الله ، نعم الصديقُ ، والصاحبُ والرفيقُ . وسِرْنا فلما هَجَّرنا قال : ألا نُغَوِّرُ يا عصمة ، فقد صهرتنا الشمسُ ؟ فقلت : أنْتَ وذاكَ ، فملْنا إلى شجرات ألاء كأنهن عذارَى متبرّجات ، قد نَشَرْنَ الغدائر ، وسرّحْن الضفائر ؛ لأَثلاثٍ متناوحات ؛ فحطَطْنا رِحَالنا ، ونِلْنَا من الطعام ، وكان ذو الرمة زهيدَ الأكل . وزال كل منا إلى ظل أثلة يريد القَائِلَة ، واضطجع ذو الرُّمة ، وأردتُ أن أصنَعَ صنيعَه ، فوليْتُ ظَهْري الأرض ، وعيناي لا يملكهما غُمض ، فنظرتُ غير بعيدٍ إلى ناقةٍ كَوْمَاء ، ضَحِيَتْ وغَبِيطُها مُلْقًى ، وإذا رجل قائم يكلؤها كأنه عَسِيفٌ أو أسيف ، فلَهِيت عنهما ، وما أنا والسؤال عما لا يَعْنِيني ونام ذو الرُّمة غِرَاراً ، ثم انتبهَ ، وكان ذلك في أيام مُهَاجاته لذلك المرّي . فرفع عقرته ينشد فيه : المتقارب :
أمنْ ميَّةَ الطلَلُ الدارِسُ . . . ألظّ به العاصِفَ الرَامِسُ
فلم يَبْقَ إلا شَجيج القَذَال . . . ومُسْتَوْقَدٌ ما لَه قَابِسُ
وجَوْضٌ تَلَّثَمَ من جانبَيْهِ . . . ومحتَفَل دَائِرٌ طامِسُ
وعَهدِي بهِ وبهِ سَكْنُهُ . . . ومَيَّةُ والإِنْسُ والآنس
ستأتي امرأَ القيس مأثورةٌ . . . يغنِّي بها العابِرَ الْجَالِسُ
ألم تر أنًّ امرأ القيْس قد . . . ألظّ به داؤه الناجس
همُ القومُ لا يَألَمُون الهِجَاءَ . . . وهل يَأْلَمُ الحَجَرُ اليابِسُ ؟
فما لهُمُ في الفَلاَ رَاكِبٌ . . . ولا لهمُ في الوَغى فَارِسُ
إذا طَمحَ الناسُ للمكرمات . . . فَطَرفُهمُ المطرِقُ الناعِسُ
تعَافُ الأكارِمُ إصهارَهم . . . فكل نسائهمُ عَانِسُفلمّا بلغ هذا البيت جعل ذلك النائم يمسح . عينيه ويقول : أذو الرُّمَيْمَة يمنعني النوم بشعرٍ غيرِ مثقف ولا سائر ؟ فقلت : يا غيلان ، منْ هذا ؟ فقال : الفريزد ، يعني الفرزدق ، وحَمي ذو الرمة : المتقارب :
وأمَا مُجَاشعٌ الأَرْذَلُون . . . فلم يَسْقِ ميّتَهُمْ رَاجِسُ
سَيَعْقلُهم عن مَساعِي الكِرَام . . . عِقَالٌ ، ويَحْبِسُهم حَابِسُ
فقلت : الآن يَشْرق فيثُور ، ويعمُّ الفرزدقُ هذا وقبيله بالهجاء . فوالله ما زاد على أن قال : قبحاً لك يا ذا الرُّمَيْمَة أتعرِضُ لمثلي بمَقَال مُنتحل . ثم عاد في نَوْمِه كأن لم يسمَعْ شيئاً ، وسار ذو الرّمة وسِرْت ، وإني لأرى فيه انكساراً حتى افترقْنا .
قوله فيما ولد على الفرزدق بمقال مُنتحل ، يريد أن البيتَ الأخير منقول من قول جرير : الطويل :
ألم تر أن الله أَخْزَى مجاشِعاً . . . إذا ما أفاضَتْ في الحديث المجالسُ
وما زال معقولاً عِقالٌ عن الندى . . . وما زال محبوساً عن المجد حَابِسُ
عقال : ابن محمد بن سعيد بن ، مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، وهو جَذ الفرزدق . وحابس : ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم ، وهو أبو الأقرع بن حابس أحدُ المؤلّفة قلوبهم .
فِقر في الشعر
قيل لابن الزّبَعْرى : لم تقصّر أشعارك ؟ فقال : لأنها أعْلَق بالمسامع ، وأجْوَل في حافِلِ . وقيل ذلك لعقيل بن عُلَّفة في أهاجيه ، فقال : يكفيك من القلاَدَة ما أحاط بالعُنُقِ .
غيره : لسانُ الشاعر أرض لا تُخْرِج الزهر حتى تستسلف المطر ، وما ظنّك بقوم الاقتصارُ محمود إلا فيهم ، والكذب مذموم إلا منهم . إياكم والشاعر فإنه يطلب على الكذب مَثُوبة ، ويقرع جليسه بأدنى زَلّة .
أبو القاسم الصاحب بن عباد : النثر يتطايرُ كتَطايُر الشّرر ، والنظم يبقى بقاء النَّقْش الحَجَر .
أبو عبيدة : الزّحَاف في الشعر كالرُخْصَة في الدين ، لا يُقدِم عليها إلا فقيه .وقال أبو فراس الحمداني : مخلع البسيط :
تَناهَضَ الناسُ للمعاني . . . لَمَّا رَأَوْا نحوَها نُهوضي
تكلّفوا المكرمات كَذّا . . . تَكلُفَ الشعرِ بالعَرُوضِ
وقد مدح الجاحظ العروض وذمّها ، فقال في مدحها : العروض ميزان ، ومعراض بها يعرَفُ الصحيح من السقيم ، والعليل من السليم ، وعليها مَدَار الشعر ، وبها يسلم من الأَوَدِ والكَسْر . وقال في ذمّه : هو علم مُوَلّد ، وأدب مستَبْرد ، ومذهب مرفوض ، وكلام مجهول ، يستنكر العقل بمستفعلن وفعول ، من غير فائدة ولا محصول .
ومن مفردات الأبيات في هذا المعنى قول دعبل : الطويل :
يموتُ ردِيءُ الشعرِ من قبل أهْلِه . . . وجَيّدُه يَبْقَى وإن مات قَائِلهْ
البحتري : البسيط :
أعْيَا عليَّ ؛ فلا هَيَّابةٌ فَرِقٌ . . . يَخْشَى الهِجاءَ ، ولا هَشّ فَيُمتدَحُ
آخر : الوافر :
ومِمّا يَقْتُل الشعراء غَمّاً . . . عداوة من يُغَلّ عن الهجاء
أحمد بن أبي فَنن : الطويل :
وإن أحقّ الناس باللؤم شاعرٌ . . . يَلوم على البخلِ اللئامَ ، ويَبْخلُ
وهذا كقول علي بن العباس الرومي في أبي الفياض سَوّار بن أبي شراعة ، وكان سوّار شاعراً مجيداً : الكامل :
يا مَنْ صناعته الدعاءُ إلى العُلاَ . . . ناقَضْتَ في فِعليك أيّ نِقَاضِ
عجباً لحَضَّاضِ الكِرَام على الذي . . . هو فيه محتاجٌ إلى حَضَاضِ
وَصَفَ المكارِم وهْوَ فيها زاهِدٌ . . . ورَأى الجميلٍ وفيه عنه تَغَاضِ
لم ألْقَ كالشعراء أكثر حارضاً . . . وأشدَّ معتِبَة على الحَرّاضِكم فيهمُ من آمرٍ برشيدةٍ . . . لم يأتِها ، ومرغبٍ رفَّاضِ
يا حسرتي لمودَّةٍ أدبيةٍ . . . لم نفترق عنها افتراقَ تَرَاضِ
ليس العتابُ بنافعٍ في قاطع . . . أعْيَا المشيبُ تتابعَ المِقْرَاضِ
ثم قال بعد هذا التبكيت والعِتَاب ما منعه أن يَتَوَهَم أنه هجاه : الكامل :
وَلَمَا هجوتُكَ ، بل وعظتُك إنَني . . . لا أجعلُ الأعراض كالأغراضِ
فاكفُفْ سِهامَك عَن أخيك فإنما . . . آسفْته ، فَرَمَاك بالمعرَاضِ
فمتى حلمتُ وجدتَ أحْنفَ دَهْرِهِ . . . ومتى جهلتُ مُنيتَ بالبرّاضِ
فاعذِر أخاك على الوعيد ؛ فإنما . . . أنذرت قبل الرَّمْي بالإنباضِ
واعلم وقيت الجهلَ أن خساسةً . . . بطرُ الغنى ومذلّةُ الإبعاضِ
ثم هجاه بقوله : البسيط :
وما تكلمتَ إلا قلت فاحشةً . . . كأن فكّيْك للأغراض مِقْراضُ
مهما تقل فسِهَامٌ منكَ مُرْسَلةٌ . . . وَفُوَك قوْسُك والأعراض أغْرَاض
وابن الرومي هذا كما قال مسلم بنُ الوليد الأنصاري في الحكم بن قنبر المازني : الخفيف :
عَابني من معايبٍ هُنَّ فيهِ . . . حكم فاشتفى بها من هَجَائي
وكما قال الآخر : الطويل :
ويأخذ عيبَ الناسِ مِن عَيْبِ نفسه . . . مُرادٌ لعمري ما أرادَ قريبُ
ترجمة الأحنف بن قيس وأخباره
وروى عيسى بن دَأب قال : أول ما عرف الأحنف بن قيس وقُدَّم أنه وفد على عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وكان أحْدَثَ القوم سناً ، وأقبحهم منظراً ، فتكلم كل رجل من الوَفْدِ بحاجته في خاصته ، والأحنف ساكِتٌ ، فقال له عمر : قل يا فتى فقام فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إن العرب نزلتْ بمساكن طيبة ذات ثمار وأنهار عذَاب ، وأكنَّة ظليلة ، ومواضع فسيحة ، وإنا نزلنا بسَبِخةٍ نَشَّاشة ، ماؤُها مِلْح ، وأفنيتها ضيقة ، وإنما يأتينا الماء في مثل حلق النعامة فإلا تدركنا يا أمير المؤمنين بحَفْر نهر يَغْزر ماؤه ، حتىتأتيَ الأمَة فتغرف بجرّتها وإنائها أوشك أن نهلك ، قال : ثم ماذا ؟ قال : تزيد في صَاعِنا ومُدنا ، وتثبت من تلاَحق في العطاء من ذُرّيّتنا . قال : ثم ماذا ؟ قال : تخفّف عن ضعيفنا ، وتنصف قوينا ، وتتعاهد ثغورنا ، وتجهّز بعثَنا ، قال : ثم ماذا ؟ قال : إلى ها هنا انتهت المطالب ، ووقف الكلام . قال : أنت رئيس وَفْدِك ، وخطيب مِصرك ، قم عَنْ موضعك الذي أنت فيه . فأدناه حتى أقعده إلى جانبه ، ثم سأله عن نسبه ، فانتسب له ، فقال : أنت سيدُ تميم ، فبقيت له السيادة إلى أن مات .
وهو الأحنف ، واسمُه الضحّاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن حصن بن عبادة بن النزال بن مرّة بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
وقال بعض بني تميم : حضرتُ مجلس الأحنف وعنده قومٌ مجتمعون له في أمرٍ لهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنّ الكرمَ مَنْعُ الحرمِ ، ما أَقربَ النقمةَ من أهل البَغْي ، لا خيرَ في لذَّةٍ تُعقِب ندماً ، لم يهلك من اقتصد ، ولم يفتقر من زهد ، رب هزْل قد عاد جِداً ، من أَمِن الزمان خانه ، ومن تَعَظّم عليه أهانه ، دَعُوا المِزَاحَ فإنه يُوَرِّثُ الضغائن ، وخَيرُ القول ما صَدَّقه الفِعْل ، احتملوا لِمَنْ أَدلَّ عليكم ، واقبلوا عُذْرَ من اعتذر إليكم ، أطِعْ أخاك وإن عَصَاك ، وصِلْهُ وإن جَفَاك ، أنصفْ مِنْ نفسك قبل أن يُنتصفَ منك ، إياكم ومشاوَرَة النساء ، واعلم أنّ كُفْرا النِّعَمِ لؤم ، وصُحْبَة الجاهل شُؤم ، ومن الكرم الوفاء بالذّمم ، ما أَقْبَح القطيعةَ بعد الصلةِ ، والجفاءَ بعد اللَّطَف ، والعداوة بعد الوُدّ ، لا تكونَنَّ على الإساءةِ أقوى منك على الإحسان ، ولا إلى البُخْل أسرعَ منك إلى البَذْل ، واعلَمْ أن لك من دُنياك ما أصلحت به مَثْوَاك ، فأنفق في حَقّ ، ولا تكن خازِناً لغيرك ، وإذا كان الغَدْرُ موجوداً في الناس فالثِّقَةُ بكل أحدٍ عَجْز ؛ اعْرِف الحقّ لمن عَرفَه لك ، واعلم أنَّ قطيعةَ الجاهلِ تَعْدِل صلةَ العاقل . قال : فما سمعتُ كلاماً أبلغَ منه . فقمت وقد حفظته .
ودخل الأحنف على معاوية ، ويزيدُ بين يديه ، وهو ينظرُ إليه إعجاباً ، فقال : يا أبا بَحْر ، ما تقولُ في الولَدِ ؟ فعلم ما أراد ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، هم عمادُ ظهورنا ، وثمرُ قلوبنا ، وقرة أعيننا ، بهم نَصولُ على أعدائنا ، وهم الخلف مِنَّا بَعْدَنا ، فكن لهم أرضاً ذليلة ، وسماءً ظليلة ، إن سألوك فأَعْطِهم ، وإن استعتبوك فأَعْتِبْهُم ، ولا تمنَعْهم رِفْدِكفيملِّوا قُرْبَك ، ويستثقلوا حياتَك ، ويتمنّوا وَفاتك . فقال : للَّه درُّك يا أَبا بَحْر ، هُمْ كما قلت .
وزعمت الرواة أنها لم تسمع للأَحنف إلا هذين البيتين : المتقارب :
فلو مدّ سَرْوي بمالٍ كثير . . . لَجُدتُ وكنتُ له بَاذلا
فإنّ المروءةَ لا تستطاع . . . إذا لم يَكُنْ مالُها فاضِلا
وكان يُبَخَّل . وقال لبني تميم : أتزعمون أني بخيل واللّه إني لأُشير بالرَّأْي قيمتُه عشرةُ آلاف درهم فقالوا : تقويمك لرَأْيك بُخْل . وكان الأَحْنفُ من الفضلاء الخطباء النّسّاك ، وبه يُضْرَب المثل في الحِلْم .
وقد ذُكر للنبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، فاستغفَر له ، فقد بعث النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، رجلاً إلى قومه بني سَعْد يَعْرض عليهم الإسلام ، فقال الأحنف : إنه يدعوكم إلى خَيْر ، ولا أسمعُ إلا حسناً . فذُكِر للنبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ' اللهم اغْفر للأحنف ' . وكان الأحنفُ يقول : ما شيء أَرْجَى عندي مِنْ ذلك . قال عبدُ الملك بن عُمَير : قدم إلينا الأحنفُ ، فما رأينا خصلةً تُذَمّ في رجل إلا رأيناها فيه ، كان أصلع الرَّأْسِ ، متراكب الأسنان ، أشْدَق ، مائل الذَّقَنِ ، ناتئ الوجنتين ، باخق العينين ، خفيفَ العارضين ، أحْنف الرّجلين ، وكانت العينُ تقتحمُه دَمَامَةً وقلّة رُواء ، ولكنه إذا تكلَّم جَلَّى عن نفسِه . وهو الذي خطب بالبصرة حين اختلفت الأحياءُ ، وتنازعت القبائل ؛ فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : يا معشرَ الأزد وربيعة ، أنتم إخوانُنا في الدين ، وشركاؤنا في الصَهْرِ ، وأكفاؤُنا في النسب ، وجيرانُنا في الدار ، ويَدُنا على العَدُوّ ، واللّه لأَزْدُ البَصرة أحب إلينا من تميم الكوفة ، ولأزد الكوفة أحبّ إلينا من تميم الشام ، وفي أموالنا وأحلامنا سعة لنا ولكم .
وقد قام خطباءُ البصرة في هذا اليوم وتكلّموا وأَسهبوا ، فلمّا قام الأحنف أَصْغَت القبائلُ إليه ، وانثالتْ عليه ، وقال الناس : هذا أَبو بَحْرٍ ، هذا خطيب بني تميم ، وحضر ذلك الجمعَ جاريةٌ لآلِ المهلب ، فذهبتْ ترومُ النظر إليه ، فاعتاص ذلك عليها ، فأشرفَتْ عليه من دارِها ، فلمّا رأته والأبصارُ خاشعةٌ لكلامه ، ورأت دمامةَ خَلْقه ، وكثرة آفاتِ جوارِحه ، قالت : فُقدَتْ هذه الخِلْقة ولو افترَّتْ عن فَصلِ الخطاب .وذكر المدائني أنَّ الأحنفَ بن قيس وَفَدَ على معاوية ، رضي الله عنه ، مع أهل العراق ، فخرج الآذِنُ ، فقال : إنّ أميرَ المؤمنين يعزم عليكم ألا يتكلمَ أحدٌ إلا لنفسه . فلمّا وصلوا إليه قال الأحنف : لولا عَزْمَة أمير المؤمنين لأخبرته أن دافَّة دَفَّتْ ، ونازلةً نزلَتْ ، ونابتة نبتَتْ ، كلّهم بهم حاجة إلى معروفِ أمير المؤمنين وبرّه ، قال : حسبك يا أبا بحر ، فقد كفيت الشاهِدَ والغائب .
ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد كتب إلى زياد أن يوجِّه إليه بوَفْد أهلِ العراق ، فبعث إليه بوَفْدِ البصرة والكوفة ، فتكلَّمت الخطباءُ في يزيد ، والأحنف ساكِتٌ ، فلما فرغوا قال : قل يا أَبا بَحْر ، فإنَّ العيونَ إليك أَشْرَع منها إلى غيرها ، فقام الأحنف فحمد الله وأَثنى عليه ، وصلّى على نبيِّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : يا أميرَ المؤمنين ، إنك أعلَمُنا بيزيدَ في ليله ونهاره ، وِإعلانه وإسراره ، فإنْ كنتَ تَعْلَمُه لله رضاً فلا تشاوِرْ فيه أحداً ، ولا تُقِمْ له الخطباءَ والشعراء ، وإن كنتَ تعلم بُعْدَه من الله فلا تزوّده من الدنيا وتَرْحَل أنْتَ إلى الآخرة ، فإنك تَصير إلى يومٍ يفرُّ فيه المرءُ من أخيه ، وأمّه وأبيه ، وصاحبته وبنيه . قال : فكأنه أفْرغ على معاوية ذنوب ماء بارد . فقال له : اقعُدْ يا أبا بَحْرة فإن خِيرَة الله تَجْرِي ، وقضاءَ الله يمضِي ، وأحكام الله تنفذ ، لا مُعَقِّب لحكمه ، ولا رَادَّ لقضائه ؛ وإن يَزيدَ فتًى قد بلَوْنَاه ، ولم نجِدْ في قريش فتى هو . أَجْدَر بأن يُجتمَع عليه منه . فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت تَحْكِي عن شاهد ، ونحن نتكلَمُ على غائب ، وإذا أراد الله شيئاً كان .
قال ابن الرومي : الكامل :
إن امرأً رَفَض المكاسب واغْتَدَى . . . يتعلَّمُ الآدَابَ حتى أحكما
فكسَا وحَلَّى كلَّ أرْوَع مَاجد . . . من حُرِّ ما حاكَ القرِيضَ ونَظما
ثِقةً برعْي الأكْرمين حقوقَه . . . لأحقّ ملتمسٍ بألاّ يُحْرَما
قال أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمَار : ومن نادرِ شعر أبي الحسن في هذا المعنى - قوله ، ووصف إتعاب الشعراء أنْفُسَهم بدُؤوبهم في صناعتِهم ، وما يتصرّم من أعمارهم ، وأن إلحاحَهم في طلَبِ ما في أيدي من أسلفُوه مديحَهم لو كان رغبة منهم إلى ربهم كان أجْدَى عليهم ، وأقرب من درك بُغْيتهم ، ونُجْح طَلِبتهم ، ثم انحرف إلى توبيخ من مَدَحه فحرمه بأحسن عبارة ، وأرضى استعارة ، فقال : الكامل :
للناس فيما يكلفون مَغَارِم . . . عند الكِرَام لها قَضَاءُ ذمَامِومغارم الشعراء في أشعارهم . . . إنفاقُ أعماَرٍ وهَجرُ مَنَامِ
وجفاء لذاتٍ ورفضُ مكاسب . . . لو حُولفت حرست من الإعدام
وتَشَاغُل عن ذكر رب لم يَزَلْ . . . حَسَنَ الصنائعِ سابغَ الإنعام
من لو بخدمته تشاغل معشرٌ . . . خدموكم أجْدَى على الخدام أفَما لذلك حُرْمة مرعيّةٌ . . . إنّ الكرامَ إذاً لغَيْرُ كِرامِ
لم أحتَسِبْ فيك الثوابَ بمِدْحتي . . . إياك يا ابن أكارِم الأقوامِ
لو كان شعرِي حِسْبَةً لم أكْسُهُ . . . أحداً أحق به من الأيتام
لا تقبلنّ المدْحَ ثم تعافهُ . . . فتنام والشعراءُ غيرُ نيامِ
واحذَرْ معرَّتهم إذا دنَّستهم . . . فلهم أشدُّ معَرّة العُرَّام
واعلَمْ بأَنهمُ إذا لم يُنصَفوا . . . حكموا لأنفسهم على الحكّام
وجناية العادِي عليهم تنقَضِي . . . وعقابهُم يَبْقَى مع الأيامِ
أبو الطيب المتنبي : الكامل :
ومكايِدُ السفهاء واقعةٌ بِهِمْ . . . وعَداوةُ الشعراء بِئْسَ المُقْتَنَى
مات الأحنف بن قيس بالكوفة ، فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء ، وقال : اليوم مات سرُ العرب ؛ فلما دُفن قامت امرأةٌ على قبره فقالت : لله دَرُّك من مُجَنٍّ في جَننٍ ، ومُدْرَج في كَفَن ، نسألُ الذي فجعنا بموتك ، وابتلانا بفَقْدِك ، أن يجعلَ سبيلَ الخيرِ سبيلَك ، ودليلَ الرّشد دَليلك ، وأن يوسّع لك في قبرك ، ويغفر لك يوم حَشْرِك ؛ فواللّه لقد كنت في المحافل شريفاً ، وعلى الأرامل عَطُوفاً ، ولقد كنت في الحي مُسَوَّداً ، وإلى الخليفة مُوفَداً ، ولقد كانوا لقولك مستَمِعين ، ولرأيك متّبِعين ؛ ثم أقبلت على الناس فقالت : ألا إن أولياء الله في بلادِه ، شهود على عباده ، وإني لقائلةٌ حقّاً ، ومثنيةٌ صِدْقاً ، وهو أهلٌ لحُسْنِ الثناء ، وطيب النّثَا ، أما والذي كنتَ من أجله في عدَّة ، ومن الحياةِ إلى مدَّة ، ومن المقدار إلى غاية ، ومن الإياب إلى نهاية ، الذي رفع عملك ، لما قَضَى أجَلَكَ ، لقد عِشت حميداً مودوداً ، ومُتَّ سعيداً مفقوداً ، ثم انصرفت وهي تقول : الكامل :
للهِ دَرُك يا أبا بَحْرِ . . . ماذا تغيبَ منكَ في القَبْر ؟لله دَرُّك أيّ حَشْوِ ثرًى . . . أصبحتَ من عُرْف ومِن نُكْرِ
إنْ كان دهرٌ فيك جرَّ لنا . . . حدَثاً به وهَنَتْ قُوَى الصَّبْرِ
فلكم يَدٍ أسديتها ويدٍ . . . كانَتْ تَرُدُّ جرائرَ الدهرِ
ثم انصرَفت فسُئِل عنها ، فإذا هي امرأتُه وابنةُ عقَه . فقال الناس : ما سمعْنا كلامَ امرأة قطّ أبلغ ولا أصدق منه .
قال : وكان الأحنفُ قدم الكوفة في أيام مصعب بن الزبير ، فرآه رجلٌ أعورَ دميماً قصيراً أحْنَفَ الرجلين ، فقال له : يا أبا بحر ، بأي شيء بلغتَ في الناس ما أرى ؛ فوالله ما أنتَ بأشرف قومِك ، ولا أجودِهم ؟ فقال : يا ابن أخي ، بخلاف ما أنت فيه قال : وما هو ؟ قال : تَرْكِي من أمرك ما لا يعنيني ، كما عَنَاك من أمري ما لا تتركه .
ترجمة منصور النمري وأخباره
اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم : مَنْ كان منكم يحْسِنُ أن يقول مثل قول منصور النَّمري في أمير المؤمنين الرشيد : البسيط :
إنِّ المكارمَ والمعروفَ أودية . . . أحلّك الله منها حيث تجتمعُ
إذا رفَعْتَ امرأً فاللَهُ رافِعُه . . . ومن وضعْتَ من الأقوام متضعُ
من لم يكن بأمين اللهِ معتضماً . . . فليس بالصلواتِ الخمس ينتفعُ
إنْ أخلف الغيثُ لم تُخْلِف أناملُه . . . أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتسع
فليدخل ، فقال محمد بن وهيب : فينا من يقولُ خيراً منه ، وأنشد : البسيط :
ثلاثةٌ تشرِقُ الدنيا ببهجتهم . . . شمس الضحى وأبو إسحاقَ ، والقمر
يحكي أفاعيلَه في كل نائبةٍ . . . الغيثُ والليثُ والصمصَامة الذكَرُ
فأَمر بإدخاله وأحسن صلَته .
أخذ معنى البيت الأول من بيتي محمد بن وهيب أبو القاسم محمدُ بن هانئ الأندلسي : الكامل :
المُدْنَفانِ من البَرِيةِ كلِّها . . . قَلْبي وطَرْفٌ بابليّ أَحْوَرُوالمُشْرِقاتُ النَّيراتُ ثلاثةٌ ؛ . . . الشمسُ والقمرُ المنيرُ وجَعْفَرُ
وبيت أبي القاسم الأول مأخوذ من قول ابن الرومي : مجزوء الرمل :
يا عليلاً جعل العِلة مِفْتاحاً لسقمي
ليس في الأرض عليلٌ . . . غير جَفْنَيك وجِسْمِي ومَرَّ النمري بالعتابي مغموماً فقال : ما لك ، أعزَّك اللّه ؟ فقال : امرأتي تطلقُ منذ ثلاث ونحنُ على يَأْسٍ منها . فقال له العتابي : وإنَّ دواءها منك أقربُ من وجهها ، قل : هارون الرشيد ، فإن الولدَ يخرج فقال : شكوت إليكَ ما بي ، فأجبتني بهذا ؟ فقال : ما أخذت هذا إلا من قولك : البسيط :
إن أخلف الغيث لم تخلف أنامِله . . . أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتسعُ
وأبيات منصور بن سَلمة بن الزبرقان النمري التي ذكرها المعتصم من قصيدة له وهي أحسنُ ما قيل في الشيب أَولها : البسيط :
ما تنقضي حَسْرَةٌ ولا جَزَع . . . إذا ذكرتُ شباباً ليس يُرْتَجَعُ
بانَ الشباب وفاتَتْني بغرَّتِه . . . خطوبُ دَهْرٍ وأَيامٌ لها خُدَعُ
ما كنتُ أوفي شبابي كُنْه غِرَّتِه . . . حتى انقضى فإذا الدنيا له تَبعُ
تعجَّبَتْ أن رأتْ أسرابَ دمعتِه . . . في حلبة الخدِّ أجْرَاها حشًى وَجِعُ
أصبحت لم تطعمي ثُكْلَ الشباب ولم . . . تَشْجَي بغُصَتِه فالعُذْر لا يَقعُ
لا ألحين فتاتي غير كاذبةٍ . . . عين الكذوب فما في ودِّكم طمَع
ما واجه الشيبَ من عَيْبٍ وإن وَمِقَتْ . . . إلا لها نَبْوَة عنهُ ومُرْتَدَعُ
إني لمعترف ما فيَّ من أرَبٍ . . . عند الحسان فما للنَّفْسِ تَنْخَدِع
قد كدت تقضي على فَوْت الشباب أسًى . . . لولا تعزيك أنّ الأمرَ منقطِعُوذُكر أن الرشيد لما سمع هذا بكى ، وقال : ما خير دنيا لا تخطر فيها ببرد الشباب وأنشد متمثّلاً : الوافر :
أَتأمُل رَجعَة الدنيا سَفَاهاً . . . وقد صار الشبابُ إلى ذهَابِ
فليت الباكياتِ بكلّ أرض . . . جُمِعْنَ لنا فنُحْنَ على الشبابِ
وكان الرشيد يقدم منصوراً النمري بجَوْدَة شعره ، ولمَا يَمُتُّ إليه من النسب من العباس بن عبد المطلب ، رضي الله عنه ، وكانت نثيلة أم العباس من النمر بن قاسط ؛ ولمَا كان يُظْهِر من الميل إلى إمَامَة العباس وأهله ، والمنافرة لآل علي ، رضي الله عنه ، ويقول : الوافر :
بني حسن وقل لبني حُسَين . . . عليكمْ بالسَّدَادِ من الأمورِ
أميطوا عنكُم كذِب الأماني . . . وأحلاماً يَعِدْن عِداة زُورِ
تسَمون النبي أباً ويَأْبى . . . من الأحزاب سَطرٌ في سطورِ
يريدُ قولَ الله تعالى : ' ما كانَ محمدٌ أبا أحَدٍ من رِجالِكُمْ ' . وهذا إنما نزل في شأن زيد بن حارثة ، وكان رسولُ الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، تبنّاه ، فقال له الرشيد : ما عدوتَ ما في نفسي ، وأمره أن يدخلَ بيتَ المال فيأخذ ما أحب .
وكان يضمر غير ما يظهر ، ويعتقد الرّفض ، وله في ذلك شعر كثير لم يَظْهَرْ إلا بعد موته ، وبلغ الرشيد قوله : الكامل :
آلُ النبيِّ ومَنْ يُحِبُّهمُ . . . يتطامَنون مَخافَةَ القَتْلِ
أمِنَ النصارى واليهودُ ومَن . . . من أُمَةِ التوحيد في أزْلِ
إلاَّ مَصَالت ينصرُونَهُمُ . . . بظُبَا الصَّوارم والقَنا الذُبْلِ
فأمر الرشيد بقتله وكان حينئذ برأس العين ، فمضى الرسولُ فوجده قد مات فقال الرشيد : لقد هممت أن أنبش عظامَه فأحرقها . وكان يُلْغِز في مدحه لهارون ، وإنما يريد قول النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، لعليّ ، رضوان الله عليه : ' أنت مني بمنزلة هارون من موسى ' . وقال الجاحظ : وكان يذهب أولاً مذهب الشُّراة ، فدخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكمالرافضي وسمع كلامَه ، فانتقل إلى الرفض ، وأخبرني مَنْ رآه على قبر الحسين بن علي ، رضي الله عنهما ، ينشد قصيدتَه التي يقول فيها : الوافر :
فما وُجدت على الأكتاف منهم . . . ولا الأقفاء آثارُ النُّصولِ
ولكنّ الوجوهَ بها كُلومٌ . . . وفوق حجُورهم مَجْرَى السيولِ
أرِيق دمُ الحسين ولم يراعوا . . . وفي الأحياء أمواتُ العُقولِ
فدتْ نفسي جبينَكَ مِنْ جَبِينٍ . . . جرَى دمُه عل خدٍّ أسيل
أيخلو قلبُ ذي وَرَع ودِينٍ . . . مِنَ الأحزانِ والألمِ الطويل وقد شَرِقَتْ رِماحُ بني زيادِ . . . بِرِيًّ من دماء بني الرسول
بتربة كَرْبلاءَ لهم دِيارٌ . . . نيامُ الأهل دارِسَةُ الطُّلُولِ
فأوصال الحسين ببَطْنِ قاع . . . ملاعبُ للدَّبور وللْقَبول
تحياتٌ ومغفرة وروحٌ . . . على تلك المحلّة والحُلولِ
برئنا يا رسولَ الله ممن . . . أصابك بالأذيِّةِ والذُّحولِ
أخبار ابني المعذل
وقال أحمد بن المعذل : الوافر :
أخو دَنَفٍ رَمتْه فأقصدَتْهُ . . . سِهَامٌ من جفونِكِ لا تَطِيشُ
كئيب إن ترحّل عنه جيشٌ . . . من البَلْوى ألم به جُيُوشُ
وكان أحمد بن المعذَّل بن غَيْلان العبدي في اللغة والبيان والأدب والحلاوة غايةً .
قال : دخلتُ المدينة فتحملت على عبد الملك بن الماجشون برجل ليخصّني ويُعنَى بي ، فلما فاتحني قال : ما تحتاجُ أنت إلى شفيع ، معك من الحذاء والسقاء ما تأكلُ به لبّ الشجر ، وتشرب صَفْوَ الماء .وكان أخوهُ عبد الصمد يؤذيه ويهجُوه ، فكتب إليه أحمد : أما بعدُ ، فإنَّ أعظم المكروه ما جاء من حيث يُرْجَى المحبوب ، وقد كنتَ مؤَملاً مَرْجواً ، حتى شمل شرّك ، وعمّ أذاك ، فصرت فيك كأبي العاقّ : إن عاش نغَّصه ، وإن مات نَقَصَه ، واعلمْ لقد خشَنت صَدْرَ أخٍ جَيْبُه لك ناصحٌ ، والسلام .
وكان يقول له : أنت كالأصبع الزائدة : إن تُرِكَتْ شانَتْ ، وإن قطعت آلمت .
ومثلُ هذا قولُ النعمان بن شمر الغساني : الطويل :
وصَالُ أبي برْدٍ عَنَاءٌ ، وتركه . . . بلاء ، فما أدْرِي به كيف أصنعُ
إذا زُرْته يومين ملَّ زِيارتي . . . وإن غبت عنه ظلّتِ العين تَدْمَعُ
وقول الضحاك بن همام الرقاشي : الطويل :
وأنتَ امرؤٌ منّا خلقت لغيرنا . . . حياتُك لا تُرْجَى وموتك فاجِعُ
وأنت على ما كان منك ابنُ حرّةٍوإني لما يرضى به الخصم مانِعُ
وفيك خصالٌ صالحات يَشِينُهَا . . . لديك جفاءٌ عندهُ الودُّ ضائعُ
وقال بعضُ المحدثين : الطويل :
إذا ساءني في القولِ والفعل جاهِداً . . . وفي كل حال مَنْ أحب وأَمحَضُ
فيا ليتَ شِعْرِي ما يعاملني به . . . على كلّ ذنبِ مَن أُعادِي وأبغِضُ
وقال أبو العباس المبرد : وكان أحمد بن المعذّل من الأُبّهة ، والتمسك بالمنهاج ، والتجنُّب للعَبث ، والتعرّض للإشفاق لِما في أيدي الناس ، وإظهار الزُهْدِ فيه ، والتباعد عنه ، على غاية ، حتى حُمِل في فقهاء وأدباء من أهل البصرة ، فأَخذَ الصلة غيرَ مُمْتَنع ولا مُنكر . ووصله إسحاق بن إبراهيم فقبل ، واستدعى اجتباءه إيّاه ، وتحلى له جهده ، فقال عبد الصمد : الوافر :
عذيري من أخٍ قد كان يُبْدِي . . . عَلَى مَنْ لاَبسر السلطانَ عَتْبَهْ
وكان يذمّهم في كلّ يوم . . . له بالجهل والهذيان خُطْبَهْ
فلما أن أتته دُرَيهماتٌ . . . من السلطان باعَ بهنَّ رَبَّهْ
وقال فيه : مجزوء الخفيف :
لِي أخ لا تَرَى لهُ . . . سائلاً غيرَ عاتِبِأجْمَعُ الناسِ كلّهمْ . . . للئيمِ المَذَاهِب
دون معروفِ كفّهِ . . . لَمْسُ بعضِ الكواكبِ
ليت لي منك يا أخي . . . جارةً مِنْ مُحارب
نارها كلّ شَتوَةٍ . . . مِثْل نارِ الحُبَاحِبِ
ذهب إلى قول القُطَامي ، وقولُ القطامي من خبيث الهجاء ، وكان نَزل بامرأةٍ من محارب بن خَصَفَةَ بن قيس بن عَيْلان بن مضر فذمّ مَثْوَاه عندها ، فقال . الطويل :
وإني وإنْ كان المسافرُ نازلاً . . . وإن كان ذا حقّ على الناسِ واجبِ
فلا بدّ أن الضيفَ يُخبِرُ ما رَأى . . . مُخَبِّرُ أهلٍ أو مُخَبّرُ صاحب
لَمخبرك الأنباءَ عن أُمِّ منزل . . . تضيّفتُها بين العُذيب فراسِبِ
تلفّعت في طَلّ وريح تَلُفُّني . . . إلى طرمِسَاء غَيْرِ ذات كواكبِ
إلى حَيْزَبُون تُوقِد النارَ بعدما . . . تَلَفًّعَتِ الظلماءُ من كل جانب تصَلّى بها بَرْد العِشاء ولم تكن . . . تَخَالُ وميض النار يَبْدُو لراكب
فما راعها إلا بُغامُ مطيّتي . . . تريح بمحسود من الصوت لاغب
فجُنَّتْ فنوناً من دِلاَث مُنَاخةٍ . . . ومن رَجُل عارِي الأشاجع شاحبِ
سَرَى في حَلِيكِ الليل حتى كأنما . . . تخزّم بالأطراف شوكُ العقَارِب
تقول وقد قرّبتُ كُورِي وناقتي . . . إليك ، فلا تذعَرْ عليَّ ركائبي
فسلَّمت والتسليمُ ليسَ يسرُّها . . . ولكنه حَقٌّ على كل جانب
فردّت سلاماً كارهاً ثم أعرضتْ . . . كما انحاشَت الأفعى مخافةَ ضارِب
فلمَّا تنازعنَا الحديثَ سألتُها . . . مَنِ الحيُّ ؟ قالت : معشرٌ من محَارب
من المشتَوين القدّ مما تَرَاهم . . . جِيَاعاً ورِيفُ الناس ليس بنَاضِبِفلمّا بَدا حرمانُها الضيفَ لم يكن . . . عليّ مبيتُ السوء ضَرْبةَ لاَزب
وقُمْت إلى مَهْريَّة قد تعوَّدَتْ . . . يَداها ورِجْلاَها حثيثَ المراكِبِ
ألاَ إنّما نيرانُ قيسٍ إذا شَتَوْا . . . لطارقِ ليل مِثْلُ نارِ الحُبَاحبِ
ومحارب : قبيلة منسوبة إلى الضعف ، وقد ضربت العربُ بها المثل . قال الفرزدق لجرير : الطويل :
وما استعهدَ الأقوامُ مِنْ زوج حُرةٍ . . . من الناس إلا منك أو من مُحَاربِ
أي يأخذون العَهْدَ عليه أنه ليس من كليبٍ ولا من محارب .
وقال أبو نواس في قصيدته التي فخر فيها باليمانية وهجا قبائل معد : المنسرح :
وقيسُ عَيْلانَ لا أريدُ لها . . . من المخازي سِوَى مَحاربِها
وكانت أم عبد الصمد بن المعذل طباخةً ، فكان أحمد يقول إذا بلغه هجاؤه : ما عَسِيتُ أن أقول فيمن أُلْفِحَ بين قدر وتَنُّور ، ونشأ بين زُق وطُنبورا ؟ وعبد الصمد شاعر أهل البصرة في وقته ، وهو القائل : الطويل :
تكلفُني إذلالَ نفسي لعِزِّها . . . وهان عليها أن أُهان لتكرما
تقول : سَلِ المعروف يحيى بن أكثم . . . فقلت : سَلِيه رَبَّ يحيى بن أكثما
قال أبو شُراعة القَيسي : كنتُ في مجلس ، العُتْبي مع عبد الصمد بن المعذل ، فتذاكرنا أشعارَ المولدين في الرقيق ، فقال عبد الصمد : أنا أشعر الناس فيه وفي غيره ، فقلت : أحذق منك والله بالرقيق الذي يقول ، وهو راشد بن إسحاق أبو حُكيمة الكوفي : الطويل :
ومستوحشٍ لم يمْس في دارِ غُرْبَةٍ . . . ولكنَّهُ ممن يحبّ غَرِيبُ
طَوَاه الهوى واستشعر الوَصل غيرهُ . . . فشطَتْ نَواهُ والمَزارُ قَريب
سلامٌ على الدارِ التي لا أزورُها . . . وإن حَلها شخصٌ إليَّ حبيبُ
وإن حَجبتْ عن ناظريَّ ستُورُها . . . هوًى تَحْسُن الدُّنيا به وتَطِيبُ
هوى تَضْحَكُ اللّذاتُ عند حضوره . . . ويَسخَنُ طَرْف اللهو حين يَغِيب
تثنَّى به الأعطافُ حتى كأنهُ . . . إذا اهتزَ من تحتِ الثيابِ قَضِيبُألم تر صَمْتي حين يَجْري حديثهُ . . . وقد كنت أُدعَى باسْمِه فأجيبُ
رضيت بسَعْي الدهر بيني وبينه . . . وإن لم يَكن للعين فيه نصيبُ
أحاذِر إنْ واصلته أن ينالني . . . وإياه سَهْمٌ لِلْفراقِ مُصِيبُ
أرى دون مَنْ أهوى عيوناً تريبني . . . ولا شك أني عندهنّ مُرِيبُ
أُدارِي جليسي بالتجلّد في الهوى . . . ولي حين أخلو زَفْرَة ونَحِيبُ
وأُخْبَرُ عنه بالذي لا أحبّهُ . . . فيضحك سِنِّي والفؤادُ كَئيب
مخافةَ أن تَغْرَى بنا ألسنُ العِدَا . . . فيطمع فينا كاشحٌ فيعيب
كأن مجالَ الطّرَف في كل ناظر . . . على حَرَكات العاشقين رقيبُ
أرَى خطرات الشوق يبكين ذَا الهوى . . . ويصِبين عقلَ المرءَ وهْو لبيبُ
وكم قد أذل الحب من متمنعٍ . . . فأضحى وثَوْبُ العز منه سَلِيبُ وإن خُضُوعَ النفس في طلب الهوى . . . لأمرٌ ، إذا فكرتُ فيه ، عَجيب
فلم ينطق بحرف .
ولأبي شُراعة يمدح بني رياح : البسيط :
بني رياح ، أعاد اللَهُ نعمَتكم . . . خير المَعاد وأسقى رَبْعَكم دِيمَا
فكم بِهِ من فَتى حُلْو شمائلهُ . . . يكادُ ينهلُّ من أعطافِه كَرَما
لم يلبسوا نعمةً لِلَه مُذْ خلقوا . . . إلاَّ تلبسها إخوانهم نِعما
وفي إبراهيم بن رياح يقول عبد الصمد بن المعذل : الخفيف :
قد تركت الرياح يا ابنَ رياح . . . وهي حَسرَى إنْ هبَّ منها نسيم
نهكتْ مالَكَ الحقوقُ فأَضْحَى . . . لكَ مَال نِضوٌ وفعلٌ جَسيم
وكان عبد الصمد بن المُعَذل متصلاً بإبراهيم ونبيه ، وأفاد منهم أموالاً جليلة ، واعتقد عقداً نفيسة ، فما شكر ذلك ولا أصحبه بما يجب عليه من الثناء عند بكْبَته ، وكان الواثق عزَلَه عن ديوان الضياع ، ودفعه إلى عمر بن فرج الرخجي ، فحبسه فهجاه عبد الصمد .قال أبو العباس محمد بن يزيد : وكان عبد الصمد شديدَ الإقدام على رديء السريرة فيما بينه وبين الناس ، خبيث النية ، يرصُد صديقَه بالمكروه ، تقديراً أن يعادِيه فيسوءه بأمْرٍ يعرفه ؛ ولا يكاد يَسْلَم لأحد ، وكان مشهوراً في ذلك الأمر ، يُلْبَسُ عليه ، ويحمل على معرفةٍ ، عجباً بِظَرْف لِسانِه ، وطيبِ مجلسه ، وأيضاً لقُبْح مسَبته ، وشائن معرّته .
قال أبو العيناء : ولما حبس الواثق إبراهيم بن رياح ، وكان لي صديقاً ، صنعتُ له هذا الخبر رجاءَ أن ينتهي إلى أمير المؤمنين فينتفع به ، فأخبرني زيدُ بن علي بن الحسين أنه كان عند الواثق حين قرِئ عليه فضَحِك واستظرفه . وقال : ما صنع هذا كُفَه أبو العيناء إلا في سبب إبراهيم بن رياح ، وأمر بتخليته ، والخبر قال : لقيتُ أعرابياً من بني كلاب فقلت له : ما عندك من خَبر هذا العسكر ؟ فقال : قتل أرضاً عالِمُهَا ، قال : فقلت : فما عندك من خبر الخليفة ؟ قال : بَخْبخ بعزه ، وضرب بِجِرانه ، وأخذ الدرهم من مصره ، وأرهف قَلَم كلّ كاتبٍ بجبايته . قلت : فما عندك في أحمد بن أبي دُواد ؟ قال : عُضْلة لا تُطاقُ ، وجَنْدَلة لا تُرَام ، ينتحي بالمدَى لتحزه فيجور ، وتنصب لهُ الحبائل حتى تقول : الآن ، ثم يضبر ضَبْرَة الذئب ، ويخرج خروج الضب ، والخليفة يحنو عليه ، والقرآن آخذ بضبعيه . قلت : فما عندك في عمر بن فرج ؟ قال : ضَخْم حِضجْر ، غضوب هِزَبْر ، قد أهدفه القومُ لبَغْيهم ، وانتضلوا له عن قِسِيِّهم ، وأحْرِ له بمثل مصرع من يصرع . قلت : فما عندك في خبر ابن الزيَّات ؟ قال : ذلك رجُلٌ وسع الوَرى شره ، وبطن بالأمور خيره . فله في كل يوم صريع ، لا يظهر فيه أثرُ ناب ولا مِخلب ، إلا بتسديد الرأي . قلت : فما عندك في خبر إبراهيم بن رياح قال : ذاك رجل أوْبقَه كَرمُه ، وإن يَفُزْ للكرام قدح ، فأحْرِ بمَنْجَاته ، ومعه دعاء لا يخذله ، ورَب لا يسلمه ، وَفوقه خليفة لا يظلمه . قلت : فما عندك في خبر نجاح بن سلمة ؟ قال : للَّه درُّه من ناقض أوتار ، يتوقّد كأنه شعلةُ نار ، له في الفَيْنَةبعد الفينة ، عند الخليفة خلسة كخلسة السارق ، أوْ كحسوة الطائِر ، يقومُ عنها وَقد أفاد نعماً ، وَأوْقع نقماً . قلت : فما عندك في خبر ابن الوزير ؟ قال : إخاله كَبْش الزنادِقة ، ألا ترى أنّ الخليفة إذا أهمله خضِمَ ورَتع ، وإذا أمر بتقصيه أمطر فأمْرَع . قلت : فما عندك من خبر الخصيب أحمد ؟ قال : ذاك أحمق ، أكل أكْلَة نَهِم ، فاختلف اختلاف بشم . قلت : فما عندك في خبر المعلى بن أيوب . قال : ذاك رجل قُدّ من صخرة ، فصَبْره صبرُها ، ومسُّه مسُّها ، وكل ما فيه بعد فمنها ولها . قلت : فما عندك من خبر أحمد بن إسرائيل ؟ قال : كتوم غرور ، وجَلْد صبور ، رجل جِلْدُه جلد نمر ، كلما خرقوا له إهاباً ، أنشأ الله له إهاباً . قلت : فما عندك من خبر الحسن بن وهب ؟ قال : ذاك رجل اتّخذ السلطانَ أخاً ، فاتّخذه السلطانُ عبداً ، قال : قلت : فما عندك من خبر أخيه سليمان بن وهب ؟ قال : شَدّ ما استوفيتَ مسألتك أيها الرجل ذاك حرمة حبست مع صواحباتها في جريرة محرمة ، ليس من القوم في وِرْدٍ ولا صَدَر ، هيهات : الخفيف :
كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا . . . وعلى الغانيات جرُّ الذيول قال : قلت : فما عندك من خبر عبد الله بن يعقوب ؟ قال : أمواتٌ غير أحياء ، وما يشعرون أيَّانَ يبعثون .
قلت : فأين نزلت فأؤمَّك . قال : ما لي منزل تأمُّه . أنا أستتِر في الليل إذا عَسْعَس ، وَأنتشِرُ في الصبح إذا تنفَّس .
ابن راشد
ومن مليح شعر راشد بن إسحاق بن راشد ، وهو أبو حُكيمة ، وكان قَوِيِّ أسْرِ الشعر : الطويل :
تحيرْتُ في أمري وإني لواقف . . . أُجيلُ وجوه الرأي فيك وما أدري
أأعْزِمُ عَزْمَ اليأْس فالموتُ راحةٌ . . . أمَ اقنَعُ بالإِعْراض والنظَرِ الشَّزْرِ
وإني وإن أعرضت عنك لمُنْطَوٍ . . . على حُرَقٍ بين الجوانح والصدرِ
إذا هاج شوقي مثّلتكَ ليَ المنى . . . فألقاك ما بيني وبينك في سِتْرِ
فديتك لم أصبر ولي فيك حيلةٌ . . . ولكِنْ دعاني اليأسُ فيك إلى الصبرتصبَّرت مغلوباً وإني لموجَعٌ . . . كما صبَر الظمآنُ في البلد القفْر
وقال : الوافر :
عتبت عليك في قطع العتاب . . . فما عَطَفَتْك ألسنة العتابِ
وفيما صرت تظهر لي دليل . . . على عَتْب الضميرِ المستَرابِ
وما خطرتْ دواعي الشوقِ إلاَّ . . . هززْتُ إليك أجنِحَةَ التصابي
وقال أيضاً : الطويل :
ضحِكْت ولو تَدْرِين ما بِي من الهوى . . . بَكَيْتِ لمحزونِ الفؤادِ كئيبِ
لمن لم تُرَحْ عيناه من فَيْضِ عَبْرَةٍ . . . ولا قَلْبُهُ مِنْ زَفْرَةٍ ونحيب
لمستأنس بالهمِّ في دارِ وَحْشَةٍ . . . غريب الهَوى باكٍ لكل غريبِ
ألا بأبي العيشُ الذي بانَ فانقضى . . . وما كان من حُسْنٍ هناك وطِيبِ
لياليَ يدعونا الصّبا فنجيبهُ . . . ونأخذُ مِنْ لذاتِه بنصيبِ
نردِّدُ مستور الأحاديث بيننا . . . على غَفْلَةٍ من كاشح ورقيب
إلى أن جرى صَرْفُ الحوادث في الهوى . . . فبُدِّلَ منها مَشْهَدٌ بمَغِيب
وله مذهب استفرغ فيه أكثر شعره ، صُنتُ الكتاب عن ذكره .
أخبار عبد الملك بن صالح
دعا الرشيد بعبد الملك بن صالح - وكان معتقلاً في حَبْسه - فلما مَثَل بين يديه التفت إليه ، وكان يُحدث يحيى بن خالد بن بَرْمك وزيرَه ، فقال متمثّلاً : الوافر :
أريد حياتَه ويريدُ قَتْلي . . . عذيرَكَ من خليلِكَ من مُرادِ
ثم قال : يا عبدَ الملك ، كأني أنظر إلى شُؤْبُوبها قد هَمَع ، وإلى عارِضِها قد لَمَع ، وكأني بالوعيد قد أوْرَى ، بل أدْمى ، فأبرز عن بَراجمَ بلا مَعَاصِم ، ورؤوس بلا غَلاَصم ، فمهلاً بني هاشم ، فبي والله سَهُلَ لكم الوَعْر ، وصفا لكم الكَدِر ، وألقَتْ لكم الأمور أثناءَ أزِمتها ، فنذار لكم نذراً قبل حلول داهية خبوط باليد والرجْل ، فقالعبد الملك : أفذّاً أتكلم أم تَوْأماً ؟ قال : بل فَذّاً ، قال : اِتّقِ الله يا أمير المؤمنين فيما ولآك ، وأحفظْه في رعاياك الذي استرعاك ، ولا تجعل الكفر بموضع الشكر ، والعقاب بمَوْضِع الثواب ، فقد ، واللّه ، سَهُلَت لك الوعور ، وجمعت على خوفك ورجائكِ الصدور ، وشددْتُ أوَاخِي ملكك بأوثَقَ من رُكْنَيْ يَلَمْلَمَ ، وكنتُ لك كما قال أخو بني جعفر بن كلاب - يعني لبيداً - : الرمل :
ومقام ضَيّقٍ فرّجتهُ . . . بلسانٍ وبَيَانٍ وجَدَلْ
لو يقومُ الفيلُ أو فيالُهُ . . . زَلَّ عن مثل مقامي وزَحَل
فأعاده إلى محبسه ، وقال : لقد نظرتُ إلى موضع السيف من عاتقه مراراً ، فيمنعني عن قتله إبقائي على مثله .
وأراد يحيى بن خالد أن يضَعَ من عبد الملك ليُرْضِيَ الرشيد ، فقال له : يا عبد الملك ، بلغني أنك حَقُود فقال عبد الملك : أيها الوزير ، إنْ كان الحقد هو بقاء الشّرّ والخير ، إنهما لباقيان في قلبي فقال الرشيد : تاللّه ما رأيتُ أحداً احتجَّ للحقد بأحْسَنَ مِمّا احتجَّ به عبد الملك .
وقد مدح ابن الرومي الحقد ، وأخذ هذا المعنى من قول عبد الملك ، وزاد فيه ، فقال لعاتب عابه بذلك : الطويل :
لئن كُنْتَ في حفظي لما أنا مُودَعٌ . . . من الخير والشّرِّ انتحيْتَ على عرضِي لَمَا عِبْتَني إلاَّ بفضل إبانة . . . وربَّ امرئ يُزْرِي على خُلُق مَحْض
ولا عيبَ أنْ تُجْزَى القروضُ بمثلها . . . بل العيبُ أن تَدان دَيناً ولا تقضي
وخيرُ سحيَّاتِ الرجال سجيةٌ . . . توفيك ما تسدي من القَرْض بالقرض
إذا الأرض أدَّتْ رَيْع ما أنت زارعٌ . . . من البَذْر فيها فهي ناهيك من أرضِ
ولولا الحقُودُ المستكنات لم يكنْ . . . لينقض وتراً آخر الدهر ذو نقض
وما الْحِقْدُ إلا توأم الشكر في الفتى . . . وبعض السجايا ينتمين إلى بعض
فحيث ترى حِقداً على ذي إساءة . . . فثَمَّ ترى شكراً على حَسَن القَرْضوقال يرد على نفسه ، ويذمُّ ما مدح ، توسعاً واقتداراً : البسيط :
يا مادحَ الحقدِ محتالاً له شبهاً . . . لقد سَلَكْتَ إليه مسلكاً وَعِثا
إن القبيح وإنْ صنّعت ظاهِرَهُ . . . يعودُ ما لمَ منه مرةً شَعِثَا
كم زَخْرَف القول ذو زُور ولبَّسهُ . . . على القلوب ولكن قل ما لبثَا
قد أبرم الله أسباب الأمور معاً . . . فلن ترى سبباً منهن منتكِثا
يا دافنَ الحِقْدِ في ضعفي جوانبهِ . . . ساء الدفينُ الذي أضحت له جَدثا
الحقدُ داءٌ دَوِيٌّ لا دواءَ لهُ . . . يَرِي الصدورَ إذا ما جمْرُهُ حُرثا
فاستشْفِ منه بصَفْحٍ أو معاتبةٍ . . . فإنما يبرئ المصدورَ ما نَفَثَا
واجعل طلابك بالأوتار ما عظمتْ . . . ولا تكن بصغير القول مُكْترِثا
فالعفوُ أقربُ للتقوى وإن جُرمٌ . . . من مجرم جَرَحَ الأكبادَ أو فرثا
يكفيك في العفو أن الله قرّظهُ . . . وحَيْاً إلى خير من صلى ومن بُعِثا
شهدت أنك لو أذنبت ساءك أن . . . تلقى أخاك حَقُوداً صَدْره شرثا
إذا وسَرَّك أن تلقى الذنوب معاً . . . وأن تصادف منه جانباً دَمِثَا
إني إذا خلط الأقوام صالحُهمْ . . . بسيئ الفعل جداً كان أو عَبثَا
جعلت قلبي كظرف السبك حينئذ . . . يستخلص الفِضَّة البيضاء لا الخَبَثا
ولستُ أجعله كالحوض أمدحُه . . . بحِفْظِ ما طاب من ماءً وما خَبُثا
والبيتُ الذي تمثل به الرشيد هو لعمرو بن معد يكرب يقوله لقَيس بن المكشوح المرادي ، وقد تمثّل به علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لَمَّا رأى عبد الرحمن بن مُلْجَم المرادي فقال له : أنت تخضب هذه من هذه ، وأشار إلى لحيته ونُقْرَته . فقيل له : يا أميرَ المؤمنين ، ألا تقتله ؟ فقال : كيف يقتلُ المرءُ قاتلَه ؟ .
وكان بين مَسْلَمة بن عبد الملك وبين العباس بن الوليد تباعُد ، فبلغ العباس أن مسلمة ينتقصه ، فكتب إليه يقول : الوافر :
ألا تَقْنَى الحياءَ أبا سعيدٍ . . . وتُقْصِر عن مُلاحَاتي وعَذْلِي ؟فلولا أنّ فَرْعَك حين تُنْمَى . . . وأصلك منتهى فرعي وأصلي
وإني إن رَمَيْتُك هِضْتُ عَظمي . . . ونالتني إذا نَالتْك نَبْلي
لقد أنكرتَني إنكارَ خوفٍ . . . يَضُمُ حشَاك عن شَتْمي وأكْلِي
فكم من سَوْرةٍ أبطأتَ عنها . . . بنى لك مجدَهَا طلبي وحَفْلِي
ومُبْهمة عييتَ بها فأبدى . . . عَويلي عن مخارجها وفَضْلي
كقول المرء عَمْرٍو في القوافي . . . لِقَيسٍ حين خالف كلَّ عَدْل
عذيري من خليلي من مرادٍ . . . أُريدُ حياته ويريدُ قَتْلي
لم يتفق له في القافية كما قال عمرو ، فغيّره .
وعبد الملك هذا هو ابن صالح بن علي ، وكان بليغاً جَهيراً فاضلاً عاقلاً . وقال الجاحظ : قال لي عبد الرحمن مؤدب عبد الملك بن صالح : قال لي عبد الملك ، بعد أن خصّني وصيرنِي وزيراً بدلاً من قُمامة : يا عبدَ الرحمن ، انظر في وجهي ؛ فأنا أعْرَفُ منك بنفسك ولا تُسْعِدني على ما يقبح ؛ دع عنك كيف الأمير ، وكيف أصبح الأمير ؟ وكيف أمْسَى ؟ واجعل مكانَ التقريظ حُسْنَ الاستماع مني ، واعلم أن صوابَ الاستماع أحسنُ من صواب القول ، وإذا - حدّثتك حديثاً فلا يفوتنك شيء منه ؛ وأرِنِي فهمَك في طرفك ؛ إني اتخذتك وزيراً بعد أن كنت مُعَلِّماً ، وجعلتُك جليساً مقرّباً بعد أن كنت مع الصبيان مُبْعَداً ، ومتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه لم تعرف رُجْحَان ما صرتَ إليه .
وساير الرشيدُ عبدَ الملك ، فقال له قائل : طأطئ من إشرافه ، واشْدُدْ من شكائمه ، وإلاّ فسدَ عليك ، فقال له الرشيد : ما يقولُ هذا ؟ قال : حاسدُ نِعْمة ، ونافس رُتبة ، أغضبه رِضَاكَ عني ، وباعدَه قُرْبُك مني ، وأساءه إحسانُك إلي . فقال له الرشيد : انخفض القومُ وعلوتَهم ؛ فتوقَدَتْ في قلوبهم جَمْرةُ التأسف . فقال عبد الملك : أضْرَمَها الله بالتزيد عندك فقال الرشيدُ : هذا لك وذاك لهم .
وصعد المنبر ، فأُرتج عليه فقال : أيّها الناس ، إن اللسان بضْعَة من الإنسان تكل بكَلاله إذا كل ، وتنفسح بانفساحه إذا ارتجل ، إن الكلامَ بعد الإفحام كالإشراقِ بعد الإظلام ، وإنا لا نسكتُ حَصَراً ، ولا ننطقُ هَذَراً ؛ بل نسكتُ مفيدين ، وننطق مُرْشِدين ،وبعد مقامنا مقام ، ووراء أيامِنا أيَّام ، بها فَصْل الخِطاب ، ومواقع الصواب ، وسأعودُ فأقول ، إن شاء الله تعالى .
وقال الأصمعي : كنتُ عند الرشيد فدعا بعبد الملك بن صالح من حَبْسِه ، فقال : يا عبد الملك ، أكُفراً بالنِّعمةِ ، وغَدْراً بالسلطان ، ووثوباً على الإمام ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، بُؤْتُ بأعباءِ الندم ، واستحلال النّدم واستحلال النقم ، وما ذاك إلا من قولِ حاسدٍ ، ناشدتك الله والولاية ، ومودَّة القرابة . فقال الرشيد : ، يا عبد الملك ، تَضعُ لي لسانك ، وترفعُ لي جَنَانك ، بحيث يحفظُ الله لي عليك ، ويأخذ لي منك ، هذا كاتُبك قمامة ينبئ عن غِلِّكَ ، فالتفت عبدُ الملك إلى قُمامة وكان قائماً ، فقال : أحقّاً يا قمامة ؟ قال : حقّاً ، لقد رُمْتَ خَتْر أمير المؤمنين فقال عبد الملك : وكيف لا يكذِب علي يا أمير المؤمنين في غَيبتي من يَبْهَتني في حضرتي . فقال الرشيد : دَعْ قمامة ، هذا ابنُك عبد الرحمن ينبئ عنك بمثل خبر قمامة ، فقال عبد الملك : إنّ عبد الرحمن مأمور أو عَاقّ ؛ فإن كان مأموراً فهو معذور ، وإن كان عاقاً فما أتوقّع من عقوقِه أكثر .
بين الرشيد والخارجين من السجن
وقال الرشيد للحسن بن عمران وقد أُدْخِل عليه يَوْسُفُ في قُيُودِه : ولّيتك دمشق وهي جنّة موثِقة ، تحيط بها غُدُر كاللّجين ، فتكِف على رياضٍ كالزّرَابي ، وكانتْ بيوتَ أموال فما برح بها التعدّي ، حتى تركتَها أجرَدَ من الصَّخْرِ ، وأوحش من القَفْر فقال : يا أميرَ المؤمنين ، ما قصدت لغير التوفيق من جهتِه ، ولكني ولّيت أقواماً ثَقُلَ على أعناقهم الحق ، فتفرَّغوا في ميدان التعدّي ، ورأوْا أنْ المراغمة بتَرْك العِمارة أوقَعُ بإضرار السلطانِ ، وأنوَه بالشنعة ؛ فلا جَرَم أنَّ مَوْجِدَة أمير المؤمنين قد أخذتْ لهم بالحظّ الأوفر من مساءتي فقال عبد الله بن مالك : هذا أجزلُ كلام سُمع لخائف ، وهذا ما كنّا نسمعه عن الحكماء : ' أفضل الأشياء بديهةُ أمْنٍ وردَتْ في مقامِ خَوْف ' .
ولما رَضِيَ الرشيدُ عن يزيد بن مَزْيد دَخل عليه فقال : الحمد للّه الذي سَهّلَ لي سُبُلَ الكرامةِ بلقائك ، وردَّ عليَّ النعمةَ بوَجْهِ الرضا منك ، وجزاكَ الله في حال سُخْطِك حقّ المتثبتين المراقبين ، وفي حَال رضاكَ حقّ المنعمين المتَطَولين ؛ فقد جعلك اللّه - وله الحمد - تتثبت تحرّجاً عند الغضب ، وتتطول ممتنَّاً بالنعم ، وتستَبْقي المعروفَ عند الصنائع تفضُّلاً بالعَفْو .في باب الرثاء
وفي يزيد بن مزيد يقول مسلم بن الوليد مرثيته ، وقد رُويت له في يزيد بن أحمد السلمي : الكامل :
قَبْرٌ ببَرْذَعَةَ أسْتَسَرَّ ضريحُه . . . خَطَراً تقَاصَرُ دونهُ الأخْطَارُ
نَفَضَتْ بك الأحلاسُ نَفْضَ إقامةٍ . . . واستَرْجَعَتْ نُزَّاعَها الأمصارُ فاذْهَبْ كما ذهبتْ غَوَادي مُزْنَةٍ . . . أثنى عليها السهلُ والأوْعَارُ
سلكَتْ بكَ العَرَبُ السبيلَ إلى العُلاَ . . . حتى إذا سبق الرَّدَى بك حارُوا
وقال أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عطية يرثي أخاه : الكامل :
حَنَّطْتَه يا نصرُ بالكافور . . . وزَفَفْتَه للمنزل المهجورِ
هلاّ ببعض خِصَالِه حَنَّطْتَهُ . . . فيصوغَ أفق منازلٍ وقُبورِ
والله لو بنسيم أخلاق لهُ . . . تُعْزَى إلى التقديسِ والتطهير
حنطت من وطئ الحصى وعَلاَ الربى . . . لتزوّد بل عُدَّةً لنشور
فاذهب كما ذهب الشبابُ فإنهُ . . . قد كان خير مُجَاوِر ومُجير
واذهب كما ذهب الوفاء فإنه . . . عصفت به رِيحاَ صباً ودَبُور
والله ما أبّنْتُه لأزيدهُ . . . شرَفاً ولكن نَفْثَة المصدُورِ
ومات رجلٌ من العرب كان يعولُ اثني عشر ألفاً ، فلما حُمل على سريره صرّ ، فقال بعضُ من حضر : الطويل :
وليس صَرِيرُ النعشِ ما تسمعونهُ . . . ولكنه أصلابُ قومٍ تَقَصّفُ
وليس فتيق المسك ما تجدونهُ . . . ولكنه ذاك الثناءُ المخلَّفُ
وقال عبد الله بن المعتز في عبيد الله بن سليمان بن وَهْب يرثيه : الخفيف :
يا ابنَ وَهْبٍ بالكُرْه منِّي بقيتُ . . . عجبي يوم متَّ كيف حَيِيتُ
إنما طيّب الثناء الذي خلفت . . . لا مِسْك نَعْتِك المفتوتُ
واختصرت الطريق بعدك للمو . . . ت فلاقيتُه ولستُ أفوتُكيف يَبْقَى على الحوادث حَيٌّ . . . بيدِ الدَّهْرِ عُودُه منحوت
وقال أيضاً : المتقارب :
ذكرت ابنَ وَهْبٍ فللّه ما . . . ذكرتُ وما غيّبوا في الكَفَنْ
تقطر أقلامه من دم . . . ويعلمُ بالظن ما لم يَكُنْ
وظاهر أطرافه سَاكنٌ . . . وما تحته حَرَكاتُ الفَطِنْ
وقال : الطويل :
ذكرت عبيد الله والتربُ دُونَه . . . فلم تحبس العينانِ منّي بكاهُما
وحَاشاه من قولٍ سَقَى الغيثُ قبرَهُ . . . يدَاهُ تروّي قبرَه مِنْ نَدَاهُما
وهذا مأخوذ من قول الطائي : الطويل :
سقى الغيثُ غيثاً وارَتِ الأرضُ شَخْصَه . . . وإن لم يكُنْ فيه سحابٌ ولا قَطْرُ
وكيف احْتِمالي للسحابِ صنيعةً . . . بإسقائها قَبْراً وفي لَحْدِه البَحْرُ
وقال ابن المعتز : الخفيف :
لم تَمُتْ أنتَ ، إنما مات مَنْ لم . . . يُبْقِ في المجدِ والمكارم ذِكْرا
لستُ مستسقياً لقبرك غيثاً . . . كيف يَظْمَأ وقد تضمَّن بَحْرا ؟
والبيت الثاني من هذين من بيت الطائي : وقال : البسيط :
محمدُ بنُ حُمَيْدٍ أُخلِقت رِمَمُهْ . . . أُرِيق ماءُ المعالي إذْ أرِيقَ دَمُهْ
رأيته بنِجادِ السيفِ مُحْتَبياً . . . كالبدر حين انْجَلتْ عن وجهه ظُلمُهْ
في روضةٍ حفها من حولها زَهَرٌ . . . أيقنت عند انتباهي أنها نِعَمُهْ
فقلتُ والدمعُ من وَجْدٍ ومن حُرَق . . . يَجْرِي وقد خدَّدَ الخدَين منسَجمُهْ :
ألم تمت يا سليلَ المجد من زمنٍ ؟ . . . فقال لي : لم يَمُتْ من لم يمت كَرَمُهْ
وقال بعض أهل العصر : البسيط :
عُمْرُ الفتىَ ذِكرُه ، لا طولُ مدَّتِه . . . وموتُه موتُه لا موته الدَّانيفأَحي ذكرَك بالإحسان تزرعهُ . . . تُجْمَعْ به لك في الدنيا حَياتانِ
وقال عبد السلام بن رَغبان الحِمْصي : الطويل :
سَقَى الغَيْثُ أَرضاً ضمِّنتكَ وسَاحَةً . . . لَقَبْرُكَ فعه الغَيْثُ واللَّيْثُ والبَدْرُ
وما هي أَهْلٌ إذْ أصابتك بالبِلَى . . . لسُقيا ، ولكنْ مَنْ حَوَى ذلك القَبْرُ
أخذ هذا البيت الأول ، الراضي فقال يرثي أباهُ المقتدر : الطويل :
بنفسي ثرًى ضُمِّنْت في سَاحة البِلَى . . . لقد ضَمَّ منك الغيثَ والليثَ والبَدْرا فلو أنّ عمري كان طوعَ مشيئتي . . . وأسعدني المقدورُ قاسمْتُكَ العمرا
ولو أنَ حيّاً كان قَبْراً لميِّتٍ . . . لصيَّرْتُ أحشائي لأَعْظُمه قَبْرا
هذا البيت ينظر إلى قول المتنبي : الكامل :
حتى أتَوْا جَدَثاً كأن ضريحهُ . . . في قَلْبِ كل موحِّدٍ محفورُ
أخبار قطر الندى
لما حُملت قَطْرُ الندى بنت خُمَارَوَيْه بن أحمد بن طولون إلى المعتضد كتب معها أبوها إليه يذكر بحُرْمَة سلفها بسلفه ، ويذكرُ ما ترِدُ عليه من أبّهة الخلافة ، وجلالة الخليفة ، ويسأل إيناسها وبَسْطَها ، فبلغَتْ من قَلْبِ المعتضد لما زُفَت إليه . مبلغاً عظيماً ، وسُرَّ بها غاية السرور ، وأمر الوزير أبا القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب بالجواب عن الكتاب ، فأراد أن يكتبَه بخطّه ، فسأله أبو الحسين بن ثَوَابَة أن يُؤْثره بذلك ففعل ، وغاب أياماً وَأتى بنسخة يقول في فصل منها : وأمّا الوَدِيعةُ فهي بمنزلَةِ شيءٍ انتقل من يمينك إلى شمالك ، عنايةً بها ، وحِيَاطة عليها ، ورعايةً لمودتك فيها . ثم أقبل عبيد الله يُعجب من حُسْنِ ما وقع له من هذا ، وقال : تسميتي لها بالوديعة نصفُ البلاغة ، فقال عبيد اللّه : ما أقبحَ هذا تفاءلْتَ لامرأةٍ زُفَّت إلى صاحبها بالوديعة ، والوديعةُ مستردة . وقولك : لا من يمينك إلى شمالك أقبح ؛ لأنك جعلت أباها اليمين وأمير المؤمنين الشمالَ ، ولو قلت : وأما الهديةُ فقد حسن موقعها منّا ، وجلّ خطرُها عندنا وهي وإنْ بعدَتْ عنك ، بمنزلة من قربَتْ منك ؛ لتفقُّدِنا لها ، وأنسِنا بها ، ولسرورها بما وردَتْ عليه ، واغتباطها بما صارت إليه لكان أحسن . فنفذ الكتاب .
وكانَتْ قَطْرُ الندى مع جمالها موصوفةً بفضل العقل ، خلا بها المعتضد يوماً للأُنسبها في مجلسٍ أفرده لم يحضرْه غيرها ، فأخذَتْ منه الكأس ، فنام على فخذها ، فلمّا استثقلَ وضعَتْ رأسَه على وسادة ، وخرجت فجلست في ساحة القصر على باب المجلس ، فاستيقظ فلم يَجِدْها ، فاستشاط غضباً ، ونادى بها فأجابته على قرب ، فقال : ما هذا ؟ أَخليتك إكراماً لكِ ، ودفعتُ إليك مهجتي دون سائر حظاياي ، فتضَعِين رأسي على وسادة فقالت : يا أمير المؤمنين ، ما جهلتُ قدرَ ما أنعمتَ به عليّ ، وأحسنتَ فيه إليّ ، ولكن فيما أدَّبني به أبي أن قال لي : لا تنامي مع الجلوس ، ولا تجلسي بين النيام .
رجع إلى الرثاء
وفي أبي الحسين بن ثوابة يقول ابن المعتز يَرْثيه : الخفيف :
ليس شيءٌ لصحّةٍ ودَوام . . . علبَ الدهرُ حِيلة الآقَوامِ
وتولّى أبو الحُسين حميداً . . . فعلى رُوحه سَلام السلامِ
حين عاقدْته على الحِفْظ للعَه . . . د وصافحْتُه بكفِّ الذِّمام
واصطفتْه على الأخلاَّءِ نَفْسي . . . كاصطفاءِ الأرواح للأجسامِ
كَانَ رَيْحانة النّدامى وميزا . . . ن القَوافِي شعراً وبَحْر كَلاَمِ
ومكان السهم الذي لا يَرَى الشكَّ ولا يستغِيث بالأوهام
ساحر الوحي في القراطيس لا تحبس عنه أعنّة الأقلام
فإذا ما رأيته خِلْت في خدَّيْه صُبْحاً منقّباً بظلام
نفسُ ، صَبْراً لا تجزَعِي إن هذا . . . خُلق من خلائق الأيام
ما قالته الشعراء في ريعان الشباب
وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب لرجل من بني كلاب : الطويل :
سقَى الله دهراً قد توالَتْ غَيَاطِلُهْ . . . وفارقَنا إلا الحُشَاشة باطِلهْ
لياليَ خِدْني كلُّ أبيضَ ماجدٍ . . . يُطيع هَوى الصابي وتُعْصَى عواذِلهْ
وفي دَهْرِنا والعيشُ في ذاك غِرّة . . . ألا ليتَ ذاك الدهر تُثْني أوإئِلُهْ
بما قد غنينا والصِّبا جُلُّ همِّنا . . . يمايلنا رَيْعَانُه ونُمَايُلهْ
وجَرَّ لنا أذيالَه الدهرُ حِقْبَةً . . . يطاوِلنا في غَيِّهِ ونُطَاولُهْفَسَقْياً له من صاحبٍ خذلَتْ بنا . . . مطيّتُنا فيه ووَلَت رَواحلُه
أَصُدُّ عن البيتِ الذي فيه قاتلي . . . وأهجرُه حتى كأنيَ قاتلُهْ هذا البيت يناسب قول ذي الرمة ، إن لم يَكُن في هذا المعنى ، يصِفُ ظبية وولَدَها : الطويل :
إذا استودَعتْه صفصفاً أو صَرِيمَةً . . . تنخت ونصّتْ جِيدَها بالمناظِر
حِذَاراً على وَسْنانَ يَصْرعُه الكَرى . . . بكل مَقِيل عن ضِعافٍ فواتِرِ
وتهجرُه إلا اختلاساً نَهَارَهَا . . . وكم من مُحِب رَهْبَة العَيْنِ هاجِرِ
وقال أبو حية النميري : الوافر :
أما وأبي الشباب لقد أراهُ . . . جميلاً ما يرادُ به بَدِيلُ
إذِ الأيامُ مقبلةٌ علينا . . . وظِلُّ أرَاكَةِ الدنيا ظليلُ
وقال علي بن بسام : الوافر :
بشاطئ نهر قبرك فالمصلَّى . . . فما والاَهُما فالقرْيتَينِ
معاهِدُ لَهْوِنا والعيشُ غَضٌّ . . . وصرف الدهر مقبوضُ اليدينِ
وكان ابن بسام هذا - وهو علي بن محمد بن ، منصور بن بسام ، مليح المقطعات ، كثير الهجاء خبيثهُ ، وليس له حظ التطويل ، وهو القائل : الكامل :
كم قد قطَعْت إليك من دَيْمُومَةٍ . . . نُطَفُ المياهِ بها سَوادُ الناظِرِ
في ليلةٍ فيها السماءُ مُرِذّةٌ . . . سوداءُ مظلمة كقَلْبِ الكافرِ
والبرقُ يخفِقُ من خلال سحابهِ . . . خَفْقَ الفؤاد لموعدٍ من زائرِ
والقَطْرُ منهمِلٌ يسُحّ كأنهُ . . . دمع المودّع إثْر إلْفٍ سائرِ
وقال في العباس بن الحسين لما وَزَرَ مكتفي : السريع :
وزارة العباسِ من نَحْسِها . . . ستقلع الدولةَ من أُسِّها
شَبهْته لما بَدَا مُقْبِلاً . . . في خِلع يخجل من لبْسِهاجاريةً رَعنَاء قد قدرَتْ . . . ثياب مولاها على نفسِها
وقال في علي بن يحيى المنجم يَرْثيه : الكامل :
قد زرتُ قبرك يا علي مسلِّماً . . . ولكَ الزيارة من أقلّ الواجبِ
ولو استطعت حملتُ عنك تُرَابهُ . . . فلطالما عني حملتَ نوائبي
وكان مولعاً بهجاء أبيه ، وفيه يقول وقد ابتنى داراً : الرملي :
شِدْتَ داراً خِلْتها مَكْرُمةً . . . سلَّط الله عليها الغَرَقا
وأرانيك صريعاً وسطها . . . وأرانيها صعيداً زَلَقَا
وقال أبو العباس بن المعتز يهجوه : المجتث :
من شاء يَهْجُو علياً . . . فشعرُه قد كفَاهُ
لو أنه لأبيهِ . . . ما كان يَهْجُو أباهُ
من أخبار المأمون ويزيد بن معاوية
وقال المأمون لأحمد بن أبي خالد ، وهو يخلف الحسنَ بن سَهل ، وقد أشار إليه برأي استرجَحه : قد اعتل الحسنُ ولزم بيته ، ووكَلَ الأمرَ إليك ، فأنا إلى راحته وبقائه ، أحوجُ مني إلى إتعابه وفنائه ، وقد رأيتُ أن أستوزرك ، فإن الأمر له ما دُمْتَ أنت تقوم به ، وقد طالعتُ رأيه في هذا الأمر ، فما عَدَاك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أَعفِني من التسمي بالوزارة ، وطالبني بالواجب فيها ، واجعلْ بيني وبين الغاية ما يرجوني له وَليِّي ، ويخافني له عدُوَّي ، فما بعد الغايات إلا الآفات . فاستحسن كلامه ، وقال : لا بُدَّ من ذلك ، واستوزره .
ورأى المأمونُ خط محمد بن دَاود فقال : يا محمد إن شاركْتَنَا في اللفظ ، فقد فارقناك في الخط ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من أعظم آياتِ النبي ، صلى اله عليه وسلم ، أنه أدّى عَنِ الله سبحانه وتعالى رسالاته ، وحفظ عنه وَحْيَه ، وهو أمي لا يعرف من فنون الخط فَنّاً ، ولا يقرأ من سائره حَرفاً ، فبقي عمود ذلك في أهله ، فهم يَشْرُفون بالشَبَه الكريم في نَقْص الخط ، كما يشرفُ غيرُهم بزيادته ؛ وإن أمير المؤمنين أخصُّ الناس برسول الله ، صلى اله عليه وسلم ، والوارثُ لموضعه ، والمتقلِّد لأمره ونهيه ؛ فعلقت به المشابهة الجليلة ، وتناهَتْ إليه الفضيلة ، فقال المأمون : يا محمد ، لقد تركتني لا آسَى على . الكتابة ، ولو كنتُ أمياً .
وهذا شبيهٌ بقول سعيد بن المسيب ، وقد قيل له : ما بال قريش أضعفُ العرب شعراً ، وهي أشرفُ العرب بيتاً ؟ قال : لأنَّ كَوْن رسول الله صلى اله عليه وسلم ، منها قطع مَتن الشعر عنها .وقال إبراهيم بن الحسن بن سَهل : كنّا في مجلس المأمون وعَمْرو بن مَسْعدَةَ يقرأ عليه الرقَاع ، فجاءته عَطْسَةٌ ، فلوَى عنقه فردّها ، فرآه المأمون فقال : يا عمرو ، لا تفعَل فإن ردّ العَطسة وتحويل الوجه بها يُورثان انقطاعاً في العنق . فقال بعض ولد المهدي : ما أحسنها من مولَى لعبده ، وإمام لرعيته فقال المأمون : وما في ذلك ؟ هذا هشامٌ اضطربت عِمامته فأَهوى الأبرش الكلبي إلى إصلاحها ، فقال هشام : إنّا نتَّخِذُ الإخوان خَوَلاً فالذي قال هشام أحسنُ مما قلته . فتمال عمرو : يا أمير المومنين ، إنَّ هشاماً يتكلّفُ ما طُبِعْتَ عليه ، ويظلم ، فيما تعدل فيه ، ليس له قرابتك من رسول الله ، صلى اله عليه وسلم ، ولا قيامك بحقّ الله ، وإنك والملوك لكما قال النابغة الذبياني : الطويل :
ألم تَرَ أنّ الله أعطاك سَوْرَةً . . . ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذبُ
لأنك شمسٌ والملوك كواكبٌ . . . إذا طلعَتْ لما يَبدُ منهنَّ كوكبُ
أخذ النابغة هذا من قول شاعرٍ قديم من كندة : الطويل :
تكادُ تَمِيد الأرض بالناس إنْ رَأوا . . . لعمرو بن هند غَضبَة وهو عاتِبَ
هو الشمس وافَتْ يوم دَجْنٍ فأفضلَتْ . . . على كل ضوءٍ والملوكُ كواكبُ
قار يزيد بن معاوية لجميل بن أوس ، وكان أكرمه واجتباه : لم كرِهْت الإفراط في تقديمي ، وتطامَنْتَ عن الدرجة التي سما بك إليها مكانك مني ؟ فقال : أيّدَ الله سلطانك ، وأعلى مكانك ، إن الذين كانوا قبلنا من أهل العلوم والآداب ، والعقول والألباب ، كانوا أطول أعماراً منّا ، وأكثر للزمان صُحْبة ، وأكثر للأيام تجربة ، وقد قال الحكيم : بقدر الثواب عند الرّضا يكون العقاب عند السخط ، وبقَدْر السموّ في الرفعة تكون وَجْبة الرفعة ، ولا خير فيمن لا يسمع الموعظة ، ولا يقبل النصيحة ، وأنا يا أمير المؤمنين ، وإن كنت آمناً من التعرض لسُخْطِك والدنوِّ ممّا يقرب منه ، فلستُ بآمِنٍ من طَعْنِ المُساوِي في الدرجة عندك ، وحقر المشارك لي في المنزلة منك ، وليس من تقديمك قليل ، ولا من تَعْظِيمك يسير ، فإن أقل ذلك فيه النباهة ، والفخر ، والثناء ، والذكر ، وحسبي مما بذلته من أموالك استحقاقي عندك لإكرامك ، وحسبي من تقديمك خالص رضاك ، وصفاء ضميرك .مختار من أقوال الحكماء عند وفاة الإسكندر
لما جُعِل الإسكندر في تابوت من ذهبٍ تقدّم إليه أحدُهم فقال : كان الملك يخبأُ الذهب ، وقد صار الآن الذهبُ يخبؤه ، وتقدم إليه آخر ، والناسُ يبكون ويجزعون ، فقال : حرَّكنا بسكونه ، أخذه أبو العتاهية فقال : الخفيف :
يا عليّ بْنَ ثابت بانَ منّي . . . صاحبٌ جَلَّ فَقْدُه يوم بنتا
قد لَعَمْرِي حكيتَ لي غُصَص المو . . . تِ وحرَّكْتَني لها وسَكَنْتَا
وتقدّم إليه آخر فقال : كان الملِكُ يعِظُنا في حياته ، وهو اليومَ أوعظُ منه أمسِ . أخذه أبو العتاهية فقال : الوافر :
وكانت في حياتك لي عِظَاتٌ . . . وأنتَ اليومَ أوْعَظُ منك حيّا
وتقدّم إليه آخر فقال : قد طاف الأرَضينَ وتملّكها ، ثم جُعل منها في أربعة أذرع . ووقف عليه آخر فقال : ما لك لا تُقلّ عضواً من أعضائك ، وقد كنت تستقلّ ملكَ العباد ؟ ووقف عليه آخر فقال : انظرْ إلى حلم النائم كيف انقضى ، وإلى ظلّ الغمام كيف انجَلَى . وقال آخر : ما لك لا ترغَبُ بنفسك عن ضيق المكان ، وقد كنت ترغبُ بها عن رحب البلاد وقال آخر : كان الملك غالباً فصار مغلوباً ، وآكلاً فصار مأكولاً . وقال آخر : أمَاتَ هذا الميتُ كثيراً من الناس لئلاّ يموت ، وقد ماتَ الآن . وقال آخر : ما كان أقبح إفراطك في التجبّر أمس ، مع شدّةِ خضوعك اليوم . وقالت بنت دارا : ما علمت أنَّ غالب أبي يُغلَب . وقال رئيس الطباخين : قد نضدت النضائِدُ ، وأُلقيت الوسائد ، ونُصِبت الموائد ، ولستُ أرى عميدَ المجلس .
جملة من كلام ابن المعتز في الفصول القصار في ذكر السلطان
أشْقَى الناس بالسلطان صاحبه ، كما أنّ أقربَ الأشياء إلى النارِ أسرعُها احتراقاً . لا يُدْرِكُ الغني بالسلطان إلا نفس خائفة ، وجِسْمٌ تعِب ، ودينٌ متثلم . إن كان البحرُ كثير الماء فإنه بعيدُ المَهْوى ، ومَنْ شارك السلطانَ في عزّ الدنيا شاركه في ذُلّ الآخرة . فسادُ الرعية بلا ملك كفسادِ الجسم بلا رُوح ، إذا زادك السلطان تأنيساً فزِدْهُ إجلالاً . مَنْ صحب السلطانَ صبر على قسْوته كصَبْرِ الغوَّاص على ملوحة بَحْرِه . الملك بالدين يبقى ، والدينُ بالمُلكِ يَقْوى . من نصح لخدمة نصحَتْه المجازاة . لا تلتِبس بالسلطان في وقت اضطرابِالأمور عليه ؛ فإن البحر لا يكادُ يسلم صاحبه في حالِ سكونه ، فكيف عند اختلاف رياحه ، واضطراب أمواجِه ؟ .
ومن كلام أهل العصر وغيرهم في هذا النحو
الأوطانُ حيث يعدل السلطان . إذا نطق لسان العدل في دار الإمارة ، فلها البُشرى بالعز والإمارة . آخر بالملك العادل أن يستقل سريرَه في سُرّة الأرض ، ريحُ السلطان على قوم سَمُوم ، وعلى قوم نَسيم . أخْلِقْ بدم المستخفّ بالجبابرة أن يكون جُبَاراً . من غمس يده في مال السلطان فقد مشى بقدمه على دَمه . الملك خليفةُ الله في عبادِه وبلادِه ، ولن يستقيم أمرُ خلافته مع مخالفته . الملك مَنْ ينشرُ أثواب الفضل ، ويبسطُ أنواعَ العدل . السلطانُ كالنارِ : إنْ باعدتها بطل نَفْعُها ، وإن قاربتها عَظُم ضررها . إقبالُ السلطان تَعَب وفِتْنَةٌ ، وإعراضُه حسرة ومذلّة . صاحبُ السلطان كراكب الأسد يهابُه الناسُ وهو لمركبه أهيبُ . السلطانُ إذا قال لعمّاله : هاتوا ، فقد قال لهم : خذوا ثلاثة لا أمان لهم : السلطان ، والبحر ، والزمان . ليكن السلطان عندك كالنار : لا تدنُو منها إلا عند الحاجة إليها ، وإن اقتبست منها فعلى حذر . مثل أصحاب السلطان كقوم رَقُوا جبلاً ثم وقعوا منه ، فكان أقربُهم إلى التلف أبعدَهم في المرقى . مثل السلطان كالجبل الصَعْب الذي فيه كلُّ ثمرة طيبة ، وكل سَبْع حَطوم ، فالارتقاء إليه شديد ، والمقام فيه أشدّ . لئن عزَّ الملوك في الدنيا بالجور ليذلُن في الآخرة بالعدل .
لابن عَبَّاد الصاحِبِ : الوافر :
إذا ولاّك سلطانٌ فزده . . . من التعظيمِ واحْذَرْهُ ورَاقِبْ
فما السلطانُ إلا البحرُ عظماً . . . وتربُ البحر مَحْذُورُ العَواقِبْ
ووصف أحمد بن صالح بن شيران جاريةً كاتبة فقال : كأَنَّ خطها أشكال صورتها ، وكأن مِدَادَها سوادُ شعرها ، وكأن قرطاسها أًدِيمُ وَجْهِها ، وكأنَّ قلمَها بعضُ أناملها ، وكأن بنانَها سِحْرُ مقلتها ، وكأن سِكّينها غُنج لحظها وكأن مِقطَعها قلبُ عاشقها .
وقال بعضُ الكتّاب يصف غلاماً كاتباً : الكامل :
انظرْ إلى أثرِ المداد بخدهِ . . . كبنفسج الروْضِ المَشُوبِ بِوَرْدِهِ
ما أخطأتْ نُونَاتُهُ من صُدْغِه . . . شيئاً ، ولا أَلفِاتُه مِنْ قدِّهِألقَتْ أناملُه على أقلامهِ . . . شَبهاً أراك فِرْندَها كفِرندِه
وكأنما أنقاسُه من شَعره . . . وكأنما قِرْطَاسه من خدِّهِ
وقال أحمد بن أبي سمرة الدارمي فيما ينظر إلى هذا من طَرْف خَفي : الطويل :
سَرَابُ الفيافي صادقٌ عند وعدها . . . وسمُّ الأفاعي مُبْرِئ عند صدّها
رمتني ولم أَسْعَدْ بأيام وَصْلها . . . بعينيْ مَهَاةٍ أَنْحَستْنِي ببُعْدِها
فَعُلقها قلبي كما تعلّقت . . . صوالج صدغيها بتفَّاح خَدِّها
فقلبيَ لَمَّا أضعفته كخصرها . . . ودمعيَ لَمَّا نَظمته كعقدها
ونيل الثُّريَّا ممكنٌ عند وصْلها . . . وأسرعْ من برق تناقضُ وعدها
من إنشاء بديع الزمان
رقعة كَتبها بديع الزمان إلى ابن العميد يستنجزه : أين تكرّم الشيخ العميد أيَّده اللَّهُ على مولاه ؟ وكيف معدله إلى سِوَاه ؟ أيقصر في النعمة ، لأني قصّرت في الخدمة ؟ إذَنْ فقد أساء المعاملةَ ، ولم يحسن المقابلة ، وعثر في أذيال السهْوِ ، ولم ينعش بيدِ العفو ، أم يقول : إن الدهر بيننا خُدَع ، وفيما بعد مُتّسع ، فقد أزف رَحِيلي ، ولا ماء بعد الشط ، ولا سطح وراء الخط ؛ أم ينتظر سؤالي ؟ وإنما سألته ، يوم أمّلته ، واستمنَحتُه ، يوم مدحته ، واقتضيته ، يوم أتيته ، وانتجعت سحابه ، بما قرعت بابَه ، وليس كل السؤال أعْطِني ، ولا كل الردّ أعْفِني ؛ أم يظن - أيّده الله تعالى - أني أرد صِلَته ، ولا ألبَس خلعته ؟ وهذه فراسة المؤمن إلا أنها باطلة ، ومَخِيلة العارف إلا أنها فاسدة ؛ أم ليس يجد فيَّ مكاناً للنعمة يضعُها ، وأرضاً للمنة يزرعها ؟ فلا أقلّ من تجربة دفعة ، والمخاطرة بإنفاذ خلعة ، ليخرج من ظلمة التخمين ، إلى نور اليقين ، وينظر أأشكر أم أكفر ؛ أم يتوقع - أيّده اللِّه - صاعقة تملكني ، أو بائقة تهلكني ، فلهذا أمَلٌ موفر ؛ لأن شيخ السوء باق مُعَمَّر ؛ أم يقدر - أيّده الله - أني أشكره إذا اصطنع ، وأعذره إذا منع ، وتاللهِ لو كنت ينبوع المعاذِير ما حظي منها بجرعة ، فليُرحني بسُرعة .
وكتب أبو القاسم الهمذاني إلى البديع : قد كتبت لسيدي حاجة إن قضاها وأمضاها ، ذاق حلاوة العطاء ، وإن أباها وفَل شَباها لَقِي مرارةَ الاستبصاء ، فأي الجودين أخفّعليه . أجُودٌ بالعِلْق ، أم جودٌ بالعرض ؟ ونزول عن الطريف ، أم عن الخلق الشريف ؟ .
فأجابه : جعلت فداك هذا طبيخ ، كله توبيخ ، وثريد ، كله وَعيد ، ولُقم ، إلا أنها نِقَم ، ولم أر قِدراً أكثرَ منها عظماً ، ولا آكلاً أكثر مني كَظْماً ، ولم أرَ شَرْبة أمرّ منها طعماً ، ولا شارباً أتمَّ مني حلماً ، ما هذه الحاجة ؟ ولتكن حاجتك من بعدُ ألينَ جوانب ، وألطفَ مطالب ، توافق قضاءَها وترافق ارتضاءَها ، إن شاء الله تعالى .
وفي مقامات أبي الفتح الإسكندري من إنشائه ، قال : حدّثنا عيسى بن هشام قال : أحلّني جامعَ بخارى يوم ، وقد انتظمت مع رُفْقةٍ في سِمْط الثريّا ، وحين احتفل الجامعُ بأهله طلع علينا ذو طِمْرَين ، قد أرسل صُوانا ، واستتلى طِفْلاً ، عُرْياناً ، يضيق بالضرّ وُسْعه ، ويأخذهُ القُرُّ ويَدَعُه ، لا يملك غَيْرَ القِشرة بُرْدَة ، ولا يلتقي لَحْياه رِعْدَة ، ووقف الرجل وقال : لا ينظر لهذا الطفل إلا مَنْ رحم طفله ، ولا يرقُّ لهذا الضرّ إلا مَنْ لا يأمنُ مثله ، يا أصحاب الجُدُود المفروزة ، والأرْدِية المطروزة ، والدور المنجَّدة ، والقصور المشيِّدة ، إنكم لن تأمنوا حادثاً ، ولن تعدموا وارثاً ، فبادِرُوا الخيرَ ما أمكن ، وأحسنوا مع الدهر ما أحسنَ ، فقد واللَّه طعِمْناَ السِّكْبَاج ، وركبنا الهِملاج ، ولبسْنا الديباج ، وافترشنا الحشايا بالعشايا ، فما راعنا إلا هبوبُ الدهر بغَدْرِه ، وانقلاب المجنّ لظهره ، فعاد الهِمْلاج قَطوفاً ، وانقلب الديباج صُوفاً ، وهلمّ جرّاً ، إلى ما تشاهدون من حَالي وزيّي ؛ فها نحن نرضع من الدهر ثَدْيَ عقيم ، ونركَب من الفقر ظهر بَهيم ، ولا نَرْنُو إلا بعين اليتيمِ ، ولا نمدّ إلا يد العديم ، فهل من كريم يجلو عنّا غياهب هذه البؤوس ، ويفلُّ شَبا هذه النحُوس ؟ . ثم قعد مرتفقاً ، وقال للطفل : أنت وشأنك . فقال : وما عسى أن أقول ، وهذا الكلامُ لو لقي الشعر لحلقه ، أو الصخر لفلقَه ، وإنّ قلباً لم يُنْضِجْه ما قلت لَنيءٌ قد سمعتم يا قوم ، ما لم تسمعوا قبل اليوم ، فليشغل كلّ منكم بالجود يده ، وليذكر غَدَه ، وَاقياً بي ولدَه ، واذكروني أذكركم ، وأعطوني أشكركم .قال عيسى بن هشام : فما آنَسني في وَحْدتي إلا خاتم ختّمت به خنصره ، فلمّا تناوله أنشأ يقول : مجزوء الكامل :
وممنْطَقٍ من نفسهِ . . . بقلادَةِ الجوزاءِ حُسْنا
كمتيم لَقِي الحبي . . . ب فضمَّه شغفاً وحزنا
متألفٍ من غير أُس . . . رتِه على الأيام خِدْنَا
عِلْق سَنيّ قَدْرُهُ . . . لكنَّ مَنْ أهداهُ أسْنَى
أقسمت لو كان الوَرَى . . . في المَجْدِ لفظاً كنتَ مَعْنَى قال عيسى بن هشام : فتبعته حتى سَفَرَت الخَلوَة عن وجههِ ، فإذا والله شيخنا الإسكندري ، وإذا الصبيّ غلام له ، فقلت : المتقارب :
أبا الفتح شِبْتَ وشب الغلام . . . فأَين الكلامُ ، وأين السلام .
فقال :
غريباً إذا جمعتنا الطريق . . . أليفاً إذا نظمتنا الخيام
فعلمت أنه كره لقائي ، فتركته وانصرفْتُ .
شعر في وصف فص وخاتم
وقال أبو الفتح كشاجم يصف فصاً : الكامل :
سَاجِلْ بفصّك مَنْ أرَدْت وباهِهِ . . . فكفى به كمداً لقلبِ الحاسِدِ
متألّق فيه الفِرِنْد كأنهُ . . . وجهي غداة ندًى وضَيْفٍ قاصدِ
لو أَنَّ ظَمْأَى منه عُلّت لارْتَوَتْ . . . من ماء جوهرِهِ المَعينِ الباردِ
بَهَر العيونَ إضاءةً في رِقّةٍ . . . فكأنني مختّم بعُطاردِ
وقال بعضُ المحدَثين يصف خاتماً : الخفيف :
ووحِيدُ الكِيان صِيغَ بديعاً . . . فإذا تمَّ صِيغَ من جوهَريْنِ
خَلَعَتْ خَجْلة الخدودِ عليهِ . . . خِلَعاً قد لبسْن فوق اللّجينِ
فإذا ما رأيتَه في بنانٍ . . . قد كساها من حُسْنِه حُلّتين
قلت نجْمٌ هَوَى من الجوِّ . . . حتى صار مَجرى بُروجه في اليَدَيْنِوقال البحتري يستَهْدي المعتزَّ فصّاً : الطويل :
فهل أَنتَ يا ابنَ الراشِدِين مُخَتِّمي . . . بياقوتةٍ تَبْهَى عليًّ وتُشْرِقُ
يغارُ احمرار الوَرْدِ مِنْ حُسْنِ صِبْغِها . . . وَيحْكيه جادِيُّ الرحيقِ المُعَتق
إذا برزَتْ والشمسُ قلتُ تَجَارَتا . . . إلى أَمَدٍ أو كادتِ الشمسُ تَسْبُقُ
إذا التهبت في اللَّحْظِ ضاهَى ضياؤها . . . جبينَكَ عند الجُودِ إذْ يتألَقُ
أُسَرْبَلُ منها ثوبَ فَخْرٍ مُعَجَّلٍ . . . فيبقى بها ذِكرٌ على الدهر مُخْلِقُ
وعلى ذكر الخاتم قال أبو الفتح كشاجم : الطويل :
عرَضْنَ فعرَّضْنَ القلوبَ مِنَ الهوى . . . لأسْرَعَ من كَيّ القلوب على الجَمْرِ
كأن الشفاه اللُّعْسَ منها خواتِمٌ . . . من التِّبْر مختومُ بهن على الدُّر
وقال الناظم :
يَروعُ مُنَاجِيه بهارُوتِ لحظِهِ . . . ويُؤْنِسُه منه بصُورةِ آدمِ
ترى فيه لاماً فردةً فوق وَرْدَةٍ . . . وفضَّاً من الياقوت من فوق خَاتمِ
بين الكلام والصمت
وقال أبو تمام الطائي : تذاكرْنَا في مجلس سعيد بن عبد العزيز الكلامَ وفضله ، والصمتَ ونُبْله ، فقال : ليس النَّجْمُ كالقمر ؛ إنك إنما تمدحُ السكوتَ بالكلام ، ولا تمدحُ الكلامَ بالسكوت ، وما أنبأ عن شيء فهو أكبرُ منه .
قال الجاحظ : كيف يكونُ الصمتُ أنْفَعَ من الكلام ، ونفعُه لا يكادُ يجاوزُ صاحبَه ، ونَفْعُ الكلام يعتم ويخصّ ، والرواةُ لم تَرْوِ سكوتَ الصامتين ، كما روت كلام الناطقين ؛ فبالكلام أرسل الله تعالى أنبياءَه لا بالصَّمْتِ ، ومواضعُ الصَّمْتِ المحمودةُ قليلة ، ومواطنُ الكلام المحمودةُ كثيرةٌ ، وبِطول الصَّمْت يَفْسُد البيان . وكان يقال : محادثةُ الرجال تلقيحٌ لألبابها .
وذُكِر الصمتُ في مجلس سليمان بن عبد الملك فقال : إن مَنْ تكلم فأَحسن قَدَر أنْ يسكتَ فيُحْسِن ، وليس مَنْ سكت فأَحسن يتكلمُ فيُحْسِن .قال بعضُ النسّاك : أسكتتني كلمةُ ابن مسعود عشرين سنة ؛ وهي : من كان كلامُه لا يوافِق فعله فإنما يوبّخ نَفْسَه .
الحنين إلى الوطن
قال أبو عَمْرو بن العلاء : مما يدلُ على حرية الرجل وكرم غريزته حنينُه إلى أوطانه ، وتشوّقه إلى متقدم إخوانِه ، وبكاؤه على ما مضى من زَمَانِه .
وقالوا : الكريم يحنُّ إلى جنابه ، كما يحنّ الأسدُ إلى غابِهِ .
وقالوا : يشتاق اللبيبُ إلى وطنه ، كما يشتاق النجيب إلى عَطَنه .
ألفاظ لأهل العصر في ذكر الوطن
بلد لا تُؤْثِر عليه بلداً ، ولا تَصْبِر عنه أبداً . هو عشُّه الذي فيه دَرجَ ، ومنه خرجَ . مجمع أُسرته ، ومقطع سُرَّتِه . بلد أنشأته تربتُه ، وغذاه هواؤه ، وربّاه نسِيمُه ، وحُلَّت عنه التمائِمُ فيه . قالوا : وكان الناسُ يتشوّقون إلى أوطانِهم ، ولا يفهمون العلِّةَ في ذلك ، حتى أوضحها علي بن العباس الرّومي في قصيدةٍ لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستَعدِيه على رجل من التجَار ، يعرف بابن أبي كامل ، أجبَره على بَيْع داره واغتصبه بعض جُدرها ، بقوله : الطويل :
ولي وطنٌ آليتُ إلا أَبيعهُ . . . وألاّ أرى غيري لهُ الدهر مالِكا
عهِدتُ به شَرْخَ الشبابِ ونعمةً . . . كنِعْمَةِ قوم أصبحُوا في ظِلالكا
وحبّب أوطانَ الرجال إليهمُ . . . مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرْتُهُم . . . عهودَ الصبَا فيها فحنُّوا لذلكا
قد ألِفَته النفسُ حتى كأنهُ . . . لها جَسَدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكا
يقول له فيها :
وقد عزّني فيها لئيمٌ وسامَني . . . فقال ليَ أجْهَدْ فيَّ جَهْدَ احْتِيالِكاوما هُو إلا نسجُك الشَعر ضلّة . . . وما الشعرُ إلا ضلّة من ضلالِكا
بصيرٌ بِتَسْآل الملوك ، ولم يكن . . . بعار على الأحرار مِثل سُؤَالِكا
وإني وإن أضْحَى مُدِلاًّ بمالِه . . . لآملُ أن أضْحى مُدِلاًّ بمالِكا
فإن لم تُصِبْني من يمينك نِعْمَةٌ . . . فلا تُخْطِئَنْهُ نقمةٌ من شِمالكا
فكم لقي العافون بَدْءاً وعودَةً . . . نوالَكَ والعَادون مُرَّ نكالِكا
وقال علي بن عبد الكريم النصيبي : أتاني أبو الحسن بن الرومي بقصيدته هذه ، وقال : أَنصفني ، وقل الحقّ : أيهما أحسن قولي في الوطن أو قول الأعرابي : الطويل :
أحَبُّ بلادِ الله ما بين مَنْعِجٍ . . . إليّ وسلمى أن يَصُوبَ سحابُها
بلادٌ بها نيطَتْ عَلَيَّ تمائمي . . . وأوَّل أرضٍ مَسَّ جِلْدِيً ترَابُها
فقلت : بل قولك ، لأنه ذكر الوطنَ ومحبّته ، وأنت ذكرتَ العلّة التي أوجبتْ ذلك .
وقال ابنُ الرومي أيضاً يتشوّق إلى بغداد ، وقد طال مقامه بسُرّ من رأى : الكامل :
بلدٌ صحِبْتُ به الشبيبة والصبا . . . ولَبِسْتُ ثوبَ العيشِ وهو جديدُ
فإذا تمثَّلَ في الضمير رَأيتُهُ . . . وعليه أغصانُ الشبابِ تَميدُ
وقال أبو العباس : ولما احتفل القائل في هذا المعنى السابق إليه قال :
بلادٌ بها حَلَّ الشبابُ تمائمي
وقد تقدّم . وإذا كانت تمائمه قطعت بأبرق العَزّاف ، وكان الترابُ الذي مَسَّ جلدَه ترابَ جزيرة سيراف ، وجب أَن يحنّ إليه حنينَ المتأسفين على غُوطَةِ دمشق ، وقصور مدينة السلام ، ونجف الجزيرة ، ومستشرفِ الخورْنَق ، وجَوْسق سرّ مَن رأى ، لَمَّا بعد عنها ، وطال مقامه بغيرها ، كلاّ ، ولكن هذا الرجل علم أن الحنينَ إلى الأوطانِ لما تُذَكِّر من معاهد اللّهو فيها ، بحدّة الشباب الذي ذكر أنَّ غول سَكْرَته ، يغطي على مقدار فضيلته ، في قوله : الكامل :
لا تلْحَ مَنْ يَبْكي شبيبتَه . . . إلاَّ إذا لم يَبْكِها بدَمِ
عَيْبُ الشبيبة غولُ سَكْرَتها . . . ومِقْدَار ما فيها من النِّعَم
لَسْنَا نراها حقَّ رُؤيتها . . . إلاَّ أوان الشيبِ والهَرَمِ
كالشمس لا تبدو فضيلتُها . . . حتى تُغَشَّى الأرضُ بالظُّلَمِولَرُبَّ شيءٍ لا يبَيّنه . . . وجدانه إلاَّ مع العَدَمِ
أخذها هذا من قول الطائي : السريع :
راحَتْ وفودُ الأرضِ عن قبره . . . فارِغَةَ الأيدي مِلاءَ القلوبْ
قد علمت ما رُزئت ، إنما . . . يُعْرَفُ فَقْدُ الشمس بعد الغروبْ
وأخذ ابنُ الرومي قولَه في صفة الوطن قول بشَار : الطويل :
متى تعرفِ الدارَ التي بَانَ أهلها . . . بِسُعْدَى فإن العهدَ منك قريبُ
تذكّرُك الأهواء إذا أنعتَ يافعٌ . . . لديها فمغْنَاهَا لديك حَبيبُ
أو من قول بعض الأعراب : الطويل :
ذكرتُ بلادي فاستهلَّت مَدَامِعي . . . بشوقي إلى عَهْدِ الصبا المتقادِمِ
حَنَنْتُ إلى أرضٍ بها اخضرّ شاربي . . . وقُطِّع عني قَبل عقد التمائم
وأنشد ثعلب من لرجاء بن هارون العكيٍ : الطويل : أَحِنُّ إلى وادِي الأراكِ صبابةً . . . لعَهْدِ الصِّبا فيه وتذكارِ أولِ
كأنَّ نسيمَ الريحِ في جَنَباتِه . . . نسيمُ حبيب أو لقاءُ مؤمّلِ
قال أبو بكر الصولي : ولست أشكُّ أنه من قول رجاء أخذ ، وبه ألمّ ، وعليه عَوَّل ؛ لأنه في تناولهِ المعنى غريبُ الأخذ ، عائِر السَّهْم ، لا يعارض معنى معروفاً إذا أنشد علم الناسُ أنه مَعْدِنه الذي انتحته منه .
وقد اختُلِس معنى قول ابن الرومي : الطويل :
فقد أَلِفَتْهُ النفْسُ حتى كأنه . . . لها جسدٌ إن بانَ غُودِرَ هَالِكا
أخذه علي بن ححمد الإيادي وقال فأَحسن الأخْذَ ولطف في السرقة : السريع :
بالجزْع فالخَبْتَينِ أَشْلاء دارْ . . . ذات ليال قد تَوَلَّت قِصارْبانوا فمَاتت أسفاً بعدهم . . . وإنما الناسُ نفوسُ الديارْ
وقال أعرابي : الطويل :
أيا حبّذا نجدٌ وطِيبُ ترَابِهِ . . . تصافِحُه أَيدِي الرياحِ الغرائبِ
وعهدُ صباً فيهِ ينازعُكَ الهوى . . . كذلك أترابٌ عِذَابُ المشاربِ
تنالُ المنَى منهنّ في كل مطلب . . . عِذَابُ الثنايا وارداتُ الذوائبِ
وقال ابن ميّادة يخاطبُ الوليدَ بن يزيد : الطويل :
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً . . . بحرَّة ليلى حيث ربَّتني أهْلي
بلادٌ بها نِيطَتْ عليَّ تمائمي . . . وقُطِّعنَ عني حين أدْرَكَني عقْلي
فإن كنتَ عن تلك المواطن مانعي . . . فأَفْشِ عليَّ الرزقَ واجْمَعْ إذاً شملي
وقال سوار بن الصرير ، ورويت لمالك بن الريب : الوافر :
سقى الله اليمامة من بلادٍ . . . نوائحُها كأَرْوَاحِ الغواني
وجوّاً زاهِراً للريح فيهِ . . . نَسِيمٌ لا يَرُوعُ الترْب وَاني
به سُقْتُ الشباب إلى زمانٍ . . . بقبّح عندنا حسنَ الزمانِ
وقال : أعرابي : الوافر :
أقول لصاحبي والعيسُ تَخْدِي . . . بنا بَيْن المُنِيفة فالضِّمارِ
تَمتَّعْ مِن شَمِيم عَرار نَجْدٍ . . . فما بَعْدَ العشِّيةِ مِنْ عرارِ
ألا يا حبَّذا نفحات نَجد . . . وريَّا رَوْضِه غبَّ القِطار
وأهلك إذ يحلّ القوم نجدا . . . وأنت على زمانِك غيرُ زَارِ
شهور يَنْقَضِينَ وما شعرْنا . . . بأنصافٍ لهن ولا سِرَارِ
وهذا البيت كقول الآخر : الطويل :
سقَى اللهُ أياماً لنا قد تتابعت . . . وسَقْياً لعَصْرِ العامرية من عَصْرِلياليَ أُعطَيتُ البَطالَة مِقْوَدِي . . . تمرُّ الليالي والشهورُ ولا أَدْرِي
وتخلَّفَ سليمان عن نصرة ابن الرومي ، فذاك الذي هاجه على هجائه ، فمن ذلك قوله ، وقد خرج في بعضِ الوجوه فرجع مهزوماً : السريع :
جاء سليمانُ بني طاهرٍ . . . فاجتاح معتز بني المعتَصِمْ
كأن بغدادَ وقد أبصرتْ . . . طلعته نائحةٌ تلتَدِمْ
مستقبل . منه وَمستَدبر . . . وجه بخيلٌ وقفاً منهزِمْ
وقال : المنسرح :
قِرْن سليمانَ قد أضرَّ بِه . . . شوقٌ إلى وجْهِه سيتلفهُ
كم يَعِدُ القِرْنَ باللقاءِ وكَمْ . . . يكذبُ في وَعْدِه ويخلفهُ
لا يعرف القرْنُ وجْهَه ويرى . . . قَفَاه من فَرْسَخِ ، فيعرِفهُ
وقد أخذ هذا المعنى من قول بعض الخوارج ، وقد قال له أبو جعفر المنصور : أَخْبِرْني أي أصحابي كان أشدّ إقداماً في مُبارزتك ، فقال : ما أعرفُ وجوههم ، ولكنني أعرفُ أقفاءهم ، فقل لهم يدبروا أعرِّفك .
وفي هذه المنازعة يقول ابن الرومي لمواليه بني هاشم وكان ولاؤه لعبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور : الطويل :
تَخِذْتُكُمُ دِرْعاً عليَّ لتَدْفَعُوا . . . نِبَال العِدى عنِّي فكنتمْ نِصَالَها
وقد كنتُ أرجو منكم خَيْر ناصِر . . . على حين خِذْلاَن اليمين شِمالها
فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودَّتي . . . ذِماماً فكونوا لا عليها ولا لَهَا
قِفُوا موقفَ المعذور عني بمعزل . . . وخَلُّوا نِبَالي والعِدَا ونبالها
ألفاظ لأهل العصر في وصف الأمكنة والأزمنة
بلدة كأنها صورةُ جنَة الخلد ، منقوشة في عَرْضِ الأرض . بلدةٌ كأن محاسنَ الدنيا مجموعةٌ فيها ، ومحصورة في نواحيها . بلدة كأن ترابَها عنبر ، وحَصباءها عقيق ، وهواءها نسيم ، وماءها رَحِيق . بلدةٌ معشوقة السُّكْنَى ، رَحْبَةُ المَثْوى ، كوكبُها يقظان ، وجَوّها عُريان ، وحَصَاها جَوْهر ، ونسيمُها مُعَطّر ، وترابها مِسْك أذفر ، ويومها غداةٌ ، وليلهاسَحر ، وطعامها هنيّ ، وشرابها مَرِيّ . بلدة واسعةُ الرقعة ، طيبة البقعة ، كأنّ محاسن الدنيا عليها مفروشة ، وصورة الجنة فيها منقوشة ، واسطة البلاد وسرّتها ، ووجهها وغرّتها .
ولهم في ضد ذلك : بلد مُتَضايِقُ الحدود والأفنية ، متراكب المنازلِ والأبنية . بلد حرُّها مؤذٍ ، وماؤها غير مغذ . بلدة وَسخة السماء ، رَمِدة الهواء ، جوها غبار ، وأرضها خَبَارٌ ، وماؤُها طين ، وترابُها سِرْجِين ، وحيطانها نزوز ، وتشرينها تموز ، فكم في شمسها من محترق ، وفي ظلها من غَرق . بلدة ضيقة الديار ، سيئة الجوار ، حيطانها أخْصَاص ، وبيوتها أقفاص ، وحُشُوشها مسايل ، وطرقها مَزَابل .
ولهم في صفات الحصون والقلاع : حصن كأنه على مَرْقَب النجم ، يحسر دونه الناظر ، ويقصر عنه العُقابُ الكاسِرُ يكادُ مَنْ علاَه يغرق في حوض الغمام . حصن انتطق بالجوزاء ، وناجَتْ أبراجُه بُرُوجَ السماء . قلعة حلَّقت بالجو تُناجِي السماء بأسرارها . قلعة بَعُدَ في السماء مُرْتَقاها ، حتى تساوى ثَرَاها مع ثريّاها . قلعة تتوشح بالغيوم ، وتتَحلَّى بالنجوم . قلعة عالية على المرتقى ، صمَّاء عن الرقى ، قد جاوزت الجوزاء سَمْناً ، وعزلتِ السماك الأعْزل سَمْكاً ، هي متناهية في الحصانة ، موثوقة بالوثاقةِ ، ممتنعة على الطلب والطالب ، منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب ، لم تزدْها الأيامُ إلا نبوّ أعطاف ، واستصعاب جوانب وأطراف ، قد ملّ الوُلاةُ حِصَارها ، ففارقوها عن طموح منها وشِمَاسٍ ، وسئمت الجيوشُ ظلَّها ، فغادَرَتْها بعد قنوطٍ ويأسٍ ، فهي حِمًى لا يُرَاغ ، ومَعْقِل لا يُستطاع ، كأَنَّ الأيام صالحَتها على الإعفاء من الحوادث والليالي عاهَدتها على التسليم من القوارع . قلعة تَحْوي من الرَِّفْعَةِ قَدراً لا تستهان مواقعه ، وتلوي في المنعة جيداً لا تستلان أخادِعه ، ليس للوَهم قبل القدوم إليها مَسْرَى ، ولا للفكْرِ قبل الخَطْو نحوها مَجْرى .
ولهم في صفات القصور والدور : قصر كأن شُرُفَاته بين النَّسْر والعَيُّوق ، كأنهيُسَامِي الفَرْقَد ، وقد اكتسَتْ له الشِّعرى العَبور ثوبَ الغيور . قصر طال مَبْنَاه ، وطاب مَغناه ؟ كأنه في الحَصَانة جبلٌ مَنيع ، وفي الحسن رَبيع مَرِيع . شُرُفَات كالعذارى شَدَدْن مناطقها ، وتوجّن بالأكاليل مفَارِقَها . قَصْرٌ أقرّت له القصورُ بالقُصور ، كأنه سَحَاب في بحو السماء . دار قَوْرَاء تُوسِع العينَ قُرة ، والنفس مسرّة . كأنَّ بانيها استسلف الجنّة فعُجِّلت له . دار تخجل منها الدور ، وتتقاصَرُ عنها القصور ، إن مات صاحبُها مغفوراً له فقد انتقل مِن جنة إلى جنة . دار قد اقترن اليُمْن بيمناها ، واليُسْر بيُسْراها ، الجسومُ منها في حَضَر ، والعيون على سَفَر . دار هي دائرة الميامن ، ودَارَة المحاسن . دارٌ دارَ بالسعد نجمُها ، وفاز بالحسن سَهْمها ، دار يخدمها الدهر ، ويأويها البَدْرُ ، ويكنفها النَّصر ، هي مَرْتَع النواظر ، ومتنفَّس الخواطر . دارٌ قد أخذت أدواتِ الجِنَان ، وضحكت عن العَبْقَريّ الحِسان .
من أدب الميكالي نثراً وشعراً
فصل لأبي الفضل الميكالي إلى بعض إخوانه
ما ابتدأتُ بمخاطبة سيدي حتى سرَتِ المسرّةُ في نفسي ، وقوِيَتْ أركانُ بَهْجَتي وأُنسِي ، وحتى أقبَلَتْ وجوهُ الميامن تتهلَّل إلي ، وبدَرُ المساعِد تنثالُ عليّ ، وكيف لا يملكني الجذَل والفرح ، وكيف لا يهزُني النشاطُ والمَرَح ، وقد زففْتُ وُدِّي إلى كُفْء كريم ، وعرضته لحظٍّ من الجمال جسيم ، وأَرجو أَن يرِدَ منه على حُسْنِ قبولٍ وإقبال ، ويَحْظَى من ارتياحه له ببُرْدِ اشْتِمَال ، ويُصادف من اهتزازِهِ وإنشائه ، وعمارته وإنمائه ، وتحصين أطرافه من شوائب الخلل ، وشوائن الوَهن والميل ، وما تستحكم به مَرَائر الوِصَال ، وتؤمن على قُوَاها عَوَادِي الانتقاض والانحلال . وله : إذا لم يُؤْتَ المرءُ في شكر المنعم إلاَّ من عِظَمِ قَدْرِ الإنعام والاصطناع ، واستغراقه منه قُوَى الاستقلال والاضطلاع ، فليس عليه في القصور عن كُنْهِ واجبه عَتْب ، ولا يلحقه فيه نقيصةٌ ولا عَيْبٌ . ولئن ظهر عَجْزِي عن حق هذه النعمة فإني أحِيل بحسن الثناء على من لا يُعْجِزه حمله ، ولا يؤُوده ثقله ، ولا يزكو الشكرُ إلا لدَيْه ، ولا تُصْرَفُ الرغبَةُ إلا إليه ، والله يُبقِيه لمجدٍ يقيم أعلامَه ، وفَضْل يَقْضِي ذِمَامَه ، وعُرْفٍ يَبثّ أقسامه ، ووليّ يوالي إكرامه ، وعدوٍّ يُديمُ قمعَه وإرْغَامَه .وله : ولو وفيت هذه النعمة الجسيمة حقَّها لمشيت إلى حضرته - آنسها الله تعالى - حَبْواً لا على القَدم ، ولآثرْت فيه خدمة اللسان على خِدْمة القلم ، ولما رضيت له بباعي القصير ، وعبارتي الموسومة بالعجز والقصور ، حتى أَستعير فيه ألسِنةً تحملُ شكراً وثناءً ، وتوسِعَ نَشْراً ودعاء ، ثم لا أكَونُ بلغتُ مبلغاً كافياً ، ولا أبليت عُذْراً شافياً ؛ إلا أنّ عدم الإذن ثَبطني عن مقصودِ الغرض ، وعاقَني عن الواجب المفترض ؛ فأقمتُ عاكفاً على دعاءٍ أرفَعُهُ إلى الله عزَ وجل مبتَهلاً ، وأواصله مجتهداً في ليلي ونهاري محتفلاً .
وله : أحقّ النعمة بالزيادة نعمة لم تزل العيون إليها مستشرفة ، والقلوب إليها متشوّفة ، والأيام بها وَاعِدة ، والأقدار فيها مساعدة ، حتى استقرّت في نِصَابها ، وألقتْ عِصيَّ اغترابها ، فهي للنماء والزيادة مترشحة ، وبالعز والسعادة متوشحة ، وبالأدعية الصالحة مستدامة مرتَهنَة ، وباتفاق الكلمةِ والأهواء عليها مرتبطة محصنة .
وله فصل من كتاب تعزية بالأمير ناصر الدين : أقدارُ الله تعالى في خلقِه لم تَزَلْ تختلفُ بين مكروه ومحبوب ، وتتصرَّفُ بين مَوْهوب ومسلوب ، غاديَةً أحكامُها مَرَّةً بالمصائب والنوائب ، رائحة أقسامها تارةً بالعطايا والرغائب ، ولكنْ أحسنُها في العيونِ أثراً ، وأطيبَها في الأسماع خبَراً ، وأَحْرَاها بأن تَكْسِبَ القلوبَ عزاءً وتصبُّراً ، ما إذا انْطَوَى نُشِر ، وإذا انكسر جُبِر ، وإذا أخذ بيد رد بأخرى ، وإذا وهب بيمنى سلبَ بيسرى ، كالمصيبة بفلان التي قرَّحَتِ الاكباد ، وأوهنتِ الأعضاد ، وسودت وجوهَ المكارم والمعالي ، وصورت الأيامَ في صُور الليالي ، وغادرت المجدَ وهو يلبَس حِدَادَه ، والعَدْلَ وهو يبكي عِمَادَه ، والدين وهو يندب جهاده ، حتى إذا كاد اليأسُ يغلبُ الرّجَاءَ ، ويردُّ الظنونَ مُظْلِمةَ النواحي والأرجاء ، قيَّض الله تعالى من الأمير الجليل مَنِ اجتمعتْ عليه الأهواءُ ، ورضِيَتْ به الدهماء ، فأسَى به حادِثَ الكَلْم ، وسد بمكانِهِ عظيمَ الثلْم ، وردَّ الآمال والنفوسَ قد استبدلتْ بالحيرة قوة وانتصاراً ، وصارتْ للدولة المباركة أعواناً وأنصاراً .
ومن شعره في تجنيس القوافي ، في معان مختلفة : المتقارب :
إذا لم تكُنْ لمقالِ النصيح . . . سميعاً ولا عامِلاً أَنت بهْ
يُنبًهُكَ الدهرُ من رَقْدَة إل . . . مَلاهي وإن قُلْت لا أنتَبِهْوقال : البسيط :
تفرَّق الناسُ في أرزاقهم فِرَقاً . . . فَلآبِس من ثراء المالِ أَوْ عَارِي
كذا المعايش في الدنيا وساكنها . . . مَقْسُومة بين أوعاث وأَوْعَارِ
وقال : المتقارب :
حَوَى القِدّ عمْراً فقلت اعتقدْ . . . رضاً بالقضاء ولا تحتفدْ
فإمَّا احتقدت فضاءَ الإلهُ . . . فأقبحْ بمحتقد تحت قد
وقال : الكامل :
تمت محاسنه فما يُزْرِي بها . . . مع فضله ونمائه وكمالِهِ
إلا قصورُ وجودِه عن جُودِه . . . لا عَوْنَ للرجل الكريم كَمَالِهِ
انصُرْ أخاك إذا اجْتَدَاكَ فَوَاسِهِ . . . وإن استغاثك واثقاً بك مَالِهِ
وقال أيضاً : مخلع البسيط :
إذا تغديْتُ صَدْرَ يومي . . . ثم تأذّيتُ بالغداء
فقلت إذْ مسَّني أذاهُ . . . أرى غدائي أراغ دائي
وله في هذا الصوغ : مخلع البسيط :
لنا صديقٌ يُجِيدُ لَقْماً . . . راحتُنا في أَذَى قَفاهُ
ما ذاق من كسبه ، وَلكنْ . . . أذى قَفَاه أذاقَ فَاه
وقال يهجو رجلاً : المتقارب : يريد يوسِّع في بَيْتِهِ . . . ويَأبى له الضيقُ في صَدْرِهِ
فتَى سَخِطَ النَصْبَ في قِدْرِهِ . . . كما رَضِيَ الْخَفْضَ في قَدرِهِ
يخدّر أوصالً أضيافِهِ . . . ولا يُبْرزُ الخُبْزَ من خِدْرِه
وقال في غير هذا المذهب يصفُ كتاباً ورد عليه : المديد :
قد أتانا من صديقٍ كلامٌ . . . كلآلٍ زانهنَّ نِظامُفسرى في القلب مني سرورٌ . . . مطربٌ يعجز عنه المُدام
مثل ما يرتاح ربُّ بنات . . . حوله من جمعهنّ زِحَام
فرعى الله طويلاً يُرجَى . . . خلفاً من نَسْلِه لا يُذامُ
وأتاه بعد يأسٍ بشير . . . قال يا بشراي هذا غلامُ
وقال يصف الشمع : الطويل :
وليلٍ كلَوْنِ الهَجْر أو ظُلمةِ الْحِبْرِ . . . نصَبْنَا لراجيهِ عموداً من التّبْرِ
يشقّ جلابيبَ الدُّجى فكأنما . . . ترى بين أيدينا عموداً من الفَجر
يُحاكِي رُواءَ العاشِقينَ بلَوْنِه . . . وذوب حشَاه والدّموع التي تجري
خَلاَ أَنَّ جارِي الدمع ينحله قوي . . . وعَهْدي بدَمْعِ العين ينحلّ إذ يجري
تبدِّى لنا كالغصن قدّاً وفوقهُ . . . شعاع كأنَّا منه في ليلة البَدْرِ
تحمّل نوراً حَتفُه فيه كامِنٌ . . . وفيه حياةُ الأنسِ واللّهْوِ لو يَدري
إذا ما عَلَتْهُ عِلّةٌ جُرَّ رأسه . . . فيختالُ في ثوبٍ جديدٍ من العمر
وقال : مجزوء الرجز أو مجزوء السريع :
يا ربّ غُصنٍ نورهُ . . . يزرِي بنور الشفق
يظلُّ طولَ عمرهِ . . . يبكِي بجفْنٍ أَرِقِ
نارُ المحبّ في الحشا . . . ونارُه في المفرقِ
لاح لنا في مغربٍ . . . فردَّنا في مَشْرِق
وقال : مجزوء الرمل :
وقضيبٍ من بنات النح . . . ل في قَدِّ الكعابِ
يُشْبه العاشِقَ في لو . . . نٍ ودمعٍ ذي انسكابِ
كسى الباطن منه . . . وهو عريانُ الإهابِ
فَإذا ما أنعم الأب . . . دان ملبوس الثيابِ
فهو للشقوة منها . . . في بلاء وعذابِ
وقال كشاجم يصف شمعاً أهداها إلى بعض الملوك : الوافر :
وصُفْرٍ من بناتِ النحْل تُكْسَى . . . بواطِنُها وأَظْهُرُها عَواري
عذارى يُفتضَضْن مِنَ الأعالي . . . إذا افتضت من السُّفل العَذارِيوأمست تنتج الأضواء حتى . . . تلقح في ذوائبها بِنارِ
كواكب لَسْنَ عنك بآفِلاتٍ . . . إذا ما أشرقتْ شمسُ العُقارِ
بعثْتُ بها إلى مَلِكٍ كريم . . . شريف الأصل محمود النِّجار
فأهديت الضياء بها إلى مَنْ . . . محاسنهُ تُضيءُ لكل سَارِي
وقال : الكامل :
يَشْقَى الفتى بخلافِ كلّ معاندٍ . . . يُؤْذِيه حتّى بالقَذَى في مائِه
يقذى إذا أصغى الإناء لشُرْبهِ . . . ويروغ عنه عِنْدَ سَكْبِ إنائهِ
وقال : الطويل :
أُطالِبُ أيامي بإنجازِ مَوْعِدي . . . وهَا هِيَ تلوي بالوفَاء وَتجمحُ
أقولُ عساها أن تلِينَ لمطلبي . . . قليلاً فبعضُ الشوك بالمنّ يَسمحُ
وقال : البسيط :
أرى وصَالَك لا يَصْفُو لآمِلهِ . . . والهجرُ يتبعُه رَكْضاً على الأثرِ
كالقوس أقربُ سهميها إذا عطفت . . . عليه أبعدُها من منزع الوترِ
أخذ هذا من قول ابن الرومي وذكر رجلاً متلوناً : الطويل :
رأيتك بينا أنتَ خِلٌّ وصَاحِبٌ . . . إذا بك قد ولَيتنا ثانياً عِطْفَا
وأنك إذْ أحْنى حنوك مُوجِبٌ . . . بعاداً لمن بادلْتة الودَّ واللطفَا
لكالقوس أحنى ما تكونُ إذا انحنَتْ . . . على السهم أَنْأَى ما تكونُ له قَذْفا
وله في نحو ذلك : الطويل :
تودَّدْت حتى لم أجِدْ متودَّداً . . . وأتعبْتُ أقلامي عتاباً مُرَدّدا كأنيَ أستدعي لك ابن حَنِيَّةٍ . . . إذا النزع أدْناه من الصدر أبْعَدَا
وذكر عمر بن علي بن محمد المطوعي أبا الفضل الميكالي في كتاب الله في منظومه ومنثوره فقال : قد أصبحتْ حضرتهُ - لا زالتْ أرِجَةَ الأرجَاءِ بطيبِ شمائِله ، راضية الرضا عن صَوْب أنامله - مَوْسِمَ الآمالِ ، ومحط الرحال ؛ وعَبَدَة أحرار الكلام ، كما خدمَتْه أحرارُ الأيام ، وَأطاعته المعاني والمعالي ، كما أطاعه صَرفُ الأيام والليالي ، فهو - أدامَ الله تمكينَه - شهابُ المجدِ الذي لا يخبُو واقده ، ورَوْض الكرم الذي لا يجدب رائِدُه ؛ إن أردْتَ البلاغةَ فهو مَالكُ عنانها ، وفارسُ ميدانها ، وناظم دُرَّها ومرجانها ، وصائغ لُجَيْنها وعِقْيَانِها ؛ وإن أردت السماحةَ فهو محلُّها ومكانُها ، وتاريخُها وعنوانُها ، ويدُها ولسانُها ،وحَدَقتُها وإنسانها ، وحديقتها وبُستانُها ؛ وإن أردت شرف الأصل والنسب ، والجمعَ بين الموروث من المجد والمكتَسب ، فناهِيك بأوائله شرفاً سابقاً ، وفضلاً باسقاً ، ومجداً في فلك الفجر سامقاً ، فهم الْجَحاجِحَةُ الغُر ، والكواكب الزُهر ، ومن بهم يفتخِرُ الفخر ، ويتشرف الدهر ، زحموا مناكبَ الكواكب من بُعْد أقدارهم ، وصكوا فَرْقَ الفرقد وصَدْرَ البَدْرِ بشرف أخطارهم ، فما فيهم إلا قمر فَضْلٍ دارَ في فلك علم ، وهلال مجدٍ لاح في سماء فَهْم ، توارثُوا المجد كابراً عن كابر ، وباقياً عن غابر ، وسافرت أخبارهم في البُعْد والقُرب . وطارت في أقاصي الشرق والغَرْبِ ، وسارَتْ مَسِيرَ الشمس في كل بلد ، وهبت هبوبَ الريح في البر والبحر ، فهم كما قال أبو عبادة البحتري في الشاه بن ميكال وأهله فأحسن وأجاد وبلغ ما أراد : الطويل :
بني أحْوَذِي ، يغمر الطرف مُوفِياً . . . ببَسْطَتِه والسيفُ وَافي الحَمائل
تضيقُ الدروعُ الثُبَّعِيّاتُ منهمُ . . . على كل رَحْبِ الباع سَبْطِ الأنامِ
عُراعر قوم يسكنُ الثغرَ إن مَشَوْا . . . على أَرضِهِ والثغرُ جَمُّ الزلازل
فكم فيهمُ من مُنْعِمٍ متطوِّلٍ . . . بآلاَئه أو مُشْرِفٍ مُتَطاوِلِ
إذا سُئلوا جادَتْ سيوفُ أكفهم . . . نظائر جُمّاتِ التلاع السوائل
خَلِيقونَ سَرْواً أن تُلِينَ أكفهم . . . عرائكَ أحداثِ الزمان الجلائل
وما زال لحظُ الراغبين مُعَلَقاً . . . إلى قَمَرٍ فيهمْ رفيع المَنازِلِ
وفيه ، أو في أبيه ، يقولُ أبو سعيد أحمد بن شبيب : الكامل :
وإلى الأمير ابن الأمير تواهَقَتْ . . . رَزْحى الركاب برَازِحِي الركابِ
شِيَمٌ أرَقُّ من الهواءِ بل الهوَى . . . وألذُّ من ظَفَرٍ بعُقْبِ ضِرَابِوعزائمٌ لو كنَّ يوماً أَسْهُماً . . . لنَفذْنَ في الأيام غَيْرَ نَوَابِ
مائيةُ الجريَان إلا أنها . . . نارِيَّةُ الإقْدَامِ والإلهابِ
يخطرن بين سيَاسةٍ ورِيَاسَةٍ . . . ويَتِهْنَ بين مَثُوبةٍ وعقَابِ
ترجمة ابن أبي دواد وأخباره
قال أبو عبد الله بن حمدون النديم : لقد رأيت الملوك في مقاصيرها ، ومجامع حفلها ، فما رأيت أغزر أدباً من الواثق ؛ خرج علينا ذات يوم وهو يقول : لقد عرض عرضة من عرضه لقول الخزاعي ، يريد دِعبِلاً : الطويل :
خليليَّ ماذا أرتجي من غد امرئ . . . طَوَى الكَشْحَ عني اليومَ وهو مَكينُ
وإنَ امرأً قد ضَنّ عني بمنطقٍ . . . يَسُدُّ به مِن خَلتي لَضنِينُ
فانبرى أحمد بن أبي دُوَاد يسأله كأنما نَشِطَ من عِقَال في رجل من أهل اليمامة فأَطْنب وأسهب ، وذهب في القول كل مَذْهَب ؛ فقال الواثق : يا أبا عبد الله ، لقد أكثرتَ في غير كبير ، ولا طَيب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه صديقي : الطويل :
وأَهونُ ما يُعْطي الصديقُ صديقَهُ . . . من الهيِّن الموجودِ أن يتكلَّما
فقال : وما قَدر اليمامي أن يكون صديقك ، وإنما أحسبه أن يكون من عرض معارفك ؟ . قال : يا أمير المؤمنين ، إنه شهرني بالاستشفاع إليك ، وجعلني بمرأى ومسمعٍ من الردّ والإسعاف ، فإذا لم أَقم له هذا المقام أكون كما قال أميرُ المؤمنين آنفاً : خليليَّ ماذا أرتجي من غِنَى امرِئ . . . طوى الكَشْحَ عني اليوم وَهْوَ مَكِينُ
فقال الواثق : بالله يا محمدُ بنَ عبد الملك إلا عجَّلْتَ لأبي عبد الله حاجتَهُ ، ليسلم من هُجْنَة المَطْل ، كما سلم من هجنَة الردّ .
وكان ابن أبي دُواد من أحسن الناس تأتّياً ، وكان يقول : ربما أردت أن أسألَ أميرَ المؤمنين الحاجةَ بحَضْرَة ابن الزيات فأؤخّر ذلك إلى وقت مغِيبه ؛ لئلاً يتعلَّم حُسنَ التلطُف مني وكان بينه وبين محمد بن عبد الملك عداوة عظيمة ، وأمر الواثقُ أصحابَه أن ينهضُوا قياماً لأبي جعفر إذا دَخل ، ولم يرخِّص في ذلك لأحد ، فاشتدَّ الأمرُ على ابن أبي دُواد ،ولم يَجد لخلاف الواثق سبيلاً . فوكَّلَ بعض غلمانه بمراقبة موافاته ، فإذا أقبل أخبره فنهض يركع ، فقال ابن الزيات : الكامل :
صلَّى الضُّحَى لمّا استفادَ عَداوَتِي . . . وأَراه يَنْسُكُ بعدَها ويَصومُ
لا تعدمنّ عداوةً موسومةَ . . . تركتْك تَقْعُدُ بعدها وتقُومُ
وقال الواثق يوماً لابن أبي دُواد تضجُّراً بكثرة حوائجه : قد أخلَيْتَ بيوتَ الأموال بطلباتك لِلاّئذين بك ، والمتوسّلين إليك . فقال : يا أمير المؤمنين ، نتائج شكرها متَّصلة بك ، وذخائرُها موصولة لك ، وما لي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بخلودِ المدح ، فقال : واللّه لا مَنَعْنَاك ما يزيدُ في عشقك ، ويقوِّي في همّتك فينا ولنا ؛ وأمر فأُخرج له خمسة وثلاثون ألف درهم .
قال أبو العيناء : قلت لابن أبي دواد : إنَّ قوماً من أهل البصرة قدموا إلى سُرَّ من رأى يداً عليَّ ، فقال : يَدُ الله فوقَ أيديهم . فقلت : إن لهم مَكْراً ، فقال : ' ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيءُ إلا بأهْلِهِ ' فقلت : إنَّهم كثير . قال : ' كم من فئةٍ قليلةٍ غلبَت فئةً كثيرةً بإذنِ الله واللّه مع الصابرين ' ، فقلت : لله درُّ القاضي فهو كما قالت الصّمُوتُ الكلابية : الكامل :
للهِ دَرُّك أي جُنَّةِ خَائفٍ . . . ومتاعِ دُنْيَا أنت للحدْثانِ
متخمِّط يَطَأُ الرجالَ شهامةً . . . وَطْءَ الفنيق مدارجَ القرْدَانِ
ويكبّهم حتى تظل رؤُوسُهم . . . مأمومةً تنحطُ للغربانِ
ويفرجُ البابَ الشديدَ رِتاجُه . . . حتى يصِيرَ كأنه بَابَانِ
وكانت هذه المجاوبة بين أبي العيناء وبين أبي العلاء المنقري ، وكان قد استجاش عليه قوماً من أَهل البصرة .
قطعة من شعر الأعراب في الغزل
ابن ميادة : الطويل :
ألا ليت شِعْري هل يَحُلَّنَّ أهلُنا . . . وأهلُك روضاتٍ ببطنِ اللوَى خُضْراوهل تأتينَّ الريحُ تَدْرُجُ مَوْهناً . . . بريَّاكِ تَعْرَوْري بنا بلداً قَفْرا
بريح خُزامى الرمل بات مُعَانقاً . . . فروع الأقاحي تنضب الطلّ والقَطْرا
ألا لَيْتَني ألقاكِ يا أمّ جَحْدَر . . . قريباً ، فأمَّا الصبرُ عنك فلا صَبْرا
وقال : الطويل :
وما رَوْضَةٌ باتَ الربيعُ يَجودُها . . . على منابها من حَنْوةٍ وعَرارِ
بأطيبَ من ريح القرنفل مَوهناً . . . بما الْتفَّ من دِرْعٍ لها وخِمارِ
وقال آخر : الطويل :
تجالِسُنَا بنتُ الدّلالِ تعلّقتْ . . . عراهُ بحبَّاتِ القلوبِ الهوائمِ
وبين ما تخفى من الوَجْد ردّها . . . غريق الأناسي في الدّموع السَّواجمِ
جرَى الدمعُ مَجْرَى مائِه فكَفَفْنَه . . . بعُنَّابِ أطرافِ الأكفّ النواعم
وردّ التحيات الهوَى من عيونها . . . بيَقْظَانِ طَرْفٍ في مَخِيلة نائمِ
وقال العلاء بن موسى الجهني : الطويل :
ولمّا رأتني مخطراً شَوْكةَ العِدَى . . . رَدى النفْسِ مُجْتَاباً إلى غير مَوْعدِ
جلَتْ داجِيَ الظلماء منها بسُنَةٍ . . . ونحرٍ مَشُوبٍ لونُهُ بالزبرجدِ
وبالشَّذْر مسْبُوكاً كأن التهابَه . . . تلهَّبُ جَمْرِ الفرقد المتوقّدِ
وجاءت كسَل السيفِ لو مرّ مشيُها . . . على البيض أمسَى سَالماً لم يُخَضَّدفبتْنَا ولم نكذبْك لو أنَّ ليلنا . . . إلى الحَوْلِ لم نملل وقلْنا له ازدَدِ
نَذُودُ النفوسَ الصادياتِ عن الهوى . . . ذِيَاداً ونسقيهنّ سقي المصَرَّدِ
فلمّا بدا ضوءُ الصباحِ وراعَنا . . . مع الصبح صَوت الهاتفِ المتشهَدِ
نهضْنا بشَخْصٍ واحدٍ في عيونهم . . . نَطَافي حواشِي الأتحميّ المعضَّد
إلى جنَةٍ منهم وسلّمت غادياً . . . عليها سلامَ الباكِر المتزوّد
وولت وأَغباش الدُّجى مرجَحِنّةٌ . . . تأطرغُصْن البانةِ المتأوّدِ
وقال أعرابي من طيئ : الطويل :
وأحورُ يصطادُ القلوبَ وما لهُ . . . من الريش إلا زَعْفَرانٌ وإثمِدُ
وما كنتُ أخشى الفَتْكَ ممَّن سِلاَحُهُ . . . سِوارٌ وخَلخَالٌ وطَوْق منضدُ
وأشنبُ برَّاق الثنايا غُروبُهُ . . . من البَرد الوَسْمِي أصْفَى وأبْرَدُ
خليليّ بالله أقعدا فتبيَّنا . . . وميضاً نرى الظلماءَ منه تقدّدُ
يكشف أعراضَ السحابِ كأنهُ . . . صفيحةُ هِنْدِيٍّ تُسَلّ وتُغْمَدُ
فبتّ على الأجيال ليلاً أشيمُهُ . . . أقومُ له حتى الصباحِ وأقعدُ
هذا في البرق كقول الطرماح في النور : الكامل :
يَبْدُو وتضمره البلادُ كأنهُ . . . سَيْفٌ على شَرَفٍ يُسل ويُغْمَد
وقال بشار : الكامل :
أعددْتَ لي عَتْباً بحبكمُ . . . يا عَبْد طالَ بحبّكمْ عَتْبي
ولقد تعرّض لي خيالُكُمُ . . . في القُرْطِ والخلخال والقُلْبِ
فشربت غيرَ مباشرٍ حَرجاً . . . برضاب أشنبَ باردٍ عَذبِوقال المتنبي : الكامل :
بِتْنَا يُنَاوِلنا المُدَامَ بكَفِّهِ . . . مَنْ ليس يَخْطُرُ أَن نراه ببَالِهِ
نَجْني الكواكبَ من قلائد جِيدِه . . . وننالُ عَيْنَ الشمسِ من خَلْخالِهِ
وأول شعر أبي الطيب :
لا الحُلمُ جادَ به ولا بمثالِه . . . لولا ادَّكارُ وَدَاعِه وزيالِهِ
إن المُعِيدَ لنا المنامُ خَيَالَهُ . . . كانت إعادَتُهُ خيالَ خيالِهِ
إني لأُبغِضُ طَيفَ من أَحْبَبْتُهُ . . . إذ كان يَهْجُرُنا زمانَ وصالِهِ
يقول : التمثيل والتخيل له في اليقظة أعاد خياله في المنام ، فكأنّ الخيالَ الذي في النوم تصور في اليقظة . وأظْهَرُ من هذا قول الطائي : البسيط :
زار الخيالُ لها لا بل أزَارَكَهُ . . . فِكْرٌ إذا نام فِكْرُ الخلق لم يَنَمِ
ظبي تقنَّصْتَهُ لمَا نَصَبْتَ لهُ . . . في آخر الليل أشراكاً من الحلمِ
أما بيته الأول فمن قول جميل : البسيط :
حييتُ طيفك من طَيْفِ ألم به . . . حدثت نفسك عنه وهوَ مشغولُ
وقال ذو إلى الرمة : الطويل :
نأت دارَ ميِّ أن تُزَار ، وزَورُها . . . إذا ما دجا الإظلامُ منا وساوسُ
إذا نحن عَرَّسنا بأرضٍ سَرَى لنا . . . هوًى لبَّسَتهُ بالقلوب اللوابسُ
وبيته الثاني ألمَّ فيه بقول قيس بن الملوَّح : الطويل :
وإني لأسْتَغْشِي وما بيَ نَعسة . . . لعل خيالاً منكِ يَلْقَى خياليَا
وأخرج من بين الجلوس لعلَّني . . . أُحدِّثُ عنك النفسَ في السرِّ خاليا
تَقَطَعُ أنفاسي لذكرك أَنفساً . . . يَرِدْنَ فما يَرْجِعْنَ إلا صوادِيا
وقد قال فيه قيس بن ذريح : الطويل :
وإني لأهْوَى النومَ في غير نَعْسَةٍ . . . لعل لقاءً في المنام يكونُ
تخبرني الأحلامُ أني أراكُم . . . فيا ليتَ أحلامَ المنامِ يقينُوكان البحتري أكثرَ الناس إبداعاً في الخيال ، حتى صار لاشتهارِه مثلاً يقال له خيال البحتري وفي بعض ذلك يقول : الطويل :
أَلمَّتْ بنا بعد الهدوّ ، فسحامَحَتْ . . . بوَصْلٍ متى تَطْلُبْه في الجدّ تُمْنَعِ
فما بَرِحَتْ حتى مضى الليلُ وانقضَى . . . وأَعْجَلها دَاعِي الصباحِ المُلَمَّع فولّتْ كأنَّ البينَ يَخْلِجُ شَخْصَها . . . أوانَ تَولّتْ من حَشايَ وأَضْلُعِي
وقال : الطويل :
سقى الغيثُ أجزاعاً عَهِدْتُ بجوِّها . . . غَزالاً تُراعيه الجآذِرُ أغْيَدا
إذا ما الكرى أهدى إليَّ خيالَهُ . . . شَفَى قُرْبُهُ التبريحَ أو نَقَعَ الصدى
فلم نر مِثْلَيْنا ولا مِثْلَ شأننا . . . نُعَذَّبُ أيْقاظاً وتَنْعَمُ هُجَّدا
وقال : الطويل :
بَلَى وخيال من أُثَيْلَة كلما . . . تأَوَّهْتُ من وَجْدي تَعَرَّضَ يُطْمعُ
يُرِي مقلتي ما لا ترى من لقائه . . . وتَسْمَعُ أُذُني رَجْعَ ما ليس تَسْمَعُ
ويكفيك من حق تَخَيُّلُ باطلٍ . . . تُرَدُّ به نَفْسُ اللهيفِ فَتَرْجِعُ
قوله في البيت الأخير من قول الحسين بن الضحاك : المتقارب :
وماذا يفيدك طيفُ الخيا . . . ل والهجرُ حظّك ممن تُحِب
غَناءٌ قليل ، ولكنني . . . تملّيتهُ بقنوع المحِبّ
وللحسين في هذا المعنى وإن لم يكن في ذِكْرِ الخيال : الخفيف :
وصفَ البَدْرُ حُسْنَ وجهِك حتّى . . . خِلتُ أني ، وما أراكَ ، أراكَا
وإذا ما تنفس النرجسُ الغضُّ توهّمْته نسِيمَ جناكاخُدَعٌ للمُنَى تُعَلّلْني في . . . ك بإشراقِ ذَا ونكهة ذاكا
وأول من طرد الخيالَ طَرفة بن العبد ، فقال : الطويل :
فقل لخيال الحنظليَّةِ ينقَلبْ . . . إليها فإني واصلٌ حَبْلَ مَنْ وَصَلْ
فتبعه جرير في قوله فقال : الكامل :
طرقَتْك صائدةُ القلوبِ وليس ذا . . . حِينُ الزيارةِ فارْجِعي بسَلامِ
قال البحتري ، ونفى هذا المعنى بقوله : الكامل :
قد كان مني الوَجْدُ غِبَّ تَذَكّرٍ . . . إذا كان منك الصَّدُّ غِبَّ تَنَاسي
تجري دموعي حين دَمْعُكِ جامدٌ . . . ويَلينُ قلبي حين قَلْبُك قاسي
ما قلتُ للطيف المُسَلِّم لا تَعُدْ . . . تَغْشَى ، ولا نَهْنَهْتُ حَامِلَ كاسي
وقال ابن هاني الأندلسي : الطويل :
ألا طَرَقَتْنا والنجومُ رُكُودُ . . . وفي الحيِّ أيقاظٌ ونحن هُجُودُ
وقد أَعْجَلَ الفجرُ المُلَمَعُ خَطْوَها . . . وفي أُخْرَيات الليل منه عَمُودُ
سَرَتْ عاطِلاً غَضْبَى على الذُرِّ وحدهُ . . . فلم يَدْرِ نَحْرٌ ما دَهاهُ وجِيدُ
فما بَرِحَتْ إلاَّ ومن سِلْكِ أَدْمُعِي . . . قلائدُ في لَبّاتِها وعُقودُ
ألم يأتها أنّا كَبُرْنا عن الصِّبا . . . وأنّا بَليْنا والزمانُ جَديدُ ؟
وقال عليّ بن محمد الإيادي : الطويل :
أما إنه لولا الخيالُ المراجعُ . . . وعاصٍ يُرَى في النوم وهْو مطاوعُ
لأَشْفق وَاسْتَحْيَا من النوم وَالِهٌ . . . يُرى بعد رَوْعاتِ الهوى وهو هاجِع
وقال أيضاً : الكامل :
طيفٌ يزورُك من حبيبٍ هاجرِ . . . أهْلاً به وبطيفِه مِنْ زَائرِ
شقَّ الدجى وسَرَى فأمْعَن في السّرى . . . حتى ألمَّ فبات بين محاجرييحدُو به هَيف القوام المنثني . . . نَحْوِي وسالفةُ الغزال النافر
للَّه درُّك من خيالٍ واصل . . . أسرى فأنصف من حبيب هاجرِ
عَلَّلت علّة قلب صَبّ هائم . . . وقضيت ذِمَةَ فيض دَمْعٍ قاطرِ
وقال عبد الكريم بن إبراهيم : البسيط :
لم أدْرِ مَغْنَاك لولا المسكُ والقُطُرُ . . . وزَوْرَةٌ لِمُلمٍّ عهدُه عفرُ
سرى يعارضُ أنفاسَ الرياح بما . . . تحمَّر الورد مِنْه وانتشى الزَهَرُ
يخفي بثوب الدُجَى مَسْرَاهُ مستَتِراً . . . ومن تَقَنَّع صُبْحاً كيف يَسْتَتِر ؟
كأَنَّ أعينَ واشِيه تُرَاقِبهُ . . . فيه فيدمج أخبارِي فيَختَصر
قال : الكامل :
أهلاَ به من زائرٍ معتادِ . . . والليلُ يرفلُ في ثيَاب حِدادِ
يتجاوزُ الراياتِ يخفقُ ظلّها . . . ويشقُّ ملتفّ القَنَا المنآدِ أنَّىَ اهتدَى في ظلّ أخضر مغْدِف . . . حتى تَيمَّمَ بالعَرَاء وسادي
بأرقَّ من كبد المتيّم مقدماً . . . في حيث ينبو الحارث بن عُبَادِ
معتادة أَمِنَتْ نمائم حليها . . . والحليُ نمَامٌ على العُوَّادِ
وكأنما ياقُوتُها في نَحرِها . . . متوقّدٌ مما يُجِنّ فُؤَاي
في مجالس المنصور
خطب صالح بن أبي جعفر المنصور في بعض الأمر فأحسن ، فأراد المنصورُ أن يقرظه ويثني عليه ، فلم يجسر أحد على ذلك لمكان المهدي ، وكان مرشحاً للخلافة ، وخافوا ألا يقع الثناء على أخيه بموافقته ، فقام عقال بن شبَّة ، فقال : ما رأيت أبين بياناً ، ولا أفصح لساناً ، ولا أحسن طريقاً ، ولا أغمض عروقاً ، من خطيب قام بحضرتك يا أمير المؤمنين ، وحُقَّ لمن كان أميرُ المؤمنين أباه ، والمهدي أخاه ، أن يكون كما قال زهير : البسيط :
يَطْلُبُ شأْوَ امْرَأَيْنِ قَدَّما حَسَناً . . . بزّا الملوكَ وبزّا هذه السُّوَقَاهو الجَوادُ فإنْ يَلْحَقْ بشَأْوِهِمَا . . . على تكاليفِه فمِثْلُهُ لَحِقَا
أو يَسْبقاهُ على ما كان من مَهَلٍ . . . فبالذي قَدَّمَا من صالحٍ سَبَقا
فعجب الناسُ من حُسن تخلصه ، فقال أبو جعفر : لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألفاً .
قال أبو عبد الله كاتبُ المهدي : ما رأيت مثل عقال قطّ في بلاغته ؛ مدح الغلام وأرْضَى المنصور ، وسلِم من المهدي : وفي قصيدة زهير هذه يمدح هرم بن سنان بن أبي حارثة المري : البسيط :
قد جعلَ المُبْتَغُونَ الخَيْرَ في هَرمٍ . . . والسائلونَ إلى أبوابه طُرُقا
من يًلْقَ يوماً على عِلاَّتِه هَرِماً . . . يَلْقَ السماحةَ منه والندَى خُلُقَا
وليس مانعَ ذي قُرْبَى وذي رَحِمٍ . . . يوماً ولا مُعْدِماً من خَابطٍ وَرَقا
ليثٌ بِعَثر يصطادُ الرجالَ ، إذا . . . ما الليثُ كذبَ عن أقرانِه صَدَقا
يَطْعَنهُمُ ما أرْتَمَوْا حتى إذا اطَّعَنُوا . . . ضاربَ حتى إذا ما ضَارَبُوا اعتنقا
فَضْلُ الجوادِ على الخيل البِطَاءِ فلا . . . يُعْطِي بذلك ممنوناً ولا نَزَقَا
هذا وليس كمن يعيا بحُجَّتهِ . . . وَسْطَ النديّ إذا ما ناطقٌ نَطَقا
لو نالَ حيٌ من الدنيا بمكرمةٍ . . . أفقَ السماءِ لنالَتْ كفُّه الأُفُقا
وكان زهيرٌ كثيرَ المدح لهرم ، ويروى أن بنتاً لسنان بن أبي حارثة رأت بنتاً لزهير بن أبي سلمى في بَعض المحافل ، وإذا لها شارةٌ وحالٌ حسنة ، فقالت : قد سرّني ما أرى من هذه الشارة والنعمة عليك فقالت : إنها منكم . فقالت : بلى والله لك الفضل ، أعطيناكم ما يَفْنَى ، وأعطيتمونا ما يبقى .
وقد قيل : إن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال لابنة هرم بن سنان : ما وهَبأبوك لزهير ؟ قالت : أعطيناه مالاً وأثاثاً أفْناه الدهر . قال : لكن ما أعطاكموه لا تفْنِيه الدهور . وقد صدق عمر ، رضي الله عنه ، لقد أبقى زهير لهم ما لا تفنيه الدهور ، ولا تُخْلِقه العصور ، ولا يزال به ذكر الممدوح سامياً ، وشرفه باقياً ، فقد صار ذكرهم عَلَماً منصوبَاَ ، ومثلاً مضروباً ، قال الطائي ، وذكرهم في شعره : البسيط :
مالي ومالك شِبْةٌ حين أذكرهُ . . . إلاّ زهير وقد أصْغَى له هرم
وقال يوسف الجوهري يمدح الحسن بن سَهْل : البسيط :
لو أن عَيْنَي زهيرٍ أبصرت حَسَناً . . . وكيف يصنعُ في أموالِه الكرمُ
إذن لقال زهيرٌ حين يبصِرهُ . . . هذا الجوادُ على العلاتِ لا هَرِمُ
وقال آخر ، ويدخل في باب تفضيل الشعر : البسيط :
الشعرُ يَحفَظُ ما أَودَى الزمان به . . . والشعرُ أفضل ما يجنى من الكرَمِ
لولا مقالُ زهير في قصائدهِ . . . ما كان يعرف جُودٌ كان من هَرِم
وقيل : أعطى هرم العطاء الجزيل قول زهير فيه : الكامل :
تاللَّه قد عَلِمَتْ سَرَاةُ بني . . . ذُبْيَانَ عَامَ الْحَبْسِ والأصْرِ
أنْ نِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا . . . دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ حامي الذِّمارِ على مُحَافظة ال . . . جُلَى أمينُ مُغَيَّبِ الصَّدْرِ
حَدِبٌ على المَوْلَى الضَّرِيكِ إذا . . . ضاقت عليه نوائبُ الدَهْرِ
ومُرَهَقُ النيران يُحْمَدُ في ال . . . لأْواء غيرُ مُلَعَّنِ القِدْرِ
والسِّتْر دونَ الفاحشاتِ ، وما . . . يلقاكَ دونَ الخيرِ من سِتْرِ
وقال : البسيط :
إن البخيلَ ملومٌ حيثُ كان ولَ . . . كنّ الجوادَ على عِلاَّتِه هَرمُهو الكريمُ الذي يُعطِيك نَائِلَهُ . . . عَفْواً ، ويُظْلَمُ أحياناً فيظَّلِمُ
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ . . . يقولُ : لا غائبٌ مَالي ولا حَرِمُ
الخليل : الذي أخلّ به الفقر ؛ إلى غير ذلك من مُختار مدحه فيه .
من فضائل الشعر
ولما امتدح نُصَيْبٌ عبدَ الله بن جعفر ، رضي الله عنه ، أمر له بإبل وخيل ، وثياب ودنانير ودراهم ، قال له رجل : أتُعْطي لمثل هذا العبد الأسود هذا العطاء ؟ فقال : إن كان أسود فإن شِعْرَه أبيض ، وإن كان عبداً فإن ثناءه لَحُرٌّ ، ولقد استحقّ بما قال أكثرَ ممّا أعطى وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى ، ومالاً يَفْنَى ، ومطايا تَنْضَى ، وأعطانا مديحاً يروَى ، وثناء يَبْقَى ؟ .
وقال الأخطل يعتدُّ على بني أمية بِمَدْحِهِ لهم : الكامل :
أبني أمية ، إن أخذتُ نوالكمْ . . . فلقد أخذتُمْ من مديحيَ أكثَرُ
أبني أمية ، لي مدائحُ فيكُم . . . تُنْسَوْن إنْ طَال الزمانُ وتُذْكَرُ
ولما مدح أبو تمام الطائي محمد بن حسان الضبي بقصيدته التي أولها : الكامل :
أسقى طلولَهُمُ أَجَشُّ هَزِيمُ . . . وغدَتْ عليهمْ نَضْرَةٌ ونَعِيمُ
وصَلَه بماد كثير ، وخلع عليه خلعة نفيسة ، فقال يصفها : الخفيف :
قد كسانا من كُسْوَةِ الصيف خِرْقٌ . . . مُكْتَسٍ من مكارمٍ ومَسَاعِ
حُلَّةً سابِريَّةً وكِسَاء . . . كَسَحَا القيْضِ أو رداء الشجاعكالسراب الرقراقِ في الحُسْنِ ، إلا . . . أنه ليس مثله في الخِدَاعِ
قصبيّاً تسترجفُ الريحُ مَتْنَي . . . ه بأمرٍ من الهبوب مطاعِ
رجَفاناً كأنه الدهرَ منهُ . . . كَبِدُ الصب أو حَشَا المُرْتَاع
لازماً ما يليه تحسبُه جز . . . ءاً من المتنين والأضلاعِ
كسوة مِنْ أغَزَّ أروعَ رَحْب ال . . . صَّدرِ رَحْبِ الفؤادِ رَحْبِ الذراعِ
سوف أكسوكَ ما يعفَّي عليها . . . من ثناءٍ كالبرد بردِ الصّنَاعِ
حُسْنُ هاتيك في العيون ، وهذا . . . حُسْنُهُ في القلوب والأسماعِ
فقال : لعنةُ الله عليِّ إن بقي عندي ثوب أو يَصِل إلى أبي تمام ؛ وأمَر بحمْلِ ما في خزائنه إليه .
قال إبراهيم بن العبّاس الصولي لأبي تمام : أمراءُ الكلام ، يا أبا تمام ، رعيةٌ لإحسانك ، قال : ذاك لأني أستضيءُ بنورك ، وأرِدُ شريعتك .
وكان الطائي مع جَوْدَة شعره بليغَ الخطاب ، حاضرَ الجواب ، وكان يقال : ثنتان قَلّما يجتمعان : اللسانُ البليغ ، والشعر الجيد .
وقال الحسن بن جُنَادة الوشَاء : انصرف أبو تمام من عند بعض أصحاب السلطان ، فوقف علي ، فقلت : من أين ؟ فقال : كنت عند بعض الملوك فأكلْنا طعاماً طيّباً ، وفاكهة فاضلة ، وبُخَرنا وغُلفْنا ؛ فخرجْتُ هارباً من المجلس ، نافراً إلى التسلّي ، وما في منزلي نبيذ فإن كان عندك منه شيء فامنحني ، فقلت : ما عندي نبيذ ولكن عندي خَمْرٌ أريده لبعض الأدوية ، فقال : دع اسمه ، وأعْطِنا جِسْمَه ، فليس يثنينا عن المدام ، ما هَجَّنْته به من اسم الحرام .
في المواعيد
قال عبيد الله بن محمد بن صدقة : كنَا عند أبي عبيد الله ، فدخل عليه أعرابي قد كان له عليه وَعْد ، فقال له : أيها الشيخ السيد ، إني والله أتَسَحًبُ على كرمك ، وأستوطِئ فراشَ مجدك ، وأستعين على نعمك بقدرك ؛ وقد مضى لي موعدان ، فاجعل النُجحَ ثالثاً ، أقُدْ لكالشُكْر في العرب شادخَ الغُزَة ، باديَ الأوضاح . فقال أبو عبيد الله : ما وعدتك تغريراً ، ولا أخرتُك تقصيراً ، ولكن الأشغال تقطعني ، وتأخد بأوْفَر الحظّ مني ، وأنا أبلغ لك جهد الكفاية ، ومنتهى الوُسْع بأوفر مأمول ، وأحمد عاقبة ، وأقرب أمَدٍ ، إن شاء الله تعالى .
فقال الأعرابي : يا جلساءَ الصِّدْق ، قد أحصرني التطول ، فهل من معين مُنْجد ومساعدٍ منشد ؟ فقال بعضُ أحداث الكتاب لأبي عبيد الله : والله - أصلحك اللّه - لقد قصدك ، وما قصدك حتى أمَّلَك ، وما أمَّلك إلا بعد أن أجال النظر ، فأمن الخطر ، وأيقن بالظفَر ، فحقق له أمله بتهيئة القليل ، وتهنئة التعجيل . قال الشاعر : الطويل :
إذا ما اجتلاه المجد عن وَعْدِ آمل . . . تبلّج عن بشر ليستكمل البشْرا
ولم يَثْنِه مطل العداة عنِ التي . . . تصون له الحمدَ الموفّر والأجْرا
فأحضر أبو عبيد الله للأعرابي عشرةَ آلاف درهم ، وقال الأعرابي للفتى : خُذْها فأنت سببها . فقال : شكرُك أحبُّ إليَّ منها ؟ فقال له أبو عبيد الله : خُذْها ، فقد أمَرْنَا له بمثلها . فقال الأعرابي : الآن كمُلَت النعمة ، وتمّت المنّة .
أخبار معاوية بن يسار
وكان أبو عبيد الله واسعَ الذرع ، سابغَ الدرع في الكرم والبلاغة ، واسمهُ معاوية بن يَسَار .
وكان يقول : إن نخوةَ الشرف تُنَاسِبُ بَطَر الغِنَى ، والصبرُ على حقوق الثَّرْوَةِ أشدُّ من الصَّبْر على ألَمِ الحاجة ، وذلُّ الفقر يسعى على عزِّ الصبر ، وجور الولاية مانع من عَدْل الإنصاف ، إلا من ناسب بعد الهمة ، وكان لسلطان عزمه قوة على شهوته .
وكان يقول : لا يكسر رأسُ صناعة إلا في أخسِّ رتَّان ، وأرذلِ سلطان ، ولا يعيبُ العلمَ إلا من انسلخ عنه ، وخرج منه .
وكان يقول : حُسْنُ البِشْر عَلم من أعلام النجاج ورائد من روّاد الفلاح ، وما أحسن ما قال زهير : الطويل :
تراه إذا ماجِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً . . . كأنك تُعْطِيه الذي أنتَ سائِلُهْ
وقال له المهديُ بعد أن قتل ابنَه على الزندقة : ، لا يمعنك ما سبق به القضاءُ في ولدك ، من ثلج صَدْرِكَ وتقديم نُصْحِك ؛ فإني لا أعرض لك رأياً على تُهمة ، ولا أؤخرلك قدماً على رتبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنما كان ولدي حسنة من نبْت إحسانك أرضُهُ ، ومن تفقُّدِك سماؤه ، وأنا طاعة أمرك ، وعَبد نهيك ، وبقية رأيك لي أحسن الخلفَ عندي .
وكان يقول : العالم يمشي الْبَرَازَ آمناً ، والجاهل يهبط الغيطان كامناً ، وللَه درّ زهير حيث يقول : الكامل :
الستر دون الفاحشات وما . . . يَلْقاك دونَ الخيرِ من سِتْرِ
وقال أبو عبيد اللّه : ذاكرني المنصورُ في أمرِ الحسَين بن قَحْطَة ، فقال : كان أوثق الناس عندي ، وأقربهم من قلبي ، فلمّا لقي أبا حنيفة انتكث ، فقلت : إن فسدت نيته فسيضَعُه الباطلُ كما رفعه الحقُّ ، وتشهد مخايِلُه عليه كما شَهِدَتْ له ، فتعدل في أمره من شَكّ إلى يقين . ثم قال لي : اكتُم عليَّ ما أَلقَيْتُ عليك . قال عمران بن شهاب : استعنت على أبي عبيد الله في أمرٍ ببعضِ إخوانه وكان قد تقدَم سؤالي إيَّاه فيه . فقال لي : لولا أت حقّك لا يُجحد ولا يضاع ، لحجبت عنك حُسْنَ نظري ؛ أظننتني أُجهل الإحسانَ حتى أعلَّمه ، ولا أعرف موضعَ المعروف حتى أعرَّفه ؟ لو كان يُنَالُ ما عندي إلا بغيري لكنت مثل البعير الذّلول ، يحمل عليه الحمل الثقيل ، إن قِيدَ انقاد ، وإن أنيخ بَرَك ، ما يملك من نفسه شيئاً ، فقلت : معرِفتك بموضع الصنائع أثبت معرفة ، ولم أَجعل فلاناً شفيعاً إنما جعلته مذكّراً . قال : وأي إذكار أَبلغ عندي في رَعي حقّك من مسيرك إليه وتسليمك عليه ؟ إنه متى لم يتصفّح المأمول أسماءَ مؤمّليه غدوةً وروإحاً لم يكن للأمل محلاً ، وجرى عليه المقدارُ لمؤمّلِيه على يديه بما قدر ، وهو غيْرُ محمود على ذلك ولا مشكور ، وما لي إمامٌ بعد وردي من القرآن إلا أسماء رجال أَهْل التأميل ، حتى أعرضهم على قلبي ، فلا تستَعن على شريفٍ إلا بشَرَفِه ؛ فإنّه يرى ذلك عيباً لعُرفه ؛ وأنشد : الطويل :
وذاك امرؤ إن تأْتِه في عظيمة . . . إلى بابه لا تَأْتِه بشفيعِ
ومن توقيعاته : الحقّ يُعْقِب فَلْجاً أو ظفراً ، والباطل يُورث كذباً ونَدَماً .
وكتب إليه رجل : والنفس مولعة بحبِّ العاجل . فكتب إليه : لكن العقل الذي جعله اللّه للشهوة زِمَاماً وللهوى رِباطأ موكّل بحبِّ الآجل ، ومستصغِرٌ لكل كثير زائل .قال مصعب بن عبد الله الزبيري : وَفَد زياد الحارثي على المهدي وهو بالرّي وليّ عهْد ، فأقام سنتين لا يَصلُ إليه شيء من برّه ، وهو ملازم كاتبه أبا عبيد الله ، فلمَّا طال أمره دخل إلى كاتبه فأنشده : البسيط :
ما بعد حولين مرّا من مطالبةٍ . . . ولا مُقَامَ لذي دين وذِي حَسب
لئن رحلتُ ولم أظفر بفائدةٍ . . . من الأمير لقد أَعذرت في الطَّلَبِ
فوقع أبو عبيد اللّه : يصنعُ الله لك فكتب إليه : الخفيف :
ما أردت الدعاء منك لأني . . . قد تيقّنت أنه لا يُجابُ
أيجاب الدعاءُ من مستطيل . . . جُلُّ تسبيجه الخنا والسِّباب ؟
ألفاظ لأهل العصر في ذكر الاستطالة والكبر
مع ما يشاكلُ ذلك من معانيها ، ويطرق نواحيها من المساوي والمقابح .
فلان لسانُه مِقْرَاضٌ للأعراض ، لا يأكل خبْزَه إلا بلحوم الناس ، هو غرضٌ يرشَق بسهام الغيبة ، وعلم يقصد بالوقيعة ، قد تناولته الألسن العاذلةُ ، وتناقلت حديثَهُ الأنديةُ الحافلة . قد لزمه عار لا يُمْحَى رَسْمُه ، ولزمه شنار لا يزولُ وَسْمُه ، فأصبح نَقْلَ كلّ لسان ، وضُحْكَة كل إنسان ، وصار دولة الألسن ، ومُثْلَة الأعين . وقد عرّض عرضه غرضاً لسهام الغائبين ، وألسنة القاذفين ، وقلّد نفسه عظيم العار والشّنار ، والسّبِّة الخالدة على الليل والنهار . قد أسكرته خَمرَة الكبر ، واستغرقتْه عُرَّة التَيه ، كأن كسرى حامل غاشيته ، وقارون وكيل نفقته ، وبَلْقِيس إحْدَى داياته ، وكأنَّ يوسف لم ينظرْ إلا بطلعته ، وداود لم ينطق إلا بنغمته ، ولقمان لم يتكلّم إلا بحكمته ، والشمس لم تطلع إلا من جبينه ، والغمام لم يَنْدَ إلا من يمينه ، وكأنه امتطى السِّماكين ، وانتعل الفرقدين ، وتناول النَيِّرَين بيدين ، وملك الخافقين ، واستعبد الثقلين وكأن الخضراء له عرشت ، والغبراء باسمه فرشت . فلان له من الطاووس رِجْلُه ، ومن الوَرْدِ شَوْكه ، ومن الماء زَبَدُه ، ومن النار دخانها ، ومن الخمر خُمارها ، قد هبّت سمائمُ نمائمه ، ودبّت مكايد عقارِبه ، والنمام يضرب بسَيْفٍ كلِيل إلا أنه يقطع ، ويضرب بعضد واهِن إلا أنه يوجع . هو تمثالُ الجبن ، وصورة الخوف ، ومقرّ الرعب ؛ فلو سمّيت له الشجاعة لخافَ لَفْظَها قبل معناها ، وذِكْرَهاقبل فحواها ، وفزع من اسمها دون مسماها ، فهو يهلك من تخوفه أضغاثَ أحلام ، فكيف بمسموع الكلام ؟ إذا ذكرت السيوف لمس رأسَه هل ذهبَ ، ومس جبينَه هل ثُقب ؟ كأنه أسلِم في كتّاب الجُبْنِ صبيّاً ، ولُقِّنَ كتاب الفشل أعجمياً . وَعْدُه بَرْقٌ خلب ، وروغان ثعلب . غَيمُ وعده جَهام ، وحَدُّ سَيفه كَهام . حصلتُ منه على مواعيد عرقوبية ، وأحزان يعقوبية ، قد حرمني ثمرَ الوعد ، وجرَّني على شَوْك المطْلِ . فتى له وعدٌ أَخَذَ من البَرْقِ الخلَّبِ خلقاً ، وقد تناول من العارض الجهام طبعاً ، وتركني أَرْعَى رِياضَ رجاء لا يُنبت ، وأَجْنِي ثمارَ أمل لا يُورِق ؛ فأَنا في ضمان الانتظار ، وإسار عِدَةٍ ضِمار . هو يرسل بَرْقَه ، ولا يسيل وَدْقه ، ويقدم رَعْده ، فلا يمطر بعدهُ . وعْدُه الرقْم على بساط الهواء ، والخط في بسيط الماء .
حلَّ هذا من قول أبي الفضل بن العميد : الكامل :
لا أستفيقُ من الغرام ، ولا أُرى . . . خِلْواً من الأشجان والْبُرحَاء
وصروفُ أيام أَقمْنَ قيامتي . . . بِنَوى الخليطِ وفُرْقَةِ القُرَنَاء
وجَفاء خِلّ كنتُ أحسبُ أنّهُ . . . عَوْني على السراء والضرّاء
ثَبْت العزيمة في العقوق ، وودُّهُ . . . متنقلٌ كتنقّل الأحياء
ذي خلة يأتيك أَثبتُ عهدهِ . . . كالخطّ يُرْسَم في بسيطِ الماء
أردت هذا البيت .
هو صخرة خَلْقَاء ، لا يستجيبُ للمرتَقَى ، وحيّة صماء لا تسمع للرُّقَى ، كأني أستنفر بالجوّ رعْداً ، وأهز منه بالدعاء طوداً ، هو ثابت العِطف نابي العطف ، عاجز القوة ، قاصر المُنّة ، يتعلّق بأذناب المعاذير ، ويحيل على ذنوبِ المقادير . هو كالنعامةتكونُ جملاً إذا قيلَ لها طِيري ، وطائراً إذا قيل لها سِيري . يفاض له بذل ، ولا يفوّض إليه شغل ، ويملأ له وَطْب ، ولا يُدْفَع به خَطْب ، قد وفّر همَّه على مطعم يجوّدُه ، ومَلْبَس يجوَّده ، ومَرْقَد يمهده ، وبنيان يشيده .
هذا كقول الحطيئة : البسيط :
دَع المكارِمَ لا ترحَلْ لبُغْيَتِها . . . واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكَاسِي
قَلْب نَغِل ، وصَدْرٌ دغِل ، وطولةٌ معلولة ، وعقيدة مَدْخُولَة ، صَفْوُه رنق ، وبره مَلَق ، قد مُلئ قلبُه رَيناً ، وشُحِنَ صدرُه مَيْناً يدَّعِي الفضلَ وهو فيه دَعِيّ ، دَأْبه بث الخدائع ، والنفْثُ في عُقد المكايد ، ضميرُه خُبث ، ويمينُه حِنْث ، وعهده نكْث . هو سحابة صَيْف ، وطارِقُ ضيْفٍ ، قوته غنيمة ، والظفر به هزيمة . هو العَوْد المركوب ، والوَتَرُ المضروب ، يطؤُه الخفُّ والحافِرُ ، ويستضِيمُه الواردُ والصادر . يغمض عن الذكر ويصْغُر عن الفكر . ذاتُه لا يوسَم أغفالها ، وصفتُه لا تنفرج أقفالها . هو أقل من تبنة في لَبِنة ، ومن قلاَمة في قُمَامة . وهو بيذق الشطْرَنْج في القيمة والقامَة ، جَهْلُه كثيف ، وعَقله سخيف ، لا يستترُ من العقل بسِجفٍ ، ولا يشتمل إلا على سخف . يمدُّ يدَ الجنون فيعرُك بها أذُنَ الحزْم ، ويفتح جِرَاب السخف فيصفَع به قَفَا العقل . لا تزالُ الأخبارُ تورد سفائح جَهلِه وخُرْقه ، والأنباءُ تنقلُ نتائجَ سُخْفِه وحُمقِه ، قد ظل يتعثرُ في فضولِ جَهْلِه ، ويتساقطُ في ذيولِ عقله . هو سمينُ المالِ مهزول النوال . ثَرْوَة في الثريا وهمَّةٌ في الثرَى . وجهُه كَهَولِ المطلع ، وزوال النّعمة ، وقضاء السوءِ وموتِ الفُجَاءة . هو قذَى العَين ، وشَجَى الصدْرِ ، وأذىَ القلب ، وحُمَّى الروح ، وَجْهُه كآخر الصك ، وظلم الشك ، كأنَّ النحسَ يطلع من جَبينه ، والخل يقطر من وجنته . وجهُه طَلْعَة الهَجْر ، ولفظُه قِطَع الصخر . وجههُ كحضور الغَرِيم ، ووصول الرقيب ، وكتاب العَزل ، وفِرَاق الحبيبِ . له من الدينار نَضْرَته ، ومن الوَزدِ صُفْرَتُه ، ومن السحاب ظُلْمَتُه ، ومن الأسد نكهته . وهو عصارةُلؤم في قرارة خبث . ألأم مهجة في أسقط جثة . حديث النعمة ، خبيث الطعمة ، خبيث المركب ، لئيم المنتسب ، يكاد من لؤمه يعدي من جلس إلى جنبه ، أو تسمَّى باسمه . قد أرضع بلبان اللؤم ، ورُبِّي في حجر الشؤم ، وطم عن ثدي الخير ، ونشأ في عرصة الخبث ، وطلق الكرم ثلاثاً لم ينطق فيه استثناءً ، وأعتق المجد بتاتاً لم يستوجب عليه ولاء . هو حمارٌ مبطن بثور مفروز بتيس ، مطرز بطرر ، أتى من اللءم بنادر ، لم تهتد له قصة مادر . هو قصير الشبر ، صغير القدر ، ضيق الصدر ، رد إلى قيمة مثله في خبث أصله ، وفرط جهله ، لا أمس ليومه ، ولا قديم لقومه ، سائله محروم ، وماله مكتوم ، لا يحين إنفاقه ، ولا يحل خناقه ، خيره كالعنقاء تسمع بها ولا ترى . خبزه في حالق ، وإدامه في شاهق ، غناه فقر ، ومطبخه قفر ، يملأ بطنه والجار جائع ، ويحفظ ماله والعرض ضائع ، قد أطاع سلطان البخل ، وانخرط كيف شاء في سلكه . هو ممن لا يبضُّ حجره ، ولا يثمر شجره ، سكيت الحلبة ، وساقة الكتيبة ، وآخر الجريدة . لعنة العائب ، وعرضة الشاهد والغائب . هو عيبة العيوب ، وذنوب الذنوب . وقال أبو الفضل الميكالي : الرجز :
وطلعةٍ بقبحها قد شُهِرَتْ . . . تحكي زوالَ نعمةٍ ما شكرتْ
كأنها عن لحمها قد قشرت . . . أِقبِحْ بها صحيفةً قد نشرتْ
عنوانها إذا الوحوش حُشِرَتْ . . . يلعنها ما قد قدَّمتْ وأخّرتْ
صاحِبُهَا ذو عورة لو سترتْ . . . إن سار يوماً فالجبال سُيِّرتْ
أو رَامَ أَكلاً فالجحيم سُعّرَتْ
ويختص بهذه الأنواع رسالة بديع الزمان إلى القاضي علي بن أحمد يشكو أبا بكرالحيري القاضي ويذمه - وقد أطلت عنان الاختيار فيها لصَّحة مبانيها ، وارتباط ألفاظها بمعانيها : الظُّلامة - أطال الله بقاء القاضي - إذا أتت من مجلس القضاء ، لم ترق إلا إلى سيد القضاة . وما كنت لأقصر سيادته على الحكام ، دون سائر الأنام ، لولا اتصالهم بسببه ، واتسامهم بلقبه ، وهبهم مطفلين على قسمه ، مغيرين على اسمه ، ألهم في الصحة أديم كأديمه ، أو قديم في الشرف كقديمه ، أو حديث في الكرم كطريفه ؟ فهنيئاً لهم الأسماء ، وله المعاني ، ولا زالت لهم الظواهر ، وله الجواهر . ولا غزو أن يسموا قضاة ، فما كل مائع ماء ، ولا كل سقف سماء ، ولا كل سيرة عدل العمرين ، ولا كل قاض قاضي الحرمين ، ويا لثارات القضاء ما أرخص ما بيع ، وأسرع ما أضيع والسنة الإنذار ، قيل خلو الديار ، وموت الخيار ، ألا يغار لحلى الحسناء ، على السواد ، ومركب أولي السياسة ، تحت الساسة ، ومجلس الأنبياء ، من تصدر الأغبياء ، وحمى البزاة من صيد البغاث ، ومرتع الذكور من تسلط الإناث ؟ ويا للرجال ، وأين الرجال ولي القضاء من لا يملك من آلاته غير السِّبال ، ولا يعرف من أدواته غير الاعتزال ، ولا يتوجه في أحكامه إلا إلى الاستحلال ، ولا يرى التفرقة إلا في العيال ولا يحسن من الفقه غير جمع المال ، ولا يتقن من الفرائض إلا قاة الاحتفال ، وكثرة الافتعال ، ولا يدرس من أبواب الجدال إلا قبيح الفعال ، وزور المقال ، ذاك أبو بكر القاضي ، أضاعه الله كما أضاع أمانته ، وخان خزانته ، ولا حاطه من قاض في صولة جندي ، وسبلة كردي . . . إلى أن قال : أيكفي أن يصبح المرء بين الزق والعود ، ويمسي بين موجبات الحدود ، حتى يكمل شبابه ، وتشيب أترابه . ثم يلبس دنِّته ، ليخلع دينته ، ويسوي طيلسانه ، ليحرف يده ولسانه ، ويقصر سباله ، ليطيل حباله ، ويظهر شقاشقه ، ليستر مخارقه ، ويبيض لحيته ، ليسود صحيفته ، ويبدي رعه ، ليخفي طمعه ، ويغشى محرابه ، ليملأ جرابه ، ويكثر دعاؤه ، ليحشو وعاءه ، ثم يخدم بالنهار أمعاؤه ، ويعالج بالليل وجعاءه ، ويرجو أن يخرج من بين هذه الأحوال عالماً ، ويقعد حاكماً ؟ هذا إذا المجد كالوه بقفزان وباعوه في سوقالخسران هيهات حتى ينْسَى الشهوات ، ويَجُوب الفلوَات ، ويعتضد المحابرَ ، ويحتَضِن الدفاتر ، وينتج الخواطر ، ويُحالف الأسفار ، ويعتاد القِفَار ، ويصل الليلةَ باليوم ، ويعتاض السهرَ من النوم ، ويحمل على الروح ، ويجني على العين ، وينفق من العيش ، ويخزن في القلب ، ولا يستريح من النظر إلا إلى التحديق ، ولا من التحقيق إلا إلى التعليق ، وحاملُ هذه الكلف إن أخطأه رائدُ التوفيق ، فقد ضلّ سواء الطريق ، وهذا الحِيرِيُّ رجل قد شغله طلبُ الرياسة عن تحصيل آلاتها ، وأعجله حصولُ الأمنية عن تمحل أدواتها : مجزوء كامل :
والكلبُ أحسن حالةً . . . وَهْوَ النهاية في الخَسَاسهْ
ممن تَصَدَّى للريا . . . سة قبل إبّانِ الرياسهْ فولي المظالم وهو لا يَعرفُ أسرارَها ، وحَمَل الأمانةَ وهو لا يَدْري مقدارَها ؛ والأمانةُ عند الفاسق خفيفةُ المحمل على العاتِق ، تُشْفقِ منها الجبال ، ويحملها الجهال ، وقعد مَقْعَد رسولِ اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، بين حديثه يُرْوَى ، وكتاب الله يُتْلَى ، وبين البينة والدعْوَى ، فقبّحه الله تعالى من حاكم لا شاهِد عنده أعدل من السَّلة والجام ، يُدْلى بهما إلى حكَام ، ولا مزكى أصدق لديه من الصُّفر ، ترقص على الظفر ، ولا وثيقة أحبُّ إليه من غمزات الخصوم ، على الكيس المختوم ، ولا كفيل أوقع بوفَاقِه من خبيئة الذيل ، وحمال الليل ، ولا وكيل أعز عليه من المنديل والطبق ، في وقت الغَسَق والفَلَق ، ولا حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس ، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المُفْلِس ، ثم الويل للفقير إذا ظُلِم ، فيما يغنيه موقف الحكم إلا بالقَتْل من الظلم ، ولا يجيره مجلس القضاء بالنار من الرمْضَاء . وأقسم لو أن اليتيم وقف بين أنياب الأسود ، بل الحيّات السُّود ، لكانت سلامته منهما أرجى من سلامته إذا وقع من هذا القاضي بين عَقاربه وأقَاربه ؛ وما ظنُّ القاضي بقوم يحمِلونَ الأمانةَ على مُتُونهم ، ويكألون النارَ في بطونهم ، حتى تغلظ قصراتهم من مالِ اليتامى ، وتسمن أكفالهم من مال الأيامى ، وما رأيه في دار ، عمارتها خرابُ الدور ، وعُطلة القدور ، وخَلاَء البيوت ، من الكسوة والقوت ، وما قوله في رجل يُعَادِي الله في الفَلْس ، ويبيعُ الدِّينَ بالثمن البخس ، وفي حاكم يبرُز في ظاهر أهلالسمتِ ، وباطن أصحاب السبتِ ، فِعْله الظلمُ البَحْت ، وأكله الحرام السُّحْت . ومَا قوله في سوس لا يقع إلا على صوف الأيتام ؛ وجرادٍ لا يقع إلا على الزرع الحرام ، ولصّ لا ينقب إلا خزانة الأوقاف ، وكردي لا يُغِيرُ إلا على الضعاف ، وليث لا يفتَرِسُ عباد الله إلا بين الركوع والسجود ، وخارب لا ينهب مالَ الله إلا بين العهود والشهود .
وذكر في هذه الرسالة فصلاً في ذِكْر العلم - وهو مستطرف البلاغة ، مستعذب البراعة - قال : والعلم - أطال الله بقاءَ القاضي - شيء كما تعرفُه ، بعيد المرام ، لا يُصَادُ بالسهام ، ولا يُقْسَمُ بالأزلام ؛ ولا يُرَى في المنام ولا يُضْبَطُ باللجام ، ولا يُورَث عن الأعمام ولا يكتب لِلئام ، وزَرْع لا يَزْكُو حتى يصادِفَ من الحَزْمِ ثَرًى طيباً ، ومن التوفيق مطراً صَيِّباً ؛ ومن الطبْعِ جوّاً صافياً ، ومن الجهد روحاً دائماً ، ومن الصبر سقياً نافعاً ، والعلم عِلْقٌ لا يباع ممن زاد ، وصَيْدٌ لا يألف الأوغاد ، وشيءٌ لا يُدْرك إلا بنزع الروح ، وعَوْن الملائكةِ والروح ، وغَرضٌ لا يصابُ إلا بافتراش المدَر ، واتّساد الحجَر ، وردّ الضجَر ، وركوب الخَطر ، وإدْمَان السهر ، واصطحاب السفر ، وكَثْرة النظَرِ ، وإعمال الفكر ، ثم هو معتاص إلا على من زكا زَرْعه ، وخلا ذرعه ، وكرم أَصله وفَرعه ، ووَعى بصره وسمعه ، وصفا ذهنه وطبعهُ ، فكيف يناله من أنفق صِبَاه على الفَحْشاء ؛ وشبابَه على الأحشاء ، وشغل نهاره بالجمع ، وليلَه بالجماعِ ، وقطع . سَلْوته بالغنى ، وخَلوَته بالغناء ، وأفرغ جِدّه على الكيس ، وهزله في الكأس ؛ والعلم ثمر لا يصلح إلا للغَرْس ، ولا يغرس إلا في النفس ، وصيد لا يقع إلا في الندر ، ولا ينشب إلا في الصدر ، وطائر لا يخدعه إلا قَنَص اللفظ ، ولا يعلقه إلا شَرَكُ الحفظ ولا ينشب إلا في الصدر ، وبَحْر لا يخوضُه الملاح ، ولا تطيقه الألواح ، ولا تهيجه الرياح ، وجبَلٌ لا يتسَم إلا بخُطا الفِكْر ، وسماء لا يصعد إلا بمِعْرَاج الفهم ، ونَخمٌ لا يلمس إلا بيَدِ المجد .ومن مفردات الأبيات في المعايب والمقابح
قول أبي تمام : الوافر :
مَسَاوٍ لو قُسِمْنَ على الغَوانِي . . . لما أُمْهِرْن إلاَّ بالطلاقِ
آخر : البسيط :
قومٌ إذا جَرَّجَانٍ منهمُ أمِنُوا . . . من لُؤْمِ أحْسابِهم أن يقتلوا قَوَدا
البحتري : الطويل :
نَبَا في يدِي ، وابنُ اللئيمةِ وَاجِدٌ . . . ويَنْبُو الخبيثُ الطَّبْحِ وَهْوَ صَقيلُ
ابن الرومي في رجل يعرف بابن رمضان : الوافر :
رأيتك تدّعِي رمضانَ دعوى . . . وأنتَ نظيرُ يومِ الشّكَ فيهِ
وله في أعمى : الخفيف :
كيف يَرْجُو الحياء منه صديقٌ . . . ومكانُ الحياء منه خَرابُ ؟
غيره : الطويل : هو الكَلْب ، إلا أن فيه ملالةً . . . وسُوءَ مُرَاعاةٍ وما ذَاكَ في الكَلْب
آخر : الطويل :
أبا دُلفٍ يا أَكْذَب الناسِ كلّهم . . . سِوَايَ فإني في مديحك أكذبُ
أبو الفضل الميكالي : الطويل :
هو الشَّوْك لا يُعْطِيك وافِرَ منّة . . . يدَ الدَّهْرِ إلاّ حين تَضْرِبه جلْدا
اللحن في الكلام
قال المأمون لبعض وَلده وسمع منه لحْناً : ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربية ، فيقيم بها أوَدَه ، ويزيّنُ بها مَشْهده ، ويفلُّ حُجَجَ خَصْمه ، بمسِّ كتاب حكمه ، ويملكمَجْلس سُلْطانه ، بظاهرِ بيانه ؛ ليس لأحدكم أن يكونَ لسانُه كلسان عبدِه أَو أَمته ، فلا يزالُ الدهر أَسِيرَ كلمته .
وقال رجلٌ للحسن البصري : يا أبو سعيد ، قال : كَسْبُ الدراهم شغَلك أن تقولَ يا أبا سعيد ، ثم قال : تعلَموا العلم للأديان ، والنحوَ للسان ، والطمث للأبدان .
وكان الحسن كما قال الأعرابي وسمع كلامه : والله إنه لفصيح إذا لفظ ، نصيحٌ إذا وَعظ . وقيل له : يا أبا سعيد ، ما نراكَ تلحن ، قال : سَبَقْتُ اللحن . أخذه أبو العتاهية ، وقيل له : إنك تخرج في شعرك عن العَرُوض ، فقال : سبقت العروض .
وقال إسحاق بن خلف البهراني : الكامل :
النحو يصلَح من لسانِ الأَلْكَنِ . . . والمرءُ تَعْظِمُه إذا لم يلحنِ
فإذا طلبت من العلوم أجلَّها . . . فأجلُّها منها مقيمُ الألْسُنِ
وقال علي بن بسام : الطويل :
رأيتُ لسانَ المَرْء رائدَ عِلْمِهِ . . . وعنوانه فانظُرْ بماذا تُعَنْوَنُ
ولا تَعدُ إصلاحَ اللسانِ فإنهُ . . . يُخَبِّرُ عما عنده ويبين
على أن للإعراب حَدّاً ، وربما . . . سمعت من الأعراب . ما ليس يحسُنُ
ولا خيرَ في اللفْظ الكريهِ استماعُهُ . . . ولا في قبيح اللَحْنِ والقصْد أزْيَنُ
وقال بعضُ أهل العصر ، وهو أبو سعيد الرستمي : الطويل :
أفي الحقِّ أن يُعْطى ثلاثون شاعراً . . . ويحرَم ما دونَ الرضا شَاعِرٌ مثلي ؟
كما سامحوا عمْراً بواوِ زيادةٍ . . . وضُويِقَ بسم الله في أَلِف الوَصْل
أبو الفتح البستي : الطويل :
حُذِفْتُ وغيري مثبَت في مكانهِ . . . كأنيَ نون الجمعِ حين يُضَافُ
وقال : البسيط :
افْدِي الغزالَ الذي في النِّحْوِ كلَّمني . . . مُنَاظِراً فاجتبيتُ الشّهدَ من شفَتِهْ
فأوْرَدَ الحججَ المقبولَ شاهِدُها . . . محققاً ليريني فَضْلَ معرفَتِهْ
ثم اتفقْتُ على رَأْيٍ رضيتُ بهِ . . . والرفع من صِفتي والنصبُ من صفتِهْ
الحسن اللحام : الكامل :
أنا من وجوه النحوِ فيكم أفْعَلُ . . . ومن اللغاتِ إذا تُعَدُّ المهمَلُالتعلّق بالغلام
وقال أحمد بن يوسف : كتب غلامٌ من ولد أنوشروان ممن كان أحد غلمان الديوان ، إلى آخر منهم وكان قد علق به ، وكان شديدَ الْكَلَف به والمحبَّة له : ليس من قَدرِي - أدام الله سعادَتك - أن أقولَ مثلك جُعِلْتُ فِدَاك ؛ لأني أراك فوقَ كلِّ قيمة خطيرة وثمن مُعْجِز ، ولأنَّ نفسي لا تُسَاوِي نفسك ، فتُقْبَل في فِدْيتك ، وعلى كل حال ؛ فجعلني اللًهُ فِدَاءَ ساعة من أيامك ، اِعْلَمْ أيها السيد العليُّ المنزلة ، أنه لو كان لعَبْدِك من شدّة الخطب أمرٌ يقفُ على حدّه النعت ، لاجتهدنا أن يُضْعِفَ من ذلك ما عسى أن يعطف به زمام قَلْبِك ، وتحنو له على الرقة به والتحفي أثناء جوانحك ، ولكن الذي أمسيت وأصبحت ممتحَناَ به فيه شَسَعَ على كل بيان ، ونزح عَنْ كل لسان ؛ والحب أيها المالك لم يَشُبْهُ قَذَى ريبة ، ولم يختلط به قلب مَعَاب ، فلا ينبغي لمن كرمت أخلاقُه أن يعاف مقارَبة صاحبه المدل بحرمة نيته ، والذي أتمناه ، أيها المولى اللطيف ، مجلس أقف فيه أمامك ، ثم أبوح بما أضنى جسدي ، وفتّ كبدي ، فإن خفّ ذلك عليك ورأيت نشاطاً من نفسك إليه كنتَ كمن فك أسيراً وأبرَأَ عليلاً ، ومن الخير سلك سبيلاً ، يتوعَّرُ سلوكُها على منْ كان قبله ، ومَنْ يكون بعده ؛ ثم أضاف إلى ذلك منَّةً لا يُطيقها جَبَلٌّ رَاس ، ولا فلك دائر ، فرأيك أيها السيد المعتمد في الإسعاف ، قبل أن يَبْدرَني الموتُ ؛ فيحول بيني وبين ما نزعت إليه النفس مواصلاً براً إن ، شاء الله تعالى .
فأجابه : تولى الله تعالى ما جرئ به لسانك بالمزيد ، ولا أَوحش ما بيننا بِطائر فُرْقَة ، لا صافر تشتّت ، وضمَّنَا وإياك في أوثَق حبال الأنس ، وأوكد أَسبابِ الألفَةِ ؛ وقفت على ما لخصته من العجز عن بلوغ ما خامرَ قلبك ، وانطوى في ضميرك ، من الشغَف المقلق ، والهوى المضرع ، ولعمري لو كشَفْت لك عن مِعْشَار ما اشْتُمل عليه مضمر صدري لأيقنت أن الذي عندك إذا قسْتَه إلى ما عندي كالمتلاشي البائد ، ولكنك بفَضل الإنعام سَبَقْتَنا إلى كَشْف ما في الضمير . وأما طاعتي لك ، وذمامي إليك ؟ فطَاعةُ العبد المقْتَنَى ، الطائع لما يَحكُم له وعليه مولاه ومالِكُه ، وأنا صائر إليك وَقتَ كذا ؛ فتأهب . لذلك بأحمد عافية ، وأتم عُقْدَة ، وأَسْعَد نجم جرى بالألفة ، إن شاء الله تعالى .
وكتب بعض الكتاب : إني لأكرَهُ أنْ أفديك بنفسي استحياءً من التقصير فيالمعاوضة ، ومن التخلف في الموازنة ، وعلى الأحوال كلِّها ، فقدَّم الله رُوحِي عنك ، وصانني عن رُؤْية المكروه فيك .
وقال المتنبي :
فِدًى لكَ من يُقَصر عن مَدَاكا . . . فلا مَلِكٌ إذَنْ إلاَّ فِدَاكا
ولو قُلنا فِدًى لك مَنْ يُسَاوِي . . . دَعَوْنَا بالبقاء لمَنْ قَلاَكا
وآمَنَّا فِداءَكَ كل نَفْسٍ . . . وإن كانت لمملكةٍ مِلاَكا
وقال عبيد الله بن شبيب : كتب إليَّ بعض إخواني من أهل البصرة كتاباً ملح فيه وأوجز ، وهو : أطال الله بقاءك ، كما أطال حباءك ، وجعلني فداك إن كان في فداؤك : الوافر :
كتبتُ ولو قدرتُ هوًى وشوقاً . . . إليك لكنت سطراً في كتابي
وكتب آخر إلى إبراهيم وأحمد ابني المدبّر ، وقد أصابتهما مِحْنَة ثم أردفتها نعمة : لو قُبلت فيكما ، ودانيتُ قدريكما ، لقلت : جعلني الله فداكما ، ولكني لا أجزي عنكما ، فلا أُقبل بكما ، وقد بلغتني المحنة التي لو مات إنسان غَمّاً بها لكنته ثم اتصلت النعمة التي لو طار امرؤ برحابها لكنته وكتب تحته : الطويل :
وليس بتزويقِ اللسانِ وصَوْغهِ . . . ولكنَهُ قد خالط اللَحْمَ والدَّمَا
وكتب ابن ثوابة إلى عبيد الله بن سليمان يعتذِرُ في تَرْك مكاتبته بالتفدية : الله يعلم ، وكفى به عليماً ، لقد وددت مكاتبتك بالتفدية فرأيت عيباً أن أفديك بنفسٍ لا بدَّ لها من فَنَاء ، ولا سبيلَ لها إلى بَقَاء ، ومَنْ أظهر لك شيئاً وأضمر لك خِلاَفه فقد غشَّ ؛ والأمر إذا كانت الضرورَةُ تُوجبُ أنه مَلَقٌ لا يحقق ، وإعطاء لا يتحصّل ، لم يجب أن يخاطبَ به مِثْلُك ، وإن كان عند قوم نهايةَ من نهايات التعظيم ، ودليلاً من دلالات الاجتهاد ، وطريقاً من طرق التقرّب . قال الزبير بن أبي بكر : قال لي مسلمة بن عبد الله بن جندب الهذلي : خرجت أرِيدُ العقيق ومعي زَيَّان السوّاق ؛ فلقيْنا نسوة فيهن امرأة لم أرَ أجملَ منها فأنشدت بيتين لزَيَّان : الطويل :
ألاَ يا عبادَ الله هذا أخوكُمُ . . . قتيلٌ ، فهلْ فيكم له اليوم ثائرُ ؟خذوا بدمي ، إن متُّ ، كلَّ خريدةٍ . . . مريضةِ جَفْنِ العين والطَّرْفُ ساحِرُ
ثم قال : شأنك بها يا ابن الكرام فالطلاق له لازم إن لم يكن دم أبيك في نقابها .
فأقبلت عليَّ وقالت : أنت ابن جندب ؟ فقلت : نعم . قالت : إن قتيلنا لا يودى ، وأسيرنا لا يفدى ، فاغتنم لنفسك ، واحتسب أباك .
قال أبو عبيدة : قال رجل من فزارة لرجل من بني عذرة : تعدون موتكم من الحب مزية ، وإنما ذاك من ضعف المنة ، وعجز الروية . فقال العذري : أما إنكم لو رأيتم المحاجر البلج ، ترشق بالأعين الدعج ، فوقها الحواجب الزج ، وتحتها المباسم الفلج ، والشفاه السمر ، تفتر عن الثنايا الغر ، كأنها برد الدُّر ، لجعلتموها اللات والعزى ، ورفضتم الإسلام وراء ظهروكم .
وقال أعرابي : دخلت بغداد فرأيت فيها عيوناً دعجاً ، وحواجب زجاً ، يسحبن الثياب ، ويسلبن الألباب .
وذكر أعرابي نساءً فقال : ظعائن في سوالفهن طول ، غير قبيحات العطول ، إذا مشين أسبلن الذيول ، وإن ركبن أثقلن الحمول .
ووصف آخر نساء فقال : يتلثمن على السبائك ، ويتشحن على النيازك ، ويتزرن على العواتك ، ويرتفقن على الأرائك ، ويتهادين على الدرانك ، ابتسامهن وميض ، عن ثغر كالإغريض ، وهن إلى الصبا صور ، وعن الخنا خور .
الهوى
سئل بعض الحكماء عن الهوى ، فقال : هو جليس ممتع ، وأليف مؤنس ، أحكامه جائزة ، ملك الأبدان وأرواحها ، والقلوب وخواطرها ، والعيون ونواظرها ، والنفوسوآراءها ، وأعطى زمام طاعتها ، وقياد مملكتها ، توارى عن الأبصار مدخله ، وغمض عن القلوب مسلكه .
وسئلت أعرابيةٌ عن الهوى فقالت : لا متع الهوى بملكه ، ولا ملِّي بسلطانه ، وقبض الله يده ، وأوهن عضده ؛ فإنه جائر لا ينصف في حكم ، أعمى ما ينطق بعدل ، ولا يقصر في ظلم ، ولا يرعوي للوم ، ولا ينقاد لحق ، ولا يبقى على عقل ولا فهم ، لو ملك الهوى وأطيع لرد الأمور على أدبارها ، والدنيا على أعقابها .
ووصف أعرابي الهوى فقال : هو داءٌ تدوى به النفوس الصحاح ، وتسيل منه الأرواح ، وهو سقم مكتتم ، وجمر مضطرم ؛ فالقلوب له منضجة ، والعيون ساكنة .
قال أبو عبيد الله بن محمد بن عمران المرزباني : أخبرني المظفر بن يحيى ، قال : أحبَّ رجلٌ امرأةً دونه في القددر ، فعذله عمه ، فقال : يا عمّ ، لا تلم مجبراً على سقمه ؛ فإن المقر على نفسه مستغنٍ عن منازعة خصمه ، وإنما يلام من اقتراف ما يقدر على تركه ، وليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه ، ولا إلى العقل فيدبره ؛ بل قدرته أغلب ، وجانبه أعز من أن تنفذ فيه حيلة حازم ، أو لطف محتال .
وقال بعضهم : رأيت امرأتين من أهل المدينة تعاتب إحدهما الأخرى على هوىً لها ، فقالت : إنه يقال في الحكمة الغابرة ، والأمثال السائرة : لا تلومنَّ من أساء بك الظن إذا جعلت نفسك هدفاً للتهمة ، ومن لم يكن عوناً على نفسه مع خصمه لم يكن معه شيء من عقدة الرأي ، ومن أقدم على هوىً وهو يعلم ما فيه من سوء المغبة سلط على نفسه لسان العذل ، وضيع الحزم . فقالت المعذولة : ليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه ، ولا إلى العقل فيدبره ، وهو أغلب قدرةً ، وأمنع جانباً من أن تنفذ فيه حيلة الحازم ، أو ما سمعت قول الشاعر : الخفيف :
ليس خَطبُ الهوَى بخطْبٍ يسيرِ . . . لا ينّبيك عنه مِثلُ خَبيرِ
ليس أمرُ الهَوى يُدَبَّرُ بالرَّأْ . . . ي ولا بالقياس والتفكيرِ
إنما الأمرُ في الهوى خَطَراتٌ . . . محدَثاتُ الأمورِ بَعْدَ الأمورِ ؟ قال المرزباني : أخبرني الصولي أنّ هذه الأبيات لعُلية بنت المهدي ، ولها فيها لحنوقيل لعبد الله بن المقفع : ما بالُ العاقل المميز الذهن ، واللبيب الفطِن ، يتعرض للحب وقد رأى منه مواضعَ الهلكة ، ومصارعَ التّلَف ، وعلم ما يؤول إليه عُقْبَاه ، وترجع به أُخْراه على أولاه ؟ فقال : زُخْرِفَ ظاهرُ العشق بجمال زينة يستدعي القلوب إلى ملامَسَتِهِ ، ومُلّي بعاجل حلاوة يَطْبي النفوسَ إلى ملابَسَته ، كظاهر زخرف الدنيا ، وبهاء رونقها ، ولذيذ جَنَى ثمرها ، وقد سكرت أبصارُ قلوب أبنائها عن النظر إلى قبيح عيوب أفعالها ، فهم في بلائها منغمسون ، وفي هلكة فتنتها متورّطون ، مع علمهم بسوء عواقب خَطْبها ، وتجرع مرارةِ شربها ، وسرعة استرجاعها ما وهبت ، وإخراجها مِمَا ملكت ، فليس يَنجُو منها إلا مَنْ حَذِرَها ، ولا يهلك فيها إلا من أَمِنَها ، وكذلك صُورةُ الهوى ؛ هما في الفتنة سواء .
العفة
وقال ابن دُرَيد : قال بعضُ الحكماء : أَغْلِق أبواب الشبهات بأفعال الزهادة ، وافتح أبوابَ البر بمفاتيح العبادة فإنَّ ذلك يُدْنِيك من السعادة ، وتستوجب من الله الزيادة .
وقال غيرُه : إنَّ اللذةَ مشوبةٌ بالقُبح ؛ ففكِّروا في انقطاع اللذَةِ وبقاء ذِكْرِ القُبحِ .
قال أبو عبد الله بن إبراهيم بن عرفة نِفْطَوَيْه : الكامل :
ليس الظرِيفُ بكامل في ظَرفِه . . . حتى يكونَ عن الحرامِ عفيفا
فإذا تعفَّفَ عن محارم رَبّهِ . . . فهناك يُدْعَى في الأنامِ ظَرِيفا
وقال : البسيط :
كم قد ظفرتُ بمن أَهوَى فيمنَعُني . . . منه الحياءُ وخَوْفُ الله والْحَذَرُ
وكم خَلَوْتُ بمن أَهْوَى فيُقْنِعُني . . . منه الفكَاهةُ والتقبيلُ والنَّظَرُ
أهْوَى الملاحَ وأَهْوَى أنْ أُجالِسهم . . . وليس لي في حَرَام منهمُ وَطَرُكذلك الحبُّ لا إتيانُ معصِيَةٍ . . . لا خيرَ في لذّةٍ من بعدها سَقَر
وقال العباس بن الأحنف : البسيط :
أتأذنون لِصَبٍّ في زيارتكمْ . . . فعندكُمْ شهواتُ السَّمْعِ والبَصَرِ
لا يبصر السوءَ إن طالَتْ إقامتُه . . . عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
وقال بعضُ الطالبين : الطويل :
رمَوْني وإياهمْ بشَنْعَاءَهُمْ بها . . . أَحَقُّ ، أدَالَ الله منهمْ وعجَّلاَ
بأمرٍ تركناه ورَبِّ محمدٍ . . . جميعاً فإما عفَّةً أو تجمّلا
وقال سعيد بن حميد : الخفيف :
زائر زارَنا على غَيْرِ وعد . . . مُخْطَف الكَشْح مُثْقَلُ الأردَافِ
غالبَ الخوفَ حين غالبه الشو . . . قُ وأخفَى الهوى وليس بخافِي
غضَّ طرفِي عنه تُقى الله فاختر . . . تُ على بَذلِه بقاءَ التصافي
ثم ولى والخوفُ قد هَزَّ عِطْفي . . . ه ولم يخلُ من لِباس العَفَافِ
وفي الحديث الشريف : ' مَنْ أحب فعفَّ فمات فهو شهيدٌ ' .
والعغافُ مع البَذْل ، كالاستطاعة مع الفعل ، كما قال صريع الغواني : الطويل :
وما ذميَ الأيام أنْ لَسْتُ مادحاً . . . لعَهْدِ لياليها التي سلَفَتْ قبلُ
ألاَ رُب يوم صادقِ العَيْشِ نِلْتهُ . . . بها ونَدامَاي العفافةُ والبَذْلُ
وأنشد الصولي لأبي حاتم السجستاني في المبرد ، وكان يلزم حَلْقَته ، وكان من المِلاَح وهو غلام : مجزوء الكامل :
ماذا لقيتُ اليومَ من . . . مُتَمجِّنٍ خَنِثِ الكلامْ
وقفَ الجمالُ بوَجْهِه . . . فسمَتْ له حدَقُ الأنَامْ
حَركَاتهُ وسُكُونهُ . . . يُجْنَى بها ثَمرُ الأثامْ
فإذا خَلَوْتُ بمثلهِ . . . وعَزَمْتُ فيه على اعترامْ
لم أَغدُ أخلاقَ العَفَا . . . فِ وذاك أَوْكدُ للغَرَامْنَفْسِي فِدَاؤكَ يا أبا ال . . . عباس جَلَّ بك اعتصامْ
فارْحَمْ أخاكَ فإنهُ . . . نَزْرُ الكَرَى بادِي السقام
وأنِلْهُ ما دُونَ الحرا . . . مِ فليس يَرْغَبُ في الحرام
وكان أبو حاتم يتصدق كلَّ يوم بدرهم ، ويختم القرآن في كل أسبوع . وذكر أنه اجتمع أبو العباس بن سُرَيج الشافعي ، وأبو بكر بن داود العباسي ، في مجلس علي بن عيسى بن الجراح الوزير ، فتناظَرَا في الإيلاءِ ، فقال ابن سريج : أنت بقولك : من كثرت لَحَظاته دامَتْ حَسَراته أبْصَرُ منك بالكلام في الإيلاء ، فقال أبو بكر : لئن قلت ذلك فإني أقول : الطويل :
أُنزِّه في رَوْضِ المحاسن مُقْلَتي . . . وأَمْنَعُ نفسي أن تنالَ مُحَرَّمَا
وأحمِلُ من ثِقل الهوَى ما لَوَ أنه . . . يُصَبُّ على الصَّخْر الأصمِّ تهدَّمَا
وينطق طَرْفِي عن مترجم خَاطِري . . . فلولا اختلاسِي رَدَّهُ لتكلَّما
رأيتُ الهوَى دَعْوَى من الناسِ كلِّهم . . . فلستُ أرى حبّاً صحيحاً مسلّما
فقال أبو العباس : بم تفتخرُ عليّ . وأنا لو شئت لقلت : الكامل :
ومُطَاعِم للشّهْدِ مِنْ نَغَماتِه . . . قد بِثُ أَمْنعهُ لذيذَ سِنَاتِه
صبَّاً بحُسْنِ حديثه وكلامِه . . . وأكُرّر اللحظاتِ في وجناتِه
حتى إذا ما الصبحُ لاح عمودُهُ . . . ولَّى بخاتم رَبّه وبَرَاتِه
فقال أبو بكر : أصلح الله الوزير ، تحفظ عليه ما قال حتى يقيمَ شاهدَين عَدْلين أنه ولي بخاتم ربه فقال أبو العباس : يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك : أنزه في رَوْض المحاسن مُقْلَتي . . . البيت . فضحك الوزيرُ ، وقال : لقد جَمَعْتما ظرفاً ولُطفاً وفَهْماً وعلماً .
ألفاظ لأهل العصر في محاسن النساء
هي روضةُ الحسْنِ ، وضرَّةُ الشمْسِ ، وبَدْرُ الأرض . هي من وجهها في صباحٍ شَامِس ، ومن شَعْرِها في ليل دَامس ، كأنها فلقة قَمَر على بُرْج فضة . بَدْر التم يضي تحت نِقابها ، وغُصْن البانِ يهتزّ تحت ثيابها ، ثَغْرُها يجمعُ الضريب والضَّرَب ، كأنهُ نثر الدرّ ، كَما قال البحتري : البسيط :
إذا نَضَوْنَ شُفُسوفَ الرَّيْطِ آوِنةً . . . قَشَرْنَ عَن لؤلؤِ البَحْرَين أصْدَافاقد أنْبَتَ صدرُها ثمرَ الشباب ، خرطَتْ لها يدُ الشبابِ حُقّيْنِ من عاج ، كأنها البدرُ قُرِّط بالثريَّا ، ونِيطَ بها عِقْدٌ من الجوزاء ، أعلاها كالغُصْن ميّال ، وأسفلها كالدِّعص مِنْهال ، لها عنُق كإبريق اللُجَيْنِ ، وسُرَّة كمدْهُن العاج ، نِطَاقُها مُجْدِب ، وإزَارُها مُخْصِب ، مَطلَع الشمس من وَجْهِها ، ونَبْت الدُّرِّ من فيها ، وملقط الوَرْد من خدّها ، ومنبع السِّحْرِ من طَرْفِها ، ومبادئ الليل من شَعْرِها ، ومغرس الغصن من قدِّهَا ، ومهيل الرَّمْلِ من رِدْفِها .
ولهم في محاسن الغلمان والمعذرين : زاد جمالُه ، وأقمر هِلاله . ترقرقَ في وجهِه ماءُ الحسْنِ ، شادِنٌ فاتِرٌ طَرْفه ، ساحر لَفْظه . غلامٌ تأخذُه العَيْن ، ويَقْبَله القَلْبُ ، ويأخذه الطَرْفُ ، وترتاح إليه الرّوح . تكادُ القلوبُ تأكله ، والعيون تَشْرَبُه ، جرى ماءُ الشباب في عُوده فتمايلَ كالغُصْنِ ، واستوفى أقسامَ الحُسْنِ ، ولبس ديباجةَ المَلاَحة ، كأنَّ البدْر قد ركب أزراره ، لا يشبَع منه الناظرُ ، ولا يروَى منه الخاطِر ، كاد البدرُ يَحكِيه ، والشمسُ تشبِهه وتُضَاهِيه ، صورة تَجْلو الأبصار ، وتُخْجِل الأقمار ، شادن مُنتقبٌ بالبدْر ، ومكتَحِلٌ بالسحر . ما هو إلا نُزْهة الأبصار ، ومخْجل الأقمار ، وبِدْعة الأمصار ، غمزات طَرْفه تُخْبِر عن ظَرْفه ، ومنطِقُه ينطقُ عن وَصفه . تخالُ الشمسَ تبرقعَتْ غرَّتَه ، والليل ناسب أصداغَه وطُرَّتَه . الحُسنُ ما فوق أزراره ، والطِّيب ما تحت إزاره ، شادن يَضْحَكُ عن الأقحوان ، ويتنفَّسُ عن الريحان ، كأنَّ خدَّه سكران من خَمْر طرفه ، وبغداد مسروقةٌ من حُسْنِه وظَرْفه ، أعجمت يد الجمالِ نونَ صُدْغِه بخَال ، هذا محلول من قول ابن المعتز : الوافر :
غِلالة خَدّهِ صبغت بوَرْدٍ . . . ونونُ الصُّدْغ مُعْجَمَة بخَالِ له عينان حَشْوُ أجفانهما السِّحْرُ ، كأنه قد أعار الظَّبْيَ جِيدَه ، والغصْنَ قدَّه ، والراح رِيحَه ، والوَرْدَ خدَّه ، الشِّكل من حَرَكاته ، وجميعُ الحسْنِ بعض صفاته . قد ملكَ أزِمَّةَ القلوب ، وأظهر حجَّةَ الذنوب ، كأنما وَسَمَه الجمالُ بنهايته ، ولحظَه الفلكُ بعنايته ، فصاغَه من لَيْلِه ونهاره ، وحَلاه بنجومة وأقماره ، ونَقَّبه ببدائع آثاره ، ورَمَقَه بنواظر سُعودِه ، وجعله بالجمال أحدَ حدوده . وقد صَبَغ الحياءُ غِلاَلَة وَجْهِه ، ونُشِر لؤلؤُ العرق عن وَرْدِ خدّه . تكاد الألحاظُ تسفك من خَدِّه دمَ الخجَلِ . له طرّة كالغَسَقِ ، على غُرَّةِ كالفَلَق . جاءنا في غِلالة تنمُّ على ما يستره ، وتجفو مع رِقّتها عما يظهره . وجهٌ بماءِ الحُسْنِ مغسول ،وطَرْف بِمرْود السّحْرِ مكحول . ثغر حُمِيَ حمايةَ الثغور ، وجُعِل ضرة لقلائد النحور . السحْرُ في ألحاظه ، والشهدُ في ألفاظه . اختلس قامةَ الغُصْنِ ، وتوشّح بمطارف الحسن ، وحكى الروض غبَّ المُزْن . الأرضُ مشرقة بنورِ وجهِه ، وليل السرَارِ في مثل شَعْره . الجنةُ مجتناةٌ من قُرْبِه ، وماءُ الجمالِ يترقرقُ في خدِّه ، ومحاسنُ الربيع بين سَحْرِه ونَحْرِه ، والقمرُ فَضْلَةٌ من حُسْنِه . ما هو إلا خال في خدِّ الظّرف ، وطِرَازٌ على علم الحُسْنِ ، ووَرْدَةٌ في غُصْنِ الدهر ، ونَقْشٌ على خاتم الملك ، وشمسٌ في فَلَك اللطف . هو قَمَرٌ في التصوير ، شمسٌ في التأثير . منظر يملأ العيونَ ، ويملكُ النفوس ، زَرافينُ أصداغه معاليق القلوب ، كأنَّ صُدْغه قرط من المسك على عارِض البَدْر . وجهُه عرس ، وصدغه مَأْتم ، ووصله جنة ، وهجره جهنم . أصداغُه قد اتخذت شَكْلَ العقاربِ ، وظلمت ظُلْمَ الأقارب . إن كان عقرب صُدْغه تلسع ، فترياق رِيقه يَنْفَع . كأن شاربَه زِئْبَرُ الخزّ الأخضرِ ، وعِذَارُه طراز المِسْك والعَنبر الإذفر ، على الوَرْدِ الأحمر . إذا تكلم تكشَّفَ حِجَابُ الزمزد والعقيق ، عن سِمْط الدرِّ الأنيق . قد همَّ أرقمُ الشعْر على شاربِه ، وكاد فم الحُسْن يقبّله . كأنَّ العِذَار ينقش فمنَ وَجْهِه ، ويحرق فِضة خدّه . طرَّزَ الجمالُ ديباج وجْهِه ، وأبانَ عِذَارُه العذرَ في حُبّه . لعب الربيعُ بخده ، فأنبت البنفسجَ في وَرْده . لما احترقتْ فضةُ خده ، احترق سواد القلب من حبِّه : المديد :
كيف لا يخضرّ ُشاربهُ . . . ومياهُ الحسْنِ تسقيهِ ؟
ولهم في نقيض ذلك ، في ذم خروج اللحية : قد انتقب بالدَّيجُورِ ، بعد النور ؛ فدَوْلةُ حُسْنِه قد أَعرضَتْ أيامه ، وانقرضَتْ دَوْلته وأحكامُه . استحال خَدُّه دُجا ، وزمرد خَدِّهِ سُبَجا ؛ وأخمدت نارُ حُسْنِه بعد الإيقاد ، ولَبس عارضُه ثوبَ الحِدَاد . ذَبُل وَردُ خدِّه ، وتشوَّك زعْفرانُ خطه . فارقنا خَشْفاً ، ووافانا جِلْفاً ، وفارَقنا هلالاً وغَزَالاً ، وعاد وبالاًونكالاً . ما لي أرى الآباط جائِشة ؛ والآنافَ مُعْشِبة ، والعيون منورة ، والأزرار مرعى ، والأظفارَ حمَى ، واللحى لبودا ، والأسنان خُضْراً وَسُوداً ؟ .
من إنشاء بديع الزمان
وكتب إلى بديع الزمان بعضُ من عُزل عن ولاية حسنة يستمدُّ وداده ويستميل فؤاده ؛ فأجابه بما نسخته : وردَتْ رقعَتُك أطالَ الله بقاءَك فأَعَرْتُهَا طرف التعزز ومددت إليها يدَ التقزّز ، وجمعت عليها ذريلَ التحرُّز ، فلم تَنْدَ على كَبدي ، ولم تَحْظَ بناظرِي ويَدِي ، ولقد خطبت من مَودّتي ما لم أجِدْك لها كَفِيّاً ، وطلبت من عِشرتي ما لم أرَك لها رضياً ؛ وقلت : هذا الذي رفع عنَّا أجفان طَرْفه ، وشال بشعرات أنفه ، وتَاه بحُسْنِ قَدِّه ، وزهَا بوَرْد خَدِّه ، ولم يَسْقِنا من نَوْئِه ، ولم نَسِرْ بضوئه ، فالآنَ إذْ نسخ الدهرُ آيةَ حُسْنِه ، وأقام مائل غُصْنِه ، وفَلَلَ غَرْب عُجبِه ، وكفَّ شأْو زهْوه وانتصر لنا منه بشعرات قد كسفت هِلاله ، وأكسفَتْ بالَه ، ومسخَتْ جمالَه ، وغيّرتْ حاله ، وكدّرَتْ شِرْعتَه ، ونكّرت طَلْعته ، جاء يستقي من جرفنا جَرفاً ، ويغرف من طينتنا غَرْفاً ، فمهلاً يا أبا الفضل مهلاً : مجزوء الكامل :
أَرِغبْتَ فينا إذْ عَلاَ . . . ك الشَعْرُ في خَدّ قَحِلْ ؟
وخرجْتَ من حدِّ الظبا . . . ءِ وصِرْتَ في حدّ الإِبِلْ ؟
أنشأت تطلبُ عِشْرَتي . . . عُدْ للعداوةِ يا خجلْ أنسيت أيامك ؛ إذ تكلِّمنا نَزْراً ، وتنظرنا شَزْراً ، وتجالسُ مَنْ حضر ، ونسرق إليك النظر ، ونهتز لكلامك ، ونهش لسلامك : الطويل :
فمَن لكَ بالعينِ التي كنتُ مرة . . . إليك بها في سالفِ الدَّهْرِ أَنْظُرُ ؟
أيام كنت تتمايل ، والأعضاء تتزايَل ، وتتغانج ، والأجساثُ تتفَالج ، وتتفلّت ، والأكبادُ تتفتت ، وتخطر وترفل ، والوَجْدُ بنا يَعْلو ويسفل ، وتُدْبر وتُقبل ، فتمنّى وتخيل ، وتصدّ ، وتُعْرِض ، فتضني وتمرض : الطويل :
وتبسم عن ألمي كأنَ منوراً . . . تخلّل حرّ الرمل دعصٌ له ندُّفأَقْصِر الآنَ فإنه سوقٌ كَسَد ، ومتاعٌ فَسد ، ودولة أعرضت ، وأيام انقضت : مجزوء المتقارب :
وعهد نِفَاق مَضَى . . . وسوق كسادٍ نَزلْ
وخدّ كأَنْ لم يكُنْ . . . وخَطّ كأن لم يَزَلْ
ويوم صار أمس ، وحسرة بقيتْ في النفس ، وثغر غاضَ ماؤُه فلا يرشف ، وريق خدع فلا ينشف ، وتمَايل لا يعجب ، وتئنّ لا يطرب ، ووجه زال بهاؤه ، ومُقْلة لا تجرح ألحاظها ، وشفَة لا تفتن ألفاظها ، فحتّام تُدِلّ ، وإلاَمَ نحتملُ وعَلاَم . وآن أن تذْعِن الآن ، وقد بلغني ما أنت مُتَعَاطيه من تمويه يجوز بعد العِشاء في الغَسَق ، وتشبيه يفتضحُ عند ذوي البصر والصدق ؛ من إفنائك لتلك الشعرات جفّاً وحَصّاً ، وإنْحَائك عليه نقصاً وقصّاً . وسيكفينا الدهرُ مؤونة الإنكار عليك ، بما يزفّ من بنات الشعر وأمهاته إليك ؛ فأمأ ما استأذنت فيه رَأيي من الاختلاف إلى مجلسي فما أقلَّ إليك نشاطي ؛ وأضيق عنك بساطي ، وأشنع قلقي منك ، وأشدّ استغنائي عن حضورك ، فإن حضرت فأنت داءٌ نَرُوضُ عليه الحلم ، ونتعلّم به الصبر ، ونتكلّف فيه الاحتمال ، ونُغْضِي منه الجَفْنَ على قَذى ، ونَطوِي منه الصدر على أذى ، ونجعله للقلوب تأنيباً ، وللعيون تاْديباً . وما لك إلا أن تعتاض من الرغبة عنّا رغبةً فينا . ومن ذلك التدلل علينا تذللاً لنا ، ومن ذلك التعالي تَبَصبصا ، ومن ذلك التغالي ترخُصَاً ، وما بال الدهر أعقبك من التزايد تنقصاً ، ومن التسحُّب على الإخوان تقمُّصاً ، ولئن اعتَضْتَ من الذهاب رُجوعاً ، لقد اعتضنا من النزاعُ نُزوعاً ، فانْأَ برَحْلكِ وجانبك ، ملقًى حَبْلك على غارِبك ، لا أُوثِر قُرْبك ، ولا أَنْدَهُ سِرْبك ، والسلام .
ومن إنشاء بديع الزمان في مقامات الإسكندري ، ولعلّ ما فيها من الطول غير مملول . قال : حدثنا عيسى بن هشام قال : كان يبلغُني من مقامات الإسكندري ما يُصغِي له النَفُور ، ويَنتفضُ له العصفور ، ويُرْوَى لي من شِعْرِه ما يَمْتزج بِأَجْزاء الهواء رِقَّة ، ويَغْمُضُ عن أوهام الكَهَنَةِ دِقة ، وأنا أسألُ الله بقاءه ، حتى أرْزَق لقاءَه ، وأتعجب من قعودِ هِمَّته بحالتهِ ، مع حُسْنِ آلتهِ ، وقد ضربَ الدهر شؤونه أسداداً وهلم جراً . إلى أنِ اتفقَتْ ليحاجةٌ بحِمْصَ ، فشحَذتُ إليها الحِرْصَ ، في صُحْبَة أفرادٍ كنجوم اللَيل ، أَحْلاَس لظهورِ الخيلِ ، فأخذنا الطريق نَنْتهبُ مسافتَه ، ونستأصِلُ شَأْفَته ، ولم نزلْ نَفْرِي أسْنِمَةَ النِّجَادِ بتلك الجِيَادِ ، حتَّى صِرْن كالعِصِيِّ ، ورَجَعْن كالقسِي ، وتَاحَ لنا وادٍ في سفْح جبل ، ذي ألاَءٍ وآثلٍ ، كالعذَارى يُسَرِّحْن الضفائرَ ، وينْشُرْن الغدائر ، فقالتِ الهاجرةُ بنا إليها ، فنزلنا نُغوِّر ونَغُور ، ورَبطْنا الأفراسَ بالأَمْراس ، ومِلْنا مع النُّعاس ، فما راعَنا إلا صهيلُ الخيول ، ونظرت إلى فَرَسي وقد أرْهَفَ أُذنيه ، وطمَحَ بعينيه ، يجُذُّ قُوَى الْحَبل بمشافره ، ويخُدُّ خَدَّ الأرض بحوافره ، ثم اضطربت الخيلُ ، فأرسلت الأَبوال ، وقطَّعَتِ الحبال ، وصار كل منا إلى سلاحه ، فإذا الأسد في فَرْوة الموت ، قد طلع من غابه ، منتفخاً في إهابه ، كاشراً عن أنيابه ، بطَرْف قد ملئ صَلَفاً ، وأنف قد حشي أنفاً ، وصدر لا يبرحه القلب ، ولا يسكنه الرُعب ، فقلنا : خطْبٌ واللّه ملم ، وحادِث مهمٌ ، وتبادَرَنا إليه من سَرْعان الرُفقة فتى : الرمل :
أخضر الجِلْدة من بيْت العَرَب . . . يملأُ الدَلْوَ إلى عقد الكَرَبْ بقلبٍ ساقه قدر ، وسيفٍ كله أثرٌ ، فملكتْهُ سورة الأسد ، فخانته أرضُ قدمه ، حتى سقط ليده وفمه ، وتجاوز الأسد مَصْرَعه ، إلى مَن كان معه ، ودَعا الحينُ أخاه ، إلى مثل . ما دعاه ، فسار إليه ، وعقل الرُّعب يديه ، فأخذ أرضه وافترس الليثُ صدره ، ولكن شغلتُ بعمامتي فمه ، حتى حقنتُ دمه ، وقام الفتى فوَجأَ بطنه حتى هلك من خوفه ، والأسد بالوجأة في جوفه ، ونهضنا على أثر الخيل ، فتألفنا منها ما ثبت ، وتركنا ما أَفلتَ ، وعدنا إلى الرفيق لنجهزَه : الطويل :
فلما حَثَوْنَا التربَ فوقَ رفيقنا . . . جَزعنا ولكن أيُّ ساعة مَجزع
وعدنا إلى الفلاة ، فهبطْنا أرضها ، وسرْنا حتى إذا ضمرت المزاد ، ونفدَ الزادُ ، أو كاد يدركه النفاد ، ولم نملك الذهاب ولا الرجوع ، وخفنا القاتلين الظمأ والجوعَ ، عنَّ لنا فارسٌ فصَمَدْنا صَمْده ، وقصدنا قصده ، ولما بلغنا نزلَ عن حاذ فرسه ينقُشُ الأرضَ بشفتيه ، ويلقي الترابَ بيديه ، وعمدني من بين الجماعة ، فقبل ركابي ، وتحزَم بثيابي ، ونظرتُ فإذا وَجه يبرق برق العارض المتهلّل ، وفرس متى ما ترقُّ العينُ فيه تسهل ،وعارضٌ قد اخضرَ ، وشاربٌ قد طرّا ، وساعدٌ ملآن ، وقضيب رَيان ، ونجار تركيّ ، وزي ملكي ، فقلت : ما جاء بك ؟ لا أبالك فقال : أنا عبد بعض الملوك ، همَّ من قتلي بهم ، فهمت على وجهي إلى حيث تراني ، وشهدت شواهدُ حاله ، على صدق مقاله ، ثم قال : أنا اليوم عبدُك ، ومالي مالك ، فقلت : بشرى لك وبك ، أدَّاك سيرُك إلى فناءٍ رَحْب ، وعيش رَطْب ، وهنأتني الجماعة ، بحسب الاستطاعة ، وجعل ينظرُ فتقتلنا ألحاظه ، وينطقُ فتفتننا ألفاظه ، والنفس تناجيني فيه بالمحظور ، والشيطان من وراء الغرور ، فقال : يا سادة ، إنَّ في سفح هذا الْجبل عيناً ، وقد ركبتم فلاة عَوْراء ، فخذوا من هنالك الماء ، فلوينا الأعنة ، إلى حيث أشار ، وبلغناه وقد صهرت الهاجرة الأبدان ، وركبت الجنادبُ العيدان ، فقال : ألا تقيلون في هذا الظل الرَحب ، على هذا الماء العذب ؟ فقلنا : أنت وذاك ، فنزل عن فَرَسه ، ونحى منطقته ، وحلَّ قُرْطَقَته ، فما استتر عنّا إلا بغلالةٍ تنمُ ، على بدنِهِ ، فما شكَكْنا أنّه خاصم الوِلدَان ، ففارقَ الجنَان ، وهرَب من رضْوَان ، وعمد إلى السروج فحطَّها ، وإلى الأفراسِ فحشَّهَا ، وإلى الأمكنة ففرشها ، وقد حارتِ البصائر فيه ، ووقعت الأبصارُ عليه ، ووَتد كلّ منا شبقاً ، وخنث اللفظ ملَقاً . وقلت : يا فتى ، ما أَلطفَك في الخِدْمَة وأحسنَك في الجملة فالويلُ لمن فارَقْتَه ، وطُوبى لمن رافَقْتَه ، فكيفَ نشْكُر الله على النعمةِ بك ؟ فقال : ما ستَرَوْنه أكْثر ، أتُعْجِبكم خِفِّتي في الخِدْمة ، فكيف لو رأيتمُوني في الرُّفْقة ؟ أُرِيكم من حِذْقي طُرَفاً ، لئزدادُوا بي شَغَفاً ؟ فقلنا : هاتِ ، فعمد إلى قَوْس أحدِنا فأَوْتَرَه ؛ وفوَّق سَهْماً فرماه في السماء ، وأتْبَعه بآخر فشقه في الهواء ، وقال : سأريكم نوعاً آخر ، ثم عمد إلى كنانتي فأخذها ، وإلى فرسي فعلاه ، ورمى أحدنا بسهم أثبته في صدرِه ، وآخر طيّره من ظهره ، فقلت : ويحك ما تصنعُ ؟ قال : اسكت يا لُكَع ، واللّه ليشدنَّ كل منكم يَدَ رفيقه ، أو لأغصَّنّه بريقهِ ، فلم نَدْر ما نصنعُ ، وأفراسنا مربوطة ، وسرُوجنا محطوطة ، وأسلِحَتُنا بعيدة ، وهو راكبٌ ونحن رَجَّالة ، والقوسُ في يده يرشقُ بها الظهورَ ، ويمشُق بها البطونَ والصدورَ ، وحين رأينا منهالجِدَّ ، أخَذْنا القدَّ ، فشدَّ بعضنا بعضاً ، وبقيت وَحْدي لا أجِدُ من يشدُّني ، فقال : اخرُجْ بإهابك ، عن ثيابك ، ثم نزل عن فرسه ، وجعل يصفعُ الواحِدَ منّا بعد الآخر ، ويقول : أقمت قضيبك ، فخذ نصيبك ، ونزع ثيابه ، وصار إليَّ وعليّ خُفّانِ جديدان فقال : اخلعهما لا أُمَّ لك ، فقلت : هذا خفٌّ لبسْتُه رَطباً ، فليس يمكنني خلعه فقال : عليّ نزعه ، ثم دنا لينزعَ الخُفّ ، ومدَدْتُ يَدِي إلى سكّين فيه وهو مشغول ، فأثْبَتُّه في بطنه ، وأبَنْتُه من مَتْنِه . فما زاد على فَم فَغَرَه ، وأَلْقَمَه حجَره ، وقُمْتُ إلى أصحابي فحَللْتُ أيدِيَهم ، وتوَزَّعْنا سلَب المقتوليْن ، وأدَرَكْنَا الرفيق ، وقد جاد بنفسه ، وصار إلى رَمْسِه ، وصِرْنَا إلى الطريق فوردْنا حِمْص بعد ليال ، فلما انتهينا إلى فُرْضَةٍ من سُوقِها رأينا رجلاً قد قام على رأس ابن وبُنَيّة ، بِجِراب وعُصَيَّة ، وهو يقول : مجزوء الخفيف : رَحِمَ الله مَنْ حَشَا . . . في جِرَابِي مَكارِمَهْ
رَحِمَ الله من رَثَى . . . لسعيد وفَاطِمَهْ
إنّهُ خادِمٌ لَكُمْ . . . وهْيَ لا شكَّ خَادِمَهْ
قال عيسَى بن هشام : فقلت : إنَ هذا الرجل هو الإسكَندري الذي سَمِعْتُ به وسأَلْتُ عنه فإذا هو هو ، فدَلًفْتُ إليه ، فقلت له : أحكمك حكمك ، فقال : درهم ، فقلت : مجزوء الكامل :
لَكَ دِرهمٌ في مِثْلِه . . . مَادامَ يُسْعِدُني النفَسْ
فاحْسِبْ حِسابكَ والتمسْ . . . كيما تنالَ الملتمَسْ
لك دِرهم في اثنين ، وفي ثلاثة ، وفي أَربعة ، في خَمْسة حتى بلغث العشرين ، ثم قلت : كم معك ؟ قال : عشرون رغيفاً ، فأمرْتُ له بها ، وقلت : لا نصرة مع الخِذْلان ، ولا حِيلَة مع الحِرْمَانِ .
وقال أبو فراس الحمداني : البسيط :
سكرتُ منْ لَحْظِه لا مِنْ مُدَامتِه . . . ومالَ بالنوم عن عيني تَمَايُلُهُوما السُّلافُ دَهَتْني بل سَوالِفهُ . . . ولا الشَّمولُ دَهَتْنِي بل شَمائِلُهُ
ألوَى بصبْرِيَ أَصْدَاغٌ لُوِينَ لهُ . . . وغَالَ عَقْلِي بما تَحْوِي غَلاَئِلُه
وقال ابنُ المعتزّ ، وقد تقدَم عنه في هذه الألفاظ : الوافر :
ويوم فاخِتيّ الدَّجنِ مُرْخٍ . . . عَزَالِيَهُ بهَطْل وانهمال
أبحْتُ سرورَه وظللت فيهِ . . . برَغْمِ العاذلات رَخِيَّ بَالِ
وساقِ يجعلُ المنديل منهُ . . . مكان حمائلِ السيفِ الطوالِ
غلالة خَدّه صبغَتْ بوَرْدٍ . . . ونون الصُّدْغ مُعْجَمة بخَالِ
بَدَا والصبحُ تحت الليل بادٍ . . . كطِرْفٍ أبلقٍ مرخي الجِلال
بكأس من زجاج فيه أسْدٌ . . . فرائسهنّ ألبابُ الرجالِ
أقولُ وقد أخذت الكاس منهُ . . . وَقَتْكَ السوءَ ربَّاتُ الحجالِ
وقد أَحسنَ ما شاء في قوله :
فرائسهن ألْبابُ الرجالِ
وإن كان أصل المعنى لأبي نواس في ذكر تصاوير الكاس .
قال الصولي : مَرَّ أبو نواس بالمدائن فعدل إلى سَاباط ، فقال بعضُ أصحابه : ندخل إيوان كسرى ، فرأينا آثاراً في مكانٍ حَسَنٍ تدلُّ على اجتماع كان لقومٍ قبلنا ، فأقمنا خمسةَ أيام نشربُ هناك ، وسألنا أبا نواس صِفَةَ الحالِ ، فقال : الطويل :
ودارِ نَدامَى عَطَّلُوها وأَدْلجُوا . . . بها أثرٌ منهمْ جَدِيدٌ ودارِسُ
مَساحِبُ من جَرِّ الرقاق على الثرَى . . . وأَضْغاثُ رَيْحانٍ جَنِيٌّ ويَابِسُ
ولم أرَ منهم غيرَ ما شهِدَتْ بهِ . . . بشرقيَّ سَابَاطَ الديارُ البَسَابسحبَسْتُ بها صَحْبي فجمَّعْتُ شَمْلَهم . . . وإني على ، أمثال تلك لحابسُ
أقَمْنَا بها يوماً ويوماً ثالثاً . . . ويومٌ له يوم الترحُّل خَامِسُ
تُدَارُ علينا الراحُ في عَسجديّةٍ . . . حَبَتْها بأنواع التصاويرِ فارسُ
قرارَتُها كِسْرَى وفي جَنَباتها . . . مَهًى تدَّريها بالقِسِيِّ الفوارسُ
فللرَّاحِ ما زُرَّتْ عليه جيوبُها . . . وللماءِ ما دارت عليه القَلانِسُ
وقال علي بن العباس النوبختي : قال لي البحتري : أتدري من أين أخذ الحسن قوله :
ولم أرَ منهم غير ما شَهِدَتْ به ؟
. . . البيتَ . فقلت : لا ، قال : من قول أبي خراش : الطويل :
ولم أَدْرِ مَنْ ألقَى عليه رِداءهُ . . . سوى أنه قد سُلَّ عن مَاجِدٍ مَحْضِ
فقلت : المعنى مختلف ، فقال : أما ترى حَذْوَ الكلامِ واحداً ، وإن اختلف المعنى ؟ قال الجاحظ : نظَرْنَا في الشعر القديم والمحْدَث فوجَدْنَا المعاني تُقْلَب ويؤخذ بعضُها من بعض ، غير قول عَنترة في الأوائل : الكامل :
وخلا الذبابُ بها يُغَنّي وحْدَه . . . غَرداً كفعْلِ الشارب المترنِّمِ
هَزِجاً يحُكُّ ذرَاعَه بذراعهِ . . . قَدْحَ المُكِبِّ على الزنادِ الأَجْذَمِ
وقول أبي نواس في المحدثين : الطويل :
قرارتُها كِسرى وفي جنَباتها . . . مَهًى تَدَّريها بالقِسيّ الفوارسُ فللِزَاح ما زُرَّتْ عليه جيوبُها . . . وللماء ما دارَتْ عليه القلانسُأخذه أبو العباس الناشئ فقال وولَد معنًى زائداً : الكامل :
ومُدَامَةٍ لا يبتغي مِنْ رَبِّهِ . . . أَحدٌ حَباه بها لَدَيهِ مزِيدا
في كأسها صوَر تُظنّ لحُسْنها . . . عُرُباً بَرَزنَ من الخيام وغِيدَا
وإذا المزاج أَثارها فتقسَّمت . . . ذهباً ودُرّاً تَوْأَماً وفريدا
فكأنهن لبسْنَ ذاك مَجَاسِدا . . . وجَعَلْنَ ذا لِنُحُورِهنّ عقُودا
وأبياتُ أبي خراش ، وكان خراش وعروة غَزَوا ثمالة فأسَروهُمَا ، وأخذوهما وهمّوا بقتلهما ، فنهاهم بنو رزام ، وأَبى بنو هلال إلا قَتْلَهما ، وأقبل رجل من بني رزام فألْقَى على حراش رداءَه ، وشُغِل القومُ بقَتْل عُرْوة ، وقال الرجل لخراش : انْجُهْ ، فنجا إلى أبيه ، فأَخبره الخبر ، ولا تعرفُ العرب رجلاً مدح مَنْ لا يعرفه غيرُهُ : الطويل :
حَمِدْتُ إلهي بعد عُرْوةَ إذ نَجا . . . خِرَاشٌ وبعض الشَرِّ أهونُ من بعضِ
فواللهِ لا أَنْسَى قتيلاً رُزِئْتُهُ . . . بجانب قَوْسَى ما مشيتُ على الأرض
بلى إنها تَعْفُو الكُلومُ ، وإنما . . . نُوكَّلُ بالأدنى وإنْ جَلَّ ما يَمضِي
ولم أَدْرِ مَنْ ألْقَى عليه رِدَاءهُ . . . سوى أنَّه قد سُلَّ عن ماجِدٍ مَحْضِ
ولم يك مثلوجَ الفؤاد مهبّجاً . . . أضاع الشبابَ في الرَّبيلةِ والخَفْضِ
ولكنه قد لوَّحَتْه مَخَامِص . . . على أنه ذو مِرّة صادِقُ النهضِ
كأنهمُ يشَّبّثون بطائر . . . خفيفِ المُشَاسِ عَظْمُهُ غيرُ ذي نَحْضِيُبادِر فَوْتَ الليلِ فهو مُهَابدٌ . . . يَحُث الجناحَ بالتبسّطِ والقَبْضِ
الربيلة : الخَفض والدعة ، والمعابد : المجتهد في العَدْو والطيران .
وقال أبو خراش يرثي أخاه عروة : الطويل :
تقولُ أراه بعد غزوَةَ لاهياً . . . وذلك رُزءٌ لو علمْتِ جليلُ
فلا تحسَبي أني تناسيت عَهْدَهُ . . . ولكنَ صَبْرِي يا أميمَ جَمِيلُ
ألم تَعْلمي أنْ قد تَفَرَّقَ قبْلَنا . . . خليلاَ صفاءٍ مالكٌ وعَقِيلُ
وأنِّي إذا ما الصبحُ أنسِيتُ ضوءَه . . . يعاوِدُني قِطْعٌ عليَّ ثقيلُ
أبى الصبرَ أني لا أزالُ يهيجني . . . مبيتٌ لنا فيما مَضَى ومَقِيلُ
مالك وعقيل اللذان ذكرهما ، نَدِيما جذيمة الأبرش ، وكانا أتياه بابنِ أخته عمرو ، وكان قد استهوَتْه الجِنّ ، فمنّاهما فتمنّيا مُنادمتَه ، وهما اللذان عني متمِّم ابن نُوَيْرَةَ في مرثية أخيه مالك : الطويل :
وكنا كنَدْمَانَيْ جَذِيمةَ حِقْبَةً . . . من الدهرِ حتى قيل لن يَتَصَدَّعا
فلمّا تفرّقْنا كأني ومالكاً . . . لطولِ اجتماع لم نَبِتْ ليلَةً معا
وقول عنترة في وَصْفِ الذباب أَوْحَد فرد ، ويتيم فَذّ ، وقد تعلق ابن الرومي بذيله وزاد معنًى آخر في قوله : الطويل :
إذا رنقتْ شمسُ الأصيلِ ونفَضَتْ . . . على الأفق الغربيّ وَرْساً مُزعْزَعا
ولاحظتِ النُوارَ وهي مريضةٌ . . . قد وضعَتْ خَدّاً على الأرض أضرَعا
كما لاحظت عُوَّادَها عَيْنُ مُدْنَفٍ . . . توجَّع من أوصابِه ما توجعَا
وبين إغضاء الفِرَاق عليهما . . . كأنهما خِلاَّ صَفاء تودّعا
وقد ضربَتْ في خُضْرَةِ الرَّوضِ صُفْرةٌ . . . من الشمس فاخضرّ اخضِرَاراً مشَعشعا
وظلَّت عيونُ النورِ تخضَلُّ بالندى . . . كما اغرورقَتْ عَيْنُ الشَجِيِّ لتَدْمَعَا
وأذْكى نسيم الرّوْضِ ريعانُ ظلِّه . . . وغَنّى مُغَنَي الطيرِ فيه مُرَجِّعَا
وغَرَّد ربعي الذبابِ خلالَهُ . . . كما حَثْحَتَ النشْوَان صَنْجاً مشرَّعا
فكانت أرانين الذباب هناكمُ . . . على شدَواتِ الطيرِ ضَرْباً موقعاوذكر أبو نواس معنَى قوله في تصاوير الكؤوس في مواضع من شعره فمن ذلك : الطويل :
بَنَيْنَا على كِسْرَى سماءَ مُدَامَةٍ . . . مكلّلةً حافاتُها بنجُومِ
فَلَوْ رُدَّ في كِسْرَى بن ساسانَ رُوحُهُ . . . إذاً لاصطَفاني دونَ كلِّ نَدِيم
وأول هذا الشعر : الطويل :
لِمَنْ دِمَنٌ تَزْدادُ طِيبَ نسيمِ . . . على طولِ ما أقْوَت وحُسن رسُومِ
تجافَى البِلَى عنهنَّ حتى كأنما . . . لبِسْنَ على الإقْوَاءِ ثوبَ نَعيمِ
وهذا معنًى مليح وإن أخذه من قول أعرابي : المنسرح :
شطّتْ بهمْ عنك نيَّةٌ قُذُفٌ . . . غادرت الشعْبَ غيرَ مُلْتَئِمِ
واستودَعَت سِرَّهَا الديارَ فما . . . تزدادُ طِيباً إلا على القِدَمِ
وهذا ضدّ قول محمد بن وهيب : الكامل :
طَلَلاَنِ طالَ عليهما الأمدُ . . . دَرَسَا فلا عَلَمٌ ولا قَصَدُ
لَبِسَا البِلَى فكأنما وَجَدَا . . . بعد الأحِبَّة مثلَ ما وَجَدُوا
وقال الأخطل : الطويل :
لأسماءَ مُحتَلّ بناظرةِ البِشْرِ . . . قَدِيمٌ ولمَّا يَعْفُهُ سالفُ الدَّهْرِ
يكادُ من العِرْفَان يَضْحك رَسْمُهُ . . . وكم من ليالٍ للديار ومن شَهْرِ
هذا أيضاً كقول أبي صخر الهذلي : الطويل :
للَيْلَى بذاتِ الْجَيْش دارٌ عرَفتُها . . . وأخرى بذاتِ البَيْنِ آياتُها سَطْرُ
كأنهما مِ الآنَ لم يتغَيّرا . . . وقد مرَّ للدارينِ من بَعْدِنا عَصْرُ
وقد قال مُزَاحم القيلي : الطويل :
تراها على طولِ الْقَوَاء جَدِيدةً . . . وعَهْدُ المغانِي بالحلولِ قدِيمُ

==========

========

ج6. كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

وقرأ الزبير بن بكار أخبار أبي السائب المخزومي ، فلما بلغ إلى قول مالك بن أسماء الفزاري : الكامل :
بَكَتِ الديارُ لفَقْدِ ساكنها . . . أفعِند قلبِي أَبْتَغِي الضَبْرَا ؟
هذا البيت نظير قول ابن وهيب : الكامل :
بينا هُمُ سكن بحيرَتِهِمْ . . . ذكروا الفراقَ فأصبحوا سَفْرا
فظللت ذا ولَه يعاتِبُني . . . مَنْ لا يرَى أَمْرِي له أَمْرَا
وإن أبا السائب قال عند سماع البيت الأوسط : ما أسرع هذا أما اقدّمَوْا ركاباً ؟ أما ودَّعُوا صديقَاَ ؟ فقال الزبير : رحم الله أبا السائب فكيف لو سمع قولَ العباس بن الأحنف : الخفيف :
سأَلونا عن حالِنا كيف أَنتُمْ . . . فَقَرنَّا ودَاعَنا بالسؤَالِ
ما أَنخْنا حتى ارتحلنَا فما فرّقْنَ بين النزول والإِرتجال ؟
هكذا رواه الزبير بن بكار لمالك بن أسماء ، ورواها غيره لأيوب بن شبيب الباهلي .
ومن ألفاظ أهل العصر في صفة الديار الخالية
دارٌ لبِسَت البِلى ، وتعطلت من الحُلى . دار قد صارت من أهلها خالية ، بعد ما كانَتْ بهم حَالية . دار قد أنفَد البين سكانَها ، وأقعد حيطانها ، شاهد اليأس منها ينطِقُ ، وحَبْلُ الرجاءِ فيها يقصر كأنّ غفرانها يُطوئ وخرابَها يُنْشر ، أركانُها قيام وقعود ، وحيطانها ركَّعٌ وهُجود .
يشبه الأول من قول مالك بن أسماء قول مزاحم العقيلي : الطويل :
بكَتْ دارُهُمْ مِن فَقْدِهم فتهلَلَتْ . . . دموعي ، فأَيَّ الجازِعَيْنِ ألومُ ؟
أَمستعبر يَبْكي على الهون والبِلَى . . . أمَ آخرُ يَبْكي شَجْوَه فيَهِيمُ
أبو الطيب المتنبي : الكامل :
لَكِ يا منازِلُ في القلوبِ منازِلُ . . . أَقْفَرْتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أَوَاهِلُ
يَعْلَمْنَ ذاك ، وما علمْتِ ، وإنما . . . أَولاَ كُما يبكي عليه العاقِلُوقال علي بن جَبَلة ، في معنى قول العباس بن الأحنف : الرمل :
زائرٌ نَمَّ عليه حسنُهُ . . . كيف يُخْفِي الليلُ بَدْراً طلَعا
بأبي مَنْ زَارَني مكتتماً . . . خائفاً مِنْ كل أَمرٍ جَزِعا
رَصَد الغَفْلَة حتى أَمْكنَتْ . . . ورَعى الحارِسَ حتى هَجَعا
رَكِبَ الأهوال في زَوْرَته . . . ثمّ ما سلم حتى ودَّعَا
وقال الحسين بن الضحاك : الرمل : بأَبي زَورٌ تَلَفَّتُّ له . . . فتنفّستُ عليه الصُّعَدا
بينما أضحكُ مسروراً به . . . إذا تقطعتُ عليه كمدَا
أبو الطيب المتنبي : الخفيف :
بأبي مَنْ وَدِدْتُه فافترَقْنا . . . وقضَى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترَقْنَا حَوْلاً ، فلما اجتمَعْنا . . . كان تسليمُه عليَّ الوداعا
وقال أبو الحسن جحظة : قال لي خالد الكاتب : دخلتُ يوماً بعض الدِّيارات فإذا أنا بشابٍّ موثَق في صِفَاد حسن الوجه ؛ فسلمتُ عليه ، فردّ عليَّ ، وقال : مَنْ أنت ؟ قلت : خالد بن يزيد ، فقال : صاحب المقطعات الرقيقة . قلت : نعم فقال : إن رأيت أن تفرِّجَ عني ببعض ما تنشدني من شعرك فافْعَل ، فأنشدته : المتقارب :
ترشَفْت من شَفَتَيْها عقاراً . . . وقبَّلتُ من خَدِّها جُلنارا
وعانَقْتُ منها كثيباً مَهِيلاً . . . وغُصْناً رَطِيباً وبَدْراً أَنارا
وأَبصرْت من نُورها في الظلام . . . لكل مكانٍ بليلٍ نهارا
فقال : أحسنت لا يفضُضِ الله فاك ، ثم قال : أجِزْ لي هذين البيتين : الخفيف :
رُبَّ ليلٍ أمدَّ من نَفَسِ الْعَا . . . شِق طُولاً قطَعْتُه بانتحابِ
وحديثٍ ألذّ من نَظَرِ الوا . . . مق بدَّلْتُه بسُوءِ العتابِ
فوالله لقد أَعملت فكري فما قدرت أن أجيزهما . ويمكن أن يجازا بهذا البيت : الخفيف :
ووصال أقل مِنْ لَمْحة الْبَا . . . رِق عُوضْتُ عنهُ طولَ اجتنابِأوصاف في طول الليل والسهر
وقال ابنُ الرومي في طول الليل : الخفيف :
رُبَّ ليل كأنه الدهرُ طولاً . . . قد تناهَى فليسر فيه مَزِيدُ
في نجومٍ كأنهنّ نجوم الشَّيْبِ ليستْ تغيبُ لكن تَزِيدُ
وهذا من أجود ما جاء في هذا المعنى ، وقد قال بشار : الطويل :
لخدَّيْكَ مِن كفَيْك في كلّ ليلةٍ . . . إلى أن ترى وَجْهَ الصباح وِسادُ
تبيتُ تُراعِي الليلَ ترجو نَفادهُ . . . وليس لليل العاشقين نَفادُ
وقال : الطويل :
خليليّ ما بالُ الدُّجَى لا تَزَحْزَحُ . . . وما بالُ ضوءِ الصبح لا يتوضَّحُ ؟
أضلَّ النهارُ المستنيرُ سبيلهُ . . . أم الدهرُ ليل كلّه ليس يَبرَح ؟
كأن الدجَى زادَتْ وما زادت الدجَى . . . ولكِنْ أطالَ الليلَ همٌ مُبَرِّحُ
وقال أيضاً : الرمل :
طال هذا الليلُ ، بل طال السهَرْ . . . ولقد أعرفُ لَيْلِي بالقِصَرْ
لم يطُلْ حتى جَفاني شَادِنٌ . . . نَاعِمُ الأطراف فتانُ النظَرْ
ليَ في ليليَ منه لوعةٌ . . . مَلَكَتْ قلبي وسَمْعِي والبصَرْ
فكأن الهمّ شَخصٌ ماثلٌ . . . كلما أبصره النّومُ نَفَرْ
وقال أيضاً : الوافر :
كأنَّ فؤادَه كُرَةٌ تَنَزَّى . . . حِذارَ البَيْن إن نفع الحِذارُ
يُرَوِّعُه السِّرارُ بكل شيءٍ . . . مخافةَ أن يكونَ به السِّرارُكأن جفونه سُمِلَتْ بشوكٍ . . . فليس لنومه فيها قَرارُ
أقول وليلتي تزدادُ طُولاً : . . . أما لِلّيل بَعْدَهُمُ نهارُ
جَفَتْ عيني عن التغميض حتى . . . كأنَّ جفونَها فيها قِصارُ
قيل لبشار : من أين سرقت قولك :
يروِّعُه السرارُ بكلِّ شيء ؟
فقال : من قول أشعب الطمع ، وقد قيل له : ما بلغ من طَمَعِك ؟ قال : ما رأيتُ اثنين يتسَارّان إلا ظننتهما يُرِيدان أن يأمرا لي بشيء . وأخذه أبو نواس فقال : الخفيف :
لا تبيحنّ حُرمه الكتمانِ . . . رَاحةُ المستهامِ في الإعلانِ
قد تستَّرْتُ بالسكوتِ وبالإط . . . راق جَهْدي فنمَّتِ العينانِ
تركَتْني الوُشَاة نُصْبَ المشيري . . . ن وأُحدوثةً بكلِّ مكانِ
ما نرى خاليَيْنِ في الناسِ إلا . . . قُلتُ ما يَخْلِوانِ إلاَّ لِشَاني
ومثل قول بشار :
جفَتْ عَيْني عن التغميض .
. . . البيتَ ، وقول الآخر : المتقارب :
كأنَّ المحبَّ بطول السُّهادِ . . . قصيرُ الجفونِ ولم تَقْصُرِ وقد تناول هذا المعنى العتابي فأفسده وقال : البسيط :
وَفِي المآقِي انقباضٌ عن جفونهما . . . وفي الجفونِ عن الآماقِ تَقْصِيرُ
وقال المتنبي : الطويل :
أعِيدوا صَباحي فَهْوَ عند الكواكبِ . . . ورُدُّوا رُقادي فَهْوَ لَحْظُ الحبائب
كأنَّ نهارِي ليلةٌ مُدْلَهِمَّةٌ . . . على مُقْلةٍ من فَقْدِكم في غَياهبِ
بعيدةُ ما بَيْنَ الجفونِ كأنما . . . عَقَدْتُمْ أعالي كل هُدْبٍ بحاجبوقال الشعبي : تشاجر الوليدُ بن عبد الملك ومسلمة أخوه في شعر امرئ القيس والنابغة في طول الليل ، أيهما أشعر . فقال الوليد : النابغة أشعر ، وقال مسلمة : بل امرؤ القيس ، فرضيا بالشعبي ، فأحضراه ، فأنشده الوليد : الطويل :
كِليني لهمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ . . . وليل أُقاسيه بطيء الكواكبِ
تطاول حتى قلتُ ليس بمنْقَضٍ . . . وليس الذي يَرْعَى النجومَ بآيبِ
وصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازبَ هَمّهِ . . . تضاعفَ فيه الحزنُ من كل جانبِ
وأنشده مسلمة قول امرئ القيس : الطويل :
وليلٍ كموج البَحْرِ أرْخَى سُدُولَهُ . . . عليّ بأنواع الهموم ليَبتَلي
فقلتُ له لمَّا تمطَّى بجَوْزه . . . وأردفَ أعْجازاً وناءَ بكَلكَلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي . . . بصُبح ، وما الإصباحُ منك بأمْثَلِ
فيا لك من ليلٍ كأنّ نجومَهُ . . . بكل مُغار الفتْل شُدّت بيَذْبُلِ
فطرب الوليد طرباً ، فقال الشعبي : بانت القضية .
معنى قول النابغة :
وصدر أراح الليل عازب همّه
أنه جعل صَدْرَه مأوى للهموم ، وجعل الهموم كالنَّعَم السارحة الغادية ، تسرحُ نهاراً ثم تَأْتي إلى مكانها ليلاً . وهو أول من استثار هذا المعنى ، ووصف أن الهمومَ مترادفةٌ بالليل لتقييد الألحاظ عمّا هي مطلقة فيه بالنهار ، واشتغالها بتصرُّف اللحظ عن استعمال الفكر ، وامرؤ القيس كره أن يقول : إن الهمَّ يخفُّ عليه في وقت من الأوقات فقال : وما الإصباح منك بأمثل .
وقال الطرماح بن حكيم الطائي : الطويل :
ألا أيها الليل الذي طال أصْبِحِ . . . بيوم ، وما الإصباح فيك بأرْوَحِعلى أن للعينين في الصُّبْح رَاحةً . . . لطرحهما طَرْفَيْهما كلّ مَطرَحِ
فنقل لفظ امرئ القيس ومعناه ، وزاد فيه زيادةً اغتفر له معها فحْش السرقَةِ وإنما تنبّه عليه من قول النابغة ، إلا أنّ النابغة لوّح ، وهذا صرّح .
وقال ابن بَسَّام : السريع :
لا أظلمُ الليلَ ولا أدّعِي . . . أنَ نجومَ الليلِ ليسَتْ تَغُورْ
ليْلِي كما شاءَتْ ، فإنْ لم تَزُرْ . . . طالَ ، وإن زارتْ فلَيْلي قصيرْ
وإنما أغار ابنُ بسام على قولِ علي بن الخليل فلم يغير إلا القافية : السريع :
لا أظلمُ الليلَ ولا أَدعي . . . أنَ نجومَ الليل ليست تَزولْ
ليلي كما شاءت ، قصيرٌ إذا . . . جادَتْ ، وإن ضنّت فلَيْلي طَوِيلْ
وهذه السرقةُ كما قال البديعُ في التنبيه على أبي بكر الخوارزمي في بيت أخذ روته وبعض لفظه : وإن كانت قضية القَطْعِ تجب في الربع ، فما أشدّ شفقتي على جوارِحه أجمع ولعمري إن هذه ليستْ سرقة ، وإنما هي مكابرة محضة ، وأحسب أن قائله لو سمع هذا لقال : هذه بضاعَتُنا رُدَّت إلينا ، فحسبت أن ربيعة بن مكدم وعُتيبة بن الحارث بن شهاب كانا لا يستحلاَّن من البيت ما استحلّه ، فإنهما كانا يأخذان جُلَّهُ ، وهذا الفاضل قد أخذ كلّه ، وقد أخذ علي بن الخليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان : البسيط :
لا أَسألُ الله تغييراً لما صنَعتْ . . . نامَتْ وإن أسهرَتْ عينيَّ عيناها
فالليلُ أطول شيء حين أفقدُها . . . والليلُ أقصرُ شيءٍ حين ألقاها
وابن بسام في هذا الشعر كما قال الشاعر : الكامل :
وفتى يقول الشعر إلا أنهُ . . . في كل حالٍ يَسْرِقُ المسروقا
ألفاظ لأهل العصر في طول الليل والسهر وما يعرض فيه من الهموم والفكر
ليلة من غُصَص الصَّدْرِ ، ونِقَم الدهْرِ . ليلةُ همومٍ وغموم ، كما شاء الحسود ، وساءَالوَدود . ليلة قصّ جناحُها ، وضَلَّ صباحُها . ليل ثابتُ الأطناب ، طامي الغوارب ، طَامح الأمواج ، وافي الذّوائب . ليال ليست لها أسْحَار ، وظلمات لا تتخلّلها أنوار . بات بليلة نابغية ، يُراد قوله : الطويل :
فبت كأني ساوَرتْنِي ضئيلة . . . من الرُّقْش في أَنيابها السُّمُّ نَاقِعُ
يُسَهَدُ من ليلِ التمامِ سليمُها . . . لِحَلْيِ النساءِ في يديه قعاقعُ
بات في الصيف بليلة شتوية . سامَرَتْه الهموم ، وعانَقَتْه الغموم ، واكتحَلَ السهاد ، وافترش القَتَاد ، فاكتحل بمُلْمُول السهر ، وتململ على فراش الفكر . قد أقِضَ مِهاده ، وقَلِقَ وسادُه . هموم تفرِّقُ بين الجَنْبِ والمهاد ، وتجْمَعُ بين العين والسُّهاد . طَرْف برَعْيِ النجوم مطروف ، وفراش بشعار الهمَ محفوت . كأنه على النجوم رقيب ، وللظلام نَقِيب .
ولهم فيما يتصل بضدّ ذلك من ذكر إقبال الليل وانتشار الظلمة ، وطلوع الكواكب : أقبَلتْ عساكِرُ الليل ، وخفقَتْ راياتُ الظلام . وقد أرخى الليلُ علينا سُدولَه ، وسحب الظلام فينا ذيوله . توقَّد الشفقُ في ثوب الغَسَقِ . أقبلت وفودُ النجوم وجاءت مواكب الكواكب . تفتّحت أزاهير النجوم ، وتورّدت حدائقُ الجوّ ، وأذْكَى الفلَك مصابيحه . قد طفت النجومُ في بَحْرِ الدُّجَى ، ولبس الظلامُ جلباباً من القار . ليلة كغراب الشباب . وحَدَقِ الحِسَان ، وذوائب العذَارى . ليلة كأنها في لباسِ بني العباس ، ليلة كأنها في لباس الثكالى ، وكأنها من الغَبَش في مواكب الْحَبَش . ليلة قد حلك إهابها ، فكأن البحر يهابُها .
ولهم في ذكر النوم والنعاس : شرِبَ كأسَ النعاس ، وانتشى من خَمر الكَرى ، قد عَسْكر النُعَاسُ بطَرْفه ، وخيّم بين عينيه . غرق في لُجةِ الكَرى ، وتمايل في سَكْرَة النوم . قد كحل الليلُ الورَى بالرقاد ، وشامت الأعين أجفانها في الأغماد .
وفي انتصاف الليل وتناهيه ، وانتشار النور ، وأُفول النجوم : قد اكْتمَل الظلامُ . قد انتصفنا عمْرَ الليلِ ، واستغرقْنَا شبابَه . قد شاب رأسُ الليل ، كاد ينمُّ النسيمُ بالسَّحَر . قدانكشف غطاءُ الليلِ . انْهَتَك ستْرُ الدّجى ، وشَمِطَتْ ذَوَائِبُه ، وتقوَّسَ ظهرُه ، وتهدَّم عُمْره . قُوِّضت خيامُ الليل ، وخلع الأُفُق ثوبَ الدُّجى . أَعرض الظلامُ وتولى ، وتَدَلّى عنقود الثريّا . طرز قميصُ الليل بغرَّة الصبح ، وباح الصبح بسِرِّهِ . خلع الليلُ ثيابَه ، وحَدَر الصبحُ نِقَابَه . لاحت تباشيرُ الصبحِ ، وافترَّ الفَجْرُ عن نواجذه ، وضرب النورُ في الدُّجى بعموده . بَثَّ الصبح طَلائِعه . تبرقَعَ الليلُ بغُرَّةِ الصبح . أطار بَازِي الصبح غرابَ الليلِ ، وعزلت نوافج الليل بجاماتِ الكافور ، وانهزم جُنْدُ الظلام عن عَسْكَر النور . خلعْنَا خلعة الظّلامِ ، ولبسنا رداء الصباح ، وملأ الآذان بَرْقُ الصباح ، وسطع الضوءُ ، وطلع النور ، وأشرقت الدنيا ، وأضاءت الآفاق . مالت الجَوْزاءُ للغروب ، وولّت مواكبُ الكواكب ، وتناثرت عقودُ النجوم ، وفَرّت أَسرابُ النجوم من حدَقِ الأنام ، وَوَهى نِطاقُ الجوزاء ، وانطفأ قنديلُ الثريّا . قال بعضُ الأعراب : خرجنا في ليلة حِنْدِس قد ألقَتْ على الأرض اكارِعَها ، فمحَتْ صورة الأبدان ، فما كنّا نتعارف إلا بالآذان .
قال ابن محكان السعدي : الطويل :
وليل يقول الناسُ في ظلماتِه . . . سواءٌ صحِيحات العيون وعُورُها
كأنّ لنا منه بيوتا ًحصينةً . . . مُسوحاً أعاليها وساجاً ستورها
وهذا بارع جدّاً ، أراد أَنَ أعلاه أشدُّ ظلاماً من جوانبه .
وقال أعرابي في صفته : خرجتُ حين انحدرَت النجومُ ، وشالَتْ أرْجُلُها ، فما زِلْتُ أصْدَع الليلَ حتى انصدعَ الفجر .
ومن بديع الشعر في صفةِ الليل قول الأعرابي : الكامل :
والليلُ يَطْردُه النهارُ ولا ترى . . . كالليلِ يطردُهُ النهارُ طَريدا
فتراه مثلَ البيتِ مَالَ رِوَاقُهُ . . . هتك المقوّضُ سِتْرَهُ الممدودَا
ومن البديع : الطويل :
على حينَ أثنى القومُ خيراً عَلَى السُّرَى . . . وطارَتْ بأُخرى الليلِ أَجنِحَةُ الفَجْرِ
آخر : الوافر :
وليل ذي غَيَاطِلَ مُدْلَهِمٍّ . . . رميتُ بنَجْمِه عرضَ الأُفولِيردُّ الطرف منقبضاً كَلِيلاً . . . ويملأُ هَوْلُه صَدْرَ الدَّلِيلِ
ابن المعتز : الكامل :
هامَت ركائِبنا إليك بنا . . . بظليل أهْلِ النارِ والمنحِ
فكأنّ أيديهنّ دائبةً . . . يفحَصْنَ ليلتهنَّ عن صُبْحِ
وقاد كشاجم : المنسرح :
سَقْياً لليلٍ قصرْتُ مُدَّتهُ . . . بِدير مُرَّانَ مَرّ مشكورا
وبات بَدر الدجى يشعشعها . . . نُوريّةَ تملأ الدُّجَى نُورَا
غارَت على نفسها وقد سَفرت . . . فعاد جيبُ الحباب مزرُورَا
حتى رأيت الظلامَ يدرجُه ال . . . غرب ودَرجَ الصباحِ منشُورا
فاختلط الليل والنهارُ كما . . . تخلط كفٌّ مسكاً وكافورا
وقال علي بن محمد الكوفي : الطويل :
مَتَى أَرتَجي يوماً شِفَاءً من الضَّنا . . . إذا كان جَانِيهِ عليَ طبيبي
ولي عائِداتٌ ضِفتهُنّ فجِئْنَ في . . . لباسٍ سوادٍ في الظلام قَشِيبِ
نجومٌ أراعِي طولَ ليلي برُوجَها . . . وهنَّ لبُعْدِ السير ذاتُ لغُوب
خوافقُ في جُنحِ الظلام كأنها . . . قلوبٌ معنَّاةٌ بطولِ وَجِيبِ
تَرَى حُوتَها في الشرقِ ذاتَ سِباحةٍ . . . وعَقْرَبها في الغربِ ذاتَ دَبيبِ
إذا ما هوَى الإكْليلُ منها حسِبْتَه . . . تهدُّلَ غُصْنٍ في الرياضِ رطيبِ
كأَنَّ التي حولَ المجرَّةِ أوردَتْ . . . لتَكرع في ماء هناك صَبيبِ
كأنّ رسولَ الصُّبحِ يخلطُ في الدُّجى . . . شجاعةَ مِقْدامٍ ِبجُبْنِ هَيُوبِ
كأنّ اخضِرَار البَحرِ صَرْحٌ ممرَّدٌ . . . وَفيه لآلٍ لم تُشنْ بثقُوبِ
كأنّ سوادَ الليلِ في ضوءِ صُبْحِه . . . سوادُ شبابٍ في بياض مَشِيبِ
كأنَّ نذيرَ الشمسِ يحكي ببشْرِه . . . عليّ بن دَاود أَخِي ونسيبيولولا اتِّقائي عَتْبَه قلت سيدي . . . ولكن يَرَاها من أَجل ذنوبي
جوادٌ بما تَحْوِي يَدَاهُ مهذّب . . . أَدِيبٌ غَدا خِلاًّ لكل أَدِيبِ
نسيب إخاءً وهو غيرُ مناسبٍ . . . قريبُ صفاءً وهو غيرُ قريبِ
ونِسبةُ ما بينَ الأقارِب وحشةٌ . . . إذا لم يؤنسها انتسابُ قلوبِ
وهذا البيت كقول الطائي : الطويل :
وقلتُ أخي قالوا أَخٌ من فرابةٍ . . . فقلت لهمْ إنّ الشكولَ أَقارِبُ
نسيبيَ في رأيي وعزمي ومذهبي . . . وإنْ باعَدَتْنَا في الأصول المناسبُ
وقال عبد السلام بن رغبان ، وسلك طريق الطائي فما ضلَّ عنها : الطويل :
أخ كنتُ أَبكِيه دماً وَهْوَ حاضرٌ . . . حِذاراً ، وتَعْمى مُقْلتِي وَهْوَ غائِبُ
بكاءَ أخ لم تَحْوِه بقرابة . . . بَلَى إن إخوانَ الصفاء أقاربُ
فمات فما شَوْقي إلى الأجْرِ واقف . . . ولا أَنا ني عُمْري إلى الله راغِبُ
وأَظلمتِ الدنيا التي أنتَ نورُها . . . كأنك للدنيا أَخ ومُناسِب
يُبرِّدُ نيرانَ المصائبِ أَنني . . . أرى زمناً لم تبق فيه مصائِبُ
وفي هذه القصيدة :
ترشَفْتُ أيامي وهُنَ كوالحٌ . . . إليك ، وغالَبْتُ الرَّدَى وهْو غالِبُ
ودافعتُ في كَيد الزمان ونَحْرِهِ . . . وأيُّ يدٍ لي والزمان المُحَاربُ ؟
وقلتُ له : خَلِّ ابنَ أُمِّي لعُصْبَةٍ . . . وها أنا أو فازْدَدْ فإنّا عَصَائِبُفواللهِ إخلاصاً من القولِ صادقاً . . . وإلاَّ فحُبِّي آلَ أحمدَ كاذِبُ
لَوَ أنَّ يَدِي كانَتْ شِفَاءك أو دَمِي . . . دَمَ القلبِ حتى يَقضِبَ الحبْلَ قاضِبُ
لسلّمتُ تَسْلِيمَ الرِّضَا واتخذتها . . . يداً للرَّدَى ما حَجَّ للَّهِ راكِبُ
فتًى كان مثلَ السيف من حيث جِئْتَهُ . . . لنائبةٍ نابَتْكَ فهو مُضَارِبُ فتى هَمُّه حَمْدٌ على الدهر رائح . . . وإن ناب عنه مَالُهُ وهْو عَازِبُ
شمائلُ إن تَشْهَدْ فهنَّ مَشاهدٌ . . . عِظامٌ ، وإن ترحل فهنَ رَكائِبُ
وقال الطائي لعليّ بن الجهم : الكامل :
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاء فإنَّنا . . . نَغْدُو ونَسْرِي في إخاءٍ تالدِ
أو يفترق نَسَبٌ يؤلِّفْ بيننا . . . أَدَبٌ أقمناهُ مُقامَ الوالدِ
أو يختلف ماءُ الوصال فماؤُنا . . . عَذْبٌ تحدَّرَ من غمامٍ وَاحِدِ
وقال محمدُ بن موسى بن حماد : سمعتُ عليّ بن الجهم ، وذكر دِعبلاً فلعنه ، وكفره ، وقال : وكان يطعَنُ على أبي تمام ، وهو خيرٌ منه ديناً وشعراً ، فقال رجلٌ : لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مَدْحِك له . فقال : إلاَّ يكن أخا نَسَب فهو أخو أدَب ، أما سمعتَ ما خاطبني به . وأنشد الأبيات .
وقال رجل لابن المقفع : إذا لم يكن أخي صديقي لم أحببه ، قال : نعم صدقت ، الأخ نسيبُ الجسم ، والصديق نسيب الروح .
وقال أبو تمام يخاطب محمد بن عبد الملك الزيات : الطويل :
أبا جعفَر ، إنَّ الجهالةَ أُمُّها . . . ولودٌ ، وأمُّ العلم جدّاءُ حَائِلُأرى الحشوَ والدهماءَ أضحوا كأنهم . . . شعوبٌ تلاقَتْ دوننا وقبائل
غدَوْا وكأنَّ الجهل يجمعهم أباً . . . وحظُ ذوي الآداب فيهم نَوَافِل
فكن هضبةً تأوِي إليها وحَرَّةً . . . يُعَرِّدُ عنها الأعوجيُّ المناقل
فإن الفتى في كلّ حال مناسبٌ . . . مُنَاسبَ روحانيةَ مَنْ يشاكلُ
وقال البحتري لأبي القاسم بن خرداذبه : البسيط :
إن كنتَ من فارسٍ في بيتِ سُؤْدَدها . . . وكنتَ من بحتري البيت والنسبِ
فلم يَضِرْنَا تَنَائي المَنْصِبَين وقَدْ . . . رُحنا نَسِيبين في علْمٍ وفي أدبِ
إذا تقاربت الآدابُ والتأمَتْ . . . دَنَتْ مسافة بين العُجْمِ والعَرَبِ
وقد احتَذى طريقَه أبو القاسم محمد بن هانئ ، فقال يمدحُ جعفر بن علي ، وذكر النجوم ، فقال الطويل :
جعَلْنَا حشايانا ثِيابَ مُدامِنا . . . وقدَّتْ لنا الظلماءُ من جِلْدِها لُحْفا
فمن كبدٍ تُدْني إلى كَبِدٍ هَوىً . . . ومن شفَةٍ تُوحي إلى شَفَةٍ رَشْفا
بعيشك نَبِّهْ كأسَه وجُفُونَهُ . . . فقد نُبِّهَ الإبريقُ من بَعْدِ ما أغفَى
وقد فكّت الظلماءُ بعضَ قيودِها . . . وقد قام جيشُ الليل للفجْرِ فاصطفّاوولّتْ نجومٌ للثُّريَّا كأنّها . . . خواتم تَبْدو في بَنَانِ يدٍ تَخْفَى
ومَرَّ على آثارِها دَبَرانُها . . . كصاحبِ رِدْءٍ أكمنتْ خيلُهُ خَلْفا
وأقبلتِ الشِّعرى العَبُورُ ملبّة . . . بِمِرْزَمِها اليَعْبوبِ تَجْنُبُهُ طِرْفا
وقد بادَرَتها أخْتُها من وَرائها . . . لِتَخرُقَ من ثِنْيَيْ مَجرَّتها سِجْفا
تخافُ زَئيرَ الليث يَقدُم نثرَةً . . . وبَرْبَرَ في الظلماءِ يَنسِفُها نَسْفَا
كأنَّ السماكَيْن اللَّذين تظاهَرا . . . على لِبْدَتَيْهِ ضامِنانِ له الْحَتْفَا
فذا رامحٌ يَهْوي إليه سِنَانُه . . . وذا أعزل قد عَضَّ أَنْمُلَهُ لَهْفا
كأنّ رقيبَ النجمِ أَجْدَلُ مَرْقَبٍ . . . يُقَلِّبُ تحتَ الليلِ في رِيشِه طَرْفا
كأنّ سُهيلاً في مَطالِع أفقهِ . . . مُفَارِقُ إلْف لم يَجِدْ بعده إلْفا
كأنَّ بني نَعْشٍ ونَعْشاً مَطَافِلٌ . . . بوَجْرَةَ قد أَضْلَلْنَ في مَهْمَهٍ خِشْفَا
كأنّ سُهاها عاشِقٌ بين عُوَّدٍ . . . فآوِتَةً يَبْدُو وآونةً يَخْفَى
كأنّ مُعَلَّى قُطْبها فارسٌ لهُ . . . لواءان مَرْكُوزانِ قد كَرِهَ الزَّحْفَا
كأنّ قدامى النَّسْر والنّسْرُ واقعٌ . . . قُصِصْنَ فلم تَسْمُ الخوافِي به ضَعْفَا كأن أَخاهُ حين دَوَّمَ طائراً . . . أتى دون نصف البَدْر فاختطف النّصْفَا
كأنَّ الهزيعَ الآبنُوسِيَّ مَوْهِناً . . . سَرَى بالنسيج الخُسْرُوانيّ مُلْتَفّا
كأنَ ظلامَ الليلِ إذْ مال مَيْلةً . . . صريعُ مُدامٍ باتَ يشرَبُها صِرْفاكأنَّ عمودَ الفجر خاقانُ عَسكَرٍ . . . من الترك نادَى بالنجاشيِّ فاسْتَخْفَى
كأن لِواءَ الشمسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ . . . رأى القِرْنَ فازدادَتْ طلاقته ضعْفَا
وقال ابن طباطبا العلوي : الطويل :
كأنّ اكتتامَ المشتري في سَحَابهِ . . . وديعةُ سرٍّ في ضَميرِ مُدِيعِ
كأنّ سُهَيْلاً والنجوم أمامَهُ . . . يعارِضُها راعٍ وراءَ قَطِيع
وقد لاحَتِ الشِّعرى العَبُور كأنها . . . تَقَلُّب طَرْفٍ بالدموعِ هموعِ
وأضجعت الجوزاء في أفْق غَرْبها . . . فباتَتْ كنَشْوانٍ هناك صَرِيعِ
إلى أن أجاب الليلُ دَاعِيَ صُبْحِه . . . وكان يُنَادي منه غيرَ سميعِ
وقال : الخفيف :
وكأنَ الهلالَ لمَّا تَبَدّى . . . شطر طوقِ المرآةِ ذي التذهيب
أو كقَوْسٍ قد انحنَتْ طَرَفَاه . . . أو كَنُونٍ في مُهْرَقٍ مكتوب
وقال علي بن محمد العلوي يصف القمرَ ، وقد طرح جرمه على دِجلة : الكامل :
لم أَنْسىَ دِجْلَةَ والدُّجَى مُتَصَرِّمٌ . . . والبَدْرُ في أفق السماءِ مغرّبُ
فكأنها فيه رداءٌ أزرقٌ . . . وكأنه فيها طرازٌ مُذْهَبُ
وقال الأمير تميم بن المعز ، وكان يحتذِي مثل ابن المعتز ، ويقف في التشبيهات بجانبه ، ويفرغ فيها على قالبه ، ويتبعه في سلوك ألفاظ الملوك : الخفيف :
اِسقِيانِي فلست أُصْغِي لعَذلٍ . . . ليس إلاَّ تَعِلَّةَ النفس شُغْلِي
أأطِيعُ العذولَ في تركِ ما أه . . . وى كأني اتَّهَمْتُ رَأْيِ وعَقلِي ؟
عَلِّلاني بها فقد أقبل اللي . . . لُ كَلَوْنِ الصدود من بعد وَصْلِ
وانْجَلَى الغَيْمُ بعد ما أضحكَ الرَّوْ . . . ضَ بكاءُ السَّحابِ جادَ بوَبْلِ
عن هلالٍ كصَوْلجانِ نُضَارٍ . . . في سماءٍ كأنّها جَامُ ذَبْلوقال : الخفيف :
رُبَّ صفراءَ عَلَّلَتْنِي بصفرا . . . ءَ وجُنْحُ الظَّلاَم مُرْخَى الإزَارِ
بين ماءٍ وروضةٍ وكُروم . . . ورَوَابٍ منيفةٍ وصحَارِي
تتثنّى به الغصونُ علينا . . . وتجيب القِيانُ فيها القَماري
وكأن الدُّجَى غَدَائرُ شَعْرٍ . . . وكأن النجومَ فيها مَدَارِي
وانْجَلَى الغيمُ عن هِلالٍ تبَدَّى . . . في يَدِ الأُفْقِ مثلَ نِصْفِ سِوَارِ
وقال : الخفيف :
عَتَبتْ فانثنى عليها العِتَابُ . . . ودَعا دَمْعَ مُقْلَتَيْها انسكَابُ
وضعت نحو خَدِّها بيديها . . . فالْتَقَى الياسمينُ والعُنّابُ
رُبَّ مُبْدِي تَعَتُّبٍ جعل العَتْ . . . بَ رِياءً وهَمُّه الإعْتَابُ
فاسْقِنيها مُدَامةً تَصْبُغ الْكأ . . . سَ كما يصبُغ الخدودَ الشبابُ
ما ترى الليلَ كيف رَق دُجَاهُ . . . وبَدَا طَيْلَسانُه يَنْجَابُ ؟
وكأن الصباحَ في الأُفْق بازٍ . . . والدُّجَى بين مِخْلَبيْهِ غُرابُ
وكأنَ السماءَ لُجَّةُ بَحْرٍ . . . وكأنَّ النجومَ فيها حَبَابُ
وكأن الجوزاءَ سَيْفٌ صَقيل . . . وكأن الدُّجَى عليها قِرَابُ
من وصف الشراب والكؤوس وَالسُّقاة في الليل
وقال : الطويل :
وزنْجِيَّة الآباءِ كَرْخِيَّة الْجَلْب . . . عَبِيْرِيَّةِ الأَنْفاسِ كَرْمِيَّة النَّسَبْ
كمَيْت بزَلْنَا دَنَّها فتفجَّرَتْ . . . بأَحْمَرَ قَانٍ مثلَ ما قَطَرَ الذَّهَبْفلمّا شرِبْنَاها صَبَوْنَا كأنَّنا . . . شرِبنَا السرورَ المَخْضَ واللهوَ والطَّرَبْ
ولم نأتِ شيئاً يُسْخِطُ المجدَ فِعْلُه . . . سوى أننا بِعْنَا الوقارَ من اللَّعِبْ
كَأن كؤوس الشَّرْبِ وهي دوائر . . . قطائعُ ماءٍ جامدٍ تَحْمِلُ اللَّهَبْ
يَمُدُّ بها كفاً خضيباً مُدِيرُهَا . . . وليس بشيء غيرها هو مختضِبْ
فبتْنَا نُسَقَّى الشمسَ والليلُ راكدٌ . . . ونَقْرُبُ من بَدْر السماء وما قربْ
وقد حجبَ الغيمُ الهلالَ كأنهُ . . . ستارة شَرْبٍ خَلْفها وَجْهُ من أُحِبّ
كأنِّ الثريَّا تحت حُلكة لوْنها . . . مداهنُ بِلَّوْرٍ على الأرض تَضْطَرِبْ
وقال : الطويل :
كأنَ السحابَ الغُرَّ أصْبحن أَكْؤساً . . . لنا ، وكأنَ الراحَ فيها سَنَا البَرْقِ
إلى أَنْ رأيتُ النجمَ وهْو مغرِّب . . . وأَقبل راياتُ الصباحِ من الشرق
كأن سوادَ الليلِ والصبحُ طالعٌ . . . بقايا مجال الكُحْلِ في الأعْيُنِ الزرْقِ
وقال : الطويل :
وكَأسٍ يُعِيدُ العُسْر يُسراً ، ويجتني . . . ثمارَ الغِنى للشَّرْبِ من شجر الفَقْرِ
يُوَلِّدُ فيها المزْجُ دُرّاً منضَّداً . . . كما فتتَتْ فوق الثرى نُقَطُ القَطْرِ
صغار وكبرى في الكؤوس كأنها . . . على الرّاح واواتٌ تجمّعن في سَطرِ
إذا حثَّهَا الساقِي الأغرّ حسبْتَها . . . نجومَ الثريا لُحْنَ في راحَةِ البَدْرِ
صبحتُ بها صَحْبي وقد رنْدَجَ الدُّجَى . . . بفضّة لألاء الصباحِ سَنَا الفَجْرِ
وقد أَزْهَرَت بِيضُ النجومِ كَأنّها . . . على الأُفُقِ الأعْلى قلائدُ من دُرِّوقال : الطويل :
ألاَ فاسقياني قَهوَةً ذهبيةً . . . فقد ألبسَ الآفاقَ جُنْحُ الدجى دَعَجْ
كأنَّ الثريّا والظلامُ يَحُفُها . . . فصوصُ لجَيْنٍ قد أحاط بِهَا سَبَجْ
كأنَّ نجومَ الليلِ تحتَ سوادِهِ . . . إذا جَن ، زنجيٌّ تَبَسَّمَ عن فلج
وقال : الطويل :
أيا دَيْر مَرْحَنّا ، سقَتْك رعودُ . . . من الغَيْمِ يهمي مُزْنها ويجودُ
فكم واصلتْنا في رُبَاك أَوَانِسُ . . . يَطُفْنَ علينا بالمُدَامَةِ غِيدُ
وكم ناب عن نُورِ الضحى فيك مَبْسِمٌ . . . ونابَتْ عن الوردِ الجنيِّ خُدُودُ
وماسَتْ على الكُثبانِ قضبانُ فِضَّة . . . فأَثْقَلها من حَمْلِهِنّ نُهودُ
وإذْ لِمَّتِي لم يوقِظِ الشيبُ ليلَها . . . وإذْ أَثَرِيَ في الغانياتِ حَمِيدُ
لياليَ أغدُو بين ثوبَيْ صبابةٍ . . . ولَهْوٍ ، وأيامُ الزمانِ هُجُودُ
وقال : البسيط :
سأَلْته قُبْلَةً منه على عَجَل . . . فاحمرَّ من خَجَل واصفَرَّ من وَجَلِ
وَاعْتَلَّ ما بينَ إسعافٍ يرقِّقُه . . . وبين مَنْعٍ تمادَى فيه بالعِلَل
وقال : وَجْهيَ بَدْرٌ لا خفاءَ بهِ . . . ومبْصِرُ البَدْرِ لا يَدْعُوهُ للقُبَلِ
وهذا ينظرُ إلى قوله : مجزوء الوافر :
أباحَ لمُقلتي السهرَا . . . وجار عليّ واقْتَدَرَا
غزالٌ لو جَرَى نَفَسي . . . عليه لذَابَ وانْفَطَرَا
ولَكِنْ عينُه حشَدَتْ . . . عَليَّ الغنْجَ والحوَرا
ومَنْ أَوْدَى به قمرٌ . . . فكيفَ يعاتبُ القمرَا ؟كأنه ذهب إلى قول أبي نُوَاس : مجزوء الوافر :
كأنَ ثيابه أَطْلَع . . . نْ أزراره قَمَرَا
يزيدك وَجْهُه حُسْناً . . . إذا ما زِدْتَه نظَرا
بعيْني خَالَطَ التفْتي . . . رُ مِنْ أجفانها الْحَوَرَا
ووَجْهٍ سابِريّ لو . . . تَصوَّب ماؤه قطَرا
قيل للجاحظ : مَنْ أنْشَدُ الناس وأشعرهم ؟ قال : الذي يقول ، وأنشد هذه الأبيات . ونظيرُ قولهِ : مجزوء الوافر : كأنَّ ثيابَه أطلعْ . . . نَ من أزراره قمرا
قول الحكم بن قَنْبَر المازني : البسيط :
ويْلِي على مَنْ أطارَ النومَ فامتنعا . . . وزاد قلبي إلى أوجاعِه وَجَعا
وقال تميم : الخفيف :
نَقبَتْ وَجْهَها بخَزٍّ وجَاءتْ . . . بمُدَامٍ مُنَقَّبٍ بزُجَاج
فتأمَّلْتُ في النقابَيْنِ منها . . . قمراً طالعاً وضوءَ سرَاجِ
فاسقيَاني بلا مِزَاجٍ فإني . . . في المعالي صِرْفٌ بغير مِزَاجِ
وانظرا الأفْقَ كيف بدّله الإص . . . باحُ من بَعْدِ آبنُوسٍ بعَاجِ
وقال : البسيط :
إذا حَذِرْتَ زَماناً لا تُسَرُّ بهِ . . . كم قد أتى سَهْلُ دهرٍ بعد أَصْعَبِهِ
فاقبَلْ من الدهرِ ما أعْطَاكَ مختلطاً . . . لعل مُرَّك يَحْلُو في تقلّبِهِ
خُذْها إليك ، ودَعْ لَوْمي ، مشَعْشَعَةً . . . من كفِّ أقنى أسيل الخدِّ مُذْهَبِهِفي كل مَعْقِد حسن فيه مُعْتَرِضٌ . . . عليه يَحْميه من أن تَستبدَّ به
فكُحْلُ عينيه ممنوعٌ بخَنْجَرهٍ . . . ووَرْدُ خدَّيْهِ مَحْمِيٌّ بِعَقْرَبه
لا تترك القَدَحَ الملآن في يدهِ . . . إني أخافُ عليه من تلهُّبِه
فصُنْه عن سَقينا ؛ إني أَغَارُ بِهِ . . . وسَقِّه واسْقني من فَضْل مَشْرَبه
وانظُر إلى الليلِ كالزنْجِيِّ منهزِماً . . . والصبحُ في إثره يَعدُو بأَشْهَبِه
والبدرُ مُنتصِبٌ ما بين أنْجُمه . . . كأنه مَلِكٌ ما بَينَ مَوْكِبه
من المختار من شعر تميم بن المعز
وإذا أفضيت إلى ذكره ، فهاك من مختار شعره ، قال : البسيط :
مُسْتَقْبَلٌ بالذي يَهْوَى وإن كَثُرَتْ . . . منه الذنوبُ ومَقْبُولٌ بما صَنَعا
في وَجْهِهِ شافعٌ يَمْحُو إساءتَهُ . . . من القلوب وَجِيهٌ حيثما شفعَا
كأنما الشمسُ مِنْ أثوابه برزَت . . . حُسْناً ، أو البدرُ من أزرارِه طَلَعا
استعارة مأخوذة من قول الآخر ، وهو ابن زُريق : البسيط :
أستودعُ الله في بغدادَ لِي قمراً . . . بالكَرْخ من فَلَكِ الأزرار مطلَعهُ
ومن قول أحمد بن يحيى الفران : مجزوء الوافر :
بَدَا فكانّما قمرٌ . . . على أزراره طلَعَا
يحث المسكَ من عَرقِ ال . . . جبين بنانُه وَلَعا
وقال أبو ذرّ أستاذ سيف الدولةِ : الكامل :
نفسي الفِدَاء لمن عصيت عَواذِلي . . . في حُبِّهِ لم أَخْشَ مِنْ رُقَبَائِهِ
الشمس تظهرُ في أَسِرَّة وجْهِهِ . . . والبدرُ يَطْلُعُ من خِلاَل قَبَائِهِوقال تميم : الطويل :
أأعذل قَلبِي وَهْوَ لِي غيرُ عاذِل . . . وأَعْصي غرامي وهو ما بين أَضلعي ؟
ومَنْ لي بِصَبْرٍ أَستزيلُ به الجَوى . . . ولا جلدي طوعي ولا كبدي معِي
فأَوَّلُ شوقِي كانَ آخر سَلْوَتي . . . وآخرُ صبْرِي كان أوَّلَ أَدْمُعِي
وقال : مجزوء الكامل :
وَرْدُ الخدودِ أَرَقُ من . . . وَرْدِ الرياضِ وَأَنْعَمُ
هذا تَنَشَقُهُ الأُنو . . . فُ وذا يُقَبِّلُهُ الفَمُ
وإذا عَدَلْتُ فأفضَلُ ال . . . وردين وردٌ يُلثَم
لا وَرْدَ إلا ما توَلَّى صَبْغَ حُمْرَتهِ الدَّمُ
هذا يُشَمُّ ولا يُضَمُّ وذَا يُضمُّ ويُشْمَمُ
سُبْحان من خلق الخدو . . . دَ شقائقاً تُتَنَسَّمُ
وأَعارَها الأصداغَ فه . . . ي بها شقيق يُعْلَمُ
واستنطَقَ الأجفانَ فَه . . . ي بلَحْظِها تتكلَّم
وتُبِينُ للمحبوبِ عَنْ . . . سِرِّ الحبيبِ فيفهَمُ
وتشير إن رأتِ الرقي . . . بَ بلَحْظِها فتُسلِّم
وأَعارَها مَرضاً تصِحُّ بهِ القلوبُ وتَسْقَمُ
فِتَنُ العيون أَجَل من . . . فِتَن الخدودِ وأَعظمُ
وقال : السريع : إنْ كانتِ الألحاظُ رُسْلَ القلوب . . . فينا فما أَهْوَنَ كَيْدَ الرقيب
قبَّلْتُ مَنْ أَهوى بعيني ولم . . . يعلَمْ بتقبيليَ خَدُّ الحبيبْلكِنَّه قد فَطِنَتْ عَيْنُهُ . . . بلَحْظِ عيني فِطْنَةَ المسترِيب
إن كان علمُ الغيبِ مُسْتَخْفِياً . . . عَنّا فعِند اللّحْظِ عِلْمُ الغيوب
وقال : مجزوء الكامل :
قالوا الرحيل لخمسةٍ . . . تَأْتي سَرِيعاً من جُمادَى
فأجَبْتهمْ إني اتَّخَذْ . . . تُ له الأَسَى والحُزْنَ زادا
سبحانَ مَنْ قَسم الأسى . . . بين الأحِبّة والبِعَادا
وأَعارَ للأَجفانِ حُسْ . . . ناً تستَرِقُّ به العبَادا
وقال : الخفيف :
عَقْرَب الصُّدْغِ فوق تفّاحة الخدّ . . . نعيمٌ مُطَرَّزٌ بعذَابِ
وسيوفُ اللحاظ في كلّ حِينٍ . . . مانِعاتٌ جَنى الثنايا العِذَابِ
وعيونُ الوشاةِ يُفْسِدْن بالرِّقْ . . . بَةِ والمَنْعِ رؤيةَ الأحبابِ
فمتى يَشْتَفي المحِبُّ وتُطْفَى . . . بالتدانِي حرَارةُ الاكتئابِ ؟
وقال : البسيط :
ترى عِذَارَيْه قد قاما بِمَعْذرتي . . . عند العَذُول فيَغْدو وهو يَعْذِرُني
رِيمٌ كأنَّ له في كل جارِحةٍ . . . عِقْداً من الحُسْنِ أَوْ نَوْعاً من الفتَنِ
كأنَ جوهرَهُ من لُطْفه عَرَضٌ . . . فليس تَحْوِيهِ إلا أَعْينُ الفطَن
واللَّه ما فتَنَتْ عيني محاسنُهُ . . . إلا وقد سَحَرَتْ ألفاظُهُ أذُني
ما تُصدرُ العينُ عنه لحظَها مَلَلاً . . . لأنه كل شَخْصٍ مرتضىً حَسَنِيا منتَهى أمَلِي لا تُدْنِ لي أجَلي . . . ولا تُعَذبْ ظُنوني فيك بالظِّنن
إنْ كان وجهُك وجهاً صِيغَ من قمرٍ . . . فإنَ قدَّكَ قَدٌّ قُدَّ مِن غُصُنِ
وقال : الطويل :
ألا يا نسيمَ الريح عرَّجْ مسلِّماً . . . على ذلك الشخص البعيدِ المُوَدّع
وهُبَّ على مَنْ شَفَّ جِسْمِي بعَادُهُ . . . سَمُوماً بما استملَيْتَ من نار أَضْلُعي
فإنْ قال : ما هذا الحَرورُ ؟ فقل له : . . . تَنَفسُ مُشْتَاقٍ بحبّك مُوجَعِ
ومختارُ شعره كثير ، وقد تفرَّق منه قطعة كافية في أعراض الكتاب .
قال الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد : الطويل :
لقد رحلَتْ سُعْدَى فهل لك مُسْعِد ؟ . . . وقد أنجدَتْ داراً فهل أنت مُنْجِدُ ؟
رعيتُ بطرفي النجْمَ لمَّا رأيتها . . . تَبَاعَدُ بُعْدَ النَجْمِ بل هي أبْعَدُ
تُنيرُ الثريّا وهي قرص مسلسل . . . ويشغل منها الطرف دُرٌ مبَدَّد
وتعترِضُ الجوزاءَ وهي ككاعب . . . تَميلُ من سكرٍ بها وتَميَّدُ
وتحسبها طَوْراً أسِيرَ جِنَايةٍ . . . ترشَّحَ بعدَ المشْيِ وهو مُقَيَّدُ
ولاحَ سُهيلٌ وهو للصُبح رَاقِبٌ . . . كما سُلَّ مِنْ غمدٍ جُرَازٌ مهنَّدُ
أرَدِّدُ طَرْفِي في النجوم كأنها . . . دنانيرُ لكن السماءَ زَبَرْجَدُ
رأيتُ بها ، والصبح ما حانَ ورْدُهُ ، . . . قناديلَ والخضراءُ صَرْحٌ ممرَّدُ
وفيه لنا من مربط الشمسِ أشقرٌ . . . إذا ما جرى فالريحُ تكْبُو وتركدُ
وقال أبو علي الحاتمي : الطويل :
وليل أقمنا فيه نُعْمِل كأْسنا . . . إلى أن بَدَا للصُبح في الليل عَسْكَرُ
ونَجْمُ الثريا في السماء كأنه . . . على حُلَّةٍ زَرْقَاءَ جَيْبٌ مُدَنَّرُالبحتري : الكامل :
ولقد سَرَيْتُ مع الكواكب راكباً . . . أعجازَها بعزيمةٍ كالكوكَبِ
والليلُ في لونِ الغُرَابِ كأنه . . . هو في حُلُوكَتِه وإن لم يَنْعَبِ
والعِيسُ تَنْصُلُ من دُجَاه كما انجلَى . . . صِبّغُ الخِضَابِ عن القَذَالِ الأشْيَبِ حتى تبدَّى الفَجْرُ من جَنبَاتِه . . . كالماءِ يَلْمَعُ من خِلاَلِ الطُحْلُبِ
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الكامل :
أهلاً بفَجْرٍ قد نَضى ثوبَ الدُّجى . . . كالسيف جُرِّد من سَوَادِ قِرَابِ
أو غادةٍ شقَّتْ صِداراً أزرقاً . . . ما بين ثُغْرَتِها إلى الأتراب
وقال رجلٌ من بني الحارث بن كعب يصف الشمس : الطويل :
مخبأَة أمَّا إذا الليلُ جَنَّها . . . فتَخْفَى وأمَّا بالنهار فتظهرُ
إذا انشقَّ عنها ساطِعُ الفَجْرِ وانْجَلَى . . . دُجَى الليلِ وانجابَ الحِجَابُ المستر
وألبس عرض الأرضِ لوناً كأنهُ . . . على الأفق الشرْقِي ثوبٌ مُعَصْفَرُ
تجلّتْ وفيها حين يَبْدُو شعاعُها . . . ولم يعلُ للعينِ القصيرةِ مَنظَرُ
عليها كَرَدْع الزعفرانِ يشبّهُ . . . شعَاعٌ تَلاَلا فهو أبيضُ أَصفرُ
فلما علَتْ وابيضَّ منها اصفرارُها . . . وجالَتْ كما جَالَ المَنيحُ المشهَرُ
وجلَلتِ الآفاقَ ضوءاً ينيرها . . . بحرّ لها وَجْهَ الضُّحَى تتسعر
ترى الظل يُطْوَى حين تَبْدُو وتارةً . . . تَراه إذا زالتْ عن الأرض يُنْشَركما بدأَتْ إذْ أشرقَت في مَغِيبها . . . تعود كما عادَ الكبيرُ المعمر
وتَدْنَفُ حتى ما يكادُ شعاعُها . . . يَبِين إذا ولَت لمن يتبصَرُ
فأَفْنَت قروناً وهْيَ في ذاك لم تزَلْ . . . تموتُ وتحْيَا كل يومٍ وتنشرُ
أحسن ما قالته العرب في الجاهلية
وقال عبد الملك بن مروان لبعض جلسائه يوماً : ما أَحكم أربعة أبياتٍ قالتها العرب في الجاهلية ؟ فأنشده : الكامل :
منع البقاءَ تقلُّب الشمسِ . . . وطلوعُها من حيث لا تمسي
وطلوعُها بيضاءَ صافيةً . . . وغروبُها صفراءَ كالوَرْسِ
تجرىِ على كَبِدِ السماء كما . . . يَجْرِي حِمامُ الموتِ في النفْسِ
اليوم تَعْلَم ما يجيءُ بِه . . . ومضَى بفَصْل قضائِه أَمْسِ
قال : أحسنت ، فأخبرني بأَمْدح بيتٍ قالَتْه العرب في الشجاعة ، قال : قول كعب بن مالك الأنصاري : الكامل :
نَصِلُ السيوفَ إذا قصُرْنَ بخَطْوِنا . . . قُدُماً ، ونلحقها إذا لم تلحقِ
قال : فأخبرني بأفضل بيتٍ قيل في الجود ، فأنشده لحاتم طيئ : الكامل :
أماويُّ ، ما يُغْني الثراءُ عن الفَتَى . . . إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَدْرُ
تَرَيْ أنَّ ما أبقيْتُ لم أكُ رَبَّهُ . . . وأنَّ يدِي مِمَّا بَخِلْتُ به صِفْرُ
ألم ترَ أنَ المالَ غادٍ ورائحٌ . . . ويبقَى من المالِ الأحاديثُ والذكْرُ
غَنِيْنا زماناً بالتصَعْلك والغِنى . . . فكلاًّ سَقانَاهُ بكأسيهما الدَهرُفما زادَنا بَغْياً على فذي قرابةٍ . . . غِنَاناً ، ولا أَزرى بأحسابِنا الفَقْرُ
قال : فأخبرني عن أحسَن الناس وصفاً ، قال : الذي يقول : الطويل :
كأن قلوب الطيرِ رَطْباً ويابساً . . . لدَى وَكْرِها العُنّابُ والحَشَفُ البَالي
والذي يقول : الطويِل :
كأنَ عيونَ الوَحْشِ حول خِبَائِنا . . . وأرحُلِنا الجَزْعُ الذِي لم يُثَقبِ
والذي يقوله : الطويل :
وتعرِفُ فيه من أبيه شَمائلاً . . . ومن خَالِه ومن يزيدَ ومِنْ حُجُرْ
سماحةَ ذَا ، مع بِرِّ ذَا ، ووفاءَ ذَا . . . ونائلَ ذَا ، إذا صَحَا وإذا سَكِرْ
يريد امرأ القيس .
ومن ألفاظ أهل العصر في طلوع الشمس وغروبها ومتوع النهار وانتصافه ، وابتدائه ، وانتهائه
بدا حاجِبُ الشمس ، ولمعَتْ في أجنحَة الطيرِ ، وكشفَتْ قِناعَها ، ونثرتْ شُعاعَها ، وارتفع سُرادِقُها ، وأضاءتْ مشارِقُها ، وانتشر جناحُ الضوء في أفق الجو . طَنّبَ شعاعُ الشمس في الآفاق ، وذهبَتْ أطراف الجدران . أينع النهار وارتفع . استوى شَبَابُ النهار ، وعلا رونق الضحى ، وبلغت الشمسُ كبد السماء . انتعل كل شيء ظله ، وقام قائمُ الهاجِرَة ، ورمَت الشمس بجَمَراتِ الظهر . اصفرَتْ غِلاَلَةُ الشمسِ ، وصارت كأنها الدينارُ يلمعُ في قرارِ الماء ، ونفضَتْ تِبراً على الأصيل ، وشَدَّتْ رَحْلَها للرحيل ، وتصوّبَتْالشمسُ للمغيب ، وتضيّفَتْ للغروب فأَذِن جَنْبُها للوُجوب . شاب النهارُ ، وأقبل شبابُ الليلِ ، ووقفت الشمسُ للعيان ، وشافَهَ الليلُ لسان النهارِ . الشمسُ قد أشرقَتْ بروجُها ، وجنحت للغروب ، وشافَهتْ دَرج الوجوبِ . الجوُ في أطمارٍ مُنْهَجَةٍ من أَصائله ، وشفوت مورَّسَة من غَلاَئله . استتر وَجْهُ الشمسِ بالنِّقَاب ، وتوارَتْ بالحجابِ . كان هذا الأمرُ من مطلع الفلق ، إلى مجتمع الغَسَق . فلانٌ يركبُ في مقدمة الصُبح ، ويرجع في ساقة الشفق ، ومن حين تفتحُ الشمس جَفْنَها ، إلى أن تغمض طَرْفها ، ومن حين تسكنُ الطيرُ أوكارَها ، إلى حينِ ينزلُ السَّرَاةُ مِنْ أكوارِها .
مقامة لأبي الفتح الإسكندري من إنشاء البديع ، اتصَلَتْ بذكرِ الليلِ والنهار .
قال عيسى بن هشَام : كنت وَأنا فَتِيُّ السنِّ أشدُّ رَحْلي لكلّ عَمَاية ، وأركضُ طِرْفِي لكل غَوَاية ، حتى شرِبْتُ من العُمْرِ سائغه ، ولبسْتُ من الدهر سابغَه ، فلما صاح النهارُ بجانب ليلي ، وجمعتُ للمعادِ ذَيْلِي ، وطِئْتُ ظهْرَ المَرُوضةِ ، لأداء المفروضة ، وصَحِبَنِي في الطريق رَجُل لم أنكره من سوء ، فلمّا تخالينا ، وحين تجالينا ، سفَرَتِ القصَّةُ عن أصل كوفيٍّ ومَذْهَب صوفِيٍّ ، وسِرْنا فلمّا حللْنا الكوفةَ مِلْنَا إلى داره ودخلناها وقد بَقَل وجهُ النهار ، واخضرَّ جانبُهُ ، ولما اغتمض جَفْنُ الليل وطَرَّ شارِبُه قُرعَ علينَا البابُ ، فقلْنا : من القارعُ المُنتابُ ؟ فقال : وَفْدُ الليل وبريده ، وفَل الجوع وطريده ، وأسير الضرّ ، والزمن المرّ ، وضيفٌ وطْؤُه خفيف ، وضالته رَغِيف ، وجارٌ يَستَعْدِي على الجوع ، والجَيْبِ المَرقوع ، وغريب أُوقِدت النارُ على سفره ، ونبحَ العَوَّاء في أثره ، ونُبِذت خَلْفه الحُصياتُ ، وكُنِسَتْ بعده العَرَصَات ، فنِضْوُه طَليح ، وعَيْشُه تبريح ، ومن دون أفراخه مَهَامِهُ فيح .قال عيسى بن هشام : فقبَضْتُ من كيسي قَبْضَةَ الليثِ وبعثْتُهَا إليه ، وقلتُ زِدْنَا سؤالاً نزِدْكَ نَوَالاً ، فقال : ما عُرِض عَرْفُ العودِ ، على أحرَ من نار الجُودِ ، ولا لُقيَ وَفْد البِرِّ ، بأَحسن من بريد الشكر ، ومن ملك الفَضْل فَلْيواس ، فلا يَذْهبُ العُرْفُ بين الله والناس ، وأما أَنتَ فحقَّق الله أملَك ، وجعَل اليدَ العُلْيَا لك .
قال عيسى بن هشام : ففتحْنا البابَ ، فإذا شيخُنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلْنا : يا أبا الفتح ، شدَّ ما بلَغتْ بك الخَصَاصَةُ ، وهذا الزيُ خاصة فتبسَّم وأنشأ يقول : مجزوء الخفيف :
لا يَغزَنَكَ الذي . . . أنا فيه من الطَلبْ
أنا في بُرْدَة تُشَقُّ لها بُرْدَةُ الطَرَبْ
أنا لو شِئتُ لاتخَذْ . . . تُ شِقَاقاً من الذهَبْ
وكتب البديعُ إلى بعض إخوانه : غضبُ العاشقِ أقصرُ عمراً من أن ينتظِرَ عُذْراً ، وإن كان في الظاهر مَهَابة سيْف ، إنه في الباطن سحابةُ صَيْف ، وقد رَابَني إعراضه صَفْحاً ؛ أفجدَاً قصدَ أمْ مَزْحاً ، ولو التبس القَلْبَان حق التباسهما ما وجد الشيطانُ بينهما مساغاً ، ولا والله لا أرِيكَ رَدّاً ، أجِدُ منهُ بدّاً ، وإن محبة تحتمل شَكّاً لأجْدَرُ محبة ، ألا تُشْتَرى بحبَّةٍ ، وإنْ كان قصَدَ مَزحاً فما أغناها عن مَزْح يحل عُقَد الفؤاد حتى نقف على المراد ، ولا تسعنا إلا العافية والسلام . وله إليه : المودة - أعزَك الله - غَيْب ، وهو في مكان من الصَّدْر ، لا ينفذه بصر ، ولا يُدرِكُه نَظَر ، ولكنها تُعْرَف ضرورة ، وإن لم تظهر صُورَة ، ويدرِكها الناس ، وإن لم تدركها الحوَاس ، ويستَمْلي المرءُ صحيفَتَها من صدره ، ويعلم حالَ غيرِه من نفسه ، ويعلم أنها حبٌّ وراء القلب ، وقلب وراء الخِلب ، وخِلْب وراءَ العَظم ، وعَظمٌ وراء اللحم ، ولحم ورَاءَ الجلد ، وجلد وراء البُرْد ، وبُرد وراء البعد . ولو كانت هذه الحجُبُ قوارير لم ينفذها نظر ، فيستَدِلّ عليها بغيرِ هذه الحاسة بدليل إلا أن أزوره ، والله لو التبست به التباساً ، يجعل رأسينا رأساً ، ما زدته وداً ، ولو حال بيني وبينه سُورُ الأعرافِ ، ورمْلُ الأحقافِ ، ما نقصته حقاً .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الخفيف :
وغَزَالِ مَنَحتُه ظهرَ الودِّ . . . فجازَى بالصدِّ والانتحاب
لم ألمهُ إن ردني لحجابٍ . . . ردني والِهَ الفؤاد لِمَا بيهو روح وليس يُنْكَر للرُّو . . . حِ تَوَارٍ عن الوَرَى بحِجَابِ
وللبديع إلى أخيه : كتابي أطال الله بقاءَك ، ونحن وإن بَعُدَتِ الدارُ فَرعاَ نَبْعَة ، فلا يَجْنِينَّ بُعْدِي على قُرْبك ، ولا تمحوَنّ ذِكْرِي من قلبك ، فالأَخَوَان ، وإن كان أحدُهما بخراسان والآخر بالحجاز ، مجتمعان على الحقيقةِ مفترقان على المجاز ، والاثنان ، في المعنى واحد وفي اللفظ اثنَانِ ، وما بيني وبينك إلا ستر ، طولُهُ فِترُ ، وإن صاحبني رَفيق ، اسمه توفيق ، لنلتقينَّ سريعاً ولنسعدَنّ جميعاً ، واللَّهُ وليُ المأمول .
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانه : قد قرُبَ - أيَّدك اللّه - محلّك على تراخِيه ، وتَصاقَب مستقرُّك على تَنَائيه ، لأنّ الشوقَ يمثّلُك ، والذكر يخيّلك ؛ فنحنُ في الظاهر على افتراق ، وفي الباطن على تلاق ، وفي التسميةِ مُتَباينون ، وفي المعنى متواصلُون ، وإن تفارقت الأشباحُ ، لقد تعانقت الأرواح .
جملة من كلام ابن المعتز في الفصول القصار
الدهرُ سريعُ الوثبة ، شنيع العَثْرَة . أهلُ الدنيا كرَكْبٍ يُسَارُ بهم وهم نِيام . والناسُ وَفْدُ البِلَى ، وسكّان الثَّرَى ، وأَقْران الرَّدىَ . المرءُ نُصْبُ الحوادثِ وأسيرُ الاغترار . الآمالُ حَصَائِدُ الرجالِ . الْحِرْصُ يَنْقُصُ المرءَ من قَدْرِه ، ولا يزيدُ في رِزْقه . الكذب والحسدُ والنفاق أَثافِيّ الذل . النّمامُ جسْرُ الشرّ . الحاسدُ اسمُه صديق ومعناه عدو . الحاسدُ ساخِطٌ على القدَر ، مغتاظٌ على من لا ذنْبَ له ، بخيل بما لا يملِكُه ، يشفيك منه أنه يغتمُّ في وقت سرورِك . الفُرْصَة سريعةُ الفَوْتِ بَطيئةُ العَوْد . الصبرُ من ذي المصيبة مصيبةٌ على ذوِي الشَّمات . التواضعُ سُلَّم الشرف ، والجُودُ صِوَانُ العرْضِ من الذمّ . الغَدر قاطع الأسرار إذا كثر خُزانها ازدادت ضياعاً . السوءُ كشجرة النار يَحْرِق بعضُها بعضاً . عَبْدُ الشهوة أَذلّ من عبد الرقّ . وعاء الخطأ بالصَّمْت يختم ، والخرق بالرفْقِ يلحم . الوَعْدُ مرضُ المعروف ، والإنجازُ برؤه ، والمَطْل تلفه . إذا حَضرَ الأجل ، افتضح الأمل . لا تشَنْ وَجْهَ العفوِ بالتقريع . لا تنكحْ خاطبَ سِرك . ومن زَاد أَدَبُه على عقله كان كالراعي الضعيف مع شاءٍ كثيرة .قال أبو العباس الناشئ لأبي سهل بن نوبخت : الطويل :
زعمت أبا سهل بأنك جامعٌ . . . ضُروباً من الآداب يجمعُها الكَهْلُ
وهبكَ تقولُ الحقّ أي فضيلةً . . . تكونُ لذي عِلْمٍ وليس له عَقْلُ
والهمّ حبس الروح . قلوب العقلاءِ حصونُ الأسرار . مَن كرُمَت عليه نفسه هان عليه ماله . من جرى في عنان أمله ؛ عثر بأجَلِه . ما كل من يُحْسِنُ وعدَه يحسنُ إنجازه . ربما أوردَ الطمع ولم يصدِر ، وضمن ولم يوفِ . وربما شرق شارب الماءِ قبل ريّه . من تجاوزَ الكفافَ لم يقنِعه إكثار . كلّما عظُم قَدرُ المُنَافَسِ فيه عظمت الفجيعةُ بفَقْدِه ، ومن أَرْحَلَهُ الْحِرْص أنضَاه الطلب . الأماني تعمي أعيُنَ البصائر ، والحظ يأتي من لم يؤمه . وربما كان الطمع وعَاءً حَشوه المتالف ، وسائقاً يَدعُو إلى الندامة . ما أحْلَى تلقّي البغية ، وأمرَّ عاقبة الفراق . من لم يتأمل الأمرَ بعَينِ عقله ، لم تَقَعْ حيلتُه إلا على مَقَاتِلِه .
من شعر أبي العباس الناشئ في التعزية
وقال أبو العباس يَرثي المعتضد : الطويل :
قضَوا ما قضَوا من أَمرهم ثم قدَّموا . . . إماماً إمام الْخَلق بين يَدَيْه
وصلّوا عليه خاشعين كأنهم . . . صفوفٌ قيام للسلامِ عليه
وقال يَرثيه الكامل :
قالت شريرة ما لجَفنِك ساهراً . . . قَلِقاً ، وقد هدأَتْ عيونُ النُّومِ
ما قد رأيت من الزمانِ أحل بي . . . هذا ، وتحت الصَدْرِ ما لم تَعْلَمِي
يا نفس ، صبراً للزمانِ ورَيبِه . . . فهو المليء بما كرهْتِ فسلِّمي
إن الذي حاز الفضائلَ كلَّها . . . هو ذاك في قَعْرِ الضريحِ المُظْلمِ
أما السيوفُ فمن صنائع بَأْسهِ . . . لولاه لم يَرْوَيْن من سَفْكِ الدَّم
وكأنَّ أَحْدَاثَ الزمانِ عبيدهُ . . . فمتى يؤخِّرهن لا تستقدم
يَقْظَان من سِنَة المضيِّع قَلْبَهُ . . . ومعوّل للمُعْوِلٍ المتظلِّم
يَرْعَى الضغائن قبل ساعةِ فرصةٍ . . . فإذا رآها أمكَنَتْ لم يُحْجمِ
كم فرصة تُرِكَتْ فصارَتْ غصَّةً . . . تَشْجَى بطولِ تلهّفٍ وتَنَدُّمِ
ولربَّ كَيْدٍ ظلَّ يَسْجُد بعدها . . . في بشْرِ وَجْهٍ مطلَقٍ متجهِّمِ
وهي المنايا إن رمين بنَبْلِها . . . يرمين في نَفْس الأجلّ الأعْظم
للَّهِ دَرُّك أي ليث كتيبةٍ . . . والخيلُ تعثر بالقَنَا المتحطّم
ولقد عمرت ولا حريم معاند . . . حرمٌ ولا الإسلام بالمستسلموقال للمعتضد يعزّيه بابنهِ هارون : البسيط :
يا ناصرَ الدينِ إذ هُدَّتْ قواعِدُهُ . . . وأَصْدَقَ الناسِ في بُؤْسى وإنعام
وقائدَ الخيلِ مذ شُدَّتْ مآزرُهُ . . . مذلَّلاَتٍ بإسْرَاجٍ وإلجامِ
كأنهن قناً ليسَتْ لها عُقَدٌ . . . يهزُّهَا الزَّخرُ في كرٍّ وإقدامِ
قُبّ كطيِّ ثيابِ العَصْب مضمرة . . . تقرِّبُ النارَ بين البيض والهامِ
وسائسَ الملك يَرْعاه ويكلؤُهُ . . . إذا حَلاَ الغَمْضُ في أجفانِ نُوَّامِ
تَمْرِي أنَامِلُه الدنيا لصاحبها . . . ونَصلُه مِنْ عِدَاهُ قاطرٌ دامِي
كالسَّهْمِ يبعثهُ الرَّامِي فصفحتهُ . . . تَلْقى الرََّدَى دونَه ، والفُوقُ للرامِي
لا يَشْتَكي الدَّهرَ إنْ خَطْبٌ ألمَّ بهِ . . . إلا إلى صَعْدَةٍ أو حَدِّ صمصامِ
صبراً فدَيْنَاك إنّ الصبرَ عادَتُنَا . . . وإن طُوِينَا على حُزْنٍ وتهيام
فبادِر الأجْرَ نحو الصَّبْر محتَسِباً . . . إنَ الجزوعَ صبُورٌ بعد أيامِ
ولما ماتت دُريدة ، وهي جارِيةٌ المعتضد ، وكانت مَكِينة عنده ، جزع عليها جزعاً شديداً ، فقال له عبيد الله بن سليمان : مثلُك يا أميرَ المؤمنين تَهُون عليه المصائبُ ؛ لأنّك تجدُ من كل فقيدٍ خَلَفاً ، وتنالُ جميعَ ما تريد من العِوَض ، والعِوَض لا يوجَد منك ، فلا ابْتَلى الله الإسلام بفقْدِك ، وعمره بطولِ بقاء عُمْرك ، وكأنَّ الشاعر عَنَى أمير المؤمنين بقوله : البسيط :
يُبْكَى علينا ولا نَبْكِي على أَحَدٍ . . . لنَحْنُ أغْلَظُ أكباداً من الإبلِ
فضحك المعتضد وتسلّى وعاد إلى عادته .
قال محمد بن داود الجراح : فلقيني عبيدُ الله فأخبرني بذلك ، وقال : أردت شعراً في معنى البيت الذي أنشدته فما وجدته ؛ فقلت له : قد قال البطين البجلي : الطويل :
طوى الموتُ ما بيني وبين أَحبَّةٍ . . . بهم كُنت أعْطِي مَنْ أشاء وأمنعُ
فلا يحسب الوَاشُون أن قَناتَنا . . . تَلِينُ ، ولا أنا من الموتِ نَجْزَعُ
ولكنَّ للأُلاّفِ لا بدَّ لَوْعَةًإذا جعلت أقرانها تتطلَعُ
فكتبه ، وقال : لو حفظته لما عدلتُ عنه .رجع إلى ابن المعتز
وقال ابن المعتز ، وذكر الموتى : الطويل :
وسُكَّانِ دارٍ لا تَزَاوُرَ بينهم . . . على قُرْبِ بعضٍ في المحلة من بَعْضِ كأن خواتيما من الطينِ فوقهم . . . فليس لها حتى القيامة من فَضّ
وقال يمدح عبيد الله بن سليمان : الطويل :
أيا مُوصِلَ النُعْمَى على كلّ حالةٍ . . . إليَّ قريباً كنتُ أو نازحَ الدارِ
كما يلحق الغيثُ البلادَ بسَيْلِه . . . وإن جادَ في أَرضٍ سِواها بإمطار
ويا مقبلاً والدَّهْرُ عنيَ مُعْرضٌ . . . يقسّمُ لَحْمِي بين ناب وأظفارِ
ويا مَنْ يَرَانِي حيث كنتُ بِقلبهِ . . . وكم من أناسٍ لا يَرَوْنً بأَبْصَارِ
لقد رُمْتَ بي آمالَ نفسيَ كلّها . . . فيا لَهْفَ نفسِي لو أُعِنْتَ بمقدار
ذكرتَ مُنى سَمْع الإمام وعينه . . . ورفعت ناري كي يرى ضوءها الساري
وكم نعمةٍ للَّهِ في صرْفِ نِقْمَةٍ . . . ترجى ومكروهٍ حَلاَ بعد إمرار
وما كل ما تَهْوَى النفوس بنافعٍ . . . ولا كلّ ما تخشى النفوسُ بضَرّار
قوله :
كما يلحق الغيثُ البلادَ بسَيْله
مأخوذ من قول نهشل بن حري وقد بعث إليه كثير بن الصَّلْتِ كسوةً ومالاً من المدينة : الطويل :
جزَى الله خيراً والجزاءُ بكفّهِ . . . بني الصَّلْتِ إخوانَ السماحةِ والمجدِ
أتاني وأَهْلِي بالعراق نداهُمُ . . . كما انقضَّ سيل من تهامة أو نجدِ
وقال ابن المَوْلى : الوافر :
سُرِرْتُ بجعفرٍ إذْ حَل أَرْضِي . . . كما سُرّ المسافِرُ بالإيَابِ
كممطورٍ ببلدتهِ فأَضْحَى . . . غَنِيّاً عن مطالَعة السَّحابِ
وبعث عبدُ الله بنُ طاهر إلى أبي الجنوب بن أبي حفصة وهو ببغداد عشرين ألفَ دِرْهم فقال : الطويل :
لعمري لنعم الغَيْثُ غيثٌ أصابنا . . . ببغدادَ من أَرْض الجزيرةِ وَابِلُهْونِعْمَ الفتى والبِيدُ بيني وبينهُ . . . بعشرين ألفاً صبحَتْنِي رسائِلُهْ
فكنَّا كحيٍّ صبَّحَ الغَيْثُ أهلهُ . . . ولم تنتجَع أظعانُه وحَمَائلُهْ
أتى جودُ عبدِ الله حتى كفت بهِ . . . رواحلَنا سيرَ الفَلاَةِ رَوَاحِلُهْ
من أخبار عضد الدولة في شجاع
وكانت بنو كلاب ومن والاَها من العرب بنواحي الكوفة تجمَّعوا وعزَمُوا على أَخْذِ الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة ، فبعث أبو شجاع عضد الدولة دِنير بن لشكروز فأصلحهما ، وكان أبو الطيب المتنبي بها فوصله وبعث إليه خلعاً وقاد إليه فرساً بسَرْجٍ ثقيل ، فقال في قصيدة : الطويل :
فلو لم يَسِرْ سِرْنَا إلْيه بأنفُسٍ . . . غرائِبَ يُؤْثِرْنَ الجِيادَ على الأهْلِ
وما أنا ممن يَدَّعِي الشَوق قلبُه . . . ويعتَلّ في تَرْكِ الزيارةِ بالشُّغْل
ولكن رأَيت الفَضْلَ في القَصْد شِرْكَة . . . فكان لكَ الفَضلانِ في القَصْدِ والفَضْل
وليسَ الذي يتَّبَّع الوَبْلَ رائداً . . . كمَنْ جاءه في دَارِه رائِدُ الوَبْل
عود إلى ابن المعتز
وكان ابنُ المعتز يمدحُ أبا أحمد بن المتوكل ، ويلقّب بالناصر والموفّق ، وكانت حالُه ترامَت في أيام المعتضد إلى غاية لم يبلغها الخليفة ، وقد ذكرها الصولي في قصيدة لصاحب المغرب ، فقال وقد اقتصَّ خلفاء بني العباس من أوّلهم : الطويل :
ومعتضد مِنْ بعده وموفق . . . يُرَدِّدُ من إرث الخلافةِ ما ذَهبْ
مُوَازٍ لهم في كل فَضْل وسؤدد . . . وإنْ لم يكن في العدّ منهم لِمَن حَسَبْ
وقال المعتضد ، أو قِيلَ على لسانه ، لما غلب الموفَّق على أمره : الوافر :
أليس من العجائبِ أنّ مثلي . . . يرى ما هَانَ ممتنعاً عليهِ
وتؤخذ باسْمِه الدنيا جميعاً . . . وما مِنْ ذاك شيء في يديهِوشعر ابن المعتز فيه : الطويل :
إليك امتطينا العِيسَ تنفخ في البُرى . . . وللصُبْحِ طَرْفٌ بالظلامِ كَحيلُ
صَدِينَ من التَّهْجِير حتى كأنها . . . سيوفٌ جَلاها الصَّقْل فهي تحُولُ فبتْنَا ضيوفاً للفَلاَةِ قِرَاهُمُ . . . عَنِيقٌ ونَصٌّ دائمٌ وذَمِيلُ
يهرُّ بُرُودَ العَصْبِ فَوْقَ متونِها . . . نسيمٌ كنَفْثِ الراقياتِ عَلِيلُ
ولمّا طغى أَمْرُ الدَّعيّ رميتَهُ . . . بعَزْمٍ يردُّ العَضْبَ وهو فَلِيلُ
وجرّد من أغماده كل مُرْهَف . . . إذا ما انتضَتْه الكفُّ كاد يَسيلُ
جرَى فوق مَتْنَيه الفرنْدُ كأنما . . . تنفس فيه القَيْنُ وهو صقيلُ
وأعلمته كيف التصافُح بالقَنَا . . . وكيف تُروَّى البيضُ وَهْيَ مُحُولُ
سريعٌ إلى الأعداء ، أَما جنابُه . . . فماضٍ ، وأمّا وَجْهُه فجميل
ويقْري السؤال العُذْر من بَعد ماله . . . ويستصغرُ المعروفَ حين يَنيلُ
أخذ معنى قوله : نسيم كنفث الراقيات عليل عبدُ الكريم بنُ إبراهيم ، فقال : المتقارب :
سلامّ على طِيب رَوْحاتنا . . . إلى القَصرِ والنَّهَرِ الخِضرِمِ
إلى مُزبِدِ المَوْج طامِي العبَا . . . ب يقذِفُ بالْبَانِ والساسَم
تخالُ به قَطَماً مُقرَماً . . . يكرّ على قَطَمٍ مُقْرمِ
ويَسجو فيسحب في ذائل . . . يَمَانٍ تَسهَّم بالأنجُم
كأنّ الشمال على وَجهِه . . . بها سَقَم وهي لَمْ تَسْقَمِ
ضعيفة رَشّ كنَفْثِ الرّقى . . . على كبد المُدْنف المُغْرَمِ
إذا دَرجَتْ فوقه دَرَجَت . . . ه في حَبَك الزَّرَدِ المحْكمِ
وقد جللتهُ بأَوراقِها . . . فروعٌ غَذتْها نِطَافُ السَّمِعلَتها الحمامُ بتغريدها . . . كما سجَعَ النوْحُ في مَأتمِ
كأن شعاعَ الضحَى بينها . . . على السوسن الغضّ والخُرَّمِ
وشائع من ذَهَب سائل . . . على خسروَانيَّة نُعَّم
رُباً تتفقأ من فوقها . . . عَزَالي الربيع لهَا المرْهِمِ
على كل محبية خلة . . . تسَدَّى على جَدوَلٍ مفعَم
كما فتل الوَقْفَ صَوَّاغُه . . . وكالأرقم انْسَابَ للأَرقم
وقول ابن المعتز : ولما طغا أمرُ الدعيّ يريد صاحب الزنج بالبصرة ، وكانت شوكته قد اشتدت وظُفر به بعد مواقعة كثيرة ، وفي ذلك يقول ابنُ الرومي في قصيدة طويلة جداً يمدح فيها أبا أحمد الموفق بن المتوكل ، وصاعد بن خالد ، والعلاء بن صاعد ابنه ، وهي من أجود شعره ، فقال : الطويل :
أبا أَحمدٍ ، أَبْلَيْتَ أمّةَ أحمدٍ . . . بلاءً سيرضاهُ ابنُ عمك أحمَدُ
حصرت عميدَ الزنج حتى تخاذلَتْ . . . قُواه ، وأَودى زادُه المتزوَدُ
فظلَّ ، ولم تقتلْه ، بلفظ نفسهُ . . . وظلَّ ، ولم تأسِرْه ، وهوَ مقَيدُ
وكانَتْ نواحِيه كثَافاً فلم تَزَلْ . . . تحيّفُهَا شَحْذاً كأنكَ مِبرَدُ
تفرّق عنه بالمكايد جُنْدُهُ . . . ويزدادهم جنداً وجندك محصَدُ
ولابِسُ سَيْفِ القرْنِ بعد استلابِه . . . أَضرُّ له من كاسديه وأكْيَدُ
فما رُمْته حتى استقلَّ برَأْسِه . . . مكان قناةِ الظهر أسمرُ أَجرَدُ
هذا مأخوذ من قول مسلم بن الوليد البسيط :
ورأس مهْراقَ قد ركبْتُ قُلَّتَهُ . . . لدْنا يقوم مقامَ اللَّيتِ والجيدِ
الطويل :
ولم تأل إنذاراً له غيرَ أنهُ . . . رأى أن مَتنَ البحرِ صَرْحٌ ممرَّدُ
سكَنْتَ سكوناً كان رَهْناً بوَثْبةٍ . . . عَماسٍ ، كذاك الليث للوَثْبِ يلبدُهذا مأخوذ من قول النابغة : البسيط :
وقلت يا قومُ إنَّ اللَّيثَ مُنقبضٌ . . . على براثنِهِ ، لِوَثْبَةِ الضارِي
ويقول في مدح صاعد : الطويل :
يقرَّظُ إلا أنّ ما قيلَ دونهُ . . . ويوصَفُ إلا أنه لا يحدَّدُ
أرق من الماء الذي في حُسَامِه . . . طِباعاً ، وأَمْضَى من شَبَاهُ وأَنْجَدُ له سَوْرَة مُكْتَنةٌ في سَكينةٍ . . . كما اكتنَّ في الغِمْدِ الجُرَازُ المهنّدُ
كأن أباه حين سمَاه صاعداً . . . رأى كيف يَرْقَى في المعالي ويَصْعَدُ
لما سمع البحتري هذا البيت قال : مني أخذه ، في قوله في العلاء بن صاعد : الكامل :
سماه أسرته العَلاَء وإنما . . . قصدوا بذلك أنْ يتمَّ عُلاَهُ
وهذا في قوله ، كما قال ابن المرزبان وقد أنشد لابن المعتز في مناقضة الطالبيين : المتقارب :
دَعُوا الأسْدَ تسكنُ في غابهَا . . . ولا تدخلوا بين أَنْيَابها
فنحن ورثْنَا ثيابَ النبي . . . فَلِمْ تجذِبُونَ بهدَّابها
قال : قد أخذه من أقول ، بعض العباسيين : المتقارب :
دَعُوا الأسْدَ تسكن أَغيالها . . . ولا تقربوها وأَشْبَالَها
ولكنه سرق سَاجاً ، وردَّ عاجاً ، وغلَّ قطيفة ، وردّ دِيباجاً .
ومن قصيدة ابن الرومي : الطويل :
تراه على الحَرْبِ العَوَانِ بمنزل . . . وآثارُه فيها ، وإنْ غابَ ، شُهَّدُ
كما احتجب المقدارُ والحكم حكمهُ . . . على الخلق طُرَّاً ليس عنه مُعَرَّدُالبحتري : الكامل : ؟ وَليَ الأمورَ بنفسه ، ومَحَلُّها مُتَقارِبٌ ، ومرامها مُتَباعِدُ
يَتَكَفَلُ الأدنَى ، ويدْرِكُ رأيَهُ ال . . . أَقصى ، ويَتبَعهُ الأَبيُّ العانِدُ
إنْ غارَ فَهوَ مِنَ النباهة منجِدٌ . . . أوْ غابَ فَهوَ مِنَ المهابة شاهدُ
وقال أعرابي يصف رجلاً : كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه ؟ ويرسل العيونَ على عيوق ؛ فهوغائبٌ عنهم ، شاهد معهم ، والمحسِنُ آمن ، والمسيء خائف : الطويل :
فتى رُوحه روحٌ بسيطٌ كيانه . . . ومسكن ذاك الرُّوحِ نورٌ مُجَسَّدُ
صَفَا ونَفَى عنه القذىَ فكأنهُ . . . إذا ما استشفّتْه العقولُ مصعّد
كرمتمْ فجاش المفحمون بمدحِكمْ . . . إذا رَجَزُوا فيكمْ أَثبتُم فقصدوا
أَرى مَنْ تعاطى ما بلغتم كرائمٍ . . . مَنالَ الثريَّا وهو أكمَهُ مُقْعَد
كما أزهرتْ جناتُ عَدْنٍ وأَثمرَتْ . . . فأضْحَتْ وعُجْمُ الطيرِ فيها يغرِّدُ
وفي هذه القصيدة يقول :
لِمَا تُؤْذِنُ الدنيا به من صروفها . . . يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يُولدُ
وإلاَّ فما يُبكِيه منها وإنها . . . لأفسَحُ ممّا كان فيه وأَرْغَدُ
إذا أبصر الدنيا استهل كأنهُ . . . بما سوفَ يَلْقَى من رداها يُهَدَّدُ
قال الصولي : افتتح ابنُ الرومي هذه القصيدة على ما لا يلزمه من فتح ما قبل حَرْفِ الروي اقتداراً ، فحمله ذلك على أن قال : الطويل :
متاحٌ له مقداره فكأنما . . . تقوّض ثَهْلانٌ عليه وصِنْدِدُ
ثهلان : اسم جبل ، وهذا لا يصحّ ، إنما هو صندِد بكسر الدال ؛ لأن فعلَلا لم يجئ إلاَّ في أربعة أحرف : درهم ، وهِجْرَع للأحمق ، وهِبْلَع للذي يبلعُ كثيراً ، وقلعم للذي يقلع الأشياء .
وقول ابن المعتز في وصف السيف : كأنما تنفّس فيه القيْنُ وهو صَقيل ( معنى بديع في وصف الفرند ، وقد قال : الطويل :
ولي صارمٌ فيه المنايا كوامنٌ . . . فما يُنتضَى إلاَّ لسَفْكِ دماءِترى فوق مَتْنَيْهِ الفِرِنْدَ كأنهُ . . . بقيَّه غَيْمٍ رقَّ دون سماءِ
وقال أيضاً إسحاق بن خلف : مجزوء الكامل :
ألقى بجانب خصره . . . أمضى من الأجل المتاحْ
وكأنما ذَرَّ الهبا . . . ء عليه أَنفاسُ الرياحْ
ولما صار سيفُ عمرو بن معد يكرب الذي يسمَّى الصمصامة إلى الهادي ، - وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص ، فتوارثَه ولدُه إلى أن مات المهدي ، فاشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل ، وكان أوسعَ بني العباس كفّاً ، وأكثرهم عطاء - ودعا بالشعراء ، وبين يديه مِكْتَل فيه بدْرَة ، فقال : قولوا في هذا السيف ، فبدر ابن يامين البصري فقال : الخفيف :
حاز صمصامةَ الزبَيْدِيِّ من بي . . . ن جميع الأنام موسى الأمينُ
سيف عَمْرو وكان فيما سمِعْنا . . . خيرَ ما أغْمِدَتْ عليه الجفونُ
أخضر اللون بين خديه بردٌ . . . من ذُعَافٍ يَميسُ فيه المنون أوقدت فوقَه الصواعِقُ ناراً . . . ثم شابَتْ فيه الذعافَ القيونُ
فإذا ما سللتهُ بهر الشم . . . س ضياءً فلم تكد تستبِينُ
ما يُبَالي مَنِ انْتَضَاهُ لحرب . . . أشِمالٌ سَطَتْ بهِ أو يَمينُ ؟
يستطِيرُ الأبصارَ كالقَبسِ المش . . . عَل ما تستقرُّ فيه العيونُ
وكأن الفرِنْد والجوهر والجا . . . ري على صفحتيْه ماءٌ معِين
نِعْمَ مخراق ذي الحفيظة في الهب . . . جاء يَعْصَى به ونِعْمَ القرينُ
قال موسى : أصبت ما في نفسي ، واستخفَّه الفرح ، فأمر له بالمِكْتَل والسيف ؛ فلمّا خرج قال للشعراء : إنما حُرمتم من أجلي ، فشأنكم المكتل ، وفي السيف غناي فقام موسى فاشترى منه السيف بمالٍ جليل .البحتري : الكامل :
قد جُدْتَ بالطِّرْفِ الجوادِ فَثَنَّهِ . . . لأخِيك من جَدْوَى يديك بمُنْصُل
يتناولُ الرُّوحَ البعيدَ منالُهُ . . . عَفْواً ، ويَفْتَحُ في الفضاء المُقفَل
بإنارة في كلّ حَتْفٍ مُظْلِمٍ . . . وهدايةٍ في كل نفسٍ مَجْهَلِ
يَغْشَى الوغى فالتُّرسُ ليس بجُنَّةٍ . . . مِنْ حَدِّه ، والدَّرْعُ ليس بمَعْقِلِ
ماضٍ وإن لم تُمْضِهِ يَدُ فارسٍ . . . بَطَلٍ ، ومَصْقُولٌ وإن لم يُصْقَلِ
مُصْغٍ إلى حُكْم الرَّدى فإذا مَضَى . . . لم يلتفِتْ ، وإذا قضَى لم يَعْدِل
متوقّدٌ يَفْرِي بأوَّل ضَرْبَةٍ . . . ما أدركَتْ ولو أنّهَا في يَذْبُل
فكأنّ فارسه إذا استعصى به الزّ . . . حفان يَعْصي بالسمَاكِ الأعْزلِ
فإذا أصابَ فكلُّ شيء مَقْتَلٌ . . . وإذا أُصيبَ فما له من مَقْتَلٍ
حَمَلَتْ حمائِلُهُ القديمةُ بَقْلَةً . . . من عَهْدِ عادٍ غَضَّةً لم تَذْبُلِ
وقال أبو القاسم بن هاني للمعز : الكامل :
عَجَباً لمُنْصُلِكَ المُقَلَّدِ كيفَ لم . . . تَسِلِ النفوسُ عليك مِنْهُ مَسيلا
لم يَخْلُ جبّارُ الملوكِ بذكرِهِ . . . إلا تَشحَّطَ في الدماءَ قتيلا
فإذا رأيناهُ رأينا عِلةً . . . للنَّيِّراتِ وَنيِّراً مَعْلولا
بك حُسْنُهُ مُتَقَلَّداً وبَهاؤهُ . . . مُتَنكَّباً ومَضاؤُه مَسْلُولافإذا غَضِبْتَ عَلَتْهُ دونك رُبْدةٌ . . . يَغْدُو بها طَرْفُ الزمان كحيلا
وإذا طربت إلى الرِّضا أهدَى إلى . . . شمس الظهيرة عَارِضاً مصقولا
كَتَبَ الفرِنْدُ عليه بعضَ صفاتِكُمْ . . . فَعَرَفْتُ فيه التاجَ والإكلِيلا
وقال : الكامل :
هل يُدْنِينِّي من فنائِك سَابحٌ . . . مَرحٌ وجائلةُ النُّسوعِ أمُونُ ؟
ومُهَنَدٍ فيه الفرِنْدُ كأنهُ . . . درّ له خَلْفَ الفراتِ كمينُ
عَضْب المضاربِ مُقْفِراً من أعين . . . لكنه من أَنْفُسٍ مَسكون
وأهدَى الكندي إلى بعض إخوانِه سيفاً ، فكتب إليه : الحمدُ للّه الذي خصَّكَ بمنافع كمنافع ما أهديتَ ، وجعلكَ تهتز للمكارم اهتزاز الصارم ، وتمضِي في الأمورِ مضاء حَدِّه المأثور ، وتصونُ عرضك بالإرفاد ، كما تُصَانُ السيوفُ بالأغماد ، ويطْرد ماء الحياء في صفحات خدك المشوف ، كما يشفّ الرونقُ في صفائح السيوف ، وتصقلُ شرَفك بالعطياتِ ، كما تصقلُ مُتونُ المشرفيِّات .
من أخبار أبي جعفر المنصور
قدم على أبي جعفر المنصور وَفْدٌ من الشام بعد انهزام عبد الله بن علي ، وفيهم الحارثُ بن عبد الرحمن الغفاري ، فتكلم جماعةٌ منهم ، ثم قام الحارث فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنا لَسْنَا وفْدَ مباهاة ، ولكنا وفدُ توبة استخفًت حليمَنا ؛ فنحن بما قدمنا معترِفون ، وبما سلَف منا مُعتذِرون ، فإنْ تعاقبنا فبِمَا أجرَمْنا ، وإن تَعْفُ عنا فطالما أحسنْتَ إلى من أساء ، فقال المنصور : أنتَ خطيب القوم ، وردَّ عليه ضياعه بالغُوطة . وقاد رجلٌ من أهل الشام للمنصور : يا أمير المؤمنين ، من انتقم فقد شَفَى غيظَهوانتصف ، ومن عفا تفضل ، ومن أخذ حقّه لم يَجِبْ شكره ولم يذكر فَضْله ، وكَظْمُ الغيظِ حلم ، والتشفي طَرَفٌ من الجَزَع ، ولم يمدح أهلَ التقى والنهى من كان حليماً بشدَّة العقاب ، ولكن بحُسْنِ الصفْحِ والاغتفارِ وشدةِ التغافل ، وبعدُ ، فالمعاقِب مستدعٍ لعداوةِ أولياءِ المذْنِب ، والعافي مسترعٍ لشكرهم آمِنٌ من مكافأتهم ، ولأن يُثْنَى عليك باتِّسَاع الصدْرِ خيرٌ من أن توصَف بضِيقِه ، على أنَّ إقالتك عثراتِ عبادِ الله موجبٌ لإقالةِ عَثْرَتك من ربِّهِمْ ، وموصول بعفوه ، وعقابُك إياهم موصولٌ بعقابه ، قال الله عزَّ وجلَّ : ' خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْف وأَعْرِضْ عن الجاهِلِينَ ' .
العفو عند المقدرة
وقال بعض الكتاب لرئيسهِ وقد عتب عليه : ' إذا كنتَ لم تَرْضَ مني بالإساءةِ فلم رضيت من نفسك بالمكافأة ' ؟ .
وأذنب رجل من بني هاشم فقبضه المأمون ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، مَنْ حمل مثلَ دالّتي ، ولَبسَ ثَوْبَ حرمتي ، غُفِرَ له مثلُ زَلَّتي ، قال : صدَقْتَ وعفا عنه .
ولمّا دخل بعضُ الكتّاب على أميرٍ بعد نكبة نالَتْه فرأى من الأمير بعضَ الازْدِرَاء ، فقال له : لا يَضَعُني عندك خمولُ النَّبْوة ، وزوال الثروة ؛ فإنّ السيفَ العتيق إذا مسَّهُ كثيرُ الصدَإ أستغنى بقليل الجلاءِ حتى يعودَ حدُّه ، ويظهر فِرِنْدُهُ ؛ ولم أَصِفْ نفسي عجباً ، لكن شُكراً . وقال ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنا أشرفُ وَلد اَدم ولا فخر ' ، فجهر بالشكر ، وترك الاستِطَالة بالكبْرِ .
من أخبار المعتصم
وكان تميم بن جميل السدوسي قد أقام ، بشاطئ الفرات ، واجتمع إليه كثيرٌ من الأعراب ، فعظُم أمرُه ، وبَعُد ذكره ؛ فكتب المعتصمُ إلى مالك بن طَوْق في النهوض إليه ، فتبدَّد جمعُه ، وظفر به فحمَلهُ مُوثَقاً إلى باب المعتصم ، فقال أحمد بن أبي داود : ما رأيتُ رجلاً عاين الموت ، فما هالَه ولا شغله عما كان يجِبُ عليه أن يفعلَه إلا تميم بن جميل ؛ فإنه لمّا مَثلَ بين يدي المعتصم وأحضر السيفَ والنطَعَ ، ووقف بينهما ، تأمِّله المعتصم - وكان جميلاً وَسيماً - فأَحبّ أن يعلمَ أين لسانُه من منظره ، فقال : تكلّميا تميم ، فقال : أما إذ أذِنتَ يا أمير المؤمنين ، فأنا أقولُ : الحمدُ للَّهِ ' الذي أَحْسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ وَبَدأَ خَلْقَ الإنسانِ من طينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالةٍ من ماء مَهِينٍ ' أيا أمير المؤمنين : جبر الله ، بك صَدْعَ الدَّين ، ولمَّ بك شَعَثَ المسلمين ، وأوضحَ بك سُبُل الحقّ ، وأخمدَ بِك شِهَابَ الباطل ؛ إن الذنوبَ تخرس الألسُن الفصيحة ، وتُعْيِي الأفئدَة الصحيحة ، ولقد عظُمَتِ الجريرة ، وانقطعَت الحجّة وساءَ الظنّ ، فلم يبق إلا عفوُك وانتقامُك ، وأَرجو أَن يكونَ أقربهما مني وأسرعهما إليَّ أشبههما بك ، وأولاهما بكرمك ، ثم قال : الطويل :
أرى الموتَ بين السيفِ وَالنطْع كامناً . . . يُلاحظني من حيثما أتلفَّتُ
وأكبَرُ ظني أنكَ اليومَ قاتِلي . . . وأَيُّ امرئ ممّا قضَى الله يفلت
وأي امرئ يأتي بعُذْرٍ وحُجّةٍ . . . وسيفُ المنايا بين عينيه مُصْلَتُ
وما جزَعِي مِنْ أن أموتَ وإنني . . . لأعلمُ أنَّ الموتَ شيءٌ موقَّتُ
ولكنّ خَلْفي صبْيةً قد تركتهم . . . وأكبادُهم من حَسْرةٍ تتفتَّتُ
فإنْ عشتُ عاشوا سالمين بغِبطةٍ . . . أذُودُ الرَّدَى عنهم وإن متُّ مَوَّتُوا
وكم قائلِ لا يبعد الله دارَهُ . . . وآخر جَذْلانٌ يسرُّ ويشمتُ
فتبسَّم المعتصم وقال : يا جميل ، قد وهبتُك للصَّبية ، وغفرت لك الصّبْوَة ، ثم أمر بفكّ قيودِه ، وخلع عليه ، وعقد له على شاطئ الفُرات .
وكتب المعتصمُ - حين صارت إليه الخلافةُ - إلى عبد الله بن طاهر : عافانا الله وإياك ، قد كانت في قلبي منك هَنَاتٌ غفرها الاقتِدار ، وبقيَتْ حزازات أَخافُ منها عليك عند نظري إليك ؛ فإن أتاك ألْفُ كتابٍ أستقدمك فيهِ فلا تقْدم ، وحَسْبُك معرفةً بما أنا مُنْطَوٍ لكَ عليه إطْلاَعِي إياك على ما في ضميري منك ، والسلام . قال العباس بن المأمون : ولما أَفضَتِ الخلافةُ إلى المعتصم دخلتُ ، فقال : هذا مجلسٌ كنتَ أكْرَهَ الناسِ لجلوسي فيه ، فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، أنتَ تعفُو عما تيقنته ، فكيف تعاقب على ما توهّمته ؟ فقال : لو أردت عقابَك لتركت عتابك .
وكان المعتصم شَهْماً ، شجاعاً ، عاقلاً ، مفوَّهاً ، ولم يكن في خلفاء ، بني العباسأميّ غيره ، وقيل : بل كان يكتبُ خطّاً ضعيفاً ، وكان سبب ذلك أنه رأى جنازة لبعضِ الخدَم ، فقال : ليتني مثله لأتخلّص من الكُتّاب فقال الرشيد : والله لا عذبتك بشيء تختارُ عليه الموتَ .
قال أبو القاسم الزجاجي : وهذا شيء يُحْكَى من غير رِواية صحيحة ، إلا أن جملته أنه كان ضعيفَ البَصر بالعربية .
وقرأ أحمد بن عمار المذري - وكان يتقلد العَرْضَ عليه في الحضرة - كتاباً فيه : ومطرنا مطراً كثُر عنه الكَلأ ' فقال له المعتصم : ما الكَلأ ؟ فقال : لا أدري . فقال : إنا لله وإنّا إليه راجعون خليفة أمي وكاتبٌ أُمي ثم قال : مَن يقرب منا من كتاب الدار ؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات ، وكان يتوَلَى قَهْرَمَةَ الدار ، ويُشْرِفُ على المطبخ ، فأحضره ، فقال : ما الكَلأ ؟ فقال : النبات كله رطبُه ويابسه ؛ فالرطب منه خاصة يقال له خلاً ، ومنه سمّيت المخلاَة ، واليابس يقال له حشيش ؛ ثم اندفع في صفاتِ النباتِ من لى ابتدائه إلى اكتماله إلى هَيْجِه ، فاستحسنَ ذلك المعتصم ، وولاّهُ العَرْض من ذلك اليوم ، فلم يزَلْ وزيراً مدة خلافتهِ وخلافةِ الواثق ، حتى نكبه المتوكل بحقودٍ حَقَدَها عليه أيام أخيه الواثق ؟ .
وقال الرياشي : كتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتهدَّده فيه ، فأمر بجوابه ، فلما قُرئ عليه لم يَرْضَ ما فيه ، وقال لبعض الكتاب : اكْتب : أمّا بعدُ ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت خطابَك ، والجوابُ ما ترى ، لا ما تسمع ، وسيعلمُ الكافرُ لمن عُقْبَى الدار .
وهذا نظيرُ قول قَطَري للحجاج ، وقد كتب إليه كتاباً يتهدَّده ، فأجابه قطري : أما بعد ، فالحمدُ للهِ الذي لو شاء لجمع شخصَينَا ؛ فعلمت أن مُثاقَفة الرجال أَقوم من تَسْطير المقَال ، والسلام .بين المهلب والحجاج
ولما افتتح المهلبُ خراسان ، ونَفَى الخوارج عنها ، وتفرّقت الأزارقة ، كتب الحجاجُ إليه أن اكتب لي بخبر الوقيعة ، واشرح لي القصةَ حتى كأني شاهِدُها ، فبعث إليه المهلبُ كعب بن معدان الأشعريَّ ، فأنشده قصيدة فيها ستون بيتاً تقتصُّ خبرهم لا يخرم منه شيئاً ؛ فقال له الحجاج : أخطِيب أم شاعر ؟ قال له : كلاهما ، أَعزّ الله الأمير قال : أخبرني عن بني المهلب ، فقال له : المغيرةُ سيدهم ، وكفاك بيزيد فارساً ، وما لقي الأبطال مثل حبيب ، وما يستحي شجاع أن يفرّ من مُدْرِك ، وعبد الملك موتٌ ذُعَاف وسم ناقع ، وحسبك بالمفضّل في النّجْدَةِ ، واسْتَجْهِزْ قبيصة ، ومحمد ليث غاب ، فقال الحجاج : ما أراك فضلت عليهم واحداً منهم ؛ فأخبِرْني عن جملتهم ومن أفضلهم ؟ فقال : هم - أَعزَّ الله الأميرَ - كالحَلْقة المفرَغَة لا يُدْرَى أين طرفها ، قال : إنّ خبرَ حَرْبِكم كان يبلغني عظيماً ، أفكذلك كان ؟ قال : نعم أيها الأمير ، والسماع دون العِيان . قال : أخبرني كيف رِضَا المهلَّبِ عن جنده ورِضَا جنده عنه ؟ قال : أعزَ الله الأمير ، له عليهم شفقة الوالد ، ولهم به برّ الولد . قال : أخبرني كيف فاتكم قَطَري ؟ قال : كِدْنَاه في منزله فتحوّل عنه ، وتوهّم أنه كادنا بذلك ، قال : فهلا اتبعتموه ؟ قال : الكلب إذا أُجحر عَقَرَ ، قال : المهلبُ كان أَعلمَ بك حيث أَرسلك . وقد رُوِي أنَّ المهلبَ لمَا فرغ من قَتْل عبد ربه الْحَروري دعا بشرَ بن مالك فأنْفذه بالبشارة إلى الحجاج ، فلمّا دخل إلى الحجاج قال : ما اسْمُك . قال : بِشر بن مالك ، فقال الحجّاج : بشارة وملك وكيف خلفتَ المهلب ؟ قال : خلفته وقد أَمن ما خاف ، وأَدرك ما طَلبَ ؛ قال : كيف كانت حالُكم مع عدوكم ؟ قال : كانت البداءة لهم ، والعاقِبَةُ لنا ، قال الحجاج : العاقبة للمتقين ، ثم قال : فما حالُ الجند ؟ قال : وسعَهم الحق ، وأغناهم النَفَل ، وإنهم لمع رجل يسوسهم سياسة الملوك ، ويقاتِلُ بهم قتالَ الصعلوك ، فلهم منْه برُّ الوالد ، وله منهم طاعة الولد ، قال : فما حال ولد المهلب ؟ قال : رعاةُ البَيَاتِ حتى يؤمنوه ، وحُماةُ السرْحِ حتى يردوه ، قال : فأيهم أفضل ؟ قال : ذلك إلى أبيهم ، قال : وأَنت أيضاً ، فإني أرى لك لساناً وعبارة ، قال : هم كالحلْقة المفرغة لا يُدْرى أين طرفها ، قال : ويحك أكنت أعددت لهذا المقامِ هذا المقال ؟ قال : لا يعلم الغيبَ إلا اللهُ .بين أبي الصقر وصاعد بن مخلد
ودخل أبو الصقر قَبْلَ وزارته على صاعِد بن مخلد ، وهم الوَزير حينئذ ، وفي المجلس أبو العباس بن ثَوَابةَ ، فسأل الوزيرُ عن رجل ، فقال : أنفي ؟ يريد نفي ؟ فقال ابن ثوابة : في الخَرْءِ ، فتضاحك به أهل المجلس ، فقام أبو الصقر مُغضَباً .
بين أبي العيناء وابن ثوابة
وكان أبو العيناء يُعَادِي ابنَ ثوابة لمُعَاداتِه لأبي صقر ؛ فاجتمعا في مجلس صاعد في غدِ ذلك اليوم ، فتلاحَيَا ، فقال ابنُ ثوابة : أما تعرفني ؟ فقال : بلى أعرفك ضيق الطعن ، كثيرَ الوَسَن ، خارّاً على الذقَن ، وقد بلغني تعدّيك على أبي الصقر ، وإنما حَلم عنك ؛ لأنه لم يَجِدْ لك عزّاً فبذلّه ، ولا عُلوّاً فيضَعه ، ولا مَجْداً فيهدمه ؛ فعافَ لحمَك أن يأكلَه ، ودمَك أن يسفكَه ، فقال ابنُ ثوابة : ما تسابّ إنسانانِ إلا غلب أَلأَمهما ، فقال أبو العيناءِ : فلهذا غلبتَ بالأمس أبا الصقر .
مكارم أبي الصقر
ومما يُعَدُّ من مكارم أبي الصقر أن ابنَ ثَوابة دخل عليه في وزارتِه ، فقال : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنَّا لخاطئين ، فقال أبو الصقر : لا تَثريبَ عليك ، يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين ، فما قَصَّرَ في الإحسانِ إليه ، والإنعام عليه ، مدة وزارته .
بين أبي الصقر وأبي العيناء
ولمّا ولي أبو الصقر الوِزارة خيّر أبا العيناء فيما يحبّه حتى يفعلَه به ، فقال : أُريد أن يكتبَ لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرِّفُه مكاني ، ويلزمُه قضاءَ حق مثلي .
فكتب إليه كتاباً بخطّه ، فوصَّله إلى الطائي ، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار ، وعاشره أجمل عشرة ، فانصرف بجميع ما يحبّه .
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً مضمنه : أنا - أعزَّك الله - طليقُك من الفقر ، ونقيذك من البؤس ، أخذْتَ بيدي عند عَثْرةِ الدهر ، وكَبْوَةِ الكِبَرِ وعلى أية حالٍ حين فقدت الأولياءَ والأشكال والإخوان والأمثال ، الذين يفهمون في غيرِ تَعب ، وهم الناسُ الذين كانوا غياثاًللناس ، فحللت عقدة الخَلّة ، ورَدَدْتَ إليّ بعد النفور النعمة ، وكتبت لي كتاباً إلى الطائي ، فكأنما كان منه إليك ، أتيتهُ وقد استصعبَتْ عليَّ الأمور ، وأَحاطَتْ بي النوائب ؛ فكَثر من بِشْرِه ؟ وبذَل من يُسرِه ، وأعطى من ماله أكرمَه ، ومن برّه أحكَمه ، مُكْرِماً لي مدةَ ما أقمت ، ومثْقِلاً لي من فوائده لما ودَّعت ، حكمني في ماله فتحكّمتُ ، وأنتَ تعرفُ جَوريِ إذا تمكّنتُ ، وزادني من طَوْله فشكَرْتُ ؛ فأحسن الله جزاءك ، وأَعظم حباءك ، وقدّمني أمامك ، وأعاذني من فَقْدِك وحمامِك ؛ فقد أنفقتَ عليّ مما مملكك الله ، وأنفقتُ من الشكر ما يسَّره الله لي ، واللَّهُ عزَ وجلَّ يقول : ' ليُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ ' فالحمدُ للَّه الذي جعل لكَ اليدَ الغالبة ، والرتبة الشريفة ، لا أَزال الله عن هذه الأمة ما بَسَطَ فيها من عَدْلِك ، وبثَّ فيها من رِفْدِكَ .
بين أبي العيناء وأحمد بن الخصيب
قطعة مختارة من نسخة الكتاب الذي عمله أبو العيناء في ذمّ أحمد بن الخصيب لَمَّا نكِب على ألسنةِ الكتّاب والقوّاد وأَرباب الدولة في ذلك الوقت . قال : ذكره محمد بن عبد الله بن طاهر فقال : ما زال يَخرق ولا يرقَع ، وما زِلْتُ أتوقع له الذي وَقع فيه . وذكره أتامش ، فقال : غدر بمن آثره ، وتخطّى إلى ما لا يقدرهُ ، فحل به ما يحذره . وذكره بُغَاءُ فقال : أبطَرَتْه النعمة ، ففجأته النقمة ، . وذكره وصيف فقال : تَرك العقلاء على يَأْسِ مرتبته ، والحمْقَى على رجاء درجته وذكره موسى بنُ بغاء فقال : لولا أن القَدَر يعشي البَصَر ، لما نَهَى فينا ولا أَمر . وذكره فارسُ بن بغاء فقال : لم تممّ له نِعْمَة ؛ لأنه لم تكُنْ له في الخير همَّة . وذكره الفضل بن العباس فقال : إن لم يكنْ تاريخ البلاء فما أعظم البلوى . وذكره هارون بن عيسى فقال : كانت دولة من دُوَلِ المجانين ، خرجَتْ من الدنيا والدّين . وذكره المعَلَّى بن أيوب ، فقيل له : ما أعجَب ما نكبَ ، فقال : نعمتهُ أَعجبُ من نكْبته وذكره ميمون بن إبراهيم ، فقال : لو تأمَّل فعاله فاجتنَبها ، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها وذكره محمد بن نجاح فقال : لئن كانت النعمةُ عظمَتْ على قوم خرجَ عنهم لقد عَظُمَت المصيبة على قومٍ نزل فيهم وذكره علي بن يحيى بن المنجم ، فقال : لم يكن له أوَّل يَرْجِعُ إليه ، ولا آخر يعود عليه ، ولا عقل فيزكو لديه وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم فقال : قبّحه الله إن ذكرتَ ذَا فَضْل تنقّصه لما فيه من ضِدّه ، أو ذكرت ذَا نَقْص تولآه لما فيه من شكله . وذكره ابنُ ثَوَابة فقال : امرؤ أساءَ عِشْرَة الأحرار ، فأصبح مَقفِر الديار . وذكره حجاج بن هارُون فقال : ما كان له في الشرف أسبابٌ مِتَان ، ولا في الخيرعادات حِسان . وذكره أحمد بن حمدون فقال : إن منحته القدرة لقد حملته النكبة . وذكره محمد بن الفضل فقال : ما زال يستوحِشُ بالنعمة حتى أَنس بالنقمة وذكره عبد الله بن فراس فقال : كنت إذا نصحتهُ زنّاني ، وإذا غششته منّاني . وذكره أبو صالح بن عمار فقال : لئن علا بحظ لقد انحطّ بحق . وذكره سعيد بن حميد فقال : إذا أصاب أحجم ، وإذا أخطأ صمم .
أخبار أبي بكر المعروف بسيبويه
وكان في هذا العصر بمصر أبو بكر المعروف بسيبويه ناقلة البصرة يُشْبِهه في حضورِ جوابِه وخطابِه ، وحُسْن عبارته ، وكَثْرَة رِوَايته ، وكان قد تناول البلاذُر ؛ فعرضت له منه لوثة ، وكان أكثرُ الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول .
قال يوماً للمصريين : يا أهل مصر ، أصحابنا البغدادِيون أحزَمُ منكم ، لا يقولون بالولد ، حتى يتَّخِذوا له العُقَد والعُدَد ؛ فهم أبداً يعتزلون . ولا يقولون باتخاذ العَقَار خوفاً أن يملِكَهم سوءُ الجوار ؛ فهم أبداً يكنزون . ولا يقولون باتخاذ الحرائر خوفاً أن تتوقَ نفسُهم إلى السَّرَارِي ؛ فهم أبداً يتسرَّرُون . ولا يقولون أبداً بإظهار الغنى في مكان عُرفوا بالفقر ؛ فهم أبداً يسافرون .
ووقف يوماً بالجامع وقد أخذت الخلق مأخَذَها ، فقال : يا أهل مصر ، حيطانُ مقابر أنفعُ منكم ، يُستَنْزَهُ بها من التعب ، ويُسْتَدْفَأُ بها من الريح ، ويُسْتَظَلُّ بها من الشمس . والبهائم خيرٌ منكم تُمْتَطى ظهورُها ، وتُحْتذى جلودها ، وتؤكل لحومُها .
وكان أبو الفضل بن خنزابَه الوزير ، ربّما رفع أنفَه ييهاً ، فقال له سيبويه ، وقد رآه فعل ذلك : أشمَّ مني الوزيرُ رائحةً كريهة فشمر أنفَه ، فأطرق وإستعمل النهوض ، فخرج سيبويه ، فقال له الرجل : من أينَ أقبلت ؟ فقال : من عند الزَاهِي بنفسه ، المدلّ بفرسه ، المستطيل على أبناء جِنْسه .
واستأذن على مسلم بن عبيد الله العلوي ، ومسلم من أهل الحجاز نزل مصر ، فحجب عنه ، فقال : قولوا له : يرجع إلى لبس العباء ، ومَصِّ النوى ، وسُكْنى الفَلا ، فهو أشبَهُ به من نعيم الدنيا .
وكان على شرطِ كافور الإخشيدي أحدُ الخاصَّةِ ؛ فوجد عليه سيبويه في بعضالأمرِ ، فعزل عن الشرطة ، فوليها رَكى صاحب الراضي ، فلم يحمده أيضاً ، فوقف لكافور وهو مارّ إلى الصلاة يوم الجمعة ، فقال : أيها الأستاذ ، ولَيت ظالماً ، وعزلْتَ ظالماً ، قليل الوفاء ، كثير الجفاء ، غليظ القَفا . فتبسّم ابن بُرك البغدادي ، وكان يسايرُ كافوراً ، فقال : وهذا ابن برك ممن يغرّك ، لن ينفعك ولن يضرَّك . وأخلئ الحمام لمفلح الحسيني ، فأتى سيبويه ليدخلَ ، فمُنِع ، وقيل : الأمير مفلحٌ به ، فقال : لا أنقى الله مغسولَه ، ولا بلّغه سُولَه ، ولا وقّاه من العذاب مَهُولُه ، وجلس حتى خرج ، فقال : إن الحمام لا يُخلى إلاَّ لأحدِ ثلاثة : مبتلًى في قُبله ، أو مبتلًى في دُبره ، أو سلطان يخافُ من شرِّه ، فأي الثلاثة أنت . قال : أنا المقدَّم .
وأحضره أبو بكر بن عبد اللّه الخازن فقال : قد بلغني بَذَاءُ لسانِك ، وقبيحُ معامَلتك للأشراف ، فاحذَرْ أن تعودَ فينالَكَ مني أشدُّ العقوبة ؛ فخرج متحزناً ، فكان الولدان يتولّعون به ويذكرون له الخازِنَ ، فيشتدّ عليه ذلك ، فينصرف ولا يكلّمهم ؛ فمرّ به رجل يكنى أبا بكر من ولد عقبة بن أبي مُعَيْطٍ ، وغلامٌ قد ألحَّ عليه بذلك ، فضحك المعيطي ، فقال للغلام : ضرب الله عنق الخازن كما ضرب النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، عنق عقبة بن أبي معيط على الكُفْر ، وضرب ظَهْرَ أبيك بالسوط كما ضرب عليّ بن أبي طالب بأمر عثمان ، رضي الله عنهما ، ظهر الوَليد بن عقبة على شُرْب الخمر ، وألحقك يا صبيّ بالصِّبْيَة ، يريد قولَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد قال له عقبة لمَا أمر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، علياً ، رضي الله عنه ، بقَتْلِه : ' فمَنْ للصِّبية يا رسول الله ؟ ' قال : ' النارُ لك ولهم ' ، فانصرف المعيطي وبَطْنُ الأرضِ أحبُّ إليه من ظَهْرِها .
رَجْع إلى أبي العيناء
وقال أبو العيناء : أنا أولُ من أظهر العقوقَ لوالديه بالبَصرة ، قال لي أبي : إنَ اللَّهَ قد قَرَن طاعتَه بطاعتي ، فقال تعالى : ' أَنِ اشْكُرْ لي ولوالديك ' فقلتُ : يا أبت ، إن الله تعالى قد أمِنني عليك ولم يأمنك عليّ ، فقال تعالى : ' ولا تَقْتُلُوا أَولادَكُمْ خَشْيَةَ إِملاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيّاكُم ' .وقال أعرابي لأبيه : يا أبت ، إن كبيرَ حقّك لا يبطل صغير حفِّي عليك ، والذي تَمُتّ به إليّ أمتّ بمثله إليك ، ولست أزعُمُ أنا سواء ، ولكن لا يحلّ لك الاعتداءُ .
ودخل على عبيد الله بن سليمان فضمّه إليه ، فقال : أنا إلى ضمّ الكفاية أحوجُ مني إلى ضَمّ اليدَيْن .
وقال له مرة : أنا معك مقبوض الظاهر ، مرحوم الباطنِ .
قال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
ماذا لَقيتُ من الدنيا وأَعْجَبها . . . أني بما أَنا باكٍ منه محسودُ
وقال له رجل : يا مخنَّثُ ، فقال : ' وضَرَبَ لنا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ ' .
وذكر أبو العيناء محمد بن يحيى بن خالد بن برمك ، فقال : بأبي وأمي دَامَ الوَجْهُ الطلْقَ ، والقول الحقّ ، والوعد الصّدق ، نيّته أفضلُ من علانيته ، وفعلُه أفضل من قوله . وقال له المتوكل : ما أشدّ ما مرّ عليك من فَقْدِ بصرك ؟ فقال : ما حُرِمْتُ منه من النظر إليك أيها الأمير وقال لعبيد الله بن يحيى : مسَّنا وأهلنا الضرّ ، وبضاعتُنا الحمدُ والشكر ، وأنت الذي لا يخيب عنده حرّ . وقال له يوماً : قد اشتدَّ الحجاب ، وفحش الحرمان ، فقال : ارفق يا أبا عبد الله ، فقال : لو رفق بي فعلُك لرفق بك قولي وقال له : أيها الوزير ، إذا تغافل اهلُ التفضّل هلك أهل التجمّل . وذم رجلاً فقال : لا يعرفُ الحقَّ فينصره ، ولا الباطلَ فيُنكِره . وقيل له : ما أَبلغ الكلام ؟ فقال : ما أسكَت المُبْطِل ، وحَيّر المحق . وقيل له : مات الحسن بن سهل ، فقال : واللّه لئن أتعب المادِحينَ ، لقد أطال بكاء الباكين ، واللّه لقد أصِيب بموتِه الأنام ، وخرست بفقده الأقلام .
باب الرثاء
قال أشجع بن عمرو السُّلمي : الطويل :
مضى ابنُ سعيدٍ حين لم يَبْقَ مَشْرِق . . . ولا مغربٌ إلاَّ له فيه مادِحُوما كنتُ أَدْرِي ما فواضل كفّه . . . على الناس حتى غيّبَتْه الصفائحُ
فأصبح في لَحدٍ من الأرض ميّتاً . . . وكانت بِه حياً تضيق الصحاصِحُ
كأن لم يمت ميتٌ سواك ولم تَقمْ . . . على أحدٍ إلا عليك النوائحُ
فما أنا من رُزءٍ وإن جَلَّ جازع . . . ولا بسرورٍ بعدَ موتِكَ فَارحُ
لئن حَسُنَتْ فيك المراثي وذكرُها . . . لقد حسُنَتْ من قَبْلُ فيك المدائحُ
سأَبكيك ما فاضَت دموعي ، فإن تَغِض . . . فحسبُك مني ما تُكِنُّ الجوانِحُ قوله : وكانت به حيّاً تَضيقُ الصحاصِحُ يتعلق بقول الحسين بن مطير في مَعْن بن زائدة : الطويل :
أَلِمَّا على مَعْنٍ وقُولا لقبرِهِ : . . . سقَتْكَ الغوادِي مَرْبعاً ثم مَرْبعَا
فيا قبرَ معنٍ أنت أولُ حُفْرَةٍ . . . من الأرض خُطَّتْ للسماحة مَضْجَعا
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف واريتَ جودَهُ . . . وقد كان منه البَرُّ والبحرُ مُتْرَعَا ؟
بلَى قد وَسِعْتَ الجودَ والجُودُ مَيتٌ . . . ولو كان حيّاً ضِقْتَ حتى تَصَدَّعا
فتى عِيشَ في مَعْرُوفه بعد موتِه . . . كما كان بعد السيل مَجْرَاه مَرْتَعَا
ولمّا مضَى مَعْنٌ مضى الجودُ وانقضى . . . وأصبح عِرنِينُ المكارم أجْدَعا
وهذا كقول عبد الصَّمد بن المعذل عمرو بن سعيد بن سَلم الباهلي : الوافر :
أقبرُ أبي أميةَ لو عُلاهُ . . . حملْتَ إذاً لضقْتَ به ذراعا
حويتَ الجودَ والتقوى وعمراً . . . فكيف أطَقْت يا قبرُ اضطلاعا ؟
لموتهمُ أطَقْت لهم ضماناً . . . ولولا ذَاك لم تُطِقِ اتّساعاوقول أشجع : لئن حسنت فيك المراثي وذكْرها من قول الخنساء : الكامل :
يا صَخرُ ، بعدَك هاجَني استعباري . . . شانِيكَ باتَ بذلتي وصَغاري
كنّا نعد لك المدائحَ مدّةً . . . فاليوم صرتَ تنَاحُ بالأشعارِ
وقالت جَنُوبُ أخت عمرو ذي الكلب : المتقارب :
سألتُ بعمرٍو أخي صَحْبَهُ . . . فأفْظَعَنِي حين ردُّوا السؤَالا
فقالوا : أُتيحَ له نائماً . . . أغرُّ السلاح عليه أجَالا
أُتيحَ له نَمِرَا أجْبُلٍ . . . فنالا لعمرك عنه ونَالا
فأقسمُ يا عمرُو لو نبَّهَاكَ . . . إذاً نبَّهَا منك داءً عُضَالا
إذاً نبَّها لَيْثَ عِرِّيسةٍ . . . مُبيداً مُفتياً نُفُوساً ومالا
إذاً نبَّها غيرَ رِعيدةٍ . . . ولا طائشاً دهشاً حين صَالا
هما معْ تصرف ريْبِ المنون . . . من الدهر ركناً شديداً أَمالا
وقالوا : قتلْناهُ في غارةٍ . . . بآية أنْ قد ورثنا النَّبالا
فهلاّ إذاً قبلَ ريب المنون . . . فقد كان فذّاً وكنتم رجَالا
وقد علمَتْ فَهْم عند اللقاء . . . بأنهمُ لك كانوا نِفالا
كأنهمُ لم يحسّوا بهِ . . . فيخلوا نساءهمْ والحِجَالا
ولم ينزلوا بمحولِ السنين . . . به فيكونوا عليه عِيالا
وقد علم الضيفُ والمُرْملونَ . . . إذا اغبَرَّ أُفقٌ وهبَّت شمالا
وخلَّتْ عَنَ أولادِها المرضعاتُ . . . ولم تَرَ عينٌ لمزنٍ بلالا
بأنَّكَ كنتَ الربيع المغيثَ . . . لمن يَعْتَفيك وكنت الثّمَالا
وخَرْقٍ تجاوزتَ مجهولَهُ . . . بوَجْنَاء حَرْفٍ تشكي الكَلاَلا
فكنت النهارَ به شمسَه . . . وكنتَ دجَى الليل فيه هلالا
وحيّ صبحت وحيّ أبحْتَ . . . غداة اللقاء منايا عِجالاوكم من قبيل وإن لم تكن . . . أرَدْتَهُمُ منك باتوا وجالا
قال عمرو بن شبة : وكان عمرو بن عاصم هذا يَغْزُو فَهْماً فيصيب منهم ، فوضعوا له رصَداً على الماء ، فأخذوه فقتلوه ، ثم مرُّوا بأخته جَنُوبَ ، فقالوا : أخاكِ ؛ فقالت : لئن طلبتموه لتجدُنّه منيعاً ، ولئن ضفتموه لتجدُنَّه مريعاً ، ولئن وعدتموه لتجدنه سريعاً فقالوا : قد أخذناه فقتلْناه ، وهذا نبله . فقالت : والله لئن سلبتموه لا تجدون ثَلَّتَه وافية ، ولا حجرته جافية ، ولربّ ثدي منكم قد افترشه ، ونهب قد احتوَشَه ؛ ثم قالت الأبياتَ المتقدمة الذكر .
وأنشد أبو حاتم ولم يقل قائله : الطويل :
ألا في سبيل الله ماذا تضمَّنت . . . بطونُ الثرى واستُودعَ البلَدُ القَفْرُ
بدورٌ إذا الدنيا دَجَتْ أشرقَتْ بهم . . . وإن أجدبَتْ يوماً فأيديهمُ القَطْرُ فيا شامتاً بالموت لا تشمتنْ بهم . . . حياتُهُمُ فخرٌ وموتهُمُ ذكْرُ
أقاموا بظَهْرِ الأرض فاخضرَّ عودُها . . . وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الظَّهْرُ
وقال أبو عبد الله العتبي ، وتوفي له بنون فُجِع بهم ومات في آخرهم ابنٌ له يكنى أبا عَمْرو كان يقول الشعر ؛ فقال يرثيه : الطويل :
لقد شمت الواشون بي وتغيرتْ . . . وجومٌ أراها بعد موت أبي عَمْرو
تجرّى عَلَيَّ الدهرُ لما فقدته . . . ولو كَان حيَّاً لاجترأتُ على الدهرِ
أسكان بطن الأرض لو يُقبَلُ الفِدَى . . . فدينا ، وأَعطينا بكم ساكني الظهْر
فيا ليت مَنْ فيها عليها ، وليتَ من . . . عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْرِ
وقاسمني دَهري بنيّ مُشَاطراً . . . فلما توفَّى شطره مال في شَطْرِي
فصاروا كأن لم يعرفِ الموت غيرهم . . . فثكلٌ على ثكل وقبرٌ على قَبْرِ
وقاد في ابن توفي صغيراً : مجزوء الرمل :
إنْ يكُنْ ماتَ صغيراً . . . فالأَسَى غَيْرُ صغيرِ
كانَ رَيْحَانِي فأَمسى . . . وهو رَيحَانُ القبُورِ
غَرَسَته فِي بساتي . . . ن البلى أَيْدِي الدهورِومن هنا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : الطويل :
فإن تَكُ في قبر فإنك في الحشا . . . وإن تَكُ طِفَلاً فالأسَى ليس بالطفْلِ
وقال خلف بن خليفة الأقطع : الطويل :
أعَاتِبُ نفسي إن تبسَّمْتُ خَالِياً . . . وقد يَضحَكُ الموتورُ وَهْوَ حَزِينُ
وبالبذِّ أشجاني وكم من شَجٍ لهُ . . . دُوَين المصلّى والبقيعِ ، شجُونُ
رُبًى حولها أمثالُها إن أتيتها . . . قَريْنَك أشجاناً وهنّ سُكونُ
كَفى الهجر أنّا لم يَضِح لكَ أمرُنا . . . ولم يأتنا عمَّا لديك يَقين
وقال أبو عطاء السِّندي في ابن هبيرة : الطويل :
ألاَ إنَّ عيناً لم تجُدْ يوم واسطٍ . . . عليك بباقي دَمْعها لجَمُودُ
عشيةَ قام النائحاتُ وشُقَّقت . . . جيوبٌ بأبدىَ مأتَمٍ وخدودُ
فإن تُمْسِ مهجُورَ الفِنَا فربما . . . أقام به بعد الوفُودِ وفُودُ
فإنك لم تَبْعَدْ عَلى متعهِّدٍ . . . بلى كلُّ ما تحت الترابِ بعيدُ
أعرابي : الطويل :
ومن عجب أن بتَّ مستودع الثَّرَى . . . وبثُّ بما زوّدْتني متمتّعا
فلو أنني أنصفْتُك الودَّ لم أبِتْ . . . خلافك حتى نَنْطَوي في الثرى معا
سأحمي الكرى عيني وأفترش الثرى . . . يميني إذا صار الثرى لك مضجعا
وبعدك لا آسَى لعظم رزيَّةٍ . . . قَضَيْتَ فهوّنْت المصائب أجمعا
ومعنى هذا البيت الأخير تداوله الناس نظماً ونثراً .
قال أبو نواس في الأمين : الطويل :
طوَى الموتُ ما بيني وبين محمدٍ . . . وليسَ لما تَطْوِي المنيّةُ ناشِرُ
لئن عَمِرَتْ دُورٌ بمن لا أحبهُ . . . لقد عمرتْ ممن أُحِبُّ المقابِرُ
وكنتُ عليه أحْذَرُ الموتَ وحدَه . . . فلم يَبْقَ لي شيء عليه أُحاذِر
وقيل لأمّ الهيثم السدوسية : ما أسرع ما سلوت عن ابنك الهيثم قالت : أما والله لقدرُزِئته كالبدرِ في بهائه ، والرمْحِ في استوائه ، والسيفِ في مَضَائه ؛ ولقد فتّتَتْ مصيبتهُ كبدي ، وأفنى فَقْدُه جلدي ، وما اعتَضْتُ من بعده إلا أَمْنَ المصائب لفقدِه .
وعزَّى أبو العيناء أحمد بن أبي دُواد عن ولدٍ له ، فقال : ما أصيب من أثيب ، والله لقد هان لفقده ، جليل المصائب من بعدِه .
ودخل أعرابي من بادية البصرة إلى الشام ومعه بنون ، فلمّا كان بقنَّسْرِينَ مات بنوه بالطاعون فقال : الطويل :
أبعْدَ ، بَنيَّ ، الدهرَ أرجُو غَضارَةً . . . من العيش أو آسى لما فات من عُمْري ؟
غطارِفَةٌ زُهرٌ مضَوْا لسبيلهم . . . فلهفي على تلك الغَطَارِفة الزُّهْر
سقى الله أجساداً ورائي تركْتُها . . . بحاضر قنّسرين من صيِّب القَطْر يُذكّرنيهم كل خير رأيتُهُ . . . وشرٍّ ، فما أَنفكُّ منهم على ذكْرِ
هذا البيت كقول الآخر : الطويل :
رعاكِ ضمانُ الله يا أُمَّ مالك . . . ولله أن يرعاك أولَى وأَوسَعُ
يذكّرنيك الخير والشرُّ والذي . . . أخاف وأرجو والذي أتوقّعُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وإني وإسماعيل يوم ودَاعِه . . . لكالغِمْدِ يوم الرَّوع فارقَه النَصلُ
أما والحبالات الممرَّات بيننا . . . رسائل أدَّتها المودّةُ والوصلُ
لما خنتُ عهداً من إخاءٍ ولا نأى . . . بذكراك نأيٌ عن ضميري ولا شغلُ
وإنيَ في مالي وأهلي كأنني . . . لفقدك لا مالٌ لديّ ولا أهلُ
يذكّرنيك الخيرُ والشرُّ والحِجَا . . . وقيلُ الخنى والحِلْمُ والعِلْمُ والجهلُ
فألقاك عن مذمومها متنزهاً . . . وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمَدُ من إخلافِك البخلَ إنهُ . . . بعِرْضك لا بالمال حاشَا لك البخْلُ
أمنتجعاً مَرْواً بأثقال همّةٍ . . . دع الثِّقلَ واحْمِلْ حاجةً ما لها ثِقْلُ
ثناءً كَعُرْف الطيب يهدي لأهله . . . وليس له إلاَّ بني برمك أهلُ
فإن أغْشَ قوماً بعدهم أو أزورهم . . . فكالوحش يُدْنِيها مِنَ القَنص المحْلومن ألفاظ أهل العصر في التعازي وما يتعلّق بمعانيها
من ذكر البكاء والجزع وعظم المصائب : خَبرٌ عزَّ على النفوسِ مَسْمَعه ، وأثّر في القلوب مَوْقِعُه . خَبَر تصطكُّ له المسامعُ ، وترتجُّ به الأضالع ، وتسقط له الحبالى ، وتَصْحو منه السكارى . خبرٌ كادت له القلوبُ تطيرُ ، والعقول تَطيشُ ، والنفوس تَطيح . خبر يخفض البصر ويقذيه ، ويَقْبِض الأملَ ويقدح فيه . الخبر في اثناءِ الرجاءَ قد انقطع ؛ وأصمَّ به الناعي وقد أَسمع . ناعي الفضائل قائم ، وأنفُ المحاسنِ رَاغم . خبرٌ أحْرج الصَدْرَ ، وأحل البكاء ، وحَرَّم الصبر ، وأَطار واقع السكون ، وأثار كامِنَ الوجوم ، وثقلت وَطْأَته على أجزاء النفس ، وتأدت معرته إلى سرِّ القلب . كتبتُ والأرضُ واجِفةٌ ، والشمسُ كاسفةٌ ، للرزء العظيم ، والمُصَاب الجسيم ، في فلك الملك ، ورُكْنِ المجد ، وقريع الشَرق والغرب ، وما عسى أن يُقَال في الفلك الأعلى إذا انْهَار من جوانبه ، وتهافَتَ على مناكِبه . أتى الناعي ، فندب المساعي ، وقامت بواكي المجد ، وكسفت شمسُ الفَضْل ، وعاد النهارُ أسودَ ، والعيش أَنكَد . غربَ لموته نجمُ الفَضْل ، وكسدت سوقُ الأدَب ، وقامت نوادب السماحة ، ووقف فلكُ الكَرَم ، ولطمت عليه المحاسن خدودَها ، وشقّت له المناقب جيوبَها وبُرودها ، وقد كانت الرزيَّةُ بحيث مارت السماءُ مَوْراً ، وسارت الجبالُ سيراً ، حتى شوهدت الكواكبُ ظهراً ، ثم تهافتتْ شفعاً ووتراً ، فارتاعت الأُمّة ، وانبسطت الظلمة ؟ وارتفعت الرَّحْمَةُ ، واضطربت المِلّة ، وقامت نوادبُ المجد ، وأصبح الناسُ من القيامةِ على وَعد . إنَّ المجدَ بعده لجاري الدمع ، وإنَّ الفضل لمنزعج النفس ، وإن الكرمَ لَحرِجُ الصدر ، وإن المُلْكَ لواهِنُ الظَّهْر . كتابي وأنا من الحياة متذمم ، وبالعيش مُتبرِّم ، بعدما ماد الطَوْد الشامخ ، وزال الجبل الباذخ ، ونطقت نوادِب المجد ، وأقيمت مآتم الفضل . نُعِيَ فلان فتنكر وَجْهُ الدهر ، وقبضت مُهْجَةُ الفَخْرِ ، فلا قَلْبَ إلا قد تباين صَدْعه ، ولا عين إلا وهي ترشحُ بالدَّم بعده . كتبتُ والأحشاءُ محترقة ، والأجفانُ بمائها غَرِقة ، والدمعُ وَاكِفٌ ، والحزن عاكف . مصالب أطلق أسْرابَ الدموع وفرََّقها ، وأقلق أعشارَ القلوب وأحرقها ، مصابٌ فضّ عقودَ الدموع ، وشب النارَ بين الضلوع . مصاب أذاب دموعَ الأحرار ، فتحلبت سحائب الدموعِ الغِزار ، وانسدَّتْ مسالك السكون والاستقرار . كتبتُ عن عين تَدْمَع ، وقلْبِ يجزع ، ونفس تَهْلَع ، وقد أَذْلَلْتُ مَصُون العَبرة ، وحجبتُ وافِدَ الحيرة ، ومدّ الهمُّ إلى جسمي يَدَ السقم ، وجرَّ الدمعُ على خديذيولَ الدم . لولا أن العينَ بالدمع أنطقُ من كلّ لسان وقلم ، لأخبرتُ عن بعض ما أَوْهَنَ ظَهْري ، وأَوْهى أَزْرِي . إنَّ الفجيعة إذا لم تحاربْ بجيشٍ من البكاء ، ولم يخفَّفْ من أثقالِها بالاشتكاء ، تضاعفَ دَاؤها ، وازدادَتْ أعباؤها ، وعز دَواؤها . قد شفيتُ غليلي بما اسْتَذْريْتُه من أسراب الدموع المتحيرة ، وخففْتُ عني بعض البُرَحَاء بما امترَيْتُه من أخلافها المتحدّرة . إن في إسبَال العَبرة ، وإطلاق الزَّفْرَة ، والإجهاش بالبكاء والنشيج ، وإعلانِ الصياح والضجيج ، تَنْفِيساً عن بُرَحَاءِ القلوب ، وتخفيفاً من أثقالِ الكُروبِ . قد أتى الدهرُ بما هدَّ الأصلاب ، وأطارَ الألبابَ ، من النازلة الهائلة ؛ والفجيعة الفظيعة . رُزءٌ أضعفَ العزائم القويةَ ، وأبكى العيونَ البكيَّة . مصيبة زَلْزَلتِ الأرض ، وهدَّمَت الكرم المَحْض ، وسلبت الأجفان كَرَاها ، والأبدانَ قُوَاها . فجيعةٌ لا يُدَاوِي كَلْمَها آسٍ ، ولا يسدّ ثَلْمَها تَنَاسٍ . مصيبة تركتِ العقولَ مُدَلَّهَة ، والنفوس مُولَهة . رُزءٌ هضَّ وهاضَ ، وأَطال الانخزال والانخفاض ، ولم يَرْضَ بأن فضَّ الأعضاء ، حتى أفاض الدماءَ . رزءٌ ملأَ الصدورَ ارتياعاً ، وقسم الألبابَ شَعاعاً ، وترك الجفونَ مَقروحة ، والدموع مسفوحة ، والقُوى مهدودة ، وطرق العزاءِ مسدودة . رزءٌ نكأَ القلوبَ وجرحَها ، وأَحرَّ الأكْبادَ وقرّحها ، ما لي يدٌ تخطّ إلا بكلفة ، ولا نفس تردد إلا في غصَّة ، ولا عين تنظر إلا من وراء قذَى ، ولا صدر ينطوي إلا على أذى ، فالدموعُ واكفة ، والقلوب وَاجِفة ، والهمّ وارِد ، والأنسُ شارد : الكا مل :
والناسُ مَأتمُهم عليه واحدٌ . . . في كل دارٍ رَنَّةٌ وزفيرُ كَأني كِنْدَة وهي تَلَهَّفُ على حُجْر ، والخنساء تَبْكي على صخر ، أنا بين عَبْرَةٍ وزَفْرَة ، وأَنّةٍ وحسرة ، وتملمُل واضطراب ، واشتعال والتهاب . مصيبة أصبحتُ لِغُمَّتها وقيذاً ، ولكُرْبَتها أخيذاً . كَتبتَ وقد ملك الجزَعُ عَزَائي ، وحصل ناظري في إساربكائي ، فالقلْبُ دهش ، والبنَان يرتعِش ، وأنا من البقاء متوحّش : قد انتهى بي الهلَع إلى حيث لا التأَسِّي مُصحِب ، ولا التناسي مصاحِب ، بي انزعاج يحلّ عُقَدَ الْحَزْمِ ، واكتئابٌ ينقضُ شروط العَزْم . قد بلغ الحزنُ مبلغاً لم أبتذِلْه للنوائب ، وإن جلت وَقْعاً ، ونالَت مني مَنالاً لم يعتد طرق المصائب ، وإن عظُمت فجعاً . كتبتُ عن اضطرابِ نفسٍ ، واضطرامِ صدر ، والتهاب قلب ، وانتهابِ صَبر ، فما أعظمه مفقوداً وما أكْرمه ملحوداً إني لأنوح عليه نَوْحَ المناقب ، وأَرْثِيه مع النجوم الثواقب ، وأَبْكِيه مع المعالي والمحاسن ، وأثني عليه ، بثناء المساعِي والمآثر . ليت يمينَ الزمانِ شَلَّتْ قبل أن فتكَتْ بمُهْجَة الفضل ، وعَيْنَ الزمانِ كُفَّت قبل أن رأت مَصْرَع الفخر . لقد رُزِئنا من فلان عالماً في شخص ، وأمّةً في نفس . مضى والمحاسنُ تَبْكِيه ، والمناقبُ تعزّى فيه . العيونُ لما قرّت به أسخنها فيه رَيْبُ المنون ، ولما شُرِحَتْ به الصدور قبضها بفقْده المقدور . قد ركبَ على الأعناق ، بعد العِتَاق ، وعلى الأجياد بعد الجِيادِ ، وفاح فتيتُ المسكِ من مآثره ، كما يَفُوحُ العنبرُ من مجامره . كان منزلُه مَأْلفَ الأضيافِ ، ومَأنس الأشراف ، ومُنتجَع الرَّكْب ، ومَقْصد الوَفْد ، فاستبدل بالأُنْس وَحْشة ، وبالغضارة غُبْرة ، وبالبياض ظُلْمَة ، واعتاض من تَزَاحُمِ المراكب تلاَدُمَ المآتم ، ومن ضَجِيج النداء والصهيلِ ، عجيجَ البكاء والعويل . هذي المكارمُ تبْدي شجْوَها لِفَقْدِهِ ، وتَلْبَس حِدَادَها من بَعْده ، وهني المحاسنُ قد قامَتْ نوادبُهَا مع نوادبه ، واقترنَتْ مصائبُها بمصائبه . لو قَبِلَت الفدْيَة لوقيْتُه بنفسي وأيامِ عمري ، عِلماً بأن العيشَ بمثله من إخوانِ الصفا يَصْفُو ، وبظَعْنِه عن الدنيا يكدرُ ويَعْفو . لو وُقي من الموت عزيزُ قوم لِعِزَّتِه ، أو كَبيرٌ بأولاده وأُسرته ، أو ذو سُلطان باستطالته وقُدرته ، أو زعيم دولةٍ بحَشْدِهِ وعُدَّتِه ، لكان الماضي أَحق من وُقي وأولى من فُدِيَ ، وكُنّا أقدر على دفع ما حدث ، وذَبِّ ما كَرَثَ وأَرْهَق ؛ لكنه الأمرُ المسوي فيه بين مَنْ عزَّ جانبُه وذَلَّ ، وكَثُر مالُه وقَلَّ ، حتى لحق المفضولُ بالفاضل ، والناقصُ بالكامل .
ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا : هو الدهرُ لا يُعْجَب من طوارقِه ، ولا ينكر هجوم بوائِقه . عطاؤه في ضمانِ الارتجاع ، وحِبَاؤه في قِرَان الانتزاع . من عرفَ الزمان لم يستشعِر منه الأمان ، وتصرف الحوادثِ ، بين الموروث والوارث . الدهرُ مشحون بطوارقِ الغِيَر ، مَشُوبٌ صَفْوُ أيامِه بالكَدَر ، ممزوج صَابُهبالعسل ، موصولَةٌ حبال الأمنِ فيه بأسباب الأجل . قد جعل الله الدنيا دارَ قُلْعة ، ومحلَّ نُقْلَة ، فمن راحلِ ليومه ، ومن مؤخَّر لغده ، وكلّ متشوّفٌ لأجله ، وجارِ لأمَدِهِ . ما الدنيا إلا دار النقْلة ، ولا المقام فيها إلاَّ للزحلة ، إنّ المرءَ حقيق إذا طرقه ما يتحيَّف صَبْرَه ويتطرّق صدره ، أن يعودَ إلى عِلمِه بالدنيا كيف نُصِبت على النقْلة ، وجنبَتْ طويل المهلة ، وابتدئت بالنقاد ، وشُفع كونُها بالفساد ، وأنّ الثاوِي فيها رَاحِل ، والأيام فيها مَراحل . موهوب الدنيا مسلوب وإن أرْجِئ إلى مَهَل ، وممنوحها مجذوب وإن آخر إلى أَجل . لو خلد من سَبقَ ، لما وسِعَت الأرضُ مَنْ لحق ؛ ولذلك جعلتِ الدنيا دار قُلعة ، ومحلّ نجعة : الطويل :
سُبِقْنا إلى الدنيا فلو عاش أهلُها . . . مُنِعْنا بها من جَيْئَةٍ وذُهوبِ
تملَّكها الآتي تملُكَ سالبِ . . . وفارقها الماضِي فراقَ سليبِ
وقال عتبة بن هارون : كنتُ مع فضل الرقاشي ، فمرّ بمقبرة ، فقال : يا أهلَ الديار الموحِشة ، والمحال المقْفِرة ، التي نطق بالخرابِ فِناؤها ، وشُيد بالتراب بناؤها ، ساكِنُها مُغْترِب ، ومحلّها مُقْتَرِب ، أهلُ هذِه المنازلِ متشاغلون ، لا يتواصلون تواصُلَ الإخوان ، ولا يتزاوَرُون تزاورَ الجيران ، قد طحنهم بكَلْكَلِه البِلَى ، وأكلَهم الجَنْدَل والثرَى . وقال خاقان بن صُبَيْح : لِوَحشَة الشكّ التمسنا أنْسَ اليقين ، ومن ذلّ الجهل هربنا إلى عزّ المعرفة ، ولخَوْفِ الضلالةِ لزمنا الجادَّة .
وقال بعض الحكماء : كمونُ المصائب وسكونُ النوائب وبَغتات المنايا مطويَّات في الساعات ، متحركات في الأوقات ، ورب مغتَبطٍ بساعةٍ فيها انقضاءُ أجلِه ، ومتمتع بوقت صار فيه إلى قَبْرِه ، ومنتظر ورودَ يوم فيه منيَّتهُ .
ووعظ أعرابيٌ ابناً له أفسدَ مالَه في الشراب ، فقال : لا الدهر يَعِظك ، ولا الأيام تنذرك ، والساعات تُعَدُّ عليك ، والأنفاسُ تعذ منك ، وأَحَبُّ أَمْرَيْك إليك ، أردُّهما للمضرّة لديك .
من إنشاء بديع الزمان
ومن إنشاء بديع الزمان في المقامات : حدَّثنا عيسى بن هشام قال : كنتُ في الأهواز في رُفْقة متى ما ترقَّ العينُ فيهم تسهل ، ليس منَا إلا أمرد بكْر الآمال ، بضّ الجمال ، أومختطٌّ حَسن الإقبال ، مرجو الأيام والليال ؛ فأفضنا في العِشْرَة كيف نضعُ قواعدَها ، والأخُوّة كيف نحكم مَعاقدها ، والسرور في أي وقت نتعاطاه ، والأُنْس كيف نتَهاداهُ ، وفائت الحظ كيف نتلافاه ، والشراب من أين نخلصه ، والمجلس كيف نرتبه ؟ فقال أحدنا : على البيت والمنزل ، وقال آخر : على الشراب والنقل ، وقال بعضُنا : إلى السماع والجماع ، وقمْنا نجرُّ أذيال الفسوق ، حتى انسلخْنا من السوق ، واستقبلنا رجلٌ في طِمْرين ، في يُمْنَاه عُكَازَة ، وعلى كتفه جِنَازَةٌ ؛ فتطيَّرْنا لما رأينا الْجِنازة ، وأعرضْنَا عنها صَفْحاً ، وطوينا دونها كَشْحاً ، فصاح بنا صيحةً كادت الأرضُ لها تنفَطِر ، والنجومُ تَنكَدِر ، وقال : لتروَنَّها صُغْراً ، ولتركبُنَّها قَسراً . ما لكم تكرهون مطِيةً ركبها أسلافكم ، وسيركبها أخلافكم ، وتتقذّرون سريراً وطِئه آباؤُكم ، وسيطؤُه أبناؤُكم . أما والله لتُحْملُنَّ على هذه العِيدان ، إلى تلكم الديدان ، ولتنْقَلُنَ بهذه الجياد ، إلى تلكم الوهاد . وَيْحَكم تطَيَّرون ، كأنكم مخيرُونَ ، وتتكرهون ، كأنكم منزَّهون ، هل تنفع هذهِ الطيَرة ، يا فجرة ؟ .
قال عيسى بن هشام : فقد نقضَ علينا ما كنَّا عَقَدْناه ، وأبطلنا ما كنَّا أَردْنَاه ؛ فَملْنا إليه ، وقلنا : ما أحوجَنا إلى وعْظِك ، وأَعْشَقَنَا للفظك ولو شئتَ لزِدْتَ ، قال : إنّ وراءكم موارِدَ أنتم وارِدُوها ، وقد سرْتُم إليها عشرين حَجّة : الطويل :
وإنّ امرأً قد سار عشرينَ حَجَّةً . . . إلى منهل من وِرْدِه لَقَرِيبُ
وفوقكم مَنْ يعلم أسراكم ، ولو شاء لهتك أستارَكم ، يعامِلكم في الدنيا بحِلْم ، ويَقْضي عليكم في الآخرة بعِلم ، فليكن الموتُ منكم على ذكر ، لئلاّ تَأتوا بنكْر ؛ فإنكم متى استشعرتموه لم تجْمَحُوا ، ومتى ذكرتموه لم تمزحوا ، وإن نسيتموه فهو ذاكِرُكم ، وإن نمتُم عنه فهو ثائركم ، وإن كرهتُموه فهو زائركم قلنا : فما حاجتُك ؟ قال : هي أطولُ من أن تُحَدّ ، وأكثر من أن تُعَدّ ، قلنا : فسانحُ الوقت ؟ قال : ردُّ فائِت العُمْرِ ، ودَفْعُ نازِل الأمرِ ، قلنا : ما إلى ذلكَ سبيل ، ولكن لكَ ما شئت من متاعِ الدنيا وزخرفها ، قال : لا حاجةَ لي فيها .
قوله : وإن امرأً سار عشرين حجة محرف عن قول قائِله : وإن امرأ قد سار خمسين حجة والبيت لأبي محمد التيمي ، أنشده دِعبل : الطويل :
إذا ما مضى القَرْنُ الذي أنتَ فيهمُ . . . وخُلِّفْتَ في قَرْنِ فأَنت غَرِيبوالبيت بعده . قال دعبل : وتزعم الرواة أنه لأعرابي من بني أسد . وقال خلاد الأرقط : كنا على باب أبي عمرو بن العلاء ومعنا التيمي ، فذكرنا كتابَ الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم : إني وإياك لِدَتَان ، وإن امرأ قد سار خمسين حجة لَقمن أن يَرده . فأصلحناهُ بيتاً ، فاجتَلَبه التيمي في شعره . وكتب البديع إلى أبي القاسم الكرخي : أنا وإن لم ألقَ تطاوُلَ الإخوان إلا بالتطوّل ، وتجمل الأحرار إلا بالتجمّل ، أحاسب الشيخَ على أخلاقه ضناً بما عقدت يدي عليه من الظن به ، والتقدير في مَذْهَبه ، ولولا ذاك لقُلْتُ : في الأرضِ مجالٌ إن ضاقَتْ ظلالُه ، وفي الناس واصلٌ إن رَثَتْ حبالُه ، وأؤاخِذُه بأفعاله ؛ فإن أَعارني أذُناً واعيةً ، ونَفْساً مُرَاعية ، وقلْباً متّعظاً ، ورجوعاً عن الذهاب ، ونزوعاً عمّا يقرعُه من هذا الباب ، فرشت لمودَّته صدْرِي ، وعقدت عليه جوامع حَصْري ، ومجامع عُمْرِي ؛ وإنْ ركب من التعالي غَيْر مركب ، وذهب من التغالي في غيرِ مذهب ، أقطعتهُ خطة أَخلاقه ، وولّيته جانبَ إعراضه ، فكنت امرأ : المديد :
لا أذودُ الطيرَ عن شَجَرٍ . . . قد بلوتُ المرّ من ثَمرِهْ
فإني - أطال الله بقاء الشيخ مولاي - وإن كنت في مقتبل السن والعمر ، فقد حلبتُ شطْرَي الدهر ، وركِبْتُ ظهري البرَ والبَحْرِ ، ولقيتُ وَفْدَي الخيرِ والشرّ ، وصافحتُ يدي النَفْع والضر ، وضربتُ إبطي العُسْر واليُسْر ، وبلوتُ طعمي الحُلْو والمُرّ ، ورضعْتُ ثديي العُرْف والنُّكْر ؛ فما تكادُ الأيامُ تريني من أفعالها غريباً ، وتُسْمِعُني من أقوالِها عجيباً ، ولقِيت الأفراد ، وطارَحْتُ الآحادة فما رأيتُ أحداً إلا ملأت حافتيْ سمعِه وبصره ، وشغلت حيزَيْ فكره ونَظَره ، وأَثقلت كَفّه في الْحُزن ، وكفَتَه في الوَزْن ؛ وودَّ لو بارَزَ القِرنَ بصفحتي ، أو لَقي الفَضْل بصحيفتي ، فما لي صَغُرتُ في عينه ؟ وما الذي أزْرَى بي عنده ؟ حتى احتجبَ وقد قَصَدْتُه ، ولزِم أرضَه وقد حضرته ، وأنا أحاشيه أن يجهلَ قَدْرَ الفضل ، أو يَجْحَد فضلَ العلم ، أو يمتطي ظَهْرَ التّيه ، على أهليه ، وأسأله أن يختصَّني من بينهم بفضل إنعام إن زلت بي مرةً قَدَم رأي في قَصْده ، وكأني به وقد غضب لهذه المخاطبة المجحِفة ، والرتبة المتحيّفة ، وهو في جنب جفائه يسير ، وإن أقلع عن عادته إلى الوفاء ،ونزع عن شيمته في الجفاء ؛ فأطال الله بقاءَ الأستاذ وأدام عزه وتأييده .
وله إليه رقعة : يعزُّ عليَ - أطال الله بقاء الشيخ الرئيس - أن ينوبَ في خِدمته قلمي ، عن قَدَمِي ، ويسعد برؤيته رسولي ، دون وُصولي ، ويَرِدَ شِرعَة الأنس به كتابي ، قبل ركابي ، ولكن ما الحيلةُ والعوائق جمّة : مجزوء الكامل :
وعليّ أن أسعى ولي . . . س عليَ إدراك النجاحِ
وقد حضرتُ دارَه ، وقبَّلتُ جدارهُ ، وما بي حبّ الجدرَان ، ولكن شغفاً بالقطّانِ ، ولا عِشْق الحيطان ، ولكن شوقاً إلى السكان ، وحين عَدَتِ العَوادِي عنه ، أمليتُ ضميرَ الشوقِ على لسان القلم ، معتذِراً إلى الشيخ على الحقيقة ، عن تقصيرٍ وقع ، وفُتور في الخِدْمةِ عَرَض ، ولكني أقول : المديد :
إنْ يَكُنْ تَرْكِي لقَصْدِكَ ذنباً . . . فكفى ألا أرَاكَ عِقَابا وله جواب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد : ورد كتاب الشيخ الرئيس سيدي ، فظلت وفودُ النعم تَتْرَى عليّ ، ومثلت لدي وبين يدي ، وقد أخَذَ مكارمَ نفسِه ، فجعلها قِلاَدة غرْسه ، وتتبّع المحاسنَ من عِنده ، فحلَّى بها نَحر عَبْده وما أُشبِّه رائع حُليِه ، في نحر وَليّه ، إلا بالغُرَّةِ اللائحةِ ، على الدَّهْمَة الكالحة لا آخذَ الله الشيخ بوصفٍ نزعَه عن عرضه ، وزَرَعه في غير أرضه ، ونعتٍ سلَخه من خَلْقه وخُلُقه ، وأهداه إلى غير مستحقِّه ، وفَضْل استفاده من فَرْعِه وأصله ، وأوصله إلى مخير أهله . ذكر حديث الشوقِ ولو كان الأمرُ بالزيارة حتماً ، أو الإذن جَزْماً أطلق عزماً ، لكان آخر نظري في الكتاب ، أول نظري إلى الركاب ، ولاستعنْتُ على كُلَف السير ، بأجنحة الطير ، لكنه - أدام الله عزّه - صرعني بين يدٍ سريعة النبْذ ، ورِجْل وشيكة الأخذِ ، وأراني زهداً في ابتغاء ، كحسوٍ في ارتغاء ، ونزاعاً في نزوع ، كذهاب في رُجوع ، ورغبة فيَّ كرغبة عني ، وكلاماً في الغِلاف ، كالضرب تحت اللحاف ، فلم أصرِّحْ بالإجابة وقد عرَّض بالدعاء ، ولم أعْلِن بالزيارة وقد أسرَّ بالنداء ، ولو لم يَدْعني بلسان المُحاجَاة ، ولم يجاهِرْني بفمِ المناجاة ، لكنتُ أسرعَ إليه ، من الكرم إلى عطفيه ، وفكرتُ في مُرَادِ الشيخ ، فوجدْتُه لا يتعدّى الكرم يشبّ ناره ، والفضل يُدرك ثاره ، وإذا كان الأمرُ كذلك فما أولاه بترفيهِ مولاه ، عن زَفرَةٍ صاعدة ، بسفرةباعدة ، ونكباء جاهدة . . . وقد زاد سيدي في أمْرِ المخاطبة ، وما أحسن الاعتدال ، وقد كفانا منه الأستاذ ، وأسأله ألا يزيد ، وقد بدأ ويجب ألا يعيد ، فلا تنفع كثرة العدّ مع قلّة المعدود ، والزيادة في الحدّ مع نقصان المحدود نقص من الحدود ، وربّ ربح أدّى إلى خُسْرَان ، وزيادة أفْضَتْ إلى نُقْصَان ، ورأي الشيخ في تشريفه بجوابه موفّق إن شاء الله تعالى .
اجتلَب قولَه في أول هذه الرسالة من قول أبي إسحاق الصابي في جواب كتاب لبعض إخوانه : وصل كتابك مشحوناً بلطيف بِرِّك ، موشَّحاً بغامِر فَضْلِك ، ناطقاً بصحَّةِ عهدك ، صادقاً عن خلوص ودِّك ، وفهمتُه وشكرتُ الله تعالى على سلامتك شُكرَ المخصوص بها ، ووقَفتُ على ما وصفته من الاعتدادِ بي ، وتناهَيْتَ إليه من التقريظ لي ، فما زدتَ على أن أعزتَني خِلالَك ، ونحلْتَني خِصالَك ، لأنَّكَ بالفضائل أوْلَى ، وهي بكَ أحْرَى ، ولو كنت في نفسي ممن يشتملُ على وصفه حَدِّي إذا حددت ، أو يحيط بكماله وَصْفي إذا وصَفْت ، لَشَرَعْت في بلوغها والقرب منها ، لكن المادحَ لك مستنْفِد لك وُسْعه وقد بخَسك ، ومستغرق طَوْقَه وقد نَقَصَك ، فأبلغُ ما يأتي به المُثْني عليك ، ويتوصّل إليه المُطْرِي لك ، الوقوف في ذلك دون منتهاه ، والإقرار بالعجز دون غايته ومَدَاه .
ونقل البديعُ ما ذكره من تَرْك السفر والبغية بما حضر من قولِ ابن الرومي : الطويل :
أما حق حامِي عرضِ مثلِك أن تَرى . . . له الرِّفْدَ والتّرفِيه أوجبَ وَاجبِ
أقمت لكي تزدادَ نُعْمَاكَ نعمةً . . . وتغني بوجهٍ ناضرٍ غير شاحِبِ
وكي لا يقولَ القائلون أثابهُ . . . وعاقبه والقول جَمُّ المساغب
وليس عجيباً أن ينوبَ تكرّمٌ . . . عُدِيت به من آمل لك عائب
ذِمَامِيَ تَرْعى لا ذِمام سفينةٍ . . . وحقّيَ لا حقَّ القلاص النجائب
ودخل على أبي العتاهية ابنُهُ ، وقد تصوَّف ، فقال : ألم أكُنْ قد نهيتُك عن هذا ؟ فقال : وما عليك أن أتعوّد الخيرَ ، وأنشأ عليه فقال : يا بني ، يحتاجُ المتصوف إلى رقّة حال ، وحلاوة شمائل ، ولطافة معنى ، وأنت ثقيلُ الظلّ ، مظلم الهواء ، راكِد النسيم ، جامدُ العينين ، فأقبل على سوقك ؛ فإنها أعْوَدُ عليك ، وكان بزّازاً .فقر من كلام المتصوّفة والزهّاد والقصاص
نورُ الحقيقةِ ، أحسن من نور الحديقة . الزهد قَطْع العلائق ، وهَجْر الخلائق . الدنيا ساعة ، فاجعلها طاعة . التصوّف تَرْكُ التكلّف . قيل لمتصوّف : أتبغ مُرَقَّعتك ؟ قال : أرأيتم صياداً يبيع شبكَته وقيل لبعضهم : لو تزوَّجْتَ قال : لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها ، وأنشد : الطويل :
تجرَّدْ من الدنيا فإنك إنما . . . سقطت إلى الدنيا وأنتَ مجرّدُ الدنيا نَوْم والآخرة يقظة ، والمتوسّط بينهما الموت ، ونحن في أضغاث أحلام .
ذو النون : العبد بين نعمة وذنبٍ ، لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار .
غيره : ينبغي للعبد أنْ يكون في الدنيا كالمريض لا بدّ له من قوت ، ولا يوافقه كل طعام . ليس في الجنة نعيمٌ أعظم من علم أهلها أنها لا تزول .
ابن المبارك : الزهد إخفاء الزهد . إذا هرب الزاهدُ من الناس فاطلبه ، وإذا طلبهم فاهربْ عنه . من أطلق طرْفه كثر أسفُه . من سُوءِ القدر فَضْل النظر . من طاوعَ طَرْفه ، تابع حَتْفَه ، ومن نظر بعين الهوى حار ، ومن حَكم على الهوى جار ، ومن أطال النظر لم يدرِك الغاية ، وليس لناظر نهاية . ربما أبصر الأعمى رُشْدَه ، وأضلّ البصير قَصْدَه . وقيل : ربَّ حربٍ جُنِيت من لفظة ، وربّ حبٍّ غُرِسَ من لحظة ، وأنشد : الطويل :
نظرت إليها نظرةً لو كسوتها . . . سرابيلَ أبدانِ الحديدِ المسَرَّدِ
لرقّت حواشيها وفُضَّ حديدُها . . . ولاَنتْ كما لاَنتْ لداودَ في اليَدِ
وقال سعيد بن حميد : الطويل :
نظرتُ فقادَتْني إلى الحَتْف نظرة . . . إليَّ بمضمون الضميرِ تشيرُ
فلا تصرفنَّ الطَّرْفَ في كل مَنْظَرٍ . . . فإنَّ مَعَارِيضَ البلاء كثيرُ
ولم أَر مِثْلَ الحبِّ أسقم ذا هوىً . . . ولا مثل حُكْم الحبِّ كَيف يجُورُ
لقد صُنْتُ ما بي في الضمير لَوَ أنه . . . يُصان لدى الطَّرْف النموم ضمِيرُ
غيره : البسيط :
اليومَ أيقنْتُ أنَّ الحبَّ مَتْلَفَةٌ . . . وأن صاحبَه منه على خَطَرِكيف الحياةُ لمن أمْسَى على شَرَفٍ . . . من المنيِّةِ بين الخوفِ والحذَر
يلومُ عينيه أحياناً بذنبهما . . . ويحملُ الذنبَ أحياناً على القدر
إذا نأى أو دَنَا فالقلبُ عندكُم . . . وقلبُه أبداً منه على سَفَرِ
ونظر محمد بن أسباط الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني وقد نظر في وجه غلام مليح ، فقال : إياك وإدْمانَ النظر فإنه ، يكشف الخبر ، ويفضَحُ البشَر ، ويطول به المكثُ في سقَر .
وقال المعَلى الصوفيّ : شكوتُ إلى بعض الزهاد فسَاداً أجدُه في قلبي ، فقال : هل نظرتَ إلى شيء فتاقَتْ إليه نفسُك ؟ قلت : نعم ، قال : احفَظْ عينيك ؛ فإنك إن أطلقتهما أوقعتَاك في مكروه ، وإن ملكْتَهُمَا ملكْتَ سائرَ جوارِحِك .
وقال مسلم الخوّاص لمحمد بن علي الصوفي : أوْصِني ، فقال : أوصيك بتقوى الله في أمرِك كله ، وإيثار ما يحبّ على محبتك ، وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طَرْفك ، وشوّقك إليه قلبك ، فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئاً من جوارحك ، حتى تبلغ لهما ما يطالعانك به ، وإن ملكتهما كنت الداعي إلى ما أردت ، فلم يعصيا لك أمراً ولم يردّا لك قولاً .
قال بعض الحكماء : إن الله عز وجل جعل القلبَ أميرَ الجسدِ ، ومَلِكَ الأعضاءِ ؛ فجميعُ الجوارح تَنْقادُ له ، وكُل الحواسن تُطِيعُه ، وهو مديرُها ومصرفها ، وقائدها وسائقها ، وبإرادته تنبعثُ ، وفي طاعته تتقلب ؛ ووزيره العقل ، وعاضِدُه الفهمُ ، ورائده العينان ، وطليعته الأذنان . وهما في النقل سواء ، لا يكتمانه أمراً ، ولا يطوِيانِ دونه سرّاً ، يريد العين والأذن .
وقيل لأفلاطون : أيهما أشذ ضرراً بالقلب السمع أم البصر ؟ فقال : هما للقلب كالجناحين للطائر ، لا يستقل إلا بهما ، ولا ينهض إلا بقوتهما ، وربما قص أحدُهما فنهض بالآخر على تعب ومشقة . قيل : فما بالُ الأعمى يعشق ولا يرى ، والأصمّ يعشقُ ولا يسمع ؟ قال : لذلك قلت : إن الطائر قد ينهضُ بأحد جناحيه ولا يستقل بهما طيراناً ، فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى ، وطيرانه أَوْحَى .
وقال الأسود بن طالوت الجارودي : نظر إليّ أبو الغمر الصوفي وقد أطلتُ النظرَإلى غلام جميل ، فقال : ويحك إنّ طرْفك لعظيم ما اجتنى من البلاءِ قد عرَّضَك للمكروه وطول العناءِ ، لقد نظرت إلى حَتْف قاتل للقلوب ، وبلاءٍ مُظْهر للعيوب ، وعارٍ فاضح للنفوس ، ومكروه مُذهِل للعقول ، أكلُّ هذا الاغترار بالله جرّأك عليه حتى أمنت مَكْرَه ، ولم تخَفْ كيدَه ؟ اِعلمْ أنك لم تكن في وقت من أوقاتك ، ولا حالةٍ من حالاتك ، أقرب إلى عقوبة الله منك في حالتك هذه ، ولو أخذك لم يتخلّصْك الثقلان ، ولم يَقْبَلْ فيك شفاعةَ إنس ولا جان . ونظر محمد بن ضوء الصوفي إلى رجل ينظرُ إلى غلام مليح ، فقال : كفى بالعبد نقصاً عند الله ، وضعة عند ذوي العقول ، أن ينظُرَ إلى كل ما سَنحَ له من البلاء .
ونظر بو مسلم الخشوعي فأطال النظر ، فقال : إنَّ في خَلْقِ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . ثم قال : سبحان الله ما أهجمَ طَرفي على مكروه نفسه ، وأدمَنه على تسخّط سيده ، وأغراه بما نهى عنه ، وألْهَجه بما حذّر منه لقد نظرت إلى هذا نظراً شديداً خشيتُ أنه سيفضحني عند جميع مَنْ يعرفني في عَرصَة القيامة ؛ ولقد تركني نظرِي هذا وأنا أَسْتَحِي من الله تعالى إن غفر لي ثم صعق .
ونظر غالبٌ المضرور إلى غلام جميل على فرس رائع ، فقال : لا أدري بم أداوي طَرْفي ، ولا بم أُعالج قلبي ؟ ما أتوبُ إلى الله من ذنب إلا رجعت فيه ، ولا أستغفِرُه من أمر إلا أتيت أعظم منه ، حتى لقد استحييتُ أن أسأله المغفرة لما يلحق قلبي من القنوط من عفوه ، لعظيم حالي بالمنكر الذي أصنعهُ . فقال له قائل : وأيّ منكر أتيت ؟ فقال : أتريدُ مني أكثرَ من نظري هذا ؟ والله لقد خشيت أن يبطل كل عمل قدمته ، وخير أسلفته ، ثم بكى حتى ألصق خدَّه بالأرض .
ورأى بعضُ الزهّاد صوفيّاً يضحَكُ إلى غلام جَميل ، فقال له : يا خارب القلب ، ويا مفتضح الطرْف ؛ أما تستحي من كِرَام كاتبين ، وملائكة حافظين ، يحفظون الأفعال ، ويكتبون الأعمال ، وينظرون إليك ، ويشهدون عليك ، بالبلاء الظاهر ، والغِلّ الدخيل المخامر ، الذي أقمت نفسَك فيه مقام مَنْ لا يُبَالي من وقف عليه ، ونظر من الخلق إليه .
وقال أبو حمزة بن إبراهيم : قلت لمحمد بن العلاء الدمشقي - وكان سيدَ المتصوفة ، وقد رأيتهُ يماشِي غلاماً وضيئاً مدة ثم فارقه - : لِمَ هجرتَ ذلك الفتى بعد أنْ كنتَ له مواصلاً ، وإليه مائلاً ؟ فقال : والله ، لقد فارقته من غير قِلًى ولا مَلَل ؛ ولقدرأيتُ قلبي يدعوني إذا خلوت به ، وقربت منه ، إلى أمر لو أتيته لسقطت من عيْن الله عزّ وجلّ ؛ فهجرتُه تنزيهاً للهِ ولنفسي عن مصارع الفتن ، وإني لأرجو أن يعقبني سيدي من مفارقته ما أعقب الصابرين عن مَحارِمه عند صدق الوفاءِ بأحسنِ الجزاء ؛ ثم بكى حتى رحمتهُ .
قال أبو حمزة : ورأيتُ مع أحمد بن علي الصّوفي ببيت المقدس غلاماً جميلاً ، فقلت : منذ كم صحبك هذا الغلام ؟ فقال : منذ سنين ، فقلت : لو سرتما إلى بعضِ المنازهِ فكنتما فيه كان أحمد لكما من الجلوس في المسجد بحيثُ يراكما الناس ؟ فقال : أخافُ احتيالَ الشيطان عليّ به وقت خَلوتي ، وإني لأكره أن يراني الله فيه على معصية فيفرق بيني وبينه يوم يظفر المحبّون بأحبابهم .
قال أبو الفتح البستي : البسيط :
تنازع الناسُ في الصوفيّ ، واختلفوا . . . فيه وظنّوه مشتقّاً من الصوفِ
ولست أنحل هذا الاسمَ غيرَ فتًى . . . صافَى فصُوفِيَ حتى لقّب الصوفي
ورأى بقراط رجلاً من تلامذته يتفرَّس في وَجْه أوحَيَا ، وكانت فائقة الجمال ، فقال : ما هذا الشغل الذي منعك الرويّة والفكرة ؟ فقال : التعجبُ من آثار حكمة الطبيعة في صورة أوحَيا ، فقال : لا تجعلنَّ نظرك لشهوتك مركباً ، فيجمع لك في الوحول الأذية ؛ ولتَكُنْ نفسُك منه على بال ، إنَّ آثار الطبيعة في وَجْه أوحَيا الظاهرة تمحق بصرك ، وإن فكرت في صورتها الباطنة تحدّ نظرَك .
وقال بعضُهم : رأيت جارية حسناء الساعدِ ، فقلت : يا جارية ، ما أحسنَ ساعدَك فقالت : أجل ، لكنه لم تختصّ به ، فغضَّ بصَرَ جسمك عمّا ليس لك ؛ لينفتح بصرُ عقلك فتَرَى ما لك .
الرأي والهوى
وقال بعضُ الفلاسفة اليونانيين : فضلُ ما بين الرأْي والهوى أنَّ الهوَى يخُصُّ والرأي يعمّ ، وأن الهوى في حيز العاجل ، والرأي في حيز الآجل ، والرأي يبقى على طول الزمانِ ، والهوى سريع الدثور والاضمحلال ، والهوى في حيز الْحِسّ ، والرأي في حيّز العقل .
وقال بعضُ الحكماء : من انقاد لِهَوَاه عرضته الشهوات .وقال آخر : من جَرَى مع هواه طَلْقا ، جعل عليه للذلّ طرقا . وقال ابن دُريد : أَوصى بعضُ الحكماء رجلاً فقال : آمرك بمجاهدة هواك ؛ فإنه يقال : إن الهوى مفتاحُ السيئات ، وخصيم الحسنات ، وكل أهوائك لك عدو ، وأعداهما هوًى يكتُمك نفسَه ، وأعدى منه هوى يمثّل لك الإثم في صورةِ التقوى ، ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إلا بحَزْمٍ لا يشوبه وهَن ، وصِدْقٍ لا يطمع فيه تكذيبٌ ، ومَضَاءٍ لا يقاربُه التثبيط ، وصبر لا يغتاله الجزع ، وهمّة لا يتقسمها التضييع .
وقاد أبو العتاهية : البسيط :
لا تَأْمَنِ الموتَ في طَرْف وفي نَفَس . . . ولو تَمَنَعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ
فما تزالُ سِهَامُ الموتِ نافذةً . . . في جَنبِ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرسِ
ما بالُ دينكَ تَرْضَى أن تُدَنِّسَهُ . . . وثوبُك الدهر مَغسولٌ من الدَّنَسِ
ترجو النَجاةَ ولم تَسْلُكْ مسَالِكَها . . . إن السفينةَ لا تجرِي على يَبَس
من البد بدائه في مجالس الخلفاء
خرج شبيب بن شيبة من دارِ المهدي ، فقيل له : كيف رأيتَ الناس ؟ قال : رأيتُ الداخل راجياً والخارجَ راضياً ، نحا إلى هذا المعنى ربيعةُ الرَّقِّيُّ فقال : السريع :
قد بسطَ المهدي كفَّ الندى . . . للناس والعفو عن الظالمِ
فالراحلُ الصادر عن بابه . . . مبشرٌ للواردِ القادمِ
وقال مسلم بن الوليد في نحو هذا المعنى : الطويل :
جزيت ابنَ منصورٍ على نَأْي دارهِ . . . جزاءَ مقرٍّ بالصنيعة شاكِرِفَتى راغمَ الأموالَ واصطنع العُلاَ . . . وأرَّثَ نيرانَ الندى للعشائر
ترى الناسَ أَرسالاً على باب داره . . . عَلَى آمِنٍ يَحْدُو بِهِ حملُ صادِرِ
وقال المتنبي : الطويل :
وألقَى الفَمَ الضَحَّاكَ أَعْلَمُ أنهُ . . . قَرِيبٌ بذِي الكَفِّ المُفَدَّاةِ عَهْدُهُ
دخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح ، وعنده أخواله من بني الحارث بن كَعْب ، فقال : ما تقولُ في أخوالي ؟ فقال : هم هامة الشرف ، وعِرْنِينُ الكَرم ، وغَرسُ الجود ، إنّ فيهم لخصالاً ما اجتمعَتْ في غيرهم من قومهم ؛ إنهم لأطولهم أمماً ، وأكرمهم شِيَماً ، وأطيبهم طعماً ، وأوفاهم ذمماً ، وأبعدهم همماً ، الجمرة في الحرب ، والرِّفْد في الجَدْبِ ، والرأس في كل خَطْب ، وغيرهم بمنزلة العَجْب . فقال : وصفت أبا صفوان فأحسنْتَ ، فزادَ أخوالُه في الفخر فغضب أبو العباس لأعمامه ، فقال : أَفخرٌ يا خالدُ ؟ قال : أعلى أخوال المؤمنين قال : وأنتَ من أعمامه ؟ قال : كيف أفاخر قوماً بين ناسج برد ، وَسَائس قِرْد ، ودابغ جِلْد ، دلَّ عليهم هدهُد ، وغرّقهم جُرَذ ، وملكتهم أمّ ولد فأشرق وَجْهُ أبي العباس .
قال يموت ابن المزرّع : سمعتُ خالي الجاحظ ، وذكر كلام خالد هذا ، فقال : والله لو فكر في جَمْعِ معايبهم ، واختصار اللفظ في مَثَالبهم ، بعد ذلك المدحِ المهذب سَنَةً لكان قليلاً ، فكيف على بديهته لم يَرُض له فكراً .
هكذا أورد هذه الحكاية الصولي ، وقد جاءت بأطولَ من هذا ، وليس من شَرْطِنا .
قال معن بن أَوس الهذلي : الطويل :
لعمرك ما أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ . . . على أيِّنا تَأْتي المنيّة أولُوإني أخوك الدائمُ الودِّ لم أحُلْ . . . إذا ناب خطبٌ أو نَبَا بك منزِل
كأنك تشفِي منك داءَ مساءتي . . . وسُخْطِي ، وما في رِيبتي ما تَعَجَّلُ
وإن سُؤْتَني يوماً صبرتُ إلى غدٍ . . . ليعقبَ يوماً آخر منك مُقْبلُ
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني . . . يمينَك فانْظُرْ أيّ كفّ تَبدَّلُ
وفي الناس إن رثَّت حبالُك واصلٌ . . . وفي الأرض عن دارِ القلى مُتَحَوَّل
إذا أنت لم تنصفْ أخاك وجدْتَهُ . . . على طرف الهجران إنْ كان يعقلُ
ويركب حدّ السيف من أن تَضِيمَهُ . . . إذا لم يكن عن شَفْرةِ السيفِ مَزْحَلُ
وكنت إذا ما صاحبٌ رامَ ظنتي . . . وبَدَّل سوءاً بالذي كان يفعل
قلبتُ له ظَهْرَ المِجَنّ ولم أدُمْ . . . عليه العهد إلاَّ ريثما أَتحوَّلُ إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد . . . عليّ بوجهٍ آخر الدهر تُقبل
ودخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وأنشد شعر مَعْن ، فقال : لمن هذا ؟ فقال : لي يا أمير المؤمنين ، قال : لقد شَعُرْتَ بعدي يا أبا بكر ثم دخل عليه مَعْن فأنشد الشعر بعينه ، فقال : يا أبا بكر ، ألم تقل إنه شعرك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه ظِئْري فما كان له فهو لي . أراد معاتبة معاوية فعاتبه بشعر مَعْنٍ ؛ ليبلغ ما في نفسه ، وليس ادِّعاؤه له على حقيقة منه .
وقال خالد بن صفوان : دخلتُ على هشام بن عبد الملك ، فاستَدْنَاني حتى كنت أقربَ الناسِ إليه ، ثم تنفّس الصعداء ، وقال : يا خالد ، ربَّ خالدٍ جلس مجلسك هو أشهى إليّ حديثاً منك فعلمت أنه أراد خالداً القَسرِي ، فقلت : أفلا تعيده يا أمير المؤمنين ؟ فقال : هيهات ؟ إن خالداً أدلّ فأملَّ ، وأوجف فأعجف ، ولم يَدَعْ لراجع مرجعاً . وتمثلّ بهذا البيت : الطويل :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تَكَد . . . عليه بوجهٍ آخرَ الدهر تُقْبِلُ
وروى أبو حاتم عن أبي عبيدة قال : كان عبد الملك بن مروان في سَمَرِه مع أهل بيتِه وولده وخاصّته ، فقال لهم : لِيَقُلْ كلُّ واحدٍ منكم أحسن ما قيل من الشعر ، وليفضّل مَنْ رأى تفضيله ، فأنشدوا وفضّلوا . فقال بعضهم : امرؤ القيس ، وقال بعضهم : النابغة ، وقال بعضهم : الأعشى ، فلمّا فرغوا قال : أشعرُ الناس والله من هؤلاء الذي يقول ،وأنشد بعض هذه الأبيات التي أنشد ، وهي لمعن بن أوس : الطويل :
وذي رَحِمٍ قَلَّمتُ أظفارَ ضِغْنِهِ . . . بحلميَ عنه وهو ليس له حِلْمُ
يحاول رَغْمي لا يحاولُ غيرهُ . . . وكالموتِ عندي أن يَحُلّ به الرَّغْمُ
فإن أعفُ عنه أغْض عيناً على قَذىً . . . وليس له بالصَّفْح عن ذنبه عِلْمُ
وإن أنتصر منه أكُنْ مثل رائشٍ . . . سهامَ عدوّ يُستهاض بها العظمُ
صبَرْتُ على ما كان بيني وبينهُ . . . وما يستوِيَ حَرْبُ الأقارب والسّلمُ
وبادرتُ منه النأيَ والمرءُ قادرٌ . . . على سهمه ما كان في كفَه السهم
ويشتم عرضي في المغيَّب جاهداً . . . وليس لَهُ عندي هَوَانٌ ولا شتم
إذا سُمْتُه وَصْلَ القرابةِ سامني . . . قطيعتَها ، تلك السفاهةُ والإثمُ
فإن أدْعُه للنَّصْف يَأْبَ إجابتي . . . ويَدْعُو لحكم جائرٍ غيرُهُ الْحُكمُ
فلولا اتقاءُ الله والرَّحِمِ التي . . . رِعايتها حقٌّ وتعطيلها ظُلم
إذا لعَلاَه بارقٌ وخَطَمْتُهُ . . . بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابههُ وَسْمُ
ويسعى إذا أبني ليهدِمَ صالحِي . . . وليس الذي يبني كمن شَانُه الهَدْمُ
يودُّ لَوَ أنّي معدِم ذو خَصاصة . . . وأكرهُ جهدي أن يخالِطَه العُدْم
ويعتدُّ غُنْماً في الحوادث نكبتِي . . . وما إنْ له فيها سَنَاءٌ ولا غُنْم
فما زِلتُ في لِيني له وتعطُفي . . . عليه كما تحنو على الولَدِ الأمُّ
وخَفْضي له مني الجناحَ تألّفاً . . . لتُدْنيَهُ مني القرابةُ والرِّحْمُ
وصَبْرِي على أشياءَ منه تَريبني . . . وكَظْمي عن غيظي وقد ينفع الكَظْمُ
لاسْتَلّ منه الضِّغْن حتى استللْتُه . . . وقد كان ذا ضِغنٍ يصوبه الحزم
رأيتُ انثلاماً بيننا فرقَعْتُه . . . برفقيَ أحياناً وقد يرْقَع الثّلْمُ
وأبرأتُ غِلَّ الصدرِ منه توسُّعاً . . . بحلمي كما يُشْفَى بِالأَدْوِيَةِ الكَلْمُ
فأطفأت نار الحرب بيني وبينهُ . . . فأصبحَ بعد الحرب وهو لنا سَلْموكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : وصل كتابُك فصادفني قريبَ عهد بانطلاق ، من عنَتِ الفراق ، وأوقفني مستريحَ الأعضاء والجوانح من حرّ الاشتياق ، فإنّ الدهرَ جرى على حكمِه المألوف في تحويل الأحوال ، ومضى على رَسْمه المعروف في تبديل الأبدال ، وأعتقني من مخالَّتك عِتقاً لا تستحق به ولاء ، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجِبُ معها دَرَكاً ولا استثناء ، ونزع من عُنقي رِبْقَة الذلّ في إخائك بِيَدَيْ جفائك ، ورش على ما كان يحتدم في ضميري من نيرانِ الشوق ماء السلوّ ، وشن على ما كان يلتهبُ في صَدْري من الوَجْد ماءَ اليأس ، ومسح أعشار قلبي فلأَمَ فُطُورَها بجميل الصبر ، وشعبَ أفلاذَ كبدي فلاحم صدوعَها بحُسْن العزاءِ ، وتغلْغَل في مسالِك أنفاسي فعوض نفسي من النزاع إليك نزوعاً عنك ، ومن الذهاب فيك رجوعاً دونك ، وكشفَ عن عيني ضَبَابات ما ألقاهُ الهوَى على بصري ، ورفِع عنها غيابات ما سَدَلَه الشكّ دُون نظري ، حتى حدَر النقاب عن صفحاتِ شِيَمك ، وسفر عن وجوه خليقتِك ؛ فلم أَجدْ إلا منكراً ، ولم ألق إلا مستكبراً ، فوليتُ منها فِراراً ، ومُلِئتُ رُعْباً ، فاذهب فقد ألقيت حَبْلَكَ على غاربك ، ورددتُ إليك ذميماً عهدك .
وفي فصل من هذه الرسالة : وأمّا عذرُك الذي رُمْت بَسْطَه فانقبض ، وحاولْتَ تمهيدَه وتقريرَه فاستَوْفَزَ وأعرض ، ورفعتَ بضَبْعِه فانخفض ، فقد ورد ولقيته بوجهٍ يؤثر قبولُه على رَدِّه ، وتزكيته على جرحه ، فلم يفِ بما بذلته لك من نفسِه ، ولم يقم عند ظنك به ، أنَّى وقد غطى التذمُّمُ وجْهَه ، ولفَّ الحياء رَأْسَهُ ، وغضَ الخجلُ طَرفَه ؛ فلم تتمكن من استكشافه ، وولَّى فلم تقدر على إيقافه ، ومضى يعثرُ في فضولِ ما يغشاه من كرب حتى سَقَطَ ، فقلْنا : لليدِ والفم . ثم أمر بمطالعة ما صحبه فلم أجده إلا تأبط شرّاً ، أو تَحَمَّلَ وِزْراً .
وقوله هذا محلول من عقد نظمه إذ يقول : الكامل :
اِقْرَ السلامَ على الأمير وقلْ لهُ . . . قَدْكَ اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ في الغُلَوَاء
أنتَ الذي شتَّتَّ شَمْلَ مسرَّتي . . . وقَدَحْتَ نارَ الشوق في أحشائي
ورضيت بالثمن اليسير معوضةً . . . مني ، فهلا بِعْتَني بغلاءوسألتك العُتْبَى فلم تَرَنِي لها . . . أهلاً ، فجُدْتُ بعِذْرَةٍ شَوْهاء
ورَدَتْ مموّهةً فلم يرفَعْ لها . . . طرْف ، ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمّم سكتة . . . فتراجعَتْ تمشِي على استِحْيَاء
لم تشف من كمدٍ ، ولم تَبردْ على . . . كبدٍ ، ولم تَمْسَحْ جوانبَ داء
دَاوتْ جوًى بجوىً وليس بحازم . . . من يستكفّ النارَ بالحَلْفَاء
من يشف مِنْ كمد بآخر مِثلهِ . . . أثرت جوارحُهُ على الأدواء وله إليه رسالة : أخاطب الشيخ سيدي - أطال الله بقاءه - مخاطبةَ مُحرَجٍ يَرُوم الترويحَ عن قَلْبِه ، ويُريغ التفريجَ من كَرْبِهِ ؛ فأكاتبهُ مكاتبةَ مصدور ، يريدُ أن ينفثَ بعضَ ما به ، ويخفّف الشكوى من أوصابه ، ولو بقيَتْ في التصبّر بقيةٌ لسكتّ ، ولو وجدت في أثناء وجدي مَخرجة يتحللها تجلُّد لأمسكت ؛ فقديماً لبسْتُ الصديقَ على علاَّته ، وصفَحْتُ له عن هَناته ، ولكني مغلوب على العزاء ، مأخوذٌ من عادتي في الإغضاء ، فقد سل من جفائك ما ترك احتمالي جفاءً ، وذهب في نفسي من ظلمك ما أنزف حلمي فجعله هباء ، وتوالى عليّ من قُبْحِ فعلِك في هجر يستمر على نسَق ، وصدّ مطَرِدٍ متَّسِق ، ما لو فُضَّ على الوَرى ، وأُفيض على البشَر لأمتلاتْ منه صدورُهم ، فهل أقدرُ على ألا أقول ، وهل نكِلُك إلى مراعاتك ، وهل نشكوك إلى الدهرِ حليفك على الإضرار ، وعَقِيدك على الإفساد ، وأشكوه إليك ؟ فإنكما وإن كنتما في قطيعة الصديق رضِيعَيْ لِبَان ، وفي استيطاء مركب العقوق شريكي عنان ، فإنه قاصرٌ عنك في دقائقَ مخترعةٍ ، أنتَ فيها نسيجُ وَحْدِك ، وقاعد عما تقوم به من لطائف مبتدعة ، أنْتَ فيها وحيدُ عصرك ، أنتما متفقان في ظاهرٍ يَسُرُّ الناظرَ ، وباطن يسوءُ الخابر ، وفي تبديل الأبدال ، والتحوّل من حالٍ إلى حال ، وفي بث حبائل الزورِ ، ونَصْب أشراك الغرور ، وفي خلف الموعود ، والرجوع في الموهوب ، وفي فظاعة اهتضام ما يعير ، وشناعة ارتجاع ما يمنح ، وقَصْدِ مُشَارَّة الأحرار ، والتحامل عند ذوي الأخطار ، وفي تكذيب الظنون ، والميلِ عن النباهة للخمول ، إلى كثير من شِيَمكما التي أسندتما إليه ، وسنتكما التي تعاقدتُما عليها ، فأين هو ممن لا يجارى فيه نقض عُرىالعهود ، ونكْث قُوَى العقود ؟ وأنَّى هو عن النميمة والغيبة ، ومشي الضَّراء في الغِيلة ، والتنفق بالنفاق في الحيلة ؟ وأين هُو ممن ادَّعى ضروبَ الباطل ، والتحلّي بما هو منه عاطل ، وتنقّص العلماء والأفاضل ؟ هذا إلى كثير من مَسَاوٍ منثورة أنت ناظِمُها ، ومَخَازٍ متفرقة أنت جامِعُها . أنت أيّدك الله إنْ سوّيتَه بنفسك ، ووزنته بوزنِك ، أظلَمُ منه لذويه ، وأعق منه لبنيه ، وهَبْك على الجملة قد زعمت - مفترياً عليه - أنه أشدُّ منك قدرة ، وأعظمُ بَسْطَة ، وأتمّ نصرة ، وأطلق يداً في الإساءة ، وأمضى في كل نكاية شباة ، وأحد في كل عاملة شَدَاة ، وأعظم في كل مكروه مُتَغلغلأ ، وآلف إلى كل محذور متوصلاً ، إن الدهر الذي ليس بمعْتِب من يجزعُ ، وإن العُتْبَى منك مأمولة ، ومن جهتك مرقوبة ، وهيهات فهل توهَّم أنه لو كان ذا روح وجثمان ، مصوراً في صورةِ إنسان ، ثم كاتبتهُ أستعطفه على الصلة ، وأستعفيه من الهجْرِ ، وأذكِّره من المودّة ، وأستميل به إلى رعايةِ المِقَة ، وأستعدّ على ما أشاعه الفراقُ في نفسي من اللوْعة ، وأَضْرَمه بالبعادِ في صدري من الحرقة ، وكان يستَحْسِنُ ما اسْتَحْسَنته من الاضطراب عند جوابي ، ويستجيز ما اسْتَجَزْته من الاستخفافِ بكتابي .
وله فصل في هذه الرسالة ، وقد ذكر دعواه في العلم : وهبْك أفلاطون نفسه ، فأينَ ما سنَنته من السياسةِ ، فقد قرأناه ، أتجدُ فيه إرشاداً إلى قطيعة صديق ، وأحسبك أرسطاطاليس بعَيْنِه ، أين ما رَسَمْته من الأخلاق ؟ فقد رأيناه فلم نر فيه هدايةً إلى شيء من العُقُوق ، وأما الهندسة فإنها باحثةٌ عن المقادير ، ولن يعرفها إلا مَنْ جهل مقدارَ نفسه ، وقَدرَ الحقّ عليه وله ؛ بل لك في رؤساء الآداب العربية مِنَّا ريحٌ ومضطرب ، ولسنا نُشَاحّك . لكن أتحب أن تتحقّق بالغريب من القول ، دون الغريب من الفعل ؟ وقد أغربت في الذهاب بنفسك إلى حيث لا تهتدي للرجوع عنه . وأما النحوُ فلن تُدْفع عن حذق فيه ، وبصَرٍ به ، وقد اختصرتُه أوْجزَ اختصار ، وسهلت سبيلَ تعليمه على من يجعلك قُدْوة ، ويرضى بك أسوةً ، فقلت : الغدرُ والباطلُ وما جرى مجراهما مرفوع ، والصدق والحقّ وما صَاحَبَهما مخفوض ، وقد نصب الصديقُ عندك ، ولكن غرضاً يرْشَق بسهام الغيْبة ، وعَلَماً يقصد بالوقيعة ، ولست بالعروضي ذي اللّهجةِ فأعرف قَدْرَحذقك فيه ، إلا أني لا أراك تتعرّضُ لكاملٍ فيه ، ولا وافرٍ ، وليتك سبحتَ في بحر المجتث حتى تخرج منه إلى شَطّ المتقارب .
وفي فصل منها أيضاً : وهبْني سكتُّ لدعواك سُكوتَ متعجّب ، ورضيتُ رِضا متسخّط ، أيرضى الفضل اجتذابَك بأَهدابه ، من يدي أهليه وأَصحابه ، وأحسبك لم تزاحِمْ خطابه ، حتى عرفت ذلّة نَفَره وقلّة بصره ، فاصدقني هل أنشدك : المنسرح :
لو بأَبانَيْنِ جاء يَخْطبُها . . . ضُرِّجَ ما أَنْفُ خَاطبٍ بدَمِ
وليت شعري بأي حلي تصدّيت لَهُ ؛ وأنت لو تتوّجت بالثريّا ، وقلّدت قِلادة الفلك ، وتمنْطَقْتَ بمنطقة الجوزاء ، وتوشَّحْتَ بالمجرّة لم تكن إلا عُطُلاً ، ولو توشَّحْتَ بأنوارِ الربيع الزاهر وسرّجت جبينك غرَّةَ البدرِ الباهرِ ، ما كنتَ إلا عُطُلاً ، سيما مع قلّة وفائك ، وضَعْفِ إخائك ، وظلمة ما تتصرّف فيه من خِصالك ، وتراكم الدُّجَى على ضلالِك ، وقد ندِمْتُ على ما أعرتك من ودِّي ، ولكن أي ساعةِ مَنْدَم ، بعد إفناء الزمان في ابتلائك ، وتصفُّحي حالاتِ الدهر في اختيارك ، وبعد تضييع ما غرسْته ، ونقض ما أسسْتُه ، فإن الودادَ غرسٌ إذا لم يوافق ثرى ثريا ، وجوَّاً عَذِيّاً ، وماء رَوِيّاً ، لم يُرْجَ زكاؤُه ، ولم يجر نماؤُه ، ولم تفتَّح أزهارُه ، ولم تجن ثمارُه ، وليت شعري ، كيف ملك الضلالُ قيادي حتى أشكل عليَّ ما يحتاجُ إليه الممزوجان ، ولا يستغني عنه المتآلفان ، وهما ممازجة طَبْع ، وموافقة شَكْلٍ وخَلْق ، ومطابقة خِيم وخلُق ، وما وصلتنا حال تجمعنا عنى ائتلاف ، وحمَتْنَا من اختلاف ، ونحن في طرفي ضدَّين ، وبين أمرين متباعدين ؛ وإذأ حصَّلت الأمر وجدت أقلّ ما بيننا من البعاد ، أكثر ممّا بين الوِهاد والنجَادِ ، وأبعد ممّا بين البياض والسوادِ ، وأيسر ما بيننا من النفار أقلّ ما بيننا من النضار ، وأكثر ما بين الليل والنهار ، والإعلان والإسرار .قضاء الحَاجة
قال أسد بن عبد الله لأبي جعفر المنصور : يا أميرَ المؤمنين ، فَرْطُ الخُيَلاَء ، وهيبةُ العزّة ، وظل الخلافة ، يكفُ عن الطلب من أمير المؤمنين إلاّ عن إذْنِه ، فقال له : قلْ : فقد والله أصبتَ مَسْلَك الطلب ؛ فسأل حوائجَ كثيرةً قُضِيَتْ له .
وقال عمرو بن نهيك لأبي جعفر المنصور : يا أميرَ المؤمنين ، قد حضر خَدَمك الإعظام والهيبة عن ابتدائك بطلباتهم ، وما عاقبةُ هذين لهم عندك ؟ قال : عطاء يزيدهم حياءً ، وإكرامٌ يكسوهم هيبةَ الأَبد .
قال عيسى بن علي : ما زال المنصور يشاورُنا في أمره حتى قال إبراهيمُ بن هرمَة فيه : الطويل :
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميرهُ . . . فناجَى ضميراً غير مختلف العَقْلِ
ولم يُشْرِكِ الأدنين في جُل أمرِه . . . إذا اختلفت بالأضعفين قُوَىَ الحَبْلِ
فِقَر في ذكر المًشُورة
المشورةُ لِقاحُ العقل ، ورائدُ الصواب ، وحَزْمُ التدبير . المشاورة قبل المساوَرة . والمشورةُ عينُ الهداية .
ابن المعتز : من رضي بحالهِ استراح ، والمستشِيرُ على طرف النجاح .
وله : مَن أكثرَ المشورة لم يعدم في الصواب مادحاً ، وفي الخطإ عاذراً .
بشار بن برد : المشاور بين إحْدى الحسنيين : صواب يفوزُ بثمرته أو خطأ يُشارك في مكروهه ، وقال : الطويل :
إذا بلغ الرأيُ المَشُورَةَ فاستَعِنْ . . . بعَزْم نصيحٍ أو مشورةِ حازمِ
ولا تحسَبِ الشُّورى عليك غَضاضةً . . . فإنّ الخوَافِي قوة للقوادمِ
وما خيرُ كَفٍّ أمسكَ الغُل أُخْتَها . . . وما خيرُ سيفٍ لم يُؤَيَّدْ بقائمِوخَلِّ الهوَيْنَى للضعيف ولا تكنْ . . . نؤوماً فإن الحرَّ ليس بنائم
وأَذنِ إلى القرب المُقَرِّبَ نفسهُ . . . ولا تُشْهِدٍ النجوى أمرأً غير كاتم
فإنك لا تَسْتَطْرِدُ الغَمَّ بالمنى . . . ولا تَبْلُغُ العُلْيا بغيرِ المكارم
دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب في حمالات لزِمَتْه فقال : أيها الأمير ، قد عظُم شأنك أن يُستعانَ بك أو يستعانَ عليك ، ولستَ تفعل شيئاً من المعروف إلا وأنتَ أكبرُ منه ، وليس العجبُ من أن تفعل ، بلَ العجب من ألا تفعل ، فقضاها .
في التاريخ والنسب
استخلص القاضي أبو خليفة الفضلُ بن حباب الجمحيُ رجلاً للأُنْس به ، فقال : أغَيَّر ثيابي وأعود ، قال : ما أفعل ، إيناسك وَعد ، وإيحاشك نقد ، وكان أبو خليفة من جلَّةِ المحدثين ، وله حَلاوةُ معنى ، وحسن عبارة ، وبلاغةُ لفظ . قال الصولي : كاتبتُ أبا خليفة في أمور أرادها فأغفلتُ التاريخَ منها في كتابين ، فكتب إليّ بعد نفوذِ الثاني : وصل كتابك - أعزك اللّه - مبْهَم الأوان ، مُظْلم المكان ، فأدَّى خيراً ما القرب فيه بأولى من البُعْد ؛ فإذا كتبت - أكرمك الله تعالى - فلتكن كتبُك مرسومةً بتاريخ ؛ لأعرِف أدنى آثارك ، وأقرب أخبارك ، إن شاء الله تعالى .
وقال بعض الكتاب : التاريخ عمودُ اليقين ، ونَافي الشكّ ، به تُعْرَف الحقوق ، وتُحفَظُ العهود .
وقال رجل لأبي خليفة سَلّم عليه : ما أحسبك تعرف نسبي ، فقال : وجهك يدلّ على نسبك ، والإكرامُ يمنع من مسألتك ، فأَوْجِدْ لي السبيل إلى معرفتك .
وسأل أبو جعفر المنصور قبل أن تُفْضِيَ إليه الخلافةُ شبيبَ بن شيبة ، فانتسب له ، فعرفه أبو جعفر ، فأَثنى عليه وعلى قومه ، فقال له شبيب : بأبي أنت وأمي أنا أحبّ المعرفة وأجِلّك عن المسألة ، فتبسَّم أبو جعفر وقال : لطف أهل العراق أنا عبد الله بن محمد بن علي ، بن عبد الله بن العباس ، فقال : بأبي أنت وأمي ما أشبهك بنسبك ، وأدلَّك على منصبك .فِقر وأمثال يتداولها العمال
الولاية حلة الرضاع مرَّة الفطام . غُبارُ العمل خيرُ من زعفران العطلة .
ابن الزيات : الإرجاف مقدمة السكون .
عبد اللّه بن يحيى : الإرجاف رائد الفتنة .
حامد بن العباس : غرس البلوى ، يثمر الشكوى .
أبو محمد المهلبي : التصرّف أعلى وأَثنى ، والتعطّل أَصْفَى وأعفى .
إبو القاسم الصاحب : وَعدُ الكريم ، أَلْزَمُ من دَين الغريم .
أبو المعتز : ذلُّ العَزلِ يضحك من تِيه الولاية . وقال : مجزوء الكامل :
كم تائهٍ بولايةٍ . . . وبعَزْلِه رَكضَ البَريدُ
سُكْرُ الوِلاية طيبٌ . . . وخُمارها صَعْبٌ شديدُ
وقال : من ولي ولايَةَ فتاه فيها فأَخبره أَن قدره دونها . العزل طلاق الرجال وحيض العمال . وأنشدوا : الوافر :
وقالوا العَزْل للعمال حَيْضٌ . . . لحاهُ الله من حَيْضٍ بَغيضِ
فإنْ يكُ هكذا فأَبُو عَليٍّ . . . من اللائي يَئِسْنَ من المحيضِ
منصور الفقيه : المجتث :
يا مَن تولَّى فأَبدى . . . لنا الجفا وتَبدَّلْ
أليس منك سمِعنَا . . . من لم يمتْ فسيُعْزَلْ
وقال أيضاً : المتقارب :
إذا عُزِل المرءُ واصلتُه . . . وعند الولايةِ أستكبرُ
لأن المولَّى له نخوة . . . ونفسي على الذلِّ لا تَصْبِرُ
أخبار منصور الفقيه
ومنصور هذا هو منصور بن إسماعيل بن عيسى بن عمر التيمي ، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الشافعي ، رضي الله عنه ، وهو حلو المقطعات ، لا تزالُ تندر له الأبيات مما يستظرَف معناه ، ويُستحلى مغزاه ، ويبقى ثتاه ، وهو القائل لما كفَّ بصره : البسيط :
مَنْ قال ماتَ ولم يستَوْفِ مُدّتهُ . . . لعظم نازلةٍ نالَتْهُ معذورُ
وليس في الحكم أن يحيا فتىً بلغَتْ . . . به نِهايةَ ما يخشى المقاديرُفقلْ له غيرَ مرتَابٍ بغفلتِه . . . أو سوءِ مذهبه : قد عاش منصورُ
وعَتَبَ على بعض الأشراف ، وكانت أمُّه أمةً قيمتها ثمانية عشر ديناراً ، فقال : المجتث :
من فاتني بأبيه . . . لم يَفتْني بأمّه
ورام شتميَ ظلماً . . . سكتُّ عن نصفِ شَتْمِه
وقال : المجتث :
لو قيل لي خذْ أماناً . . . ممن حادث الأزمانِ
لما أخَذْتُ أماناً . . . إلا من الإخْوَانِ
وقال : المتقارب :
رضيت بما قسمَ الله لي . . . وفوّضتُ أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى . . . كذلك يُحسن فيما بَقِي
وقال : مجزوء الكامل :
لو كنت منتفعاً بعلْ . . . مك مَع مواصلة الكبائر
ما ضرَّ شُرب السمّ واع . . . لَمْ أنّ شرب السمّ ضائرْ
وقال : الهزج :
إذا القوتُ تأتّى ل . . . ك والصِّحّةُ والأمن
وأصبحتَ أخا حُزْن . . . فلا فارقك الحُزْنُ ورأيت له في أكثر النسخ - على أن أكثر الناسِ يرويه لإبراهيم بن المهدي ، وهو الصحيح - : الكامل :
لولا الحياءُ وأنني مشهورُ . . . والعيبُ يَعْلَقُ بالكبيرِ كبيرُ
لحَللْت منزلنا الذي نحتلّهُ . . . ولكان منزلنا هو المهجورُ
وهذا كقول الصاحب أبي القاسم : المتقارب :
دعَتْنيَ عيناك نحو الصبا . . . دعاء يكرر في كلّ ساعَهْ
فلولا وحقك عذرُ المشيبِ . . . لقلتُ لعينيك سمعاً وطاعَهْوقال ابن دريد في معنى البيت الأول فأحسن : البسيط :
إذا رأيت امرأً في حال عُسْرَته . . . مُصَافِياً لك ما في وُدِّه خَلَلُ
فلا تمن له أن يستفيدَ غِنىً . . . فإنه بانتقال الحالِ ينتقلُ
تغيّر بعد عسرة
وكان لمحمد بن الحسن بن سَهْل صديقٌ قد نالته عُسرةٌ ، ثم ولّي عملاً ؟ ، فأتاه محمد قاضياً حقّاً ومسلماً عليه ، فرأى منه نبوةً وتغيّراً ، فكتب إليه : الطويل :
لَئن كانتِ الدنيا أَنالتْكَ ثروةً . . . وأصبحت ذا يُسْرٍ ، وقد كُنْتَ ذا عُسْرِ
لقد كشف الإثراءُ منك خلائقاً . . . من اللؤم كانت تحتَ ثوْبٍ من الفقر
وقال أبو العتاهية في عمرو بن مَسعَدة ، وكان له خِلاًّ قبل ارتفاعِ حاله ، فلما علَتْ رتبته معِ المأمون تغيّر عليه : الطويل :
غنِيتَ عن العهد القديم غنيتا . . . وضيّعت عهداً كان لي ونسيتَا
وقد كنت لي أيام ضَعْفٍ من القوى . . . أَبرّ وأَوْفَى منك حين قَوِيتا
تجاهلت عما كنت تُحسِن وَصفَهُ . . . ومُت عن الإحسان حين حَيِيتا
وكتب بديعُ الزمانِ إلى أبي نصر بن المرزبان فيما ينخرطُ في هذا السلك : كنتُ - أطال الله بقاءَ الشيخ سيدي وأَدام عزَّه - في قديم الزمان أتمنَّى الخيرَ للإخوان ، وأسألُ الله تعالى أن يُدِرّ عليهم أخْلاَفَ الرزقِ ، ويمدّ لهم أكناف العيش ، ويؤتيهم أصنافَ الفَضْلِ ، ويوطئهم أكنافَ العزّ ، وينيلهم أعرافَ المجدِ ، وقُصارايَ الآن أن أرغبَ إلى الله تعالى ألا يُنيلَهم فوق الكفاية ، فشد ما يَطْغَونَ عند النعمة ينالونها ، والدرجةِ يعلونها ، وسَرُعَ ما ينظرون من عال ، ويجمعون من مال ، وينسون في ساعة اللدونة أوقاتَ الخشونة ، وفي أزمان العذوبة أيام الصعوبة ، وللكتَّاب مَزيّة في هذا الباب ؛ فبينا هم في الغربة أَعوان كما انفرج المشط ، وفي العُطْلَة إخوان كما انتظم السِّمْطُ ، حتى إذا لحظهم الجدُّ لحظةً حَمْقَاء بمنشور عمالة ، أَوْ صَك جعالةٍ ؛ عادَ عامر مودّتِهم خراباً ، وانقلب شرابُ عهدهم سَرَاباً ، فما اتسعت دورُهم وإلا ضاقت صدورُهم ، ولا عَلت قدورُهم إلا خبَتْ بدورهم ، ولا عَلت أمورُهم إلا أسْبِلَت ستورُهم ، ولا أوقِدَتْ نارُهم إلا انطفأنورهم . ولا هَمْلَجتْ عِتَاقهم إلا فظعت أخلاقهم ، ولا صلحت أحوالهم ، إلا فسدت أفعالهم ، ولا كثُرَ مالهم ، إلا قل جمالهم ، وعزَ معروفهم ، وورمَتْ أنوفهم ، حتى إنهم ليصيرون على الإخوان مع الخطوب خَطْباً ، وعلى الأحرار مع الزمان ألباً . قُصَارى أَحدهم من المجد أن ينصبَ تحته تَخْتَه ، وأن يوطئ استه دستَه ، وحَسْبُه من الشرف دارٌ يصهرجُ أرضَها ، ويزخرف بعضَها ، ويزوِّق سقوفها ، ويعلق شُفُوفها ، وناهيه من الشرف أَنْ تغدو الحاشيةُ أمامَه ، وتحمل الغاشية قدَّامه ، وكفاه من الكرم ألفاظ فقاعية ، وثيابٌ قداعية ، يلبسها ملوماً ، ويحشوها لُوماً ، وهذه صفة أفاضلهم . ومنهم من يمنَحُكَ الودَّ أيام خُشكاره حتى إذا أخصب جعل ميزانَه وكِيَله ، وأسنانه أكَيله ، وأنيسه كِيسه ، وأَليفه رغيفَه ، وأمينَه يمينه ، ودنانيره سَمِيره ، وصندوقه صديقَه ، ومفتاحه ضجيعَه ، وخاتمه خادِمَه ، وجمع الدرَّة إلى الدرَّة ، ووضع البَدْرَة على البدرة ، فلم تقع القَطْرَة من طَرْفه ، ولا الدرّة من كفِّه ؛ ولا يخرج ماله عن عهدة خاتمه ، إلى يوم مَأتمه ، وهو يجمعُ لحادثِ حياتِه ، أو وارثِ وفاتِه ، يسلُكُ في الغَدْرِ كلَّ طريق ، ويبيعُ بالدرهم ألْف صديق ؛ وقد كان الظنُّ بصديقنا أَبي سعيد - أيّده الله تعالى - أنه إذا أخصب آواناً كنفاً من ظلّه ، وحبَانَا من فضله ، فمَنْ لنا الآن بعدله ؟ إنه - أطال الله بقاءَه - حين طارت إلى أُذنه عُقاب المخاطبة بالوزير ، وجلس من الديوان في صَدْر الإيوان افتضَّ عُذْره السياسة لديّ ، بتعرض بعض المختلفة إليّ ، وجعل يعرضه للهلاك ، ويتسبب إليه بمال الأتراك ، وجعلت أكاتِبه مرة وأقصِدُه أخرى ، وأذكّره أنّ الراكب ربما استنزل ، والوالي ربما عُزِل ، ثم يجفّ ريق الخجل على لسان العذر ، فتبقى الحزازة في الصدْرِ ، وما يجمعني والشيخ إن كان زَادَهُ قولي إلا علوّاً في تحكمه وغلوّاً في تهكمه وجعل يمشي الجَمَزَى في ظلمه ؛ ويبرَأ إليَّ من علمه ، فأقولُ - إذا رأيت ذِلّةَ السؤال مني وعزَّةَ الردّ منه لي - : مجزوء الكامل :
قلْ لي متى فَرْزَنتَ سُرْ . . . عة ما أرى يا بَيْذَقُ
وما أضيع وقتاً فيه أضَعْتُه ، وزماناً بذكره قطَعْته ، هلمَّ إلى الشيخ وشرعته ، فقد نكأالقلب بقَرْحه ، وكيف أصِفُ حالاً لا يقرع الدهرُ مَروَةَ حالِه ، ولا ينتقض عروة إجلالِه ؛ فما أولاني بأَن أذكره مجْملاً ، وأتركه مفصَّلاً ، والسلام .
وكتب إلى بعض إخوانه في أمر رجل ولي الأشراف : فهمت ما ذكرت - أطال الله بقاءك - من أمر فلان أنه ولي الأشراف ، فإن يصدق الطير يكن إشرافاً على الهلاك ، بأيدي الأتراك ، فلا تحزُنْكَ ولايتُه فالحبل لا يبرم إلا للفتل ، ولا تعجبك خلعته فالثور لا يزينُ إلا للقتل ، ولا يرعك نِفاقُه فأرخص ما يكون النفط إذا غلا وأَسفل ما يكون الأرنب إذا علا ، وكأنِّي به وقد شنَّ عليه جران العَوْدِ ، شنَّ المطر الجَوْد ، وقيّد له مركبُ الفجار ، من مربط النجار ، وإنما جر له الحبل ، ليُصفَع كما صُفِع من قبل ، وستعودُ تلك الحالة إحالة ، وينقلبُ ذلك الحبلُ حِبَالة ، فلا يحسد الذئب على الإلية يُعْطَاها طعمة ، ولا يحسب الحبَّ يُنثر للعصفور نعمة ، وهبه وُلي إمارة البحرين أليس مرجعه ذلك العقل ، ومصيره ذلك الفضل ، ومنصبه ذلك الأصل ، وعصارته ذلك النسل ، وقعيدته تلك الأهل ، وقوله ذلك القول ، وفعله ذلك الفعل ، فكان ماذا ؟ أليس ما قد سلب أكثر مما أُوتي ، وما عدم أوفر ممّا غنم ؟ ما لك تنظرُ إلى ظاهره ، وتعمي عن باطنه ؟ أكان يعجبك أن تكونَ قعيدتُه في بيتك ، وبغلتُه من تحتك ، أم كان يسرُّك أن تكون أَخْلاقُه في إهابك ، وبوّابُه على بابك ؟ أم كنت تودّ أن تكونَ وَجْعَاؤه في إزارك ، وغِلْمانه في دارك ؟ أم كنتَ تَرْضَى أن تكون في مربطك أفراسُه ، وعليك لباسُه ، ورأسك راسُه ؟ جعلت فداك ما عندك خير ممّا عنده ، فاشكر اللهَ وحدَه على ما آتاك ، واحمَدْه على ما أعطاك ، ثم أنشد : البسيط :
إن الغنيَّ هو الراضي بعيشته . . . لا مَنْ يظلُّ على الأقدارِ مكتئبا
بين البخل والجود
ألَف سهل بن هارون كتاباً يمدح فيه البخلَ ويذمُّ الجودَ ؛ ليظهر قدرته على البلاغة ،وأهداه للحسن بن سهل في وزارته للمأمون ، فوقع عليه : لقد مدحتَ ما ذمَّه الله ، وحسنت ما قبّح الله ، وما يقوم صلاحُ لفظك بفساد معناك ، وقد جعلنا نوالك عليه قبولَ قولِكَ فيه .
وكان الحسنُ من كرماء الناسِ وعقلائهم . سُئل أبو العيناء عنه ، فقال : كأنما خَلف آدمَ في ولده ، فهو ينفع عَيْلَتهم ، ويسدُّ خَلَّتَهم ، ولقد رفع الله للدنيا من شأنها ، إذ جعله من سكَانِها .
أخذ هذا المعنى أبو العيناء من قول الشاعر : الكامل :
وكأن آدمَ كان قبل وفاتِه . . . أَوصاك وَهْوَ يجودُ بالْحَوْباء
بِبَنيه أن ترعاهُمُ فَرَعَيْتَهُمْ . . . وكَفَيْتَ آدمَ عَيْلةَ الأبْنَاء
وأخذ أبو الطيب المتنبي آخر كلام أبي العيناء فقال : البسيط :
قد شرف الله دُنيا أنْتَ سَاكِنُها . . . وشرَّفَ الناسَ إذ سوّاكَ إنسانا
وقيل للحسن بن سهل : لم قيل : قال الأول ، وقال الحكيم ؟ قال : لأنه كلام قد مزّ على الأسماع قَبْلَنا ، فلو كان زللاً لما نُقِل إلينا مستحسَناً .
ومن أمثال البخلاء واحتجاجهم ، وحِكمهم :
أبو الأسود الدؤلي : لا تُجاوِد الله ، فإنه أجودُ وأمجد ، ولو شاء أن يوسِّع على خَلْقه حتى لا يكون فيهم محتاج فعل . وقال : لو أطَعْنا المساكين في إعطائنا إياهم كنا أسوأ حالاً منهم .
وقال الكندي : قولُ ' لا ' يدفع البلاء ، وقول ' نعم ' يزيل النعم . وقال : سماع الغناء بِرْسام حَادٌ ؛ لأن المرءَ يسمع فيطرب ، فيسمح فيفتقر ، فيغتمّ فيمرض فيموت . وقال لابنه : يا بني ، كُنْ مع الناس كاللاعب بالقمار ، إنما غَرَضُه أَخذ متاعهم ، وحِفْظُ متاعه .
وقال غيره : مَنْعُ الجميع أَرْضى للجميع . إذا قبح السؤال حسن المنع .
وقال عليُّ بن الجهم : من وَهَب في عمله فهو مخدوع ، ومن وَهَب بعد العَزْلِ فهوأحمق ، ومن وَهب من جوائز سلطانه أو ميراث لم يتْعَب فيه فهو مخذول ، ومن وهب مِنْ كِيسه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه ، المختوم على سمْعه وبصره .
ومن إنشاداتهم : الخفيف :
لا تجُدْ بالعطاءِ في غير حق . . . ليس في مَنْعِ غير ذي الحقّ بُخْلُ
وقال كثيّر : الطويل :
إذا المال لم يوجِبْ عليك عطاءَهُ . . . حقيقةُ تقوى أو صديقٌ تُرَافِقُهْ
مَنَعْتَ ، وبعضُ المَنْعِ حَزْمٌ وقوّة . . . ولم يفتلتك المالَ إلاّ حَقائِقُهْ
ابن المعتز : السريع :
يا ربَّ جُودٍ جرَّ فَقْرَ امرئ . . . فقام للناس مقامَ الذليلْ
فاشدُد عُرا مَالِكَ واستَبْقِهِ . . . فالبُخْلُ خيرٌ من سؤال البخيلْ وكتب بعضُ البخلاء يصفُ بخيلاً : حضرت - أعزَّك الله - مائدةَ فلانٍ للقَدَر المجلوب ، والحَيْنِ المُتَاح ، والشقاء الغالب ، فرأيت أواني تروق العيون محاسنُهَا ، ويُونِقُ النفوسَ ظاهرها وباطنها ، وتزهى اللحظات ببدائع غرائبها ، وتستوفي الشهوات بلطائف عجائبها ، مُكَللَة بأَحسن من حلي الحسان ووجوهِها وزَهْر الرياض ونَورها ، كأنَّ الشمسَ حلّت بساحتها ، والبدر يغرف من جوانبها ، فمددت يداً عَنتهَا الشراهة ، وغلبها القدر الغالب ، وجرّها الطمع الكاذب ، وإذا له مع كَسْر كل رغيف لحظة نكْر ، ومع كل لُقْمَةٍ نَظْرة شَزْر ، وفيما بين ذلك حُرَق قائمة ، يَصْلَى بها مَنْ حضره من الغلمان والحشم ، وقام بين يديه من الولدان ، والخدم ، ومع ذلك فترة المغشيّ عليه من الموت ؛ فلمّا وضعت الحربُ أوزارها برفع الخِوَان ، وتخلّت عنه سمادير الغَشيان ، بسطلسانَ جهْلِه ، ونصر ما كان من بخله ، ونظر إلى مؤاكِلِهِ ، نظر المسترقِّ له بأكَلته ، المالك لخَيْطِ رقبته يظنُّ أنه أولى من وَالديه بنسبته ، وأحقّ بماله ، من وَلده وعياله ، يرى ذلك فضلاً ، وحقّاً لازماً ، وأمراً واجباً ، نزل به الكتابُ والسنة ، واتفقَ عليه قُضاةُ الأمة ، فإنْ دفعه ردّ حكم القضاة عليه ، وإن سَمَح به فغيرُ محمود عليه .
فقر لابن المعتز وغيره في الصديق والصدق
إنما سُمِّي الصديقُ صديقاً لصدقه فيما يدَّعيه لك ، وسُمِّي العدوّ عدواً لِعَدْوِهِ عليك إذا ظفر بك . علامةُ الصديق إذا أراد القطيعةَ أن يؤخّر الجواب ، ولا يبتدئ بالكتاب ، لا يفسدنك الظنُّ على صديق قد أصلحك اليقين له . إذا كثرت ذنوبُ الصديقِ أنْمَحَقَ السرورُ به ، وتسلّطت التهم عليه . من لم يقدم الامتحانَ قبل الثقة والثقة قبل الأُنس أثمرت مودّتُه ندماٌ . نُصْح الصديق تأديبٌ ، ونصحُ العدو تأنيب . ظاهرُ العتاب خيرٌ من باطن الحقد ، وما جُمش الود بمثل العتاب : الكامل :
تَرْكُ العتاب إذا استحق أخٌمنك العتابَ ذريعةُ الهَجْرِ
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى صديق له من الحَبْسِ : نحن في الصحبة كالنَسْرَيْنِ ، لكني واقع ، وعلى الطائر أن يغْشَى أخاه ويراجع . من قل صدقه قل صديقه . من صدقت لهجته ظهرتْ حُجته . الصادق بين المهابة والمحبة . من عرِف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يَجُزْ صِدْقه ، ومن تمام الصدق الإخبار بما تحتمل العقول .
من إنشاء الحسن بن وهب
وكتب الحسن بن وهب إنى أبي تمام أطائي : أنت ، حفظك الله ، تَحْتَذي من البيان في النظام ، مثل ما نقصد نحن في النثر من الإفهام ، والفضلُ لك - أعزّك الله - إذ كنت تأتي به في غاية الاقتدار ، على غاية الاقتصار ، في منظوم الأشعار ، فَتحلّ متعقده ، وتربط متشرّده ، وتضم أقطاره ، وتجلو أنواره ، وتفصله في حدوده ، وتخرجه في قيوده ، ثم لا تأتي به مهملاً فيستبهم ، ولا مشتركاً فيلتبس ، ولا متعقداً فيطول ، ولا متكلفاً فيحول ؛ فهو منك كالمعجزةِ تضرب فيه الأمثال ، وتشرح فيه المقال ؛ فلا أعدمنا الله هَداياك واردة ، وفوائدك وافدة ، وهي طويلة .وفي هذه الرسالة يقول أبو تمام ، وقد أَرى أنه قال ذلك في غيرها : الوافر :
لقد جَلَّى كتابُك كلَّ بَثٍّ . . . جَوٍ ، وأصاب شاكلةَ الرَّمِيِّ
فَضَضْتُ خُتامَهُ فتبلَجَتْ لي . . . غرائبُه عن الخبرِ الجلِيِّ
وكان أغَضَّ في عَيْني وأَنْدَى . . . على كبدي من الزهر الْجَنِيِّ
وأَحْسَنَ موقعاً منِّي وعندي . . . من البُشْرى أتت بَعد النُّعِيِّ
كتبتَ به بلا لفظٍ كريهٍ . . . على أذن ، ولا لفظٍ قمِيّ
وضُمِّنَ صَدره ما لم تُضمَّنْ . . . صدورُ الغانياتِ من الحلِيّ
فإن تَكُ من هداياك الصفايا . . . فربَّ هديّةٍ لك كالهَديّ
لئن غرَّبْتَها في الأرض بكرا . . . لقد زُفّتْ إلى سمعٍ كَفِيِّ
وقال البحتري في الحسن بن وهب : الكامل :
وإذا تألَّقَ في النَّدِيِّ كلامُهُ ال . . . مصقولُ خِلتَ لسانَهُ مِنْ عَضْبِه
وإذا دَجَتْ أقلامُه ثمَّ انتحَتْ . . . بَرَقَتْ مصابيحُ الدُجا في كُتْبِهِ
باللفظ يَقْرُبُ فَهْمُهُ في بُعْدِهِ . . . مِنّا ، ويَبْعُدُ نَيْلُهُ في قُرْبِهِ حِكَمٌ فَسائِحُها خِلالَ بَنانِهِ . . . مُتَدَفِّقٌ وقَلِيبُهَا من قَلْبِه
كالروض مؤتلق بحمرة ورده . . . وأنيق زهرته وخُضْرة عُشْبِهِأو كالبُرُودِ تُخُيِّرَتْ لِمُتَوَّجٍ . . . مِنْ خاله أو وشْيِهِ أو عَصْبِهِ
وكأنها والسَّمْعُ مَعْقُودٌ بها . . . وجهُ المحبّ بدا لِعَينِ مُحِبِّهِ
أنشد بعض الكتاب هذه الأبيات أبا العباس ثعلباً ، فاستعادها حتى فهمها ، ثم قال : لو سمع الأوائل هذا ما فَضَّلُوا عليه شعراً .
وقال بعض الكتّاب : مجزوء الكامل :
ورسالة ألفاظها . . . في النظم كالدّر النَّثِيرْ
جاءتْ إليك كأنها ال . . . توفيقُ في كل الأمورْ
بأرقّ من شكوى وأح . . . سن من حياة في سُرُورْ
لو واجهتْ أعمى لأصْ . . . بَح وهو ذو طَرْفٍ بَصِيرْ
فكأنها أمل سَرَى . . . من بعد يأسٍ في السرُورْ
أو كالفقيد إذا أتَتْ . . . لقدومهِ بشرى البشيرْ
أو كالمنام لساهرٍ . . . أو كالأمان لمستجيرْ
كتبت بحبر كالنَّوَى . . . أو كُفْر نعمى من كَفُور
فكأنما هو باطل . . . ما بين حقٍّ مُسْتَنيرْ
وقال أحمد بن أبي العباس بن ثوابة البسيط :
في كل يوم صدورُ الكتْب صادِرةً . . . من رأيه وندى كفّيه عن مثلِ
عن خَطّ أقلامِه يجري القضاءُ على . . . كلّ الخلائق بين البيض والأسَل
كأن أسطره في بطن مُهْرَقِه . . . نَوْرٌ يُضاحِكُ دَمعَ الواكف الخَضلِ
لعابه علل والصدر ينفثها . . . وربما كان فيه النفع للعلل
كالنار تعطيك من نُور ومن حُرَقٍ . . . والدهر يعطيك من غَمّ ومن جَذَلِوقال آخر : الوافر :
مدادٌ مثل خافية الغرابِ . . . ورَقّ مثل رَقْرَاقِ السرابِ
وأقلام كأرواح الجواري . . . وألفاظ كأيام الشبابِ
بلاغة عمرو بن مسعدة
قال أحمد بن يوسف : دخلت على المأمون ، وفي يده كتابٌ ، وهو يعاود قراءَته مرة بعد مرة ، ويصعّد فيه بصرَه ويصوَّبه ؛ فالتفت إليّ وقد لحظني في أثناء قراءته الكتاب ، فقال : أراك مُفَكَراً فيما تراه مني فقلت : نعم ، وَقى الله أميرَ المؤمنين المخاوفَ قال : لا مكروه إن شاء الله ، ولكني قرأتُ كتاباً وجدْتُه نظيرَ ما سمعت الرشيد يقوله عن البلاغة ، فإني سمعتُه يقول : البلاغةُ التباعد من الإطالة ، والتقرب من البغية ، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى ، وما كنتُ أتوهّمُ أن أحداً يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا فإذا فيه : كتابي إلى أمير المؤمنين ومَنْ قِبَلي من الأجناد والقوَّاد في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعةُ جُنْدٍ تأخَّرَتْ أعطياتهم ، واختلّت أحوالهم ألا ترى يا أحمد إلى إدماجه المسألة في الإخبار ، وإعفائه سلطانَه من الإكثار ؟ ثم أمرَ لهم برزق ثمانية أشهر .
وفي عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي : المتقارب :
أعِنِّي على بارقٍ ناصب . . . خفيٍّ كوحْيك بالحاجبِ
كأن تألقه في السماء . . . يَدَا كاتبٍ أو يَدَا حاسِب
فروّى منازلَ تذكارُهَا . . . يهيج من شوقك الغالب
غريب يحنّ لأوطانِه . . . ويَبْكي على عصره الذاهب
كفاك أبو الفضل عمرو الندى . . . مطالعة الأمَلِ الكاذبِ
وصِدْق الرجاء وحُسْن الوفاءِ . . . لعمرو بن مسعدة الكاتب
عريض الفِناء طويل البنا . . . ء في العزِّ والشرف الثاقب
بنى الملك طَوْد له بيتهُ . . . وأهل الخلافة من غَالب
هو المرتجى لصروف الزمان . . . ومعتصَم الراغبِ الراهبجوادٌ بما ملكتْ كفُّهُ . . . على الضيف والجار والصاحب
بأُدْمِ الركاب ووَشْي الثيا . . . ب والطِّرف والطِّفْلَة الكاعِبِ نؤملهُ لجسام الأمَورِ . . . وندعوه للجَلَلِ الكاربِ
خصيب الجناب مَطِير السحاب . . . بشيمته ليّن الجانِبِ
يروّي القنا من نحور العدا . . . ويُغْرِق في الجودِ كاللاّعب
إليك تبدَّتْ بأكوارها . . . حراجيج في مَهْمَهٍ لاحبِ
كأن نَعَاماً تمادى بنا . . . تزايل من بَرَدٍ حاصب
يردْن نَدَى كفَك المرتَجى . . . ويقضين من حقّك الواجبِ
وللّه ما أنت من جابر . . . بِسَجْلٍ لقومٍ ومن خارب
يُساقي العدا بكؤوس الردى . . . ويسبق مسألة الطالبِ
وكم راغب نلْته بالعطا . . . وكم نلت بالحَتْفِ من هارب
وتلك الخلائق أعطيتها . . . وفَضْلٌ من المانع الواهب
كسبت الثناء ، وكَسْبُ الثنا . . . ءِ أفضلُ مكسبة الكاسب
يقينك يجلو ستور الدجى . . . وظنُّك يُخْبِر بالغائب
وهذا الشعر يتدفّق طبعاً وسلاسة .
بين الطبع والتكلّف
قلت : والكلامُ الجيد الطبع مقبول في السمع ، قريبُ المِثَال ، بعيد المَنَال ، أنيق الديباجة ، رقيق الزجاجة ، يدنو من فَهْم سامعِه ، كدنوّه من وهم صانعه ، والمصنوع مثقف الكعوب ، معتدلُ الأنبوب ، يطرد ماءُ البديع على جَنَبَاته ، ويجول رَوْنَق الحسن في صفحاته ، كما يجول السِّحْر في الطَّرْف الكحيل ، والأثرُ في السيف الصقيل ، وحمل الصانِع شعره على الإكراه في التعمل وتنقيح المباني دون إصلاح المعاني يُعْفي آثار صنعته ، ويطفئ أنوار صيغته ، ويخرجه إلى فسادِ التعسّف ، وقَبْح التكلّف ؛ وإلقاءُ المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسُه ، وتنفثه وساوسه ، من غير إعمال النظر ، وتدقيق الفكر ، يخرجه إلى حَدّ المشتهر الرثّ ، وحيّز الغثّ ؛ وأحْسَنُ ما أجري إليه ، وأعولعليه ، التوسّط بين الحالين ، والمنزلة بين المنزلتين ، من الطبع والصنعة .
وقد قال أعرابي للحسن البصري : علمني ديناً وسيطاً ، لا ساقطاً سقوطاً ، ولا ذاهباً فروطاً ، قال الحسن : أحسنت ، خيرُ الأمور أوساطها . والبحتري عن هذا القوس ينزع ، وإلى هذا النحو يرجع .
مُلح في باب الشعر
ومن الشعر الذي يجري مع النفس قول ابن المعتز يمدح المكتفي ؛ إذ قدم من الرقة بعد القبض على القرمطي فقال : مجزوء الكامل :
لا ورمّانِ النهودِ . . . فوق أغصانِ القدودِ
وعناقيدَ مِنَ أصدا . . . غٍ ووَرْد من خُدودِ
وبدور من وُجوهٍ . . . طالعات بالسعودِ
ورسول جاء بالمي . . . عاد من بَعْدِ الوعِيد
ونعيم من وِصَال . . . في قَفَا طولِ الصدود
ما رأت عيني كظبْي . . . زارني في يوم عيد
في قَبَاء فاختيِّ اللون من لبس الجديد
كلما قاتل جند . . . يٌ بسيف وعَمُودِ
قاتل الناسَ بعي . . . نِ وخَدَّينِ وجِيدِ
قد سقاني الخمر من في . . . ه على رغم الحَسُودِ
وتعانقنا كأنا . . . وهْوَ في عَقْدٍ شديدِ
نقرع الثغر بثغر . . . طيب عند الورودِ
مثل ما عاجل بردٌ . . . قطْر مُزن بجمود
سحراً من قبل أن تر . . . جع أرواح الوفود
ومضى يخطر في المش . . . ي كجبار عنيد
مرحباً بالملك القا . . . دم بالجدِّ السعيديا مذلَّ لبَغْي يا قا . . . تل حيَّات الحقُودِ
عش ودُمْ في ظِلِّ عَيش . . . خالدٍ باقٍ جديدِ
فلقد أصبح أعدا . . . ؤك كالزرْعِ الحصِيدِ
ثم قد صاروا حديثاً . . . مثل عادٍ وثمود
جاءهم بحرُ حديد . . . تحت أجيالِ بُنُودِ
فيه عقبان خيولٍ . . . فوقها أسدُ جُنودِ
وَرَدُوا الحرب فمدُوا . . . كل خَطيٍّ مديدِ
وحسام شَرِهِ الح . . . دّ إلى قَطْعِ الوَرِيد ما لهذا الفتح يا خي . . . رِ إمام من نديد
فاحمد اللَّهَ فإن ال . . . حَمْدَ مفتاحُ المزيدِ
وقول علي بن الخليل ، مولى يزيد بن مؤيد الشيباني ، وكان يُرمى بالزندقة ، قال الفضل بن الربيع : جلس الرشيد يوماً للمظالم ، فجعلت أتصفّحُ الناسَ ، وأسمعُ كلامهم ، فرميت بطَرْفي ، فرأيت في آخرهم شيخاً حسَنَ الهيئةِ والوجْه ما رأيتُ أحسنَ منه ؛ فوقف حتى تَقَوَّضَ المجلسُ ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، رقعتي ؛ فأمر بأخذها ، فقال : إنْ رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بقراءتها ؛ فأنا أحسنُ تعبيراً لخطّي من غيري - فقال له : اقرأْ ، فقال : شيخ ضعيف ، ومقامٌ صَعب ، ولا آمَنُ الاضطراب ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يصلَ عنايَته بأمري في الإذن بالجلوس فعل ، فقال : اجلسْ ، فجلس وأنشأ يقول : الكامل :
يا خيرَ من وخدتْ بأرحُلِهِ . . . نُجُبُ الركاب بمَهْمَهٍ جَلْسِ
طوي السباسبَ في أزمتها . . . طيَ التِّجَارِ عمائمَ البِرْسِ
لما رأتك الشمسُ طالعة . . . سجدتْ لوجهك طلعة الشمْسِ
خيرُ البَرِيَّةِ أنت كلّهم . . . في يومك الغادي وفي الأمْسِوكذاك لن تنفكَّ خيرَهُم . . . تمسِي وتصبح فوق ما تُمسِي
للّه ما هارون من ملك . . . عفِّ السريرة طاهر النفْسِ
تمّت عليه لربِّه نِعَمٌ . . . تزداد جدّتها مع اللّبْسِ
من عترة طابَتْ أرومتها . . . أهل العفاف ومنتهى القُدْسِ
متهلّلين على أسِرَّتهم . . . ولدى الهياج مَصاعبُ شُمْسِ
إني لجأتُ إليك من فَزَع . . . قد كان شرَّدَني ومن لَبْسِ
لما استخَرْتُ الله مجتهداً . . . يمَّمتُ نحوك رِحْلَة العَنْس
واخترت حِلْمك لا أجاوزهُ . . . حتى أغيَّبَ في ثَرَى رَمْسِي
كم قد سريت إليك مُدَّرعاً . . . ليلاً يموجُ كحالِك النقْسِ
إن راعني من هاجسٍ فزَعٌ . . . كان التوكّلِ عنده تُرْسِي
ما ذاك إلا أنني رجلٌ . . . أصبو إلى نَفرٍ من الإنْسِ
بيض أوانس لا قرون لها . . . يقتلن بالتطويل والحَبْس
وأجاذب الفتيان بينهمُ . . . صفراءَ مثل مُجَاجةِ الوَرْسِ
للماء في حافاتها حبَبٌ . . . نظم كرقم صحائف الفُرسِ
والله يعلمُ في بنيته . . . ما إن أضعت إقامَة الْخَمسِ
قال : ومن تكون ؟ قال : علي بن الخليل ، الذي يقال إنه زنديق ، فقال له : أنت آمن ، وأمر له بخمسة آلاف درهم .
وأنشد أبو العباس المبرّد لرجل يصف دعوة دعَا بها الله عزّ وجلّ ، وقد رأيتها في شعر محمد بن حازم الباهلي : الطويل :
وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتغي . . . محلاًّ ، ولم يقطع بها البِيدَ قاطعُ
سَرَتْ حيث لم تُحْدَ الرِّكَاب ولم تُنَخْ . . . لوردٍ ، ولم يقصر لها القيد مانعُ
تمرُّ وراء الليل والليل ضاربٌ . . . بجثمانه فيه سَمِيرٌ وهاجعُ
إذا وردَتْ لم يَرْدُدِ الله وفدها . . . على أهلها ، واللَّهُ رَاءٍ وسامعُتفتَّحُ أبوابُ السمواتِ دونها . . . إذا قرع الأبوابَ منهنّ قارعُ
وإني لأرجو اللَّهَ حتى كأنني . . . أرى بجميلِ الظنّ ما الله صانع
أخبار معن بن زائدة
ودخل رجل من شيبان ، على معن بن زائدة ، فقال : ما هذه الغيبة . فقال : أيها الأميرُ ، ما غاب عن العَين مَنْ يذكرهُ القَلْب ، وما زال شوقي إلى الأمير شديداً ، وهو دون ما يَجِب له ، وذِكري له كثيراً ، وهو دُون قَدْرِه ، ولكن جفوة الحجّاب ، وقِلَّةَ بشر الغلمان ، منعاني من الإتيان فأمر بتسهيل إذنه ، وأجزل صلته .
وقال أبو جعفر المنصور لمعن بن زائدة : كبرت يا مَعْن قال : في طاعتك يا أّمير المؤمنين ، قال : إنك لجَلد ، قال : على اِّعدائك ، قال : وإنّ فيك لبقيَّة ، قال : هي لك يا أَميرَ المؤمنين ، قال : فأي الدولتين أحبُّ إليك ؛ هذه أم دولة بني أمية . قال : ذلك إليك يا أمير المؤمنين ، إن زاد برُّك على برِّهم كانت دولتُك أحبَّ إليَّ . ومعن هذا هو : معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو أخي الحوفزان بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن منبه بن مرة بن ذُهْل بن شيبان ، وبنو مطر بيت شيبان ، وشيبان بيت ربيعة .
وكان معن أَجود الناسِ ، وفيه يقول مَرْوان بن أبي حفصة ويعم بني مطر : الطويل :
بنو مطرٍ يومَ اللقاءِ كأنهم . . . أسود لها في غِيل خَفّان أشبُلَ
همُ يمنعون الجارَ حتى كأنما . . . لجارهمُ بين السِّماكَيْنِ منزلُ
ولا يستطيعُ الفاعلون فعَالهمْ . . . وإن أَحسنوا في النائبات وأَجملُوا
بهَاليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُنْ . . . كأوَّلهم في الجاهلية أولُ
هم القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعُوا . . . جابوا وإن أعْطَوْا أطابوا وأجْزَلوا
أخذ البيتَ الأولَ ابن الرومي ، وزاد فقال : البسيط :
تلقاهمُ ورِماح الخطّ بينهُمُ . . . كالأسْدِ ألبسها الآجامَ خَفَّانُبين الجبن والحزم
أتى قوم من العرب شيخاً لهم قد أَرْبى على الثمانين ، وأَهدف على التسعين ، فقالوا : إنَّ عدوَّنا استاق سَرْحَنا ، فأَشِرْ علينا بما نُدْرِك به الثّأر ، وننفي به العارَ ، فقال : الضعف فسخ هِمّتي ، ونكث إبرام عزيمتي ، ولكن شاوروا الشجعان من ذوي العَزْم ، والجبناء من ذوي الحزم ؛ فإنَّ الجبان لا يَألو برأيه ما بَقِي مهجكم ، والشجاع لا يألو برأيه ما يشيد ذكركم ، ثم أخلصوا من الرأي بنتيجة تبعد عنكم معرَّة نقصِ الجبان ، وتَهَوّر الشجعان ، فإذا نجمَ الرأيُ على هذا كان أنفذ عَلَى عدوكم من السَهْم الصائب ، والحُسَام القاضب .
بين الجهل والعقل
قال الأصمعي : سمعت أعرابية تقول لرجل تخاصِمُه : واللّه لو صُوّر الجهل لأَظلم معه النهار ، ولو صُوّر العَقْلُ لأضاء معه الليل ، وإنك من أفضلهما لمعدم ، فخَفِ الله ، واعلم أنَّ من ورائك حَكَماً لا يحتاجُ المدَّعي عنده إلى إحضار البيّنة .
هجاء بني كليب
قال الفرزدق يهجو كليباً : الوافر :
ولو يُرْمى بلؤمِ بني كُليبٍ . . . نجومُ الليل ما وضَحَتْ لِساري
ولو لبس النهارَ بنو كليب . . . لدَنَّسَ لؤمُهمْ وَضَحَ النهارِ
أقوال الأعراب في النثر والشعر
وقاد سفيان بن عيينة : سمعت أعرابياً يقول عشية عَرَفة : اللهمّ ، لا تحرِمْنِي خيرَ ما عندك لِشرِّ ما عندي ، وإن لم تتقبَّلْ تَعبِي ونَصَبي فلا تَحْرِمني أَجْرَ المصاب على مصيبته .وقال آخر منهم لصديق استبطأه فلامه : كانت لي إليك زَلة يمنعني من ذِكرها ما أَمَّلتُ من تجاوُزك عنها ، ولست أعتَذِرُ إليك منها إلا بالإقلاع عنها .
وقال آخر لابن عم له : والله ما أَعْرف تقصيراً فأقلع ، ولا ذنباً فأعتب ، ولست أَقولُ : إنك كذبت ، ولا إنني أذنبت .
وقال آخر لابن عمّ له : سأتخطّى ذنبك إلى عُذْرِك ، وإن كنت من أحدهما على يقين ، ومن الآخر على شك ، لتتمَّ النعمة مني إليك ، وتقومَ الحجةُ لي عليك .
وأصيب أعرابيٌّ بابن له فقال - وقد قيل له : اصبر - أَعَلَى الله أتجلَّد ، أم في مصيبتي أتبلّد ؟ والله للْجَزَع من أمره أحبُّ إليّ الآن من الصبر ؛ لأن الجزع استكانة ، والصبر قَساوة ، ولئن لم أجزع من النقص لا أفرح بالمزيد .
ودعا أعرابي فقال : اللهمَّ إني أعوذ بك أن أفتقرَ في غِنَاكَ ، أو أضلّ في هدَاك ، أو أذِلّ في عزّك أو أضام في سُلطَانك ، أو أضْطَهد والأمر إليك .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يَعِظُ رجلاً وهو يقول : وَيحَك إنّ فلاناً وإن ضحك إليك ، فإنه يضحكُ منك ، ولئن أظهر الشفقةَ عليك ؟ إنِّ عقاربه لتسري إليك ؛ فإن لم تتّخِذه عدوّاً في علانيتك ، فلا تجعله صديقاً في سرِيرتك .
سمع أعرابيّ رجلاً يقعُ في السلطان ، فقال : إنك غُفْل لم تَسِمك التجارب ، وفي النصح لَسْعُ العقارب ، كأني بالضاحك إليك ، وهو باكٍ عليك . وحذَّر بعضُ الحكماء صديقاً له صحبه رجل ، فقال : احْذَر فلاناً فإنه كثيرُ المسألة ، حسن البحث ، لطيف الاستدراج ، يحفظُ أول كلامك على آخره ، ويعتبرُ ما أخَّرت بما قدَّمت ، فلا تظهرنَّ له المخافة فيرى أنْ قد تحرَّزْت ؛ وأعلمْ أَنَّ من يقظة الفطْنة إظهارَ الغفلة مع شدة الحذر ، فباثِثْهُ مباثَّةَ الآمن ، وتحفَّظ منه تحفّظَ الخائف ؛ فإنَّ البحث يظهر . الخفيّ الباطن ، ويُبْدي المستكنَّ الكامن .
أتى أَعرابيّ رجلا لم يكن بينه وبينه حرمة في حاجةٍ له ، فقال : إني امتطيتُ إليك الرجاءَ ، وسَرَيْتُ على الأمل ، ورافقت الشكر ، وتوسَّلت بحُسْنِ الظنّ ، فحقق الأمل ، وأَحْسِن المثوبة ، وأكرم الصفَد ، وأَقِم الأَوَد ، وعجِّل السّراح .قال الأصمعي : وسمعتُ أعرابياً يقول : إذا ثبتت الأصول في القلوب ، نطقت الألسنةُ الفروع واللّه يعلم أَنَّ قلبي لك شاكر ، ولساني ذاكِر ، ومحال أن يظهرَ الودّ المستقيم ، من الفؤاد السقيم .
ومدح أعرابي رجلاً ، فقال : إنه ليغسل من العار وجوهاً مسودّة ، ويفتح من الرأي أبواباً منسدَّة .
وقال أعرابي : الكامل :
كم قد ولدتُمْ من رئيسٍ قَسْوَرِ . . . دامي الأظافرِ في الخميس المُمْطِرِ
سَدِكَت أنامله بقائم مرهف . . . وبنشر فائدة وجذوةِ مِنْبَرِ
ما إن يريد إذا الرماحُ تشاجرَتْ . . . درعاً سوى سربال طِيبِ العنصرِ
يلقي السيوفَ بوجهه وبنحره . . . ويقيم هامته مقام المِغْفَر
ويقول للطِّرْفِ اصطبر لِشَبَا القَنَا . . . فعقرتُ ركن المجد إن لم تُعْقَرِ
وإذا تأمّل شخصَ ضَيفٍ مقبلٍ . . . متَسَرْبل سربال مَحْلٍ أغبرِ
أَوْمى إلى الكَوْمَاء هذا طارق . . . نَحَرَتنيَ الأعداء إن لم تنحرِي
وقال : البسيط :
قامت تَصدَّى له عَمْداً لغفلته . . . فلم يرَ الناسُ وَجْداً كالذي وجَدَا
جيداء رَبْدَاء لم تعقد قلائدَها . . . وناهدٌ مثل قلب الظَّبْي ما خَضَدا
فراح كالحائم الصدْيَان ليس له . . . صَبْرٌ ولا يأمن الأعداء إن وردَا
وقال آخر : الطويل :
ومكتتماتٍ بعد وَهْن طرقْنني . . . بأَرديةِ الظلماء ملتحفاتِ
دَسْسنَ رسولاً ناصحاً وتلونهُ . . . على رقبةٍ منهنَّ مستَتراتٍ
فبتُّ أعاطيهنّ صرفَ صبابةِ . . . وبتْنَ على اللذّات معتكفاتفيا وَجْدَ قلبي يوم أتبعتُ ناظري . . . سليمى وجادَتْ بعدها عَبراتِي
وقال الأحنف بن قيس : من لم يستوحش من ذلِّ المسألة لم يأنفْ من الردّ .
وقال سفيان الثوري لأخ له : هل بلغك شيءٌ مما تكرهُه عمن لا تعرف . قال : لا ، قال : فأقلل ممن تعرف .
أخذه ابن الرومي ، فقال : الوافر :
عدوُّك من صديقك مُستَفاد . . . فأَقلِلْ ما استطعتَ من الصحابِ
فإنَّ الداءَ أكثر ما تراهُ . . . يكونُ من الطعام أو الشراب
فدَعْ عنك الكثيرَ فكم كثير . . . يُعاف ، وكم قليل مستطابِ ؟
وما اللُجَجُ المِلاح مُرَوِّياتٍ . . . ويُلْفى الرّيُّ في النُّطَفِ العِذابِ
باب المديح
وقال رجل لخالدِ القسري : واللِّه إنك لتَبْذُل ما جل ، وتجبر ما انفلّ ، وتكثر ما قلِّ ؛ ففضلك بديع ، ورأيك جميع ، تحفظ ما شَدَّ ، وتؤلف ما نَدَّ .
وسئِل أعرابي عن قومه ، فقال : يقتلون الفَقْر ، عند شدّة القرِّ ، وأَرواح الشتاء ، وهبوب الجِرْبِيَاء ، بأسنمة الجَزور ، ومُتْرَعَات القدور ، تَهَشّ وجوهُهُم عند طلب المعروف ، وتعبس عند لمعانِ السيوف .
ووصف أعرابي قوماً فقال : لهم جودُ كرام اتسعت أحوالها ، وبَأْسُ ليوث تتبعُها أشبالُها ، وهِممُ ملوكٍ انفسحت آمالُهَا ، وفَخرُ آباء شَرُفَتْ أخوالها .
وقال خالد بن صفوان ، وقد دخل على بعض الوُلاَة : قدمت فأَعطيت كلاًّ بقِسْطِه من نظرك ومجلسك ، وصوتك ، وعَدْلِك ، حتى كأنك من كلّ أحد ، وحتى كأنك لست من أحد . وذكر خالد رجلاً فقال : كان والله بديعَ المنطِق ، ذَلِق الجرأة ، جَزْل الألفاظ ، عربيَّ اللسان ، ثابت العقدة ، رقيقَ الحواشي ، خفيفَ الشفتين ، بَلِيلَ الريق ، رَحْبَالشرف ، قليل الحركات ، خفيّ الإشارات ، حُلْو الشمائل ، حسن الطلاوة ، حييَّا جريّاً ؛ قؤولاً صموتاً ، يفل الحز ، ويصيب المفاصل ، لم يكن بالهذر في مَنْطِقه ، ولا بالزمر في مروءته ، ولا بالخرق في خليقته ، متبوعاً غير تابع ، كأنه علمٌ في رأسه نار .
وقال بعض البلغاء لرئيسه : إنَّ من النعمة على المُثْني عليك أنه لا يَأْمَنُ التقصير ، ولا يخاف الإفراط ، ولا يحذر أن تَلْحقه نقيصةُ الكذب ، ولا ينتهي به المَدْحُ إلى غاية إلا وَجَد في فضلك عَوْناً على تجاوزها . ومن سعادةِ جَدِّك أن الداعي لا يعدم كثرةَ المشايعين ، ومساعدةَ النيَّة على ظاهر القول .
ألفاظ لأهل العصر في ضروب المَمَادح
قد وضعت كثرةُ التجارب ، في يدهِ مرآةَ العواقب . قد نَجدَته صروفُ الدهور ، وحنكَتْه مصايرُ الأمور . قد أرضعَتْه الحُنكَة بلبانها ، وأذَبَثْه الدُّرْبَة في إبانها . فلان نوازلُ التجارب حنكته ، وفوادِحُ الأيام عَرَكَتْه . هو عارف بتصاريف الأيام ، آخذٌ برهان التجارب ، نافذ في مجال التحصيل والتمييز . قد صحب الأيام ، وتولّى ، النقض والإبرام . هو ابنُ الدهر حُنْكةً وتجريباً ، وعُوداً على الدهر صليباً ، قد أَدّبه الليلُ والنهار ، ودَارت على رأسه الأدوار ، واختلفت به الأطوار . له همّة علا جناحُها إلى عنان النجم . وامتدَّ صباحها من شرق إلى غرب ، لا يتعاظمه إشراف الأمر إذا أخطره بفكره ، وانتساف الصّخْر إذا ألقاه في وَهْمه ، هِمَّته أبعَدُ من مَناطِ الفرقد ، وأعلى من منكب الجوزاء . أوسعُ من الأرض ذات العرض . هو حيّ القلب ، منشرحُ الصّدْر ، ذكيُّ الذهن ، شجاعُ الطبع ، ليس بالنؤوم ، ولا السؤوم ، فذّ فَرْد ، وأَسد وَرْد ، وكأنَّ له في كل جارحة قلباً . كأنّ قلبه عين ، وكأن جِسْمَه سمع . شهابٌ مقدّم ، وقِدْحٌ مقوّم . وهو شهمٌ مشدود النطاق ، قائم على سَاق ، قد جدّ واجتهد ، وحشر وحَشَد ، شمَّر عن ساق الجِدّ ما أَطاق ، قد ركب الصعب والذلول ، وتجشَم الحَزْنَ والسُّهُول ، وقطع البر والبحر ، وأعمل السيفَ والرمْحَ ، وأسرجَ الدّهم والشهب . هو مولود في طالع الكمال ، وهو جملة الجمال . قد أصبح عينَ المكارم ،وزَيْن المحافل . هو فَرْدُ دهره ، وشمسُ عَصْره ، وزبْنُ مِصْره ، وهو عَلَم الفضل ، وواسطة عِقْدِ الدهر ، ونادِرَة الفلك ، ونكْتة الدنيا ، وغُرَّة العصر . قد بايعته يَدُ المَجْد ، ومالت به الشورى إلى النصر . فلان يزيدُ عليهم زيادةَ الشمس على البدر ، والبحر على القَطْرِ . هو رائشُ نَبلهم ، ونَبعَة فضلهم ، وجُمَة وِرْدِهم ، وواسطة عِقْدهم . هو صَدرُهم وبَدْرُهم ، ومن عليه يدورُ أَمرُهم ، ينيف عليهم إنافة صفحة الشمسِ على كُرةِ الأرض ، كأنهم فلك هو قُطْبُه ، وجَسَدٌ هو قَلبه ، ومملوك هو ربُّهُ . هو مشهور بسيادتهم ، وواسطة قِلادتهم . موضعه من أهل الفضل موضِع الواسطة من العِقد ، وليلة التَمِّ من الشهر ، بل ليلة القَدْر إلى مطلع الفجر . أَفضَل وأَنْعَم ، وأَسدى في الإحسان وأَلحم ، وأَسرَج في الإكرام وأَلجم ، قسم من إنعامه ما يسَعُ أمماً ، وتلقى السعادة أمَماً ، أعطاه عنانَ الاهتمام ، حتى استولَى على قَصَبِ المرام . رُدّ عنه الدهرُ أَحَصَّ الجناح ، وملّكه مَقَادة النجاح . أولاه من معهود البرِّ ومألوفه ، وقَصَّرت الأعداء عن مِئاتِه وأُلوفه . أولاه إسعافاً سمْحاً ، وعطاء سحاً ، ومنناً صفواً وعفواً . أفاض عليه شِعابَ البِرِّ ومَسَايِله ، وجمع له شعوبَ الجميل وقبائله ، وهطَلتْ عليه سحائبُ عنايته ، ورفرفت حوله أجنحة رعايته . قد فكّه بكرمه من قَيْد السؤال ، ومعرَّة الاختلال . رَاشه بعدما حضَه الفقر ، وأَرضاه وقد أسخطه الدهر . ملأ العيونَ ، وسهر دوننا لتحقيق الظنون . قد شِمتُ من كرمِه أكرم سحاب ، وحصلت من إنعامه في أخصبِ جَناب . قد سدّ ثُلْمَة حالي ، وأَدرَّ حَلُوبة آمالي . ما أخلو من طَل إحسانه ووابله ، وغابر إنعامه وقابله . قد استمطرتُ منه بنَوْءٍ غزير ، وسريتُ في ضوء قمر منير . قد كرعتُ من برِّهِ في مَشَارع تغزر ولا تنزُر ، ورفَلْتُ من طَوْله في ملابس تطول ولا تقصُر . إقامته في ظلٍّ ظليل ، وفَضْل جزيل ، وريحٍ بليل ، ونسيم عليل ، وماء رَوِيّ ، ومعاد وطيٍّ ، وكنٍّ كنين ، ومكان مكين . أنا آوي إلى ظلِّه كما يأوي الطير المذعور إلى الحرم ، وأوَاجهُ منه وَجْهَ المجد وصورة الكرم . أنا من إنعامه بين خير مستفيض ، وجاهٍ عريض ، ونعم بيض . قد استظهرت على جَوْرِ الأيام بعَدْلِ ، واستَترتُ من دهري بظلِّه . ما أرددُ فيه طَرْفِي وأعدّه من خالص ملكي مكتسب إلى عطائه ، أو مكتَسَبٌ بجميل آرائه . مسافة بصري تبعد إن سافَرْتُ في مواهبه ، وركائب فكري تَطْلَحُ إن أنضيتُها في استقراء صنائعه . نعمته نعمة عمَّت الأمم ، وسبقت النعم ، وكشفت الهمومورفعت الهمم ، نعمه قد سطع صباحُها مستنيراً ، وطَنِبَ شعاعُها مستطيراً ، قد عرفتني نِعَمُه حتى استنفدت شُكْرَ لساني ويدي وأتعبت ظهري ، وملأت صَدْري . نِعَمُه عندي مشرفةُ الجوّ ، مغرقة النوء ، مونقة الضوء . تتابَعتْ نِعمُه تتابعَ القَطْر على القفر ، وترادفت مِنَنُه ترادفَ الغني إلى ذوي الفقر . نِعمُه أشرقَتْ بها أرضِي ، ومُطِرَ بها رَوْضي ، ووَرى لها زَنْدي ، وعلا معها جَدِّي ، وأتاني الزمانُ يعتذرُ من إساءته ، وجاءني الدهرُ ينتظرُ أمري . نِعمَهُ أنعمت البالَ ، وسرّت النفس والحال . نعم تعمُّ عمومَ المطر ، وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر . نعمٌ تَضْعف الخواطر عن التماسها ، وتَصْغُر القرائح عن اقتراحها . له أيادٍ قد عمَّت الآفاق ، ووسمت الأعناق ، وأيادٍ قد حبست عليك الشكر ، واستعبدت لك الحر . مِنَنٌ توالَتْ تَوَالي القَطْر ، واتسعت سَعَةَ البرَّ والبَحْر ، وأثقلت كاهل الحرِّ . عندي قلادة منتظمة من مِنَنه قد جعلتها وَقْفاً على نحور الأيام ، وجلوتها على أبصار الأنام . أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ ، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطَّوْل . أياديه أَطواق في أَجياد الأحرار ، وأفلاك تدورُ على ذوي الأخطار . له مِنَن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد ، ويتضاعفُ حملها على السَّبْع الشداد ، لو تحمل الثقَلان ثقلَ هذا الامتنان لأثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم . أياد يفرض لها الشكر ويحتم ، ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُخْتَم . أياد تثقل الكاهلَ ، ومِنَنٌ تُتْعِبُ الأنامل . مِنن تضعف مُنَنَ الشكر ، وينشر معها قوى النشر ، منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع ، وأَحْلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع . إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَطْرِها . أياد لا تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم ، ومِنَن لا تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم . أيادٍ كعدد الرمل والنمل ، أعيت على العدّ ، ولم تقف عند حد . زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد الأعداد ، وتسبق الإعداد . أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر ، وعوارفه لديَّ أسرعُ من رَجْع البصر . رفعتني من قَعْر التراب ، إلى سَمْك السحاب . استنبطه من الحضيض الأوْهَد ، إلى السناء الأمجد ، وقد نبهَهُ عن خمول ، وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول ، ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول . فضائل تزل أقدام النجوم لو وطِئَتْها ، وتقصر هِمَمُ الأفلاكِ لو طلبتها ، ثبتَ قدَمُه في المحلّ المنيف ، ومكنَه من جوامع التشريف . جذب بِضَبْعِه منأشرقَتْ بها أرضِي ، ومُطِرَ بها رَوْضي ، ووَرى لها زَنْدي ، وعلا معها جَدِّي ، وأتاني الزمانُ يعتذرُ من إساءته ، وجاءني الدهرُ ينتظرُ أمري . نِعمَهُ أنعمت البالَ ، وسرّت النفس والحال . نعم تعمُّ عمومَ المطر ، وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر . نعمٌ تَضْعف الخواطر عن التماسها ، وتَصْغُر القرائح عن اقتراحها . له أيادٍ قد عمَّت الآفاق ، ووسمت الأعناق ، وأيادٍ قد حبست عليك الشكر ، واستعبدت لك الحر . مِنَنٌ توالَتْ تَوَالي القَطْر ، واتسعت سَعَةَ البرَّ والبَحْر ، وأثقلت كاهل الحرِّ . عندي قلادة منتظمة من مِنَنه قد جعلتها وَقْفاً على نحور الأيام ، وجلوتها على أبصار الأنام . أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ ، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطَّوْل . أياديه أَطواق في أَجياد الأحرار ، وأفلاك تدورُ على ذوي الأخطار . له مِنَن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد ، ويتضاعفُ حملها على السَّبْع الشداد ، لو تحمل الثقَلان ثقلَ هذا الامتنان لأثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم . أياد يفرض لها الشكر ويحتم ، ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُخْتَم . أياد تثقل الكاهلَ ، ومِنَنٌ تُتْعِبُ الأنامل . مِنن تضعف مُنَنَ الشكر ، وينشر معها قوى النشر ، منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع ، وأَحْلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع . إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَطْرِها . أياد لا تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم ، ومِنَن لا تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم . أيادٍ كعدد الرمل والنمل ، أعيت على العدّ ، ولم تقف عند حد . زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد الأعداد ، وتسبق الإعداد . أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر ، وعوارفه لديَّ أسرعُ من رَجْع البصر . رفعتني من قَعْر التراب ، إلى سَمْك السحاب . استنبطه من الحضيض الأوْهَد ، إلى السناء الأمجد ، وقد نبهَهُ عن خمول ، وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول ، ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول . فضائل تزل أقدام النجوم لو وطِئَتْها ، وتقصر هِمَمُ الأفلاكِ لو طلبتها ، ثبتَ قدَمُه في المحلّ المنيف ، ومكنَه من جوامع التشريف . جذب بِضَبْعِه منالمسقط المنحطّ ، إلى المرفع المشتطّ .
ولهم في أدعية من صدور الكتب تليق بهذه الأثنية والممادح
أطال الله له البقاءَ ، كطُول يدهِ بالعطاء ، ومدَّ له في العمر ، كامتداد ظلّه على الحُرّ ، وأدام له المواهب ، كما أفاض به الرغائب ، وحرس لديه الفضائل ؛ كما عوّذ به الشمائل . تولّى الله عني مكافأَته ، وأَعان على الخير نيّته وفِعْله ، وأصحب بقاءه عزّاً يبسطُ يديه لأوليائه على أعدائه ، وكلاءةً تذبِّ عن ودائع منَنه عِنده ، وزاد في نعمه وإن عظمتْ ، وبلغه آمالَه وإن انفسحَتْ ، ولا زال الفضلُ يأوي منه إلى رُكْنٍ منيع ، وجنابٍ مريع . لا زالت الألسنُ عليه بالثناء ناطقة ، والقلوبُ على مودّته متطابقة ، والشهاداتُ له بالفضل متناسقة . لا زال يعطِف على الصادر والوارد ، عَطْفَ الأم والوالد . أبقاه الله للجميل يُعْلِي معالَمه ، ويَحْمي مكارِمَه ، ويعمر مدَارِجَه ، ويثمِّر نتائجه . أدام الله أيامَه التي هي أيام الفضائل ومواقيتها ، وأزمان المآثر وتواريخها . أدامه الله للمواهب ، ساميةَ الذوائب ، موفِية على مُنْيَة الراجي وبغية الطالب . أبقاه الله للعطاء يفضه بين خدمه ، والجمال يُفيضه على إنشاء نعمه ، واللّه يتابعُ له أيامَ العلاء والغبطة ، والنماء والبسطة ، ليرتَع أنواع الخدم في رياض فواضلِه ، ويَكْرَع أصنافُ الحشم في حياضِ مواهبه ، واللَّهُ يبقيه طويلَ الذراع ، مديد الباعِ ، مليّاً بالاتصال والاصطناع . جزاهُ الله عن نعمةٍ هيّأها بعد أن أَسبغها ، وعارفة مَلاها بعد أن سوّغها ، أفضلَ ما جازى به مبتدئ إحسان ، ومُجير إنسان ، لا زال مكانُه مَصاناً للكرم ، مَعاناً للنعم ، لا تريمه المواهب ، ولا ترومُه النوائب ، بُسِطَت بالعلا يَدُه ، وقُرِن بالسعادة جَده ، وجُعل خيرُ يومَيْهِ غَدُه ، ولا زالت الأيام والليالي مطاياه ؛ في أمانيه وآماله وأيامه ، وصَرَفَ صروف الغِيَرِ عن إصابة إقباله وكماله .
وقال ابن المعتز في القاسم بن عُبيد الله : الطويل :
أيا حاسداً يكوي التلهفُ قلبَهُ . . . إذا ما رآه غازياً وَسْطَ عَسْكَرِ
تصفَّحْ بني الدنيا فهل فيهمُ لهُ . . . نظيرٌ ترى ثم اجتهدْ وتفكرِ
فإن حدَّثَتْكَ النفسُ أنك مثلُه . . . بنَجْوى ضلالٍ بين جنبيك مُضْمَرفَجُدْ ، وأجد رأياً ، وأقدم على العِدا . . . وشُدَّ عن الإثمِ المآزِرَ واصبِر
وعاصِ شياطين الشباب وقارع الن . . . وائب وارْفَعْ صرعَةَ الضرّ واجبرِ
فإن لم تطق ذا فاعذر الدهر واعْتَرِفْ . . . لأحكامه واستغفرِ الله يغفرِ
صناعة الكلام
قال الجاحظ : صِناعةُ الكلام عِلْق نفيس ، وجَوهرٌ ثمين ، هو الكنز الذي لا يَفْنَى ولا يَبْلَى ، والصاحبُ الذي لا يُمَلُّ ولا يُقْلَى ، وهو العيارُ على كلّ صناعة ، والزمامُ لكل عبارة ، والقِسْطاسُ الذي به يَسْتبينُ نَقْصُ كلِّ شيء ورُجْحانه ، والراوُوق الذي يُعْرفُ به صَفاءُ كلّ شيء وكَدَره ، والذي كل عِلم عليه عِيَال ، وهو لكلِّ تحصيل آلةٌ ومثال .
وقال ابن الرومي : البسيط :
ما عُذْرُ معتزليّ مُوسرٍ منعَتْ . . . كَفّاه مُعْتَزليّاً مِثْلَه صفَدا
أيَزْعم القَدَر المحتوم ثبَّطَه . . . إن قالَ ذاك فَقَدْ حل الَّذِي عَقَدا
وقال ابن الرومي : الكامل :
لذوي الجدال إذا غَدَوا لجدالهم . . . حُجَجٌ تضلُّ عن الهدى وتَجُورُ
وُهُنٌ كآنيةِ الزُّجاج تَصَادمتْ . . . فهوَت ، وكلٌّ كاسرٌ مَكْسورُ
فالقاتِلُ المقتولُ ثَمَّ لِضَعْفه . . . ولوهيِه ، والآسرُ المَأْسُورُ
وقال أبو العباس الناشئ يفتخر بالكلام الطويل :
ونحن أناس يَعْرفُ الناسُ فَضْلَنا . . . بألسُنِنا زينتْ صدورُ المحافلِ
تُنير وُجُوهُ الحقِّ عند جَوابِنا . . . إذا أظلمتْ يوماً وُجُوهُ المسائلِ
صمَتْنَا فلم نترُكْ مقالاً لصامتٍ . . . وقُلْنَا فلم نتركْ مَقالاً لِقائل
وقال يصفُ أصحابه : البسيط :
فلو شَهِدْتُ مقاماتي وأنْدِيَتي . . . يوْمَ الخصام وماءُ الموت يَطَّردُ
في فتيةٍ لم يلاق الناسُ مذْ وُجِدوا . . . لهم شبيهاً ولا يُلْفَوْن إنْ فقدوا مجاورو الفضل أَفْلاكُ العُلا سبل الت . . . قوى محلّ الهدى عُمْدُ النّهى الوُطُدُ
كأنهم في صدورِ الناسِ أفئِدَةٌ . . . تحسنُ ما أخطئوا فيها وما عَمَدُوايُبْدون للناس ما تخْفِي ضمائرهم . . . كأنهم وَجَدُوا منها الذي وَجَدوا
دلوا على باطنِ الدنيا بظاهرها . . . وعِلْم ما غابَ عنهمْ بالذِي شَهدوا
مطالع الحق ما مِن شبهَةٍ غَسِقتْ . . . إلا وَمِنْهُمْ لدينا كوكبٌ يَقِدُ
وقال سعيد بن حميد : الخفيف :
قالت : اكتمْ هوايَ واكنِ عن اسمي . . . بالعزيز المُهَيْمِنِ الجَبَّارِ
قلت : لا أسْتَطِيع ذلك ، قالت : . . . صرْتَ بعدي تَقولُ بالإجْبَارِ
وتخليْتَ عن مقالة بشرب . . . ن غياث لمَذْهب النجَّارِ
وقال أبو القاسم بن عباد الصاحب : الخفيف :
كنتَ دهراً أقولُ بالاستطاعهْ . . . وأَرى الجَبْرَ ضلَّةً وشَنَاعَهْ
ففقدت استطاعتي في هوى ظَب . . . ي ؛ فسمعاً للمُخبِرين وطَاعَه
وقال أيضاً : الطويل :
ولما تناءَتْ بالحبيبِ دِيَارُهُ . . . وصرْنا جميعاً من عِيَانٍ إلى وَهْمِ
تمكَّن منِّي الشوقُ غير مُخالِسٍ . . . كمعتزليّ قد تَمكَّنَ من خَصْمِ
باب النسيب
وأنشد محمد بن سلام بعضَ هذه الأبيات التي أنشدها ، وزعم أنها لأبي كبير الهذلي ، ورُويت ليزيد بن الطَّثرِيّة وغيره ، والرواة يُدْخلون بعض الشعر في بعض ، وهي : الطويل :
عُقَيْلِيةٌ ، أمَّا مَلاَثُ إزارِها . . . فَوَعثٌ ، وأمَّا خَصرها فبَتِيلُ
تقَيَّظُ أكنَاف الحِمَى ، ويُظِلّها . . . بنَعْمان من وَادِي الأراك مَقِيلُ
فيا خُلَّةَ النفس التي ليس دُونَها . . . لنا من أَخلاّءِ الصفاءِ خَليلُ
ويا من كَتَمْنَا حُبَّه ، لم يُطَعْ لَه . . . عدوٌّ ، ولم يُؤْمَنْ عليه دَخِيلُ
أمَا مِن مقام أشْتَكي غُرْبةَ النوى . . . وخَوْفَ العِدا فيه إليكِ سَبِيلُ ؟أليس قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها . . . إليكِ ؟ وكلا ليس مِنك قليلُ
وإن عناءَ النفسِ ما دمت هكذاعَنُودَ النوى محجوبةً لطويلُ
أراجعة قلبي عليّ فَرائح . . . مع الرَّكبِ لم يكتب عليك قتيل
فلا تحمِلي وِزْرِي وأنْت ضعيفةٌ . . . فَحَمْلُ دمي يوم الحساب ثَقيلُ
فيا جنَّةَ الدنيا ، ويا مُنتهَى المنى . . . ويا نُور عيني ، هل إليك سبيلُ ؟
فديتكِ ، أعدائي كثير ، وشُقَّتي . . . بعيدٌ ، وأشياعي لديكِ قَلِيلُ
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلَّةٍ . . . فأفنيت عِلاّتي ، فكيف أقول ؟
فما كل يوم لي بأرْضكِ حاجةٌ . . . ولا كل يوم لي إليك رسولُ
وأنشد ابنُ سلاّم لأبي كبير الهذلي : الطويل :
وإني لمستَسْقٍ لها الله كُلّما . . . لوى الدَّينَ مُعْتَل وشَحَّ غَريمُ
سحائبَ لا من صَيِّبٍ ذي صَوَاعِق . . . ولا مُحرقَاتٍ ماؤهنَّ حَمِيمُ
ولا مخلفات حين هِجْنَ بنَسْمَةٍ . . . إليهنّ هوجاءُ المَهَبِّ عَقيمُ
إذا ما هَبَطْنَ القاعَ قد ماتَ نَبْتُهُ . . . بَكَيْنَ بهِ حتى يَعيش هَشِيمُ
عمران بن حطان
ولمّا ظفر الحجَّاج بعمران بن حطان الشاري قال : اضربوا عُنُقَ ابن الفاجرة ، فقال عمران : لبئسما أدّبكَ أهلُك يا حجّاج كَيف أمنت أن أُجيبك بمثْلِ ما لقيتني به ؟ أبعدَ الموت منزلةٌ أصانِعك عليها ؟ فأطْرَق الحجاج استحياءً ، وقال : خَلّوا عنه ؛ فخرج إلى أصحابه ، فتقالوا : والله ما أطْلَقك إلا الله ، فارْجِعْ إلى حَرْبه معنا ، فقال : هيهات غلَّ يداً مطلقها واسترقَّ قبةً مُعْتِقُها وأنشد : الكامل :
أأقاتل الحجاجَ عن سُلْطَانِه . . . بيدٍ تُقرّ بأنها مَوْلاتُهُ ؟
إني إذاً لأخُو الدناءة ، والذي . . . عَفَّتْ عَلَى عرفانِهِ جَهلاتُهُ ماذا أقول إذا وقفت مُوَازِياً . . . في الصفِّ واحتجَّتْ له فَعَلاتُهُ ؟وتحدَّثَ الأكْفَاء أنَّ صنَائعاً . . . غُرِسَتْ لدَيّ فحَنْظَلَتْ نخَلاتُه
أأَقول جار علي ؟ إني فيكُم . . . لأحقّ مَنْ جارَتْ عليه وُلاَته
تالله ما كدت الأمير بآلةٍ . . . وجوارحي وسِلاَحها آلاَتُه
أخذ أبو تمام هذا فقال معتذراً إلى أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعي : الطويل :
أألبِسُ هُجْرَ الْقولِ مَن لو هَجَوْتهُ . . . إذاً لهجَاني عنه معروفُه عِنْدِي
كريم متى أمْدَحْه أمدحه والورَى . . . مَعِي ، وإذا ما لمْتُه لُمْتُه وَحْلِمي
وعمران بن حطان هو القائل : البسيط :
لم يعجز الموتَ شيءٌ دون خالقهِ . . . والموتُ فَانٍ إذا ما غَاله الأَجَلُ
وكلّ كرب أمامَ الموتِ مُنْقَطِعٌ . . . بالموت ، والموتُ فيما بعدُه جَلَل
وكان الفرزدَقُ عمل بيتاً ، وحلف بالطلاق أنَّ جَريراً لا ينقضه ، وهو : الطويل :
فإنّي أنا الموتُ الذي هو نازلٌ . . . بنفسك فانظُرْ كيف أنْتَ مُحَاولُهْ
فاتصل ذلك بجرير ، فقال : أنا أبو حَزْرَة ، طلقت امرأةَ الخبيث ، وقال : الطويل :
أنا الدَهْرُ يُفْنِي الموتَ والدهرُ خالِدٌ . . . فجئْنِي بمثلِ الدهرِ شيئاً يُطاوِلُهْ
وإنما أشار جرير إلى قول عمران .
وهو عِمْران بن حِطَان بن ظبيان بن سهل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن سنان بن ذهل بن ثعلبة ، ويكنى أبا شهاب ، وكان من الشُراة ، وكان من أَخطب الناس وأَفْصَحهم ، وكان إذا خطب ثارت الخوارُج إلى سلاحها ، وكان من أقبح الناسِ وَجْهاً ، قالت له امرأته وكانت في الجمال مثله في القبح : إني لأرجو أن أكون وإياك في الجنة ؛ لأن الله رزقك مِثْلي فشكرت ، وابتلاني بمثلك فصبرت .
بين أعرابي وبعض الولاة
ودخل أعرابي على بعض الوُلاة فقال : أصْلَحَ الله الأمير ، اجعلني زِماماً من أزمَّتك ،فإني مِسْعَر حَرْبٍ ، ورَكَّاب نُجُب ، شديدٌ على الأعداء ، ليِّنٌ على الأصدقاءِ ، منطوي الحصيلة ، قليلُ الثَّمِيلة ، قليل غرار النوم ، قد غذَتْني الحروبُ أفَاوِيقها ، وحَلَبْتُ الدهرَ أشْطُره ، فلا يَمْنَعْكَ مني الدَّمَامة ، فإنّ تحتَها لشَهَامة .
الدنيا وأهلها
قال المسيح عليه السلام : الدُّنْيَا لإبليس مزرعة ، وأهلها له حُرَّاث . وقال إبليس لعنَه اللّه : العجَب لبني آدم يحبُّونَ الله ويَعْصونَه ، ويُبغضونني ويطيعونني .
أربع كلمات فيهن صلاح الملك
خرج الزهري يوماً من عند هشام بن عبد الملك فقال : ما رأيتُ كاليومِ ، ولا سمعت كأربع كلمات تكلَّم بهنّ رجلٌ عند هشام ؛ دخل عليه فقال : يا أميرَ المؤمنين ، اِحفظْ عني أرْبَع كلمات ، فيهنّ صلاحُ مُلْكك ، واستقامةُ رعيّتِك . قال : هاتهنَّ ؟ قال : لا تَعِدن عِدةً لا تَثِقُ من نفسك بإنجازها ، ولا يغرَّنك المرْتَقَى وإن كان سَهْلاً إذا كان المُنحَدرُ وَعْرأ ، واعلمْ أن للأعمال جزاءً فاتّقِ العواقبَ ، وأنَّ للأمورِ بَغَتَاتٍ فكُنْ على حذَر .
قال عيس بن دَأْب : فحدَّثت بهذا الحديث الهادي وفي يده لُقْمة قد رفعها إلى فِيهِ فأمسكها ، وقال : ويحك أعِدْ عليّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، أَسِغْ لقْمتك ، فقال : حديثك أحب إليّ .
بيعة يزيد
ولمّا عقد معاويةُ البيْعَةَ ليزيدَ قام الناسُ يخطبون ؛ فقال لعمرو بن سعيد : قمْ يا أبا أمية ، فقام فحمد الله وأثنى عليهِ ثم قال : أمّا بعد ، فإنّ يزيد بن معاوية أجلٌ تؤمونه ، أملٌ تؤملونه ، إن استضفتم إلى حِلْمه وَسِعَكم ، وإن احتجْتُم إلى رَأْيه أَرشدكم ، وإنافتقرْتم إلى ذاتِ يده أعناكم ، جَذَع قَارح ، سُوبِق فسَبَقَ ، ومُوجِدَ فمَجَدَ ، وقُورع فقَرَعَ ، وهو خَلف أمير المؤمنين ، ولملا خلف عنه ، فقال له معاوية : اجلس ، فقد أَبْلَغْتَ .
وعَمرو بن سعيد هذا هو الأَشْدَق ، وإنما سُمي الأشدق لتشادقه في الكلام ، وقيل : بل كان أَفْقم مَائل الشدق ، وهذا قول عوانة بن الحكم الكلبي ، وهو خَلافُ قول الشاعر : الطويل :
تشادق حتى مال في القول شدقةُ . . . وكل خَصيبٍ لا أباً لكَ أشْدَقُ
وكان أبوهُ سعيد بن العاصِ أَحدَ خطباء بني أمية وبلغائهم . ولما ماتَ سعيد دخل عمرو على معاوية فاستَنطَقه فقال : إن أوَّل كل مركب صَعب ، وإن مع اليوم غداً ، فقالَ معاوية : وفي هذه العلّة إلى من أَوصى بك أبوك . قال : أوصى إليّ ولم يُوصِ بي ، فقال معاوية : إن ابن سعيد هذا لأشدق .
تواضع الرشيد
قال ابن السماك للرشيد : يا أميرَ المؤمنين ، تواضُعُك في شرفك أفضَلُ من شرفك ؛ إنَّ رجلاً آتاه الله مالاً وجَمَالاً وحَسَباً ، فواسَى في مَالِه ، وعفَّ في جماله ، وتَواضعَ في شربِه ، كُتب في ديوان الله عزّ وجلّ .
المتنبي يصف علِّة أصابته بمصر
نالت أبا الطيب المتنبي علَّة بمصر ، فكان بعض إخوانه من المصريين يُكثر الإلمامَ به ؛ فلمَّا أبلَّ قطعه ، فكتب إليه : وصلْتَني ، أعزك الله ، مُعتلاً ، وقطعتني مُبِلاًّ ، فإن رأيت ألا تَكْدُر الصحةُ عليّ ، وتحبّب العلّة إليّ ، فَعَلْتَ .
وفي هذه العلّة يقول : الوافر :
أقمتُ بأرضِ مِصْرَ ؛ فلا ورائي . . . تَخُبّ بيَ الرِّكابُ ، ولا أمامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القيامِ . . . شديدُ السُّكْرِ من غيرِ المُدَامِوزائِرَتِي كَأنّ بها حَياءً . . . فلَيْسَ تَزُورُ إلا في الظَّلامِ
بَذَلْتُ لها المَطارِفَ والحَشايَا . . . فعافَتهَا ، وباتَتْ في عِظامِي
يضيق الجِلْدُ عن نَفَسِي وعنها . . . فتُوسِعُهُ بأنواعِ السقَامِ
إذا ما فارقَتني غسّلَتْني . . . كأنا عاكِفانِ على حَرَامِ
كأنَّ الصبح يَطْرُدها فَتَجْرِي . . . مَدامِعُها بأربعةٍ سِجَام
أُراقِبُ وَقْتَها مِنْ غيرِ شَوقٍ . . . مُراقَبةَ المَشُوقِ المُسْتَهامِ
ويَصْدُقُ وَعْدُها والصِّدْقُ شَرٌّ . . . إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
ألفاظ لأهل العصر في العيادة وما جانسها من ذكر التَّشَكّي والمرض وتلوّنه ، وسوء أثره ، والانزعاج لِعوارضه :
عرض لي مرضٌ أساء بالنجاة ظنّي ، وكاد يصرف وجه الإفاقة عني ، هو شُورى بين أمراض أربعة : صُدَاع لا يخفّ ، وحُمّى لا تُغِبُّ ، وزُكَام لا يجفّ ، وسُعال لا يَكُفّ . علّة هو في أسْرِها مُعتَقل ، وبقَيْدِها مُكبل . أمراض تلوَنت عليَّ ، وأساءت بي وإليّ ، فأنا أشكرُ اللّه تعالى إذ جعلها عِظة وتذكيراً ، ولم يُبْقِ منها الآن إلا يسيراً ، أحسب أن الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائي مَرَاتعها ، واَلت على أن تُصيّر جوارحي مرابِعَها . عِلَل لا يصدر منها آتٍ إلا لتكدير وِرْد ولا يعزل منها والٍ إلا بولي عهد . قد كرَّت تلك العلة فعادت عِللاً ، وسقتني بعد نَهَل عَلَلاً . علل بَرَتْه بَرْي الأخلّة ، ونقصته نَقْصَ الأهلّة ، وتركته حَرَضا ، وأوسَعَتْهُ مَرَضاً ، وغادرته والخيالُ أَكثَفُ من جُثّة ، والطيفُ أَوفر منه قُوّة . عرض له من المرض ما صار معه القنوطُ يُغَاديه ويُراوِحه ، واليأس يُخاطبه ويُصَافحه . قد ورَدَ من سوء الظنّ أَوْخمَ المناهل ، وبات من حسن الرجاء على مرَاحل . طالعتُ الكرم يترجَّح نجمه بين الإضاءة والأفول ، وتمثلُ شمسه بين الإشراق والغروب . أصبح فلانٌ لا يُقل رأسَه ، ولا يحور ظلّه ، ويدُ المنية تَقْرَع بابه . ما هو للعلّة إلا عَرض ،ولسهام المنيّة إلا غَرَض . شاهدتُ نفسي وهي تَخرج ، ولقيت رُوحي وهي تَعْرُج ، وعَرفت كيف تكون السكْرة ، وكيف تقع الغَمْرة ، وكيف طَعْمُ البعد والفراق ، وكيف تلتفُّ الساق بالساق . مرض لحقتني رَوْعته ، وملكتني لَوْعته . وجدت في نفسي ألماً أوْحَشُهُ آنَسُه ، وَآنَسُه أوحشُه . بلغني من شكايته ما أَوحش جناب الأُنس ، وأَرَاني الظلمة في مَطْلع الشمس . قد بلغني ما عَرَضَ لك من المرض ، وألمّ بك من الألم ، فتحاملَ على سوداء صدري ، وأقْذَى سوادَ طَرْفي ، وقد استنفد القَلَق لعلَّتك ما أَعدّه الصبرُ من ذخيرة ، وأضعف ما قواه العزم من بصيرة . قَلْبي يتقلّب على حدِّ السيف إلى أن أعْرف انكشافَ العارض وزِيَاله ، وأتحقّق انحساره وانتقاله . أنهى إليّ من الخبر العارض ، حسمَ الله مادَّته ، وقصَّر مدَّته ، ما أراني الأفق مُظْلماً ، والعيش مُبْهَماً .
فقر في تهوين العلّة بحسن الرجاء وذكر المشاركة والاهتمام بحُلُولها والاستبشار بزوالها :
إنّ الذي بلغني من ضَعْفِه قد أضعف المنَّة ، وإنْ لم يُضعف الظنَّ باللّه والثِّقة . قد استشفَّ العافية من ثوب رقيق . ما أكثر ما رأينا هذه العلل حَلَّتْ ثم تَجلّتْ وتوالت ثم تولّت . خبَّرني فلان بعلّتك فأشركني فيها ألماً وقلَقاً ، فلا أَعَل الله لك جسماً ولا حالاً ، فليست نِكَاية الشغل في قلبي بأقلّ من نِكَايةِ الشكايةِ في جسمك ، ولا استيلاء القَلَقِ على نفسي بأيسر من اعتراضِ السّقم لبدنك ، ومَنْ ذَا الذي يصحُّ جسمه إذا تألّمت إحدى يديه ، ومن يحل محلّها في القرب إليه ؟ أنا منزعج لشَكَاتك ، مبتهج بمُعَافاتك ، إن كانت علَتك قد قَرَحَت وجرَحتْ ، فإنّ صحتك قد آسَت وآنست . بلغتني شَكَاتك فارْتَعْت ، ثم عرفت خِفّتها فارْتَحْت . الحمد للّه على قُرْبِ المدة بين المِحْنَة والمِنْحة ، والنقمة والنعمة ، وعلى أنّا لم نتهالك بأيدي المخافة حتى تدارك بحُسْنِ الرأفة ، ولم نستسلم لخطّة الحذر حتى سَلمَ من وَرْطَة القدر .
ولهم في شكاة أهل الفضل والسؤود
شكاتُه التي تتألَم منها المروءةُ والفضل . ويسقم منها الكرم المحْضُ . شكاته التي غَضَت بها حلوقُ المَجْدِ ، وحَرِجَت لها صدورُ أهل الأدب والعلم ، وبدا الشحوبُ معها على وَجْه الحرية ، وحرم معها البِشْرُ على غُزَة المروءة . قد اعتل بعلَّته الكَرَم ، وشكابشكايته السيفُ والقلم . شكاة عرضت منه لشَخص الكرم الغضَّ ، والشرف المَحْض . لو قبلت مهجتي فديةً ، دون وَعكَة تجدها ، لَجُدتُ بها ، وساعة أنس تفقدها لبذلتها ، عالماً بأني أفْدِي الكرم لا غير ، والفضل ولا ضَير .
ولهم في تنسُّمِ الإقبال وذكر الإبلال
قد شمْت بارِقَة العافية ، وشَمِمْت رائحةَ الصحة . أقبل صنع الله من حيث لم أَحتسب ، وجاءني لطْفه من حيث لا أرْتقب ؟ وتدرّجْت إلى الإبلال وقد حسبته حلْماً ، ورضيت به دون الاستقلال غُنماً وقد تخلَصت إلى شَطِّ العافية لما تداركني الله تعالى بلطيفة من لطائفه وجعل هبة الروح عارِفة من عَوَارفه ، وتنسمت روح الحياة ؟ بعد أن أَشْفَيث على الوفاة ، وثنيْت وجهي إلى الدنيا بعد مواجهتي للدار الأخرى . قد صافَحَ الإقبال والإبلال ، وقارب النهوض والاستقلال . سيُرِيك الله من العافية التي أذاقك ويُسْبغ . ثوبها ، ولا يعيد عنيد مكَروهَها . قد استقلَّ استقلالَ السيف حودثَ عهدُه وأعِيد فِرنْدُه ، والقمر انكشف سِرَارُه ، وذاعت أَسراره . حين استقلّت يدي بالقلم ، بشَرتك بانحسار الألم . قد أتاك الله بالسلامة الفائضة ، وعافاك من الشكاة العارضة . أبلَّ فانشَرَحَت الصدور ، وشمل السرور . الحمد للّه الذي حرس جِسْمَك وعافاه ، ومحا عنه أثرَ السقم وعَفّاه . الحمد للّه الذي جعل العافيةَ عقْبى ما تشكيت ، والسلامة عِوَضاً عمّا عايَنت . الحمد لله الذي أعفاك من مُعَاناة الألم . وعافاك للفَضْلِ والكرم ، ونظمني معك في سِلكِ النعمة ، وضمَني إليك في مُنْبلج الصحَّة . الحمد للّه الذي جعل السلامةَ ثوبك الذي لا تنضوه ، وسيفك فيما تأمله وتَرْجُوه . الله يَجْعَل السلامةَ أطول برْدَيك ، وأشدّهما سُبوغاً عليك ، ويدفع في صدوره المكارِم دون ربعك ، وفي نحور المحاذير قبل الانتهاء إلى ظلّك . لا زالت العافية شِعَارَك ، ما واصل ليلُكَ نهارَكَ .
فقر في أدْعية العيادة والاستشفاء بكتبها
أَغناك الله عن الطبِّ والأطباء ، بالسلامة والشفاء ، وجعله عليك تَمْحيصاًلا تنغيصاً ، وتذكيراً لا نكيراً ، وأدباً لا غضباً . الله يدرُّ لك صَوْبَ العافية ، ويُضفي عليك ثوبَ الكفاية الوافية . أوْصَل الله تعالى إليك من بَردِ الشفاء ما يكفيك حَرَّ الأدواء . كتابك قد أَدَّى رَوْحَ السلاِمة في أعضائي ، وأَوصَل بَردَ العافية إلى أحشائي . تركني كتابك والنعم تَثِب إلى صحتي ، والخطوب تتجافى عن مُهجتي ، بعد أمراضٍ اكتنفت ، وأسقام اختلفت . قد استبق كتابك والعافية إلى جسمي كأنهما فرَسَا رِهَان تباريا ، ورَسيلا مِضْمَار تجاريا . أبدلني كتابُك من حزون الشكايه شهُولَ المعافاة ، ومن شدَّة التألّم ، رخاءَ التنعم .
قطعة من كلام الأطباء والفلاسفة
العاقل يترك ما يحبُّ ليستغنيَ عن العلاج بما يكره .
جالينوس : المرض هَرَم عارِض ، والهَرَم مرضٌ طبيعي .
وله : مجالسة الثقيلِ حُمَّى الروح .
بختيشوع : أكلُ القليل ممّا يَضرُّ أصلح من أكل الكثير مما ينفع . يحوحنا بن ماسويه : عليك من الطعام بما حَدُث ، ومن الشراب بما قَدُم .
وقال له المأمون : ما أَحْسَنُ ما يُتنقّل به على النبيذ ؟ قال : قول أبي نواس ، يريد قوله : المنسرح :
الحمد للّه ليس لي مَثَلُ . . . خمري شرابي وَنَقْليَ القُبلُ
ثابت بن قُرة : ليس شيء أضرّ بالشيخ من أن تكونَ له جارية حسناء ، وطبّاخ حاذق ؛ لأنه يُكثر من الطعام فيَسقَم ، ومن الجماع فيَهْرَم .
غيره : ليس لثلاث حيلة : فقرٌ يخالِطُه كسل ، وخصومة يخامرها حَسَد ، ومرضٌ يمازِجه هرم .
ثلاثة يجب مداراتهم : السلطان ، والمريض ، والمرأة .
ثلاثة يُعْذَرون على سوء الخلق : المريض ، والمسافر ، والصائم .
فقر في ذكر المرض والصحة والموت والحياة لغير واحد :
شيئان لا يُعرفان إلا بعد ذهابهما : الصحة والشباب . بمرارة السقم توجد حلاوةُالصحة . هذا كقول أبي تمام : الطويل :
إساءة دَهْرٍ أذْكَرَت حسْنَ فِعلِهِ . . . إليَّ ، ولولا الشَرْيُ لم يُعْرَفِ الشَّهْدُ
وقوله أيضا : الكامل :
والحادثاتُ وإنْ أصابك بُؤْسها . . . فهو الذي أدْراك كيفَ نعيمُها
ما سلامةُ بدن معرّض للآفات ، وبقاء عمر معرض للساعات ؟ قال أبو النجم : الرجز :
إنَّ الفتى يصبح للسقام . . . كالغَرض المنصوب للسّهام
أخطأ رامٍ وأصابَ رَام
وقيل لبعض الأطباء وقد نهكته العلّة : ألا تتعالج ؟ فقال : إذا كان الداء من ، السماء بطل الدواء ، وإذا قدّر الرب بطل حَذَرُ المربوب ، ونِعْمَ الدواء الأمل ، وبئس الداء الأجل .
بزرجمهر : إنْ كان شيء فوق الحياة فالصحة ، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض ، وإن كان شيء مثل الحياة فالغِنَى ، وإن كان شيء مثل الموت فالفقر .
غيره : خير من الحياة ما لا تطِيبُ الحياةُ إلا به ، وشرٌّ من الموت ما يُتمنَّى الموت له .
قال المتنبي في مرثية سيف الدولة : الوافر :
أطَابَ النفْسُ أنكِ مُتِّ مَوْتاً . . . تَمَنَّتْهُ البَواقِي والْخَوَالِي
وزُلْتِ ولم تَرَيْ يوماً كريهاً . . . تُسَرُّ النَفْسُ فِيهِ بالزوالِ
رِوَاقُ العِزِّ فَوْقَكِ مُسْبَطِرّ . . . ومُلْكُ عليٍّ ابنِكِ في كمَالِ
الموت باب الآخرة .
الحسن : ما رأيتُ يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت .ابن المعتز : الموت سَهْمٌ مُرْسَل إليك ، وعمرك بقدر سفره نحوك . أخذه بعض أهل العصر فقال : مجزوء الكامل :
لا تَأْمَن الدهرَ الخؤو . . . ن وخَفْ بوادرَ آفَتِهْ
فالموت سَهْمٌ مُرْسَلٌ . . . والعمرُ قَدْر مسافَتِهْ
البستي : الخفيف :
لا يغرنْكَ أنني ليّنُ المسّ فعزمي إذا انتضيتُ حُسام
أنا كالورد فيه راحةُ قَوْمٍ . . . ثم فيه لآخرين زُكَام
وقال آخر : الكامل :
إن الجهولَ تضرُّني أخلاقهُ . . . ضرر السُّعال لمن به استسقاءُ
ولآخر ، وهو البستي : البسيط :
فلا تكن عَجِلاً في الأمر تطلبهُ . . . فليس يحمد قبل النّضج بُحرَانُ
وقال آخر : الكامل :
لا تعتمِدْ إلاَّ رئيساً فاضلاً . . . إنّ الكبار أطبُّ للأَوجاع
وقال آخر : المتقارب :
وإني لأخْتَصُّ بعض الرجال . . . وإن كان فَدْماً ثقيلاً عَبَاما
فإن الجُبُنَّ على أنهُ . . . ثقيل وخيمٌ يُشَهّي الطعاما
وقال المتنبي : البسيط :
لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقبُهُ . . . وربّما صحَّتِ الأجسامُ بالْعِلَلِ
وقال أيضاً : البسيط :
أُعِيذُها نَظَرات مِنْكَ صادِقةً . . . أنْ تحْسِبَ الشَحْمَ فيمَنْ شَحمُهُ وَرَمُ
الجواب المفحم
قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي : كان بلالُ بن أبي بردة جَلْداً حينابْتُلي ، أحضره يوسف بن عمر في قيودِه لبعض الأمر ، وهُم بالحِيرة ؛ فقام خالدُ بن صفوان فقال ليوسفَ : أيها الأميرُ ، إنّ عدو الله بلالاً ضربني وحَبَسني ولم أفارِق جماعة ؛ ولا خلعْتُ يداً من طاعة ، ثم التَفت إلى بلالٍ فقال : الحمدُ للّه الذي أَزال سلطانَك ، وهدَّ أركانك ، وأَزال جَمالك ، وغيَّر حالك ، فوالله لقد كنتَ شديدَ الحجاب ، مستخفاً بالشريف ، مظهراً للعصبية فقال بلال : يا خالد ، إنما استطلت علي بثلاث معك هن عليَّ : الأمير مُقْبِل عليك ، وهو عني مُعْرِض . وأنت مُطلَق ، وأنا مأسور . وأنت في طينتك ، وأنا غريب فأفحمه ، ويقال : إن آل الأهتم زعنفة دخنت في بني منقر فانتسبت إليهم .
وكان سبب ضرب بلال خالداً في ولايته أنّ بلالاً مَرَّ بخالد في موكب عظيم ، فقال خالد : الطويل :
سحابة صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ .
فسمعه بلال ، فقال : والله لا تقشع أو يصيبك منها شؤبوب برد ، وأمر بِضَربه وحَبْسِه .
ما قيل في القداح
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي قَدَحاً له انكسر : المتقارب :
عَرَاني الزمانُ بأحْدَاثه . . . فبعضاً أطَقْتُ ، وبعضٌ فَدَح
وعندي فَجائع للحادثات . . . وليس كفجعَتِنا بالقَدَحْ
وِعاءُ المُدَام ، وتاجُ البنان . . . ومُدْنِي السرور ، ومُقْصِي التَّرَحْ
ومعرض رَاحٍ متى تكسه . . . ويُستودع السرَّ منها يبحْ
وجسم هواءً وإن لم يكن . . . يُرَى للهواء بكفّ شَبحْ
يردُّ على الشخْصِ تمثالهُ . . . وإن تتخِذْه مِرَاةً صَلح
ويَعْبَقُ من نكهاتِ المُدَام . . . فتحسب منه عَبِيراً نَفَحْ
ورَقَّ . فلو حلَّ في كِفّةٍ . . . ولا شيء في أخْتِها ما رَجَحْ
يكادُ مع الماء إن مسّه . . . لما فيه ممن شكله ينفسح
هوَى من أَنامل مجدولةٍ . . . فيا عجباً مِنْ لطيفٍ رَزَح
فأَفْقَدَنِيه على ضِنّةٍ . . . به للزمان غَرِيم مَلحْكأنّ له ناظراً ينتقي . . . فمتى يَتعَمَّدُ غَيْرَ المُلحْ
أقلَبُ ما أبقتِ الحادثا . . . ت منه وفي العين دَمْعٌ يسُح
وقد قدح الوجد مني بهِ . . . على القَلْبِ من ناره ما قدح
وأعجب من زمن مانح . . . وآخرَ يسلب تلك المِنَحْ
فلا تبعدنّ فكم من حَشاً . . . عليك كَلِيمٍ وقَلْب قَرِحْ
سيُقفرُ بعدك رَسم الغبُوق . . . وتُوحِش منك مغَاني الصّبحْ
ومن أحسن ما قيل في وصف قدح ، ابن الرومي يصف قدحاً أهداه إلى علي بن يحيى المنجم : الخفيف :
وبديعٍ من البدائع يَسْبِي . . . كلَّ عقل ، ويَطَّبي كلَّ طَرْفِ
رَقّ في الحسنِ والملاحةِ حتى . . . ما يوفّيه واصفٌ حق وَصْفِ
كفم الْحِبّ في الملاحة بل أَش . . . هى وإن كان لا يناجي بحرْفِ
تنفذ العينُ فيه حتى تراها . . . أخطأَتْه من رِقَّةِ المستشَفِّ
كهواء بلا هباء مشُوب . . . بضياءٍ ، أًرْقِقْ بذاك وأصْفِ
صِيغ من جوهر مصفًّى طباعاً . . . لا علاجاً بكِيمِيَاء مُصَفّ
وسط القَدْرِ ، لم يكبَّر لِجَرْع . . . مُتوالٍ ، ولم يصغَّر لرَشْفِ
لا عجول على العقول جَهولٌ . . . بل حليم عنهنَّ في غير ضعفِ
فيه نون معقرب عطَّفَتْه . . . حكَمَاءُ القيون أحكم عَطْفِ
مثل عطف الأصداغ في وجَنَاتٍ . . . من حبيب يُزْهى بحُسْنٍ وظرْفِ
ما رأى الناظرون قدّاً وشكلاً . . . مثله فارِساً على بطن كَفِّ
وقال أبو القاسم التنوخي : المتقارب :
وراحٍ من الشمس مخلوقةٍ . . . بَدَتْ لك في قَدَح من نهارْ
هواءٌ ولكنه جامدٌ . . . وماءٌ ولكنه غير جَارْ إذا ما تأمّلتها وهي فيه . . . تأمَّلت نوراً محيطاً بِنَارْ
فهذا النهاية في الابيضاضِ . . . وهذا النهاية في الاحمرارْ
وما كان في الحقّ أن يُقرَنا . . . لفَرْطِ التَّنافِي وبعد النِّفَارْولكن تجاور شكلاهما ال . . . بسيطَانِ فاتَّفقا في الْجِوارْ
كأَنَّ المديرَ لها باليمين . . . إذا قام للسَّقْي أو باليَسار
تدرّعَ ثوباً من الياسمِين . . . له فَرْدُ كُمٍّ مِنَ الجلّنار
نماذج شعرية في وصف منديل وثلج
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي منديل كُمّ : السريع :
من يَبْكِ من وَجْدٍ على هالكٍ . . . فإنما أَبْكِي عَلى دَسْتَجَهْ
جاذَبَنِيْها رَشأٌ أَغْيَدٌ . . . فجادتِ النفسُ بها محرَجَهْ
بديعةٌ في نَسْجِها ، مثلها . . . يفقد من يحسِن أَنْ يَنْسُجَهْ
كأنما رِفَةُ أشكالِها . . . من رقةِ العشاق مُستَخْرَجهْ
كأنما مفتولُ أهدابِها . . . أيدي دَبَى في نَسَقٍ مُزْوجَه
كأنما تفريقُ أعلامها . . . طَاوُوسة تخْتَال أو دُرّجهْ
لَبيسَةٌ جَدَّدَها حُسْنُها . . . لا رَثه السِّلْكِ ولا مُنْهَجه
كم رقعةٍ من عند مَعْشُوقةٍ . . . تُرْسَلُ في أثنائها مُدْرَجَه
أو مسحة من شَفَةٍ عَذْبَة . . . تُبْردُ حرّ الكَبِدِ المُنضَجَه
إلى تحياتٍ لِطافٍ بها . . . تُسْكِنُ مني مُهْجَةً مُزْعَجه
كانت لمَسحِ الكأس حتى ترى . . . منها لآثارِ القذَى مخرجه
وخاتمي يُعْقَدُ فيها إذا . . . آثرتُ مِنْ كفيَ أن أخْرِجَه
وأتَّقي الجامَ بها كلّما . . . كلّله المازجُ أو تَوَّجَه
فاستأْثَرَ الدَّهْر بها ؛ إنهُ . . . ذو همَّة مُجْلِية مُرْهجَه
فأَصْبَحَتْ في كَمّ مُخْتَالَةٍ . . . مُلجمَة في هَجْرِنا مُسْرجَه
وقال أيضاً يصف سقوط الثلج : الكامل :
الثلج يَسْقُط أم لُجَيْنٌ يُسْبَك . . . أمّ ذا حَصَا الكافورِ ظَلَّ يفرَّكُ ؟
راحت به الأرضُ الفضاء كأنها . . . في كل ناحية بثغرِ تضحَكُشابت مَفارقُهَا فبيّن ضِحْكها . . . طوراً ، وعهدي بالمَشيب يُنَسكُ
أرْبى على خُضر الغصون فأصبحَتْ . . . كالدرِّ في قُضُب الزبرجدِ يُسلك
وتردَّتِ الأشجارُ منه مُلاءةً . . . عمَّا قليل بالرياح تَهَتَّكَ
كانت كعودِ الهند طُرِّيَ فانكفى . . . في لَونِ أبيضَ وهو أسود أحلكُ
والجوُّ من أَرَجِ الهواء كأنهُ . . . خِلَعٌ تُعَنبَرُ تَارةً وتُمَسِّكُ
فخذِي من الأوتار حظَّك إنما . . . يتحرَّك الإطرابُ حين تحرَّكُ
فاليوم يوزَنُ بالملاحة ، إنهُ . . . سيُطَلُّ فيه دَمُ الدَنان ويُسْفَكُ
وقال أيضاً : المنسرح :
باكر فهذي صَبِيحةٌ قَرَّهْ . . . واليوم يومٌ سماؤه ثَرَّهْ
ثَلْج وشمس وصَوْبُ غَادِيَة . . . والأرضُ من كل جانب غُرَّهْ
باتَتْ وقيعانها زَبَرْجَدَةٌ . . . فأصبحَت قد تحوّلت دُرَّه
كأنها والثلوجُ تضحكها . . . تُعَارُ ممن أحِبِّه ثَغْره
كأنَّ في الجو أيدياً نَثَرَتْ . . . دُرَّاً علينا فأسرعت نثره
شابَتْ فسُرَّتْ بذاك وابتهجَتْ . . . وكان عهدي بالشيب يُسْتَكْرَه
قد جلّيت بالبياض بلدتنا . . . فاجْل علينا الكؤوسَ بالحُمْرَه
وقال الصنوبري : مجزوء الكامل :
ذَهِّب كؤوسك يا غلا . . . م فإنَّ ذَا يومٌ مفَضَّضْ
الجوُّ يُجلى في البيا . . . ض وفي حُلَى الكافور يُعرضْ
أزعمت ذا ثَلْجٌ وذا . . . وَرْدٌ على الأغصان يُنْفَضْ ؟
وردُ الربيع مورَّدٌ . . . والوَرْد في تشرين أَبْيَضْ
وقال البستي : الخفيف : كم نَظَمْنَا عقود لهوٍ وأُنْسٍ . . . وجعَلْنَا الزمانَ لِلَّهْوِ سِلْكَا
وفتقْنا الدنان في يوم ثلجٍ . . . عُزل الكأسُ فيه رُشْداً ونُسْكَا
فكأن السماءَ تنحلّ كافو . . . راً علينا ، ونحنُ نَفْتِقُ مِسْكَا
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي يصف الْجَمد : الرجز :
ربَّ جَنِين من حَيَا النمير . . . مهتك الأستارِ والضميرِسللته من رحم الغدير . . . كأنها صحائف الْبَلُورِ
أو أكُرٌ تجسمتْ من نُور . . . أو قِطَعٌ من خَالِصِ الكافور
لو بقيت سِلكاً على الدهور . . . لعطّلتْ قلائد النحُور
وأخجلت جواهرَ البحور . . . وسميت ضرائر الثغور
يا حُسْنهُ َفي زَمنِ الحرور . . . إذا قَيْظُه مثل حَشَا المَهجُور
يُهْدِي إلى الأكبادِ والصدُورِ . . . رَوحاً يُجلّي نَفْثَةَ المصدور
ويَخلِبُ السرورَ للمَقْرورِ
ألفاظ لأهل العصر في وصف الثلج والبرد والأيام الشتوية
ألقى الشتاءُ كَلْكَله ، وأحلّ بنا أثقاله . مدّ الشتاء أرِواقه ، وألقى أوراقه ، وحلّ نِطَاقه . ضرب الشتاء بجِرَانه ، واستقلّ بأركانه ، وأناخ بنوازله ، وأَرْسَى بكلاكله ، وكلح بوجهه ، وكشّر عن أنيابه . قد عادت هامات ، الجبال شِيبَاً ، ولبست من الثلج بُرداً قَشِيباً . شابت مفارق البروج لتراكم الثلوج ، ألمّ الشيب بها وابيضَّت لِمَمُها . قد صار البردُ حجاباً ، والثلج حجازاً . بَرْد يغير الألوان ، وينشف الأبدان . بردُ يُقَضْقِض الأعضاء ، وينفض الأحشاء . برد يُجْمد إلريقَ في الأشداق ، والدمعَ في الآماق . بَرْد حال بين الكلب وهَرِيره ، والأسَد وزئيره ، والطير وصَفِيره ، والماء وخرِيره . نحن بين لثق ، ورثق ، وزلق ، يوم كأنَّ الأرضَ شابَتْ لهَوْلِه . يوم فضّي الْجِلْبَاب ، مِسْكِيّ النقاب ، عبوس قَمْطَرير ، كشّر عن ناب الزمهرير ، وفرش الأرض بالقوارير . يوم أخذت الشَّمال زِمامه ، وكسا الصِّرُ ثيابه . يوم كأنّ الدنيا فيه كافُورة ، والسماء بلّورة . يوم أرضه كالقوارير اللامعة ، وهواؤه كالزنانير اللاسعة . يوم أَرضه كالزجاج ، وسماؤه كأطراف الزِّجَاج . يوم يثقل فيهالخفيف إذا هجم ، ويخفّ الثقيل إذا هجَر ، نحن فيه بين أطباق البَرْد فما نستغيث إلا بحرِّ الراح ، وسَوْرَة الأقداح . ليس للبرد كالبُرْد ، والخَمْرِ ، والجَمْرِ . إذا كَلِبَ الشتاء ، فترياق سمومه الصَلاء ، ودَرَقُ سيوفِه الطِّلاء .
نقيض ذلك من كلامهم في وصف القيظ وشدة الحرّ
قوِي سلطان الحَرّ ، وبُسِطَ بساط الجَمر . حَر الصيف ، كحدِّ السيف . أوقدت الشمس نارَها ، وأذكت أُوارها . حرّ يلفح حرّ الوجه . حَرٌ يشبه قَلْبَ الصَّبِّ ، ويُذيب دماغ الضّبِّ . هاجرة كأنها من قلوب العشّاق ، إذا اشتعلت فيها نارُ الفراق . هاجرة تحكي نارَ الهَجْر ، وتذيب قَلبَ الصخر . كأن البسيطة من وَقدة الحرّ ، بساط من الجمر . حَرٌ تهرب له الحِرْباء من الشمس ، قد صهَرَت الهاجرةُ الأبدان ، وركبت الجنادبُ العيدان . حرّ يُنْضِج الجلود ، ويُذيب الجلمود . أيام كأيام الفُرْقة امتداداً ، وحرّ كحرّ الوَجد اشتداداً . حرٌّ لا يطيبُ معه عيش ، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش . حمارة القيظِ ، تغلي كدم ذي الغيظ . آبَ آبٌ يَجِيش مِرْجَلُه ، ويَثُور قَسطَلُه . هاجرة كقلب المهجور ، أو التنور المَسْجور . هاجرة كالجحيم الجاحم ، تجرّ أذيالَ السمائم .
العجلة أُم الندامة
قال بعض الحكماء : إياك والعجَلة فإنَّ العرب كانت تكْنِيها أمَّ الندامة ؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم ، ويجيب قبل أن يفهم ، ويعزم قبل أَنْ يفكّر ، ويقطع قبل أن يُقَدّر ، ويَحمَدُ قبل أن يجرّب ، ويذمّ قبل أن يَخْبُر ، ولن يصحب هذه الصفَةَ أحدٌ إلا صحب الندامة ، واعتزل السلامة .
قضاء الحاجة
ولما وَلّى المهتدي سليمانَ بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حُرْمَته ، فقال : أعزَّ الله الوزيرَ ، أنا خادمك المؤمِّل لدولتك ، السعيدُ بأيامك . المنطوي القلب على وُدّك ، المنشورُ اللسان بمدحك ، المرتهن بشكر نعمتك ، وقد قال الشاعر : البسيط :
وفيتُ كل صديق ودَّني ثمناً . . . إلا المؤمل دولاتي وأيّامِي فإنني ضامنٌ أَلاَّ أكُافِئَهُ . . . إلاَّ بتسويغه فَضْلِي وإنعاميوإني لكما قال القيسي : ما زلت أَمْتَطِي النهارَ إليك ، وأستدلُّ بفضلك عليك ، حق إذا جنَّني الليلُ فغضَّ البصرَ ، ومحا الأثر ، أقام بدني ، وسافر أملي ، والاجتهاد عُذْر ، فإذا بلغتك فَقَدِ . قال سليمان : لا عليك ، فإني عارفٌ بوسيلتك ، محتاج إلى كفايتك واصطناعك ، ولست أؤخر عن يومي هذا توليتك ما يَحْسُنُ عليك أثره ، ويطيب لك خَبَرهُ ، إن شاء الله .
وكتب محمد بن عباد إلى أبي الفضل جعفر بن محمود الإسكافي وزير المعتز بالله ، وكان المعتز يخْتصّ به ؛ ويتقرب إليه قبل الوزارة : ما زلت - أيدك الله تعالى - أذمّ الدهر بذمّك إياه ؛ وأنتظر لنفسي ولك عُقْباه ، وأتمنى زوال حال من لا ذَنْبَ له إلا عاقبة محمودة تكون لك بزوال حاله ، وأترك الإعذار في الطلب على الاختلال الشديد ؛ ضناً بالمعروف عندي إلاَّ عن أهله ، وحَبْساً لشِعْري إلا عن مستحقّه .
فوقّع في كتابه : لم أُؤَخر ذكرك ناسياً لحقَكَ ، ولا مهْمِلاً لواجبك ، ولا مرجياً لمُهِمِّ أمْرِك ، ولكني ترقبت اتساع الحال ، وانفساحَ الآمال ، لأخصَّك بأسْناها خطَراً ، وبأجلِّها قَدْراً ، وأَعْوَدها بنَفْعٍ عليك ، وأوفرها رِزْقاً لك ، وأقربها مسافةً منك ؛ فإذا كنتَ ممن يَحْفِزه الإعجال ، ولا يتَّسِع له الإمهال ، فسأختار لك خيرَ ما يشير إليه الوقت ، وأنعم النظر فيه ، وأجعله أول ما أمضيه ، إن شاء الله .
ولما ولي سليمان بن وهب الوزارة كتب إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : الطويل :
أبى دهرُنا إسعافَنا في نفوسنا . . . وأَسْعَفَنَا فيمن نحبُّ ونكرمُ
فقلت له : نُعْماك فيهم أَتمَّها . . . ودَعْ أمرَنا ؛ إن المهمَّ المقدَّمُ
فعجب من لطيف شكواه في تهنئته ، وقَضى حَوائِجَه .
ووقّع عبيد الله في كتاب رجل اعتدَّ عنده بأثرٍ جميل : وقفت على ما ذكرته من شكايتك ، فوقع ذلك عندنا الموقع الذي أرَدْته ، وصدَر جوابنا إليك بما شكرته ، ولم تَعْدُ ظننا ، وما قدرنا فيك ، ثم اعتدت الاعتداد حتى كأنك لم تكاتبنا ؛ فلا تفسدنَ تالد إحسانك بطارف امتنانك ، واقتصر من وصف سالفك على ذكر مستأنفك .التقسيم
ووقّع عبيد الله في أَمر رجل خرج عن الطاعة : أنا قادرٌ على إخراج هذه النُّعَرَة من رَأسه ، والوَحَرة من نفسه .
ونحو هذا التقسيم قولُ قتيبة بن مسلم بخراسان : من كان في يده شيء من مال عبد الله فلينبذه ؛ أو في فمه فَلْيَلْفِظْه ، أو في صدره فلينفثه .
وقال عبد الله بن علي ، بعد قتْله مَنْ قتل من بني أمية ، لإسماعيل بن عمرو : أساءك ما فعلت بأصحابك ؟ قال : كانوا يداً فقطعْتَها ، وعضداً ففَتتَها ، وعقدةً فنقضتَها ، وركْناً فهَدَمْتَه ، وجبلاً فَهِضْتَهُ ، وجناحاً فقَصَصْتَه ، قال : إني لخليقٌ بأَن أُلحقك بهم ، قال : إني إذاً لسعيد .
وقال المنصورُ لجرير بن عبد الله : إني لأُعِدُّك لأمر كبير قال : يا أمير المؤمنين ، قد أعدَّ الله لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك ، ويداً مبسوطةً بطاعتك ، وسيفاً مسلولاً على أعدائك .
وكتب الحسن بن وهب إلى القاسم بن الحسن بن سهل يعزّيه : مَدَّ الله في عمرك موفوراً غير منتقَص ، وممنوحاً غير ممتحَن ، ومُعْطًى غير مُسْتَلب .
ومن جيد التقسيم مع المطابقة قولُ بعض الكتاب : إنَّ أهل النصح والرَّأْي لا يساويهم أَهْلُ الأَفَنِ والغِشّ ، وليس مَنْ جمع إلى الكفاية الأمانَةَ كمن أَضافَ إلى العَجْزِ الخيانة .
وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لرجل دَعَتْ له وقد أَولاها يداً : شكَرتْكَ يدٌ نالتها خَصَاصة بعد ثروة ، وأغناك الله عن يد نالتها ثروة بعد فاقة .
ومن بديع التقسيم في هذا النوع قولُ البحتري : البسيط :
كأنك السيفُ حَدّاهُ ورَوْنَقُهُ . . . والغَيْث وَابِلُهُ الدَّانِي وَرَيِّقُهُهل المكارم إلا ما تُجمّعه . . . أو المواهب إلا ما تفرِّقُهُ ؟ وقال الحسنُ بن سهل يوماً للمأمون : الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك ؛ وسَنِيِّ ما أَعطاك ؛ إذ قَسم لك الخلافة ، ووهب لك معها الحجة ، ومكَّنك بالسلطان ، وحلاَّه لك بالعَدل ، وأَيّدك بالظفَر ، وشفَعَه لك بالعفو ، وأَوجب لك السعادة ، وقرَنَها بالسياسة ، فمن فُسِحَ له في مثل عطيّةِ الله لك ؟ أم مَنْ ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما أَلبسك ؟ أم من ترادفَتْ نِعَمُ الله تعالى عليه ترادفَها عليك ؟ أم من حاولها وارتبطها بمثل محاولتك ؟ أم أي حاجة بقيَتْ لرعيّتك لم يجدوها عندك ؟ أم أي قيِّم للإسلام انتهى إلى غايتك ودَرَجتك ؟ تعالى الله ما أعظم ما خَصّ القرنَ الذي أنت ناصره وسبحان الله أية نعمة طبقت الأرض بك إن أُدِّيَ شكرها إلى بارئها ، والمنعم على العباد بها ؟ إن الله تعالى خلق الشمس في فَلكها ضياءً يستنيرُ بها جميعُ الخلائق ؛ فكلُّ جوهر زَها حسنهُ ونوره فهي ألبسته زينتَهُ لما اتصل به من نورِها . وكذلك كل وَلي من أوليائك سَعِد بأفعاله في دولتك ، وحَسُنَتْ صنائعه عند رعيتك ، فإنما نالها بما أيّدتَه من رأيك وتدبيرك ، وأَسْعَدتَه من حسنك وتقويمك .
قينة تعشق أربعة رجال
قال بعضُ الظرفاء : اجتمع لقَيْنَةٍ أربعةٌ من عشَاقها ، وكلهم يُوَرِّي عن صاحبه أمرَه ، ويُخْفِي عنه خبرَه ، ويُومئ إليها بحاجبه ، ويناجيها بلَحْظِه ، وكان أحدُهم غائباً فقدمِ ، والآخر مقيماً قد عَزَم على الشخوص ، والثالث قد سلَفَتْ أيامُه ، والرابع مستأنفةٌ مودَّته ، فضحكَتْ إلى واحد ، وبَكَتْ إلى آخر ، وأقصت آخر ، وأطمعَتْ آخر ؛ واقترح كل واحد منهم ما يشاكِلُ بثه وشأنه ؛ فأجابته ، فقال القادم : جُعِلت فِدَاكِ ، أتحسنين : الطويل :
ومن يَنْأَ عن دار الهوى يُكْثِر البُكَا . . . وقَوْلَ لَعلِّي أو عَسى سَيكون
وما اخترت نَأْيَ الدار عنك لِسَلْوةٍ . . . ولكنْ مَقاديرٌ لهنَّ شؤونُ
فقالت : أحْسِنه ، ولا أقيمُ لَحْنه ، ولكن مُطَارحه لتستغني به عنه ، لقُرْبه منه ، وأنا به أحْذَقُ ، ثم غنّت : الطويل :
وما زلت مُذ شَطَتْ بك الدارُ باكياً . . . أؤَمِّلُ منك العَطْفَ حين تؤُوبُ
فأضعفْتَ ما بي حين أبتَ وزِدْتَنِي . . . عذاباً وإعراضاً وأنتَ قَرِيبُوقال الظاعن : جْعلت فِدَاك ، أتحسنين : الكامل :
أزفَ الفِراق فأعني جَزَعَاً . . . ودَعِي العتابَ فإننا سَفْرُ
إنّ المحبّ يصد مقترباً . . . فإذا تباعد شَفّه الذِّكْر
قالت : نعم ، وأحسن منه ومن إيقاعه ، ثم غنت : الخفيف :
لأقيمنَّ مأتماً عن قريب . . . ليس بعد الفراق غَيْرُ النَّحيبِ
ربما أَوْجَع النّوى للقلوب . . . ثم لا سيما فراقُ الحبيبِ
ثم قال السالف : جعلت فداك ، أتحسنين : الكامل :
كنّا نُعاتبكُمْ لياليَ ، عُودُكمْ . . . حُلْوُ المَذَاقِ وفيكُمُ مستَعْتَبُ
فالآن حين بَدَا التنكُّر منكم . . . ذهب العِتَابُ فليس عنكم مَذْهَبُ
قالت : لا ، ولكن أحسن منه في معناه ، ثم غنّت : الطويل :
وصلْتُكَ لمّا كان ودُّك خالصاً . . . وأَعرضتُ لما صار نَهْباً مقَسّما
ولن يلبث الحوض الجديدُ بناؤه . . . إذا كثر الورَّادُ أن يتهدما
فقال المستأنف : أتحسنين ، جعلت فداك : الكامل :
إني لأعْظِمُ أن أبوح بحاجتي . . . وإذا قرَأْت صحيفتي فتفهَّمي
وعليك عَهْدُ الله إن أبثثتِه . . . أحداً ولا آذنته بتكلم
فقالت : نعم ، ومن غناء صاحبه ؛ ثم غنّت : الطويل :
لعمرك ما استودَعْتُ سِرِّي وسرَّهَا . . . سوانا ، حِذاراً أن تَذِيعَ السرائرُ
ولا خالَطَتْها مُقْلَتايَ بنَظْرَةٍ . . . فتعلم نَجْوَانا العيونُ النواظرُ
ولكن جعلت الوَهْمَ بيني وبينها . . . رسولاً فأَدَّى ما تُجِنُ الضمائرُ
أكُاتم ما في النفس خوفاً من الهوى . . . مخافةَ أن يُغرى بذِكرك ذَاكِرُ
فتفرّقوا وكلهم قد أومأ بحاجته ، وأَجابته بجوابه .
من أخبار ابن المعتز وشعره
قال أبو العباس بن المعتز : كان لنا مجلس حظ أرسلت بسببه خادمة إلى قينة فأجابت ، فلمّا مرَت في الطريق وجدَت فيه حارساً فرجعت ، فأرسلتُ أُعاتبها فكتبت إلي : لم أتخلف عن المسير إلى سيدي في عشيتي أَمس لأرى وَجْهَهُ المبارك وأُجيبدعاءه ، إلا لعلة قد عرَفَتْها فلانة ، ثم خِفْتُ أن يسبقَ إلى قلبه الطاهر أني قد تخلّفْتُ بغير عذر ؛ فأحبَبْتُ أن تقرأَ عذري بخطي ، ووالله ما أقدر على الحركة ، ولا شيء أسر إليّ من رؤيتك ، والجلوس بين يَدَيْك ، وأنت ، يا مولاي ، جاهي وسَنَدي ، لا فَقَدْت قربك ، ولك رأيك في بسط العُذر موفقاً .
وكتبت في أسفل الكتاب : الطويل :
أليس من الحرمان حظٌ سُلبتهُ . . . وأحْوَجَني فيه البلاءُ إلى العُذْرِ ؟
فصبراً فما هذا بأؤَّل حادثٍ . . . رَمَتْني به الأقدار مِنْ حيثُ لا أَدْرِي
فأجبتها : كيف أَردّ عُذر من لا تتسلط التهمة عليه ، ولا تهتدي المَوْجِدة إليه وكيف أعلمه قبولَ المعاذير ، ولستُ آمَنُ بعضَ خواطره أن تشير إلى انتهاز فرصة فيما دعا إلى الفرقة ، وإن سَلِمتُ من ذلك فمن يُجيرني من توكله على تقديم العُذْر ، ووقوعه مواقع التصديق في كل وقت ، فتتّصل أيامُ الشغل والعِلة ، وتنقضي أيامُ الفراغ والصحة ، فتطولُ مدةُ الغيبة ، وتَدْرُس آثار المودّة ، وكتبْتُ في آخر الرقعة : الطويل :
إذا غِبْت لم تعرف مكانيَ لذةٌ . . . ولم يلق نفسي لَهْوها وسُرُورها
وحدثتُ سمعاً واهناً غير مُمْسِك . . . لقولي ، وعيناً لا يراني ضَمِيرُها
وكتب إلى بعض الوزراء : ما زال الحاسدُ لنا عليك أيها الوزير يَنْصِبُ الحبائلَ ، ويطلب الغوائل ، حتى انتهز فرصته ، وأَبلغك تشنيعاً زَخْرَفه ، وكذباً زَوَّره ، وكيف الاحتراس ممن يحضر وأغِيبُ ، ويقول وأمْسِكُ ؟ مرتصداً لا يَغْفل ومَاكِراً لا يَفتر ، وربما استنصح الغاش ، وصدق الكاذب ؛ والحظوة لا تُدْرَكُ بالحيلة ، ولا يجري أكثرها على حسب السَّبَب والوسيلة .
فأجابه : حصول الثقة بك - أعزك الله - تُغْني عن حضورك ، وصدق حالتك يحتجُ عنك ، وما تقرَّر عندنا من نيّتك وطوّيتك يُغْنِي عن اعتذارِك .
وقد قال ابن المعتز : الكامل :
أَخْنَى عليك الدهر مقتدراً . . . والدهرُ ألأم غالب ظَفرا
ما زلت تَلْقَى كلَّ حادثةٍ . . . حتى حَنَاك وبيَّض الشَّعَرَا
فالآن هل لك في مُقَاربةٍ ؟ . . . فلقد بلغت الشَيْب والكِبَرا
لله إخوان فقدتهمُ . . . سكنوا بطونَ الأرض والحُفَرا
أين السبيلُ إلى لقائهمُ ؟ . . . أم من يحدِّث عنهمُ خَبرا ؟
كم مورِق بالبِشْر مُبتسم . . . لا أَجتني من غُصْنِه ثَمرَاما زال يوليني خلائقهُ . . . وصبرت أَرقُبه وما صَبرا
وعدو غيْبٍ طَالب لدمي . . . لو يستطيعُ لجاوز القَدَرا
يُورِي زنادي كي يُخادِعني . . . ويُطير في أثوابيَ الشَّرَرا
وقال أيضاً : الطويل :
وإني على إشفاق عيني من القذى . . . لتجمح مني نَظْرَةٌ ثم أطرِقُ
كما حُلِّئتْ من بَرْدِ ماءٍ طَرِيدةٌ . . . تمدّ إليه جِيدها وَهْيَ تَفرَقُ
وقال : الطويل :
وما زلتُ مذ شدَت يدي عقد مِئْزَري . . . غنايَ لغيري وافتقاري على نفسي
ودلَّ عليّ الحمدَ مَجْدي وعِفّتي . . . كما دلّ إشراقُ الصَّباح على الشمسِ
وقال : البسيط :
سَعَى إلى الدَّنَ بالمِبْزَالِ يَنْقُرهُ . . . ساقٍ توشَحَ بالمنديل حين وَثَبْ
لمَّا وَجاها بَدَتْ صفراءَ صافيةً . . . كأنما قَدَّ سَيْراً من أديمِ ذَهَبْ
وقال : الخفيف :
لبسَتْ صفرةً فكم فتَنتْ من . . . أعْيُنٍ قد رأيتها وعُقُولِ
مثل شَمْس الغروب تَسْحَبُ ذيلاً . . . صَبَغَتْهُ بزَعْفَرَانِ الأصيلِ
والشمس عند طلوعها ، وعند غروبها ، تمكّنُ الناظر إليها فيمكن التشبيه بها ؛ قال قيس بن الخطيم : الكامل :
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها . . . في الحسن أو كدنوِّها لغروبِ
جرير وأهل المدينة
ولما قدم جرير بن الخَطَفَي المدينَةَ اجتمع إليه أهلُها ، وقالوا : يا أبا حَزْرَة ، أنشدنا من شعرِك ، قال : ما تصنعون به ؟ وفيكم من يقول : الكامل :
أنى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سرُوبِ . . . وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِما تُمْنَعي يَقْظَى فقد نولتهِ . . . في النوم غيرَ مصردٍ محسوب
كان المُنَى يُلقي بها فلقيْتُها . . . فلَهَوتُ عن لهوِ امرئ مكذوب
فرأيتُ مثل الشمسِ عند طلوعها . . . في الحسنِ أو كدُنوِّها لغروب
تخطو على بردِيَّتَيْنِ غَذَاهُما . . . غَدِقٌ بِسَاحَةِ حائر يَعبُوب
يزيد بن خالد الكوفي
وقَّع يزيد بن خالد الكوفي رقعة إلى يعقوب بن داود ضمّنها : البسيط :
قل لابن داودَ والأنباءُ سائرةٌ : . . . لا يحرِزُ الأجْرَ إلا مَن له عَمَل
يا ذا الذي لَمْ تزل يُمْنَاه مُذْ خُلِقَتْ . . . فيها لباغي نَدَاه العَلُّ والنَّهَلُ
إن كنت مسديَ معروفٍ إلى رجلٍ . . . فضل شكرٍ فإني ذلك الرجلُ
فامْنُنْ عليّ ببرٍّ منك يَنْعَشُني . . . فإنني شاكرُ المعروف محتملُ
قال يعقوب : قد جرَبنا شكرك فوجدناه قد سبق برَّنا ، وقد أمرتُ لك بعشرة آلاف درهم تصلح حالك ، وليست آخر ما عندنا لك ، فاستوفاها حتى مات .
ولما سخط المهديّ على يعقوب أحضره ، فقال : يا يعقوب ، قال : لبَّيْك يا أمير المؤمنين تلبية مكروبٍ لِمَوْجِدَتك ، شَرِقَ بغُصَّتك ، قال : ألم أرفع قَدْرَك وأنتَ خامل ، وأسيّر ذكرك وأنت هامل ، وألبِسكَ من نِعَمِ الله تعالى ونِعَمي ما لم أجدْ عندك طاقةً لحمله ، ولا قياماً بشكْرِه ؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهر عليك ، وردَّ كَيْدَك إليك ؟ .
قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف ، وإن كان بسعاية الباغين ، ونمائم المعاندين ، فأنت أعلم بأكثرها ؛ وأنا عائذ بكرمك ، وعميم شرفك .
فقال : لولا الحِنْثُ في دَمك لألبستك قميصاً لا تشدّ عليه زرّاً ؛ ثم أمر به إلى الحبس ، فتولّى وهو يقول : الوفاءُ يا أمير المؤمنين كَرَم ، والمودة رَحِم ، وما على العفو نَدَم . وأنت بالعفو جَدير ، وبالمحاسن خَليق . فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد .أخذ معنى قول المهدي : ' لألبسنّك قميصاً لا تشدّ عليه زرّاً ' أبو تمام فقال : المنسرح :
طوّقته بالحسام طَوْق ردًى . . . أغناه عن مَسّ طَوْقِه بيدِه
وقال ابن عمر في معنى قول الطائي : البسيط :
طوّقته بحسام طَوْقَ داهيةٍ . . . لا يستطيعُ عليه شَدَّ أزرارِ
ولما قبض المهدي على يعقوب ورأى أبو الحسن النميري مَيْلَ الناس عليه ، وكان مختلطاً به قال : الكامل :
يعقوبُ لا تَبعَد وجُنبتَ الردى . . . فلأبكينَّ كما بكى الغُصْن النَّدَى
لو أنَّ خيرك كان شرّاً كلّهُ . . . عند الذين عدَوْا عليك لما عَدَا
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين في الغزل فقال : الكامل :
لو أن هجرك كان وَصْلاً كلّهُ . . . ممّا أقاسي منك كان قليلا
بين أحمد بن أبي دواد والواثق
قال أبو العيناء : قال لي أحمد بن أبي دُوَاد : دخلت على الواثق فقال لي : ما زال اليوم قوم في ثَلْبك ونَقْصك فقال : يا أمير المؤمنين ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولَى كِبْرَه منهم له عذاب عظيم ، واللَّهُ وليُّ جزائه ، وعقابُ أَمير المؤمنين من ورائه ، وما ذَلَّ - يا أمير المؤمنين - منْ كنت نَاصِره ، وما ضاق مَنْ كنتَ جاراً له ، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت : يا أبا عبد الله : الكامل :
وسعى إليّ بصرمِ عَزَّةَ مَعْشَرٌ . . . جعل الإلهُ خُدودَهنَّ نِعَالَها
قال الفتح بن خاقان : ما رأيت أظرف من ابن أبي دواد ؛ كنت يوماً أُلاعب المتوكل بالنرْد ، فاستُؤْذن له عليه ، فلمّا قَرُب منا هممت برفعها ، فمنعني المتوكل وقال : أجاهرُ الله وأَسْتُره من عباده ؟ فقال له المتوكل : لما دخَلْتَ أراد الفتح أن يرفع النَّرْد قال : خاف يا أمير المؤمنين أن أعلم عليه فاستحليناه ، وقد كنا تجهَّمناه .
شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان
قيل لبعض الأمراء : إن شبيب بن شيبة يتعمَّل الكلام ويستدعيه ، فلو أمرته أن يصعدَ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

باقي مؤلفات الشيخ الالباني

  ...