Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 27 فبراير 2023

ج1وج2.كتاب الإمتاع والمؤانسة أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي

 

ج1وج2.كتاب الإمتاع والمؤانسة أبو

  حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال أبو حيان التوحيدي : نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين ، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين .
أما بعد ، فإني أقول منبهاً لنفسي ، ولمن كان من أبناء جنسي : من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه ، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له ، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه ؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد ، فوق عقل المتعلم البليد ؛ وأن رأى المجرب البصير ، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل ، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل ؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة ، وكليات الحس في هذا العالم ، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم ؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر ؛ وبالجملة ، الداران متفقتان في الخير المغتبط به ، والشر المندوم عليه ؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما ، والجزاء المتأخر في الأخرى ؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي ، وأعمىعن رشدي ، وألقي بيدي إلى التهلكة ، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً ؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة ، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه ، في حالي سفره ومقامه ؛ وفقره وغنائه ، وشدته ورخائه ، وسارئه وضرائه ، وخيفته ورجائه ؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه ؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل ، وإياه أستعين في كل قول وعمل . قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك ، ووكل السلامة بك ، وأفرغ الكرامة عليك ، وعصب كل خير بحالك ، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك ، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم ، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم ، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم ، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم ، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم ، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم ، من بشرٍ تبديه ،وجاهٍ تبذله ، ووعدٍ تقدمه ، وضمانٍ تؤكده ، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة ، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة ، ورباط النعمة ، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود ، والعادة المرضية ؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة ، والموهبة قاطنة ، والشكر مكسوب ، والأجر مذخور ، ورضوان الله واقع ؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك ، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك ، بمنه ولطفه . فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً ، ووعيته وعياً تاماً ؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله ، والصلاح في طرفيه ووسطه ، والغنيمة في ظاهره وباطنه ، والشفقة من أوله إلى آخره . وأنا أعيده ههنا بالقلم ، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت ، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد ، ونكولي عنه أبعد وأصعب ، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ . قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل ، وفي كل رأيٍ ونظر - : إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه -عابساً على ابن عباد مغيظاً منه ، مقروح الكبد ، لما نالك به من الحرمان المر ، والصد القبيح ، واللقاء الكريه ، والجفاء الفاحش ، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة ، والتغافل عن الثواب على الخدمة ، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة ، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة . وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك ، وعناءً نال منك في عرض أحوالك ؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه ؛ فأرعيتك بصري ، وأعرتك سمعي ، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع ؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير ، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية ، وصحة العقيدة ، وقلت : أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان ، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه ، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين ؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده -وأخطب لك قبولاً منه ، وتخفيف الإذن عليك ، وامتلاء الطرف بك ، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك ؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ ، لعنايتك به ، وتوفرك على تصحيحه ، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا ؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه ، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض ، والرافع والواضع ، والكافي والوافي ، والمقرب لخدمها ونصحائها ، والمزحزح لحسدتها وأعدائها ؛ والراعي لرعيتها ودهمائها ، والناهض بأثقالها وأعبائها ، أعانه الله على ما تولاه ، وكفاه المهم في دنياه وأخراه ، بمنه وقدرته . نعم ورتبت ذلك كله ، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط ، والبر والمواساة ، والمساعدة والمواتاة ، والتعصب والمحاماة . أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها ، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة ، فتحدثه بما تحب وتريد ، وتلقي إليه ما تشاء وتختار ، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة ؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار ، وتتطاول إلى ما لبس لك ، وتغلط في نفسك ، وتنسى زلة العالم ، وسقطة المتحري ، وخجلة الواثق ؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء ، ومحاورة الوزراء ؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك ، وإلى مرانٍ سوى مرانك ، ولبسةٍ لا تشبه لبستك ؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد ، وتكلم فأفاد ، وبسط فزاد ؛ وإلا سكر ، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش ، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين ؛ إلا لغلظها وصعوبتها ، ومكروه عاقبتها ، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها ،وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها . والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني ، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب ، وملكت المكانة ثاني العنان ؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني ، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي ؛ وجهلت أن من قدر على وصولك ، يقدر على فصولك ، وأن من صعد بك حين أراد ، ينزل بك إذا شاء ، وأن من يحسن فلا يشكر ، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر . وبعد ، فما أطيل ، ولعل لهب الموجدة يزداد ، ولسان الغيظ يغلو ، وطباع الإنسان تحتد ، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف ؛ ولست أنت أول من بر فعق ، ولا أنا أول من جفى فنق . وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك ، وفاتحة يأسي منك ؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي ، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي ؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه ، وتصرفتما في هزله وجده ، وخيره وشره ، وطيبه وخبيثه ، وباديه ومكتومه ؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما ، أو متوسطاً بينكما ، ومتى لم تفعل هذا ، فانتظر عقبى استيحاشي منك ، وتوقع قلة غفولي عنك ، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان ، تأكل أصبعك أسفاً ، وتزدرد ريقك هفاً ، على ما فاتك منالحوطة لنفسك ، والنظر في يومك لغدك ، والأخذ بالوثيقة في أمرك ، أتظنن بغرارتك وغمارتك ، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء ؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال ، وأنام منك على حسن الظن بك ، والثقة بصدرك ووردك ، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك ؛ هيهات ؛ رقدت فحلمت ، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك ، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك ؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم ، وإيقاظٌ للساهي ، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم ؛ وقد قال الأول : ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه . . . من الأود البادي ثقاف المقوم فقلت لك : أنا سامع مطيع ، وخادم شكور ، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا ؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير ؛ ومثلي يهفو ويجمح ، ومثلك يعفو ويصفح ؛ وأنت مولىً وأنا عبد ، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر ، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل ، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ ، وأنت أول وأنا آخر ، وأنت مأمول وأنا آملٌ ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر ، والجناية العذراء ، والبادرة النادرة ؛ فقد أعنتني على ما كان مني ، ودللت على ملكك لي ؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة ؛ وكرمك يأبى عليك هذا ، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك .هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك ، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض ، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل ، والحلو والمر ، والطري والعاسي ، والمحبوب والمكروه ؛ فكان من جوابك لي : افعل . ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي ، وأحضر لما أريغ منه ، وأدخل في الحجة عليك ولك ؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك ، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك ، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك ، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك ؛ وإذا عزمت فتوكل على الله ؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه ، واختلاف فنونه مشروحاً ، والإسناد عالياً متصلاً ، والمتن تاماً بيناً ، واللفظ خفيفاً لطيفاً ، والتصريح غالباً متصدراً ، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه ، والصدق في إيضاحه وإثباته ؛ واتق الحذف المخل بالمعنى ، وإلحاق المتصل بالهذر ، واحذر تزيينه بما يشينه ، وتكثيره بما يقلله ، وتقليله عما لا يستغنى عنه ؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه ، وإلى القبيح فانقص من قبحه ؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره ، وإفادتي من أوله إلى آخره ؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى ، ويكون في ذلك حسن الذكرى ؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع ، وأعذب في النفس ، وأعلق بالأدب ؛ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب ، وأنفى للريب ؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان ، ولا يصحب كل لسان ؛ وخطره كثير ، ومتعاطيه مغرور ، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون ، وزهوٌ كزهو الملك ، وخفقٌ كخفق البرق ؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً ، ويذل طوراً ويعز أطواراً ؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع ؛ وطريقه على الوهم ، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان ، واللسان كثير الطغيان ؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي ، والتأليف الصناعي ، والاستعمال الاصطلاحي ، ومستملاه من الحجا ، ودريه بالتمييز ؛ ونسجه بالرقة ، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل ، ويجول الذهن ، وتتمطى الدعوى ، ويفزع إلى البرهان ، ويبرأ من الشبهة ، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة ؛ فاحذر هذا النعت وروادفه ، واتق هذا الحكم وقوائفه ؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب ، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم ، ولست منهم ، فلا تتشبه بهم ، ولا تجر على مثالهم ، ولا تنسج على منوالهم ، ولا تدخل في غمارهم ، ولا تكثر ببياضك سوادهم ، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم ، ولا تجذب بيدك رشاءهم ، ولا تحاول بباعك مطاولتهمواعرف قدرك تسلم ، والزم حدك تأمن ، فليس الكودن من العتيق في شيء ، ولا الفقير من الغني على شيء ، أما سمعت قول الناس : ليس الشامي للعراقي بصاحب ، ولا الكردي من الدندي بساخر ، فإن طال فلا تبل ، وإن تشعب فلا تكترث ، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل ، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية ، وأظفر بالمراد ، وأجرى على العادة . فكتبت : ' بسم الله الرحمن الرحيم ' ، أقول أيها الشيخ - عطف الله قلبك علي ، وألهمك الإحسان إلي - في جواب جميع ما قلته واجداً علي وعاتباً ، وقابضاً ، وباسطاً ، ومرشداً ، وناصحاً ؛ ما يعرف الحق فيه ، ويستبين الصواب منه ، غير خائنٍ لك ، ولا جانحٍ إلى مخالفتك ، ولا مريغٍ للباطل معك ، ولا جاحدٍ لأياديك القديمة ، والحديثة ، ولا منكرٍ لنعمتك الكافية الشافية ، ولا غاظٍ على فواضلك المجتمعة والمتفرقة ، ولا تاركٍ لشيء هو علي من أجل شيء هو لي ، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو علي ؛ بل أجهز دقة وجله إليك حتى تراه بسده وغباره ، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره . كأني لم أسمع قول الأول : والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم . . . والشكر مبعثةٌ لنفس المفضل أأنا أدعك واجداً علي ، وأرقد وأنت ماقتٌ لي ، وأجد حس نعمة أنت وهبتها إلي ، وألذ عيشاً أنت أذقتني حلاوته . أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي ، وتجاه عيني ، وحشو نفسي ، وراحة حلمي ، وزاد حياتي ، ومادة روحي هيهات ، هذا بعيد من القياس ، وغير معهود بين أحرار الناس ؛ الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم ، وحرصٌ على إكرام أنفسهم ؛قد عبقوا بفوائح الفتوة ، وعلقوا بحبائل المروءة ، وشدوا من الحكمة أشرف الأبواب ؛ واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم ؛ وحازوا شرفاً بعد شرف ، وانحازوا عن نطف بعد نطف ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة ، وعزفوا أنفسهم عن زهراتها بتجربة صادقة . فأول ما أبدؤك به أنني طننت ظناً لا كيقين أن شيئاً مما كنت فيه مع الوزير - أدام الله أيامه ، وقصم أعداءه - ليس مما يهمك ، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له ؛ وحسبت أيضاً أنني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقصتني به ، وزريت علي فيه ؛ وأنك ربما قلت : لم بدأت بما أسئلك عنه ولم أرخص لك فيه ، هلا كظمت على جرتك ، وطويت ما بين جنبيك وما علي مما يدور بين الصاحب وخادمه والرؤوساء ، والناظرين في أمور الدهماء والمتصفحين لأحوال العامة والخاصة ، ولهم أسرار وعيوبٌ لا يقف عليها أقرب الناس إليهم ، وأعز الناس عليهم ، وأنت أيضاً فلم تسألني عنه ، فكان في تقديري أنك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت ، وأنك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة ، ولا في الإعراض عنها فائتة . وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبس بظني ، فإني أهدي ذلك كله بغثاثته وسمانته ، وحلاوته ومرارته ، ورقته وخثارته في هذا المكان ؛ ثم أنت أبصربعد ذلك في كتمانه وإفشائه ، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته ؛ ووالله ما أرى هذا أمراً صعباً إذا وصل إلى مرادك ولا كلفةً شاقةً إذا أكسبني مرضاتك ؛ وإن كان ذلك يمر بأشياء كثيرةٍ ومختلفةٍ ، متعصية غريبةٍ ، منها ما يشيط به الدم المحقون ، وينزع من أجله الروح العزيز ، ويستصغر معه الصلب ، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ؛ وإن كان فيها أيضاً غير ذلك مما يضحك السن ، ويفكه النفس ، ويدعو إلى الرشاد ، ويدل على النصح ، ويؤكد الحرمة ، ويعقد الذمام ، وينشر الحكمة ، ويشرف الهمة ، ويلقح العقل ، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة ، وينفق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة ، ويوقظ العيون الناعسة ، ويبل الشن المتغضف ، ويندى الطين المترشف ؛ ويكون سبباً قوياً على حسن الحال وطلب العيش ، فإن هذا العاجلة محبوبة ، والرفاهية مطلوبة ، والمكانة عند الوزراء بكل حولٍ وقوةٍ مخطوبة ، والدناي حلوةٌ خضرة وعذبةٌ نضرة ، ومن شف أمله شق عمله ؛ ومن اشتد إلحاحه ، توالى غدوه ورواحه ، ومن أسره رجاؤه ، طال عناؤه ، وعظم بلاؤه ؛ ومن التهب طمعه وحرصه ، ظهر عجزه ونقصه . وفي الجملة : من لم يكن لله متهماً . . . لم يمس محتاجاً إلى أحد ولابد من فتى يعين على الدهر ، ويغني عن كرام الناس فضلاً عن لئامهم ، ويذلل قعود الصبر ، ويجم راحلة الأمل ، ويحلي مر اليأس ؛ والعزلة محمودةٌ إلا أنها محتاجة إلى الكفاية ، والقناعة مزة فكهةٌ ولكنها فقيرةٌ إلى البلغة وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفةمحرجة إن لم تكن لها أداةٌ تجدها وفاشيةٌ تمدها ، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين ، ورغبةٍ في الآخرة شديدة ، وفطامٍ عن دار الدنيا صعب ، ولسانٍ بالحلو والحامض يلغ . قال ابن السماك : لولا ثلاثٌ لم يقع حيف ، ولم يسل سيف ، لقمةٌ أسوغ من لقمة ، ووجه أصبح من وجه ، وسلك أنعم من سلك ، وليس كل أحد له هذه القوة ، ولا فيه هذه المنة والإنسان بشر ، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة ، وله عادةٌ طالبة ، وحاجةٌ هاتكة ، ونفسٌ جموح ، وعينٌ طموح ؛ وعقلٌ طفيف ، ورأي ضعيف ، يهفو لأول ريح ، ويستخيل لأول بارق ؛ هذا إذا تخلص من قرناء السوء ، وسلم من سوارق العقل ، وكان له سلطان على نفسه ، وقهرٌ لشهواته ، وقمعٌ لهوائجه وقبولٌ من ناصحه ، وتهيؤٌ في سعيه ، وتبوءٌ في معان حظه ، وائتمامٌ بسعادته ، واستبصارٌ في طلب ما عند ربه ، واستنصافٌ من هواه المضل لعقله المرشد ، هذا قليلٌ وصعب ولو قلت : معدومٌ أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد ، لما خفت عائقاً يعوقني ، ولا حسوداً يرد قولي . قال ابن السماك : الله المستعان على ألسنٍ تصف وقلوبٍ تعترف ، وأعمالٍ تختلف .وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث - ورآه لا يلي له عملاً ، ولم يقبل منه نائلاً - : يا ابن أخي ، هي الدنيا ، فإما أن ترضع معنا ؛ وإما أن ترتدع عنا . وربما قال بعض المتكلفين قد قال بعض السلف : ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، ولا من ترك الآخرة للدنيا ، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه . وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن . وربما قال آخر من المتقدمين : ' اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ' . وهذا أيضاً كلامٌ منمق ، لا يرجع إلى معنىً محقق ؛ أين هو من قول المسيح - عليه السلام - حين قال : الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر ؛ ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر . وأين هو من قول الآخر : الدنيا والآخرة ضرتان ، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى . وهذا لأن الإنسان صغير الحجم ، ضعيف الحول ، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته ، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه ، والقيام بوظائفه ، والثبات على حدود أمره ونهيه ، فإن صفق وجهه وقال : نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار : فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من هذه ؛ ومن تخنث وتليث لم يكن رجلاً ولا امرأة ، ولا يكون أباً ولا أماً ؛ وهذا كما نرى . ونرجح فنقول : ونعوذ بالله من الفقر خاصة إذا لم يكن لصاحبه عياذٌ من التقوى ، ولا عمادٌ من الصبر ، ولا دعامةٌ من الأنفة ، ولا اصطبارٌ على المرارة . وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم ، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم ، ويوسعونعلى غيرهم من سعتهم ، وكانوا يهتمون بذخائر الشكر المعجل في الدنيا ، يحرصون على ودائع الأجر المؤجل في الأخرى ؛ ويتلذذون بالثناء ، ويهتزون للدعاء ؛ وتملكهم الأريحية عند مسئلة المحتاج ، وتعتريهم الهزة معها والابتهاج ؛ وذلك لعشقهم الثناء الباقي ؛ والصنيع الواقي ؛ ويرون الغنيمة في الغرامة ، والربح في البذل ، والحظ في الإيثار ، والزيادة في النقص ؛ أعني بالزيادة . الخلف المنتظر من الله ؛ وبالنقص : العطاء ؛ ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال : أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال : أنت للمال إذا أمسكته . . . فإذا أنفقته فالمال لك قال : ولو كان هذا صحيحاً كان لا ينبغي أن يكتسب المال ، لأنه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق . هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل ؛ نعم ، وكانوا إذا ولوا عدلوا ، وإذا ملكوا أفضلوا ، وإذا أعطوا أجزلوا ، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا ، وإذا عالوا صبروا ، وإذا نالوا شكروا ؛ وإذا أنفقوا واسوا ، وإذا امتحنوا تأسوا ؛ وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة ، وإلى ضرائب مأمونة ؛ وإلى ديانات قوية ، وأماناتٍ ثخينة ؛ وكان لهم مع الله أسرار طاهرة ، وعلانيةٌ مقبولة ؛ ومع عباد الله معاملةٌ جميلة ، ورحمةٌ واسعة ومعدلةٌ فاشية ؛ وكانت تجارتهم في العلم والحكمة ، وعادتهم جارية على الضيافة والتكرمة ؛وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة ؛ وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير ، وتناهوا عن الشر ؛ وتنافسوا في اتخاذ الصنائع ، وادخار البضائع أعني صنائع الشكر ، وبضائع الأجر فذهب هذا كله ، وتاه أهله ؛ وأصبح الدين وقد أخلق لبوسه ، وأوحش مأنوسه ، واقتلع مغروسه ؛ وصار المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً ، وعاد كل شيء إلى كدره وخاثره ، وفاسده وضائره ؛ وحصل الأمر على أن يقال : فلانٌ خفيف الروح ، وفلان حسن الوجه ، وفلان ظريف الجملة ، حلو الشمائل ، ظاهر الكيس ، قوي الدست في الشطرنج ، حسن اللعب في النرد ، جيدٌ في الاستخراج ، مدبر للأموال ، بذولٌ للجهد ، معروفٌ بالاستقصاء لا يغضى عن دانق ، ولا يتغافل عن قيراط ؛ إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره ، والكاتب من تسطيره . وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف ، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد ، وليس فيها شيءٌ مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف .وأرجع عن هذه الشكلية الطويلة اللاذعة والبلية العامة الشاملة ؛ إلى عين ما رسمت لي ذكره ، وكلفتني إعادته ؛ عائذاً بالله في صرف الأذى عني وسوق الخير إلي ؛ ولائذاً بكرمك الذي رشتن به إلى الساعة ، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة ؛ والأعمال بخواتيمها ، والصدور بأعجازها ؛ وأنت أولى الناس بالصفح والتجاوز عني إذا عرفت براءتي في كل ما يتعلق بي من ذمامك ؛ ويجب علي من الحق في مودتك ، والاعتصام بحبلك والانتجاع من عشبك ، والارتغاء من لبنك .الليلة الأولى
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره ، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس ، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس ؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد ، ولا في الغضب ولا في الرضا . ثم قال بلسانه الذليق ، ولفظه الأنيق : قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء ، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته ، وأنا أربأ بك عن ذلك ، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى ، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس ، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان ، لا أحصيها لك في هذا الوقت ، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض ، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال ؛ بملء فيك ، وجم خاطرك ، وحاضر علمك ؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك ، وزائد رأيك ، وربح ذهنك ؛ ولا تجبن جبن الضعفاء ، ولا تتأطر تأطر الأغبياء ؛ واجزم إذا قلت ، وبالغ إذا وصفت ؛ واصدق إذا أسندت ، وافصل إذا حكمت ، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً ؛ وما أحسن ماقال الأول : لا تقدح الظنة في حكمه . . . شيمته عدلٌ وإنصاف يمضي إذا لم تلقه شبهةٌ . . . وفي اعتراض الشك وقاف وقد قال الأول : أبالي البلاء وإني امرؤٌ . . . إذا ما تبينت لم أرتب وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه ، وعلى تحريفك وقرافه . فقلت قبل : كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت ، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد ، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة ، وقد عقدت خنصري على المسألة . فقال - حرس الله روحه - : قل - عافاك الله - ما بدا لك ، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك ، وإصابة غرضنا بك . قلت : يؤذن لي في كاف المخاطبة ، وتاءالمواجهة ، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض ، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش . قال : لك ذلك ، وأنت المأذون فيه ، وكذلك غيرك ، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة ؟ إن الله تعالى - على علو شأنه ، وبسطه ملكه ، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف ، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه ، وكذلك رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء ، فقد كان يقال للخليفة : يا أمير المؤمنين أعزك الله ، ويا عمر أصلحك الله ؛ وما عاب هذا أحد ، وما أنف منه حسيب ولا نسيب ، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف ؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه ، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً ، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم ، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم ، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم ، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص ، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف ؛ هيهات ، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء . فقلت : أيها الوزير ، قد خالطت العلماء ، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم ، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين ؛ وقد قال بعض السلف الصالح : ' ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه ' . والتصاغر دواء النفس ، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين ؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته - : ' يا أمير المؤمنين ، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك ، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً ' .قال : هذا باب مفترقٌ فيه ، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي ، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة ، وحروف متقاومة ؛ ولفظٍ عذب ، ومأخذٍ سهل ؛ ومعرفة بالوصل والقطع ، ووفاء بالنثر والسجع ؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي ، وتقاربٍ في التلطف الخافي ، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول : لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ . . . رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال ، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم ؛ وبالعراق رد علي وقيل : هو بالزاي ؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله : فهن ينبذن من قول يصبن به . . . مواقع الماء من ذي الغلة الصادي قلت : ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له : أتمل الحديث ؟ قال : إنما يمل العتيق ، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل ، ولهذا يولع به الصبيان والنساء ، فقال : وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم ؟ قلت : ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل ، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة ، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع ، فإذا برز فهو بالفعل ، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق ؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل ، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيلوتحقيق ، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات ؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث ، لأنه قريب العهد بالكون ، وله نصيب من الطرافة . ولهذا قال بعض السلف : ' حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور ' ، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها ، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير ، فإنها إذا دثرت - أي صدئت ، أي تغطت ؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها ؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث ؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم : إما بالزمان ، وإما بالدهر ؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها ، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها ؛ وأما ما قدم بالدهر ، فكالعقل والنفس والطبيعة ؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة ، ومناطقه الخفية ، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية ، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية . فقال : بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق ، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين : فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة ، وهذا موجودٌ في قول العرب : البيت العتيق ؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول . فأما قولهم : عبد عتيق ، فهو داخل في المعنى الأول ، لأنه أكرم بالعتق ، وارتفع عن العبودية ، فهو كريم . وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح . وكذلك فرس عتيق . وأما قولهم : هذا شيء خلق ، فهو مضمن معنيين : أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية ؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة .وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى . . . نعم ، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له ، ولما كان عتيقاً كان له أعول ، ومن أجل هذا الإعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم ، واستحسنوا هذا الإطلاق . وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق ، فقالوا : ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - ( صلى الله عليه وسلم ) - ولا في حديث الصحابة والتابعين . وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام : هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له ؟ فقال : هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم ، إلا أنهم يقولون : هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ . فقل : قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه ، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث ؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً . والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه . وههنا شيء آخر ، وهو الحدثان والحدثان ؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث ، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط ، لأنه يقال : كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير ، أي في أول زمانه ، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث . وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد . قال : ما الفرق بين حدث وحدث ؟ قلت : لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم ، لأنه يقال : أخذه ما قدم وما حدث ؛ فإذا قيل لإنسان : حدث يا هذا . فكأنه قيل له : صل شيئاً بالزمانيكون به في الحال ، لا تقدم له من قبل . ثم رجعت فقلت . ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر ، شريفة الفوائد في المخبر ، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث ، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها ، وهي حاضرة . فقال احملها واكتبها ، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث . قلت : السمع والطاعة . ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه : قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر ، على التلال العفر . وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال : والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين . فقيل : يا أمير المؤمنين ، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك ؟ فقال : أين يذهب بكم ؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير ، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول ، وترويحاً للقلب ، وتسريحاً للهم ، وتنقيحاً للأدب . قال : صدق هذا الإمام في هذا الوصف ، إن فيه هذا كله .قلت : وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول : سمعت ابن السراج يقول : دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه ، فأنشدنا قوله : ولقد سئمت مآربي . . . فكأن أطيبها خبيث إلا الحديث فإنه . . . مثل اسمه أبداً حديث وقال سليمان بن عبد الملك : قد ركبنا الفاره ، وتبطنا الحسناء ، ولبسنا اللين ، وأكلنا الطيب حتى أجمناه ، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع ، ويطرب إليه القلب . وهذا أيضاً حقٌ وصواب ، لأن النفس تمل ، كما أن البدن يكل ؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة ، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر ، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس ، ولهذا يرى بالعين ،كما أن النفس لطيفة البدن ، ولهذا لا توجد إلا بالعقل ؛ والنفس صفاء البدن ، والبدن كدر النفس . فقال : أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد ، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام ، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل ؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها ، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث . قلت : حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية ، قال : رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر ، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة ، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً ؛ فقال جحظة : إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً ؟ قال : أنت لا تدري ، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة ؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط ؛ فقال جحظة : هذا عملك الحسن ؟ قال : فأردت أن يبقى ألف سنة ؟ قال : لا ، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك . فضحك - أضحك الله سنه - .
الليلة الثانية
ثم حضرت ليلة أخرى ، فقال : أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا ، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا ، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره ،ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره ، وحافظ غاية خبره . فقلت : والله أيها الوزير ، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة ، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك ، وأحسن ثناءً عليك ، وأذهب في طريق العبودية معك ، منه ؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح ، رفعه الله إليه ، والثناء الطيب أشاعه الله ؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك ، وكرم أخلاقك وعلو همتك ، وصدق حدسك وصواب رأيك ، وبركة نظرك ، وظهور غنائك ، وخصب فنائك ، ومحبة أوليائك ، وكمد أعدائك ، وصباحة وجهك ، وفصاحة لسانك ، ونبل حسبك ، وطهارة غيبك ، ويمن نقيبتك ، ومحمود شيمتك ، ودقيق ما أودع الله فيك ، وجليل ما نشر الله عنك ، وغريب ما يرى منك ، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية ، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة ، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب ، فإنك نعشت روحه وكان خفت ، وبصرته وكان عشي ؛ وأنبت جناحه وكان قد حص ، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ ، وسمعته مراراً : من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ، ويجري على عادته معي ؟ ومن يسأل عني ، ويهتم بحالي ؟ هيهات ، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال ، وملقتىالقفال ، ومحقق الأقوال والأفعال ، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال ؛ كان والله فوق المتمنى ، وأعلى من أن يلحق به نظير ، أو يوجد له مماثل ؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور ، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير ؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير ، لكنا لا نبتلى بفقده ، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته ؛ الدنيا ظلوم ، والإنسان فيها مظلوم . فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف ، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه ، وعن وجه غدائه وعشائه عاش . ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل ، والوعد العريض الطويل ؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت . فقال : سررتني لسروره بما كان مني ، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه ، وفللت عنه حد نابه ، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه ، وتمنع معها بنفسه ؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس ، ولكنه على حال لا محتمل له عليها ، ولا صبر عليه معها ؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه ؟ قلت : نعم ، قال : أنشدنيه ، فرويت :أبو سليمان عالمٌ فطن . . . ما هو في علم بمنتقص لكن تطيرت عند رؤيته . . . من عورٍ موحش ومن برص وبابنة مثل ما بوالده . . . وهذه قصة من القصص فقال : قاتله الله ، فلقد أوجع وبالغ ، ولم يحفظ ذمام العلم ، ولم يقض حق الفتوة . حدثني عن درجته في العلم والحكمة ، وعرفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي . فقلت : وصف هؤلاء أمر متعذر ، وبابٌ من الكلفة شاق ؛ وليس مثلي من جسر عليه ، وبلغ الصواب منه ؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم ، وأشرف بعد ذلك عليهم ؛ فعرف حاصلهم وغائبهم ، وموجودهم ومفقودهم . فقال : هذا تحايلٌ لا أرضاه لك ، ولا أسلمه في يدك ، ولا أحتمله منك ؛ ولم أطلب إليك أن تعرفهم بما هو معلوم الله منهم ، وموهبة لهم ، ومسوقه إليهم ،ومخلوعه عليهم ، على الحد الذي لا مزيد فيه ولا نقص ؛ إنما أردت ان تذكر من كل واحد ما لاح منه لعينيك ، وتجلى لبصيرتك ، وصار له به صورةٌ في نفسك ؛ فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري ، وإلى هذا القدر ينتهي . فقلت : إذا قنع مني بهذا ، فإني أخدم بما عندي ، وأبلغ فيه أقصى جهدي . أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظراً ، وأقعرهم غوصاً ، وأصفاهم فكراً ، وأظفرهم بالدرر ، وأوقفهم على الغرر ؛ مع تقطع في العبارة ، ولكنةٍ ناشئة من العجمة وقلة نظرٍ في الكتب ، وفرط استبداد بالخاطر ، وحسن استنباط للعويص ، وجرأة على تفسير الرمز ، وبخلٍ بما عنده من هذا الكنز . وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة ، صحيح النقل ، كثير الرجوع إلى الكتب ، محمود النقل إلى العربية ، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة ؛ ليس له في دقيقها منفذ ، ولا له من لغزها مأخذ ، ولولا توزع فكره في التجارة ، ومحبته في الربح ، وحرصه على الجمع ؛ وشدته في المنع ؛ لكانت قريحته تستجيب له ، وغائمته تدر عليه ؛ ولكنه مبدد مندد ، وحب الدنيا يعمي ويصم . وأما ابن الخمار ففصيح ، سبط الكلام ، مديد النفس ، طويل العنان ، مرضي النقل ، كثير التدقيق ، لكنه يخلط الدرة بالبعرة ويفسد السمين بالغث ، ويرقع الجديد بالرث ؛ ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف ، ويزيد في الرقم والسوم ، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص ؛ وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف ؛ وما يصفيه بالصواب ،يكدره بالإعجاب . ومع هذا يصرع في كل شهر مرة أو مرتين . وأما ابن السمح ، فلا ينزل بفنائهم ، ولا يسقى من إنائهم ؛ لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل ، وهو بالمتبع أشبه ، وإلى طريقة الدعي أقرب ، والذي يحطه عن مراتبهم شيئان : أحدهما بلاده فهمه ، والآخر حرصه على كسبه ؛ فهو مستفرغ مح البال مأسور العقل ، يأخذ الدانق والقيراط والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف ؛ والقلب متى لم ينق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة ، ولم يتفوح بردع الفلسفة ، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة . وأما القومسي أبو بكر ، فهو رجل حسن البلاغة ، حلو الكناية ، كثير الفقر العجيبة ، جماعةٌ للكتب الغريبة ؛ محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة ، كثير التردد في الدراسة ؛ إلا أنه غير نصيح في الحكمة ؛ لأن قريحته ترابية ، وفكرته سحابية ؛ فهو كالمقلد بين المحققين ، والتابع للمتقدمين ؛ مع حبٍ للدنيا شديد ، وحسد لأهل الفضل عتيد . وأما مسكويه ، ففقير بين أغنياء ، وعيي بين أبنياء ، لأنه شاذ ، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي وقاطيغورياس ، من تصنيف صديقنا بالري . قال : ومن هو ؟ قلت : أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري ، وصححه معي ؛ وهو الآن لائذ بابن الخمار ، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ ، ولكنه محسن في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل .فقال : يا عجباً لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظه قلت : قد كان هذا ، ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي ، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتوناً بكتب أبي زكرياء ، وجابر بن حيان ؛ ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه ؛ هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية ؛ والعمر قصير ، والساعات طائرة ، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق ، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق ، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق ؛ ولقد قطن العامري الري خمس سنين جمعة ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة ، ولا وعى مسألة ، حتى كأنه بينه وبينه سد ؛ ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم ، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه ، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله . وبعد فهو ذكي حسن الشعر نقي اللفظ ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث ، وما أرى ذلك مع كلفة بالكيمياء ، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان ، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة ؛ نعوذ بالله من مدح الجود باللسان ، وإيثار الشح بالفعل ، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل ؛ وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به ، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه . وأما عيسى بن علي ، فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة ، حجة في النقلوالترجمة ، والتصرف في فنون اللغات ، وضروب المعاني والعبارات ؛ وقد تصفح ما لم يتصفح كثير من هذه الجماعة ، وقلب بخزائن الكبراء والسادات ، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد ؛ ولكنه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة ، ونصيحٌ على ورقة فارغة ، لسودائه الغالبة عليه ، ومزاجه المتشيط بها . وأما نظيف ، فإنه متوسط ، لا يسفل عن أقلهم حظاً ولا يعلو على أكثرهم نصيباً ؛ ويده في الطب أطول ، ولسانه في المجالس أجول ؛ ومعه رفق وحذق في الجدل . وأما يحيى بن عدي ، فإنه كان شيخاً لين العريكة فروقة ، مشوه الترجمة ، رديء العبارة ، لكنه كان متأتياً في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة ، ولم يكن يلوذ بالإلهيات ، كان ينبهر فيها ويضل في بساطها ، ويستعجم عليه ما جل ، فضلاً عما دق منها ؛ وكان مبارك المجلس . فقال : ما قصرت في وصف هذه الطائفة ، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم . حدثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها ؛ وإلى أين ينتهون من يقينهمبشأنها ، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها ؟ فقلت : علمت أني لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين ، أعني أبا الوفاء علي بن يحيى السامري والمعري والقوهي والصوفي وغلام زحل والصاغاني ، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحراني ، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض ، ولا يرقمون هذا البز ولا يجهزون هذا المتاع ولا يتعاملون به ؛ هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء ، وهذا يعتبر الشمس والقمر ، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله ، حتى كأنه محظور عليهم ، أو قبيح عندهم . وقلت : إن هؤلاء القوم - أعني الطائفة الأولى - متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باقٍ خالد ؛ فأما اليقين فما الحكم به لهم ، لأنهم لو كانوا على ذلك - أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته - لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرين ؛ فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس ، ويقظة من العقل ، واستبصار من القلب ، وسكون من البرهان ، لما تعجلوا هذه اللذات المنقوصة ، والأوطار الفاضحة ، والشهوات الخسيسة ، مع التبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة ؛ ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسفر ، ومن سرعة الخطو ، لأن الحركة قد بطلت بالركاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلائه ، فأي عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة ، والعقيدة الرديئة ، والأفعال القبيحة معوقةً ممنوعةً من الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم وعالم الروح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحل الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبدومعان السرمد . قال : هذا كلام تام ؛ وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تعم لي ما كنا فيه ، كيف علم أبي سليمان بالنجوم وأحكامها ؟ قلت : لا يتجاوز التقويم . ثم قال : فما تقول في الأحكام ؟ قلت : أنشدت منذ أيام : علم النجوم على العقول وبال . . . وطلاب حق لا ينال محال وقلت أيضاً : علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركاً مكشوفاً مخاطباً به معروفاً ؛ ولا يجوز أن يكون مقنوطاً منه مطرحاً مجهولاً ؛ بل الحكمة توجب أن يتوسط هذا الفن بين الإصابة والخطأ حتى لا يستغنى عن اللياذ بالله أبداً ، ولا يقع اليأس من قبله أبداً ؛ وعلى هذا سخر الله الإنسان وقيضه وخيره بين الأمر وفوضه ؛ ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده ، والرجوع إليه ؛ انظر إلى حديث الطب فإن عنده الصناعة توسطت الصواب والخطأ ، لتكون الحكمة سارية فيها ، واللطف معههوداً بها ؛ لأن الطب كما يبرأ به العليل ، قد يهلك معه العليل ؛ فليس بسبب أن بعض المدبرين بالطب لا ينبغي أن ينظر في الطب ؛ وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعول عليه ؛ انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما بينه وبينها ؛ ولتكون المصلحة بالغة غايتها ؛ وهذه سياسة دار الفناء ، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء ؛ وهكذا ، فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه ، وجوب الطول والعرض وإصابة الربح ، وطلب العلم ، كيف توسط بين السلامة والعطب ، والنجاة والهلكة ، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويهلك ، لكان في ذلك مفسدة عامة ؛ ولو استمرت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو ، لكان في ذلك مفسدة عامة ؛ فالحكمة إذاً ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله منينجو ، ويسلم نفسه لله من يهلك . قلت : وبعد هذا فهذا العلم عويص غامض عميق ، وقد فقد العلماء به ، الملهون فيه ؛ ومعول أهله على الحدس والظن ، وعلى بعض التجارب القديمة التي تكذب مرة وتصدق مرة ؛ وبالصدق يعبر الإنسان ، وبالكذب يعرى من فوائده ؛ فالنقص قد دخله ، والخلل قد شمله ؛ وليس يجب أن يوهب له زمانٌ عزيز ، فوراءه ما هو أهم منه وأجدر ، وأرشد وأهدى . قال : هذا حسن ، حدثني بالذي أفدت اليوم . قلت : قال أبو سليمان : العلم صورة المعلوم في نفس العالم ، وأنفس العلماء عالمةٌ بالفعل ، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة . والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل . والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل . والنفس الفلكية عالمةٌ بالفعل ، والنفس الجزئية علامة بالقوة ؛ وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها ، وتصيراً لها . قال : هذا في الحسن نهاية ، وقد اكتهل الليل ، وهذا يحتاج إلى بدء زمان ، وتفريغ قلب ، وإصغاء جديد . هات خاتمة المجلس . قلت له : قرأنا يوم الجمعة على أبي عبيد الله المرزباني لعبد الله بن مصعب . إذا استتعت منك بلحظ طرفي . . . حيي نصفي ومات عليك نصفي تلذذ مقلتي ويذوب جسمي . . . وعيشي منك مقرون بحتفي فلو أبصرتني والليل داج . . . وخدي قد توسط بطن كفي ودمعي يستهل من المآقي . . . إذاً لرأيت ما بي فوق وصفي وانصرفت .
الليلة الثالثة
قال لي ليلة أخرى : حدثني أبو الوفاء عنك حديث الخراساني ، فأريد أن أسمعه منك .قلت : كنت قائماً عشية على زنبرية الجسر في الجانب الشرقي والحاج يدخلون ، وجمالهم قد سدت عرض الجسر - أنتظر جوازها وخفة الطريق منها ، فرأيت شيخاً من أهل خراسان ذكر لي أنه من أهل سنجان واقفاً خلف الجمال يسوقها ، ويحفظ الرحال التي عليها ، حتى نظر إلى الجانب الغربي فرأى الجذع عليه ابن بقية - وكان وزيراً صلبه الملك لذنوب كانت له - فقال : لا إله إلا الله ، ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها وغيرها ، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض . قال : هكذا حدثني أبو الوفاء ، ولذلك استأذنت في دفنه ، وكان كلام الشيخ سبباً في ذلك . قال : بلغني أن أبا سليمان يزور في أيام الجمعة رسل سجستان لما ويظل عندهم طاعماً ناعماً ، ويأنس بأنك معه ، فمن يحضر ذلك المكان ؟ فقلت : جماعة ؛ وآخر من كان في هذا الأسبوع الماضي ابن جبلة الكاتب ، وابن برمويه ، وابن الناظر أبو منصور وأخوه ، وأبو سليمان وبندار المغني وغزال الراقص ، وعلم وراء الستارة . فقال : ما الذي حفظت من حديث عنهم ، ومأثور أن يلقى إلينا منهم ؟ فقلت : سمعت أشياء ، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزاً وساعياً ومفسداً . قال : معاذ الله من هذا ، إنما تدل على رشد وخير ، وتضل عن غي وسوء ، وهذايلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس ، واعتقد الشفقة ، وحث على قبول النصيحة ؛ والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد سمع مثل هذا وسأل عنه ، وكذلك الخلفاء من بعده ، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عاليةٍ أو محطوطة . فقلت وجدت ابن برمويه يذكر أشياء هي متعلقة بجانبك ، ويرى أنها لو لم تكن لكان مجلسك أشرف ، ودولتك أعز ، وأيامك أدوم ، ووليك أحمد ، وعدوك أكمد . قال : ما هذا الاسترسال كله إلى ابن شاهويه ؟ وما هذا الكلف ببهرام ؟ وما هذا التعصب لابن مكيخا ؟ وما هذا السكون إلى ابن طاهر ؟ وما هذا التعويل على ابن عبدان ؟ وما من هؤلاء أحد إلا يريش عدوه ويبريه ويضل صاحبه ويغويه . أما ابن شاهويه فشيخ إزراء وصاحب مخرقة وكذبٍ ظاهر ، كثير الإيهام ، شديد التمويه ، لا يرجع إلى ودٍ صادق ، ولا إلى عقد صحيح وعهدٍ محفوظ ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة ، وكان أيضاً مذموم الهيئة ، فكان لاينبس إلا بما يقويه ويحرس حاله ، واليوم هو رخي اللبب ، جاذب لكل سبب ؛ وليس هناك كفاية ولا صيانة ولا ديانة ولا مروءة ؛ وبعد ، فهو مشئوم نكد ، ثقيل الروح ، شديد البهت قوله الإفساد وعادته تأجيل المهنأ والشماتة بالعاثر والتشفي من المنكوب . وأما بهرام فرجل مجوسي معجب ذميم ، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ ، غرضه أن يتبجح في الدنيا بجاهه ، ولا يبالي أين صار بعاقبته ؛ وهو يحض مع ذلك عليه في كل ما هو مديره ومدبره . وأما ابن مكيخا ، فرجل نصراني أرعن خسيس ، ما جاء يوماً بخير قط لا في رأي ولا في عمل ، ولا في توسط ؛ وأصحابنا يلقبونه بقفا وهو منهمك بين اللذائذ همه أن يتحسى دن الشراب في نفس أو نفسين ، ثم يسقط كالجذع اليابس لا لسان ولا إنسان . وأما ابن طاهر فرجل يدعي للناس أنه لولا مكانته وكفايته وحسبه ورأيه ومشورته لكانت هذه الوزارة سراباً ، وهذه المملكة خراباً ؛ هذا مع الشر الذي في طبعه وعادته ؛ فإن جرى خيرٌ انتحله ، وزعم أنه من نتائج رأيه ؛ وإن وقع شرٌ عصبه برأس صاحبه ، وادعى أنه استبد به ؛ ومع هذا فهو يعيب هذه المراءاة .وما أدري كيف استكفى هذه الجماعة حوله ؟ وكيف يظاهر هو بها ويسكن إليها ؟ وما فيهم إلا من وكده الرجس والإفساد والأخذ بالمصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء والسقيم وعلى الزكي والظنين ؛ هؤلاء سباع ضارية ، وكلاب عاوية ؛ وعقارب لساعة ، وأفاعٍ نهاشة ، وقى الله هذا الإنسان الحر المبارك الكريم الرحيم ، فإنه شريف النفس طاهر الطوية ، لين العريكة ، كثير الديانة ، وهذه أخلاق لا تصلح اليوم مع الناس ، قال الشاعر : ومن لا يذد عن حوضه الناس أو يكن . . . له جانب يشتد إن لان جانب يطأ حوضه المستوردون وتغشه . . . شوائب لا تبقى عليها النقائب وما ضاع قولهم : لا تكن حلواً فتؤكل ، ولا مراً فتعاف . ليس الحذر يقي فكيف التهور ، أههنا لحىً تسحب كل يوم ، وطوارق تتوقع كل ليلة والتوكل والاستسلام يلقيان بأهل الدين في طلب الآخرة ؛ فأما أصحاب الدنيا وأرباب المراتب ، فيجب أن يدعوا الهوينا جانباً ، ويشمروا للنفع والضر ؛ والخير والشر ويكون ضرهم أكثر ، وشرهم أغلب ؛ ورهبوت خير من رحموت .ولهذا قال الأعرابي : أنا الغلام الأعسر . . . الخير في والشر والشر في أكثر وهذا معنى بديع ، ولم يرد أن البداءة بالشر خير من الخير ، وإنما اراد أني أتقي بالشر ، وإذا أقبل الشر قلت له : مرحباً ، وأدفع الشر ولو بالشر ، والحديد بالحديد يفلح . وقد قال الآخر : وفي الشر نجاة حي . . . ن لا ينجيك إحسان وقال ابن دارة : إذا كنت يوماً طالب القوم فاطرح . . . مقالتهم واذهب بهم كل مذهب وقارب بذي حلم وباعد بجاهل . . . جلوب عليك الشر من كل مجلب فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا . . . ليستمسكوا مما يريدون فاحدب وإن حلبوا خلقين فاحلب ثلاثة . . . وإن ركبوا يوماً لك الشر فاركب وقال الحجاج بن يوسف أبو محمد - وهو من رجالات العرب وقد قهر العجم بالدهاء والزكانة - لو أخذت من الناس مائة ألف ، كان أرضى عني من أن أفرق فيهم مائة ألف . كان الناس بالأمس مزمومين مخطومين ، يقوم كل واحد بنفسه على نفسه ، ويتهم غده لما جناه في أمسه ؛ لأن الملك السعيد ساسهم ، وقوم زيغهم ، وقلم أظافرهم ؛ وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر ، وبالكفاية عن القلق والضجر ؛ وتقدم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير ؛ وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به ، وإحسانه إليهم بمكانه ، فسلبوه فتنفس خناقهم ، واتسع نطاقهم ، فامتطى كل واحد هواه ، ويوشك أنيقع في مهواه . قال : وههنا أشياء أخرى غير هذه ، ولكن من يسمع ويقبل ؟ ومع هذا فالأمور صائرةٌ إلى مصايرها ، كما أنها صادرة عن مصادرها . فقال له ابن جبلة : ما عندي إلا أن الوزير - أبقاه الله - عارفٌ بهم ومستبطن لأمرهم ؛ مع العشرة القديمة ، والملابسة المتصلة ، والخبرة الواقعة ؛ ولكن لابد لمن كان في محله ورقعته من جماعةٍ يقربهم ، ويرجع إليهم ويسمع منهم ، وينظر بأعينهم ، ويصغي بآذانهم ، ويتناول بأيديهم . فقال له مجاوباً : إن كان عارفاً بهم ، ومستبطناً لأمرهم ، وخبيراً بشأنهم ؛ فلم سلطهم وبسطهم ، وحدد أنيابهم ، وقوى أسنانهم ، وفتح أشداقهم ، وطول أعناقهم ، وقطع أرباقهم ؛ وأبطرهم فأسكرهم ، حتى صاروا يجهلون أقدارهم ، وينسون ما كانوا فيه من القلة والذلة ؟ هلا رتب كل واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظن الفاسد ، ولم يضحك في وجوههم ، ويغضي على جنايتهم ؟ أما بلغه أن ابن يوسف قال : تشبثه بابن شاهويه لأنه قد أعده للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر ؟ وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه وتقديمه لابن الحجاج للسخف ، ولهجه بابن هرون للهزء واللعب . قال له ابن جبلة : من أراد أن يحسن القبيح عند رضاه ، ويقبح الحسن عند سخطه فعل ، ولا يخلو أحد تهب ريحه ، ويعلو شأنه ، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف ،ومدخل ومرجف ، على هذه الأمور بنيت الدار ، وعليها جرت الأقدار ، إن كنت تنكر هذا الرهط ، فاعرف له الرهط الآخر ؛ فإنك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه . قال : من هم ؟ . قال : أبو الوفاء المهندس ، وابن زرعة المتفلسف ، وابن عبيد الكاتب ، ومسكويه ، والأهوازي والعسجدي فأين هؤلاء الغامطة ؟ قومٌ همهم أن يأكلوا رغيفاً ويشربوا قدحاً ، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحاً ، وهيبته تعوقهم عن ذكر شيء في الدولة من تلقائهم إلا أن يكون شيء يتعلق بهم على معنى خاص ؛ فهو ينود هكذا وهكذا حتى يبلغ منهم ما قدر عليه . فلما سمع الوزير هذا كله قال : سألقي إليك في جواب هذه المسألة ما تخدمني به إن لاقيتهم في مجلس آخر على وجه يخفي أنك له ملقن محمل كأنك ساهٍ عنه غير حافل به ؛ وقد تقطع الليل ، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان ، بعد استيفاء حمام ؛ ثم أنشدت قول الشاعر : إني لأصفح عن قومي وألبسهم . . . على الضغائن حتى تبرأ المثر ثم قال : ما المئر ؟ قلت : هي الضغائن التي ذكرها في حشو البيت ، واحدها مئرةٌ ، كأنه أراد وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ الضغائن فرجع من لفظ إلى لفظ ضرورة القافية لما كان معناهما واحداً ؛ قال : لمن هذا البيت ؟ قلت : لا أحفظ اسم شاعره ، ولكنأحفظ معه أبياتاً . قال : هاتها ؛ فأنشدت أول ذلك : يا أيها الرجل المزجى أذيته . . . هل أنت عن قولك العوراء مزدجر إني إذا عد مبطاءٌ إلى أمد . . . لا يستطيع حضاري المقرف البطر لاقى قناتي مصراراً عشوزنةً . . . لا قادح قد تبغاها ولا خور إني لأصفح عن قومي وألبسهم . . . على الضغائن حتى تبرأ المئر قال : اكتبها . قلت : أفعل ، وانصرفت ، فما أعاد علي بعد ذلك شيئاً مما كان .
الليلة الرابعة
قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى : كيف رضاك عن أبي الوفاء ؟ قلت : أرضى رضاً بأتم شكر وأحمد ثناء ؛ أخذ بيدي ، ونظر في معاشي ، ونشطني وبشرني ، ورعى عهدي ، ثم ختم هذا كله بالنعمة الكبرى ، وقلدني بها القلادة الحسنى ، وشملني بهذه الخدمة ، وأذاقني حلاوة هذه المزية ، وأوجهني عند نظرائي . قال : هات شيئاً من الغزل . فأنشدته : كلانا سواء في الهوى غير أنها . . . تجلد أحياناً وما بي تجلدتخاف وعيد الكاشحين وإنما . . . جنوني عليها حين أنهي وأبعد ثم قال : غالب ظني أن نصراً غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك ؛ فإن ذلك عبد ، ولا جرأة له على مثل هذا الندود والشذوذ ، فقد قال لي القائل : إنك من خلصانه . فقلت : والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال ، إنما كنا نلتقي على زنبرية باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء ؛ وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالري سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس وجرجان ، في المذلة الدائمة والحال المربوطة ؛ ولو نبس لي بحرف من هذا ، أو كنت أشعر بأقل شيء منه ، لكنت أقول لأبي الوفاء قضاءً لحقه ، ووفاءً بما له في عنقي من مننه وخوفاً من هذا الظن بي ، وقصوراً عن اللائمة لي . قال : أفما تعرف أحداً تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه ؟ قلت : ما رأيته إلا وحده ؛ وكم كان زمان التلاقي ؟ كان أقل من شهر ، أفي هذا القدر يتوكد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور ؟ هذا بعيد . قال : هذا المتخلف كنت قد قربته ورتبته ، ووعدته ومنيته ؛ وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه ، والإحسان إليه ، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت ، حتى أزيده نباهة وتقديماً ، فترك هذا كله وطوى الأرض كأنه هارب من حبس ، أو خائف من عذاب .ويقال في الأثر : إن بعض الصفيحيين قال : لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ، ما أكثر من يفر من هذه الكرامة ، ويقوى - على ترفٍ جمٍ - على الهوان ، ويصبر على البلاء ، ويقلق في العافية إن السجايا المختلفة ، وإن الطباع لمتعادية ؛ قلما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن . قلت : كذلك هو . قال : حدثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجه فيه ؟ ولقد أطلت التعجب من هذا وكررته على أبي الوفاء . فقلت : منعني من ذلك ثلاثة أشياء : أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشد للضد هوناً من مصاحبة الضد ، لأنه سوداوي وجعد . والآخر أنه قيل : ينبغي أن تكون عيناً عليه ، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقاً بحالي ، فكيف إذا قرنت برجل باطلي لو بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق . والآخر أني كنت أفد مع هذا كله على ابن عباد - وهو رجل أساء إلي وأوحشني ، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانياً ؛ وكنت أكره ذلك ، وما كنت آمن ما يكون منه ومني ، والمجنون المطاع ، مهروب منه بالطباع . وبعد ، فليس لي حاجةٌ في مثل هذه الخدمة ، لأن صدر العمر خلا مني عارياً من هذه الأحوال ، وكان وسطه أضعف حملاً ، وأبعد من القيام به والقيام عليه . فقال : ما كان عندي هذا كله .قال : إني أريد أن أسألك عن ابن عباد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه ، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته ، وعن علمه ، وعن علمه وبلاغته ، وغالب ما هو عليه ، ومغلوب ما لديه ؛ فما أظن أني أجد مثلك في الخبر عنه ، والوصف له ، على أني قد شاهدته بهمذان لما وافي ، ولكني لم أعجمه ، لأن اللبث كان قليلاً ، والشغل كان عظيماً ، والعائق كان واقعاً . فقال : إني رجل مظلوم من جهته ، وعاتبٌ عليه في معاملتي ، وشديد الغيظ لحرماني ، وإن وصفته أربيت منتصفاً ، وانتصفت منه مسرفاً ، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب ، أو عارياً منهما جملة ، كان الوصف أصدق ، والصدق به أخلق ؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير ، ولفظي الطويل والقصير ، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها ، فإن جانبه مهيب ، ولمكره دبيب ، وقد قال الشاعر : إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى . . . ولا يعلم الإنسان ما في المغيب قال : دع هذا كله ، وانسخ لي الرسالة من المسودة ، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها . وبعد ، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه ، أو بما كسب هو بيديه من خير وشر ؛ وهذا غير منكر ولا مكروه ، لأمر الله تعالى ، فإنه مع علمه الواسع ، وكرمه السابغ ، يصف المحسن والمسيء ، ويثني على هذا وينثو على ذاك ؛ فاذكر لي من أمره ما خف اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له . قلت : إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان ؛ قد نتف من كل أدبخفيفٍ أشياء ، وأخذ من كل فن أطرافاً ؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة ، وكتابته مهجنة بطرائقهم ، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب ؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد ؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر ، ولا له فيه عين ولا أثر ؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ؛ ويقول الشعر ، وليس بذاك ؛ وفي بديهيته غزارة . وأما رويته فخوارة ؛ وطالعه الجوزاء ، والشعري قريبة منه ؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية ، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة ، والناس كلهم محجمون عنه ، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته ؛ شديد العقاب طفيف الثواب ، طويل العتاب ؛ بذيء اللسان ؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل ، مغلوبٌ بحرارة الرأس ، سريع الغضب ، بعيد الفيئة قريب الطيرة ، حسودٌ حقودٌ حديد ، وحسده وقفٌ على أهل الفضل ، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية ؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته ، وأما المنتجعون فيخافون جفوته ؛ وقد قتلا خلقاً ، وأهلك ناساً ، ونفى أمة ، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً ؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي ، ويخلبه الغبي ؛ لأن المدخل عليه واسع ، والمأتي إليه سهل ؛ وذلك بأن يقال : مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه ، ورسائل منثوره ومنظومه ؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به ، وأتعلم البلاغة منه ؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن ، وفقره فيها آيات فرقان ؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان ؛ فسبحان من جمع العالم في واحد ، وأبرز جميع قدرته في شخص . فيلين عند ذلك ويذوب ، ويلهى عن كل مهم له ، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرجإليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه ، والوصول إليه ، والتمكن من مجلسه ؛ فهذا هذا . ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً ، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ، ويقول : قد نحلتك هذه القصيدة ، امدحني بها في جملة الشعراء ، وكن الثالث من الهمج المنشدين . فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد ، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ، ومدحه من تحبيره : أعد يا أبا عيسى ، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله ، قد صفا ذهن ، وزادت قريحتك ، وتنقحت قوافيك ؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي ، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء ، وتزيد لهم الفطنة ، وتحول الكودن عتيقاً ، والمحمر جواداً ؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية ؛ وعطية هنية ؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم ، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً . قال يوماً : من في االدار ؟ فقيل له : أبو القاسم الكاتب وابن ثابت ؛ فعمل في الحال بيتين ، وقال لإنسان بين يديه : إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل : قد قلت بيتين ، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما ، ولا تجزع من تأففي بك ، ولا تفزع من نكري عليك ، ودفع البيتين إليه ، وأمره بالخروج إلى السجن ؛ وأذن للرجلين حتى وصلا ؛ فلما جلسا وأنسا دخلالآخر على تفيئتهما ، ووقف للخدمة ، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً ؛ ثم قال : يا مولانا ، قد حضرني بيتان ، فإن أنت أذنت لي أنشدت . قال : أنت إنسان أخرق سخيف ، لا تقول شيئاً فيه خير ، اكفني أمرك وشعرك . قال : يا مولانا ، هي بديهتي ، فإن نكرتني ظلمتني ؛ وعلى كل حال فاسمع ، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال : أنت لجوج ، هات . فأنشد : يأيها الصاحب تاج العلا . . . لا تجعلني نهزة الشامت بملحدٍ يكنى أبا قاسم . . . ومجبر يعزى إلى ثابت قال : قاتلك الله ، لقد أحسنت وأنت مسىء : قال لي أبو القاسم : فكدت أتفقأ غيظاً ، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة ؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً . ثم حدثني الخادم الحديث بنصه . والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه ، أنه لم يجبه قط بتخطئة ، ولا قوبل بتسوئة ؛ ولا قيل له : أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت ، لأنه نشأ على أن يقال : أصاب سيدنا ، وصدق مولانا ، ولله دره ، ولله بلاؤه ، ما رأينا مثله ، ولا سمعنا من يقاربه ، من ابن عبد كان مضافاً إليه ؟ ومن ابن ثوابة مقيساً عليه ؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي إذا جمع بينهما ؟ من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما ، ومتح برشائهما ، وقدح بزندهما ؟ قد استدرك مولانا على الخليل في العروض ، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء ، وعلى الإسكافي في الموازنة ، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات ، وعلى ابن مجاهد في القراءات ؛ وعلى ابن جرير في التفسير ، وعلى أرسطوطاليس في المنطق ، وعلى الكندي فيالجزء ، وعلى ابن سيرين في العبارة ، وعلى أبي العيناء في البديهة ، وعلى ابن أبي خالد في الخط ، وعلى الجاحظ في الحيوان ، وعلى سهل بن هرون في الفقر ، وعلى يوحنا في الطب ؛ وعلى ابن ربن في الفردوس ، وعلى عيسى بن دأب في الرواية ، وعلى الواقدي في الحفظ ، وعلى النجار في البدل ، وعلى ابن ثوابة في التفقه ، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس ، وعلى مزبد في النوادر ، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى ، وعلى بني برمك في الجود ، وعلى ذي الرياستين في التدبير ، وعلى سطيح في الكهانة ، وعلى ابن المحيا خالد بن سنان العبسي في دعواه ؛ هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة : الألمعي الذي يظن بك الظن . . . كأن لقد رأى وقد سمعا قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه ، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه . فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم ، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول : ولا كذا ؛ ثمرة السبق لهم ، وقصرنا أن نلحقهم ، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم . وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل ، ويلوي شدقه ، ويبتلع ريقه ، ويرد كالآخذ ، ويأخذ كالمتمنع ، ويغضب في عرض الرضا ، ويرضى في لبوس الغضب ، ويتهالك ويتمالك ، ويتقابل ويتمايل ؛ ويحاكي المومسمات ، ويخرج في أصحابالسماجات ؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال ، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور ، واستخراج ما في الصدور ، واعتبار الأسباب ؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل ، ولا خالص الحمق ؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو ، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل ؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق ؛ والكامل عزيز ، والبرىء من الآفات معدوم ؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب ، وللشفاء أرحي ، ومن العطب أبعد ، وبالاحتياط أعلق ، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة ، وأخلاقاً مدخولة ، استطب لها عقله ، وتطبب فيها بعقله ، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه ، فنفي ما أمكن نفيه ، وأصلح ما قبل إصلاحه ، وقلل ما استطاع تقليله ؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه ، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه . وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به ، وتعويله عليه ، وقلة سماعه من الناصح فيه ؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة ؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً ، وعجباً وتيهاً وصلفاً ؛ واندراءً على الناس ، وازدراءً للصغار والكبار ، وجبها للصادر والوارد ؛ وفي الجملة ، صغار آفاته كبيرة ، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال : ما صدر هذا البيت ؟ فأنشدته الأبيات ، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية ، وكان يقال له عروة الصعاليك ، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً : ذريني للغنى أسعى فإني . . . رأيت الناس شرهم الفقيروأبعدهم وأهوانهم عليهم . . . وإن أمسى له حسبٌ وخير ويقصيه الندى وتزدريه . . . حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلالٌ . . . يكاد فؤاد صاحبه يطير قليلٌ ذنبه والذنب جمٌ . . . ولكن الغني رب ٌ غفور فقال : لاشك أن المسودة جامعةٌ لهذا كله . قلت : تلك تجزع في دست كاغدٍ فرعوني . فقال : أجد تحريرها ، وعلى بها ، ولك الضمان ألا يراها إنسان ، ولا يدور بذكرها لسان . قلت : السمع والطاعة . قال : قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا ؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد ؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي ؟ قلت : قد سألت جماعة عن هذا ، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق ، وكنت من الحكم عليه وله أبعد . قال : صف هذا ؛ قلت : سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال : يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين . وقال علي بن القاسم : هو مجنون الكلام ، تارةً تبدو لك منه بلاغة قس ، وتارة يلقاك بعي باقل ؛ تحريف كثير في المعاني ، وإحالةٌ في الوضع ، وغلطٌ في السجع ، وشرودٌ عن الطبع . وقال ابن المرزبان : هو كثير السرقة ، سيىء الإنفاق ، رديء القلب والعكس ، فروقةٌ في غيراده ، هزيمته قبل هجومه . وإحجامه أظهر من إقدامه . وقال الصابي : هو مجتهد غير موفق ، وفاضل غير منطق ولو خطا كان أسرع له ، كما أنه لما عدا كان أبطأ عليه ؛ وطباع الجبلي مخالف لطباع العراقي ،يثب مقارباً فيقع بعيداً ، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً . وقال علي بن جعفر : مم كانت الطبائع هو يكذر نفسه بحسن الظن في البلاغة ، وطباعه تصدق عنه بالتخلف ، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى ، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة ؛ وأما إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة ؛ والعجب أنه يحفظ الطم والرم من النثر والنظم ؛ ثم إذا ادعاهما يقع دونهما سقوطاً ، أو يتجاوزهما فروطاً ؛ هذا مع الكبر الممقوت والتشيع الظاهر ، والدعوى العارية من البينة العادلة . وما أحسن ما كتب بن أحمد بن إسماعيل بن الخصيب إلى آخر : الكبر - أعزك الله - معرض يستوي فيه النبيه ذكراً ، والخامل قدراً ، ليس أمامه حاجب يمنعه ، ولا دونه حاجز يحظره ؛ والناس أشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ ، وأكثر اجتلاء لأفعاله ، وتتبعاً لمعايبه ، وتصفحاً لأخلاقه ، وتنقيراً عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به ، وساقطٍ لا يكترث له ؛ فيسير عيب الجليل يقدح فيه ، وصغير الذنب يكبر منه ، وقليل الذم يسرع إليه ؛ ولابن هندو في هذا المعنى : العيب في الرجل المذكور مذكور . . . والعيب في الخامل المستور مستور كفوفة الظفر تخفي من مهانتها . . . ومثلها في سواد العين مشهور وقال الزهيري : قد نجم بأصبهان ابنٌ لعبادٍ في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم ، فسيشقى به قوم ، سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلسٍ من الفقهاء .وقال ابن حبيب : قال بعض الحكماء : إن اللنفس أمراضاً كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشر والضرر كفضل النفس على البدن في الخير ؛ وصاحبنا يعني - ابن عباد - مريض عندنا ، صحيح عند نفسه ، زيف بنقدنا ، جيد بنقده ؛ ولو قامت السوق على ساقها ، وتناصف المتعاملون فيها ، ولم يقع إكراه في أخذٍ ولا إعطاء ، عرف البهرج الذي ضرب خارج الدار والجيد الذي ضرب داخل الدار . وقال أحمد بن محمد : إذا أنصفنا التزمنا مزية العراقيين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب ، والسجع الملائم ، واللفظ المونق ، والتأليف الحلو ، والسبوطة الغالبة ، والموالاة المقبولة في السمع ، الخالبة للقلب العابثة بالروح ، الزائدة في العقل ، المشعلة للقريحة ، الموقوفة على فضل الأدب ، الدالة على غزارة المغترف ، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف ؛ وابن عباد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلها عليه لا له ، وخاذلته لا ناصرته ، ومسلمته لا منقذته ؛ فأول ما بلي به أنه فقد الطبع ، وهو العمود ؛ والثاني العادة وهي المؤاتية ؛ والثالث الشغف الجاسي من اللفظ وهو الاختيار الرديء ؛ والرابع تتبع الوحشي ، وهو الضلال المبين ؛ والخامس الذهاب مع اللفظ دون المعنى ؛ والسادس استكراه المقصود من المعنى ، واللفظ على النبوة ؛ والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض ؛ والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غيرتصفح ولا فحص ؛ والتاسع قلة الاتعاظ بما كان - للثقة الواقعة في النفس - من الفائت ، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العز ، وهذه كلها سبل الضلالة ، وطرق الجهالة . قال : وليس شيء أنفع للمنشىء من سوء الظن بنفسه ، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف ، والمستعين أحزم من المستبد ، ومن تفرد لم يكمل ، ومن شاور لم ينقص ، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ ، ويشرد اللفظ كما يند المعنى ، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقد كما يعقد المنحل . والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع ، واجتناب النبوة الممجوجة بالسمع ؛ والقريحة الصافية قد تكدر ، والقريحة الكدرة قد تصفو ، وشر آفات البلاغة الاستكراه ، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو . وقال : كان ابن المقفع يقف قلمه كثيراً ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيره . والكتاب يتصفح أكثر من تصفح الخطاب ، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطر ؛ ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنما ينظر أصبت فيه أم أخطأت ، وأحسنت أم أسأت ؛ فإبطاؤك غير إصابتك كما أن إسراعك غير معفٍ على غلطك . قال : هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا ؟ قلت : في الجملة هو أبلغ من ابنيوسف ، وأغزر وأحفظ وأروى وأجم ركية ، وأعذب مورداً ، وأبعد من التفاوت ؛ وليس ابن يوسف من ابن عباد في شيء . فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول : سمعت ابن ثوابة يقول : أول من أفسد الكلام أبو الفضل ، لأنه تخيل مذهب الجاحظ وظن أنه إن تبعه لحقه ، وإن تلاه أدركه ، فوقع بعيداً من الجاحظ ، قريباً من نفسه ؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد : بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد ، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد . وأما ابنه ذو الكفايتين ، فلو عاش كان أبلغ من أبيه ، كما كان أشعر منه ؛ ولقد تشبه بالجاحظ فافتضح في مكاتبته لإخوانه ، ومجانته في كلامه ومسائله لمعلمه التي دلتنا على سرقته وغارته وسوء تأتيه ، في تستره وتغطيه ؛ ومن شاء حمق نفسه ؛ وكان مع هذا أشد الناس ادعاء لكل غريبة ، وأبعد الناس من كل قريبة ؛ وهو نزر المعاني ، شديد الكلف باللفظ ؛ وكان أحسد الناس لمن خط بالقلم ، أو بلغ باللسان ، أو فلج في المناظرة ، أو فكه بالنادرة ، أو أغرب في جواب ، أو اتسع في خطاب ؛ ولقد لقي الناس منه الدواهي لهذه الأخلاق الخبيثة ؛ وقد ذكرت ذلك في الرسالة ، وإذا بيضت وقفت عليها من أولها إلى آخرها إن شاء الله ؛ وانصرفت .الليلة الخامسة
قال لي ليلة أخرى : ألا تتمم ما كنا به بدأنا . قلت : بلى . قأما أبو إسحاق فإنه أحب الناس للطريقة المستقمية ، وأمضاهم على المحجة الوسطى ، وإنما ينقم عليه قلة نصيبه من النحو ؛ وليس ابن عباد في النحو بذاك ؛ ولا كان أيضاً ابن العميد إلا ضعيفاً ؛ وكان يذهب عنه الشيء اليسير . وأبو إسحاق معانيه فلسفية ، وطباعه عراقية ، وعادته محمودة ؛ لا يثب ولا يرسب ، ولا يكل ولا يكهم ، ولا يلتفت وهو متوجه ، ولا يتوجه وهو ملتفت . وقال لنا : إمام ابن عبدكان ، وهو قد أوفى عليه ، وإن كان احتذى على مثاله ؛ وفنونه أكثر ، ومأخذه أخفى ، وخاطره أوقد ، وناظره أنقد ، وروضه أنضر ، وسراجه أزهر ، ويزيد على كل من تقدم بالكتاب التاجي ، فإنها أبان عن أمور وكنى في مواضع ، وشن الغارة في الصبح المنير مع الرعيل الأول ، ودل على التفلسف ، وعلى الاطلاع على حقائق السياسة ولو لم يكن له غيره لكان به أعرق الناس في الخطابة ، وأعرق الكتاب في الكتابة ، هذا ونظمه منثوره ، ومنثوره منظومه ؛ إنما هو ذهبٌ إبريزٌ كيفما سبك فهو واحد ، وإنما يختلف بما يصاغ منه ويشكل عليه ؛ هذا مع الظرف الناصع والتواضع الحسن ، واللهجة اللطيفة ، والخلق الدمث ، والمعرفة بالزمان ، والخبرة بأصناف الناس ؛ وله فنونٌمن الكلام ما سبقه إليها أحد ، وما ماثله فيها إنسان . وإني لأرحم من لا يسلم له هذا الوصف ، لأنه إما أن يكون جاهلاً ، وإما عالماً فإن كان جاهلاً فهو معذور ، وإن كان عالماً فهو ملوم ، لأنه يدل من نفسه - بدافع ما يعلمه - على حسده ، والحاسد مهين . قال : هل كان في زمان هؤلاء من يلحق بهم ، ويدخل في زمرتهم ؟ قلت : نعم ، أبو طالب الجراحي من آل علي بن عيسى كتب للمرزبان ملك الديلم بعد ما انتجع فناء ابن العميد أبي الفضل ، فحسده وطرده ، وعض بعد ذلك على ناجذه ندماً على سوء فعله ، ولقي منه ابن ببأأبي طالب الأمرين ؛ ورسائله مبثوثة . وأبو الحسن الفلكي ، وكان من أهل البصرة ، ووقع إلى المراغة ونواحيها وهو حسن الديباجة ، رقيق حواشي اللفظ ؛ وهو أحدهم غرباً ، وأغزرهم سكباً ، وأبعدهم مناحاً وأعذبهم نقاخاً ، وأعطفهم للأول على الآخر وأنشرهم للباطن من الظاهر . وقرأت له : فإن رأى أن ينظر نظر راحم متعطف ، إلى نادم متلهف ؛ ويجعل العفو عن فرطته وكفرانه ، صدقةً عن بسطته وسلطانه ؛ فأجدر الناس بالاغتفار أقدرهم على الانتصار ؛ فعل - إن شاء الله تعالى - . وله مكاتبات واسعة بينه وبين رجل من أهل المراغة يقال له : محمد بن إبراهيم ، من أهل سر من رأى وفي الجملة ، الفضل في الناس مبثوث ، وهم منه على جدود ؛ والمرذول هو العاري من لبوسه ، المتردد بين تخلفه ونقصه . قال : فكيف يتم له ما هو فيه مع هذه الصفات التي تذكرها ؟ قلت : والله لو أن عجوزاً بلهاء ، أو أمةً ورهاء أقيمت مقامه ، لكانت الأمور على هذا السياق . قال : وكيف ذاك ؟ قلت : قد أمن أن يقال له : لم فعلت ، ولم لم تفعل ؟ وهذا باب لا يتفق لأحدٍ من خدمالملوك إلا بجد سعيد ، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاوية ، وأمورٍ من النظر عارية ؛ فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها ، ثم قتل الراقع خنقاً . هذا وهو يدين بالوعيد ، وله نظائر ، ولنظائره نظائر ، ولكن ليس له ناظر ، ولا فيه مناظر . وقال لي الثقة من أصحابه : ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيلقبه جده صواباً ، حتى كأنه عن وحي ؛ وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفيةٌ في أستار الغيب ، لا يهتدي إليها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا ولي مهذب ؛ ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل ، لكان معلماً في مصطبة على شاعر ، أو في دار ؛ فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه ، واستحقاره واستكباره ، وإعادته وإبدائه ، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم من المعلمين ، ويكون فرحهم بها سبباً للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة . قال : هذا قدرٌ كافٍ إلى أن تبيض الرسالة ؛ هات ملحة الوداع . قلت : قال أبو العيناء : قال أبو دعلج : قال المهدي : بايع ؛ قلت : أبايعكم علام ؟ قال : على ما بويع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم صفين . قال كريز أبو سيار المسمعي : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يدرك صفين ، إنما كانت صفين بين علي ومعاوية . فقال دوست بن رباط الفقيمي أبو شعيب : قد علم الأمير هذا ، ولكن أحب التسهيل على الناس ، وانصرفت .
الليلة السادسة
ثم حضرته ليلةً أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال : أتفضل العرب على العجم أم العجم على العرب ؟ قلت : الأمم عند العلماء أربع : الروم ، والعرب ، وفارس ، والهند ؛ وثلاث من هؤلاء عجم ، وصعبٌ أن يقال : العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة ، مع جوامع ما لها ،وتفاريق ما عندها . قال : إنما أريد بهذا الفرس . فقلت : قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي ، أروي كلاماً لابن المقفع ، وهو أصيلٌ في الفرس عريق في العجم ، مفضل بين أهل الفضل ؛ وهو صاحب اليتيمة القائل : تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام . قال : هات على بركة الله وعونه . قلت : قال شبيب بن شبة : إنا لوقوفٌ في عرصة المربد - وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر - إذ طلع ابن المقفع ، فما فينا أحد إلا هش له ، وارتاح إلى مساءلته ، وسررنا بطلعته ؛ فقال : ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع ؟ فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحداً سواكم ، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍ ممدود ، وواقيةٍ من الشمس ، واستقبال من الشمال ، وترويحٍ للدواب والغلمان ، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه ، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمد للمجلس ، وأدر للحديث . فسارعنا إلى ذلك ، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال ، إذ أقبل علينا ابن المقفع ، فقال : أي الأمم أعقل ؟ فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته . فقال : كلا ، ليس ذلك لها ولا فيها ، هم قوم علموا فتعلموا ، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج . فقلنا له : الروم . فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة ، لا يعرفون سواهما ، ولا يحسنون غيرهما . قلنا : فالصين . قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية . قلنا : فالترك . قال : سباع للهراش . قلنا : فالهند . قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة . قلنا : فالزنج : قال : بهائم هاملة . فرددنا الأمر إليه . قال : العرب . فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض ، فغاظه ذلك منا ، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون في مقاربتكم ،فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب ، ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من ظنة المداراة ، وتوهم المصانعة ؛ إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها ، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس ، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله ؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته ، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه ، وأوقاته وأزمنته ، وما يصلح منه في الشاة والبعير ؛ ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفياً ، وقيظياً وشتوياً ؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل ، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة ؛ فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم . هذا آخر الحديث . قال : ما أحسن ما قال ابن المقفع وما أحسن ما قصصته وما أتيت به هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط . فقلت : إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدم بعقله كافياً فالزيادة عليه فضلٌ مستغنىً عنه ، وإعقابه بما هو له لا فائدة فيه . فقال : حد الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابهوخطؤه ، متباين ؛ وهذه مسألة - أعني تفضيل أمة على أمة - من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه ؛ ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر . فقتل : بالواجب ما وقع هذا ، فإن الفارسي ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربي ، ولا في جبلة العربي وديدنه أن يقر فضل الفارسي . وكذلك الهندي والرومي والتركي والديلمي ؛ وبعد ، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين : أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيد والرديء ، والرأي الصائب والفائل ، والنظر في الأول والآخر . وإذا وقف الأمر على هذا فلكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن وماسوٍ ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلا وعقدها كمال وتفسير ؛ وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق ، مفضوضةٌ بين كلهم . فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم ؛ وللروم الحكمة ؛ وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة ؛ وللترك الشجاعة والإقدام ؛ وللزنج الصبر والكد والفرح ؛ وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان . ثم إن هذه الفضائل المذكورة ، في هذه الأمم المشهورة ، ليست لكل واحد من أفرادها ، بل هي الشائعة بينها ؛ ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها ، وموسوم بأضدادها ، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة ، خالٍ من الأدب ، داخلٍ في الرعاع والهمج ؛ وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي وكذلك الهند والروم وغيرهم ؛ فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس ، تلاقوا على صراط مستقيم ، ولم يكن بينهم تفاوتٌ إلا فيمقادير الفضل وحدود الكمال ، وتلك لا تخص بل تلم . وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى ، تلاقوا على نهج واحد ، ولم يقع بينهم تفاوت إلا في الأقدار والحدود ؛ وتلك لا يلتفت إليها ، ولا يعار عليها ؛ فقد بان بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة ، واختيار الفكرة . ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية ، والعادة المنشئية والهوى الغالب من النفس الغضبية ، والنزاع الهائج من القوة الشهوية . وها هنا شيء آخر ، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه . وهو أن كل أمة لها زمان على ضدها ، وهذا بين مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر ، لما غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبر وأمر ، وحث وزجر ، ومحا وسطر ، وفعل وأخبر ؛ وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنوشروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها ، وإن كانت في غلف غير غلف الأول ، ومعارض غير معارض المتقدم ؛ ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له : أي الناس وجدتهم أشجع ؟ فقال : كل قوم في إقبال دولتهم شجعان . وقد صدق ؛ وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها وأفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق ؛ وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامٍ لجميع الأمم ، إلى شيء شاملٍ لأمة أمة إلى شيء حاوٍ لطائفةٍ طائفة ، إلى شيء غالبٍ على قبيلةٍ قبيلة ، إلى شيء معتادٍ في بيتٍ بيت ، إلى شيء خاص بشخصٍ شخص وإنسانٍ إنسان ؛ وهذا التحول من أمة إلى أمة ، يشير إلى فيض جود الله تعالى علىجميع بريته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله ، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الربوة بعين لا قذى بها ، أبصر الحق عياناً بلا مرية ، وأخبر عنه بلا فرية ؛ ومتى صدق نظرك في مابدىء الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كله كالنهار إذا متع ، واستنار كالقمر إذا طلع ؛ ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحق وحصول الصواب ، إلا ما يلتاث بالهوى ، ويسمج بالتعصب ، ويجلب اللجاج ، ويخرج إلى المحك ؛ فهناك يطيح المعنى ويضل المراد ، فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي ، فاسمع ما أرويه : قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : انصرف العباس بن مرداس السلمي من مكة فقال : يا بني سليم ، إني رأيت أمراً ، وسيكون خيراً ، رأيت بني عبد المطلب كأن قدودهم الرماح الردينية ، وكأن وجوههم بدور الدجنة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية ، وكأن منطقهم مطر الوبل على المحل ؛ وإن الله إذا أراد ثمراً غرس له غرساً ، وإن أولئك غرس الله ؛ فترقبوا ثمرته وتوكفوا غيثه ، وتفيئوا ظلاله ، واستبشروا بنعمة الله عليكم به . ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب ، وشعر بالمستور ، وأحس بالخافي ، واطلع عقله على المستتر ، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع ، والحادث المتوقع ؛ وهذا شيء فاشٍ في العرب ، لطول وحدتها ، وصفاء فكرتها ، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها ، وصحة فطرتها ، وخلاء ذرعها ، واتقاد طبعها ، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها ، وجولانها في اشتقاقاتها ، ومآخذها البديعة في استعاراتها ، وغرائبتصرفها في اختصاراتها ، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها ، وفنون تبحبحها في أكناف مقاصدها ، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها ؛ وهذا وأضعافه مسلم لهم ، وموفر عليهم ، ومعروفٌ فيهم ومنسوبٌ إليهم ، مع الشجاعة والنجدة والذمام والضيافة والفطنة والخطابة والحمية والأنفة والحفاظ والوفاء ، والبذل والسخاء ، والتهالك في حب الثناء والنكل الشديد عن الذم والهجاء ؛ إلى غير ذلك مما خصت به في جاهليتها قبل الإسلام ، مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده ، والبهت فيه ، والمكابرة عليه ؛ وقد سمعنا لغاتٍ كثيرةً - وإن لم نستوعبها - من جميع الأمم ، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزنج ، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربية ، أعني الفرج التي في كلماتها ، والفضاء الذي نجده بين حروفها ، والمسافة التي بين مخارجها ، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها ، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها ؛ وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول ، وصحة هذا الحكم ، فالحظ عرض اللغات الذي هو بين أشدها تلابساً وتداخلاً ، وترادفاً وتعاظلاً وتعسراً وتعوصاً ، وإلى ما بعدها مما هو أسلس حروفاً ، وأرق لفظاً ، وأخف اسماً ؛ وألطف أوزاناً ، وأحضر عياناً ؛ وأحلى مخرجاً وأجلى منهجاً وأعلى مدرجاً ؛ وأعدل عدلاً ، وأوضح فضلاً ، وأصح وصلاً إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة ، ثم تنتهي إلى العربية ، فإنك تحكم بأن المبدأالذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض ، سرى قليلاً قليلاً حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض . وهذا شيء يجده كل من كان صحيح البنية ، بريئاً من الآفة ، متنزهاً عن الهوى والعصبية ، محباً للإنصاف في الخصومة ، متحرياً للحق في الحكومة ، غير مسترق بالتقليد ، ولا مخدوع بالإلف ، ولا مسخر بالعادة ، وإني لأعجب كثيراً ممن يرجع إلى فضل واسع ، وعلمٍ جامع ؛ وعقل سديد ، وأدب كثير ، إذا أبى هذا الذي وصفته ، وأنكر ما ذكرته ؛ وأعجب أيضاً فضل عجب من الجيهاني في كتابه وهو يسب العرب ، ويتناول أعراضها ويحط من أقدارها ويحط من أقدارها ، ويقول : يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات ويتعاورون ويتساورون ، ويتهاجون ويتفاحشون ، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر ، ولبسوا أهب الخنازير . قال : ولهذا كان كسرى يسمى ملك العرب : سكان شاه ، أي ملك الكلاب . قال : وهذا لشدةشبههم بالكلاب وجرائها ، والذئاب وأطلائها وكلاماً كثيراً من هذا الصوب أرفع قدره عن مثله ، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله . أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي ، كل كسرى كان في الفرس ، وكل قيصر كان في الروم ، وكل بلهور كان بالهند ، وكل يقفور كان بخراسان ، وكل خاقان كان بالترك وكل أخشاد كان بفرغانة وكل صبهبذ كان من أسكنان وأردوان ما كانوا يعدون هذه الأحوال لأن من جاع أكل ما وجد ، وطعم ما لحق ، وشرب ما قدر عليه ، حباً للحاية ، وطلباً للبقاء ، وجزعاً من الموت ، وهرباً من الفناء . أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبر وبار وسفوح طيبة ، ورمل يبرين وساحة هبير ، وجاع وعطش وعري ، أما كان يأكل اليربوع والجرذان ؛ وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر ، وما أسن في تلك الوهدات ؟ أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسمل من الثياب وما هو دونه وأخشن ؟ بلى والله ، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال ، وكل ما حمض ومر ، وخبث وضر ، هذا جهلٌ من قائله ، وحيفٌ من منتحله ؛ على أن العرب - رحمك الله - أحسن الناس حالاً وعيشاً إذا جادتهم السماء ، وصدقتهمالأنواء ؛ وازدانت الأرض ، فهدلت الثمار ، واطردت الأودية ، وكثر اللبن والأقط والجبن واللحم والرطب والتمر والقمح ، وقامت لهم الأسواق ، وطابت المرابع وفشا الخصب ، وتوانى النتاج ، واتصلت الميرة ، وصدق المصاب وأرفغ المنتجع ، وتلاقت القبائل على المحاضر ، وتقاولوا وتضايفوا ، وتعاقدوا وتعاهدوا ، وتزاوروا وتناشدوا ؛ وعقدوا الذمم ، ونطقوا بالحكم ؛ وقروا الرطاق ووصلوا العفاة ، وزودوا السابلة ، وأرشدوا الضلال ، وقاموا بالحمالات وفكوا الأسرى ، وتداعوا الجفلى ، وتعافوا النقرى ، وتنافسوا في أفعال المعروف ؛ هذا وهم في مساقط رءوسهم ، بين جبالهم ورمالهم ، ومناشىء آبائهم وأجدادهم ، وموالد أهلهم وأولادهم ، على جاهليتهم الأولى والثانية ، وقد رأيت حين هبت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة ، وانتشرت دعوتهم بالملة ، وعزت ملتهم بالنبوة ، وغلبت نبوتهم بالشريعة ، ورسخت شريعتهم بالخلافة ، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية ، كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها ، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر ، وهذه النوادر من المآثر عفواً ، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهواً رهواً ؛ وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه ، وساقه إلى أهله بتأييده ، وحليمستحقيه باختياره ؛ ولا غالب لأمر الله ، ولا مبدل لحكم الله ، ولذلك قال الله تعالى : ' قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قديرٌ ' . ولله في خلقه أسرار ، تتصرف بها دوائر الليل والنهار ، وتذللها مجاري الأقدار ، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار . عز إلهاً معبوداً ، وجل رباً محموداً مقصوداً . وبعد ، فالذي لاشك فيه من وصف العرب ، ولا جاحد له من حالها ، أنه ليس على وجه الأرض جيلٌ من الناس ينزلون القفر ، وينتجعون السحاب والقطر ؛ ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها ، ويستبدون في مصالحهم بكل ما عز وهان ، وبكل ما قل وكثر ، وبكل ما سهل وعسر ؛ ويرجون الخير من السماء في صوبها ، ومن الأرض في نباتها ؛ مع مراعاة الأوان بعد الأوان ، وثقةً بالحال بعد الحال وتبصرةً فيما يفعل ويجتنب ؛ ما للعرب فيما قدمنا وصفه ، وكررنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب ، واللين والقسوة ، والحر والبرد ، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة ، والمخايل الصادقة ، والأنواء المحمودة والمذمومة ، والأسباب الغريبة العجيبة . وهذا لأنهم مع توحشهم مستأنسون ، وفي بواديهم حاضرون ، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات ، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق . وهذا المعنى على هذا النظم قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر ، لأن الدناءة والرقة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخب تغلب على هؤلاء وتملكهم ، لأن مدار أمرهم على المعاملات السيئة ، والكذب في الحس ، والخلف في الوعد . والعرب قد قدسها الله عن هذا الباب بأسره ، وجبلها على أشرف الأخلاق بقدرته ؛ ولهذا تجد أحدهم وهو في بتٍ حافياً حاسراً يذكر الكرم ، ويفتخر بالمحمدة ،وينتحل النجدة ، ويحتمل الكل ، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر ، ويقول : أحدثه إن الحديث من القرى ثم لا يقنع ببث العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحض الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه ، ويستنهضه نحوه ، ويكلفه مجهوده وعفوه . وقد قيل لرجل منهم في يوم شاتٍ وهو يمشي في سمل : أما تجد البرد يا أخا العرب ؟ فقال : أمشي الخيزلي ويكفيني حسبي . والفارسي لا يحسن هذا النمط ، ولا يذوق هذا المعنى ولا يحلم بهذه اللطيفة ؛ وكذلك الرومي والهندي وغيرهما من جميع العجم . ومما يدل على تحضرهم في باديتهم ، وتبديهم في تحضرهم ، وتحليهم بأشرف أحوال الأمرين ، أسواقهم التي لهم في الجاهلية ، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشام ، كان ينزلها الناس أول يوم من شهر ربيع الأول ، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء ، والأخذ والعطاء ؛ وكان يعشرهم أكيدر دومة ، وربما غلبت على السوق كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب ؛ فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر ، ثم ينتقلون إلى سوق هجر ، وهو المشقر في شهر ربيع الآخر ، فتقوم أسواقهم ؛ وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم ، ثم يرتحلون نحو عمان ، فتقوم سوقهم بديار دبا ، ثم بصحار ، ثميرتحلون فينزلون إرم ، وقرى الشحر فتقوم أسواقهم أياماً ، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين ، ومن سوق عدن تشتري اللطائم وأنواع الطيب ، ولم يكن في الأرض أكثر طيباً ، ولا أحذق صناعاً للطيب من عدن ؛ ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت ، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء ، فتقوم أسواقهم بها ، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود ، وكانت تجلب إليها من معافر ، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم ، فتقوم أسواقهم بها ، فيتناشدون ويتحاجون ويتحادون ، ومن له أسير يسعى في فدائه ، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم ، وكان آخرهم الأقرع بن حابس ؛ ثم يقفون بعرفة ، ويقضون ما عليهم من مناسكهم ؛ ثم يتوجهون إلى أوطانهم . وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة ، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد . هذا حديثهم ، وهم همل لا عز لهم إلا بالسؤدد ، ولا معقل لهم إلا السيف ، ولا حصون إلا الخيل ، ولا فخر إلا بالبلاغة . ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر ، لم يقعدوا عن شأو من تقدم بآلاف سنين ، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم ؛ بل أبروا عليهم وزادوا ، وأغربوا وأفادوا ؛ وهذا الحكم ظاهر معروف ، وحاضر مكشوف ؛ ليس إلى مرده سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل .فليستحي الجيهان بعد هذا البيان والكشف والإيضاح ، بالإنصاف من القذع والسفه اللذين حشا بهما كتابه ، وليرفع نفسه عما يشين العقل ، ولا تقبله حكام العدل ؛ وصاحب العلم الرصين ، والأدب المكين ؛ لا يسلط خصمة على عرضه بلسانه ، ولا يستدعي مر الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره ؛ فإن العصبية في الحق ربما خذلت صاحبها وأسلمته ؛ وأبدت عورته ، واجتلبت مساءته ؛ فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمة من الأمم جاحدين ، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمة من الأمم جاهلين . فإن جاحد الحق يدل من نفسه على مهانة ، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور ؛ فهذا هذا ؛ وفي الجملة المسلمة ، والدعوة المرسلة ، أن أهل البر وأصحاب الصحارى الذين وطأؤهم الأرض ، وغطاؤهم السماء ، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول ، ومن الترفه والرفاهية أبعد ، وبالحول والقوة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع ، وعلى المصالح والمنافع أوقع ، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف ؛ وهذا للدواعي الظاهرة ، والحاجات الضرورية ، والعلائق الحاضة على الألفة والمودة ، والشدائد المؤذية ، والعوارض اللازبة ؛ ولهذا يقال : عيب الغني أنه يورث البلادة ، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة ؛ وهذا معنىً كريم ، لا يقر به إلا كل نقاب عليم . وقال الجيهاني أيضاً : مما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا ، أن الله أفاض علينا النعم ووسع لدينا القسم وبوأنا الجنان والأرياف ، ونعمنا وأترفنا . ولم يفعل هذا بالعرب ، بل أشقاهم وعذبهم ، وضيق عليهم وحرمهم ، وجمعهم في جزيرة حرجة ، ورقعة صغيرة ، وسقاهم بأرنق ضاحٍ ؛ وبهذا يعلم أن المخصوص بالنعمة والمقصودبالكرامة فوق المقصود بالإهانة . فأطال هذا الباب بما ظن أنه قد ظفر بشيء لا جواب عنه ، ولا مقابل له ؛ ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلى له ، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها ، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها ؛ وقد دل كلامه على أنه جاهل بالنعمة ، غافلٌ عما هو سر الحكمة . وعنده أن الجاهل إذا لبس الثوب الناعم ، وأكل الخبز الحواري وركب الجوادي ، وتقلب على الحشية ، وشرب الرحيق ، وباشر الحسناء ، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار ، وطعم العشب ، وشرب الماء القراح ، وتوسد الأرض ، وقنع باليسير ورخي العيش ، وسلا عن الفضول ؛ هذا خطأ من الرأي ، ومردود من الحكم ، عند الله تعالى أولاً ، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا ، وأصحاب التقى والنهى ؛ وعلى طريقته أيضاً أن البصير أشرف من الأعمى ، والغني أفضل من الفقير . ألا يعلم أن المدار على العقل الذي من حرمه فقد أنقص من كل فقير ، وعلى الدين الذي من عري منه فهو أسوأ حالاً من كل موسر ؛ ونعمة الله على ضربين : أحد الضربين عم به عباده ، وغمر بفضله خليقته ، بدءاً بلا استحقاق وذلك أنه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ووهب وأجزل ؛ وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان ، والتسوية المعمومة بالتفضل والقدرة المشتملة على الحكمة ؛ والضرب الثاني هو الذي يستحق بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد ، والاختبار والاعتقاد ؛ ليكون جزاءً وثواباً ، ولهذا محرم العاصي المخالف ، وأنال الطائع الموافق ؛ فقد بان الآن أن المدار ليس بالجنان والترفه ، ولا بالذهب والفضة ، ولا الوبر والمدر . وقد مر هذا الكلام كله فليسكن من الجيهاني جأشه ، وليفارقه طيشه ؛ وليعلمأن من أنصف أعطى بيده ، وسلم الفضل لأهله ؛ فإن التواضع للحق رفعة والترفع بالباطل ضعة . وههنا بقية ينبغي أن يتبصر فيها ؛ من عرف النقص البحت ، والنقص المشوب بالزيادة ؛ والفضل الصرف ، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد المغوي فضلاً ، ولم يدع للعصبية المردية شرفاً ، ولم ينكر الحسد مزية ؛ والخلق كلهم في نعم الله تعالى مشتركون ، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون ، وعلى قدرته متصرفون ؛ وإلى مشيئته صائرون ، وعن حكمته مخبرون ، ولآلائه ذاكرون ، ولنعمائه شاكرون ، ولأياديه ناشرون ، وعلى اختلاف قضائه صابرون ، ولثوابه بالحسنات مستحقون ، ولعقابه بالسيئات مستوجبون ، ولعفوه برحمته منتظرون ، والله خبيرٌ بما يعملون ، وبصير بما يسرون وما يعلنون مع الجماعة ، وأبو سليمان يقول : العرب أذهب مع صفو العقل ؛ ولذلك هم بذكر المحاسن أبده ، وعن أضدادها أنزه . ولو كانت رويتهم في وزن بديهتهم ، كان الكمال ؛ ولكن لما عز الكمال فيهم ، عز أيضاً في غيرهم من الأمم ، فالأمم كلها شرعٌ واحد في عدم الكمال إلا أنهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى ، وبالاختيار الثاني ؛ واختلفت أبصارهم في هذا الموضع ، فأما ما منعه الإنسان في الأول فلا عتب عليه فيه ، لأنه لا يقال للأعمى : لم لا تكون بصيراً ، ولا يقال للطويل : لم لا تكون قصيراً وقد يقال للقصير : سدد طرفك ، واكحل عينك ، ومد ناظرك ؛ كما يقال للطويل : تطامن ، في هذا الزقاق حتى تدخل ، وتقاصر حتى تصل ؛ وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأول ، بل أعطيه ووهب له ، فهو فيه مطلبٌ بما عليه وله كما أنه مطالب بما له وعليه . وقال الجيهاني أيضاً : ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة ، ولا الطب ولا العلاج ، ولا ما يجري في مصالح الأبدان ، ويدخل في خواص الأنفس . فليعلم الجيهاني أن هذا كله لهم بنوعٍ إلهي لا بنوع بشري ، كما أن هذا كله لغيرهمبنوعٍ بشري لا بنوعٍ إلهي ، وأعني بالإلهي والبشري الطباعي والصناعي ؛ على أن إلهي هؤلاء قد مازجه بشرى هؤلاء ، وبشرى هؤلاء قد شابه إلهي هؤلاء ؛ ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضاً ، وما عندي أنه مكابر فيدعي هذا لهم . فإن قال : هو لليونان ، ويونان من العجم ، والفرس من العجم ، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيفٌ على نفسه ، وشهادةٌ على نقصه ؛ لأنه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدعي هذا الفرس ، ولا يمكنه أن يقول : نحن أيضاً عجم ، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متصلةٌ بنا ، وراجعةٌ إلينا . ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع ، وقيل له : صه ، كما يقال للجاهل - إن لم تقل له : اخسأ ، كما يقال - في كل الأحاديث ، وإن أغفلته ظلمت نفسي ؛ ومن حابى خصمه غلب . قال القاضي أبو حامد المروروذي : لو كانت الفضائل كلها بعقدها وسمطها ، ونظمها ونثرها ، مجموعةً للفرس ، ومصبوبةً على أرؤسهم ، ومعلقةً بآذانهم ، وطالعةً من جباههم ؛ لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها ، وأن يخرسوا عن دقها وجلها ، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شر كريهٌ بالطباع ، وضعيف بالسماع ، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة ، ومستبشع في نفس كل من له جبلة معتدلة . قال : ومن تمام طغيانهم ، وشدة بهتانهم ، أنهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى ، وبشريعة أتت من عند الله ، والله تعالى حرم الخبائث من المطعومات فكيف حلل الخبائث من المنكوحات ؟ قال : وكذب القوم ، لم يكن زرادشت نبياً ، ولو كان نبياً لذكره اللهتعالى في عرض الأنبياء الذين نوه بأسمائهم وردد ذكرهم في كتابه ، ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سنوا بهم سنة أهل الكتاب ' لأنه لا كتاب لهم من عند الله منزل على مبلغ عنه . وإنما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوة الملك الذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً ، وترغيباً وترهيباً ؛ وكيف يبعث الله نبياً يدعو إلى إلهين اثنين ؟ وهذا مستحيل بالعقل ، وما خلق الله العقل إلا ليشهد بالحق للمحق والباطل للمبطل ؛ ولو كان شرعاً لكان ذلك شائعاً عند أهل الكتابين ، أعني اليهود والنصارى ؛ وكذلك عند الصابئين ، وهم كانوا أكثر الناس عنايةً بالأديان والبحث عنها ، والتوصل إلى معرفة حقائقها ، ليكونوا من دينهم على ثقة ؛ فكيف صارت النصارى تعرف عيسى ، واليهود تعرف موسى ؛ ومحمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) يذكرهما ويذكر غيرهما ، كداود وسليمان ويحيى وزكريا ، وغير هؤلاء ، ولا يذكر زرادشت بالنبوة وأنه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى . . . . لكني بعثت ناسخاً لكل شريعة ، ومجدداً لشريعة خصني الله بها من بين العرب . قال : وهذا بيانٌ نافع في كذبهم ؛ وإنما جاءوا إلى وهيٍ فرقعوه ، وإلى حرامٍ بالعقل فأباحوه ، وإلى خبيثٍ بالطبع فارتكبوه وإلى قبيحٍ في العادة فاستحسنوه . وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزى الفحل منها على أمة لم يطاوع ، وإذا أكره وخدم وعرض غضب على أهله وند عنهم ، وشرر عليهم ؛ فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة ، ولا تطاوعه فيه الطبيعة ، بل يأباه حسه مع كلولة وتبرد شهوته مع اشتعالها ، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم ، وكبرهم في أنفسهم . ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللئيمة والفعلة الذميمة كل آية وكل برهان ، ونثر عليهم نجوم السماء ، وأطلع لهم الشمس من المغرب ، وفتت لهم الجبال ، وغيض لهم البحار ، وأراهم الثريا تمشي على الأرض تخترق السكك وتشهد له بالصدق ، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحميةوبالأنفة وبالتقزز وبالتعزز ألا يجيبوه إلى ذلك ، ويشكوا في كل آية يرون منه ، ويقتلوه ، وينكلوا به . ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرة ، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحداً ، ولا كان الحق إلا منصوراً ، ولا كان الباطل إلا مقهوراً ، ولكن اتفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله ، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله ؛ وما نزع الله عنهم الملك إلا بالحق ، كما قال تعالى : ' فلما آسفونا انتقمنا منهم ' . ثم قال : وبعد ، فكل شيء خارجٍ من الحكمة الإلهية والعقلية والطبيعية فهو ساقطٌ بهرج ، ومردودٌ مرذول ، إذا فعله جاهل عذر بالجهل ، وإذا أتاه عالم عذل للعلم . قال : وكانت العرب بهذا الخلق الذميم ، وهذا الفعل اللئيم ، لو فعلته أعذر ، لأنهم أشد غلمة من غيرهم وأكثر تهيجاً ، وأقوى على البضاع ، وأوثب على النساءئ يدلك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم ، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه ، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه ، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا ؛ ولو كان لكان أول من دق رأسه بالعمد ، وبعج بطنه بالخنجر ؛ وما منعهم من هذا إلا الأنفس الكريمة ، والطباع المعتدلة ، والشكائم الشديدة ، والأرواح العيفة ، والعادات الرضية ، والضرائب الطيبة ؛ وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير ، وأطرد للقبائح من هذا الذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس ، وهم يدعون الحكم والعلم والحزم والعزم ، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عما يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحاً له أو حاظراً ، أو مطلقاً أو مانعاً ، أو محللاً أو محرماً ؛ هيهات ما كلف الله أهل العقل القيام بالدين والتصفح للحق من الباطل إلا لما شرفهم به في العاجل ، وعرضهم له في الآجل ؛ والعاقبة للمتقين .قال أبو الحسن الأنصاري - وكان حاضراً - الهند أوضح عذراً في هذا الحديث لأنهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام ، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة ، ولم ينسبوا إلى الله شيئاً منه ، ولا استجازوا الكذب عليه ، ولا علقوه أيضاً على نبي من عند الله ، بل رأوه صواباً بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة . وبعد ؛ فعقولهم مدخولة ، والبارع منهم قليل ، وهم إلى الإفك والوهم والسحر أميل ، وفي أبوابها أدخل ؛ ثم قال أبو الحسن : انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل ، وخير بينها وبين عقول العرب ، فإنهم قالوا : اغتربوا لا تضووا . واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك أن الضوى مكروه ؛ والعرب قالت هذا بالإلهام ، لقرائحهم الصافية ، وأذهانهم الواقدة ، وطينتهم الحرة ، وأعراقهم الكريمة ، وعاداتهم السليمة : وإنما شعروا بهذا لأن الضوى الواصل إلى الأبدان هو سارٍ في العقول ، ولكن الفرس عن هذا السر غافلون ، ولا يفطن لهذا وأمثاله إلا الألمعيون الأحوذيون ؛ ثم قال : أنشد الأصمعي عن العرب قول قائلهم في مدح صاحب له : فتىً لم تلده بنت عمٍ قريبةٌ . . . فيضوى وقد يضوى رديد الأقارب قال : وقالت العرب : أضواه حقه : إذا نقصه . قال : وقال آخر لولده : والله لقد كفيتك الضؤولة ، واخترت لك الخؤولة . وقال أيضاً : العرب تقول : ليس أضوى من القرائب ، ولا أنجب من الغرائب . وقال الشاعر : أنذرت من كان بعيد الهم . . . تزويج أولاد بنات العم ليس بناجٍ من ضوى أو سقم . . . وأنت إن أطعمته لا ينمى وقال الأسدي يفتخر :ولست بضاويٍ تموج عظامه . . . ولادته في خالد بعد خالد تردد حتى عمه خال أمه . . . إلى نسب أدنى من السر واحد ثم قال : والعرب لم ترد بهذا إلا نقص الذهن والعقل ، لأنها لو أرادت نقصان الجسم لكانت مخطئة ، لأنهم يريدون سمانة الجسم مع السلامة والصلابة . ثم قال : وعلى هذا طباع الأرض ، ولذلك يقال : إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض ، لأن الرياح إذا اختلفت حولت تراب أرضٍ إلى أرض ، وإذا كان الاغتراب يؤثر من التراب إلى التراب ، فبالحري أن يؤثر الإنسان في الإنسان بالاغتراب ، لأن الإنسان أيضاً من التراب . قال أبو حامد : فما ظنك بقوم يجهلون آثار الطبيعة ، وأسرار الشريعة ؟ ما أذلهم الله باطلاً ، ولا سلبهم ملكهم ظالماً ، ولا ضربهم بالخزي والمهانة إلا جزاءً على سيرتهم القبيحة ، وكذبهم على الله بالجرأة والمكابرة ، وما الله بظلام للعبيد . فلما بلغ القول مداه قال : لله در هذا النفس الطويل والنفث الغزير لقد كنت قرماً إلى هذا النوع من الكلام ، ففرغ نفسك لرسمه في جزء لأنظر فيه ، وأشرب النفس حلاوته ، وأستنتج العقيم منه ؛ فإن الكلام إذا مر بالسمع حلق ، وإذا شارفه البصر بالقراءة من كتاب أسف ؛ والمحلق بعيد المنال ، والمسف حاضر العين ، والمسموع إذا لم يملكه الحفظ تذكر منه الشيء بعد الشي بالوهم الذي لا انعقاد له ، والخيال الذي لا معرج عليه . فقلت : أفعل سامعاً مطيعاً - إن شاء الله - .الليلة السابعة
ولما عدت إليه في مجلس آخر ، قال : سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد ، ففيم كنتما ؟ قلت : كان يذكر أن كتابه الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك ، والسلطان إليه أحوج ، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير ، فإذا الكتابة الأولى جد ، والأخرى هزل ؛ ألا ترى أن التشادق والتفهيق والكذب والخداع فيها أكثر ؛ وليس كذلك الحساب والتحصيل والاستدراك والتفصيل . قال : وبعد هذا فتلك صناعةٌ معروفة بالمبدأ ، موصولةٌ بالغاية ، حاضرة الجدوى ، سريعة المنفعة ؛ والبلاغة زخرفة وحيلة ، وهي شبيهة بالسراب ، كما أن الأخرى شبيهة بالماء . قال : ومن خساسة البلاغة أن أصحابها يسترقعون ويستحمقون ؛ وكان الكتاب قديماً في دور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون : اللهم إنا نعوذ بك من رقاعة المنشئين ، وحماقة المعلمين ، وركاكة النحويين ، والمنشىء والمعلم والنحوي إخوة وإن كانوا لعلات ؛ والآفة تشملهم والعادة تجمعهم ، والنقص يغمرهم ، وإن اختلفت منازلهم ، وتباينت أحوالهم . قال : ولو لم يكن من صنعة الإنشاء إلا أن المملكة العريضة الواسعة يكتفى فيها بمنشىء واحد ، ولا يكتفى فيها بمائة كاتب حساب . . . . وإذا كانت الحاجة إلى هذه أمس ، كانت الأخرى في نفسها أخس ؛ وبعد ، فمصالح أحوال العامة والخاصة معلقة بالحساب ؛ على هذه الجديلة والوتيرة يجري الصغار والكبار والعلية والسفلة ، وما زال أهل الحزم والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلم الحساب ، ويقولون لهم : هو سلة الخبز . وهذا كلام مستفيض ؛ ومن عبر عما في نفسه بلفظ ملحونٍ أو محرف أو موضوع غير موضعه وأفهم غيره ، وبلغ به إرادته ، وأبلغ غيره ، فقد كفى ؛ والزائد على الكفاية فضل والفضل يستغنى عنه كثيراً ، والأصل يفتقر إليه شديداً ،قال : ومن آفات هذه الكتابة أن أصحابها يقرفون بالريبة ، ويرمون بالآفة ، كآل الحسن بن وهب وآل ابن ثوابة . قال : هذه ملحمة منكرة ؛ فما كان من الجواب ؟ قلت : ما قام من مجلسه إلا بعد الذل والقماءة ، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف ، والشمس بالكسوف ، وانتحل الباطل ونصر المبطل ، وأبطل الحق وزرى على المحق . قلت : أيها الرجل ، قولك هذا كان يسلم لو كان الإنشاء والتحرير والبلاغة بائنةً من صناعة الحساب والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة . فأما وهي متصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها ، فكيف يطرد حكمك وتسلم دعواك ؟ ألا تعلم أن أعمال الدواوين التي ينفرد أصحابها فيها بعمل الحساب فقيرة في إنشاء الكتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه ؛ بل لا سبيل لهم إلى العمل إلا بعد تقدمة هذه الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح ، وذلك يوجد من الكاتب المنشىء الذي عبته وعضضته ، وهذه الدواوين معروفة ، والأعمال فيها موصوفة ؛ وأنا أحصيها لك كي تعلم أنك غالط وعن الصواب فيها منحرف . فمنها ديوان الجيش ، وديوان بيت المال ، وديوان التوقيع والدار ، وديوان الخاتم ، وديوان الفض ، وديوان النقد والعيار ودور الضرب ، وديوان المظالم وديوان الشرطة والأحداث ؛ هذا إلى توابع هذه الدواوين مثل باب العين والمؤامرات ، وباب النوادر والتواريخ ، وإدراة الكتب ومجالس الديوان وقبل وبعد ، كما يلزم كاتب الحساب أن يعرف وجوه الأموال حتى إذا جباها وحصلها عمل الحساب أعماله فيها ، فلايمكنه أن يجبي إلا بالكتب البليغة والحجج اللازمة واللطائف المستعملة ، ومن تلك الوجوه الفيء ، وهو أرض العنوة وأرض الصلح وإحياء الأرض والقطائع والصفايا والمقاسمة والوضائع وجزية رءوس أهل الذمة وصدقات الإبل والبقر والغنم وأخماس الغنائم والمعادن والركاز والمال المدفون ، وما يخرج من البحر وما يؤخذ من التجار إذا مروا بالعاشر واللقطة والضالة وميراث من لا وارث له ومال الصدقة ؛ إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم المعتادة والعادات الجارية ، كعهد ينشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب ، وكتاب في العمارة وإعادة ما نقص منها ، وفي حزر الغلة والدياس ، وفي الدوالي والدواليب والغرافات ، وفي القلب والقسمة ، وفي تقدير الخضر المبكرة وفي المساحة وفي الطراز ، وفي الجوالي ، وفي قبض فرائض الصدقات ، وفي افتتاح الخراجات ، إلى غير ذلك من كتب المحاسبين . فإن قلت : هذا كله مستغنىً عنه كابرت وبهت ، لأن مدار المال ودروره ، وزيادته ووفوره على هذه الدواوين التي إما أن يكون حظ البلاغة فيها أكثر ، وإما أن يكون أثر الحساب فيها أظهر ، وإما أن يتكافآ ؛ فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملاً ، ولا لاسمه مستحقاً ، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال ، ويجمع إليها أصولاً من للفقه مخلوطةبفروعها ، وآيات من القرآن مضمومةً إلى سعته فيها ، وأخباراً كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عدة عند الحاجة إليها ، مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة ؛ والفقر البديعة ؛ والتجارب المعهودة ، والمجالس المشهودة ، مع خط كتبر مسبوك ، ولفظٍ كوشيٍ محوك ؛ ولهاذ عز الكامل في هذه الصناعة ، حتى قال أصحابنا : ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفربن يحيى فإن كتابته كانت سودايةً ، وبلاغته سحبانيةً ، وسياسته يونانية ، وآدابه عربية ، وشمائله عراقية ؛ أفلا يرى كيف غرق الحساب في غمار هذه الأبواب ؟ ثم اعلم أن البليغ مشتملٍ بلاغته من العقل ، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح ، وليس كذلك الحساب في متناوله فلو ظن ظان بأن مدار الملك على الحساب - فهو صحيح - ولكن بعد بلاغة المنشىء ، لأن السلطان يأمر وينهى ويلاطف ويخاطب ويحتج وينصف ويوعد ويعد ويضمن ويمني ويعلق الأمل ويؤكد الرجاء ويحسم المادة الضارة ويذيق الرعية حلاوة العدل ويجنبهم مرارة الجور ، ثم يجبي ، فإذا جبى احتاج إلى الحساب حتى يكون بالحاصل عالماً ، ثم يتقدم بتوزيع ذلك على الحساب حتى يكون من الغلط آمناً ، فانظر إلى المنزلتين كيف اختلفتا ؟ وكيف حصلت المزية لإحداهما ؛ ولو أنصفت لعلمت أن الصناعة جامعة بين الأمرين ، أعني الحساب والبلاغة ؛ والإنسان لا يأتي إلا صناعة فيشقها نصفين ويشرف أحد النصفين على الآخر . وأما قولك : إحدى الصناعتين هزلٌ والأخرى جد فبئسما سولت لك نفسك على البلاغة ، هي الجد ، وهي الجامعة لثمرات العقل ، لأنها تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه ؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف ، وأغراض تأتلف ، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر ، وإباءٍ وإذعان ، وطاعةٍوعصيان ، وعدلٍ وعدول ، وكفر وإيمان ، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة ؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل . وأما قولك : الإنشاء صناعة مجهولة المبدأ ، والحساب معروف المبدأ فقد خرفت ، لأن مبدأها من العقل ، وممرها على اللفظ ، وقرارها في الخط ؛ وأنت إذا قلت هذا دللت من نفسك على أنه ليس لك ما تبصر به هذا المبدأ الشريف وهذا الأول اللطيف . وأما قولك : والبلاغة زخرفة وهي شبيهة بالسراب فقد أوضحنا لك فيه ما كفى ، فإن لم يكف فأنت محتاج إلى بينة أخرى . وأما قولك : إن أصحابها يسترقعون فهذا شنعٌ من القول ، ولو عرفت الصدق فيه لم تنبس به ولم تنطق بحرف منه ، فإن فيه زرايةً على السلف الصالح والصدر الأول ، ولو وجب أن يسترقع البليغ إذا كان عاقلاً ، لوجب أن يستعقل العيي إذا كان أحمق ؛ وهذا خلف . وأما قولك : المنشىء والمعلم والنحوي إخوة في الركاكة فيما يتعلم الناس إلا من المعلم والعالم والنحوي وإن ندر منهم واحد قليل البضاعة من الحق . وأما قولك : إن المملكة تكتفي بمنشىء واحد فقد صدقت ، وذلك أن هذا الواحد في قوته يفي بآحاد كثيرة ، وهؤلاء الآحاد ليس في جميعهم وفاء بهذا الواحد ، وهذا عليك لا لك . لكن بقي أن تفهم أنك محتاج إلى الأساكفة أكثر مما تحتاج إلى العطارين ، ولا يدل هذا على أن الإسكاف أشرف من العطار ، والعطار دون الإسكاف ؛ والأطباء أقل من الخياطين ، ونحن إليهم أحوج ، ولا يدل على أن الطبيب دون الخياط .وأما قولك : ما زال الناس يحثون أولادهم على تعلم الحساب ويقولون : هو سلة الخبز فهو كما قلت ، لأن الحاجة إليه عامة للكابر والصغار ؛ وأشرف الصناعات يحتاج إليها أشرف الناس ، وأشرف الناس الملك ، فهو محتاج إلى البليغ والمنشىء والمحرر ، لأنهلسانه الذي به ينطق ، وعينه التي بها يبصر ، وعيبته التي منها يستخرج الرأي ويستبصر في الأمر ، ولأنه بهذه الخاصة لا يجوز أن يكون له شريك ، لأنه حامل الأسرار ، والمحدث بالمكنونات ، والمفضي إليه ببنات الصدور . وأما قولك : من عبر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرف وأفهم غيره فقد كفى فكيف يصح هذا الحكم ويقبل هذا الرأي ؟ والكلام يتغير المراد فيه باختلاف الإعراب ، كما يتغير الحكم فيه باختلاف الأسماء ، وكما يتغير المفهوم باختلاف الأفعال ؛ وكما ينقلب المعنى باختلاف الحروف ؛ ولقد قال رجل بالري كان نبيلاً في حاله جليلاً في مرتبته عظيماً عند نفسه : اقعد حتى تتغذى بنا . وهو يريد : حتى نتغذى معنا ؛ فانظر إلى هذا المحال الذي ركبه بلفظه وإلى المراد الذي جانبه بجهله ؛ ولهذا نظائر غير خافية عليك ولا ساقطةٍ دونك وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة ، ولم تهتد إلى الكلام عليها إلا بوتها ؛ فانظر كيف وجدت في استقلالها بنفسها ما يقلها ويقل غيرها ؛ وهذا أمر بديع وشأنٌ عجيب . وأما قولك : ومن آفاتها أن أصحابها يقرفون بالريبة وينالون بالعيب فهذا ما لا يستحق الجواب ، وما يضر الشمس نباح الكلاب ؛ وصيانة اللسان عن هذا النوع أحسن ؛ قال الله تعالى : ' وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ' ؛ وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو كان المرء أقوم من قدحٍ لوجد له غامر . وآل ابن وهب وابن ثوابة كانوا أنبل وأفضل وأعقل من أن يظن بهم ما لا يظن بخساس العبيد وسفهاء الناس وداصة الرعية وسفلة العامة ؛ على أنا ما سمعنا هذا إلا في مجلس ابن عباد ، منه وممن كان يخبط في هواه ، ويتحرى بمثل هذه الأحاديث رضاه ؛ وحسده لهم في صناعتهم يبعثه على هذه الأكاذيب عليهم ؛ فالعجب أنه يظن أن كذبه إلى غيره ينفي الصدق عن نفسه ؛ ولونزه لسانه ومجلسه ومذهبه أبوته لكان أولى به وأزين له ، ولكن النعمة والقدرة إذا عدمتا عقلاً سائساً وحزماً حارساً وديناً متيناً وطريقاً قويماً أوردتا ولم تصدرا وخذلتا ولم تنصرا ؛ ونعوذ بالله من نعمة تحوز بلاءً ، ومرحباً ببلاءٍ يورث يقظة ويكون تمحيصاً لما نقص من التقصير ؛ ولكن من هذا الذي يشرب فلا يسكر ولا يثمل ؟ ومن هذا الذي إذا سكر عقل ؟ ومن هذا الذي إذا صحا لا يعتقب من رابه خماراً يصدع الرأس ويمكن الوسواس ؟ فقال : هذه جملة قامعة لمن ادعى دعواه أو نحا منحاه ؛ وأنى لك هذا ؟ لم لا تداخل صاحب ديوان ولم ترضى لنفسك بهذا اللبوس ؟ فقلت : أنا رجلٌ حب السلامة غالبٌ علي ، والقناعة بالطفيف محبوبة عندي . فقال : كنيت عن الكسل بحب السلامة ، وعن الفسولة بالرضا باليسير ، قلت : إذا كنت لا أصل إلى السلامة إلا بالفسولة ، ولا أتطعم الراحة إلا بالكسل ، فمرحباً بهما . فقال : لكل إنسان رأيٌ واختيار وعادة ومنشأ ومألوف وقرناء متى زحزح عنها قلق ، ومتى أريغ على سواها فرق ؛ أظن أنه قد نصف الليل . قلت : لعله . قال : في الدعة ؛ قد خبأت لك مسألة ، وسألقيها عليك بعدها - إن شاء الله تعالى - وانصرفت .
الليلة الثامنة
وقال لي مرة أخرى : أوصل وهب بن يعيش الرقي اليهودي رسالةً يقول في عرضها بعد التقريظ الطويل العريض : إن هنا طريقاً في إدراك الفلسفة مذللةً مسلوكةً مختصرة فسيحة ، ليس على سالكها كد ولا شق في بلوغ ما يريد من الحكمة ونيل ما يطلب من السعادة وتحصيل الفوز في العاقبة ؛ وإن أصحابنا طولوا وهولوا وطرحوا الشوك في الطريق ، ومنعوا من الجواز عليه غشاً منهم وبخلاً ولؤم طباع وقلة نصح وإتعاباً للطالبوحسداً للراغب ، وذلك أنهم اتخذوا المنطق والهندسة وما دخل فيهما معيشةً ومكسبة ، ومأكلة ومشربة ، فصار ذلك كسور من حديد لطلاب الحكمة والمحبين للحقيقة والمتصفحين لأثناء العالم وكلاماً هذا معناه ، وإلى هذا يرجع مغزاه . فكان من الجواب : قد عرفت مذهب ابن يعيش في هذا الباب ، وهو جاري ، وكتب هذه الرسالة على هذا الطراز بالأمس إلى الملك السعيد سنة سبعين ، وتقرب بها ، ونفعته بالمسألة والتفقد له ، فإنه شديد الفقر ، ظاهر الخصاصة ، لاصق بالدقعاء ؛ وللذي قاله وادعاه ، وقصده وانتحاه ، وجه واضح وحجة ظاهرة ؛ وللذي قاله أصحابنا - أعني مخالفيه - وجهٌ أيضاً وتأويل وللقولين أنصار وحماة ، وحفظة ورعاة . قال : هات - على بركة الله - فإني أحب أن أسمع في هذا الخطب كل ما فيه وأكثر ما يتصل به ؛ فكان من الجواب أن ابن يعيش يريد بهذه الخطبة أن عمر الإنسان قصير ، وعلم العالم كثير ، وسره مغمور ؛ وكيف لا يكون كذلك وهو ذو صفائح مركبة بالوضع المحكم ، وذو نضائد مزينة بالتأليف المعجب المتقن ؛ والإنسان الباحث عنه وعما يحتويه ذو قوى متقاصرة ، وموانع معترضة ، ودواعٍ ضعيفة ، وإنه مع هذه الأحوال منتبه بالحس ، حالمٌ بالعقل ، عاشقٌ للشاهد ، ذاهل عن الغائب ، مستأنسٌ بالوطن الذي ألفه ونشأ فيه ، مستوحشٌ من بلد لم يسافر إليه ولم يلم به وإن كان صدر عنه ، فليس له بذلك معرفة باقية ولا ثقةٌ تامة ، وإن الأولى بهذا الإنسان المنعوت بهذا الضعف والعجز أن يلتمس مسلكاً إلى سعادته ونجاته قريباً ويعتصم بأسهل الأسباب على قدر جهده وطوقه ؛ وإن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو في معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله تعالى ، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل ، واطلع على هذا التفصيل بالجملة ، فقد فاز الفوز الأكبر ونال الملكالأعظم ، وكفى مؤونة عظيمة في قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير ، مع العناء المتصل في الدرس والتصحيح والنصب في المسألة والجواب ، والتنقير عن الحق والصواب ؛ وهذا الذي قاله ابن يعيش ليس بحيف ولا خارجٍ عن حومة الحق ، وإن كان الأمر فيه أيضاً صعباً وشاقاً وهائلاً وعاملاً ، ولكن ليس لكل أحد هذه القوة الفائضة ، وهذه الخصوصية الناهضة ؛ وهذا الاستبصار الحسن ، وهذا الطبع الوقاد ، والذهن المنقاد ، والقريحة الصافية والاستبانة والتأمل ، لأن هذه القوة إلهية ، فإن لم تكن إلهية فهي ملكية ؛ وإن لم تكن ملكية فهي في أفق البشرية ؛ وليس يوجد صاحب هذا النعت إلا في الشاذ النادر ، وفي دهر مديدٍ بين أمة جمة العدد ؛ والفائق من كل شيء والبائن من كل صنف عزيزٌ في هذا العالم الوحشي ، كما أن الرديء والفاسد معدوم في هذا العالم الإلهي ، ويمكن أن يقال بالمثل الأدنى : إن من يتكلم بالإعراب والصحة ولا يلحن ولا يخطىء ويجري على السليقة الحميدة والضريبة السليمة ، قليل أو عزيز ، وإن الحاجة شديدة لمن عدم هذه السجية وهذا المنشأ إلى أن يتعلم النحو ويقف على أحكامه ، ويجري على منهاجه ، ويفي بضروطه في أسماء العرب وأفعالها وحروفها وموضوعاتها ومستعملاتها ومهملاتها ؛ ومتى اتفق إنسانٌ بهذه الحلية وعلى هذا النجار ، فلعمري إنه غني عن تطويل النحويين كما يستغني قارض الشعر بالطبع عن علم العروض ، وهكذا يستغني صاحب تلك القوة التي أشار إليها ابن يعيش عن ذلك ، ولكن أين ذاك الفرد والشاذ والنادر ؟ فإن حضر فما تفعل معه إلا أن تقلده وتأخذ عنه وتتبعه . وإنما المدار على أن تكون أنت بهذا الكمال حائزاً لهذه الغاية ، ولا سبيل لك إليها من تلقاء نفسك ، وإنما هو شيء يأتي من تلقاء غيرك ، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي أن تخطو على آثار المنطقيين والطبيعيين والمهندسين بالزحف والعناء والتكلف الدءوب حتى تصير متشبهاً بذلك الرجل الفاضل والواحد الكامل والبديع النادر ؛ فقد بان من هذا القدر صواب ما أشار إليه ابن يعيش وانكشف أيضاً وجه ما حث عليه مخالفوه ؛ ولا عيب علىالمنقوص أن يطلب الزيادة ببذل المجهود ، وإن الكامل مربوط بما منح من العطية من غير طلب . وأما قوله في صدر كلامه : إن القوم صدوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه ، واتخذوا نشر الحكمة فخاً للمثالة العاجلة ، فما أبعد ، بل قارب الحق فإن متى كان يملي ورقةً بدرهم مقتدريٍ وهو سكران لا يعقل ، ويتهكم ، وعنده أنه في ربح ، وهو من الأخسرين أعمالاً ، الأسفلين أحوالاً . ثم إني أيها الشيخ - أحياك الله لأهل العلم وأحيى بط طالبيه - ذكرت للوزير مناظرةً جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد وأبي بشر متى واختصرتها ؛ فقال لي : اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه ، وتوعى فوائده ، ولا يتهاون بشيء منه . فكتبت : حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة . فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة . لما انعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة ، قال الوزير ابن الفرات للجماعة - وفيهم الخالدي وابن الأخشاد والكتبي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى الجراح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العززي الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب آل سامان - : ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق ، فإنه يقول : لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به ، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده ، فأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه .فأحجم القوم وأطرقوا قال ابن الفرات : والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدكم في العلم بحاراً ، وللدين وأهله أنصاراً ، وللحق وطلابه مناراً ؛ فما هذا الترامز والتغامز اللذان تجلون عنهما ؟ فرفع أبو سعيد السيرافي في رأسه فقال : اعذر أيها الوزير ، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة ؛ لأن هذا يستصحب الهيبة ، والهيبة مكسرة ، ويجتلب الحياء ، والحياء مغلبة ؛ وليس البراز في معركة خاصة كالمصاع في بقعة عامة . فقال ابن الفرات : أنت لها يا أبا سعيد ، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك ، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك . فقال أبو سعيد : مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة ، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير ؛ ونعوذ بالله من زلة القدم ، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسلم ؛ ثم واجه متى فقال : حدثني عن المنطق ما تعني به ؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سننٍ مرضيٍ وطريقة معروفة . قال متى : أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه ، وفاسد المعنى من صالحه ، كالميزان ، فإني أعرف به الرجحان من النقصان ، والشائل من الجانح . فقال أبو سعيد : أخطأت ، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية ؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعق إذا كنا نبحث بالعقل ؛ وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن ، فمنلك بمعرفة الموزون أيما هو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص ؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها ؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك ، وفي تحقيقه كان اجتهادك ، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد ، وبقيت عليك وجوه ، فأنت كما قال الأول : حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء وبعد ، فقد ذهب عليك شيء هاهنا ، لي كل ما في الدنيا يوزن ، بل فيها ما يوزن ، وفيها ما يكال ، وفيها ما يذرع ، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية ، فإنه على ذلك أيضاً في المعقولات المقررة ؛ والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد ، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة . ودع هذا ؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها ، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم ، ما شهد لهم به قبلوه ، وما أنكره رفضوه ؟ قال متى : إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة ، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة ؛ والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية سواءٌ عند جميع الأمم ، وكذلك ما أشبهه . قال أبو سعيد : لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبهاالمختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية ، زال الاختلاف وحضر الاتفاق ، ولكن ليس الأمر هكذا ، ولقد موهت بهذا المثال ، ولكم عادة بمثل هذا التمويه ؛ ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف ، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة ؟ قال : نعم . قال : أخطأت ، قل في هذا الموضع : بلى . قال : بلى ، أنا أقلدك في مثل هذا . قال : أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق ، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان ، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها ؟ وقد عفت منذ زمان طويل ، وباد أهلها ، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها ؛ على أنك تنقل من السريانية ، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية ، ثم من هذه إلى أخرى عربية ؟ قال متى : يونان وإن بادت مع لغتها ، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني ، وأخلصت الحقائق . قال أبو سعيد : إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت ، وقومت وما حرفت ، ووزنت وما جزفت ، وأنها ما التاثت ولا حافت ، ولا نقصت ولا زادت ، ولا قدمت ولا أخرت ، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام - وإن كان هذا لا يكون ، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني - فكأنك تقول : لا حجة إلا عقول يونان ، ولا برهان إلا ما وضعوه ، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه . قال متى : لا ، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه ، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه ، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع ، ولم نجد هذا لغيرهم .قال أبو سعيد : أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى ، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم ، ولهذا قال القائل : العلم في العالم مبثوث . . . ونحوه العاقل محثوث وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض ؛ ولهذا غلب علمٌ في مكان دون علم ، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة ؛ وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة ؛ ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفةً من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة ، والفطنة الظاهرة ، والبنية المخالفة ، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا ، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم ، والحق تكفل بهم ، والخطأ تبرأ منهم ؛ والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم ، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم ؛ وهذا جهلٌ ممن يظنه بهم ، وعنادٌ ممن يدعيه لهم ؛ بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ، ويعلمون أشياء ويجهلون أشياء ، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال ؛ وليس واضع المنطق يونان بأسرها ، إنما هو رجل منهم ، وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده ؛ وليس هو حجةً على هذا الخلق الكثير والجم الغفير ، وله مخالفون منهم ومن غيرهم ؛ ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخٌوطبيعة ، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه ؟ هيهات هذا محال ، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه ؛ فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنه منعقد بالفطرة والطباع ؛ وأنت لو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها ، وتجارينا فيها ، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها ، لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان . وها هنا مسألة ، تقول : إن الناس عقولهم مختلفة ، وأنصباؤهم منها متفاوتة . قال :نعم . قال : وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب ؟ قال : بالطبيعة . قال : فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي ؟ قال متى : هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً . قال أبو سعيد : فهل وصته بجواب قاطع وبيانٍ ناصع ؟ ودع هذا ؛ أسألك عن حرف واحد ، وهو دائر في كلام العرب ، ومعانيه متميزة عند أهل العقل ؛ فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه ، وهو الواو ما أحكامه ؟ وكيف مواقعه ؟ وهل هو على وجه أو وجوه ؟ فبهت متى وقال : هذا نحو ، والنحو لم أنظر فيه ، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه ، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق ، لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض ، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ ، واللفظ أوضع من المعنى . فقال أبو سعيد : أخطأت ، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ، ألا ترى أن رجلاً لو قال : نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق ، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش ، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح ، وأبان المراد ولكن ما أوضح ، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ ، أو أخبر ولكن ما أنبأ ، لكان في جميع هذا محرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ، ومستعملاً اللفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره ؛ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ، ولكنه مفهوم باللغة ، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ؛ ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان ، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثرآخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان ، لأن مستملى المعنى عقل ، والعقل إلهي ؛ ومادة اللفظ طينية ، وكل طيني متهافت ؛ وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها ، وآلتك التي تزهى بها ، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ، ويسلم لك ذلك بمقدار ؛ وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة . فقال متى : يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف ، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان . قال أبو سعيد : أخطأت ، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها ؛ وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف ، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات ، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة ؛ على أن ها هنا سراً ما علق بك ، ولا أسفر لعقلك ؛ وهو أن تلعم أن لغة من اللغات لا تطابق لغةً أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها ، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها ، واستعارتها وتحقيقها ، وتشديدها وتخفيفها ، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ، ووزنها وميلها ، وغير ذلك مما يطول ذكره ؛ وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يشك في صوابه ممن يرجع إلى مسكةٍ من عقل أو نصيبٍ من إنصاف ، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف ؟ بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية ؛ على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية ، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية ؛ ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر ، فلم يبق إلا أحكام اللغة ، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها ، مع جهلك بحقيقتها ؟وحدثني عن قائل قال لك : حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق ، أنظر كما نظروا ، وأتدبر كما تدبروا ، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة ، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد . ما تقول له ؟ أتقول : إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر ، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت ؟ ولعلك تفرح بتقليده لك - وإن كان على باطل - أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق ؛ وهذا هو الجهل المبين ، والحكم المشين . ومع هذا ، فحدثني عن الواو ما حكمه ؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً ، وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان ، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها ، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها ، فلعله يجهل ما يحتاج إليه ، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه . وهذه رتبة العامة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير ؛ فلم يتأبى على هذا ويتكبر ، ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة ، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان ؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد ، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها ، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق ، والتي لها بالتجوز ؛ سمعتكم تقولون : إن في لا يعرف النحويون مواقعها ، وإنما يقولون : هي للوعاء كما يقولون : إن الباء للإلصاق ؛ وإن في تقال على وجوه : يقال الشيء في الإناء والإناء في المكان و السائس في السياسة و السياسة في السائس . أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ؟ ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب ؟ فهذا جهلٌ من كل من يدعيه ، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه ؛ النحوي إذا قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح ، وكني مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ؛ ومثل هذا كثير ، وهو كافٍ في موضع التكنية .فقال ابن الفرات : أيها الشيخ الموفق ، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه ، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ، ومع هذا فهو مشنع به . فقال أبو سعيد : للواو وجوه ومواقع : منها معنى العطف في قولك : أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك : والله لقد كان كذا وكذا ومنها الاستئناف في قولك : خرجت وزيد قائم لأن الكلام بعده ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قولهم : وقاتم الأعماق خاوي المخترق ومنها أن تكون أصلية في الاسم ، كقولك : واصلٌ واقدٌ وافدٌ ، وفي الفعل كذلك ، كقولك : وجل يوجل ؛ ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عز وجل : ' فلما أسما وتله للجبين وناديناه ' ، أي ناديناه ؛ ومثله قول الشاعر : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى المعنى : انتحى بنا ؛ ومنها معنى الحال في قوله عز وجل : ' ويكلم الناس في المهد وكهلاً ' أي يكلم الناس في حال كهولته ؛ ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر ، كقولك : استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة . فقال ابن الفرات : لمتى : يا أبا بشر : أكان هذا في نحوك . ثم قال أبو سعيد : دع هذا ، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ، ما تقول في قول القائل : زيد أفضل الإخوة ؟ قال : صحيح . قال : فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته ؟ قال : صحيح . قال : فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح وغص بريقه .فقال أبو سعيد : أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة ؛ المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها ؛ والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها . قال متى : بين لي ما هذا التهجين ؟ قال أبو سعيد : إذا حضرت العسة استفدت ، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس ، مع من عادته التمويه والتشبيه ؛ والجماعة تعلم أنك أخطأت ، فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى ، والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ ؟ هذا كان يصح لو أن المنطقي كان يسكت ويجيل فكره في المعاني ، ويرتب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارىء ؛ فأما وهو يريغ أن يبرر ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر ، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ، ويكون طباقاً لغرضه ، وموافقاً لقصده . قال ابن الفرات لأبي سعيد : تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرةً لأهل المجلس ، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر . فقال : ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير ، فإن الكلام إذا طال مل . فقال ابن الفرات : ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة ؛ فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر . فقال أبو سعيد : إذا قلت : زيد أفضل إخوته لم يجز ، وإذا قلت : زيد أفضل الإخوة جاز ؛ والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد ، وزيدٌ خارج عن جملتهم . والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال : من إخوة زيد . لم يجز أن تقول : زيد وعمرو وبكر وخالدوإنما تقول : بكر وعمرو وخالد ولا يدخل زيدٌ في جملتهم ، فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم ، فلم يجز أن تقول : أفضل إخوته ، كما لم يجز أن تقول : إن حمارك أفره البغال لأن الحمير غير البغال ، كما أن زيداً غير إخوته ، فإذا قلت : زيد خير الإخوة جاز ، لأنه أحد الإخوة ، والاسم يقع عليه وعلى غيره ، فهو بعض الإخوة ، ألا ترى أنه لو قيل : من الإخوة ؟ عددته فيهم ، فقلت : زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك : حمارك أفره الحمير لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير . فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس ، فتقول : زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال ؛ وكما في عشرين درهماً ومائة درهم . فقال ابن الفرات : ما بعد هذا البيان مزيد ، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار . فقال أبو سعيد : معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته ، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها ، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك ، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد ، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم . فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عنهم ، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف ، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم ، فترجموا لغةً هم فيها ضعفاء ناقصون . وجعلوا تلك الترجمة صناعة ، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى . ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال : أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب ،وتقول بالمثل : هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوباً ، لأنه نسج بعد أن غزل ، فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته ، ثم تأليفه كنسجه ، وبلاغته كقصارته ورقة سلكه كرقة لفظه ، وغلظ غزله ككثافة حروفه ، ومجموع هذا كله ثوب ، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه . قال ابن الفرات : سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى ، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه ، وانخفض ارتفاعه ، في المنطق الذي ينصره ، والحق الذي لا يبصره . قال أبو سعيد : ما تقول في رجل يقول : لهذا على درهم غير قيراط ؛ ولهذا الآخر على درهم غير قيراط . قال : ما لي علم بهذا النمط . قال : لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ، ها هنا ما هو أخف من هذا ، قال رجل لصاحبه : بكم الثوبان المصبوغان ، وقال آخر : بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر : بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظٌ لفظ . قال متى : لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي . قال أبو سعيد : أخطأت ، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه ، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً ، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك ، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على وضعٍ لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها . ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور وأمثلة لا تنفع ولا تجدي ، وهي إلى العي أقرب ، وفي الفهاهة أذهب .ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقصٍ ظاهر ، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة ، فتدعون الشعر ولا تعرفونه وتذكرون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب ؛ وقد سمعت قائلكم يقول : الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان . فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب ، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان ، فهي أيضاً ماسةٌ إلى ما بعد البرهان ، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه . هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق . وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً ، وتستذلوا عزيزاً ؟ وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص ، وتقولوا : الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية ؟ ثم تتطاولون فتقولون : جئنا بالسحر في قولنا : ' لا ' في شيء من ' ب ' و ' ج ' في بعض ' ب ' ، ف ' لا ' في بعض ' ج ' و ' لا ' في كل ' ب ' و ' ج ' في كل ' ب ' فإذن ' لا ' في كل ' ج ' ؛ هذا بطريق الخلف ، وهذا بطريق الاختصاص . وهذه كلها خرافات وترهات ، ومغالق وشبكات ؛ ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله - بعون الله وفضله - وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ، ومواهبه السنية ،يختص بها من يشاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً ، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم ، وبين خطأكم ، وأبرز ضعفكم ، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال ، وما زدتم على قولكم : لم يعرف غرضنا ولا وقف على مرادنا ، وإنما تكلم على وهم . وهذا منكم تجاجزٌ ونكول ورضىً بالعجز وكلول ، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في ' يفعل وينفعل ' لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما ، ولم تقفوا على مقاسمهما ، لأنكم قنعتم بوقوع الفعل من ' يفعل ' وقبول الفعل من ' ينفعل ' ، ومن وراء ذلك غاياتٌ خفيت عليكم ، ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة . فأما البدل ووجوهه ، والمعرفة وأقسامها ، والنكرة ومراتبها ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، فليس لكم فيه مقال ولا مجال . وأنت إذا قلت لإنسان : ' كن منطقياً ' ، فإنما تريد : كن عقلياً أو عاقلاً أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن النطق هو العقل ؛ وهذا قولٌ مدخول ، لأن النطق على وجوه أنتم عنها في سهو . وإذا قال لك آخر : ' كن نحوياً لغوياً فصيحاً ' فإنما يريد : افهم عن نفسك ما تقول ، ثم رم أن يفهم عنك غيرك . وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه ، وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه ؛ هذا إذا كنت في تحقيق شيء ما هو به . فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فأجل اللفظ بالروداف الموضحة والأشباه المقربة ، والاستعارات الممتعة ، وبين المعاني بالبلاغة ، أعني لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها ، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وحلا ، وكرم وعلا ؛ واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أنيمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه لاغتماضه ؛ فهذا المذهب يكون جامعاً لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق ؛ وهذا بابٌ إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس ؛ على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أو لا ؟ ثم قال : حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين ، أو رفعتم الخلاف بين اثنين ؛ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة ، وأن الواحد أكثر من واحد ، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد ، وأن الشرع ما تذهب إليه ، والحق ما تقوله ؟ هيهات ، ها هنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم ، وتدق عن عقولهم وأذهانهم . ودع هذا ، ها هنا مسألة قد أوقعت خلافاً ، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك . قال قائل : ' لفلانٍ من الحائط إلى الحائط ' ما الحكم فيه ؟ وما قدر المشهود به لفلان ؟ فقد قال ناس : له الحائطان معاً وما بينهما . وقال آخرون : له النصف من كلٍ منهما . وقال آخرون : أحدهما . هات الآن آيتك الباهرة ، ومعجزتك القاهرة ، وأنى لك بهما ، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك . ودع هذا أيضاً ؛ قال قائل : ' من الكلام ما هو مستقيم حسن ، ومنه ما هو مستقيم محال ، ومنه ما هو مستقيم قبيح ، ومنه ما هو محال كذب ، ومنه ما هو خطأ ' . فسر هذه الجملة . واعترض عليه عالمٌ آخر ، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب ، وبين الحق والباطل ؟ فإن قلت : كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته ، والآخر لم أحصل اعتراضه ؟ قيل لك : استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له ، ثم أوضح الحق منهما ، لأن الأصل مسموع لك ، حاصلٌ عندك وما يصح به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك ، فلا تتعاسر علينا ، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة .فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل ؛ والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة ؛ وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به ، وينصب عليه سوراً ، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج ، ولا شيئاً من خارجه أن يدخل ، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد ، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل ، ويشبه الباطل بالحق ؛ وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق ، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق ؛ وأنت لو عرفت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم ، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم ، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم ، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكيانات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة ، لحقرت نفسك ، وازدريت أصحابك ، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر ، ومن الحصا عند الجبل . أليس الكندي وهو علم في أصحابك يقول في جواب مسألة ' هذا من باب عد ' . فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب ، حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها في الفلسفة الداخلة ، فذهب عليه ذلك الوضع ، فاعتقد فيه أنه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب . قالوا له : أخبرنا عن اصطكاك الأجرام ، وتضاغط الأركان ؟ هل يدخل في باب وجوب الإمكان ؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان ؟ وقالوا له أيضاً : ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولاتية ؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان ، أو مزايلةٌ له مزايلة على غاية الإحكام ؟ وقالوا له : ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله ؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفسادوالفسالة والسخف . ولولا التبوقي من التطويل لسردت ذلك كله ، ولقد مر بي في خطه : التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاطٍ به ، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفرزع ؛ وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة ، والمعرفة تناقض النكرة ، على أن النكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهية ، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية . ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدو ويغ الصديق ، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل ، والفعل الجاري على التعديل ، إنه سميع مجيب . هذا آخر ما كتبت عن ابن عيسى الرماني الشيخ الصالح بإملائه . وكان أبو سعيد قد روى لمعاً من هذه القصة . وكان يقول : لم أحفظ عن نفسي كل ما قلت ، ولكن كتب ذلك أقوامٌ حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً ؛ وقد اختل علي كثير منه . قال علي بن عيسى : وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة . وقال الوزير ابن الفرات : عين الله عليك أيها الشيخ ، فقد نديت أكباداً وأقررت عيوناً ، وبيضت وجوهاً ، وحكت طرازاً لا يبليه الزمان ، ولا يتطرق إليه الحدثان . قلت لعلي بن عيسى : وكم كان سن أبي سعيد في ذلك الوقت ؟ قال : مولده سنة ثمانين ومائتين ، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة ، وقد عبث الشيب بلهازمه مع السمت والوقار والدين والجد ، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم ، وقل منتظاهر به أو تحلى بحليته إلا جل في العيون وعظم في النفوس ، وأحبته القلوب ، وجرت بمدحه الألسنة . وقلت لعلي بن عيسى : أما كان أبو علي الفسوي النحوي حاضر المجلس ؟ قال : لا ، كان غائباً ، وحدث بما كان ، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور ، والثناء المذكور . فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث : ذكرتني شيئاً قد دار في نفسي مراراً ، وأحببت أن أقف على واضحه ؛ أين أبو سعيد من أبي علي ، وأين علي بن عيسى منهما ، وأين ابن المراغي أيضاً من الجماعة ؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه ؟ فكان من الجواب ، أبو سعيد أجمع لشمل العلم ، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب ، وأخرج من طل طريق ، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق ، وأروى في الحديث ، وأقضى في الأحكام ، وأفقه في الفتوى ، وأحضر بركة على المختلفة ، وأظهر أثراً في المقتبسة . ولقد كتب إليه نوح بن نصر - وكان من أدباء ملوك آل سامان - سنة أربعين كتاباً خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة ، الغالب عليها الحروف ، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأل عنها ؛ وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين ، ضمنه مسائل في القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة . وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام ، سأله عن مائة وعشرين مسألة ، أكثرها في القرآن ، وباقي ذلك في الروايات عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن أصحابه رضوان الله عليهم .وكتب إليه ابن خنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل ، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن السلف . وقال لي الدارقطني سنة سبعين : أنا جمعت ذلك لابن خنزابة على طريق المعونة . وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً يخاطبه فيه بالشيخ الفرد ، سأله عن سبعين مسألة في القرآن ، ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر ، هكذا حدثني به أبو سليمان ؛ وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين . قال لي الوزير : وهذه المسائل والجواب عنها عندك ؟ قلت : نعم . قال : في كم تقع ؟ قلت : لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة ، لأن أكثرها في الظهور . قال : ما أحوجنا إلى النظر فيها والاستمتاع بها والاستفادة منها وأين الفراغ وأين السكون ؟ ونحن كل يوم ندفع إلى طامةٍ تنسى ما سلف ، وتوعد بالداهية ، اللهم ناصيتي بيدك ، فتولني بالعصمة ، واخصصني بالسلامة ، واجعل عقباي إلى الحسنى . ثم قال : صل حديثك . قلت : وأما أبو علي فأشد تفرداً بالكتاب وأشد إكباباً عليه ، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين ، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد ، وأطرافاً مما لغيره ؛ وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد ، وبالحسد له ، كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته ' ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ' ، لأن هذا شيء ما تم للمربد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم ، وفيض كلامهم . ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل ، ولكنه قعد علىالكتاب على النظم المعروف . وحدثني أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد في الأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستنين - لاحقاً بالخدمة المرسومة به ، والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم ؛ وهذا حديث مشهور ، وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من زعم أنه أراد النقض عليه ، وإظهار الخطأ فيه . وقد كان الملك السعيد - رضي الله عنه - هم بالجمع بينهما فلم يقض له ذلك ، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة . وأبو علي يشرب ويتخالع ويفارق هدى أهل العلم وطريقة الربانيين وعادة المتنسكين . وأبو سعيد يصوم الدهر ، ولا يصلي إلا في الجماعة ، ويقيم على مذهب أبي حنيفة ، ويلى القضاء سنين ، ويتأله ويتحرج ، وغيره بمعزل عن هذا ؛ ولولا الإبقاء على حرمة العلم ، لكان القلم يجري بما هو خافٍ ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى ، والإعراض عما يجلب اللائمة أحرى . وكان أبو سعيد حسن الحظ ، ولقد اراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال : هذا أمر يحتاج فيه إلى دربة وأنا عارٍ منها ، وإلى سياسةٍ وأنا غريب فيها ومن العناء رياضة الهرم وحدثنا النصري أبو عبد الله - وكان يكتب النوبة للمهلبي - بحديث مفند لأبي سعيد هذا موضعه ،قال : كنت أخط في بيدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد ، فالتمسني يوماً لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني ، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته ؛ فظن أنه بفضل علمه أقوم بالجواب من غيره ، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب ، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح ، ثم أخذ يحرر ، والصيمري يقرأ ما يكتبه ، فوجده مخالفاً لجاري العادة لفظاً ، مبايناً لما يريده ترتيباً . قال : ودخلت في تلك الحال ، فتمثل الصيمري بقول الشاعر : يا باري القوس برياً ليس يصلحه . . . لا تظلم القوس ، أعط القوس باريها ثم قال لأبي سعيد : خفف عليك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه ، فخجل من هذا القول ، فلما اتبدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد ، ثم قال : أيها الأستاذ ، ليس بسمتنكرٍ ما كان مني ، ولا بمستكثرٍ ما كان منك ، إن مال الفيء لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذٍ ، والكتاب جهابذة الكلام ، والعلماء مستخرجوه . فتبسم الصميري وأعجبه ما سمع ، وقال : على كل حال ما أخليتنا من فائدة . وكان أبو سعيد بعيد القرين ، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والأخبار وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط . وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق ، وعيب به ، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق ، بل أفرد صناعة ، وأظهر براعة ، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً ، هذا مع الدين الثخين ، والعقل الرزين .وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء ، مع براعة اللفظ ، وسعة الحفظ ، وعزة النفس ، وبلل الريق ، وغزارة النفث ، وكثرة الرواية ؛ ومن نظر في كتاب البهجة له عرف ما أقول ، واعتقد فوق ما أصف ، ونحل أكثر مما أبذل . وأما المرزباني وابن شاذان وابن القرمسيني وابن حيويه فهم رواة وحملة ليس لهم في ذلك نقطٌ ولا إعجام ، ولا إسراج ولا إلجام . فقال : فصل حديثك عن هؤلاء بحديث أصحابنا الشعراء ، صف لي جماعتهم ، واذكر لي بضاعتهم ، وما خص كل واحد منهم . قلت : لست من الشعر والشعراء في شيء ، وأكره أن أخطو على دحض ، وأحتسي غير محض . قال : دع هذا القول ، فما خضنا في شيء إلى هذا الوقت إلا على غاية ما كان في النفس ، ونهاية ما أفاد من الأنس ، فكان من الوصف : أما السلامي فهو حلو الكلام ، متسق النظام ، كأنما يبسم عن ثغر الغمام خفي السرقة ، لطيف الأخذ ، واسع المذهب ، لطيف المغارس ، جميل الملابس ؛ لكلامه ليطةٌ بالقلب ، وعبثٌ بالروح ، وبردٌ على الكبد . وأما الحاتمي فغليظ اللفظ ، كثير العقد ، يحب أن يكون بدوياً قحاً ، وهو لم يتم حضرياً ؛ غزير المحفوظ ، جامعٌ بين النظم والنثر ، على تشابهٍ بينهما في الجفوة وقلة السلاسة ، والبعد من المسلوك ، بادي العورة فيما يقول ، لكأنما يبرز ما يخفي ، ويكدر ما يصفي ، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمرسدر ؛ يتطاول شاخصاً ، فيتضاءل متقاعساً ؛ إذا صدق فهو مهين ، وإذا كذب فهو مشين . وأما ابن جلبات فمجنون الشعر ، متفاوت اللفظ ، قليل البديع ، واسع الحيلة ، كثير الزوق ، قصير الرشاء ، كثير الغثاء ؛ غره نفاقه ونفقه نفاقه . وأما الخالع فأديب الشعر ، صحيح النحت ، كثير البديع ، مستوي الطريقة ، متشابه الصناعة ، بعيدٌ من طفرة المتحير ، قريبٌ من قرصة المتخير ؛ كان ذو الكفايتين يقدمه بالري ، ويقبله على النشر والطي . وأما مسكويه فلطيف اللفظ ، رطب الأطراف ، رقيق الحواشي ، سهل المأخذ ، قليل السكب ، بطيء السبك ؛ مشهور المعاني ، كثير التواني ؛ شديد التوقي ، ضعيف الترقي ؛ يرد أكثر مما يصدر ، ويتطاول جهده ثم يقصر ؛ ويطير بعيداً ويقع قريباً ، ويسقي من قبل أن يغرس ، ويمتح من قبل أن يميه ؛ وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة ، وتأتٍ فيالخدمة ، وقيامٍ برسوما لندامة ؛ وسلة في البخل ، وغرائب من الكذب ؛ وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء . وأما ابن نباتة فشاعر الوقت ، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند ، قد لحق عصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم ، حسن الحذو على مثال سكان البادية ، لطيف الائتمام بهم ، خفي المغاص في واديهم ، ظاهر الإطلال على ناديهم ؛ هذا مع شعبة من الجنون وطائفٍ من الوسواس . وأما ابن حجاج فليس من هذه الزمرة بشيء ، لأنه سخيف الطريقة بعيدٌ من الجد ، قريعٌ في الهزل ؛ ليس للعقل من شعره منال ، ولا له في قرضه مثال ؛ على أنه قويم اللفظ ، سهل الكلام ، وشمائله نائيةٌ بالوقار عن عادته الجارية في الخسار ؛ وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة ؛ وإذا جد أقعى ، وإذا هزل حكى الأفعى . وله مع ذي الكفايتين مناظرة طيبة . قال : ما هي ؟ قلت : لما ورد ذو الكفايتين سنة أربع وستين وهزم الأتراك مع أفتكين ، وكان من الحديث ما هو مشهور ، سأل عن ابن حجاج - وكان متشوقاً له لما كان يقرأ عليه من قوافيه ، فأحب أن يلقاه ، لأنه الخبر كالمعاينة ، والمسموعوالمبصر كاأنثى والذكر ؛ ينزع كل واحد منهما إلى تمامه ؛ فلما حضره أبو عبد الله احتبسه للطعام ، وسمع كلامه ، وشاهد سمته ، واستحلى شمائله ، فقام من مجلسه ؛ فلما خلا به قال : يا أبا عبد الله ، لقد والله تهت عجباً منك ، فأما عجبي بك فقد تقدم ؛ لقد كنت أفلي ديوانك ، فأتمنى لقاءك ، وأقول : من صاحب هذا الكلام ، أطيش طائش ، وأخف خفيف ، وأغرم غارم ؛ وكيف يجالس من يكون في هذا الإهاب ؟ وكيف يقارب من ينسلخ من ملابس الكتاب واصحاب الآداب ؛ حتى شاهدتك الآن ، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك ، وسكوت لفظك ، وتناسب حركاتك ، وفرط حيائك وناضر ماء وجهك ، وتعادل كلك وبعضك ؛ وإنك لمن عجائب خلق الله وطرف عباده ؛ والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك ، وأن ذلك الديوان لك ، مع هذا التنافي الذي بين شعرك وبينك في جدك . فقال أبو عبد الله : أيها الأستاذ ، وكان عجبي منك دون عجبك مني ، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك . قال : لأني قلت : إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقاً جافياً وفظاً غليظاً وصاحب رواسير وآكل كوامخ وجبلياً ديلمياً متكائباً متعاظماً ، حتى رأيتك الآن وأنت ألطف من الهواء ، وأرق من الماء ، وأغزل من جميل بن معمر ، وأعذب من الحياة ، وأرزن من الطود ، وأغزر من البحر ، وأبهى من القمر ، وأندى من الغيث ، وأشجع من الليث ، وأنطق من سحبان ، وأندى من الغمام ، وأنفذ من السهام ، وأكبر من جميعالأنام . فقال أبو الفتح وتبسم : هذا أيضاً من ودائع فضلك ، وبواعث تفضلك . ووصله وصرفه . قال : لم يكن هذا الحديث عندي . وأما بشر بن هارون فليس من هذه الطبقة في شيء ، لكنه يقرص فيحز ويشم فيهز ، ويجرح فيجهز ؛ والمدهوون منه كثير ؛ واصحابنا يستحسنون قول ابن الحجاج في الوزير حين يقول : لله در الحسين من قمر . . . ردت إليه وزارة الشمس فقال : إن قبلت هذا منهم خفت أن يقال : مادح نفسه يقرئك السلام ؛ وما أصنع بهذا البيت وهو مضموم إلى كل بيت سخيف في القصيدة . ثم قال : وجب أن نصف قبل هذا عصابة العلماء ، فلم تركنا ذكرهم ونحن لا نخلو في حديثهم من غرة لائحة ، وفائدة نافعة ، وصوابٍ زائد في العقل وفضيلة على الأدب ، وحلمٍ يزدان به في وقت الحاجة ، وحكمةٍ يستعان بها في داهمة ؛ ورأى يكون مقيلاً للتمييز عند تهجيرنا به . قلت : أما أبو عبد الله الجعل فقد شاهدته . قال : صدقت ، ولكن لم أقف على مذهبه ودخلته وسيرته في اعتقاده . قلت : كان الرجل ملتهب الخاطر ، واسع أطراف الكلام ، مع غثاثة اللفظ ، وكان يرجع إلى قوة عجيبة في التدريس ، وطول نفس في الإملاء ، مع ضيق صدر عند لقاء الخصمومعاركة القرن ، بعيد العهد بالمصاع والدفاع والوقاع ؛ وكان سبب هذا الجبن والخور قلة الضراوة على هذه الأحوال ؛ ولقد خزي في مشاهد عظيمة . وأما يقينه فكان ضعيفاً ؛ وأما سيرته فكانت واقفةً على حب الرياسة وبذل المال والجاه إذا حضرا ، مع تعصب شديد لمن قدمه وأحبه ، وإنحاءٍ مفرط على من عاداه ، وكان خوضه في الدول والولايات - ولهذا رغب عنه الواسطي وكان أخا ورع ودين - وقال : هذا منفر عن الدين والمذهب ، ودافعٌ للناس عن القول بالحق ، وطارح للشبهة في القلوب . وكان يجهر بهذا وأشباهه ، ولكن كان جاه الرجل لا ينتقص بهذا القدر وركنه لا يتخلخل على هذا الهد ، لأسباب انعقدت له ، وأصحاب ذابوا عنه . وأما ابن الملاح فشيخ حسن المعرفة بالمذهب ، شديد التوقي ، محمود القناعة ظاهر الرضا ؛ تدل سيرته الجميلة على أنه حسن العقيدة . وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل ، صبور على الخصم ، كثير الحيلة ظنين السر ، جميل العلانية . وأما أبو إسحق النصيبي فدقيق الكلام ، يشك في النبوات كلها ، وقد سمعت منه فيها شبهاً ، ولغته معقدة ، وله أدب واسع ؛ ولقد أضل بهمذان كاتب فخر الدولة ابن المرزبان . وحمله على قلة الاكتراث بظلم الرعية ، وأراه أنه لا حرج عليه فيغبنهم لأنهم بهائم ، وما خرج من الجبل حتى افتضح . وأما ابن خيران فشيخ لا يعدو الفقه ، وفيه سلامة . وأما الداركي فقد اتخذ الشهادة مكسبة ، وهو يأكل الدنيا بالدين ، ويغلب عليه اللواط ، ولا يرجع إلى ثقة وأمانة ؛ ولقد تهتك بنيسابور قديماً ، وببغداد حديثاً ؛ هذا مع الفدامة والوخامة ؛ ولقد ند بجعل غلام ، وهو اليوم قاضي الري . وابن عباد يكنفه ويقربه ليكون داعية له ونائباً عنه ، وليس له أصل وهو من سواد همذان ، وأبوه كان فلاحاً ، ولقد رأيته ، إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه ، وهو اليوم قارون ؛ وقد علت رتبته في الكلام حتى لا مزيد عليها ، إلا أنه مع ذلك نغل الباطن ، خبيث الخبء ، قليل اليقين ؛ وذلك أن الطريقة التي قد لزموها وسلكوها لا تفضي بهم إلا إلى الشك والارتياب ، لأن الدين لم يأت بكمٍ وكيفٍ في كل باب ، ولهذا كان لأصحاب الحديث أنصار الأثر ، مزية على أصحاب الكلام وأهل النظر ؛ والقلب الخالي من الشبهة أسلم من الصدر المحشو بالشك والريبة ، ولم يأت الجدل بخير قط . وقد قيل : من طلب الدين بالكلام ألحد ، ومن تتبع غرائب الحديث كذب ، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر . وما شاعت هذه الوصية جزافاً ، بل بعد تجربة كررها الزمان ، وتطاولت عليها الأيام ؛ يتكلم أحدهم في مائة مسألة ويورد مائة حجة ثم لا ترى عنده خشوعاً ولا رقة ، ولا تقوى ولا دمعة ؛ وإن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يكرمون ولا يفضلون خيرٌ من هذه الطائفة وألين جانباً ، وأخشع قلباً ، وأتقى لله عز وجل ، وأذكر للمعاد ، وأيقن بالثواب والعقاب ، وأقلق من الهفوة ، وألوذ بالله من صغير الذنب ، وأرجعإلى الله بالتوبة ؛ ولم أر متكلماً في مدة عمره بكى خشية ، أو دمعت عينه خوفاً ، أو أقلع عن كبيرة رغبة ؛ يتناظرون مستهزئين ويتحاسدون متعصبين ، ويتلاقون متخادعين ، ويصنفون متحاملين ؛ جذ الله عروقهم ، واستأصل شأفتهم ، وأراح العباد والبلاد منهم ؛ فقد عظمت البلوى بهم ، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم ؛ ودب داؤهم ، وعسر دواؤهم ، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضغضعاً ، وساكنه متجعجعاً . قال : فما تقول في ابن الباقلاني ؟ . قلت : فما شر الثلاثة أم عمرو . . . بصاحبك الذي لا تصبحينا يزعم أنه ينصر السنة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية ؛ وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية ، وطرائق الملحدة . قال : والله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ ، والأمراض التي ليس لها علاج . ثم قال : إن الليل قد ولى ، والنعاس قد طرق العين عابثاً ؛ والرأي أن نستجم لننشط ، ونستريح لنتعب ؛ وإذا حضرت في الليلة القابلة أخذنا في حديث الخلق والخلق - إن شاء الله - وأنا أزودك هذا الإعلام ليكون باعثاً لك على أخذ العتاد بعد اختماره في صدرك ، وتحيل الحال به عند خوضك وفيضك ولا تجبن جبن الضعفاء ، ولكن قل واتسع مجاهراً بما عندك ، منفقاً مما معك . وانصرفت .
الليلة التاسعة
وعدت ليلة أخرى فقال : فاتحة الحديث معك ، فهات ما عندك . فكان من الجواب : أن أخلاق أصناف الحيوان الكثيرة مؤتلفةٌ في نوع الإنسان ، وذلك أن الإنسان صفو الجنسالذي هو الحيوان ، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان والإنسان صفو الشخص الذي هو واحد من النوع ، وما كان صفواً ومصاصاً بهذا النظر انتظم فيه من كل ضرب من الحيوان خلق وخلقان وأكثر ، وظهر ذلك عليه وبطن أيضاً بالأقل والأكثر والأغلب والأضعف ، كالكمون الذي في طباع السبع والفأرة ، والثبات الذي في طباع الذئب ، والتحرز الذي في طباع الجاموس من بنات الليل ، والحذر الذي في طباع الخنزير ، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلاً بصاحب المقدمة . وكذلك ضد ذلك في الخنزير تمثلاً بصاحب الساقة ، وكالحراسة التي في طباع الكلب ، وكاوب الطير إلى أوكارها التي تراها كالمعاقل وغيرها بالدغل والأشب والغياض . ولهذا قال بعض الحكماء : خذ من الخنزير بكوره في الحوائج ، ومن الكلب نصحه لأهله ، ومن الهرة لطف نفسها عند المسألة . وقالت الترك : ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عسشر خصال من ضروب الحيوان : سخاء الديك ، وتحنن الدجاجة ، ونجدة الأسد ، وحملة الخنزير وروغان الثعلب ، وصبر الكلب ، وحراسة الكركي ، وحذر الغراب ، وغارة الذئب ، وسمن بعروا ، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء . ولما وهب الإنسان الفطرة ، وأعين بالفكرة ؛ ورفد بالعقل ، جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه وفي نفسه ، وبسبب هذه المزية الظاهرة فضل جميع الحيوان حتى صار يبلغ منها مراده بالتسخير والإعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها ؛ وهذه المزية التي له مستفادة بالعقل ، لأن العقل ينبوع العلم ، والطبيعة ينبوع الصناعات ، والفكربينهما مستملٍ منهما ومؤدٍ بعضها إلى بعض بالفيض الإمكاني والتوزيع الإنساني ؛ فصواب بديهة الفكرة من سلامة العقل ، وصواب روية الفكرة من صحة الطباع ، وصحة الطباع من موافقة المزاج ، وموافقة المزاج بالمدد الاتفاقي والاتفاق الغيبي ؛ أعني بهذا أن وجه الحادث المجهول عندنا اتفاق ، ووجه الحادث المعلوم عند الله عز وجل غيب ؛ فلو ظهر هذا الغيب لبطل الاتفاق ، ولو بطل الاتفاق لارتفع الغيب . فانقسمت الأحداث بين ما هو على جديلة واحدة معروفة ، وبين نادر لا يدوم العهد به ، فدل ما ظهر واستمر على ما جاد به ووهب ، ودل ما غاب واستتر على ما تفرد به وغلب . ولما كان الحيوان كله يعمل صنائعه بالإلهام على وتيرة قائمة ، وكان الإنسان يتصرف فيها بالاختيار ، صح له من الإلهام نصيب حتى يكون رفداً له في اختياره ، وكذلك يكون النحل أيضاً ، صح له من الاختيار قسط في إلهامه حتى يكون ذلك معيناً له في اضطراره ، إلا أن نصيب الإنسان من الإلهام أقل كما أن قسط سائر الحيوان من الاختيار أنزر ؛ وثمرة اختيار الإنسان إذا كان معاناً بالإلهام أشرف وأدوم وأجدى وأنفع وأبقى وأرفع من ثمرة غيره من الحيوان إذا كان مرفوداً بالاختيار ، لأن قوة الاختيار في الحيوان كالحلم كما أن قوة الإلهام في الإنسان كالظل . ومراتب الإنسان في العلم ثلاث تظهر في ثلاثة أنفس ، فاحدهم ملهم فيتعلم ويعمل ، ويصير مبدأً للمقتبسين منه ، المقتدين به ، الآخذين عنه ، الحاذين على مثاله ، المارين على غراره ، القافين على آثاره ؛ وواحد يتعلم ولا يلهم فهو يماثل الأول في الدرجة الثانية ، أعني التعلم ؛ وواحد يتعلم ويلهم ، فتجتمع له هاتانالخلتان ، فيصير بقليل ما يتعلم مكثراً للعمل والعلم بقوة ما يلهم ويعود بكثرة ما يلهم مصفياً لكل ما يتعلم ويعمل . والكلام في هذه المواضع ربما جمح فلم يمكن كفه ، فينبغي أن يضح العذر إذا عرض تفاوتٌ في الترتيب ، ودخل الخلل من ناحية التقريب . وقال أبو سليمان لنا في هذه الأيام : الإنسان بين طبيعته وهي عليه وبين نفسه وهي له ، كالمنتهب المتوزع ، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه قوي ما هول له من النفس ، وضعف ما هو عليه من الطبيعة وإلا فقد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو له من النفس . وحكى لنا فقال : كان للحكماء الأولين مثلٌ يضربونه ويكتبونه في هياكلهم ومتعبداتهم وهو : الملك الموكل بالدنيا يقول : إن ههنا خيراً وههنا شراً ، وههنا ما ليس بخير ولا شر ، فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني ، ونجا سليماً ، وبقي كريماً ، وملك نعيماً عظيماً . ومن لم يعرفها قتلته شر قتلة ، وذلك أني لا أقتله قتلاً وحياً يستريح به مني ، ولكن أقتله أولاً فأولاً في زمان طويل ، بحسرات على فوت مأمول بعد مأمول ، وبلايا يكون بها كالمغلول المكبول . قال : هذا كلام شريف في أعلى ذروة الحكمة ، لكنك خليت يدك من طرف الحديث في الخلق . قلت : إذا طاب الحديث باسترسال السجية ووقوع الطمأنينة لها الإنسان عن مباديه ، وسال مع الخاطر الذي يستهويه ، ولتحفظ الإنسان في قوله وعمله من الخطل والزلل حدٌ بلغه كل الخاطر واختل .ثم نعود فنقول : أخلاق الإنسان مقسومة على أنفسه الثلاث : أعني النفس الناطقة ، والنفس الغضبية ، والنفس الشهوانية ، وسمات هذه الأخلاق مختلفة بعرض واسع . ويمكن أن يقال في نعتها على مذهب التقريب : إنها بين المحمودة وبين المذمومة ، وبين المشوبة بالحمد والذم ، وبين الخارجة منهما . فمن أخلاق النفس الناطقة - إذا صفت - البحث عن الإنسان ثم عن العالم ، لأنه إذا عرف الإنسان فقد عرف العالم الصغير ، وإذا عرف العالم فقد عرف الإنسان الكبير ، وإذا عرف العالمين عرف الإله الذي بجوده وجد ما وجد ، وبقدرته ثبت ما ثبت ، وبحكمته ترتب ما ترتب ؛ وبمجموع هذا كله دام ما دام . بهذا البحث يتبين له ما تشتمل عليه القوة الغضبية والقوة الشهوية فإن توابع هاتين القوتين أكثر ، لأنهما بالتركيب أظهر ، وفي الكثرة أدخل وعن الوحدة أخرج ؛ فإذا ساستهما الناطقة حذفت زوائدهما ، ونفت فواضلهما ، ووفت نواقصهما ، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمةً في الشهوية أخمدت نارها ، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنانها ؛ فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم ، فيعود السفه حلماً أو تحالماً ، والحسد غبطةً أو تغابطاً والغضب كظماً أو تكاظماً ، والغي رشداً أو تراشداً ، والطيش أناةً أو تآنياً وصرفت هذه الكوامن في المكامن - إذا سارت سورتها ، وثارت ثورتها - على مناهج الصواب ، تارةً بالعظة واللطف ، وتارةً بالزجر والعنف ، وتارةً بالأنفة وكبر النفس ، وتارةً بإشعار الحذر ، وتارةً بعلو الهمة ؛ وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام ، والعفاف عند الهائج ألذ من قضاءالوطر ، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف ، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة ، والمذاراة عند المحفظ أطيب من المماراة . وفي الجملة الخلق الحسن مشتق من الخلق ، فكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق ، لكن الحض على إصلاح الخلق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعبث والتجزيف ، بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة ، ومثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضاً ، ولكن ليستفيد نقاءً شبيهاً بالبياض ؛ ويقال للمهذار : اكفف لا ليكف عن النطق ، ولكن ليؤثر الصمت . ويقال للموتور : لا تحقد لا ليزول عنه ما حنق عليه ، ولكن ليتكلف الصبر ويتناسى الجزاء على هذا أبداً . وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة ، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيهٍ بالضد كالحياة والموت ، والنوم واليقظة ، والحسن والقبيح ، والصواب والخطأ ، والخير والشر ، والرجاء والخوف ، والعدل والجور ، والشجاعة والجبن ، والسخاء والبخل ، والحلم والسفه ، والطيش والوقار ، والعلم والجهل ، والمعرفة والنكرة ، والعقل والحمق ، والصحة والمرض ، والاعتدال والانحراف ، والعفة والفجور ، والتنبه والغفلة ، والذكر والنسيان ، والذكاء والبلادة ، والغبطة والحسادة ،والدماثة والكزازة ، والحق والباطل ، والغي والرشد ، والبيان والحصر ، والثقة والارتياب ، والطمأنينة والتهمة ، والحركة والسكون ، والشك واليقين ، والخلاعة والوقار ، والتوقي والتهور ، والإلف والملل ، والصدق والكذب ، والإخلاص والنفاق ، والإحسان والإساءة ، والنصح والغش ، والمدح والذم ، وعلى هذا الجر والسحب ؛ ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع . فمما ينبغي أن يعني الإنسان المحب للتبصرة ، المؤثر للتذكرة ، الجامع للنافع له ، النافي للضار به في هذه الأحوال التي وصفناها بأسمائها معرفةً - ما استطاع - باجتلاب محمودها واجتناب مذمومها ، وتمييزه مما يكمن فيه أو تقليله ، أو إطفاء جمرته ، أو اجتناء ثمرته ، والطريق إلى هذا التمييز واضح قريب ، كأن تنظر إلى الحياة والموت فتعلم أن هذين ليسا من الأخلاق ولا مما يعالج بالاجتهاد ، وإلى النوم واليقظة فتعلم أنهما ضروريان للبدن من وجه ، وغير ضروريين من وجه ، فتنفى منهما ما خرج عن حد الضرورة وتسلم البدن ما دخل في حد الضرورة ؛ ولا يكثرن الإنسان نومه ولا سهره ، ولكن يطلب العدل بينهما بقدر جهده . فأما الحسن والقبيح فلا بد له من البحث اللطيف عنها حتى لا يجور فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، فيأتي القبيح على أنه حسن ، ويرفض الحسن على أنه قبيح ؛ وماشىء الحسن والقبيح كثيرة : منها طبيعي ، ومنها بالعادة ، ومنها بالشرع ، ومنها بالعقل ، ومنها بالشهوة ، فإذا اعتبر هذه المناشىء صدق الصادق منها وكذب الكاذب ، وكان استحسانه على قدر ذلك ومثال ذلك الكبر فإنه معيب بالنظر الأول ، لكنه حسنٌ في موضعه بالعلةالداعية إليه ، والحال الموجبة له . وأما الصواب والخطأ فأمران عارضان للأقوال والأفعال والآراء ، وليسا بخلقين محضين ، ولكنهما موكولان إلى نور العقل ، فما أشرق عليه العقل بنوره فهو صواب ، وما أفل عنه العقل بنوره فهو خطأ . وأما الخير والشر فهما في العموم والشمول ليسا بدون الصواب والخطأ لهما مناط بكل شيء ، ويغلبان على الأفعال ، وإن كان أحدهما عدماً للآخر . وأما الرجاء والخوف فهما عرضان للقلب بأسباب بادية وخافية ، ولا يدخلان في باب الخلق من كل وجه ولا يخرجان أيضاً بكل وجه وهما كالعمادين للإنسان قد استصلح لهما ، وربط قوامه بغلبتهما وضعفهما . وأما العدل والجور فقد يكونان خلقين بالفطرة ، ويكونان فعلين بالفكرة وجانباهما بالفعل ألصق ، وإلى الاكتساب أقرب . وأما الشجاعة والجبن فهما خلقان متصلان بالخلق ، ولهذا يعز على الشجاع أن يتحول جباناً ، ويتعذر على الجبان أن يصير شجاعاً ، وكذلك طرفاهما داخلان في الخلق أعني التهور والتوقي . وأما السخاء والبخل فهما خلقان محضان أو قريبان من المحض ، ولهذا تعلق الحمد والذم بهما وبأصحابهما ، والمدح والهجو سريا إليهما واتصلا بهما ؛ وقد يندم السخي على بذله كثيراً خوفاً من الإملاق ، فلا يستطيع ذلك إذا أخذت الأريحية ، وحركته اللوذعية ؛ وقد يلوم البخيل نفسه كثيراً إذا سلقته الألسنة الحداد ،وجبه بالتوبيخ ، وشمخ عند رؤيته الأنف ، وغضن الجبين وأولم بالعذل وقوبل ؛ ومع ذلك فلا يرشح إلا على بطء وكلفة وتضجر ؛ والكلام في هذين الخلقين طويل ، لأنهما أدخل في تلاقي الناس وتعاطيهم في عشرتهم ومعاملتهم . وأما الحلم والسفه فهما أيضاً خلقان ، والأخلاق تابعة للمزاج في الأصل ، ولذلك قلنا : إن الخلق ابن الخلق ، والولد شبيهٌ بوالده ؛ وفي الجملة ، كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا ، وأقلل من هذا وكف عنه ، فإنه في باب الأفعال أدخل ، وكل ما لم يجز أن يقال ذلك فيه فهو في باب الأخلاق أدخل ، ثم لبعض هذا نسبة إلى الخلق أو الخلق ، إما ظاهرة غالبة وإما خفية ضعيفة . وأما الطيش والوقار فهما يختلطان بالحلم والسفه ويجريان معهما ؛ فليس ينبغي أن ينشر الكلام ويطول الشرح . وأما الجهل والعلم فليسا من الأخلاق ولا من الخلق وإنما يبرزان من صاحب الأخلاق والخلق للمزاج أثرين قويين واحدهما عدم والآخر وجدان ، والعدم لا يكون أعدم من عدم ، والوجدان يكون أبين من وجدان . وأما المعرفة والنكرة فهما في جوار العلم وضده ، ولكنهما أعلق بالحس وألصق بالنفسين ، أي الشهوية والغضبية . وأما العقل والحمق فليس من الخلق ، والكلام في تفسير العقل مشهور ، وعدمه الحمق . وأما الصحة والمرض فليسا أيضاً من الأخلاق ، ولكنهما يوجدان في الإنسان بواسطةالنفس ، إما في البدن ، وإما في العقل ، ولذلك يقال : أمراض البدن ، وأمراض النفس ، وصحة البدن وصحة النفس . وأما الاعتدال والانحراف فهما يدخلان في الخلق بوجه ، ويخلصان منه بوجه ، ويعمان أعراض البدن وأعراض النفس ، ويوصف بهما الإنسان ، على أن الانحراف المطلق لا يوجد ، والاعتدال المطلق لا يوجد ، ولكن كلاهما بالإضافة . وأما العفة والفجور فخلقان لهما جمرة وهمود ، والحاجة تمس إلى العدل في استعمال العفة ونفي الفجور ، وإذا قويت العفة حالت العصمة ، وإذا غلب الفجور صار عدواناً . وأما التنبيه والغفلة فقريبان من الخلق ويغلبان على الإنسان ، إلا أن فرط التنبيه موصولٌ بالوحي ، وفرط الغفلة موصول بالبهيمية . وأما الذكر والنسيان فليسا بخلقين محضين ، ومنشؤهما بالمزاج ، وأحدهما من علائق النفس العالمة ، والآخر من علائق النفس البهيمية . وأما الذكاء والبلادة فهما خلقان ، ونعتهما كنعت الذكر والنسيان ، إلا أن هذين يعرضان في الحين بعد الحين ، والأخريان كالراسخين في الطينة . وأما الغبطة والحسد فخلقان رسم الأول منهما بأن تتمنى لنفسك ما أوتيه صاحبه ورسم الثاني بأن تتمنى زوال ما أوتيه صاحبك وإن لم يصل إليك . ورسوم هذهالأخلاق أسهل من تحديدها ، لكنا تركنا ذلك ، لأن الكلام الذي كان يجري هو على مذهب الخدمة . على أن مراتب هذه الأخلاق مختلفة ، فيبعد أن يعمها حد واحد ، وإنما اختلفت منازلها لأنها تارة تصفو بقوة النفس الناطقة ، وتارة تكدر بالقوانين الأخريين ؛ ولبعضها حدة بالزيادة ، ولبعضها كلة بالنقص ، فلم يكن التحديد يفصل كل ذاك ، فلم نعرج على شيء عجزنا عنه قبل أخذنا فيه . وتتم بقية ما علق بهذه الجملة ، فنقول : وأما الدماثة والكزازة فخلقان محضان تابعان للمزاج ، ثم المران يزيدهما قوة وضعفاً ؛ وهما للنعت أقرب ، كالسهولة والعسر ؛ ولذلك يقال : ما أدمث هذه الأرض ، أي ما أرخاها وألينها ؛ وفي المثل : دمث لجنبك قبل النوم مضجعاً . وأما الحق والباطل فليسا من الخلق ولا الخلق في شيء ، وهما من نتائج المعرفة والنكرة ، لأنك تعرف الحق وتنكر الباطل ، وذلك لأغراض تتبعهما ، ولواحق تلتبس بهما . وأما الغي والرشد فليسا من الخلق ، لكنهما من علائق الأفعال الحميدة والذميمة ؛ وللرأي والعقل فيهما مدخل قوي وحظ تام . وأما البيان والحصر فليس بينهما وبين الخلق علاقة ، وإنما يتبعان المزاج ويزيد فيهما وينقص الجهد والتواني والطلب والقصور . وأما الثقة والارتياب فخلقان يغلبان ينفعان ويضران ويحمدان ويذمان ألا ترى أنه يقال : لا تثق بكل أحد ، ولا ترتب بكل إنسان وهكذا الطمأنينة والتهمة ، لأنهما في طيهما . وأما الحركة والسكون فليسا من حديث الخلق في شيء لأنهما عامان لجميعالأحوال سواء كان العمل مباشراً أم كان معتقداً ؛ وفي الحركة والسكون كلامٌ واسع ، وذلك أن ههنا حركةً إلهيةً ، وحركةً عقلية ، وحركةً نفسية ، وحركةً طبيعية ، وحركة بدنية ، وحركة فلكية ، وحركة كوكبية ، وحركةً كأنها سكون . فأما السكون فهو ضرب واحد ، لأنه في مقابلة كل حركة ذكرناها . فإذا اعتبرت هذه المقابلة في كل مقابل لحظ الانقسام في السكون ، كما وجد الانقسام في الحركة . والحركة أوضح برهان على كل موجود حسي ، والسكون أقوى دليل على كل موجودٍ عقلي ؛ وهذا القدر كافٍ في هذا الموضع . وأما الشك واليقين ، فمن علائق النفس الناطقة ، ولهذا لا يقال في الحيوان الذي لا ينطق : له يقين وشك . وأما الخلاعة والوقار ، فقد تقدم البحث عنهما . وأما التوقي والتهور ، فهما خلقان في جميع الحيوان ، ويغلبان على نوع الإنسان ، لأن العقل يبطل أحدهما ، والحس يغلب الآخر . وأما الإلف والملل فخلقان محضان ، يذمان ويحمدان على قدر المألوف والمملول ، وإن كان جريان العادة قد وفر الحمد على الإلف ، والذم على الملل . وقد مدح زيد فقيل : هو ألوف . وذم عمرٌو فقيل : هو ملول . وأما الصدق والكذب ، فمن علائق النفس الناقصة والكاملة ؛ وقد يكونان راسخين فيلحقان بالخلق ، إلا أن الصدق ممدوح ، والكذب مذموم ، هذا في النظر الأول ، وقد يعرض ما يوجب المصير إلى الكذب لينجى به ؛ فهما إذن بعد الحقيقة الأولىوقفٌ على الإضافة ؛ وقد وجدنا من كذب لينتفع ، ولم نجد من صدق ليكتسب الضرر . وأما الإخلاص والنفاق ، فهما يلحقان بالخلق ، ولكنهما يصدران عن عقيدة القلب وضمير النفس . وأما الإحسان والإساءة ، فهما يعمان الأفعال والأقوال ، فإذا رسخ اعتيادهما استحالا خلقين . وأما النصح والغش ، فهما خلقان ، وطرفاهما يتعلقان بالخلق . وكذلك الطمع واليأس ، والحب والبغض ، واللهج والسلو ، وما شاكل هذا الباب . ولم يجر هذا كله في المذاكرة بالحضرة ، ولكن رأيت من تمام الرسالة أن أضم هذا كله إلى حومته ، وأبلغ الممكن من مقتضاه في تتمته . وقال لي : هات الوداع ، فإن الليل قد هم بالإقلاع . قلت : قال أبو سعيد الذهبي الطبيب : لو علم الذي يحمل الباذنجان أن على ظهره باذنجاناً لصال على الثيران . فضحك - أضحك الله سنه ، وحقق في كل خير ظنه - وقال : إن كنت تحفظ في غرائب أخلاق الحيوان شيئاً فاذكره إذا حضرت ، فقد مر في أخلاق الإنسان ما يكفي مجلس الإمتاع والمؤانسة ، فإذا ضم هذا إلى ذاك كان للإنسان فيه تبصر كافٍ ، وتذكرٌ شافٍ . وصدق - صدق الله قوله - لأن الإنسان أشرف الحيوان ، وإنما كان هكذا لأنه حاز جميع قوى الحيوان ثم زاد عليه بما ليس لشيء منه ، فصار رباً له سائساً ، ومصرفاً له حارساً ، ونظر إلى ما سخر له منه فاعتبر ، وقاد نفسه إلى حسن ما رأى ، وعزفهاعن قبيح ما وجد ، ولم يجز في الحكمة أن يحرم الإنسان هذا مع ما فيه من المواهب السنةي ؛ والمنائح الهنية ، فإن قال قائل : فالملائكة إذن قد حرمت هذه الفضيلة ، فليعلم هذا القائل أن الملك لما خلق كاملاً لم يكلف أن يكمل ويتكامل ويستكمل ، فصار كل شيء يطلبه ويتوقاه سبباً إلى كماله المعد له وغايته المقصودة . فإن زاد فقال : فهلا خلق كاملاً ؟ فليعلم أن كلامه على طريق الجدل ، لا عىل طريق البحث عن العلل ، لأنه قد جهل أنه بالحكمة وجب أن يكون الأمر مقسوماً بين ما يجوز الكمال بالجبلة ، وبين ما يكسب الكمال بالقصد . ولما وجب هذا بالحكمة سرت إليه القدرة ، وساح به الجود ، واشتملت عليه المشيئة ، وأحاطت به الحكمة ، وشاعت فيه الربوبية . وههنا زيادةٌ في شرح الخلق يتم بها الكلام ؛ فليس من الرأي أن يقع الإخلال بذكرها ، لأنها مكشوفة ظاهرة ، وهي أن الإنسان إذا غلبت الحرارة عليه في مزاج القلب يكون شجاعاً بذالاً ملتهباً ، سريع الحركة والغضب قليل الحقد ، زكي الخاطر ، حسن الإدراك . وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليداً ، غليظ الطباع ، ثقيل الروح . وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب ، سمح النفس ، سهل التقبل كثير النسيان . وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابراً ، ثابت الرأي ، صعب القبول يضبط ويحتد ، ويمسك ويبخل ؛ وهذا النعت على هذا التنزيل - وإن كان مفهوماً - فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفية ، وفيها بدائع لا تكاد تنتهي ، وعجائب لا تنقضي ؛ وقد قال الأول :كل امرىء راجعٌ يوماً لشيمته . . . وإن تخلق أخلاقاً إلى حين وقال آخر : ارجع إلى خيمك المعروف ديدنه . . . إن التخلق يأتي دون الخلق ولولا أن النزوع عن الخلق شاقٌ لما قالوا : تخلق فلان . وقد قيل أيضاً : ' وخالق الناس بخلق حسن ' ، وعلى هذا يجري أمر الضريبة والطبيعة والنحيتة والغريزة والنحيزة والسجية والشيمة ، وربما قيل : الطبيعة أيضاً ، ثم العادة تاليةٌ لهذه كلها ، أو زائدة فيما نقص فيها ، وموقدة لما خمد منها .
الليلة العاشرة
ولما عدت في الليلة الأخرى ونعمت بهذه الفضيلة ، تفضل وقال : ما في العلم شيءٌ إلا إذا بدىء بالكلام فيه اتصل وتسلسل حتى لا يوجد له مقطع ولا منفذ ثم قرأت عليه نوادر الحيوان ، وغرائب ما كنت سمعته ووجدته ، فزاد عجباً وأنا أرويه في هذا المكان حتى يكون تذكرةً وفائدة - إن شاء الله تعالى . يقال : إن أسنان الرجل اثنتان وثلاثون سناً . وأسنان المرأة ثلاثون سناً . وأسنان الخصى ثمانٌ وعشرون سناً . وأسنان البقر أربعٌ وعشرون سناً . وأسنان الشاة إحدى وعشرون سناً . وأسنان التيس ثلاث وعشرون . وأسنان العنز تسع عشرة سناً . الذي ذكر من أصناف الحيوان أنه يكتسب معاشه ليلاً : البومة والوطواط . ومن الحيوان الوحشي ما يستأنس سريعاً : الفيل .ويحكى أن الحيوان الذي أسنانه قليلة عمره قصير ، والذي أسنانه كثيرة عمره طويل . الفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال ، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الكبار فتظهر إذا شب وكبر . قلب جميع الحيوان موضوعٌ في الوسط من الصدر ما خلا الإنسان ، فإن قلبه مائل إلى الجانب الأيسر . الأفعى تبيض في رحمها ، ثم يصير هناك حيواناً . الشعر المولود مع الإنسان شعر الرأس والأشفار والحاجبين . وأول ما ينبت بعد ذلك شعر العانة وشعر الإبطين وشعر اللحية : إن خصي الإنسان قبل احتلامه لم ينبت في جسده الشعر الذي يتأخر نباته ، وإن خصي بعد احتلامه فإن ذلك الشعر يزول ، ما خلا شعر العانة فإنه يبقى . شعر الحاجبين ربما طال عند الكبر . وشعر الأشفار لا يطول . للأرانب في داخل أشداقها شعر ، وكذلك تحت أرجلها . القنفذ في فيه خمس أسنان في عمقه . والبرية منها تسفد قائمة وظهر الأنثى لاصق بظهر الذكر . الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء ، والنساء في الصيف . الخنزير إذا تمت له من ولادته ثمانية أشهر ينزو على الأنثى . الكلبة تحمل وتبقى ستين يوماً ويوماً ، وهذا أطول ما يكون ، ولا تضع قبل أن يتم حملها ستين يوماً ، فإن وضعت قبل ذلك فإنها لا تربي ولا يبقى لها ولد . الفيل الذكر ينزو إذا تمت له خمس سنين ، وزمان هياجه ونزوه أيام الربيع والأنثى تحمل سنتين ، ولا تضع إلا واحداً .إذا باض الطائر وما كان من أصنافه يخرج من البيضة الطرف العريض ثم يرق بعد ذلك . كل ما كان من البيض مستطيلاً محدد الطرف فهو يفرخ الإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف يفرخ الذكور . وجرب من إناث الطير أنها إذا لم تجلس على البيض تمرض . القبج إذا هاج ووقفت الأنثى قبالة الذكر ، وهبت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها . الحمامة إذا نتفت ريشة من ريشها احتبس بيضها أكثر مما لها بالطبع . مبدأ خلق الفرخ من بياض البيضة ، وغذاؤه من الصفرة ، فإذا خرج فرخان كان أحدهما أكبر جثةً من الآخر ، والذكر منهما من البيضة الأولى ومن الثانية الأنثى . الفاختة تعيش أربعين عاماً . والحجل يعيش عشرين عاماً . الرخمة تفرخ على صخور مشرفة عالية لا ينالها أحد ، ولا توجد رخمة وفراخها إلا في الفرط . العقاب يجلس على البيض ثلاثين يوماً ، وكذلك كل طائر عظيم الجثة مثل الإوز وما أشبهه ، والمتوسط الجثة يجلس على البيض عشرين يوماً ، كالحدأة والبزاة وما أشبه ذلك . إناث الغربان تجلس على البيض جلوساً دائماً ، والذكر يأتيها بالطعم حينئذ .الحجل تعمل عشين يجلس الذكر على واحد ، والأنثى على واحد . الطاوس يعيش خمساً وعشرين سنة ، وفي هذه المدة تنتهي ألوان ريشه . ويحضن بيضه ثلاثين يوماً ، قيل : وربما أكثر قليلاً ، ويبيض في كل سنة مرة واحدة ، وعدد بيضه اثنتي عشرة بيضة ، ويلقي ريشه في زمن الخريف وبعده قليلاً ، وذلك حين كيلقي الشجر ورقه ، فإذا بدا أول الشجر وظهرت فروعه ، ونبت ورقه بدأ ريشه ينبت . الدلفين له لبن ، ويرضع ، ويحمل عشرة أشهر ، وتلد في الصيف ولا تلد في زمانٍ آخر البتة ، وربما غاب تحت الموج في الماء ثلاثين يوماً لا يظهر ؛ وهو محب لخرئه يأكله . الجمل الذكر يكره قرب الفرس ويقاتله إذا تمكن منه . الشاة إن مطرت بعد نزوها انتقض حملها . الغنم إذا أنزيت والريح جنوبٌ تضع اولادها إناثاً ؛ وإن كانت العروق التي تحت ألسن الكباش الفحول بيضاً فإن إناث الغنم تضع حملاناً بيضاً ، وإن كانت العروق سوداء فإنها تضع حملاناً سوداً . وإن كانت لونين تكون مختلفة ؛ وإن كانت شقراً خرجت شقراً . الغنم إذا هاجت المسنة منها أولاً فالسنة ذات خصب ، وإن هاجت الفتية أولاً فالسنة رديئةٌ على الغنم . الكلب السلوقي ينزو إذا تم له ثمانية أشهر ، والأنثى منها تحمل ستين يوماً ، وربما زادت يوماً أو يومين ، وجراؤها عميٌ اثنين وعشرين يوماً . ومنها ما تحمل ثلاثة أشهر وتكون جراؤها عمياً سبعة عشر يوماً . إناث الكلاب تطمث في كل سبعة أيام وتبول جالسة ، ومنها ما ترفع رجلها عند البول . ذكور الكلاب ترفع أرجلها للبول إذا تمت لها من ولادتها ثمانية أشهر وبعضها في ستة أشهر .ذكور الكلاب السلوقية تعيش عشر سنين ، وإناثها اثنتي عشرة سنة ، ومن أجناسها ما تعيش عشرين سنة ، وإناثها كلها أطول أعماراً من الذكور . قال أوميروس الشاعر : إن كلب إديوس هلك وهو ابن عشرين سنة . وليس تلقى الكلاب شيئاً من أسنانها سوى النابين ، فإذا تم للكلب أربعة أشهر أبقاهما . البقر تلقي أسنانها لسنتين ، وإذا كثر نزو الذكور منها وحمل الإناث يكون ذلك علامة شتاء وجود أمطار وخصب ، وإناثها تطمث . إناث الخيل تضع أولادها في أحد عشر شهراً ، أو في الثاني عشر . الحيات رغبةٌ نهمة ، قليلة شرب الماء ، لأنها لا تضبط أنفسها ، وإذا شمت الشراب فإنها تشتاق إليه جداً . الأسد إذا بال رفع رجله كما يرفع الكلب . البقر تشتهي شرب الماء الصافي النقي ، والخيل على الضد فإنها تشرب مثل الجمال الماء الكدر الغليظ . الغنم في الخريف تشرب الماء الذي تصيبه ريح الشمال ، وذلك الوقت أوفق لها . الدراج إذا هبت الريح شمالاً تتزاوج وتخصب ، وإن كانت جنوباً ساءت حالها ومرضت . السمك الذي يأوي إلى الشطوط من ناحية البر ألذ من الذي يأوي اللجج وما كان منها مستطيل الجثة فهو يخصب في الصيف وهبوب الشمال ؛ والعريض الجثة على ضد ذلك ، وأكثر ما يصاد السمك قبل طلوع الشمس لكلبه على الرعي ، وطلب الطعم . والسمك الجاسي الجلد يخصب في السنة المطيرة ، لأن ماء البحر يحلو فيها . الكلب له ثلاثة أمراض : الكلب ، والذبحة - وهو القاتل لها - والنقرس .والداء الذي يقال له الكلب يعرض للجمال أيضاً ؛ فإذا كلب الجمل نحر ولم يؤكل لحمه . الخيل إذا ألقت حوافرها وقت تنصل نبت لها حافر آخر عاجلاً ، لأن نباته يطلع مع نصول الحافر . وعلامة ذلك اختلاج الخصية اليمنى . ويعرض للخيل داء شبيه بالكلب ، وعلامته استرخاء آذانها إلى ناحية أعرافها ، وامتناعها من العلف ، وليس لهذا الداء علاج إلا التسكين . لا يكون في بلد الهند خنزير . لا أنيسٌ ولا بري ، وفي أرض تعرف بكذا يجز البقر كما يجز الغنم ، وفي أرض النوبة تولد الكباش نابتة القرون . وإناث الكلاب السلوقية أسرع إلى الأدب من الذكور . جميع أجناس الحيوان إناثها أقل جرأة وأجزع ، ما خلا الذئبة ، فإنها أصعب خلقاً وأجرأ من الذكور . العقاب والتنين يتقاتلان ، والعقاب تأكل الحيات حيثما وجدتها . الغداف يخطف بيض البومة نصف النهار فيأكله ، لأن البومة لا تبصر بصراً حاداً في ذلك الوقت . فإذا كان الليل شدت البومة على بيض الغذاف فأكلته . بين العنكبوت وبين الحرذون شر ، لأن الحرذون يأكل العنكبوت . عصفور الشوك يقاتل الحمار ، لأن الحمار إذا مر بالشوك أفسد عشه ، فإذا نهق بالقرب منه وقع بيضه ، وإن كان فيه فراخ خرجت منه ، فلهذه العلة يطير هذا العصفور حول الحمار وينقره . الغراب يعادي الثور والحمار وينقرهما .والحية تعادي الخنزير وابن عرس ، لأنهما يأكلان الحية حيث وجداها . الغداف مصادق للثعلب ، والثعلب مصادق للحية ، والسبب في عداوة العصفور للحمار أن معاش العصفور في بزر الشوك وفيه يبيض ، وهو وكره ، والحمار يرعى ذلك الشوك إذا كان رطباً . البقر يكون في الجبال إذا ضلت بقرة تبعتها الأخرى ، ولذلك الرعاة إذا لم يجدوا بقرة واحدة وعدموها طلبوا سائر البقر وفقدوها من ساعتهم . الخيل إذا ضلت الأنثى منها أو هلكت ولها ولد فإن إناث الخيل ترضعه وتربيه ، وذلك أن جنس الخيل في طباعها حب أولادها . الأيايل تلقي قرونها في أماكن عسرة صعبة ، لا ترتقى لئلا تؤخذ ؛ ولذلك قيل في المثل : حيث تلقي الأيايل قرونها ، فإذا ألقتها توقت أن تظهر إلى أن تنبت ، كأنه قد ألقت سلاحها . وقيل : إنه لم يعاين أحد القرن الأيسر من قرنيها ، لأن فيه منفعة عظيمة . وإذا وضعت أولادها أكلت مشائمها من ساعتها ، ولا يمكن أخذها لأنها تأكلها من قبل أن تقع على الأرض . والأيلة تصاد بالصفير والغناء ، ويفعل ذلك رجلان أحدهما يغني ويصفر ، والآخر يرشقها بالسهام ، فلإصغائها إلى الصفير والغناء لا تحذر السهام . ويقال إن الأيل إذا كانت أذناه قائمتين فهو يسمع كل شيء ولا يخفى عليه ما يراد به ، وإن كانتا مسترخيتين خفي ذلك عليه . الفهد إذا أكل العشبة التي تسمى خانقة الفهود يطلب زبل الإنسان فيأكله ويتعالج به . ابن عرس إذا قاتل الحيلة أكل السذاب مخالفة للحية . اللقالق إذا خرجت من قتال بعضها بعضاً تضع على الجرحصعتراً برياً . يقال إن ذكور العصافير تبقى سنة فقط ، والدليل على ذلك - أنها من قبل أطواقها التي في أعناقها - لا تظهر في الربيع ، بل بعد ذلك بأيام ، لأنها لا تبقي شيئاً من الذكور التي كانت من العام الماضي ، فأما إناثها فهي أطول أعماراً . إذا دنا الصياد من عش القبج تخرج الأنثى من بين يديه وتطعمه في صيدها حتى تهرب فراخها ، ثم تطير وتدعو فراخها إليها . وإناث القبج تبيض خمس عشرة بيضة ، والذكر منها يطلب موضع بيض أنثاه فيدحرجه - مخافة أن تقعد عليه وتشتغل عنه - فيفسده ، وهي تحتال أبداً في الهرب منه وتخفي موضع عشها ، فتبيض في أماكن خفية ، ومتى قصدها قامت عنه وأطعمت في نفسها حتى تبعد عن أماكن بيضها ، فإذا بعد طارت ثم احتالت في الرجوع إليه . الهدهد يعمل عشه من زبل الإنسان ، فلذلك رائحته كريهة . العقاب تصيد منذ حين الغداة إلى وقت الرواح ، فأما من أوان الرواح إلى أن يترحل النهار فهي قاعدة في مكانها لا تتحرك . ومنقار العقاب الأعلى ينشأ ويعظم ويتعفف حتى يكون ذلك سبب هلاكها لأنها لا تنال به الطعم ، فإذا فضلت للعقاب فضلةٌ من طعمه وضعها في عشه لحاجة فراخه إليها . أصناف الطير المتفقة المعقفة المخالب لا تجلس على الصخر إلا في الفرط ، لأن خشونة الصخر مخالفةٌ لتعقف مخالبها . النحل تعمل عشها في زمانين : في الربيع والخريف . والعسل الذي تعمله في الربيع أشد بياضاً وأجود من الذي تعمله في الخريف . وأضعف العسل يكون أبداً في أعلى الإناء ، والنقي الطيب في أسفله .الأسد عظامه جاسية جداً ، وإن دلكت بعض عظامه ببعض خرجت منها نار كما تخرج من الحجارة . الحيوان الذي له شعر في أشفار عينيه ليس في أشفار عينيه شعر إلا الشعر الأعلى . والنعامة لها أشفار في الجفنين الأعلى والأسفل . القنفذ تبيض خمس بيضات ، وليس بيضاً بالحقيقة ، بل هو على صورة البيض ، يشبه الشحم . قلب كل حيوان طرفه حاد ، وهو أصلب من سائر جسده ، وهو موضوع في وسط الصدر سوى الإنسان ، فإنه مائل فيه إلى الناحية اليسرى ، لأنه يكون بإزاء الجانب الأيسر فيعادل الناحية اليمنى ، فإن اليسرى من الإنسان أكثر برداً . وليس في قلوب جميع الحيوان عظم إلا في الخيل ، وفي جنس من البقر ، فإن في قلب هذين عظماً دون غيرهما من الحيوان . وكل حيوان له قلبٌ كبيرٌ يكون جزوعاً . الكلاب الهندية تتولد من كلب وسبع شبيه بالكلب . والحمار حيوان بارد ، ولذلك لا يكون الوحشي منها إلا في المكان البارد . ذكور البغال لا تشم أبوال إناثها كسائر ذوات الحافر . بيض الطير فيه لونان : بياض وصفرة . وبيض السمك فيه لون واحد . إذا كانت الريح جنوباً كان المولود أنثى ، لأن الجنوب إذا هبت رطبت وإذا أشملت كان المولود ذكراً .عيون جميع الصبيان ساعة ولادتهم شهل ، ثم تنتقل إلى الطباع الغالبة عليها . وعيون جميع الحيوان لون واحد ، كالبقر فإن عيونها سود . وعيون البشر ألوان كثيرة . صاحب العين الناتئة لا يبصر ما بعد عنه بصراً جيداً ، والغائرة تبصر ما بعد عنها ، لأن حركتها لا تتفرق ولا تتبدد . الفهد ربما نكح الدب فيتولد بينهما سبع مختلف المنظر ، لا يتناول الناس ويصيد الكلاب ، ويأكلها ويستخفي في البحر ، فإذا مر به أيلٌ مفاجأة وثب عليه وأنشب مخالبه في أكتافه ومص دمه حتى يضعف الأيل ويسقط فيجتمع عليه هذا الصنف من السباع فيأكله ، فإن اجتاز بها أسد نضهت عنه وتركت الفريسة له تقرباً إليه . بأرض يونان معزى جعدة الصوف ، يقال لها : المعزى البرية ، فإذا أصابت قرونها شيئاً من قضبان الكرم ولم ينبت ورقه ولا ثمره ، بل يجف مكانه ويسقط ما عليه من الورق والثمر . السلحفاة تخرج من البحر إلى الرمل فتبيض فيه ، حتى إذا بلغ أوانه وخرج أولادها ، فما كان ناظراً إلى ناحية البحر كان بحرياً ، وما كان وجهه إلى ناحية البر كان برياً . والسلاحف تمتنع من الذكران ، فيأتيها بعود يحمله في فمه ، ويدنو منها ، فإذا رأت ذلك العود سكنت له . وما كان من السلاحف بحرياً فخرج إلى البر وأصابه حر الشمس لم يستطع الرجوع إلى البحر وبقي حتى هلك . وما كان برياً فوقع إلى ناحية البحر تلف ولم يستطع الرجوع إلى البر وهلك . الثعلب يهيىء عشه ووكره ذا سبعة أحجرة ، فإذا طرقته الكلاب وغيرها ممايتخوف في جحر خرج من غيره . وإذا قارب الزرع أن يسنبل دخل الثعلب فيه وتمعك فرحاً به ، فيفسد ذلك الزرع ، ولذلك سمي احتراق الشعر : داء الثعلب ، لأنه يسقطه كما يذهب ورق السنبلة والشوكة . القنفذ يعمد إلى الكرمة فيحركها فيقع منها العنب ، فيتمرغ فيه حتى يملأ شوكه ويعود إلى عشه ، فإذا بصرت به جراؤه أطافت به تلتقط ذلك الحب من شوكه وتأكله . الذئب إذا هيىء من معاه وترٌ وهيىء من معي الشاة وتر ، ثم علقاً بآلات الملاهي ، ثم ضرب بهما ، صوت المعمول من الذئب ، وخرس الوتر المعمول من الشاة . وكل شاة يتناول الذئب من لحمها يكون لحمها حلواً لذيذاً ، وكل جزة صوف تهيأ من الشاة التي قد تناول الذئب منها قمل الثوب المعمول منها من قبل سم أسنانه . الكلب إذا مرض أكل حلفاء رطبةً . والأيل إذا مرض أكل حية . والضبع إذا مرض أكل كلباً . الأسد إذا أكل كلباً فإنه يكون قد ضرس فيزول ذلك . الرخمة إذا ضعف بصرها بقرت مرارة إنسان . الأعنز البرية تألف حيتاناً بحرية ، وتدع الجبال وتسلك طريقاً بعيداً حتى تأتي البحر لمكان تلك الحيتان ، فلما عرف ذلك الملاحون سلخوا جلود تلك الأعنز ،ودنوا بها من شاطىء البحر على ظهورهم ، فإذا نظرت تلك الحيتان إليها خرجت مسرعة إليها فيصيدها الملاحون . ليس من السباع شيء صلبه عظم واحد بلا خرز إلا الأسد والضبع . من ربط على بدنه سناً من أسنان الذئب يكون سريع الجري . المعزى البرية تكون صلبة القرون ، تأوي أطراف الجبال وما كان مشرفاً من الصخور على أودية ، فإن بصرت بالصياد ألقت أنفسها من تلك الصخور لتقيها بقرونها ، فإن سقطت على غيرها هلكت ، وفي قرونها خرزات مستديرات على قدر ما يكون عدد سنيها . والعجب أنها تحفظ إنائها عند الكبر وتتعهدها بالمطعم والمشرب تحمله على أفواهها . المعزى البرية إذا صيد شيء من سخالها تبعته ورضيت بالعبودية مع ولدها وفي أطراف قرونها جحرة تتنفس منها ، فإن سدت هلكت مكانها . الورشان يتحرز بأن يضع ورق الغار في عشه . والحدأة تضع في عشها ورق العليق تتحرز به . الخطاف يضع في عشه قضيب كرفس . التدرج يضع في عشه سرطاناً نهرياً .جميع السباع والدواب عند المشي تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى . لا تكون الزرافة إلا في أرض قليلة الماء . إذا هم أصحاب الخيل أن ينزو حماراً على فرس جزوا عرفها فتقر حينئذ وتذل لكدم الحمار لها . يبونان ثيران لها أربعة قرون لا ترضى بمجامعة البقر ، بل تجامع إناث الخيل ، ويتولد بينهما خيول عجيبة المنظر . الجاموس لا ينام أصلاً وإن أرخى عينيه إرخاء يسيراً ، لكنه ساهرٌ الليل والنهار . الجمل إذا وقع على الناقة وقع الضراب ستر عن الرجال ، فإن نظر إليه رجل غضب . قالت الروم : إن السنور يتولد من مجامعة الفهد لبعض السباع . لا ينام البوم إلا إغفاءة . ومن العجب أن السنور يكون صافي العين كثير البريق عند امتلاء الهلال وينقص ذلك الصفاء والبريق عند نقصان الهلال . الأفعى إذا جامعها الذكر واسمه الأفعوان تحولت إليه ، فإن ظفرت به أكلت رأسه من شدة عشقها له . ذكر العقرب اسمه عقربان ، أسود صغير ، سريع المشي ، جاد الذهاب الحرذون تفسيره بالعربية الذي يخرج من الزعفران . التمساح لا يكون إلا في النيل ونهرٍ بأرض الهند يقال له : الرسيس ويبيض كبيض الإوز ، وربما يولد منه حراذين صغار ، ثم يكبر حتى يبلغ طوله عشر أذرع ، ويزداد طولاًكلما ازدادت سنو حياته . وسنه اليسرى نافعة لحمى النافض . وذكر أنه يجامع ستين مرة في حركة واحدة ومحل واحد . الحمار الوحشي يتولد بين الفرس والفيل ، وله قرن ينبت من أنفه كأنه سيف ، وإن ضرب شجرةً قطعها وبه يقاتل الفيل ويبعج بطنه بقرنه ، ولم يعاين من هذا الجنس أنثى قط . في البحر حوت يقال له : البوس ، يتولد من الصاعقة إذا كانت في البحر وإن وضع ذلك الحوت بين اثنين فأكلا منه تحابا ولا يحقد أحد على صاحبه ، ويتآخيان أحسن الإخاء . كلب الماء أبدا ذنبه على ظهره واقع مع انطباق والتواء ، يرعى نبات الأرض ، وهو شديد الجزع من المنار ، فإذا كان الليل خرج الصيادون بأيديهم شعل النار ، فيأتون مجثمها ، وتلك لا تتحرك لجزعها من النار حتى تؤخذ ، وإن كان منها ذكر لم يجامع أنثى قط ، وإذا أرادت المجامعة فإنها تجتمع وتجلد فتفرخ . وإن أخذ صياد بشبكة واحداً وثبت كلها حتى تدخل الشبكة آبية فراق بعضها بعضاً . ومن لبس جورباً من جلودها وبه نقرس انتفع به جداً . وإذا ابتلي إنسان برعاف ثم أخذ قطعة من جلدها ، ثم انعقد في لبن واشتمه انقطع ذلك الرعاف . اليرابيع إذا اجتمعت في موضع ارتفع رئيس لها حتى يكون في موضع مشرف أو على صخرة أو تل ينظر منه إلى الطريق من كل ناحية ، فإن رأى أحداً مقبلاً أو سبعاً صر بأسنانه وصوت ، فإذا سمعته انصرفت عن الموضع إلى جحرتها فإذا أغفل ذلكوعاينت البقية سبعاً أو راجلاً قبل أن يراه ذلك الرئيس انصرفت إليه وقتلته لتضييعه أو غفلته . وإذا كان حسن الرصد مضت اليرابيع فقطعت أطرأ ما يكون من الخضرة وأطيب العشب فحملته بأفواهها حتى تأتيه تحية وتكرمة . وإذا كانت في جحرتها خرج الرئيس أولاً فيبصر الطريق ، فإن لم ير أحداً صر بأسنانه وصوت لها لتخرج فترعى . في البحر حوت يقال له : موفي ، ضعيف الجسد ، قليل القوة ، إذا جاع خرج إلى الشاطىء فاستلقى على الرمل فأقام شوكة في رأسه ، فإذا نظر إليه حوت آخر جاء مسرعاً ليأكله يظن أنه ميت ، فيدخل بطنه تلك الشوكة فيقتله بها ويأكله . وإذا ألقى الملاح صنارته ولقيت ذلك الحوت رمى مكانه بتلك الشوكة الحادة يد الملاح فتخدر ويطرح أداة صيده . فإذا رأى الحوت أن الصنارة داخلت أضلاعه غلبت الظلمة على بصره ومات من ساعته . وفي جلد هذا الحوت عجب ، وهو أن الصاعقة لا تدنو من جلده ، والملاحون يغطون سفنهم به عندما يتبينون الصواعق ووقوع المطر ، ويدنو هذا الحوت إلى طرف مقدم السفينة فيمسك بطرفه اللطيف ، فلو اجتمعت الرياح كلها بأشد هبوبها لم تستطع تحريك تلك السفينة ، فمن أخذ من جلدها وسمر به شراع السفينة لم يخف على سفينته غرقاً . السريع الحضر أربعة : النمر والحريش وعنز الجبل وكباشها . عدو الحيات أربع : القنفذ والفيل والأيل والعقعق .الجبان اثنان : الأرنب والأيل . ذو الزهو ثلاثة : الفرس والديك والطاوس . ذو حدة السمع ثلاثة : الذئب والحمار والخلد . القادر على التزاوج ثلاثة : العصفور والحمام والعقعق . ذو الشهوة ثلاثة : العصفور والثور والباشق . لمتحارس بالليل اثنان : الكركي والبط . نافى فراخه ثلاثة : النعام والغداف والعقاب . محب الظلمة ثلاثة : البوم والخفاش والخلد . ذو حدة البصر ثلاثة : العقاب والظبي والباشق . من أخذ لسان ضبع ومر به بين الكلاب لم تكلب عليه . من مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من أصول عنب الحية هربت منه . وعنب الحية هو الحنظل . وذكر الحباري يقال له : الخرب . إذا أراد إنسان أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها فإنها بعيانه وبين يديه أحدهما . من الحيوان ما لا يشبه الولد الوالد كالدببة والنحل والدبر . أما الدببة فتضع أولادها توائم لا صور لها حين تولد ، غير أن أمها تهيىء ، صورها ،وتسويها بلحسها إياها بألسنتها . . . . وأما الدبر فإنها تلد دوداً يتصور بعد ذلك . الضفادع والغيالم والسرطانات لا ضرر عليها في ماء ولا يبس ، لكنهما عندها سيان لا تهلك في بر ولا تخنق في بحر . كل ما أكل اللحم فهو ذو أسنان قواطع صلاب ، وأعناقٍ قصارٍ شداد ، ومخالب وأظفارٍ حداد ، ومناقير معقفةٍ جذابة . للأسد ثلاث طبائع : الأولى منها أنه إذا مشى فشم ريح الصيادين عفى على آثاره بذنبه لكيلا يتبعه الصيادون ويقفوا عليه في عرينه فيتصيدوه . والثانية أن اللبءة تلد شبلها ميتاً ، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث فينفخ فيم نخره فيبعثه . والثالثة أنه يفتح عينيه إذا نام وهما يقظتان . ومن تمسح بشحم كلى الأسد ومشى بين السباع لم يخفها ولم تقربه ؛ وإن افترس الأسد الفريسة ولم يأكلها ميز أن ريحها منتنة جداً . وأصناف الحيوان التي تلغ الدم بألسنتها : الكلاب والسنانير . الأسد : تضع أولادها غير منفتحة العيون ، وإنما تنفتح بعد ذلك . وأما الأسد خاصة فليس له من جنسه قرين ، ولا يرى شيئاً من السباع كفؤاً لهفيصحبه ، ولا يقرب شيئاً من بقايا فريسته بالأمس ولو جهده الجوع ويهر زئيره كثيراً من الحيوان الذي هو أعظم منه جسماً وقوة . وإنما تلد اللبوة واحداً ويخرق بطن أمه بأظفاره ويخرج منه . الثعلب إذا جاع فلم يقدر على صيدٍ عمد إلى أرض شديدة الحر وإلى موضع الطير إذا حمي ، فاستلقى على ظهره ونظر إلى فوق ، ثم اختلس نفسه وأخذ به داخلاص حتى ينتفخ انتفاخاً شديداً فيحسبه الطير قد مات ، فيقع عليه ليأكل منه كما يأكل الجيفة ، فإذا اجتمع الطير انتفض سريعاً وقبض على ما وجد فأكله ، لأنه ذو خبٍ ومكر ، كذلك طبيعته إن أصابه ضرر فأثر فيه آثاراً وكلم فيه كلوماً أخذ من صمغ شجرة تدعى قنطوريا فأبرأها به . القدر أهيأ الحيوان لقبول التعليم ، وهو لعوب غضوب سريع الحس ، لا يكون في بلد كثير السباع ، عدو لجميع الحيوان ، مليح الإهاب ، نهوشٌ خطوف ، إلا أنه إذا شبع نام في غارة ثلاثة أيام ، فإذا خرج صاح بصوت عالٍ تخرج منه رائحة طيبة ، فيجتمع إليه الحيوان لحسن صوته . ومن أراد ختله فليتمسح بشحم الضبع ويدخل عليه في غاره ، فإنه لا يمتنع ؛ خفيف الجرم ، حديد الشد يقظان . دابة يقال لها بالفارسية درباست إذا طلبهالقانص استلقى لظهره وأراه أنه لا خصية له ، كأنه قد علم ما يطلب منه . خلق الجبان من الحيوان الخائف سريع الحضر سريع الحركة ، وجعل الصنف الجريء العادي بطىء الحضر مبلداً . الضبع مخالفة لجميع أجناس الحيوان ، وذلك أنها تصير مرة ضبعاً ذكراً ومرة أنثى ، تلقح أحياناً كالذكر ، وتقبل اللقاح أحياناً كالأنثى . وطبيعتها أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة مشت على الآثار ووطئت ظله فوقع . ومن قتل ضبعاً وأخذ لسانها ومر بين الكلاب لم تكلب عليه ، ولم تعرض له . ومن مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من حنظل ، أسكتها عنه وهربت منه . القنفذ عدو الحيات ، إذا قبض على حية تركها تضطرب على شوكه حتى تموت ، فإذا ماتت قطعها قطعاً . الدب يقتل الثور ، والغالب عليه الانحجار في مغارته . الفيل ليس له شهوة السفاد ، فإذا أراد الولد أتى رياضاً وجناناً فيها اللقاح هو وإناثه فهيج له اللفاح برائحته وقوة حرارته شهوته فتسافدت ، فإذا ولدت ولدت قائمة ، لأن أوصالها ليست مواتيةً كأوصال التي تلد باركة ورابضة غير أنها تلد في الماءحذراً على دغفلها أن يموت إذا وقع على الأرض ، فلذلك تدخل ساحل البحر حتى يبلغ الماء بطنها فتضع ولدها على الماء كالفراش الوثير والذكر في ذلك يحرسها وولدها من الحية . ما أشد عداوة الفيل للحية ؛ حيثما أصاب الفيل الحية وطئها وقتلها . وإن هو سقط على جنبه لم يستطع القيام ، إنما نومه إذا اتكأ على شجرة . ومن هناك - لما عرف أهل تلك البلاد كيف نومه - يأتون الشجرة فينشرونها بالمنشار ، فإذا أتاها الفيل واتكأ عليها وقعا على الأرض معاً ، وحينئذ يشتد صياحه بصوت رفيع ، ويجتمع إليه لذلك فيلةٌ كثيرة تحاول معاونته على النهوض والانبعاث ، فلا تقدر على ذلك ، فتصيح جماعتها بصوت واحد جزعاً من ضعف حيلتها وعجزها حتى يأتي الفيل الذي هو في الجسم أصغر ، وفي الحيلة أكبر منها ، فيدخل مشفره تحت الفيل الساقط ، وتفعل كفعله جميعاً في إدخال مشافيرها تحته حتى تدعمه فينبعث ، وإنما كون رأس الفيل في عنق قصير ، وكون له بدل العنق الطويل المشفر الطويل ليكتفى به من الضيق ؛ وبه يتناول طعامه وشرابه . وخلقت قوائمه غير منفصلة ، لكنها كالأساطين المصمته والسواري الوثيقة لتحمل الكثير الثقيل ؛ وربطت بعراقيب صغارٍ غير منحنية ولا منثنية على الأوصال ، لكن عظامه مفرغة إفراغاً . تطول أعمارها إلى ثلاثمائة سنة ؛ غير أن الدرذان والبق تعلق بالفيلة فتؤذيها . السمندل : دابة لا تخاف النار ، لأنها لا تحرقها ، وإن دخلت أخدوداً متأججاً مضطرماً بالنار لم تحفل بذلك ، وصارت النار التي تبيد الأجسام مبعثاً لهذه الدابة المهينةالحقيرة ، تستلذ التقلب فيها استلذاذ القلب بالهواء البسيط وهبوب أرواحه الطيبة ؛ ونضارة جلدها وتنقيته بالنار ، فيزداد بالنار حسن لون . الأرنب من طباعها الجبن والخوف ، وهي كثيرة الولادة . الكلب ذو فحص واقتفاء للأثر ، وبشمه يسترشد ويهتدي ويستدل إذا شم المولى عرفه إن كان له أو لغيره . ومن طباعه الترضي والبصبصة والهشاشة لمن عرفه . ليس في الحيوان أشد حباً لصاحبه منه ، فإن أشار له على صيد وثب ناصباً رأسه رافعاً ذنبه مستعداً كالفارس البطل والشجاع النجد ، مع نشاطه في الطلب وهو يعلم أن الصيد ليس بحاضر ، لكن ذلك منه حسن طاعة . فأما حب بعض جراء الكلاب لبعض إذا كان أخاه لأم ولأب فمما قد عهد وشوهد ، وذلك أنه حيث كان يطرح لها الطعام في الوسط ، فلا يخطف واحد منها ذلك ، ولكنها تتعاطاه بينها بسكون وتمكين بعضها لبعض ، غير مستأثرة به ولا محاربة عليه . الفرس من طباعه الزهو والحرارة وشهوة الإناث للسفاد . وإن وطىء الفرس أثر وطء الذئب ارتعد وخرج الدخان من جسده كله . الذئب إذا رأى الإنسان مبطئاً خطوه وهو ساكنٌ سكت عنه ، فإن رآه خاف وجبن اجترأ وحمل عليه وكبسه . وليس كل ذئب يعدو ، ولكن هو الذي يكون ضارياً ؛ وفيه خلتان : إحداهما أن يكون منفرداً يمشي وحده ، والأخرى حدة سمعه ، إن خفي عليه مكان الغنم أتى مكاناً وعوى صوتين أو ثلاثة ، ثم سكت منصتاً لأصوات الكلاب التي مع الغنم ونباحها حين سمعتعواءه ، فإذا سمع نباح الكلاب شد مسرعاً نحوها ، قاصداً إليها ؛ فإذا قرب من الغنم مال إلى ناحية أخرى خالية من محرس الكلاب فاختطف ما أمكنه خطفه من الغنم . حمار الوحش إذا ولدت الأنثى الأولاد الذكور جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعها بأسنانه لكيلا تصاد أو تشاركه في طروقةٍ ، إلا أن الأنثى ربما وضعت ولدها في مكان غامضٍ حتى يشتد جسمه وتصلب حوافره ، ويقوى بالشد على النجاة من الفحل ، ولهذا السبب يقل منها الفحول . الحريش دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنةٌ جداً ، غير أن لها من قوة الجسم وسرعة الحضر ما يعجز القناص عنها ، ثم لها في وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم ، به تناطح جميع الحيوان فلا يغلبها شيء . احتل لصيدها بأن تعرض لها فتاةً عذراء وضيئةً ، فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع ، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة ، فإذا هي صارت في حجر الفتاة أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم ، فيأتيها القناص على تلك الحال فيشد من وثاقها على سكون منها بهذه الحيلة . الأيل عدو الحيات إن قربت منه حية فانجحرت في صدع صفا ملأ الأيل فاه من الغدير أو من حيث وجد فدفعه في ذلك الصدع ، ثم اجتذب الحية إليه بالقوة حتى يقتلها ، وإن كانت فوق أنزلها ، وكذلك إن كانت أسفل ، فإن كان جائعاً أكل ما أصاب منها ، وإن لم يكن به جوع قتلها وتركها فصارت الحيات ذوات السم الزعاف المميت لكل من أصابهأو خالط بدنه غذاء هذه الأيايل ، ويكون ملائماً لها لذيذاً عندها . وإن دخن البيت الذي فيه الحيات بدخان حريق قرن الأيل فرت منه كلها خوفاً . على أن الأيل نفسه جبانٌ شديد الرعب ، إذا أكل الحية بدأ بذنبها حتى ينتهي إلى رأسها ، ثم يقطعه بأسنانه ، وأكبر من ذلك أنه يتعلق برءوسها وتبقى في الهواء . وتكثر فيه المرة ويعطش عطشاً شديداً فيعوج إلى غدير الماء . الغزال ، يقال : ليس في الحيوان أبصر من الظباء ؛ ويقال لها باليونانية النظارة والمبصرة . الثور دابة عمولٌ كدودٌ مقدرٌ جسمه بقدر قوته . من طبيعته كثرة المنى وتوقد شهوة السفاد ، إن لم يخص لم يذلل للعمل ولم يسكن ولم يصح جسمه لأن الغلمة تحل جسمه وتنحله ، والخصاء يقطع ذلك كله . وبينه وبين الدب عداوةٌ شديدة . أعنز الجبل وكباشه وهي الأرواء والتياتل هذا جنس متمرد في الجبال سريع الحضر في الشواهق والتوقل فيها وطبيعتها أن تلد توائم . قد يوجد من البهائم ما لا يحمل ، فأما أنثى الخيل إذا كانت حاملاً فوطئت أثر الذئب بحافرها أجهضت حملها . الحمار في طبيعته معرفة صوت الإنسان الذي اعتاد استماعه وإيناسه ، لا يضل عن طريق سلكه مرة ولا يخطئه ، إذا ضل راكبه الطريق هداه وحمله على المحجة .وأما حدة السمع ، فليس في البهائم فيما يذكر أحداً سمعاً منه . اليامورة دابة وحشية نافرة ، لها قرنان طويلان ، كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر ؛ إذا عطشت وردت الفرات وعليه غياطل وغياض ملتفةٌ أشجارها تفرعت من أغصانها غصونٌ طوال دقاق مشبكة ، فإذا شربت ريها وأرادت الصدر اشتهت الاستتار والعدو بين تلك الأشجار ولحت هناك فعلق قرناها بتلك الغصون اللدنة المتينة ، وكلما عالجتها لتفلت ازدادت ارتباطاً فإذا ضجرت مما وقعت فيه عجت جزعاً ، وسمع القناص صوتها فأتوها فقتلوها . الجمل : حقود ، يرتصد من ضاربه الفرصة والخلوة لينتقم منه ؛ فإذا أصاب ذلك لم يستبق صاحبه ، فأما ظهره فذو سنام مقبب يكون لكثرة الحمل واحتمال الثقل ، وأوصال ركتبه وعراقيبه كبارٌ صلاب ، وأوتارها وعروقها متينة شديدة ، وعصبه وثيق لم يشتد بضغط التحام مفاصله واتصالها ولم يسترخ مطوياً ، لكنها هيئت على الاعتدال ليهون عليه بذلك البروك والنهوض بحمله ، مع تسهيل الارتقاء عليه في ذلك . البغال : نوعٌ هجين قد أنبئنا أنه لا يلد ، إلا أنه أهدى للطريق للناس وأثبت حفظاً . الثيران وكل ذي قرن لا يأخذه الفواق . وأما سباع الطير وآكلات اللحم منها فصلاب الأظفار ، حجن المناقير ذات حدة وقوة ، قوية الأجنحة .والنواهض التي فيها القوادم أكثر طيراً . الديك صلف في طبيعته ، غير أن له مع ذلك إيقاظاً للنائم بصياحه في آناء الليل ، والتبشير بإقبال الصبح وطلوع الشمس ، يؤنس السيارات في السفر بصياحه في الليل ، ويحرضهم على السير ، مع إيقاظه الفلاحين لعملهم ، والصناع لصناعتهم ، وإذا سمع المرضى صوته داخلهم من ذلك روحٌ وخفة من مرضهم . الطاوس يحب الزينة ، غير عفيف الطبيعة ، يدعوه زهوه وحرصه على التزين إلى نشر ذنبه وعقده كالطاق لتراه الأنثى بحسن زينته . الكراكي تتحارس بالليل ؛ ويجعل الحارس منها يتردد في المحلة ويهتف بصوت يسمع محذراً ، فإذا قضى نوبته استراح وأعقبه الذي كان مستريحاً نائباً عنه حتى تقضي كلها ما يلزمها من الحراسة ، فإذا طارت لم تطر متقطعةً ، لكنها تطير نسقاً غير مشتتة ، يقدمها واحد منها كالرأس والهادي لها حتى تتلوه كلها لازمةً صفها ، ثم يعقبه بعده آخر متقدم حتى يصير المتقدم الأول متأخراً في آخرها ، وتقتسم كرامة المتقدم كلها بالسوية ؛ وفيها ما يبعد سفره وينتقل عن مصيفه إذا هجم الشتاء . البط له يقظة حارسة تدل على حدة حسه . الجراد معروف الحال . العقاب تطلب عين الماء ، فإذا أصابتها تحلق طائرةً إلى حر الشمس وهو موضع دورانها فيحترق ريشها وما كان من جناح ، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة وتذهب ظلمة عينيها .وأما الطريح فيتقيض الله له طائراً يقال له : قاس فيضمه إليه ولا يدعه يهلك ، ولكنه يقويه ويربيه مع أفراخه . وأجنحة العقبان مفصلة شبه ريشها . وبصرها قوي بعيد تحت الشعاع المستنير . ويقال : إنها أبصر الطير . الحجل يأتي أعشاش نظرائه فيسرق بيضها ثم يحضنها ، فإذا تحركت الفراخ وطارت لحقت بأمهاتها . البوم مأواه ومحله الخراب ، يوافقه الليل ، لأنه بالليل بصير وبالنهار كليل ، مع حبه التوحد والخلوة بنفسه ، وبينه وبين الغربان عداوة ما تنقضي . النسر يتخذ وكره في المكان العالي المرتفع ، وعليه يقع وفيه ينام كالراصد ، إما في ذروة الجبل أو في وسطه من شظاياه وثناياه وموضع المنعة . وإذا حملت زوجته مضى إلى الهند فأخذ من هناك حجراً كهيئة الجوزة إذا حرك سمع به صوت حجرٍ آخر - يتحرك في وسطه - كصوت الجرس ، فإن عسرت على زوجته الولادة جعلت ذلك الحجر تحتها وعلت عليه فيذهب عنها العسر . قال : ورأيت مرة أنثى من جنس الطير مات زوجها فامتنعت من الطعام والنوم ليالي كثيرة صارت فيها كالنائحة الباكية على زوجها بتنفس الصعداء وزفرات الحزن لا تلقط أياماً متتابعة شيئاً . البزاة من طبيعتها أن تداوي أنفسها وفراخها فلا تموت ، لأنها تستعمل في بعض المرض والداء نبتةً تعرفها وتعرف طبها . . . ومنه ما ينقصويزيد . النعام : لا يعول أفراخه إلا أياماً يسيرة ، ثم يدحضها ويطردها من عنده إنكاراً لها . الغداف لا يبيض ولا يفرخ من سفاد ، فإذا أفرخت أنثاه فراخاً لم يزقها ولم يطعمها ، إلا أن البق والبعوض يقع عليها لزهومتها ونتن لحمها ، فتفتح أفواهها وتبلع ما دخل فيها من ذلك البق ، فهو يمسكها ويقويها . أنحاء طيران الطير مختلفةٌ كاختلاف الطير ، بعضها يطير قريباً من الأرض كالبط وما أشبهه ، وبعضها يرتفع ، غير أنه لا يبعد ، كالحمام والغربان ، وبعضها يحلق تحليقاً ، كالعقاب والصقور والأجادل والبزاة . وما كان من الطير بدنه أعظم من جناحه فهو قريب الطيران من الأرض ، لسرعة إحناء أجنحته واضطراره إلى الوقوع على الأرض . البيضاني والأبغث : هذا طائر يحب ولده ، فإذا تحركت فراخه ودرجت ضربت وجهه بأجنحتها فيدعوه المحك والغضب المطبوعان فيه إلى قتلها ، فإذا ماتت اكتأب عليها الأبوان وأقاما عليها شبه المأتم ثلاثة أيام ، ثم إن الأم في اليوم الثالث تشق جنبها حتى يقطر دمها على تلك الفراخ ، فيصير ذلك نشوراً لها بعد موتها . مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها وهي طعامه ؛ لا يحسن السباحة ، فإنأخطأه انتشالٌ فجاع طرح نفسه على شاطىء النهر في بعض ضحضاحه ، فإذا اجتمعت إليه السمك الصغار لتأكله أسرع لأكل ما يؤكل منه . من الطير ما يلقح من هبوب الريح ، لا يحتاج إلى تزاوج ولا إلى سفاد . والخفاش له خصيتان كخصي الحيوان ، وله أربع قوائم وأسنان حداد كأسنان ذوات الأربع ، يرضع ولده من اللبن إرضاعاً ، وجلده أملس . العقعق لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به ، ولكنه يهيىء وكره في الواضع المشرفة العالية والعراء الكاشف وجه الهواء الفسيح ؛ وطبيعته الزنا وخيانة الزوج ، فإذا باضت الأنثى بيضها حضنته بورق الدلب وغطته كيلا يقربه الخفاش ، فإن مسه مرق البيض من ساعته وفسد . النحل يلد من غير لقاح الذكور . الحية إذا هرمت وكل بصرها واسترخى جلدها دخلت في صدع صفاة ضيق أو جحر ضاغط يعسر عليها النفوذ فيه حتى ينسلخ عنها جلدها فتأتي عين الماء فتنغمس فيها حتى يقوى لحمها وينعصب ، فإذا هي فعلت ذلك عادت شابة كما كانت . فإذا أرادتأن تضىء عينها أكلت الرازيانج الرطب فاشتفت عيناها واحتد بصرها ، وإن ضربت ضربة بقصبة استرخت فلم تستطع الفرار ، فإن ثنيتها وثبت وسعت هاربة . إن أنقع الحسك في الماء ثم نضح ذلك الماء بين يدي جحر الحية فرت من هناك . وإن وضع في جحرها أص حمصٍ رطب فرت أيضاً . وإن رأت الحية إنساناً عرياناً استحيت منه ولم تقربه . وإن رأته كاسياً حملت عليه بجرأة شديدة ؛ وما أشد طلبها لثأرها ؛ وإنشدخ رأسها ماتت من ساعتها . السمسمة ، وهي حية حمراء براقة ، إذا كبرت وأصابها وجع العين وكمدت التمست حائطاً مقابل المشرق ، فإذا تبدت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة فإذا دخل شعاع الشمس عينها كشط عنها العمى والإظلام ، ولا تزال تفعل ذلك سبعة أيام حتى يتجدد بصرها تماماً . الأفعى تزاوج دابةً بحريةً ، تأتي الأفعى شفير البحر فتصوت ، وصوتها مهيجٌ لتلك الدابة البحرية . من أحرق عقرباً طرد برائحة حريقها عقارب ذلك البيت . فأما حمة العقرب فهي جوفاء كهيئة المزمار معقفة الرأس مكونة اللدغ ، فإذا ضربت شيئاً تحركت فخرج سمها وجرى في حمتها وسرى في الملدوغ . الإناث من بنات عرسٍ إنما تلقح من أفواهها وتلد من آذانها . من عادة هذا الجنس أن يسرق ما وجد من حلي الذهب والفضة ، ويخبؤه في جحرته ، فإن وجد أيضاً في ابيت حبوباً خلط بعضها ببعض ، كأن عمله عمل الطباخين في خلط التوابل . الفار الفارسي أطيب ريحاً من كل طيب . وإن أخذ إنسان جرذاً فربطه في بيت فرت منه الجرذان كلها . وإن وضع في جحر الجرذ البري ورق الدفلى ماتت الجرذان . الدودة الهندية هي دودة القز ، لها في رأسها قرنان ، ثم تتحول بيضة ثم تتصور في هيئة أخرى ، ذات جناحين عريضين منتصبين ، وصناعتها دمقس الحرير .النمل عمول مواظب ، فإذا جمع الحب قطعه كيلا ينبت إذا أصابه الندى والبلة ، ويخرجه ويبسطه عند فم الجحر ، فإذا يبس أدخله . ومن جرب طبائع النمل فليدق الكبريت والحبق ويذرهما في جحرته ولا يولد من تزاوج ، ولكنه يخرج منه شيء قليل صغير فيقع في الأرض فيصير بيضاً ، ثم يتصور من البيض بالهيئة التي تُرى ، وإذا شمت الورد موتت وأجنحتها مدمجةٌ لاصقةٌ بها . البق والبعوض لا نتاج لهما ، وإنما تنجل من عفن الماء ووسخه ونتنه . ومن وضع غصن العنب في موضعٍ تحت سريره لم يقربه بق ولا بعوض . ومن أراد ألا يتأذى بالبراغيث فليحفر في وسط البيت حفرة ويملأها دم تيس فإن البراغيث تجتمع هناك . وإن وضع في الحفرة ورق دفلى مات البراغيث . الخلد غير ذي عينين ، دائم الحفر في غير نفع ؛ وطعامه من أصول النبت وعروقه الذاهبة في الأرض ، فهو يصيب ذلك في خلال حفره . يقال : إن في بلد كذا نهراً ماؤه في البحر منحدراً إليه على حال طبيعته ست ساعات ، وفي الست الثانية يحتبس ماؤه في ينبوعه ويرى جوفه ناضباً قد يبس . ونهراً آخر يجري في كل سبع سنين نهر كبريت ، ولا يكون فيه سمك ، لأن ماءه يتغير في كل يوم ثلاث مرات ، وينبعث منه شبه ثور ليس له رأس . وأهل الشام إذا أرادوا أخذه ألقوه في سفينة ، ولا يستطيعون قطعه بفأس ولا كسره بحجر ، إنما يؤتى بالماء المنتن ودم الحيض فيخلطان جميعاً ثم ينضحان عليه ، فإذا وقعاعليه تحلل وتكتل كتلاً صغاراً ، وتستعمل في أشياء ينتفع بها . عين النار تنبع منها نارٌ تضيء بالليل للسيارات فلا تطفأ ولا تحتاج إلى شيء يمسكها ، لكنها محفوظة بالحجارة ؛ إن حمل إنسانٌ منها شعلة قبسٍ إلى موضع لم توقد . البحر الميت يقال له ذلك لأنه يموت فيه كل حي . السرطان ينسلخ جلده في السنة سبع مرات ، ويتخذ بجحره بابين : أحدهما شارعٌ إلى الماء ، والآخر إلى اليبس ؛ وإذا سلخ جلده سد عليه الشارع إلى الماء لكيلا يدخل السمك فيأكله ؛ إلا أنه يدع الذي إلى اليبس مفتوحاً فتصيبه الريح وما ينفع لحمه ويعصمه ، فإذا اشتد لحمه وعاد إلى حاله فتح ذلك المسدود وسلك في الماء وطلب طعمه وما يقيم حياته . الزامور حوت صغير الجسم إلفٌ لأصوات الناس ، مستأنسٌ باستماعها ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات الناس ، فإذا رأى الحوت الأعظم يريد الاحتكاك بها وكسرها ، وثب الزامور ودخل أذنه ، فلا يزال زامراً فيها حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب خزفاً أو صخرة ، فإذا أصاب ذلك لا يزال يضرب به رأسه حتى يموت . وركاب السفينة يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ، ليدوم إلفه لهم وصحبته لسفينته ، ويسلموا به من ضرر السمك العادي . وإذا ألقوا شبكةً ليصطادوا السمك فوقع فيها الزاموار خلوه حياً وأخذوه وأعتقوا لكرامته أصناف السمك الواقع في الشبكة أحياءً . وإني قرأت هذا الفصل على الوزير - كبت الله كل شانىء له - في ليلتين ، فتعجب وقال : ما أوسع رحمة الله ؛ وما أكثر جند الله ؛ وما أغرب صنع الله . قلت : نعم ؛
===========
ج2. كتاب : الإمتاع والمؤانسة أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي
وما أغفل الإنسان عن حق الله الذي له هذا الملك المبسوط ، وهذا الفلك المربوط ؛ وهذه العجائب التي تصعد فوق العقول التامة بالاعتبار والاختبار بعد الاختبار ؛ وإنما بث الله تعالى هذا الخلق في عالمه على هذه الأخلاق المختلفة والخلق المتباينة ، ليكون للإنسان المشرف بالعقل طريقٌ إلى تعرف خالقها ، وبيانٌ لصحة توحيده له بما يشهد من أعاجيبها ، ونيلٌ لرضوانه بما يتزود من عبره التي يجد فيها ، وليكون له موقظٌ منها ، وداعٍ حادٍ إلى طاعة من أبداها وأبرزها ، وخلطها وأفردها . فقال : قد كنت قلت : إنه يجري كلامٌ في النفس منذ ليالٍ ، فهل لك في ذلك ؟ . قلت : أشد الميل وأوحاه ، لكن بشرط أن أحكي ما عندي ، وأروي ما حصلت من هذه العصابة بسماعي وسؤالي . فقال : نستأنف الخوض في ذلك - إن شاء الله - فإن النعسة قد حدثت العين ، فأنا كما قال : قد جعل النعاس يغر نديني . . . أدفعه عني ويسر نديني أنشدني أبياتاً ودعني بها ، ولتكن من سراة نجد ، ليشتم منها ريح الشيخ والقيصوم . فأنشدته لأعرابي قديم : مطرنا فلما أن روينا تهادرت . . . شقاشق منها رائبٌ وحليبورامت رجالٌ من رجالٍ ظلامةً . . . وعادت ذحولٌ بيننا وذنوب ونصت ركابٌ للصبا فتروحت . . . لهن بما هاج الحبيب حبيب وطئن فناء الحي حتى كأنه . . . رجا منهلٍ من كرهن نخيب بنى عمنا لا تعجلوا ينضب الثرى . . . غليلاً ويشفى المسرفين طبيب فلو قد تولى النبت وامتيرت القرى . . . وحثت ركاب الحي حين تؤوب وصار عيوف الخود وهي كريمةٌعلى أهلها ذو جدتين قشيب وصار الذي في أنفه خنزوانةٌ . . . ينادي إلى داعي الردى فيجيب أولئك أيامٌ تبين ما الفتى . . . أكابٍ سكيتٌ أم أشم نجيب فعجب وقال : هذا جنى غرسٍ قد جذ أصله ، ونزيح قليبٍ قد غار مده وجزره ، وانصرفت .الليلة الثالثة عشرة
فلما حضرت ليلةً أخرى قال : هات . قلت : إن الكلام في النفس صعب ، والباحثون عن غيبها وشهادتها وأثرها وتأثرها في أطراف متناوحة وللنظر فيهم مجال ، وللوهم عليهم سلطان ، وكل قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه ، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه ، والرأي بعد ذلك إلى العقل الناصح والبرهان الواضح . قال بعض الفلاسفة : إذا تصفحنا أمر النفس لحظناها تفعل بذاتها من غير حاجة إلى البدن ، لأن الإنسان إذا تصور بالعقل شيئاً فإنه لا يتصوره بآلة كما يتصور الألوان بالعين والروائح بالأنف ، فإن الجزء الذي فيه النفس من البدن لا يسخن ولا يبرد ولا يستحيل من جهة إلى أخرى عند تصوره بالعقل ، فيظن الظان منا أن النفس لا تفعل بالبدن ، لأن هذه الأمور ليست بجسم ولا أعراض جسمية . وقد تعرف النفس أيضاً الآن من الزمان والوحدة واليقظة ، وليس لأحد أن يقول : إن النفس تعرف هذه الأشياء بحس من الإحساس ، ففعل النفسي إذن يفارق البدن ، وتأليف البرهان أن يكون على أن يقال : للنفس أفعال تخصها خلوٌ من البدن ، مثل التصور بالعقل ، وكل ما له فعل يخصه دون البدن فإنه لا يفسد بفساد البدن عند المفارقة . وقال أيضاً : وجدنا الناس متفقين على أن النفس لا تموت ، وذلك أنهم يتصدقون عن موتاهم ، فلولا أنهم يتصورون أن النفس لا تموت ، ولكنها تنتقل من حال إلى أخرى إما إلى خير وإما إلى شر ؛ ما كانوا يستغفرون لهم ، وما كانوا يتصدقون على موتاهم ويزورونقبورهم . وقال أيضاً : النفس لا تموت ، لأنها أشبه بالأمر الإلهي من البدن ، إذ كان يدبر البدن ويرأسه . والله جل وعز المدبر لجميع الأشياء ، والرئيس لها . والبدن أشبه شيء بالشيء الميت من النفس إذ كان البدن إنما يحيا بالنفس . وقال أيضاً : النفس قابلة للأضداد ، فهي جوهر ، فالفائدة أن النفس جوهر . وقال : النفس ليست بهيولى ، فلو كانت هيولى لكانت قابلةً للعظم ، فليست النفس إذاً بهيولى . وقال : ليست النفس بجسم ، لأن النفس نافذة في جميع أجزاء الجسم الذي له نفس ، والجسم لا ينفذ في جميع أجزاء الجسم ؛ ولا هيولى ، لأن النفس لو كانت هيولى لكانت قابلة للمقادير والعظم ، وفائدة هذا أن النفس جوهر على طريق الضرورة . وقال آخر : حركة كل متحرك تنقسم قسمين : أحدهما من داخل ، وهو قسمان : قسم كالطبيعة التي لا تسكن البتة ، كحركة النار ما دامت ناراً ، وقسمٌ هو كحركة النفس تهيج أحياناً وتسكن أحياناً ، وكحركة جسد الإنسان التي تسكن إذا خرجت نفسه وصار جيفة . والقسم الآخر من خارج ، وهو قسمان : أحدهما يدفع دفعاً كما يدفع السهم ويطلق عن القوس ، والآخر يجر جراً كما تجر العجلة والجيفة . وقال : فنقول : ليس يخفى أن جسدنا ليس مدفوعاً دفعاً ولا مجروراً جراً ولما كان كل مدفوع أو مجرور متحرك من خارج متحركاً لا محالة من داخل ، فالجسد إذن متحرك من داخل اضطراراً . وقال : إن كان جسدنا متحركاً من داخل ، وكان كل متحرك من داخل إما متحركاً حركةً طبيعية لا تسكن ، وإما نفسية تسكن .فليس يخفى أن حركة جسد الإنسان ليست بدائمة لا تسكن ، بل ساكنة لا تدوم ، وكانت حركة كل ما سكنت حركته فلم تدم ليست حركةً طبيعية لا تسكن ، بل نفسيةً من قبل نفسٍ تحركه وتحسسه . بوقال : إن كانت النفس هي التي تحيي الإنسان وتحركه ، وكان كل محرك يحرك غيره حياً قائماً موجوداً ، فالنفس إذاً حيةٌ قائمة موجودة . وقال أيضاً : النفس جوهر لا عرض ، وحد الجوهر أنه قابل للأضداد من غير تغير ، وهذا لازم للنفس ، لأنها تقبل العلم والجهل ، والبر والفجور ، والشجاعة والجبن ، والعفة وضدها ، وهذه أشياء أضدادٌ ، من غير أن تتغير في ذاتها ، فإذا كانت النفس قابلةً لحد الجوهر ، وكان كل قابل لحد الجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر . وقال : قد استبان أن النفس هي المحيية المحركة للجسد الذي هو الجوهر ولما كان كل محيٍ حركٍ للجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر . وقال : لا سبيل أن يكون المحيا المحرك جوهراً ويكون المحيي المحرك غير جوهر ، فإذا كانت هي المحيية المحركة للجسد ، وكان لا يمكن أن يكون المحيي المحرك للموجود غير موجود ، فالنفس إذاً لا يمكن أن تكون غير موجودة . وقال : إن كانت النفس بها قوى وحياة الجسد ، فيمتنع أن يكون قوامها بالجسد ، بل بذاتها التي قامت بها حياة الجسد . وقال : إن كانت النفس قائمة بذاتها التي قامت بها حياة الجسد ، فما كان قائماً بذاته فهو جوهر ، فالنفس إذا جوهر . وقد أملى علينا أبو سليمان كلاماً في حديث النفس هذا موضعه ، ولا عذر في الإمساك عن ذكره ليكون مضموماً إلى غيره ، وإن كان كل هذا لم يجر على وجهه بحضرة الوزير - أبقاه الله ومد في عمره - لكن الخوض في الشيء بالقلم مخالفٌ للإفاضة باللسان ، لأن القلم أطول عناناً من اللسان ، وإفضاء اللسان أحرج منإفضاء القلم ، والغرض كله الإزادة ، فليس يكثير الطويل . قال : ينبغي أن نعرف باليقظة التامة أن فينا شيئاً ليس بجسم له مدات ثلاث : أعني الطول والعرض والسمك ، ولا يجزأ من جسم ولا عرض من الأعراض ، ولا حاجة به إلى قوة جسمية ، لكنه جوهر مبسوط غير مدرك بحس من الإحساس . ولما وجدنا فينا شيئاً غير الجسم وضد أجزائه بحدته وخاصته ، ورأينا له أحوالاً تباين أحوال الجسم حتى لا تشارك في شيء منها وكذلك وجدنا مباينته للأعراض ، ثم رأينا منه هذه المباينة للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجساماً والأعراض أعراضاً ؛ قضينا أن ها هنا شيئاً ليس بجسم ولا جزء من الجسم ، ولا هو عرض ، ولذلك لا يقبل التغير ولا الحيلولة ، ووجدنا هذا الشيء أيضاً يطلع على جميع الأشياء بالسواء ولا يناله فتور ولا ملال ، ويتضح هذا بشيء أقوله : كل جسم له صورة فإنه لا يقبل صورةً أخرى من جنس صورته الأولى البتة إلا بعد مفارقته الصورة الأولى ، مثال ذلك أن الجسم إذا قبل صورةً أو شكلاً كالتثليث ، فليس يقبل شكلاً آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول . وكذلك إذا قبل نقشاً أو مثالاً فهذا حاله ، وإن بقي فيه من رسم الصورة الأولى شيء لا يقبل الصورة الأخرى على النظم الصحيح ، بل تنقش فيه الصورتان ، ولا تتم واحدة منهما ، وهذا يطرد في الشمع وفي الفضة وغيرها إذا قبل صورة نقشٍ في الخاتم ؛ ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز ، وهذه الخاصة ضدٌ لخاصة الجسم ، ولهذا يزداد الإنسان بصيرةً كلما نظر وبحث وارتأى وكشف . ويتضح أيضاً عن كثب أن النفس ليست بعرض ، لأن العرض لا يوجد إلا في غيره ، فهو محمول لا حامل وليس هو قواماً ، وهذا الجوهر الموصوف بهذه الصفات هو الحامل لما لها أن تحمل ، وليس له شبه من الجسم ولا من العرض .وكان يقول : إذا صدق النظر ، وكان الناظر عارياً من الهوى ، وصح طلبه للحق بالعشق الغالب ، فإنه لا يخفى عليه الفرق بين النفس المحركة للبدن ، وبين البدن المتحرك بالنفس . قال : ولما عرضت الشبهة لقوم قصر نظرهم ، ولم يكن لهم لحظ ولا اطلاع فظنوا أن الرباط الذي بين النفس والبدن إذا انحل فقد بطلا جميعاً . وهذا ظن فيه عسف ، لأنهما لم يكونا في حال الارتباط على شكل واحد وصورةٍ واحدة ، أعني أنهما تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما . ألا ترى أن البدن كان قوامه ونظامه وتمامه بالنفس ؟ هذا ظاهر . وليس هذا حكم النفس في شأنها مع البدن ، لأ ، ها واصلته في الأول عند مسقط النطفة ، فما زالت تربيه وتغذيه وتحييه وتسويه حتى بلغ البدن إلى ما ترى ، ووجد الإنسان بها ، لأن النفس وحدها ليست بإنسان ، والبدن وحده ليس بإنسان ، بل الإنسان بهما إنسان ، فإذاً الإنسان نصيبه من النفس أكثر من نصيبه من البدن . وهذه الكثرة توجد في الأول من ناحية شرف النفس في جوهرها ، وتوجد في الثاني من جهة صاحب النفس الذي هو الإنسان بما يستفيده من المعارف الصحيحة ، ويضمه إلى الأفعال الواجبة الصالحة ، فأمر المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحق باليقين الخالص ، وأمر الأفعال الواجبة الصالحة العبادة له والرضوان عنه . وغاية المعرفة الاتصال بالمعروف ، وغاية الأفعال الواجبة الفوز بالنعيم والخلود في جوار الله ، وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إلى الجواز عليه كل من رجع إلى بصيرة وآوى إلى حسن سيرة . فأما من هو عن هذا كله عمٍ وعما يجب عليه ساهٍ ، فهو في قطيع النعم ، وإن كان متقلباً في أصناف النعم .وكان يقول كثيراً : الناس أصناف في عقولهم : فصنفٌ عقولهم مغمورة بشهواتهم ، فهم لا يبصرون بها إلا حظوظهم المعجلة ، فلذلك يكدون في طلبها ونيلها ، ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر . وصنف عقولهم منتبهة ، لكنها مخلوطة بسبات الجهل ، فهم يحرضون على الخير واكتسابه ، ويخطئون كثيراً ، وذلك أنهم لم يكملوا في جبلتهم الأولى وهذا نعتٌ موجود في العباد الجهلة والعلماء الفجرة ، كما أن النعت الأول موجودٌ في طالبي الدنيا بكل حيلة ومحالة . وصنفٌ عقولهم ذكيةٌ ملتهبة ، لكنها عمية عن الآجلة ، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة والوصايا اللطيفة والسمعة الربانية ، وهذا نعت موجود في العلماء الذين لم تثلج صدورهم بالعلم ، ولا حق عندهم الحق اليقين ؛ وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون في طلبها السيوف الحداد ، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشداد فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذة وفي طلب الراحة . وصنف عقولهم مضيئة بما فاء عليها من عند الله تعالى باللطف الخفي ، والاصطفاء السني ، والاجتنباء الزكي ، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة ؛ فتراهم حضوراً وهم غيب ، واشياعاً وهم متباينون . وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة ، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ . وهذا كما تقول : الملوك ساسةٌ ، ولكل واحد منهم خاصة ؛ وكما يقولون : هؤلاء شعراء ولكل واحد منهم بحر ؛ وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب وكما تقول : علماء ، ولكل واحد منهم مذهب .وعلى هذا أبو سليمان - حفظه الله - إذا أخذ في هذا الطريق أطرب ، لسعة صدره بالحكمة ، وفيض صوابه من المعرفة ، وصحة طبيعته بالفطرة . وقال : إنا بعد هذا المجلس تركنا صنفاً لم نرسمه بالذكر ، ولم نعرض له بالاستيفاء ، وهم الهمج الرعاع الذين إن قلت : لا عقول لهم كنت صادقاً ، وإن قلت : لهم أشياء شبيهة بالعقول كنت صادقاً ؛ إلا أنهم في العدد ، من جهة النسبة العنصرية والجبلة الطينية والفطرة الإنسية ، وفي كونهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها : ولذلك قال بعض الحكماء : لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق ويشهدون السوق . فضحك - أضحك الله ثغره ، وأطال عمره ، وأصلح شأنه وأمره - فقال : قد جرى في حديث النفس أكثر مما كان في النفس ، وفيه بلاغ إلى وقت ، وأظن الليل قد تمطى بصلبه ، وناء بكلكله ؛ وانصرفت .
الليلة الرابعة عشرة
ومر بعد ذلك في عرض السمر : ما تقلد امرؤ قلادةً أفضل من سكينة . فقال : ذكرتني شيئاً كنت مهتماً به قديماً ، والآن قرعت إلى بابه ؛ ما السكينة ؟ فإني أرى أصحابنا يرددون هذا الاسم ولا يبسطون القول فيه . فكان من الجواب : سألت أبا سليمان عن السكينة ما هي ؟ فقال : السكائن كثيرة : طبيعية ، ونفسية وعقلية ، وإلهية . ومجموعة من هذه بأنصباء مختلفة ، ومقادير متفاوتة ومتباعدة . والسكينة الطبيعية اعتدال المزاج بتصالح الأسطقسات ، تحدث به لصاحبه شارةٌ تسمى الوقار ، ويكون للعقل فيها أثر باد ، وهو زينةالرواء المقبول . والسكينة النفسية مماثلة الروية للبديهة ، ومواطأة البديهة للروية ، وقصد الغاية بالهيئة المتناسبة ، يحدث بها لصاحبها سمتٌ ظاهر ورنو دائم وإطراقق لا وجوم معه ، وغيبة لا غفلة معها ، وشهامة لا طيش فيها . والسكينة العقلية حسن قبول الاستفاضة بنسبة تامة إلى الإفاضة ؛ ومعنى هذا أن القابل مستغرق بقوة المقبول منه ، وبهذه الحال يحدث لصاحبها هدى يشتمل على وزن الفكر في طلب الحق مع سكون الأطراف في أنواع الحركات . والسكينة الإلهية لا عبارة عنها على التحديد ، لأنها كالحلم في الانتباه وكالإشارة في الحلم ، وليست حلماً ولا انتباهاً في الحقيقة ، لأن هذين نعتان محمودان في عالم السيلان والتبدل ، جاريان على التخيل والتجوز بزوائد لا ثبات لها ونواقص لا مبالاة بها ، روحانية في روحانية ، كما يقال : هذا صفو هذا ؛ وهذا صفو الصفو ومن لحظ هذه الكيفية وبوشر صدره بهذه الحقيقة استغنى عن رسوم محددة بألفٍ ولام ، وحقائق مكنونة في عرض الكلام ؛ وإذا جهلنا أشياء هي لأهل الأنس بلغات قد فطروا عليها ، وعبارات أنسوا بها ، كيف نجد السبيل إلى الإفصاح والإشارة إليها . فهذا باب واضح ، والطمع في نيله نازح ؛ وإذا كان المنال صعباً في الموضع الذي عمدنا إليه ، فكيف يكون حالنا في البحث عما في حيز الألوهية وبحبوحة الربوبية ، ولا كون هناك ولا ما نسبته للكون ؛ وأقوى ما في أيدينا أن نتعلل بالوجود ، فالموجود والوجدان والجود ، وهذه كلها غليظة بالإضافة إلينا وفوق الدقيقة بالإضافة إلى أعيانها .فعلى هذا ، الصمت أوجد للمراد من النطق ، والتسليم أظفر بالبغية من البحث . قال البخاري : فشيء كهذا بدقيقه وإشكاله ، وغموضه وخفائه ، كيف يظهر على جبلة بشري وبنية طينية وكمية مادية وكيفية عنصرية ؟ . فقال : يا هذا ، إنما يشع من هذه السكينة على قدر ما استودع صاحبها من نور العقل ، وقبس النفس ، وهبة الطبيعة ، وصحة المزاج ، وحسن الاختيار واعتدال الأفعال ، وصلاح العادة ، وصحة الفكرة ، وصواب القول ، وطهارة السر ومساواته للعلانية ، وغلبته بالتوحد ، وانتظام كل صادر منه ووارد عليه . وها هنا تمحى الجبلة البشرية ، وتتبدد الجبلة الطينية ، وتبيد الكمية المادية وتعفو الكيفية العنصرية ، ويكون السلطان والولاية والتصريف والسياسة كلها لتلك السكينة التي قدمنا وصفنا لها ، واشتد وجدنا بها ، وطال شوقنا إليها ودام حديقنا نحوها ، واتصل رنونا إليها ، وتناهت نجوانا بذكرها . وهذا هو الخلع الذي سمعت بذكره ، واللباس الذي سألت عنه ، أعني خلع ما أنت منه إنسان ، ولبس ما أنت به ملك . الله المستغاث منكم ، ما أشد بلواي بكم ، لم تتحركون إلا إلى ما لا سكون لكم فيه ؟ ولم تسألون عما لا اطلاع لكم عليه ؟ سلوا ربكم أعيناً بصيرة ، وآذاناً واعية ، وصدوراً طاهرة ، وقوة متتابعة ، فإنكم إذا منحتموها هديتم لها ، وإذا حرمتموها قطعتم دونها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال البخاري : وقد تركنا يا سيدنا حديث السكينة المجموعة من هذه الجملة بأنصباء مختلفة . فقال : لا عجب أن ينشأ العالم بكل ما فيه في هذه الحوة التي لذنا بها وحاولناالوصول إليها ؛ وأي شيء أعجب في هذا المقام ، رسم أو قوام ، أو ثبات أو دوام ، إلا له نصيب من عناية الله تعالى الكريم . نعم ، والسكينة المجموعة من كل ما سلف القول فيه تقاسمها نوع الإنسان بالزيادة والنقصان ، والغموض والبيان ، والقلة والكثرة ، والضعف والقوة ، وهذا يتبين بأن تقسم الطيش والحدة والعجلة والخفة على أصحابها ، فتجد التفاوت ظاهراً . وكذلك إذا قسمت الهدوء والقرار والسكون والوقار على أهلها ، فإنك تجد التباين مكشوفاً والاختلاف ظاهراً . ثم قال : أما السكينة التي هي في أعلى المراتب فهي لأشخاص فوق البشر ، وليس لهم نسبة من الخلق إلا الخلقة الحسية والعشرة البشرية ، وإلا فهم في ذروة عالية ، ومحلة إلهية . قال : وأما السكينة التي تلي هذه فهي للأنبياء على اختلاف حظوظهم منها لأنها مرتبات تنقسم بين المنام واليقظة انقساماً متفاوتاً بالعرض الحامل للصدق وللشبيه بالصدق ، وللحق وللقرب من الحق ، وللصحيح والتالي للصحيح ، ثم يختلف بيانهم عن ذلك بالتعريض والإيضاح ، والكناية والإفصاح ، والتشبيه والاستعارة . قال : فأما السكينة التي تتلو هذه فهي التي تظهر على طائفة تخلف الأنبياء ، وذلك أن بقايا قواهم يرثها الذين صحبوهم ، واستضاءوا بنورهم ، وفهموا عنهم ، ولقنوا منهم ، ودخلوا في زمرتهم ، وحاكوهم في الشمائل والأخلاق ، وسلكوا منهاجهم في القيادة والسياق ، وصلحوا سفراء بين الأبعدين ، كما كانوا سجراء للأقربين ، وهم الذين يفسرون الغامض ، ويوضحون المشكل ، ويبسطون المطوي ، ويشرحون المكنى ، ويبرزونالمراد والمعنى ، ويوطدون الأساس ، ويرفعون الالتباس ، وينفون الوحشة ويحدثون الإيناس . وأما السكينة الباقية فهي مفضوضة على اتباع هؤلاء بالسهام العلوية ، والمقادير العدلية ، والمناسيب العقلية ، من غير جور ولا حيف ، ولا انحراف ولا ميل . فقال البخاري : أهي - أعني السكينة - في معنى فاعلة أو مفعولة ؟ فقال : الفضاء أعرض مما تظن ، وإن كان في غاية العرض ؛ والذروة أعلى من أن ترام وإن كان الإنسان يطلبها بالبسط والقبض . هي بوجه في معنى فاعلة إذا شعرت بتأثيرها ، وبوجه آخر في معنى مفعولة إذا شعرت بتأثرها . وبوجه آخر ، ليست من هذين القبيلين في شيء إذا لحظتها في معانيها قبل تأثيرها وتأثرها ، وأنت تعتبر حد الفاعل والمفعول من شكل اللفظ ووزن الترتيب ، بشائع العادة وقائم العرف ، والسكينة وراء هذا كله بالحق والواجب والصحة والتمام فإنها صراط الله للمخصوصين بالاستقامة عليه ، فإذا شهدت المخصوص بها كانت عبارتك عن الملحوظ منها مشاكلةً لعبارتك عن أخلاق رضية وأحوال مرضية ، وإذا شهدت ذلك المعنى من معاني الحق كانت عبارتك متلجلجةً لا نظام لها ولا تعادل ولا اتساق على العادة الجارية والحال الطارئة ؛ فأحق ما ينبغي لطالب الحكمة واللائذ بهذه الحومة أن يبحث وينظر ، ويكشف وينقر ، ويستقصى ويسبر ويسأل ويستبصر ؛ حتى إذا بلغ هذه الآفاق ، وشهد هذه الأعلام ، ووجد الصواب الذي لا شوب فيه ، وصادف اليقين الذي لا ريب معه ، وعرف الاستبانة التي تغني عن البيان ، وذاق المعنى الذي هو فوق العيان ، أمسك وانتهى ، ووقف واستغنى لا لعرض ظلام غشيه ، ولكن لسطان شعاعٍ ملكه ؛ لأن ذلك النور محيط بكلشيء دونه ، ومستولٍ على كل شيء تحته . وكان يقول في هذا الفن إذا جد به الكلام وبدا منه المكتوم وشرد عنه الخاطر ما لا يوعى بحفظ ، ولا يروى بلفظ . وإنما كان أصحابنا ينتظرون منثوره بهذه الحروف لفظاً لينظموا منه شذراً وعقداً ، وكانوا إذا تلاقوا اشتركوا في تقويم ذلك كله ، وتعاونوا على تحبيره ، وتصادقوا على مفهومهم منه ، وتجنبوا المنازعة والشغب عليه ، وأخذوا بالعفو والممكن منه ، لئلا يفوتهم المعنى ، ولا يتحيرون في المنتهى . وسأله الأندلسي في هذا المجلس عن الأمم وأحوالها ، ونقصها وكمالها فقال : اشتركت الأمم في جميع الخيرات والشرور ، وفي جميع المعاني والأمور : اشتراكاً أتى على أول التفاوت ووسطة وآخره ، ثم استبدت كل أمة بقوالب ليست لأختها ، واشتراكهم فيها كالأصول واستبدادهم كالفروع ، وفيما اشتركوا فيه المحمود والمذموم . ولم يجز في الحكمة الإلهية غير هذه القسمة ، لأن الاشتراك لو سبق بلا تفاوت لم يكن اشتراكاً ، والتقاسم لو عري من الاتفاق لم يكن تقاسماً ، فصار ما من أجله يفترقون ، به يجتمعون ، وما من أجله ينتظمون ، به ينتثرون . فعلى هذا اشتركوا في الأخلاق واللغات ، والعقائد والصناعات ، وجر المنافع ودفع المضار ، مع اختلافهم فيها بنوع ونوع . ألا ترى أن لغة الهند غير لغة الروم ، وكذلك الصناعة والعقيدة وما يجري مجراهما ، إلا أنهم مع هذه الأصول والقواعد تقاسموا أشياء بين الفطرة والتنبيه ، وبين الاختيار والتقدمة ، فصار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر ليونان والوهم والحدس والظن والحيلة والتحيل والشعبذة للهند والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتساع والتصريف والسحر باللسان للعرب ؛ والروية والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبودية والربوبية للفرس .فأما الترك فلها الشجاعة . والعرب تشاركها إما بالزيادة وإما بالمساواة ؛ وليس للترك بعد هذا حظ ولا دراية إلابقسط من الظل من الشخص . والعرب مع منطقها البارع لها المزية المعروفة على الترك بعد في السياسة وإن كانت قاصرةً ؛ وأما الزيج والسودان فغلبت عليها الفسولة وشاكلت البهائم الضعيفة ، كما شاكلت الترك السباع القوية . قيل له : إن أبا زيد قد عمل كتاباً في أخلاق الأمم . قال : قد رأيته وقرأته وقد أفاد ، وكل من تكلم على طريقة الحكماء الذين يتوخون من الأمور لبابها ، ويصرفون عنها قشورها ، فله السابقة والتقدم على من يخبط كفلان وفلان . ومن جحد بلاغة العرب في الخطابة وجولانها كل مجال وتميزها باللسان فقد كابر ، ومن أنكر تقدم يونان في إثارة المعاني من أماكنها وإقامة الصناعات بأسرها ، وبحثها عن العالم الأعلى والأوسط والأسفل فقد بهت . ومن دفع مزية الفرس في سياستها وتدبيراتها وترتيب الخاصة والعامة بحق ما لها وعليها فقد عاند . وهكذا من دفع ما للهند ، فليس من شخص وإن كان زرياً قميئاً إلا وفيه سر كامنٌ لا يشركه فيه أحد ، وإذا كان هذا في شخص على ما قلنا ، فكيف إذا نظرت إلى ما يحويه النوع . وهكذا إذا ارتقيت إلى الجنس ، وهذا لأن عرض الجنس أوسع من عرض النوع ، كما أن عرض النوع أوسع من عرض الشخص ، وليس دون الشخص تحت ، كما أنه ليس فوق الجنس فوق . وأما انقسام هذه الثلاثة على هذا فليكون فضاء العالم غاصاً بالطرف والوسط والأفق وليكون سحاً بالغاً من المصدر إلى المورد .وعلى هذا لولا الجنس لم يوجد نوعٌ ، ولولا النوع لم يوجد شخص . وكذلك العكس . قال أبو سعيد الطبيب : أللعالم العلوي أجناس وأنواع وأشخاص ؟ قال : كيف يخلو العالم العلوي من هذا التقسيم ، وإنما هذا الذي لحقنا في العالم السفلي حكاية ذلك العالم العلوي حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة . فقال له مستزيداً : فهل في البسائط الإلهية أجناس وأنواع وأشخاص ؟ فقال : لا ، إلا أن يتخذ شيء من هنالك قراره في معارض العالم السفلي بقوة العالم العلوي ، وذلك كالبرق إذا خطف ، والنسيم إذا لطف . قال : فهل ينال البسائط نقصٌ بالإخبار بالأجزء المركبة عنها كما ينال المركبات كمالٌ بالأجزاء البسيطة عنها ؟ فقال : لا ، لأن ما علا يؤثر ولا يقبل التأثير ؛ وما سفل يتأثر . ألا ترى أن ما علا من الكواكب لا يتصل بشيء دونه ، وما سفل منها يتصل بما علا عنه . وقال له أيضاً : إذا قلنا : الروحانيات ، فماذا ينبغي أن يلحظ منها ؟ فقال : الروحانيات على أقسام ؛ فقسم منها متبدد في المركبات من الحيوان والجماد ، وقسم منها مكتنفٌ للحيوان والجماد ، وبحسب هذا الاكتناف هو أبسط وألطف من القسم الأول المتبدد ؛ وقسمٌ منها فوق القسم المكتنف ، وهو الذي منه مادة المحيط ؛ وقسم آخر فوق هذا الممتد ، ثم فوق هذا ما لا يملكه وهم ، ولا يدركه فهم ؛ وذلك أنه في جناب القدس وحيث لا مرام لشيء من قوى الجن والإنس . وسألت أبا سليمان فقلت : إن علي بن عيسى الرماني ذكر أن التمكين من القبيح قبيح ، لأن التمكين من الحسن حسن . فلو كان التمكين من القبيح قبيحاً مع كونه من الحسن حسناً كان حسناً قبيحاً ؛ وهذا تناقض ؛ كيف صحة هذا الذي أومأ إليه ؟ فقال : أخطأت ، لأن التمكين وحده اسمٌ مجرد لشيء محدد ، والأسماء المحددة دلالتها على الأعيان لا على صفات الأعيان أو ما يكون من الأعيان أو ما يكون في الأعيان . والتمكين معتبر بما يضاف إليه ويناط به ، فإن كان من القبيح فهو قبيح لأنه علةالقبيح ، وإن كان من الحسن فهو حسن لأنه سبب الحسن . وهذا كما تقول : هذا الدرهم نافع أو ضار ؟ فيقال : إن صرفته فيما ينبغي فهو نافع ، وإن أنفقته فيما لا ينبغي فهو ضار ، وكذلك السيف في الآلات ، وكذلك اللفظ في الكلمات ، والإضافة قوة إليهة سرت في الأشياء سرياناً غريزياً قاهراً متملكاً قاسراً ، فلا جرم لا ترى حسياً أو عقلياً أو وهمياً أو ظنياً أو علمياً أو عرفياً أو عملياً أو حلمياً أو يقظياً إلا والتصاريف سارية فيها ، والإضافة حاكمة عليها . وهذا لأن الأشياء بأسرها مصيرها إلى الله الحق ، لأن مصدرها من الله الحق ، فالإضافة لازمة ، والنسبة قائمة ، والمشابهة موجودة . ولولا إضافة بعضنا إلى بعض ما اجتمعنا ولا افترقنا ، ولولا الإضافة بيننا الغالبة علينا ما تفاهمنا ولا تعاوناً . قال : إذا كنا بالتضايف نتوالى ، فبأي شيء بعده نتعادى ؟ قال : هذا أيضاً بالإضافة ، لأن الإضافة ظل ، والشخص بالظل يأتلف ، وبالظل يختلف . وقال : ويزيدك بياناً أن العدم والوجود شاملان لنا ، سائران فينا فبالوجود نتصادق ، وبالعدم نتفارق . وسأل مرة عن الطرب على الغناء والضرب وما أشبههما . فكان من الجواب : قيل لسقراط فيما ترجمه أبو عثمان الدمشقي . لم طرب الإنسان على الغناء والضر ؟ فقال : لأن نفسه مشغولةٌ بتدبير الزمان من داخل ومن خارج ، وبهذا الشغل هي محجوبة عن خاص مآلها . فإذا سمعت الغناء انكشف عنها بعض ذلك الحجاب ، فحنت إلى خاص ما لها من المثالات الشريفة والسعادات الروحانية من بعد ذلك العالم ، لأن ذلك وطنها بالحق . فأما هذا العالم فإنها غريبة فيه ، والإنسان تابع لنفسه ، وليست النفس تابعة للإنسان ، لأن الإنسان بالنفس إنسان ، وليست النفس نفساً بالإنسان ، فإذا طربت النفس - أعني حنت ولحظت الروح الذي لها - تحركت وخفت فارتاحت واهتزت . ولهذا يطرح الإنسان ثوبه عنه ، وربما مزقه كأنه يريد أنينسل من إهابه الذي لصق به ، أو يفلت من حصاره الذي حبس فيه ، ويهرول إلى حبيبه الذي قد تجلى له وبرز إليه . إلا أن هذا المعنى على هذا التنضيد إنما هو للفلاسفة الذين لهم عناية بالنفس والإنسان وأحوالهما . وأما غيرهم فطربهم شبيهٌ بما يعتري الطير وغيرها ، وانصرفت .
الليلة الخامسة عشرة
وجرى مرة كلامٌ من الممكن ، فحكيت عن ابن يعيش الرقي فصلاً سمعته يقوله ، لابأس برسمه في هذا الموضع ، فإن التشاور في هذا الحرف دائم متصل وينبغي لنا أن نبحث عنه بكل زحف وحبو ، وبكل كد وعفو . قال : الممكن شبيهٌ بالرؤيا لا بدن له يستقل به ، ولا طبيعة يتحيز فيها . ألا ترى أن الرؤيا تنقسم على الأكثر والأقل والتساوي ، وكما أن الرؤيا ظل من ظلال اليقظة ، والظل ينقص ويزيد إذا قيس إلى الشخص ؛ كذلك الممكن ظل من ظلال الواجب ، فطوراً يزيد تشابهاً للواجب ، وطوراً ينقص تشاكها للمتنع ، وطوراً يتساوى بالوسط . قال : والواجب لا عرض له ، لأنه حد واحد ، وله نصيب من الوحدة بدليل أنه لا تغير له ولا حيلولة لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالحدثان ولا بالطبيعة ولا بالوهم ولا بالعقل ، بل العقل ينقاد له ، والطبيعة تسلم إليه ، والوهم يفرق منه وصورة الواجب لا يحدسها الظن ، ولا يتحكم فيها تجويز ، ولا يتسلط عليها دامغ ولا ناسخ ، وهذا الحكم يطرد على الممتنع ، لأنه في مقابلته على الضد ، أعني أنه لا بدن له ، فيكون له عرض ، والعرض كله للمكن بالنعت الذي سلف من الكثرة والقلة والمساواة . ولهذا تعلقت التكاليف به في ظاهر الحال وبادىء الأمر وعارض الشان ، واستولى الوجود عليه بباطن الحال وخفي الأمر وراتب الشان ، لكن هذا الفصل الذي اشتمل علىالظاهر والباطن ليس ينكشف للحس كما ينكشف للعقل . ولما كنا بالحس أكثر - وإن كنا لا نخلو في هذه الكثرة من آثار العقل - لزمنا الاعتراف بعوائد الممكن وعلائقه ، والعمل عليه ، والرجوع إليه إذا أمرنا أو نهينا أو ائتمرنا أو انتهينا . ولما ظهر لنا بإزاء هذا الذي كنا به أكثر أن لنا شبحاً آخر نحن به أقل وهو العقل يشهد لنا بأن صورة الوجوب استولت من مبدأ الأمر إلى منقطعه الذي هو في عرض الواجب إلى الآخر الممتنع . وكما لزمنا الاعتراف الأول لكون به عاملين ومستعملين ، ورافعين وواضعين ، ولائمين وملومين ، ونادمين ومندمين ؛ كذلك لزمنا الاعتراف بسلطان الواجب الذي لا سبيل إلى عزله ، ولا محيص عن الإقرار به ، ولا فكاك من اطراده بغير دافع أو مانع . واتصل كلام ابن يعيش على تقطعٍ في عبارته التي ما كانت أداته تواتيه فيها ، مع تدفق خواطره عليها ؛ فقال : الرؤيا ظل اليقظة ، وهي واسطةٌ بين اليقظة والنوم ، أعني بين ظهور الحس بالحركة ، وبين خفائه بالسكون . قال : والنوم واسطة بين الحياة والموت ، والموت واسطةٌ بين البقاء الذي يتصل بالشهود وبين البقاء الذي يتصل بالخلود . قال : وهذا نعتٌ على تسهيل اللفظ وتقريب المراد والتصور ؛ والثقة شوك القتاد ، وازدراد العلقم والصاب ، للحواجز القائمة والموانع المعترضة من الإلف والمنشأ وغير ذلك مما يطول تعديده ويشق استقصاؤه . فقال : هذا كلامٌ ظريف ، وما خلت أن ابن يعيش مع فدامته ، ووخامته يسحبذيله في هذا المكان ، ويجري جواده بهذا العنان . قلت له : إن له مع هذه الحال مرامي بعيدة ، ومقاصد عالية ، وأطرافاً من المعاني إذا اعتلقها دل عليها ، إما بالبيان الشافي ، وإما بما يكون طريقاً إلى الوهم الصافي . وقلت : لقد مر له اليوم شيءٌ جرى بينه وبين أبي الخير اليهودي أستفيد منه . قال : وما ذاك ؟ أنثر علينا درر هذه الطائفة التي نميل إليها بالاعتقاد وإن كنا نقع دونها بالاجتهاد ؛ ونسأل الله أن يرحم ضعفنا الذي منه بدئنا ويبدلنا قوةً بها نجد قربنا في آخرنا . قلت : ذكر أن العقل لا غناء له في الأشياء التي تغلب عليها الحيلولة والسيلان والتطول ، كما أن الحس لا ينفذ في الأمور التي لا تطور لها بالحيلولة والتطول ، ولذلك عرفت الحكمة في الكائنات الفاشيات ، وخفيت العلل والأسباب في بدوها وخفيتها وتبددها وتآلفها ، لكن هذا الفرق والخفاء مسلمان للقدرة المستعلية والمشيئة النافذة . قال : ولهذا التريتب سر به حسن هذا النعت ، وإليه انتهى هذا البحث وذلك أن خفاء ما خفي بحق الأول ألحق ، وبدو ما بدا من نصيبٍ أطلق للذي لا يحتمل غير هذا الثقل ، ولو خفف عنه هذا الحق ، وبدو ما بدا من نصيبٍ أطلق للذي لا يحتمل غير هذا الثقل ، ولو خفف عنه هذا للحق الإنسان البهائم ، ولو ثقل عليه هذا للحق الملائكة ، فكان حينئذ لا يكون إنساناً ، وقد وجب في الأصل أن يكون إنساناً كاملاً بالنصب والدأب ، ويمتعض من أن تكون صورة الإنسان عنده معارة ، لأنه في الحقيقة حيوان غير ناطق ، بل يجتهد بسعيه وكدحه أن يصير إنساناً فاضلاً ، ويكون في فضله وكماله ملكاً ، أعني بالمشاكهة الإرادية لا بالمشاكهة النوعية . قال : وغاية الحكمة منها للمباشرين لها أن المعرفة تقف على حيلولتها ولسيلانها فقط ، لا على تصفح أجزائها ، لأن الترتيب فيها يستحيل مع الزمان . ألا ترى أن الرقم على الماء لا صورة له ، لأن صفحة الماء لا ثبات لها ، وكذلك الخط في الهواء ، وكذلك الكائنات البائدات لا صورة لها ، لأنها لا ثبات لها ، وأنت إذا وجدتشيئاً لا ثبات له لم تضم إليه شيئاً آخر لا ثبات له طمعاً في وقوع الثبات بينهما ، هذا ما لا يدين به وهم ، ولا ينقاد له ظن ؛ ولو ساغ هذا لساغ أن يجمع بين ما له ثبات ، وبين ما له أيضاً ثبات ، فيحدث هناك سيلانٌ واستحالة . وقال : وصف العقل بشهادة الحس ، كما يكون وصف الحسن بشهادة العقل إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى ، وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد ؛ على أن هاتين الشهادتين لا يطردان ولا يستمران ، لأن لكل واحد من الحس والعقل تفرداً بخاص ماله ، ولذلك ما وجد حيوانٌ لا عقل له البتة ، ووجد في مقابلته حي لا حس له . ثم قال : بل العقل يحكم في الأشياء الروحانية البسيطة الشريفة من جهة الصور الرفيعة ، والعلائق التي بين المعقولات والمحسوسات ما نعت العقل ، والعاقل من خلص الباقيات الخالدات الدائمات القائمات الثابتات من حومة الكائنات الفاسدات البائنات الذاهبات الحائلات الزائلات المائلات البائدات . ودخل في هذا التلخيص ضربٌ من الشك والتماري والخصومة والتعادي والتعنت إلى اختلاف عظيم ، ووقفت عن الحكم بعد اليقين . وقال - أدام الله سعادته - ماالسجية ؟ قلت : سمعت الأندلسي يقول : فلان يمشي على سجيته ، أي طبعه . قال : هل يقال : ظفرت عليه ؟ قلت : قد قال شاعرهم : وكانت قريش لو ظفرنا عليهم . . . شفاءً لما في الصدر والنقص ظاهر قال : هذا حسن . قلت : الحروف التي تتعدى إلى الأفعال ، والأفعال التي تتعدى بالحروف ؛ يراعى فيها السماع فقط لا القياس . هذا كان مذهب إمامنا أبي سعيد ؛ وقد جاء أيضاً ظفر به ؛ وجاء سخرت به ومنه . ومن لا اتساع له في مذهب العرب يظن أن سخرت به لا يجوز وهو صحيح . حكاه أبو زيد .قال : كيف يقال في جمل به غدة ؟ فكان من الجواب : جملق مغد . قال : فكيف يجمع ؟ فكان الجواب بأنه في القياس ظاهر ، ولكن السماع قد كفى . قال الشاعر - وهو خراش بن زهير : فقدتكمو ولحظكمو إلينا . . . ببطن عكاظ كالإبل الغداد ضربناهم ببطن عكاظ حتى . . . تولوا طالعين من النجاد وقال - حرس الله نفسه - من لقبه الخرسي إلى أي شيء ينسب ؟ فكان من الجواب : يقال : رجل خراساني وخرسي وخراسي ، فنسبت إلى رجل نزلها فاشتهرت به . فقال : القذال كيف يجمع ؟ فكان من الجواب أن فعالاً وفعالاً وفعالاً وفعيلاً وفعولاً أخوات تجمع في الأقل على أفعلة ، يقال : حمار وأحمرة ، وغراب وأغربة ، وقذال وأقذلة ، وعمود وأعمدة . قال : نسيت أسألك عن المسألة الأولى - أعني الخرسي - من أين لك تلك الفتيا ؟ فكان من الجواب : قرأته على أبي سعيد الإمام في شرحه كتاب سيبويه . قال : بردت غليلي ، فإن الحجة في مثل هذا متى لم تكن بأهلها كانت متلجلجة . قال : أنشدني شيئاً نختم به المجلس ، فقد مرت طرائف . فأنشدته لعمارة بن عقيل في بنت له :حبك يا ذات الأنيف الأكشم . . . حب تساقاه مشاس أعظمي ودب بين كبدي ومحزمي . . . وساطه الله بلحمي ودمي فليس بالمذق ولا المكتم . . . ولا الذي إن يتقادم يسأم لقد نزلت من فؤادي فاعلمي منزلة الشيء المحب المكرم وانصرفت .
الليلة السادسة عشرة
ثم عدت وقتاً آخر فقال : كنت حكيت لي أن العامري صنف كتاباً عنونه بإنقاذ البشر من الجبر والقدر ، فكيف هذا الكتاب ؟ فقلت : هذا الكتاب رأيته بخطه عند صديقه وتلميذه أبي القاسم الكاتب ولم أقرأه على العامري ، ولكن سمعت أبا حاتم الرازي يقرؤه عليه ، وهو كتاب نفيس ، وطريقة الرجل قوية ، ولكنه ما أنقذ البشر من الجبر والقدر ، لأن الجبر والقدر اقتسما جميع الباحثين عنهما والناظرين فيهما . قال : لم قيل الجبر والقدر ولم يقل الإجبار . فكان الجواب : أن الإجبار لغة قوم ، والجبر لغة تميم ، يقال : جبر الله الخلق وأجبر الخلق ، وجبر بمعنى جبل ؛ واللام تعاقب الراء كثيراً . قال : فتكلم في هذا الباب بشيء يكون غير ما قاله العامري ، وانقد له إن كان الحق فيما ذهب غليه ودل عليه . فكان من الجواب : أن من لحظ الحوادث والكوائن والصوادر والأواتي من معدنالإلهيات أقر بالجبر وعرى نفسه من العقل والاختيار والتصرف والتصريف ، لأن هذه وإن كانت ناشئةً من ناحية البشر ، فإن منشأها الأول إنما هو من الدواعي والبواعث والصوارف والموانع التي تنسب إلى الله الحق ؛ فهذا هذا . فأما من نظر إلى هذه الأحداث والكائنات والاختيارات والإرادات من ناحية المباشرين الكاسبين الفاعلين المحدثين اللائمين الملومين المكلفين ، فإنه يعلقها بهم ويلصقها برقابهم ، ويرى أن أحداً ما أتي إلا من قبل نفسه وبسوء اختياره وبشدة تقصيره وإيثار شقائه ؛ والملحوظان صحيحان واللاحظان مصيبان ، لكن الاختلاف لا يرتفع بهذا القول والوصف ، لأنه ليس لكل أحد الوصول إلى هذه الغاية ، ولا لكل إنسان اطلاع إلى هذه النهاية . فلما وقعت البينونة بين الناظرين بالطبع والنسبة لم يرتفع القال والقيل من ناحية القول والصفة ، فهذا هذا . قال - أطال الله بقاءه - فما الفرق بين القضاء والقدر ؟ فكان من الجواب : أن أبا سليمان قال : إن القضاء مصدره من العلم السابق ، والقدر مورده بالأجزاء الحادثة . فقال : لم ورد في الأثر : لا تخوضوا في القدر فإنه سر الله الأكبر . فكان من الجواب : أن أبا سليمان قال لنا في هذه الأيام . إن الناموس ينطق بما هو استصلاح عام ، ليكون النفع به شائعاً في سكون النفس وطيب القلب وروح الصدور . فإن كان هذا هكذا فقد وضح أن حكمة هذا السر طيه ، لأن عجز الناظرين يفضي بهم إلى الحيرة ، والحيرة مضلة ، والمضلة هلكة . وإذا كانت الراحة في الجهل بالشيء ، كان التعب في العلم بالشيء ، وكم علمٍ لو بدا لنا لكان فيه شقاء عيشنا ، وكم جهل لو ارتفع منا لكان فيه هلاكنا ؛ والعلم والجهل مقسومان بيننا ومفضوضان علينا على قدر احتمال كل واحد منا للذي سبق إليه وعلق به ، ألا ترى أن علمنا لو أحاط بموتنا متى يكون ؟ وعلى أي حال تحدث العلة أو المحنة أو البلاء ؟ لكان ذلك مفسدةً لنا ، ومحنةً شديدةً علينا .فانظر كيف زوى الله الحكيم هذا العلم عنا ، وجعل الخيرة فيه لنا . ألا ترى أيضاً أن جهلنا لو غلب علينا في جميع أمورنا لكان فساد ذلك في عظم الفساد الأول ، والبلاء منه في معرض البلاء المتقدم ، فمن هذا الذي أشرف على هذا الغيب المكنون والسر المخزون فيغفل عن الشكر الخالص ، والاستسلام الحسن ، والبراءة من كل حول وقوة . فالاستمداد ممن له الخلق والأمر ، أعني الإبداء والتكليف ، والإظهار والتشريف ، والتقدير والتصريف . قال : هذا فن حسن ، وأظنك لو تصديت للقصص والكلام على الجميع لكان لك حظ وافر من السامعين العاملين ، والخاضعين والمحافظين . فكان من الجواب : أن التصدي للعامة خلوقة ، وطلب الرفعة بينهم ضعة ، والتشبه بهم نقيصة ؛ وما تعرض لهم أحد إلا أعطاهم من نفسه وعلمه وعقله ولوثته ونفاقه وريائه أكثر مما يأخذ منهم من إجلالهم وقبولهم وعطائهم وبذلهم . وليس يقف على القاص إلا أحد ثلاثة . إما رجل أبله ، فهو لا يدري ما يخرج من أم دماغه . وإما رجل عاقلٌ فهو يزدريه لتعرضه لجهل الجهال ، وإما له نسبة إلى الخاصة من وجه ، وإلى العامة من وجه ، فهو بتذبذب عليه من الإنكار الجانب للهجر ، والاعتراف الجالب للوصل ، فالقاص حينئذ ينظر إلى تفريغ الزمان لمداراة هذه الطوائف ، وحينئذ ينسلخ من مهماته النفسية ، ولذاته العقلية ، وينقطع عن الازدياد من الحكمة بمجالسة أهل الحكمة ، إما مقتبساً منهم ، وإما قابساً لهم ؛ وعلى ذلك فما رأيت من انتصب للناس قد ملك إلا درهماً وإلا ديناراً أو ثوباً ؛ ومناصبةً شديدةً لمماثليه وعداته .قال : إن الليل قد دنا من فجره ، هات ملحة الوداع . قلت : قال يعقوب صاحب إصلاح المنطق : دخل أعرابي الحمام فزلق فانشج ، فأنشأ يقول : وقالوا تطهر إنه يوم جمعةٍ . . . فرحت من الحمام غير مطهر ترديت منه شارياً شج مفرقي . . . بفلسين إني بئس ما كان متجري وما يحسن الأعراب في السوق مشيةً . . . فكيف ببيتٍ من رخامٍ ومرمر يقول لي الأنباط إذ أنا نازل . . . به لا بظبيٍ بالصريمة أعفر وقال - حرس الله نفسه - كنت أروي قافية هذا البيت أعفرا ، وهذه فائدة كنت عنها في ناحية ؛ وانصرفت . قد رأيت أيها الشيخ - حاطك الله - عند بلوغي هذا الفصل أن أختم الجزء الأول بما أنتهي غليه ، وأشفعه بالجزء الثاني على سياج ما سلف نظمه ونثره ، غير عائج على ترتيبٍ يحفظ صورة التصنيف على العادة الجارية لأهله ، وعذري في هذا واضح لمن طلبه ، لأن الحديث كان يجري على عواهنه بحسب السانح والداعي . وهذا الفن لا ينتظم أبداً ، لأن الإنسان لا يملك ما هو به وفيه ، وإنما يملك ما هو له وإليه . وهذا فصل يحتاج إلى نفسٍ مديد ، ورأيٍ يصدر عن تأييد وتسديد ؛ والسلام ، والحمد لله وحده ، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين ، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم أيها الشيخ - أطال الله يدك في الخيرات ، وزاد في همتك رغبةً في اصطناع المكرمات ، وأجراك على أحسن العادات في تقديم طلاب العلم وأهل البيوتات - قد فرغت في الجزء الأول على ما رسمت في القيام به ، وشرفتني بالخوض فيه ، وسردت في حواشيه أعيان الأحاديث التي خدمت بها مجلس الوزير ، ولم آل جهداً في روايتها وتقويمها ولم أحتج إلى تعمية شيءٍ منها ، بل زبرجت كثيراً منها بناصع اللفظ ، مع شرح الغامض وصلة المحذوف وإتمام المنقوص ، وحملته إليك على يد فائقٍ العلام ، وأنا حريصٌ على أن أتبعه بالجزء الثاني ، وهو يصل إليك في الأسبوع إن شاء الله تعالى . وأنا أسألك ثانيةً على طريق التوكيد ، كما سألتك أولاً على طريق الاقتراح ، أن تكون هذه الرسالة مصونةً عن عيون الحاسدين العيابين ، بعيدةً عن تناول أيدي المفسدين المنافسين ؛ فليس كل قائل يسلم ، ولا كل سامعٍ ينصف ، ولا كل متوسطٍ يصلح ، ولا كل قادمٍ يفسح له في المجلس عند القدوم . والبلية مضاعفةٌ من جهة النظراء في الصناعة ، وللحسد ثورانٌ في نفوس هذه الجماعة ؛ وقل من يجهد جهده في التقرب إلى رئيسٍ أو وزير ، إلا جد في إبعاده من مرامه كل صغير وكبير ؛ وهذا لأن الزمان قد استحال عن المعهود ، وجفا عن القيام بوظائف الديانات وعادات أهل المروءات ؛ لأمورٍ شرحها يطول ؛ وقد كان الناس يتقلبون في بسيط الشمس ؛ أعني الدين فغربت عنهم ، فعاشوا بنور القمر ، أعني المروءة فأفلدونهم ، فبقوا في ظلمات البر والبحر ، أعني الجهل وقلة الحياء فلا جرم أعضل الداء ، وأشكل الدواء ، وغلبت الحيرة ، وفقد المرشد ، وقل المسترشد ؛ والله المستعان . وأرجع إلى ما هو الغرض من نسخ ما تقدم في الجزء الأول .
الليلة السابعة عشرة
فلما عدت إلى المجلس قال : ما تحفظ في تفعال وتفعال ، فقد اشتبها ؟ وفزعت إلى ابن عبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنع ، وألقيت على مسكويه فلم يكن له فيها مطلع ؛ وهذا دليلٌ على دثور الأدب وبوار العلم والإعراض عن الكدح في طلبه . فقلت : قال شيخنا أبو سعيد السيرافي الإمام - نضر الله وجهه - : المصادر كلها على تفعالٍ بفتح التاء ، وإنما تجيىء تفعالٌ في الأسماء ، وليس بالكثير . قال : وذكر بعض أهل اللغة منها ستة عشر اسماً لا يوجد غيرها . قال : هاتها . قلت : منها التبيان والتلقاء ، ومر تهواءٌ من الليل ؛ وتبراك ، وتعشار ، وترباع ، وهي مواضع ؛ وتمساح للدابة المعروفة ؛ والتمساح الرجل الكذاب أيضاً . وتجفاف وتمثال وتمراد بيت الحمام ، وتلفاق ، وهو ثوبان يلفقان . وتلقام : سريع اللقم . ويقال : أتت الناقة على تضرابها ، أي على الوقت الذي ضربها الفحل فيه ، وتضراب كثير الضرب وتقصار ، وهي المخنقة ؛ وتنبال ، وهو القصير . قال : هذا حسنٌ ، فما تقول في تذكار ؟ فإن الخوض في هذا المثال إنما كان من أجل هذا الحرف ، فإن أصحابنا كانوا في مجلس الشراب ، فاختلفوا فيه ؟ فقلت : هذا مصدرٌ ، وهو مفتوح .ثم قال : اجمع لي حروفاً نظائر لهذا من اللغة ، واشرح ما ندر منها ، وعرض الشك لكثير من الناس فيها . فقلت : السمع والطاعة مع الشرف بالخدمة . وقال أيضاً : حدثني عن شيء هو أهم من هذا لي وأخطر على بالي ، إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً ومذهباً لا عهد لي به وكنايةً عما لا أحقه ، وإشارةً إلى ما لا يتوضح شيءٌ منه ، يذكر الحروف ويذكر النقط ، ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدةً إلا بسبب ، والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لعلة ، والألف لم تعر إلا لغرض . وأشباه هذا ؛ وأشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفج بذكرها ؛ فما حديثه ؟ وما شأنه ؟ وما دخلته ؟ وما خبره ؟ فقد بلغني أنك تغشاه وتجلس إليه ، وتكثر عنده ، وتورق له ، ولك معه نوادر مضحكة ، وبوادر معجبة . ومن طالت عشرته لإنسانٍ صدقت خبرته به ، وانكشف أمره له ، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه وعويص طريقته . فقلت : أيها الوزير ، هو الذي تعرفه قبلي قديماً وحديثاً بالتربية والاختبار والاستخدام ، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة . قال : دع هذا وصفه لي . قلت : هناك ذكاءٌ غالبٌ ، وذهنٌ وقادٌ ، ويقظةٌ حاضرة ، وسوانح متناصرة ، ومتسعٌ في فنون النظم والنثر ، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة ، وحفظ أيام الناس ، وسماعٍ للمقالات ، وتبصرٍ في الآراء والديانات ، وتصرفٍ في كل فنٍ : إما بالشدو الموهم ، وإما بالتبصر المفهم ، وإما بالتناهي المفحم . فقال : فعلى هذا ما مذهبه ؟ قلت : لا ينسب إلى شيء ، ولا يعرف برهط ، لجيشانهبكل شيء ، وغليانه في كل باب . ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه ، وسطوته بلسانه ، وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً ، وصادف بها جماعةً لأصناف العلم وأنواع الصناعة ؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي ، ويعرف بالمقدسي ، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني ، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم ، فصحبهم وخدمهم ؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة ، وتصافت بالصداقة ، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة ، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته ، وذلك أنهم قالوا : الشريعة قد دنست بالجهالات ، واختلطت بالضلالات ؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفلة ، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية ، والمصلحة الاجتهادية . وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال ؛ وصنفوا خمسين رسالةً في جميع أجزاء الفلسفة : علميها وعمليها ، وأفردوا لها فهرستاً وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، وكتموا أسماءهم ، وبثوها في الوراقين ، ولقنوها للناس ، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه ليخلصوا الناس من الآراء الفاسدة التي تضر النفوس ، والعقائد الخبيثة التي تضر أصحابها ، والأفعال المذمومة التي يشقى بها أهلها ؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلم الدينية والأمثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق الموهمة . فقال : هل رأيت هذه الرسائل ؟ قلت : قد رأيت جملةً منها ، وهي مبثبوتةٌ من كل فنٍ نتفاً بلا إشباعٍ ولا كفاية ، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات ؛ وقد غرقالصواب فيها لغلبة الخطأ عليها ؛ وحملت عدةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه ونظر فيها أياماً واختبرها طويلاً ؛ ثم ردها علي وقال : تعبوا وما أغنوا ، ونصبوا وما أجدوا ، وحاموا وما وردوا ، وغنوا وما أطربوا ، ونسجوا فهلهلوا ، ومشطوا ففلفلوا ؛ ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع ؛ ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة ، والموسيقى التي هي معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان ، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات - في الشريعة ، وأن يضموا الشريعة للفلسفة . وهذا مرامٌ دونه حدد ؛ وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنياباً ، وأحضر أسباباً ، وأعظم أقداراً ، وأرفع أخطاراً ، وأوسع قوىً ، وأوثق عراً ، فلم يتم لهم ما أرادوه ، ولا بلغوا منه ما أملوه ؛ وحصلوا على لوثاتٍ قبيحة ، ولطخاتٍ فاضحة ، وألقابٍ موحشة ، وعواقب مخزية ، وأوزارٍ مثقلة . فقال له البخاري أبو العباس : ولم ذلك أيها الشيخ ؟ قال : إن الشريعة مأخوذةٌ عن الله - عز وجل - بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي ، وباب المناجاة ، وشهادة الآيات ، وظهور المعجزات ، إلى ما يوجبه العقل تارةً ، ويجوزه تارةً ، لمصالح عامةٍ متقنة ، ومراشد تامةٍ مبينة ؛ وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه ، والغوص فيه ؛ ولابد من التسليم للداعي إليه ، والمنبه عليه ؛ وهناك يسقط ' لم 'ويبطل ' كيف ' ، ويزول ' هلا ' ويذهب ' لو ' و ' ليت ' في الريح ، لأن هذه المواد عنها محسومة ، واعتراضات المعترضين عليها مردودةٌ ، وارتياب المرتابين فيها ضار ، وسكون الساكنين إليها نافع ؛ وجملتها مشتملةٌ على الخير ، وتفصيلها موصولٌ بها على حسن التقبل ، وهي متداولة بين متعلق بظاهرٍ مكشوف ، ومحتجٍ بتأويلٍ معروفٍ ؛ وناصر باللغة الشائعة ، وحامٍ بالجدل المبين ، وذابٍ بالعمل الصالح ، وضاربٍ للمثل السائر ، وراجعٍ إلى البرهان الواضح ، ومتفقهٍ في الحلال والحرام ، ومستندٍ إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملة ، وراجع إلى اتفاق الأمة . وأساسها على الورع والتقوى ، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزلفى . ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك ومقادير الأجرام ومطالع الطوالع ومغارب الغوارب . ولا حديث تشاؤمها وتيامنها ، وهبوطها وصعودها ، ونحسها وسعدها ، وظهورها واستسرارها ، ورجوعها واستقامتها ، وتربيعها وتثليثها ، وتسديسها ومقارنتها . ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها ، وأشكال الأسطقسات ، بثبوتها وافتراقها ، وتصريفها في الأقاليم والمعادن والأبدان ، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ؛ وما الفاعل وما المنفعل منها ؛ وكيف تمازجها وتزاوجها ، وكيف تنافرها وتسايرها ؛ وإلى أين تسري قواها ، وعلى أي شيء يقف منتهاها . ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومقاطعها ، وما الكرة ؟ وما الدائرة ؟ وما المستقيم ؟ وما المنحنى ؟ ولا فيها حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ، ومناسب الأسماء والحروف والأفعال ؛ وكيف ارتباط بعضها ببعض على موضوع رجل من يونان حتى يصح بزعمه الصدق ، وينبذ الكذب . وصاحب المنطق يرى أن الطبيب والمنجم والمهندس وكل من فاه بلفظٍ وأم غرضاً فقراء إليه ، محتاجون إلى ما في يديه .قال : فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوةً تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة ؟ على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضاً لهم مآخذ من هذه الأغراض ، كصاحب العزيمة وصاحب الطلسم وعابر الرؤيا ومدعي السحر وصاحب الكيمياء ومستعمل الوهم . قال : ولو كانت هذه جائزةً وممكنةً لكان الله تعالى نبه عليها ، وكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ، ويكملها باستعمالها ، ويتلافى نقصها بهذه الزيادة التي يجدها في غيرها ، أو يخص المتفلسفين على إيضاحها بها ويتقدم إليهم بإتمامها ، ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب به عنها حسب طاقتهم فيها ، ولم يفعل ذلك بنفسه ، ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه ؛ بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء ، وكره إلى الناس ذكرها ، وتوعدهم عليها ، وقال : من أتى عرافاً أو طارقاً أو حازياً أو كاهناً أو منجماً يطلب غيب الله منه فقد حارب الله ، ومن حارب الله حرب ، ومن غالبه غلب ، حتى قال : لو أن الله حبس عن الناس القطر سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفةٌ به كافرين . ويقولون : مطرنا بنوء المجدح ، فهذا كما ترى ، والمجدح : الدبران . ثم قال : ولقد اختلفت الأمة ضروباً من الاختلاف في الأصول والفروع ، وتنازعوا فيها فنوناً من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام ، والحلال والحرام ، والتفسير والتأويل ، والعيان والخبر ، والعادة والاصطلاح ؛ فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجمٍ ولا طبيب ولا منطقيٍ ولامهندسٍ ولا موسيقي ولا صاحب عزيمةٍ وشعبذة وسحرٍ وكيمياء ، لأن الله تعالى تمم الدين بنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيانٍ موضوعٍ بالرأي . قال : وكما لم نجد في هذه الأمة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من دينها ، فكذلك أمة عيسى عليه السلام وهي النصارى ، وكذلك المجوس .قال : ومما يزيدك وضوحاً ويريك عجباً أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافاً فيها وفرقاً ؛ كالمرجئة والمعتزلة والشيعة والسنية والخوارج ، فما فزعت طائفةٌ من هذه الطوائف إلى الفلاسفة ، ولا حققت مقالتها بشواهدهم وشهادتهم ، ولا اشتغلت بطريقتهم ، ولا وجدت عندهم ما لم يكن عندها بكتاب ربها وأثر نبيها . وهكذا الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة فاستنصروهم ، ولا قالوا لهم : أعينونا بما عندكم ؛ واشهدوا لنا أو علينا بما قبلكم . قال : فأين الدين من الفلسفة ؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل ، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل ؟ فإذ أدلوا بالعقل فالعقل موهبةٌ من الله جل وعز لكل عبد ، ولكن بقدر ما يدرك به ما يعلوه ، كما لا يخفى به عليه ما يتلوه ، وليس كذلك الوحي ، فإنه على نوره المنتشر ، وبيانه الميسر . قال : وبالجملة ، النبي فوق الفيلسوف ، والفيلسوف دون النبي ؛ وعلى الفيلسوف أن يتبع النبي ، وليس على النبي أن يتبع الفيلسوف ، لأن النبي مبعوث ، والفيلسوف مبعوثٌ إليه . قال : ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحي فائدةٌ ولا غناءٌ ، على أن منازل الناس متفاوتةٌ في العقل ، وأنصباؤهم مختلفةٌ فيه ؛ فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل كيف كنا نصنع ، وليس العقل بأسره لواحدٍ منا ، وإنما هو لجميع الناس ، فإن قال قائل بالعبث والجهل : كل عاقل موكولٌ إلى قدر عقله ، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره ، لأنه مكفي به ، وغير مطالبٍ بما زاد عليه . قيل له : كفاك تمادياً في هذا الرأي أنه ليس لك فيه موافق ، ولا عليه مطابق ؛ ولو استقل إنسانٌ واحدٌ بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقل أيضاً بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه ، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف ، وكان لا يحتاج إلى أحدٍ من نوعه وجنسه ؛ وهذا قولٌ مزدول ورأيٌ مخذول . قال البخاري : وقد اختلفت أيضاً درجات النبوة بالوحي ، وإذا ساغ هذا الاختلاف في الوحي ولم يكن ذلك ثالماً له ، ساغ أيضاً في العقل ولم يكن مؤثراً فيه .فقال : يا هذا ، اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي ، وخصهم بالمناجاة ، واجتباهم للرسالة ، وأكملهم بما ألبسهم من شعار النبوة ؛ وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة ، لأنهم على بعدٍ من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل والنزر اليسير ؛ وعوار هذا الكلام ظاهر ، وخطل هذا المتكلم بين . قال الوزير : أفما سمع شيئاً من هذا المقدسي ؟ قلت : بلى قد ألقيت هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان ، والتقديم والتأخير ، في أوقات كثيرة بحضرة حمزة الوراق في الوراقين ، فسكت ، وما رآني أهلاً للجواب ؛ لكن الحريري غلام ابن طرارة هيجه يوماً في الوراقين بمثل هذا الكلام ، فاندف فقال : الشريعة طب المرضى ، والفلسفة طب الأصحاء ، والأنبياء يطبون للمضرى حتى لا يتزايد مرضهم ، وحتى يزول المرض بالعافية فقط . فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرضٌ أصلاً ، فبين مدبر المريض ومدبر الصحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف ، لأن غاية مدبر المريض أن ينتقل به إلى الصحة ، هذا إذا كان الدواء ناجعاً ، والطبع قابلاً ، والطبيب ناصحاً . وغاية مدبر الصحيح أن يحفظ الصحة ، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل ، وفرغه لها ، وعرضه لاقتنائها ؛ وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسعادة العظمى ، ومتبوىءٌ الدرجة العليا ؛ وقد صار مستحقاً للحياة الإليهة ؛ والحياة الإلهية من الخلود والديمومة والسرمدية . فإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضاً ؛ فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل ، لأن إحداهما تقليدية ، والأخرى برهانية ؛ وهذه مظنونةٌ ، وهذه مستيقنة ، وهذه روحانية ، وهذه جسمية ، وهذه دهرية ، وهذه زمانية . وقال أيضاً : إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة ، وإن كانت الشريعة جاحدةً لها ؛ وإنما جمعنا أيضاً بينهما لأن الشريعة عامة ، والفلسفة خاصة ، والعامة قوامها بالخاصة ، كما أن الخاصة تمامها بالعامية ؛ وهما متطبقتان إحداهما على الأخرى ، لأنها كالظهارة التي لا بد لها من البطانة ، وكالبطانة التي لابد لها من الظهارة .فقال له الحريري : أما قولك طب المرضى وطب الأصحاء وما نسقت عليه كلامك فمثلٌ لا يعبر به غيرك ومن كان في مشكل ، لأن الطبيب عندنا الحاذق في طبه هو الذي يجمع بين الأمرين ، أعني أنه يبرىء المريض من مرضه ، ويحفظ الصحيح على صحته ؛ فأما أن يكون ها هنا طبيبان يعالج أحدهما الصحيح ، والآخر يعالج المريض ، فهذا ما لم نعهده نحن ولا أنت ؛ وهو شيءٌ خارجٌ عن العادة ، فمثلك مردودٌ عليك ، وتشنيعك فاضحٌ لك ، وكل أحد يعلم أن التدبير في حفظ الصحة ودفع المرض - وإن كان بينهما فرق - واحد ، فالطب يجمعهما ، والطبيب الواحد يقوم بهما وبشرائطهما . وأما قولك في الفصل الثاني : إن أحدى الفضيلتين تقليدية ، والأخرى برهانية ، فكلامٌ مدخول ، لأنك غلطت على نفسك ؛ ألا تعلم ان البرهانية هي الواردة بالوحي ، الناظمة للرشد ، الداعية إلى الخير ، الواعدة بحسن المآب ؛ وأن التقليدية هي المأخوذة من المقدمة والنتيجة ، والدعوى التي يرجع فيها إلى من ليس بحجة ، وإنما هو رجلٌ قال شيئاً فوافقه آخر وخالفه آخر ، فلا الموافق له يرجع إلى الوحي ، ولا المخالف له يستند إلى حق ؛ والعجب أنك جعلت الشريعة من باب الظن ، وهي بالوحي ، وجعلت الفلسفة من باب اليقين ، وهي من الرأي . وأما قولك : هذه روحانية - تعني الفلسفة - وهذه جسمية - تعني الشريعة - فزخرفة لا تستحق الجواب ، ولمثل هذا فليعمل المزخرفون ؛ على أنا لو قلنا : بل الشريعة هي الروحانية ، لأنها صوت الوحي ، والوحي من الله عز وجل ، والفلسفة هي الجسمية ، لأنها برزت من جهة رجل باعتبار الأجسام والأعراض ، وما هذا شأنه فهو بالجسم أشبه ، وعن لطف الروح أبعد لما أبعدنا . وأما قولك : الفلسفة خاصةٌ والشريعة عامة ، فكلام ساقط لا نور عليه ، لأنك تشير به إلى أن الشريعة يعتقدها قوم - وهم العامة - والفلسفة ينتحلها قوم - وهم الخاصة - فلم جمعتم رسائل إخوان الصفاء ودعوتم الناس إلى الشريعة وهي لا تلزم إلا للعامة ، ولم تقولوا للناس : من أحب أن يكون من العامة فليتحل بالشريعة ، فقد ناقضتم ، لأنكم حشوتم مقالتكم بآياتٍ من كتاب الله تزعمون بها أن الفلسفة مدلولٌ عليها بالشريعة ، ثم الشريعة مدلولٌ عليها بالمعرفة ، ثم هأنت تذكر أن هذه للخاصة ؛ وتلك للعامة ؛ فلم جمعتم بينمفترقين ، ومزقتم بين مجتمعين ؛ هذا والله الجهل المبين ، والخرق المشين . وأما قولك : إنا جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة ، وإن كانت الشريعة جاحدةً للفلسفة ، فهذه مناقضة أخرى ، وإني أظن أن حسك كليل ، وعقلك عليل ، لأنك قد أوضحت عذر أصحاب الشريعة ، إذ جحدوا الفلسفة ، وذلك أن الشريعة لا تذكرها ، ولا تخص على الدينونة بها ؛ ومع ذلك فليس لهم علمٌ بأن الفلسفة قد حثت على قبول الشريعة ، ونهت عن مخالفتها ، وسمتها بالناموس الحافظ لصلاح العالم . ثم قال الحريري : حدثني أيها الشيخ : على أي شريعةٍ دلت الفلسفة ؟ أعلى اليهودية ، أم على النصرانية ، أم على المجوسية ، أم على الإسلام ، أم ما عليه الصابئون ؟ فإن ها هنا من يتفلسف وهو نصراني كابن زرعة وابن الخمار وأمثالهما ، وها هنا من يتفلسف وهو يهودي ، كأبي الخير بن يعيش ، وها هنا من يتفلسف وهو مسلم ، كأبي سليمان والنوشجاني وغيرهما ؛ أفتقول إن الفلسفة أباحت لكل طائفة من هذه الطوائف أن تدين بذلك الدين الذي نشأت عليه ؟ ودع هذا ليخاطب غيرك ، فإنك من أهل الإسلام بالهدى والجبلة والمنشأ والوراثة ؛ فما بالنا لا نرى واحداً منكم يقوم بأركان الدين ، ويتقيد بالكتاب والسنة يراعي معالم الفريضة ووظائف النافلة ؟ وأين كان الصدر الأول من الفلسفة ؟ أعني الصحابة ، وأين كان التابعون منها ؟ ولم خفي هذا الأمر العظيم - مع ما فيه من الفوز والنعيم - على الجماعة الأولى والثانية والثالثة إلى يومنا هذا وفيهم الفقهاء والزهاد والعباد وأصحاب الورع والتقى ، والناظرون في الدقيق ودقيق الدقيق وكل ما عاد بخيرٍ عاجل وثوابٍ آجل ،هيهات لقد أسررتم الحشو في الارتغاء واستقيتم بلا دلو ولا رشاء ، ودللتم على فسولتكم وضعف منتكم وأردتم أن تقيموا ما وضعه الله ، وتضعوا ما رفعة الله ، والله لا يغالب ؛ بل هو غالبٌ على أمره ، فعال لما يريد . قد حاول هذا الكيد خلقٌ في القديم والحديث ، فنكصوا على أعقابهم خائبين ، وكبوا لوجوههم خاسرين ؛ منهم أبو زيد البلخي ؛ فإنه ادعى أن الفلسفة مقاودة للشريعة ، والشريعة مشاكلة للفلسفة ، وأن إحداهما أم والأخرى ظئر ، وأظهر مذهب الزيدية ، وانقاد لأمير خراسان الذي كتب له أن يعمل في نشر الفلسفة بشفاعة الشريعة ، ويدعو الناس إليها باللطف والشفقة والرغبة ، فشتت الله كلمته ، وقوض دعامته ، وحال بينه وبين إرادته ، ووكله إلى حوله وقوته ، فلم يتم له من ذلك شيء . وكذلك رام أبو تمام النيسابوري ، وخدم الطائفة المعروفة بالشيعية ولجأ إلى مطرف بن محمد وزير مرداويج الجيلي ليكون له به قوة ، وينطق بما في نفسه من هذه الجملة ، فما زادته إلا صغراً في قدره ، ومهانةً في نفسه ، وتوارياً في بيته ؛ وهذا بعينه قصد العامري فما زال مطروداً من صقع إلى صقع ينذر دمه ويرتصد قتله ، فمرةً يتحصن بفناء ابن العميد ، ومرةً يلجأ إلى صاحب الجيش بنيسابور ، ومرةً يتقرب إلى العامة بكتبٍ يصنفها في نصرة الإسلام ، وهو على ذلك يتهم ويقرف بالإلحاد ؛ وبقدم العالم واللاكم في الهيولى والصورة والزمان والمكان ، وما أشبه هذا من ضروب الهذيان التي ما أنزل اللهبها كتابه ، ولا دعا إليها رسوله ، ولا أفاضت فيها أمته . ومع ذلك يناغي صاحب كل بدعة ؛ ويجلس إليه كلٌ منهم ؛ ويلقي كلامه إلى كل من ادعى باطناً للظاهر وظاهراً للباطن . وما عندي أن الأئمة الذين يأخذ عنهم ويقتبس منهم ، كأرسطوطاليس وسقراط وأفلاطون ، رهط الكفر ذكروا في كتبهم حديث الظاهر والباطن ، وإنما هذا من نسج القداحين في الإسلام ، الساترين على أنفسهم ما هم فيه من التهم ؛ وهذا بعينه دبره الهجريون بالأمس ، وبهذا دندن الناجمون بقزوين وبثوا الدعاة في أطراف الأرض ، وبذلوا الرغائب وفتنوا النفوس . وقد سمعنا تأويلات هذه الطوائف لآيات القرآن في قوله عز وجل : ' انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعبٍ ' وفي قوله تعالى : ' عليها تسعة عشر ' وفي قوله تعالى : ' سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ' إلى غير ذلك مما يطول ويعول فدعونا من التورية والحيلة والإيهام والكناية عن شيء لا يتصل بالإرادة ، والإرادة لشيء لا يتصل بالتصريح ، فالناس ألقد لأديانهم وأحرص على الظفر ببغيتهم من الصيارفة لدنانيرهم ودراهمهم . فلما انبهر المقدسي بما سمع وكاد يتفرى إهابه من الغيظ والعجز وقلة الحيلة قال : الناس أعداء ما جهلوا ، ونشر الحكمة في غير أهلها يورث العداوة ويطرح الشحناء ويقدح زند الفتنة .ثم كر الحريري كر المدل وعطف عطفة الواثق بالظفر ، فقال : يا أبا سليمان ، من هذا الذي يقر منكم أن عصا موسى انقلبت حية ، وأن البحر انفلق ، وأن يداً خرجت بيضاء من غير سوء ، وأن بشراً خلق من تراب ، وأن آخرته ولدته أنثى من غير ذكر ، وأن ناراً مؤججةً طرح فيها إنسانٌ فصارت له برداً وسلاماً ، وأن رجلاً مات مائة عامٍ ثم بعث فنظر إلى طعامه وشرابه على حاليهما لم يتغيرا ، وأن قبراً تفقأ عن ميتٍ حيى ، وأ طيناً دبر فنفخ فيه فطار ، وأن قمراً انشق ، وأن جذعاً حن ، وأن ذئباً تكلم ، وأن ماءً نبع من أصابع فروى منه جيشٌ عظيم ، وأن جماعةً شبعت من ثريدةٍ في قدر جسم قطاة ؟ وعلى هذا ، إن كنتم تدعون إلى شريعة من الشرائع التي فيها هذه الخوارق والبدائع فاعترفوا بأن هذه كلها صحيحة ثابتة كائنة لا ريب فيها ولا مرية ، من غير تأويل ولا تدليس ، ولا تعليل ولا تلبيس ، وأعطونا خطكم بأن الطبائع تفعل هذا كله ، والمواد تواتى له ، والله تعالى يقدر عليه ؛ ودعوا التورية والحيلة والغيلة والظاهر والباطن ، فإن الفلسفة ليست من جنس الشريعة ، ولا الشريعة من فن الفلسفة ، وبينهما يرمي الرامي ويهمي الهامي ؛ على أنا ما وجدنا الديانين من المتألهين من جميع الأديان يذكرون أن أصحاب شرائعهم قد دعوا إلى الفلسفة وأمروا بطلبها واقتباسها من اليونانيين هذا موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان وزكريا ويحيى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم نحق من يعزو إليهم شيئاً من هذا الباب ، ويعلق عليهم هذا الحديث . قال الوزير : ما عجبي من جميع هذا الكلام إلا من أبي سليمان في هذا الاستحقار والتغضب ، والاحتشاد والتعصب ؛ وهو رجل يعرف بالمنطقي ، وهو من غلمان يحيى بن عدي النصراني ، ويقرأ عليه كتب يونان ، وتفسير دقائق كتبهم بغاية البيان . فقلت : إن أبا سليمان يقول : إن الفلسفة حقٌ لكنها ليست من الشريعة في شيء ، والشريعة حقٌ لكنها ليست من الفلسفة في شيء ، وصاحب الشريعة مبعوث ، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه ، وأحدهما مخصوص بالوحي ، والآخر مخصوص ببحثه ، والأول مكفي ،والثاني كادح ، وهذا يقول : أمرت وعلمت ، وقيل لي ، وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ؛ وهذا يقول : رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت ؛ وهذا يقول : نور العقل أهتدي به ؛ وهذا يقول : معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه ؛ وهذا يقول : قال الله تعالى ، وقال الملك ؛ وهذا يقول : قال أفلاطن وسقراط ؛ ويسمع من هذا ظاهر تنزيل ، وسائغ تأويل ، وتحقيق سنة ، واتفاق أمة ؛ ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والأسطقس والذاتي والعرضي والأيسي والليسي ، وما شاكل هذا مما لا يسمع من مسلمٍ ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانوي . ويقول أيضاً : من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات ، ومن اختار التدين فيجب عليه أن يعرد بعنايته عن الفلسفة ويتحلى بهما مفترقين في مكانين على حالين مختلفين ، ويكون بالدين متقرباً إلى الله تعالى ، على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى ، ويكون بالحكمة متصفحاً لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين ، المحيرة لكل عقل ، ولا يهدم أحدهما بالآخر . أعني لا يجحد ما ألقي إليه صاحب الشريعة مجملاً ومفصلاً ، ولا يغفل عما استخزن الله تعالى هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته ، واشتمل بحكمته ، واستقام بمشيئته ، وانتظم بإرادته واستتم بعلمه ؛ ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشريعة ، وبدائع آيات النبوة بأحكام الفلسفة ، فإن الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية ، والديانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة . قال : ولعمري إن هذا صعب ، ولكنه جماع الكلام ، وأخذ المستطاع ، وغاية ما عرض له الإنسان المؤيد باللطائف ، المزاح بالعلل وبضروب التكاليف . قال : ومن فضل نعمة الله تعالى على هذا الخلق أنه نهج لهم سبيلين ونصب لهم علمين ، وأبان لهم نجدين ليصلوا إلى دار رضوانه إما بسلوكهما وإما بسلوك أحدهما .فقال له البخاري : فهلا دل الله على الطريقين اللذين رسمتهما في هذا المكان ؟ قال : ودل وبين ، ولكنك عمٍ ، أما قال : ' وما يعقلها إلا العالمون ' ؟ وفي فحوى هذا وما يعلمها إلا العالمون ؟ فقد وصل العقل بالعلم ، كما وصل العلم بالعقل ، لأن كمال الإنسان بهما ، ألا ترى أن العاقل متى عري من العلم قل انتفاعه بعقله ؟ كذلك العالم متى خلي من العقل بطل انتفاعه بعلمه ، أما قال : ' وما يتذكر إلا أولوا الألباب ' ؟ أما قال : ' فاعتبروا يا أولي الأبصار ' ؟ أما قال : ' أفلا يتدبرون القرآن ' ؟ أما ذم قوماً حين قال : ' يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ' ؟ أفما قال : ' أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها ' أما قال : ' وكأين من آيةٍ في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ' ؟ أما قال : ' إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ ' ؟ وكتاب الله عز وجل محيطٌ بهذا كله ، وإنما تقاد إلى طاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذا فيما لا يناله عقلك ، ولا يبلغه ذهنك ، ولا يعلو إليه فكرك ، فأمرك باتباعه والتسليم له ، وإنما دخلت الآفة من قومٍ دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل ، ومالوا إلى الشغب بالتعصب ، وقابلوا الأمور بتحسينهم وتقبيحهم وتهجينهم ، وجهلوا أن وراء ذلك ما يفوت ذرعهم ، ويتخلف عن لحاقه رأيهم ونظرهم ، ويعمي دون كنه ذلك بصرهم ؛ وهذه الطائفة معروفة ، منهم صالح بن عبد القدوس ، وابن أبي العوجاء ، ومطر بن أبي الغيث ، وابن الراوندي ، والحصري ، فإن هؤلاء طاحوا في أودية الضلالة ، واستجروا إلى جهلهم أصحاب الخلاعة والمجانة . فقال البخاري : فما الذي تركت بهذا الوصف للذين جمعوا بين الفلسفة والديانة ؛ ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن ، والخفي والجلي ، والبادي والمكتوم ؟ قال : تركت لهم الطويل العريض ، القوم زعموا أن الفلسفة مواطئةٌ للشريعة ، والشريعة موافقةٌ للفلسفة ؛ ولا فرق بين قول القائل : قال النبي ، وقال الحكيم ، وأن أفلاطونما وضع كتاب النواميس إلا لنعلم كيف نقول ؟ وبأي شيء نبحث ، وما الذي نقدم ونؤخر ، وأن النبوة فرعٌ من فروع الفلسفة ، وأن الفلسفة أصل علم العالم ، وأن النبي محتاجٌ إلى تتميم ما يأتي به من جهة الحكيم ، والحكيم غنيٌ عنه ؛ هذا وما أشبهه ؛ وأن صاحب الدين له أن يعين ويوري ويشير ويكني حتى تتم المصلحة ، وتنتظم الكلمة ، وتتفق الجماعة ، وتثبت السنة ، وتحلو المعيشة ، وحتى قال قائل منهم : أوائل الشريعة أمورٌ مبتدعة ، ووسائطها سننٌ متبعة ، وأواخرها حقوقٌ منتزعة ، وإن هذا النعت من قولي : إن الشريعة إلهية ، والفلسفة بشرية ، أعني أن تلك بالوحي ، وهذه بالعقل ، وأن تلك موثوقٌ بها ومطمأنٌ إليها ، وهذه مشكوكٌ فيها مضطربٌ عليها . قال له البخاري : فلم لم ينهج صاحب الشريعة هذه الطريق ، وكان يزول هذا الخصام ، وينتفي هذا الظن ، وتكسد هذه السوق ؟ فقال : إن صاحب الشريعة مستغرقٌ بالنور الإلهي ، فهو محبوس على ما يراه ويبصره ، ويجده وينظره ، لأنه مأخوذ بما شهده بالعيان وأدركه بالحس وناله بوديعة الصدر عن كل ما عداه ، فلهذا يدعو إلى اقتباس كماله الذي حصل له ، ولا يسعد بدعوته إلا من وفق لإجابته ، وأذعن لطاعته ، واهتدى بكلمته ، والفلسفة كمال بشري ، والدين كمالٌ إلهي ، والكمال الإلهي غنيٌ عن الكمال البشري ، والكمال البشري فقيرٌ إلى الكمال الإلهي ، فهذا هذا ، وما أمر الله عز وجل بالاعتبار ، ولا حث على التدبير ، ولا حرك القلوب إلى الاستنباط ، ولا حبب إلى القلوب البحث في طلب المكنونات ، إلا ليكون عباده حكماء ألباء أتقياء أذكياء ، ولا أمر بالتسليم ولا حظر الغلو والإفراط في التعمق إلا ليكون عباده لاجئين إليه متوكلين عليه ، معتصمين به ، خائفين منه ، راجين له ، يدعونه خوفاً وطمعاً ، ويعبدونه رغباً ورهباً ، فبين ما بين حرصاً على معرفته وعبادته ، وطاعته وخدمته ، وأخفى ما أخفى لتدوم حاجتهم إليه ، ولا يقع الغنى عنه ، وبالحاجة يقع الخضوع والتجرد ، وبالاستغناء يعرض التجبر والتمرد ؛ وهذه أمورٌ جاريةٌ بالعادة ، وثابتة بالسيرة الجائرة والعادلة ؛ ولا سبيل إلى دفعها ورفعها وإنكارها وجحدها ، فلهذا لزم كل من أدرك بعقله شيئاً أن يتمم نقصه بما يجده عند من أدرك ما أدرك بوحيٍ من ربه . وقال أيضاً : مما يؤكد هذه الجملة أن الشريعة قد أتت على معقولٍ كثير ، بنور الوحيالمنير ، ولم تأتي الفلسفة على شيء من الوحي لا كثيرٍ ولا قليل : قال : وليس ليونان نبيٌ يعرف ، ولا رسولق من قبل الله صادق ، وإنما كانوا يفزعون إلى حكمائهم في وضع ناموسٍ يجمع مصالح حياتهم ونظام عيشهم ومنافع أحوالهم في عاجلتهم ، وكانت ملوكهم تحب الحكمة وتؤثر أهلها ، وتقدم من تحلى بجزء من أجزائها ، وكان ذلك الناموس يعمل به ويرجع إليه ، حتى إذا أبلاه الزمان ، وأخلقه الليل والنهار ، عادوا فوضعوا ناموساً آخر جديداً بزيادة شيء على ما تقدم أو نقصانٍ ، على حسب الأحوال الغالبة على الناس ، والمغلوبة بين الناس ، ولهذا لا يقال : إن الإسكندر في أيام ملكه حين سار من المغرب إلى المشرق كانت شريعته كذا وكذا ، وكان يذكر نبياً يقال له : فلان ، أو قال : أنا نبي ، ولقد واقع داراً وغيره من الملوك على طريق الغلبة في طريق الغلبة في طلب الملك ، وحيازة الديار وجباية الأموال والسبي والغارة ، ولو كان للنبوة ذكرٌ وللنبي حديثٌ لكان ذلك مشهوراً مذكوراً ، ومؤرخاً معروفاً . قال الوزير : هذا كلامٌ عجيبٌ ما سمعت مثله على هذا الشرح والتفصيل ، قلت : إن شيخنا أبا سليمان غزير البحر ، واسع الصدر ، لا يغلق عليه في الأمور الروحانية والأنباء الإلهية والأسرار الغيبية ، وهو طويل الفكرة ، كثير الوحدة ، وقد أوتي مزاجاً حسن الاعتدال ، وخاطراً بعيد المنال ، ولساناً فسيح المجال ، وطريقته هذه التي اجتباها مكتنفةٌ بمعارضاتٍ واسعة ، وعليها مداخل لخصمائه ، وليس يفي كل أحدٍ بتلخيصه لها ، لأنه قد أفرز الشريعة من الفلسفة ، ثم حث على انتحالهما معاً ، وهذا شبيهٌ بالمناقضة . وقد رأيت صاحباً لمحمد بن زكرياء ي هذه الأيام ورد من الري يقال له : أبو غانم الطبيب يشاده في هذا الموضع ويضايقه ، ويلزمه القول بما ينكره على الخصم ، وإذا أذنت رسمت كلامهما في ورقات . فقال الوزير : قد بان الغرض الذي رمي إليه ، وتقليبه بالجدل لا يزيده إلا إغلاقاً ، والقصد معروف ، والوقوف عليه كافٍ ، ومع هذا فليت حظنا منه كان يتوفر بالتلاقي والاجتماع ، لا بالرواية والسماع ، هات فائدة الوداع ، فقد بلغت في المؤانسة غاية الإمتاع . قلت : أكره أن أختم مثل هذه الفقرة الشريفة بما يشبه الهزل وينافي الجد ، فإن أذنت رويت ما يكون أساساً ودعامة لما تقدم .قال : هات ما أحببت ، فما عهدنا من روايتك إلا ما يشوقنا إلى رؤيتك . قلت : قال ابن المقفع : عمل الرجل بما يعلم أنه خطأٌ هوىً ، والهوى آفة العفاف ، وتركه العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاون ، والتهاون آفة الدين ، وإقدامه على ما لا يعلم أصوابٌ هو أم خطأٌ لجاج ، واللجاج آفة الرأي . فقال - حرس الله نفسه - : ما أكثر رونق هذا الكلام وما أعلى رتبته في كنه العقل اكتبه لنا ، بل اجمع لي جزءاً لطيفاً من هذه الفقر ، فإنها تروح العقل في الفينة بعد الفينة ، فإن نور العقل ليس يشع في كل وقت ؛ بل يشع مرةً ويبرق مرةً ، فإذا شع عم نفعه ، وإذا برق خص نفعه وإذا خفي بطل نفعه . قلت : أفعل . فقال : إن كان معك شيءٌ آخر فاذكره ، فإن الحديث الحسن لا يمل ، وما أحسن ما قال خالد بن صفوان ، فإنه قيل له : أتمل الحديث ؟ قال : إنما يمل العتيق . قال : صدق خالد : إن الحديث لا يمل من الزمان إلا فيما يليه ، وإلا يمل في أول زمانه وفاتحة أوانه ، وإنما الملل يعرض بتكرر الزمان وضجر الحس ونزاع الطبع إلى الجديد ، ولهذا قيل : لكل جديدٍ لذة . فحكيت أنه لما تقلد كسرى أنوشروان مملكته عكف على الصبوح والغبوق ، فكتب إليه وزيره رقعةً يقول فيها : إن في إدمان الملك ضرراً على الرعية ، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمور المملكة . فوقع على ظهر الرقعة بالفارسية بما ترجمته : يا هذا ، إذا كانت سبلنا آمنة ، وسيرتنا عادلة ، والدنيا باستقامنا عامرة ، وعمالنا بالحق عاملة ، فلم نمنع فرحةً عاجلة ؟ . قال : من حدثك بهذا ؟ قلت : أبو سليمان شيخنا ، قال : فكيف كان رضاه عن هذا الملك في هذا القول ؟ فقلت : اعترض فقال : أخطأ من وجوه ، أحدها أن الإدمان إفراط ، والإفراط مذموم ؛ والآخر أنه جهل أن أمن السبيل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحقمتى لم يوكل بها الطرف الساهر ولم تحط بالعناية التامة ، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام ، دب إليها النقص والنقص بابٌ للانتقاض ، مزعزعٌ للدعامة ، والآخر أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب والتلذذ والتمتع ، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها وإبعاد الغي عنها ما يستوعب أضعاف العمر ، فكيف إذا كان العمر قصيراً ، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيراً ؟ والآخر أنه ذهب عليه أن الخاصة والعامة إذا وقفت على استهتار الملك باللذات ، وانهماكه في طلب الشهوات ، ازدرته واستهانت به ، وحدثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير واستهانة الخاصة والعامة بالناظر في أمرها والقيم بشأنها متى تكررت على القلوب تطرقت إلى اللسان ، وانتشرت في المحافل ، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرةٌ للهيبة ، وقلة الهيبة رافعةٌ للحشمة ، وارتفاع الحشمة باعثٌ على الوثبة ، والوثبة غير مأمونةٍ من الهلكة ؛ وما خلا الملك من طامعٍ راصدٍ قط وليس ينبغي للملك الحازم أن يظن أنه لا ضد له ولا منازع ، وقد ينجم الضد والمنازع من حيث لا يحتسب ، وما أكثر خجل الواثق وما أقل حزم الوامق وما أقل يقظة المائق . ثم قال : وعلى الضد متى كان السائس ذا تحفظٍ وبحثٍ ، وتتبعٍ وحزمٍ وإكبابٍ على لم الشعث وتقويم الأود وسد الخلل وتعرف المجهول وتحقق المعلوم ورفع المنكر وبث المعروف ، احترست منه العامة والخاصة ، واستشعرت الهيبة ، والتزمت بينها النصفة ، وكفيت كثيراً من معاناتها ومراعاتها ، وإن كان للدولة راصدٌ للغرة يئس من نفوذ الحيلة فيها ، لأن اللص إذا رأى مكاناً حصيناً وعهد عليه حراساً لم يحدث نفسه بالتعرض له ، وإنما يقصد قصرا فيه ثلمة ، وباباً إليه طريق ، والأعراض بالأسباب ، وإذا ضعف السبب ضعف العرض ، وإذا انقطع السبب انقطع العرض . فقال - أدام الله أيامه - : هذا كلامٌ كافٍ شافٍ . وقال بعد ذلك : حدثني عما تسمع من العامة في حديثنا . قلت : سمعت بباب الطاق قوماً يقولون : اجتمع الناس اليوم على الشط فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسبوغلبة الفقر وتهتك صاحب العيال ، وأنه أجابهم بجوابٍ مرٍ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم بالاستغاثة : بعد لم تأكلوا النخالة . فقال : والله ما قلت هذا ، ولا خطر لي على بال ، ولم أقابل عامةً جاهلةً ضعيفةً جائعةً بمثل هذه الكلمة الخشناء ، وهذا يقوله من طرح الشر وأحب الفساد وقصد التشنيع علي والإيحاش مني ، وهو هذا العدو الكلب ، يعني ابن يوسف كفاني الله شره ، وشغله بنفسه ، ونكس كيده على رأسه ؛ والله لأنظرن لها وللفقراء بمالٍ أطلقه من الخزانة ، وأرسم ببيع الخبز ثمانية بدرهم ، ويصل ذلك إلى الفقراء في كل محلةٍ على ما يذكر شيخها ، ويبيع الباقون على السعر الذي يقوم لهم ، ويشتريه الغني الواجد ؛ ففعل ذلك - أحسن الله جزاءه - على ما عرفت وشاهدت ، وأبلغته بنشر الدعاء له في الجوامع والمجامع بطول البقاء ودوام العلاء وكبت الأعداء ونصر الأولياء . ثم كتبت جزءاً من الفقر على ما رسم من قبل ، فلما أوصلته إليه قال لي : اقرأ ، فقرأته عليه ، فقال : صل هذا الجزء بجزء آخر من حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة وبجزء من الشعر ، وبشيء من معاني القرآن ، فإنه مقدمٌ على كل شيء بحسب ما رفع الله من خطره ، وأحوج إلى فهمه ، وندب إلى العمل به ، وأثاب على التفكر فيه والتعجب منه . وعظ رجلٌ من ' جهينة ' ' عمرو بن العاص ' في قصة الحكومة ، فقال عمرو له : ما أنت وذاك يا تيس جهينة ؟ فوالله ما ينفعك الحق ، ولا يضرك الباطل ، فاسكت فإن الظلف لا يجري مع الخف . وقال بعض الحكماء : إن المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة . وقال الشاعر : لاح سهيلٌ في الظلام الدامس . . . كأنه نارٌ بكف القابسقال ربيعة بن عامر بن مالك في عمرو بن الإطنابة - حين دفع أخته وأخذ أخاه وكان أسيراً في قومه ، وجعل دفع أخيه إليه صداق أخته ، وهو الذي تسميه العرب المساهاة - : فقد حزمى الذي هديت له ، وعزمى الذي أرشدت إليه . وقال الشاعر : وساهى بها عمرٌو وراعى إفاله . . . فزبدٌ وتمرٌ بعد ذاك كثير وكانت دية العربي مائة وسقٍ ، ودية الهجين خمسين وسقاً ، ودية المولى عشرة أوسق ؛ وكانت العرب تجعل دية المعم المخول مائة بعيرٍ ، ودية المولى خمسةً وعشرين بعيراً . وقال جرير : رأيت بني نبهان أذناب طيىءٍ . . . وللناس أذنابٌ ترى وصدور ترى شرط المعزى مهور نسائهم . . . وفي شرط المعزى لهن مهور وقال خالد بن جعفر بن كلاب : بل كيف تكفرني هوازن بعدما . . . أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربهم زهيراً بعدما . . . جدع الأنوف وأكثر الأوتارا وجعلت مهر نسائهم ودياتهم . . . عقل الملوك هجائناً وبكارا وقال جندل بن صخرٍ ، وكان عبداً : وما فك رقى ذات دلٍ خدلجٌ . . . ولا ساق مالي صدقةٌ وعقولولكن نماني كل أبيض خضرمٍ . . . فأصبحت أدري اليوم كيف أقول وقتل الكلبي عبد الله بن الجوشن الغعطفاني بقتله ابنه الجراح بن عبد الله رواد ، وكانوا عرضوا عليه الدية ، فقال : شفيت بروادٍ غليلاً وجدته . . . على القلب منه مستسرٌ وظاهر ألا ليت قبراً بين أدمي ومطرقٍ . . . يحدثه عني الأحاديث خابر وقالوا نديه من أبيه ونفتدي . . . فقلت : كريمٌ ما تديه الأباعر ألم تر أن المال يذهب دثره . . . وتغبر أقوالٌ وتبقى المعاير أدمى ومطرق غديران بين فدك وبلاد طىء . سئلت ابنة اخس هل يلقح البازل ؟ قالت : نعم وهو رازم ، أي وإن كان لا يقدر على القيام من الضعف والهزال . يقال : جملٌ بازلٌ وناقةٌ بازلٌ ، ويقال : ضربه فبركعه إذا أبركه ، وتبركع ، ويقال : شم لي هذه الإبل ، أي انظر لي خبرها . ويقال لولد كل بهيمةٍ إذا ساء غذاؤه : جحنٌ ومحثلٌ وجذعٌ ، وكل ما غذي بغير أمه يقال له : عجيٌ ، وكذلك الجحن والوغل والسغل كله السيء الغذاء . سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ضالة الإبل ، فقال : ما لك ولها ؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل من الشجر حتى يأتيها ربها . سئل - عليه السلام - عن ضالة الغنم ، فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب . قيل له عليه السلام : فاللقطة ؟ قال : تعرفها سنة وتحصي وكاءها ووعاءهاوعفاصها وعددها ؛ فإن جاء صاحبها فأدها إليه . وقال أبي بن كعبٍ : أصبت مائة دينارٍ على عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ' احفظ عفاصها ووكاءها وعددها فإن جاء صاحبها فأخبرك بعددها وعفاصها ووكائها فأدها إليه وإلا فعرفها سنة ، ثم استمتع بها ' . قال علي بن الحسن : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إذا كان يقف النخلتين قال له الأنصار : يا رسول الله ، هل لك في السباق ؟ قال : نعم وهو يومئذ على النواضح - وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في أخريات الناس ، وأسامة بن زيدٍ على العضباء ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو في أول الناس - فقال : أين أسامة ؟ فتنادى الناس حتى بلغ أسامة الصوت ، فوضع السوط في الناقة فأقبلت ، فلما دنت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن إخواننا من الأنصار قد أرادوا السباق فأنخ ناقتك حتى ترعو ، ثم علق الخطام ثم سابقهم ؛ ففعل واستبقوا ، فسبقت ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجعل أسامة يكبر ويقول : سبق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورسول الله يقول : سبق أسامة ، فلما أكثر من ذلك قال له : أقصر يا أسامة ، فإن إخواننا من الأنصار فيهم حياءٌ وحفيظة . قال : وليس لشيء من الحيوان سنامٌ إلا البعير ، ولبعض البخاتي سنامان ، ولبعض البقر شيء صغيرٌ على موضع الكاهل . والجمل يبول إلى خلفٍ ، وكذلك الأسد . وقضيب الجمل من عصبٍ ، وقضيب الإنسان من لحمٍ وغضروفٍ ، وقضيب الذئب والثعلب من عظمٍ ، وقضيب ذكر الأرانب من عظمٍ على صورة الثقب كأنه نصف أنبوبةٍ مشقوقة . وفي قلب الثور عظم ، وربما وجد في قلب الجمل . والمرأة تلد من قبل ، والناقة من خلف . وزمان نزو الجمال في شباط . والإناث من الإبل تحمل اثني عشر شهراً وتضع واحداً وتلقح إذا بلغت ثلاث سنين ، وكذلك الذكر ، ثم تقيم الأنثى سنةً ثم ينزى عليها . وزعم صاحب المنطق أن الجمل لا ينزو على أمه ، وإن اضطر كرهه . قال : وقد كان رجلٌ في الدهر السالف ستر الأم بثوبٍ ثم أرسل بكراً عليها ، فلماعرف ذلك لم يتم وقطع ، وحقد على الجمال فقتله . قال : وقد كان لملكٍ فرسٌ أنثى ، وكان لها أفلاءٌ ، فأراد أن تحمل من أكرمها ، فصد عنها وكرهها ، فلما سترت وثب فركبها ، فلما رفع الثوب ورآها هرب ومر حضراً حتى ألقى نفسه في بعض الأودية فهلك . . . . . هذا كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه . قال حذيفة : كن في الفتنة كابن البون ، لا ظهر فيركب ، ولا لبن فيحلب . قال ديوجانس : إن المرأة تلقن الشر من المرأة ، كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة . وقال فيثاغورس : إن كثيراً من الناس يرون العمى الذي يعرض لعين البدن فتأباه أنفسهم ، فأما عمى عين النفس فإنهم لا يرونه ولا تأباه أنفسهم ، فلذلك لا يستحيون . وقال أيضاً : كما أن الذي يسلك طريقاً لا يعرفه لا يدري إلى أي موضعٍ يؤديه ، كذلك الذي يسمع كلاماً لا يعرف الغرض فيه لا يربح منه إلا التعب . قيل لديوجانس : أيهما أولى ، طلب الغنى ، أم طلب الحكمة ؟ فقال : للدنيا الغنى ، وللآخرة الحكمة . وقيل له : متى تطيب الدنيا ؟ قال : إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها . فقال الوزير - أسعده الله - عندي أن هذا الكلام مدخول ، لأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وفرغ نفسه للدار الآخرة ، فكيف يكون الملك رافضاً للدنيا وقالياً لها ، وهو محتاجٌ إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها ، وله أولياء يحتاج إلى تدبيرهم وإقامة أبنيتهم والتوسعة عليهم ومواكلتهم ومشاربتهم ومداراتهم والإشراف على سرهم وعلانيتهم ، والملك أتعب من الطبيب الذي يجمع معالجةً كثيرةً بضروب الأدوية المختلفة والأغذية المتباينة ؛ هذا والطبيب فقيرٌ إلى تقديم النظر في نفسه وبدنه ، ونفي الأمراض والأغراض عن ظاهره وباطنه ، ومن كان هكذا ومن هو أكثر منهوأشد حاجةً وعلاقةً كيف يستطيع أن يكون ملكاً وحكيماً ؟ ولعل قائلاً يظن هذا ممكناً ، ويكون الملك واعياً في الحكمة بالدعوى ، وقائماً بالملك على طريق الأولى ، وهذا إلى التياث الأمر واختلاله واختلاطه في الملك والفلسفة أقرب منه إلى إحكام الأصل وإثبات الفرع . قال : ولهذا لم نجد نحن في الإسلام من نظر في أمر الأمة على الزهد والتقى وإيثار البر والهدى إلا عداداً قليلاً ، والمجوس تزعم أن الشريعة معرجةٌ عن الملك ، أي الذي يأتي بها ليس له أن يعرج على الملك ، بل له أن يكل الملك إلى من يقوم به على أحكام الدين ، ولهذا قال ملكنا الفاضل : الدين والملك أخوان ، فالدين أسٌ ، والملك حارس ، فما لا أس له فهو مهدوم ، وما لا حارس له فهو ضائع . فقلت له : هذا باب إن توزع القول فيه طال ، وإن رمي بالقصد جاز ، واللائمة كلامٌ كثيرٌ في الإمامة والخلافة وما يجري مجرى النيابة عن صاحب الديانة على فنونٍ مختلفة ، وجمل متعددة ، إلا أن الناظر في أحوال الناس ينبغي أن يكون قائماً بأحكام الشريعة ، حاملاً للصغير والكبير ، على طرائقها المعروفة ، لأن الريعة سياسة الله في الخلق ، والملك سياسة الناس للناس ، على أن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة ، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة ، والملك مبعوث ، كما أن صاحب الدين مبعوث ، إلا أن أحد البعثين أخفى من الآخر ، والثاني أشهر من الأول . قال - أطال الله بقاءه - كنت أحب أن أعلم من أين قلت : إن الملك مبعوث أيضاً ؟ فإن هذه الكلمة ما ثبتت في أذني قط ، ولا خطرت لي على بال ؛ قلت : قال الله عز وجل في تنزيله : ' إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ' . فعجب وقال : كأني لم أسمع بهذا قط . وذكر للإسكندر سوء أحوال رؤساء مذهبه لما كان أبوه احتاز أموالهم وسلب أحوالهم . فقال : يجب للآباء على الأبناء إزالة الذم عنهم ، ومحو الإثم ، واستعطاف القلوب عليهم ، ونشر المحامد عنهم ؛ وأمر برد أموالهم عليهم ، وزاد في الإحسان إليهم . وقال : قد بلغ من فرط شفقة الآباء على الأبناء أن يسيئوا إلى أنفسهم لتكون الإساءة سبباً للإحسان إلى أولادهم ، لأنهم يرون أولادهم كأنفسهم لأنهم من أنفسهم .فقلت : أيها الوزير ، إني لأعجب من الإسكندر في الفعل الرشيد والقول السديد ، فهذا المنصور أبو جعفر صاحب الشهامة والصرامة أخذ من وجوه العراق أموالاً بخواتيم أصحابها وأفقرهم ، وجعلها في خزائنه بعد أن كتب على تلك الخرائط والظروف أسماء أهلها ، ثم وصى المهدي بردها على أصحابها بعد موته ، ووكد ذلك عليه ، وقال : يا بني ، إنما أريد بهذا أن أحببك إلى الناس ، ففعل المهدي ذلك ؛ فانتشر له الصيت وكثر الدعاء وعجت الأصوات ، وقال الناس : هذا هو المهدي الذي ورد في الأثر . فقال : هذا عجب . وقال سقراط : ينبغي لمن علم أن البدن هو شيء جعل نافعاً للنفس مثل الآلة للصانع أن يطلب كل ما يصير البدن به أنفع وأوفق لأفعال النفس التي هي فيه ، وأن يهرب من كل ما يصير البدن غير نافعٍ ولا موافق لاستعمال النفس له . قال أوميروس : لا ينبغي لك أن تؤثر علم شيء إذا عيرت به غضبت ، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك . وقال ديوجانس : من القبيح أن تتحرى في أغذية البدن ما يصلح له ولا يكون ضاراً ، ولا تتحرى في غذاء النفس الذي هو العلم لئلا يكون ضاراً . وقال أيضاً : من القبيح أن يكون الملاح لا يطلق سفينته في كل ريح ، ونحن نطلق أنفسنا في غير بحث ولا اختبار . ذكر لنا أبو سليمان أن فيلسوفاً ورد مدينةً فيها فيلسوف ، فوجه إليه المدني كأساً ملآى ، يشير بها إلى أن الاستغناء عنه واقعٌ عنده ، فطرح القادم في الكأس إبرةً ، يعلمه أن معرفته تنفذ في معرفته . وقال فيلسوفٌ يوناني : التقلب في الأمصار ، والتوسط في المجامع ، والتصرف في الصناعات ، واستماع فنون الأقوال ، مما يزيد الإنسان بصيرةً وحكمةً وتجربةً ويقظةً ومعرفةً وعلماً . قال الوزير : ما البصيرة ؟ قلت : لحظ النفس الأمور . قال : فما الحكمة ؟ قلت : بلوغ القاصية من ذلك اللحظ . قال : فما التجربة ؟ قلت : كمال النفس بلحاظ مالها . قال : هذاحسن . قال أنكساغورس : كما أن الإناء إذا امتلأ بما يسعه من الماء ثم تجعل فيه زيادة على ذلك فاض وانصب ، ولعله أن يخرج معه شيءٌ آخر ؛ كذلك الذهن ما أمكنه أن يضبطه فإنه يضبطه ، وإن طلب منه ضبط شيء آخر أكثر من وسعه تحير ، ولعل ذلك يضيع عليه شيئاً مما كان الذهن ضابطاً له ، وهذا كلام صحيح ، وإني لأتعجب من أصحابنا إذا ظنوا وقالوا : إن الإنسان يستطيع حفظ جميع فنون العلم والقيام بها والإبقاء عليها ، ولو كان هذا مقدوراً عليه لوجد ، ولو وجد لعرف ، ولو عرف لذكر ، وكيف يجوز هذا وقلب الإنسان مضغة ، وقوته مقصورةٌ ، وانبساطه متناهٍ ، واقتباسه وحفظه وتصوره وذكره محدودٌ ؟ ولقد حدثني علي بن المهدي الطبري قال : قلت ببغداد لأبي بشر : لو نظرت في شيء من الفقه مع هذه البراعة التي لك في الكلام ، ومع هذا اللسان الذي تحير فيه كل خصم . قال : أفعل ، قال : فكنت أقرأ عليه بالنهار مع المختلفة الكلام ، وكان يقرأ علي بالليل شيئاً من الفقه ، فلما كان بعد قليل أقصر عن ذلك ، فقلت له : ما السبب ؟ قال : والله ما أحفظ مسئلةً جليلةً في الفقه إلا وأنسي مسئلةً دقيقةً في الكلام ، ولا حاجة لي في زيادة شيء يكون سبباً لنقصان شيء آخر مني . وسأل رجلٌ آخر أن يقرضه مالاً ، فوعده ثم غدر به ، فلامه الناس ، فقال : لأن يحمر وجهي مرةً أحب إلي من أن يصفر مراراً كثيرة . وولي أريوس ولايةً فقال أصدقاؤه : الآن يظهر فضلك . فقال : ليست الولاية تظهر الرجل ، بل الرجل يظهر الولاية . وقال ديوجانس . الدنيا سوق المسافر ، فليس ينبغي للعاقل أن يشتري منها شيئاً فوق الكفاف . وقيل لاسطفانس : من صديقك ؟ قال : الذي إذا صرت إليه في حاجةٍ وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها . وقال أفلاطون : إن للنفس لذتين : لذةً لها مجردةً عن الجسد ، ولذةً مشاركة للجسد ، فأما التي تنفرد بها النفس فهي العلم والحكمة ، وأما التي تشارك فيها البدن فالطعام والشرابوغير ذلك . وقيل لسقراط : كيف ينبغي أن تكون الدنيا عندنا ؟ قال : لا تستقبلوها بتمنٍ لها ، ولا تتبعوها بتأسف عليها ؛ فلا ذلك مجدٍ عليكم ، ولا هذا راجعٌ إليكم . وقال سقراط : القنية مخدومة ، ومن خدم غير نفسه فليس بحر . وقال بعض ندماء الإسكندر له : إن فلاناً يسيء الثناء عليك ، فقال : أنا أعلم أن فلاناً ليس بشرير ، فينبغي أن ينظر هل ناله من ناحيتنا أمرٌ دعاه إلى ذلك ، فبحث عن حاله فوجدها رثةً ، فأمر له بصلةٍ سنية ، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط لسانه بالثناء عليه في المحافل ؛ فقال : أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيرٌ أو شر . قيل لطيماثاوس : لم صرت تسيء القول في الناس ؟ قال : لأنه يمكنني أن أسيء إليهم بالفعل . وكان مرة في صحراء ، فقال له إنسان : ما أحسن هذه الصحراء قال : لو لم تحضرها أنت . وقال غالوس : ما وجه الاهتمام بما إن لم يكن أجزىء فوته ، وإن كان فالمنفعة به وبحضوره قليلة منقطعة . وقال سقراط : ينبغي إذا وعظت ألا تتشكل بشكل منتقمٍ من عدو ، ولكن بشكل من يسعط أو يكوى بعلاجه داءً بصديق له ، وإذا وعظت أيضاً بشيء فيه صلاحك ، فينبغي أن تتشكل بشكل المريض للطبيب . ركب مقاريوس في حاجة ، فمر بزيموس وقد تعلق به رجل يطالبه بمال اختدعه عنه وعليهما جماعةٌ من الناس ، وهو يسأله تنجيم ذلك المال عليه نجوماً ليؤديه ، ويتضرع أشد التضرع . فقال منقاروس : ما طلبتك عند هذا الرجل . فقال : أتاني فخدعني بالزهد والنسك عن مالي ، ووعدني أن يملأ بيتي ذهباً من صنعته ، فلم أزل في الاسترسال إلى ظاهره السليم حتى أفقرني باطنه السقيم . فقال له مقاريوس : إن كل من بذل شيئاً إنما يبذله على قدر وسعه ؛ وكان زيموس أتاك على حاله التي هو عليها ، ولم يكن ليتسع لأكثر من ذلك القول ؛ وعمل الذهب فبين ظاهر ، لأن فقره يدل على عجزه وضعفه عنه ، ومن أمل الغني عندالفقير فغاية ما يمكن أن يبلغه أن يصير مثله ؛ وآخر ما يؤمل عند الفقير نيل الفقر . فقد أصبت ما كنت تحب أن تجده عند زيموس ؛ وهو حظٌ إن تمسكت به لم يغل بما تلف من مالك ، ولئن كان وعدك أن يفيدك مالاً باطلاً فلقد أفادك معدناً حقاً ، من غير قصدٍ إلى نفعك . ثم أقبل على زيموس وقال له : ما أبعد شبه معدنك من المعادن الطبيعية إن المعادن تلفظ الذهب ، ومعدنك هذا يبتلع الذهب ؛ ومن جاور معدناً منها أغناه ، ومن جاور معدنك أفقره ؛ والمعادن الطبيعية تثمر من غير قول ، ومعدنك يقول من غير إثمار . فقال زيموس : أجل ، ولا آخرهم ولا أوسطهم ، لكنك من الجهال الذين لقي الناس منهم الأذى . فقال - أعلى الله قوله - : فهل لهذا الأمر - أعني الكيمياء - مرجوع ؟ وهل له حقيقة ؟ وما تحفظ عن هذه الطائفة ؟ فكان الجواب ، أما يحيى بن عدي - وهو أستاذ هذه الجماعة - فكان في إصبعه خاتمٌ من فضةٍ يزعم أن فضته عملت بين يديه ، وأنه شاهد عملها عياناً ، وأنه لا يشك في ذلك . وأما أصحابه كابن زرعة وابن الخمار ، فذكروا أن ذلك تم عليه من فعلٍ لم يفطن له من بعض من اغتره من هؤلاء المحتالين الخداعين . وأما شيخنا أبو سليمان فحصلت من جوابه على أنه ممكن ، ولم يذكر سبب إمكانه ولا دليل حقيقته . وأما أبو زيد البلخي - وهو سيد أهل المشرق في أنواع الحكمة - فذكر أنه محالٌ ولا أصل له ، وأن حكمة الله تعالى لا توجب صحة هذا الأمر ، وأن صحته مفسدةٌ عامة ، ' والله لا يحب الفساد ' . وأما مسكويه - وها هو بين يديك - فيزعم أن الأمر حقٌ وصحيح ، والطبيعة لا تمنع من إعطائه ، ولكن الصناعة شاقة ، والطريق إلى إصابة المقدار عسرة ، وجمع الأسرار صعبٌ وبعيد ، ولكنه غير ممتنع ؛ فقد مضى عمره في الإكباب على هذا بالري أيام كان بناحية أبي الفضل وأبي الفتح ابنه مع رجل يعرف بأبي الطيب ، شاهدته ولم أحمد عقله ، فإنه كانصاحب وسواسٍ وكذبٍ وسقط ، وكان مخدوعاً في أول أمره ، خادعاً في آخر عمره . وأبين ما سمعته في هذا الحديث أن الطبيعة فوق الصناعة ، وأن الصناعة دون الطبيعة ، وأن الصناعة تتشبه بالطبيعة ولا تكمل ، والطبيعة لا تتشبه بالصناعة وتكمل ، وأن الطبيعة قوة إلهية ساريةٌ في الأشياء واصلةٌ إليها ، عاملةٌ فيها بقدر ما للأشياء من القبول والاستحالة والانفعال والمواتاة ، إما على التمام ، وإما على النقصان . وقيل : إن الطبيعة لا تسلك إلى إبراز ما في المادة أبعد الطرق ، ولا تترك أقرب الطرق ، فلما كانت المعادن هي التي تعطى هذه الجواهر على قدر المقابلات العلوية والأشكال السماوية والمواد السفلية والكائنات الأرضية ، لم يجز أن تكون الصناعة مساويةً لها ، كما لم يجز أن تكون مستعليةً عليها ، لأن الصناعة بشريةٌ مستخرجةٌ من الطبيعة التي هي إلهية ، ولا سبيل لقوةٍ بشريةٍ أن تنال قوةً إلهيةً بالمساواة ؛ فأما بالتشبيه والتقريب والتلبيس ، فيمكن أن يكون بالصناعة شيءٌ كأنه ذهبٌ أو فضة ، وليس هو في الحقيقة ، لا ذهبٌ ولا فضة ؛ وإذا كان ظهور القطن بالطبيعة وظهور الثوب بالصناعة فليس لهذه أن تعرض لهذه ، ولا لهذه أن تعرض لهذه ؛ والأمور موزونة ، والصناعات متناهية ؛ فإن ادعى في شيءٍ من الصناعة ما يزيد عليها حتى تكون كأنها الطبيعة ، احتيج إلى برهانٍ واضح ، وإلى عيان مصرح ، لأنا نعلم أنه ما من صناعةٍ ولا علمٍ ولا سياسةٍ ولا نحلةٍ ولا حاٍ إلا وقد حمل عليها ، وزيد فيها وكذب من أجلها بما إذا طلبت صحته بالبرهان لم تجد ، أو بالعيان لم تقدر . فأما أصحاب النسك ومن عرف بالعبادة والصلاح ؛ فقد ادعى لهم أن الصفر يصير لهم ذهباً ، وشيئاً آخر يصير فضة ، وأن الله عز وجل يزلزل لهم الجبل وينزل لهم القطر ، وينبت لهم الأرض ، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء الذين يأتون من قبل الله بالكتب والوصايا والأحكام والمواعظ والنصائح ، وربما يسمى كثيرٌ من الناس ما يظهر للزهاد والعباد من هذا الضرب كرامات ولا يسميها معجزات ، والحقائق لا تنقلب بالأسماء ، فإن المسمى بالكرامة هو المسمى بالمعجزة والآية . والخوض في هذا الطرف قديم ، وفصله في الحق شاقٌ ، والتنازع فيه قائم ، والظن يعمل عمله ، واليقين غير مظفور به ، ولا موصولٍ إليه ؛ والطبيعة قد أولعت الناس بادعاء الغرائب ، وبعثتهم على نصرتها بالوفق والخرق ، والتسهيل واللجاج ، والمواتاة والمحك ،ولله في طي هذا العالم العلوي أسرارٌ وخفايا وعيوبٌ ومكامن لا قوة لأحد من البشر بالحس ولا بالعقل أن يحوم حولها ، أو يبلغ عمقها ، أو يدرك كنهها ، ومن تصرف عرف ، ومن عرف سلم ، والسلام . وحكى لنا أبو سليمان أن أرسطوطاليس كتب إلى رجل لم يشفعه في رجل سأله الكلام له في حاجة : إن كنت أردت ولم تقدر فمعذور ، وإن كنت قدرت ولم ترد فسوف يجيىء وقتٌ تريد ولا تقدر . وقال بعض الحكماء : لا ترفهوا السفلة فيعتادوا الكسل والراحة ، ولا تجرئوهم فيطلبوا السرف والشغب ، ولا تأذنوا لأولادهم في تعلم الأدب فيكونوا لرداءة أصولهم أذهن وأغوص ، وعلى التعلم أصبر ؛ ولا جرم فإنهم إذا سادوا في آخر الأمر خربوا بيوت العلية أهل الفضائل . وقال فيلسوف : للنفس خمس قوى : الحس والوهم والذهن والاختبار والفكر . فأما الحس فلحاق الأشياء بلا فحص ، ولا يحتاج في ذلك اللحاق إلى شيء آخر ، إلا أن يكون ممنوعاً بمانع ، وذلك إذا وجد شيئاً أبيض حكم بأنه أبيض بلا فكر ولا قياس . وأما الوهم ، فإنه يقع على الأشياء بتوسط الحس . وأما الاختبار فيوافق الفكر ، كقولك : النفس لا تموت ، فهذا قولٌ اختباريٌ بعد الفكر ، فإن كان هذا هكذا فالاختبار ليس بقياس ، ولكنه أفق القياس . وأما الذهن فإنه لا يهجم على أوائل الأشياء . وقال آخر شبيهاً بهذا الكلام ، ولابأس أن يكون مضموماً إليه ، ليكون شمل الفائدة أكثر نظاماً وأقرب مراماً . قال : ليس للحواس والحركات فعلٌ دون أن تبعثها القوة المميزة ، فلذلك لا يحس السكران ولا النائم ، وكذلك أيضاً البهائم فإنها لا تصيح إلا بعد أن يعرض في فكرها شيء ، ولا تتحرك إلا بانبعاث القوة المميزة . ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواحٍ في ثلاثة أعضاء رئيسة : نفسيةٌ في الدماغ ، وحيوانية في القلب ، وطبيعية في الكبد .وفي كل واحد منها قوةٌ مميزةٌ بها يتم عمله ، فالتي في الدماغ هي العقل المميز الحارس للبدن ، ومنه ينبعث الحس والحركة ، والتي في القلب تنبعث منها الحرارة الغريزية في جميع البدن ؛ وزعموا أن تلك الحرارة هي الروح ؛ والتي في الكبد هي موضع الهضم والنضج ، وهي التي تنضج الطعام وتغيره وتحيله دماً وتوزع في كل عضو ما هو ملائمٌ له ، وبالجاذبة تجذب ، وبالحابسة تحبس ، وبالهاضمة تهضم ، وبالدافعة تدفع . فأما الدماغ فينقسم ثلاثة أقسام يحجز بينها أغشية ، أحدها في مقدم الرأس موضع التخيل ، والثاني في وسط الرأس موضع العقل والفكر والتمييز ، والثالث في مؤخر الرأس موضع الحفظ والذكر والقبول ؛ فكل واحد مما ذكرنا يخدم الآخر ، وإن ضعف أحدها ضعف لضعفه الآخر ، وباعتدالهن وسلامتهن قوام البدن والنفس . ولكل واحدٍ منها آلةٌ بها يستعين على خدمة الآخر . قال : فكما أن الرحى إذا نقضت شيئاً منها أو زدت أفسد الطحن ؛ إما بزيادة أو نقصان ، كذلك سائر خدمه وآلاته . وقال : الدماغ مسكن العقل ، وخدمه الحس والحركة ؛ والقلب مسكن الحرارة الغريزية ، وخدمه العروق الضوارب ؛ والكبد مسكن النضج والهضم ، وخدمها العروق غير الضوارب . وقال : النار تحرق ، فإذا كانت موجودةً فالدخان والرماد موجودان ، والدخان رمادٌ لطيف ، والرماد دخانٌ كثيف . وقال أبو سليمان : ذكر بعض البحاثين عن الإنسان أنه جامعٌ لكل ما تفرق في جميع الحيوان ، ثم زاد عليها وفضل بثلاث خصالٍ : بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضارة ، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بوساطة النظر ، وبالأيدي لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلةً لما في الطبيعة بقوة النفس . ولما انتظم له هذا كله جمع الحيل والطلب والهرب والمكايد والحذر ، وهذا بدل السرعة والخفة التي في الحيوان ، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن ، واتخذ الجنن لتكون وقايةً من الآفات ، والعقل ينبوع العلم ، والطبيعة ينبوع الصناعات ، والفكر ، بينهما قابلٌ منهما ، مؤدٍ من بعض إلى بعض ، فصواب بديهة الفكر من صحة العقل ،وصواب روية الفكر من صحة الطباع . وقال أبو العباس : الناس في العلم على ثلاث درجات ، فواحد يلهم فيعلم فيصير مبدأ ، والآخر يتعلم ولا يلهم فهو يؤدي ما قد حفظ ، والآخر يجمع له بين أن يلهم وأن يتعلم . فيكون بقليل ما يتعلم مكثراً بقوة ما يلهم . وقال : الإنسان بين طبيعته - وهي عليه - ونفسه - وهي له - منقسمٌ ؛ فإن اقتبس من العقل قوي نوره ما هو له من النفس ، وأضعف ما هو عليه من الطبيعة ، فإن لم يكن يقتبس بقي حيران أو متهوراً . وقال سقراط : الكلام اللطيف ، ينبو عن الفهم الكثيف . وحكى لنا أبو سليمان قال : قيل لفيلسوف : ما بال المريض إذا داواه الطبيب ودخل عليه فرح به وقبل منه وكافأه على ذلك ، والجاهل لا يفعل ذلك بالعالم إذا علمه وبين له ؟ فقال : لأن المريض عالمٌ بما عند الطبيب ، وليس الجاهل كذلك ، لأنه لا يعلم ما عند العالم . وقال ديوجانس لصاحبه : أما تعلم أن الحمام إذا كان سمائياً كان أغلى ثمناً ، وإذا كان أرضياً كان أقل ثمناً . قال - أبقاه الله - هذا مثلٌلا في غاية الحسن والوضوح . وقال ديوجانس : المأكول للبدن ، والموهوب للمعاد ، والمحفوظ للعدو . وقال فيلسوف : التهاون باليسير أساسٌ للوقوع في الكثير . وقال أفلاطون : مثل الحكيم كمثل النملة تجمع في الصيف للشتاء ، وهو يجمع في الدنيا للآخرة . وقال فيلسوف : من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحل بها في سره وجهره فهو في المثل كرجل رزق ثوباً فأخذ بطرفه فلم يلبسه . وقال السيد المسيح : إن استطعت أن تجعل كنزك حيث لا يأكله السوس ، ولا تدركه اللصوص ، فافعل .قال فيلسوف : إذا نازعك إنسانٌ فلا تجبه ، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها ، وإن تركت إجابتها بترتها وقطعت نسلها ، وإن أجبتها ألقحتها ؛ فكم من ولدٍ ينمو بينهما في بطنٍ واحد . وقال فيلسوف : إن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت . وقال ديوجانس : من أين تأكل ؟ فقال : من حيث يأكل عبدٌ له رب . وقال ديوجانس : كن كالعروس تريد البيت خالياً . قيل لأرسطوطاليس : إن فلاناً عاقلٌ . قال : إذاً لا يفرح بالدنيا . وقيل لفيثاغورس : ما أملك فلاناً لنفسه قال : إذاً لا تصرعه شهوته ، ولا تخدعه لذته . وقيل لأسقلبيوس : فلانٌ له همة . قال إذاً لا يرضى لنفسه بدون القدر . ومدح رجل ثيودوروس على زهده في المال قال : وما حاجتي إلى شيء البخت يأتي به ، واللؤم يحفظه ، والنفقة تبدده ، إن قل غلبك الهم بتكثيره ، وإن كثر تقسمك في حفظه ، يحسدك من فاته ما عندك ، ويخدعك عنه من يطمع فيه منك . وقال سقراط : ما أحب أن تكون النفس عالمةً بكل ما أعد لها ؛ قيل : ولم ؟ قال : لأنها لو علمت طارت فرحاً ولم ينتفع بها . وقال ديوجانس : القلب ذو لطافة ، والجسم ذو كثافة ، والكثيف يحفظ اللطيف كضوء المصباح في القنديل . وقال أفلاطون : العلم مصباح النفس ، ينفي عنها ظلمة الجهل ، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل . قال أبو سليمان : ما أحسن المصباح إذا كان زجاجة نقياً ، وضوءه ذكياً ، وزيته قوياً ، وذباله سوياً . قيل لسقراط : ما أحسن بالمرء أن يتعلمه في صغره ؟ قال : ما لا يسعه أن يجهله في كبره .قال أبو سليمان : ومن ها هنا أخذ من قال : يحسن بالمرء التعلم ما حسنت به الحياة . قيل لهوميروس : ما أصبرك على عيب الناس لك قال : لأنا استوينا في العيب ، فأنا عندهم مثلهم عندي . وقيل للإسكندر : أي شيء أنت به أسر ؟ . قال : قوتي على مكافأة من أحسن إلي بأحسن من إحسانه . وقال ديوجانس : إن إقبالك بالحديث على من لا يفهم عنك بمنزلة من وضع المائدة على مقبرة . ورأى ديوجانس رجلاً يأكل ويتذرع ويكثر ، فقال له : يا هذا ، ليست زيادة القوة بكثرة الأكل ، وربما ورد على بدنك من ذلك الضرر العظيم ، ولكن الزيادة في القوة بجودة ما يقبل بدنك منه على الملاءمة . وقال ديوجانس : الذهب والفضة في الدار بمنزلة الشمس والقمر في العالم . قال أبو سليمان : هذا مليح ، ولكن ينبغي أن تبقى الشمس والقمر فإنهما يكسفان فيكونان سبباً لفسادٍ كثير ، ويذوبان ويحميان فيكونان ضارين . وقال أفلاطون : موت الرؤساء أصلح من رآسة السفلة . وقال : إذا بخل الملك بالمال كثر الإرجاف به . وقال سولون : العلم صغير في الكمية ، كبيرٌ في الكيفية . وقال أبو سليمان : يعني أن القليل منه إذا استعملته على وجهه كان له إناء ونفع فائض ودرٌ سائحٌ ، وغايةٌ محمودةٌ ، وأثرٌ باق . وهذه كلها كيفيات من تلك الكمية . وقال أفلاطون : لا يسوس النفوس الكثيرة على لاحق والواجب من لا يمكنه أن يسوس نفسه الواحدة . وقال سقراط : النفس الفاضلة لا تطغى بالفرح ، ولا تجزع من الترح ، لأنها تنظر فيكل شيء كما هو ، لا تسلبه ما هو له ولا تضيف إليه ما ليس منه ؛ والفرح بالشيء إنما يكون بالنظر في محاسن الشيء دون مساوئه ، والترح إنما يكون بالنظر في مساوىء الشيء دون محاسنه ؛ فإذا خلص النظر من شوب الغلط فيما ينظر فيه انتفى الطغيان والجزع ، وحصل النظام وربع . قال ديوجانس : ينبغي للإنسان أن ينظر في المرآة ، فإن كان وجهه حسناً استقبح أن يضيف إليه فعلاً قبيحاً ، وإن كان وجهه قبيحاً استقبح أن يضيف قبيحاً إلى قبيح حتى يتضاعف القبح . وقال إبقراط : منزلة لطافة القلب في الأبدان بمنزلة لطافة الناظر في الأجفان . وقال : للقلب آفتان : وهما الغم والهم ، فالغم يعرض منه النوم ، والهم يعرض منه السهر ، وذلك أن الهم فيه فكرٌ في الخوف مما سيكون ، فمنه يغلب السهر ؛ والغم لا فكر فيه ، لأنه إنما يحدث لما قد مضى وكان . وقال أفلاطون : من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته ، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر . قال أبو سليمان : هذا كلامٌ ضره أكثر من نفعه ، وإنما نفقه صاحبه بالمثال ، والمثال يستجيب للحق كما يستجيب للباطل ، والمعول على ما ثبت بالدليل ، لا على ما يدعى بالتمثيل ، وقد يجب أن يجتنب جانب السلطان بغاية الاستطاعة والإمكان ، إلا إذا كان الدهر سليماً من الآفات الغالبة . فقال له الأندلسي : وما صورة الزمان الخالي من الآفات ؟ فقال : أن يكون الدين طرياً ، الدولة مقبلة ، والخصب عاماً ، والعلم مطلوباً ، والحكمة مرغوباً فيها ، والأخلاق طاهرة ، والدعوة شاملة ، والقلوب سليمة ، والمعاملات متكافئة ، والسياسة مغروسة ، والبصائر متقاربة . فقال : هذا لو صح لارتفع الكون والفساد اللذان وهما سوس هذا المكان ، فقال : غلطت يا أبا عبد الله ، فإن الكون والفساد يكونان على حاليهما ، ولكنهما يقعان على معلومين للصورة الثابتة ، والسياسة العامة الغالبة ، كأنك لا تحس بالفرق بين زمان خصب الأرض وجدبها ؛ وكما أن للأرض خصباً وجدباً ؛ كذلك للأحوال والأديان وللدول صلاحٌ وفساد ، وإقبالٌ وإدبار ، وزيادةٌ ونقصان ؛ ولو كان ما خلته لازماً ، لكنا لا نتمنى ملكاً عادلاً ، ولا سائساً فاضلاً ، ولا ناظراً ناظماً ، ولا مدبراً عالماً ؛ وكان هذا لا يعرفولا يعهد ، ويكون في عرض المحال كونه ووجدانه ؛ وليس الأمر هكذا فقد عهدنا مثل أبي جعفر بسجستان ، وكان والله بصيراً خبيراً ، عالماً حكيماً ، يقظاً حذراً ، يخلق ويفري ، ويريش ويبري ، ويكسو ويعري ، ويمرض ويبري ، وهكذا مثل أبي جعفر بالأمس ملك العراق في حزامته وصرامته وقيامه في جميع أموره ، بنظره وتدبيره ؛ وكذلك قد عهد الناس قبلنا مثل هذا ، فلم يقع التعجب من شيء عليه مدار الليل والنهار . وقال ديوجانس لصاحب له : اطلب في حياتك هذه العلم والمال تملك بهما الناس ، لأنك بين الخاصة والعامة ، فالخاصة تعظمك لفضلك ، والعامة تعظمك لمالك . وقال أفلاطون : إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع الرزق ؛ قال أبو سليمان : لأن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان ، ولأن حظ الإنسان من المال إنما هو من قبيل النفس الشهوية والسبعية ، وحظه من العلم إنما هو من قبيل النفس العاقلة ، وهذان الحظان كالمتعاندين والضدين . قال : فيجب على الحصيف والمميز أن يعلم بأن العالم أشرف في سنخه وعنصره ، وأوله وآخره ، وسفره وحضره ، وشهادته ومغيبه من ذي المال ؛ فإذا وهب له العلم فلا يأس على المال الذي يجزىء منه اليسير ، ولا يلهب نفسه على فوته حسرةً وأسفاً ؛ فالعلم مدبر ، والمال مدبر ؛ والعلم نفسي ، والمال جسدي ، والعلم أكثر خصوصيةً بالإنسان من المال ، وآفات صاحب المال كثيرةٌ وسريعة ، لأنك لا ترى عالماً سرق علمه وترك فقيراً منه ؛ وقد رأيت جماعةً سرقت أموالهم ونهبت وأخذت ، وبقي أصحابها محتاجين لا حيلة لهم ؛ والعلم يزكو على الإنفاق ويصحب صاحبه على الإملاق ؛ ويهدي إلى القناعة ، ويسبل الستر على الفاقة ؛ وما هكذا المال .الليلة الثامنة عشرة
وقال مرةً : تعال حتى نجعل ليلتنا هذه مجونية ، ونأخذ من الهزل بنصيب وافر ، فإن الجد قد كدنا ، ونال من قوانا ، وملأنا قبضاً وكرباً ، هات ما عندك ، قلت : قال حسنون المجنون بالكوفة يوماً - وقد اجتمع إليه المجان يصف كل واحد منهم لذات الدنيا - فقال : أما أنا فأصف ما جربته ؛ فقالوا : هات ؛ فقال : الأمن والعافية ، وصفع الصلع الزرق ، وحك الجرب ، وأكل الرمان في الصيف ، والطلاء في كل شهرين ، وإتيان النساء الرعن والصبيان الزعر ، والمشي بلا سراويل بين يدي من لا تحتشمه ، والعربدة على الثقيل ، وقلة خلاف من تحبه والتمرس بالحمقى ومؤاخاة ذوي الوفاء ، وترك معاشرة السفلة . وقال الشاعر : أصبحت من سفل الأنام . . . إذ بعث عرضي بالطعام أصبحت صفعاناً لئي . . . م النفس من قومٍ لئام في است أم ربات الخيا . . . م ومن يحن إلى الخيام نفسي تحن إلى الهلا . . . م الموت من دون الهلام من لحم جديٍ راضعٍ . . . رخص المفاصل والعظام هذا لأولاد الخطا . . . يا والبغايا والحرام حي القدور الراسيا . . . ت وإن صممن عن الكلام وقصاعهن إذا أتي . . . نك طافحاتٍ بالسلاملهفي على سكباجةٍ . . . تشفي القلوب من السقام يا عاذلي أسرفت في . . . عذل الخليع المستهام رجلٌ يعض إذا نصح . . . ت له على فأس اللجام دع عذل من يعصي العذو . . . ل ولا يصيخ إلى الملام خلع العذار وراح في . . . ثوب المعاصي والأثام شيخٌ يصلي قاعداً . . . وينيك عشراً من قيام ويعاف نيك الغانيا . . . ت ويشتهي نيك الغلام وتراه يرعد حين يذ . . . كر عنده شهر الصيام خوفاً من الشهر المعذ . . . ب نفسه في كل عام سلس القياد إلى التصا . . . بي والملاهي والحرام من للمروءة والفتوة . . . بعد موتي والندام من للسماح وللرما . . . ح لدى الهزاهز والحسام من للواط وللحلا . . . ق وللملمات العظام كان محمد بن الحسن الجرجاني متقعراً في كلامه ، فدخل الحمام يوماً ، فقال للقيم : أين الجليدة التي تسلخ بها الضويطة من الإخفيق ؟ قال : فصفع القيم قفاه بجلدة النورة وخرج هارباً ، فلما خرج من الحمام وجه إلى صاحب الشرطة ، فأخذ القيم وحبسه ، فلما كان عشاء ذلك اليوم كتب إليه القيم رقعةً يقول فيها : قد أبرمني المحبوسون بالمسئلة عن السبب الذي حبست له ، فإما خليتني وإما عرفتهم . فوجه من أطلقه ، واتصل الخبر بالفتح ، فحدث المتوكل ، فقال : ينبغي أن يغني هذا القيم عن الخدمة في الحمام . وامر له بمائتي دينار .قال : وكان بالبصرة مخنثٌ يجمع ويعشق بعض المهالبة ، فلم يزل المخنث به حتى أوقعه ، قال : فلقيته من غدٍ فقلت له : كيف كانت وقعة الجفرة عندكم البارحة ؟ فقال : لما تدانت الأشخاص ، ورق الكلام ، والتفت الساق بالساق ، ولطخ باطنها بالبزاق ، وقرع البيض بالذكور ، وجعلت الرماح تمور ؛ صبر الكريم فلم يجزع ، وسلم طائعاً فلم يخدع ؛ ثم انصرف القوم على سلم ، بأفضل غنم ؛ وشفيت الصدور ، وسكنت حرارة النفوس ، ومات كل وجد ، وأصيب مقتل كل هجر ، واتصل الحبل ، وانعقد الوصل . قال : فلو كان أعد هذا الكلام لمسئلتي قبل ذلك بدهر لكان قد أجاد . وقال أبو فرعون الشاشي : أنا أبو فرعون فاعرف كنيتي . . . حل أبو عمرة وسط حجرتي وحل نسج العنكبوت برمتي . . . أعشب تنوري وقلت حنطتي وحالف القمل زماناً لحيتي . . . وضعفت من الهزال ضرطتي وصار تباني كفاف خصيتي . . . أير حمارٍ في حر أم عيشتي أبو عمرة : صاحب شرطة المختار بن عبيد ، كان لا ينزل بقوم إلا اجتاحهم ، فصار مثلاً لك شؤم وشر . ويقال أيضاً : إن أبا عمرة اسم الجوع ، هكذا حدثني به أبو الحسن البصري . وأنشد بشر بن هارون في أبي طاهر :أبا عبد الإله وأنت حرٌ . . . من الأحرار منزوع القلاده سألتك بالإله لتخبرني . . . أجهلك مستفادٌ أم ولاده ؟ فإن يك فيك مولوداً فعذرٌ . . . وإن يك حادثاً لك باستفاده فواعجباً يزيد الناس فضلاً . . . وأنت تزيد نقصاً بالزيادة حكى الصولي : حدثنا ميمون بن مهران قال : كان معنا مخنثٌ يلقب مشمشة - وكان أمياً - فكتب بحضرته رجلٌ إلى صديق له كتاباً ، فقال المخنث : اكتب إليه : مشمشة يقرأ عليك السلام ؛ فقال : قد فعلت - وما كان فعل - فقال : أرني ؛ فقال : هذا اسمك ؛ فقال : هيهات ، اسمي في الكتاب شبه داخل الأذن ، فعجبنا من جودة تشبيهه . قال نضلة : مررت بكناسين أحدهما في البئر والآخر على رأس البئر ، وإذا ضجة ، فقال الذي في البئر : ما الخبر ؟ فقال : قبض على علي بن عيسى ؟ فقال : من أقعدوا بدله ؟ قال : ابن الفرات ؛ قال : قاتلهم الله ، أخذوا المصحف ووضعوا بدله الطنبور . كتب أبو العيناء إلى ابن مكرم : قد أصبت لك غلاماً من بني ناعظ ، ثم من بني ناشرة ، ثم من بني نهد . فكتب إليه : ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . وقدم رجلٌ مع امرأة إلى القاضي ومعها طفلٌ ، فقالت : هذا ابنه ، فقال الرجل : أعز الله القاضي ما أعرفه ؛ فقال القاضي : اتق الله فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، فهذا وأمه على فراشك ؛ قال الرجل : ما تنايكنا إلا في الاست ، فمن أين لي ولد ؟ فقالت المرأة : أعز الله القاضي ؛ قل له : ما رأيت ؟ يعرفه ؛ فكف الرجل ، وأخذ بيد ولده وانصرف . قال : وسمعت آخر يقول لشاطر : اسكت ، فإن نهراً جرى فيه الماء لابد أن يعود إليه . فقال له الآخر : حتى يعود إليه الماء تكن قد ماتت ضفادعه . ومن كلام الشطار : أنا البغل الحرون ، والجمل الهائج ، أنا الفيلالمغتلم لو كلمني عدوي لعقدت شعر أنفه إلى شعر استه حتى يشم فساءه ، كأنه القنفذة . وقال بعض القصاص : في النبيذ شيء من الجنة ' الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ' والنبيذ يذهب الحزن . قال وسمعت ماجنةٌ تقول : ضر وسر ، وقد وارقد ، واطرح واقترح . قال ابن أبي طاهر : دعا مرة قوماً وأمر جاريته أن تبخرهم ، فأدخلت يدها في ثوب بعضهم فوجدت أيره قائماً ، فجعلت تمرسه وتلعب به وأطالت ؛ فقال مولاها : أيش آخر هذا العود ؟ احترق ؟ قالت : يا مولاي ، هو عقدة . قال مزيد : كان الرجل فيما مضى إذا عشق الجارية راسلها سنةً ، ثم رضي أن يمضغ العلك الذي تمضغه ، ثم إذا تلاقيا تحدثا وتناشدا الأشعار ، فصار الرجل اليوم إذا عشق الجارية لم يكن له هم إلا أن يرفع رجلها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة . قال ابن سيرين : كانوا يعشقون من غير ريبة ، فكان لا يستنكر من الرجل أن يجيء فيحدث أهل البيت ثم يذهب . قال هشام : ولكنهم لا يرضون اليوم إلا بالمواقعة . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : هل تعرفون العشق بالبادية ؟ قال : نعم ، أيكون أحدٌ لا يعرفه . قلت : فما هو عندكم ؟ قال : القبلة والضمة والشمة ، قلت : ليس هو هكذا عندنا . قال : وكيف هو ؟ قلت : أن يتفخذ الرجل المرأة فيباضعها . فقال : قد خرج إلى طلب الولد . قال بشر بن هارون : إن أبا موسى له لحيةٌ . . . تدخل في الجحر بلا إذن وصورةٌ في العين مثل القذى . . . ونغمةٌ كالوقر في الأذن كم صفعةٍ صاحت إلى صافعٍ . . . بالنعل من أخدعه : خذني وقال لنا أبو يوسف : قال جحظة : حضرت مجلساً فيه جماعةٌ من وجوه الكتاب ، وعندنا قينةٌ محسنةٌ حاضرة النادرة ، فقال لها بعضهم : بحياتي عليك غني لي : لست مني ولست منك فدعني . . . وامض عني مصاحباً بسلامفقالت : أهكذا كان أبوك يغنيك ؟ فأخجلته . اشترى مدينيٌ رطباً ، فأخرج صاحب الرطب كيلجةً صغيرةً ليكيل بها ، فقال المديني : والله لو كلت بها حسناتٍ ما قبلتها . سئل أبو عمارة قاضي الكوفة : أي بنيك أثقل ؟ قال : ما فيهم بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الأوسط . اجتمع جماعةٌ عند جامعٍ الصيدناني ، فقال أحدهم : ليس للمخمور أنفع من سلحه ، فقال جامع : أخذتها والله من فمي . قال رجل لرؤبة : أتهمز الخرأ ؟ قال : بإصبعك يابن الخبيثة . وقف أعرابيٌ على قوم يسائلهم ، فقال لأحدهم : ما اسمك ؟ قال : مانع ؛ وقال للآخر : ما اسمك ؟ قال : محرز ؛ وقال للآخر : ما اسمك ؟ قال : حافظ ؛ قال : قبحكم الله ، ما أظن الأقفال إلا من أسمائكم . من كلام العامة : منارة الإسكندرية عندك خشخاشة فارغة . . . . قال جحظة : قرأت على فص ماجنةٍ : ليلة عرسي ؛ ثقبوا بالأير كسي . وعلى فص ماجنةٍ أخرى ؛ السحق أخفى والنيك أشفى . وقال جحا لأبي مسلم صاحب الدعوة : إني نذرت إن رأيتك أن آخذ منك ألف درهم . فقال : رأيت أصحاب النذور يعطون لا يأخذون ، وأمر له بها . قال السري : رأيت المخنث الذي يعرف بالغريب ، وإنسانٌ من العامة قد آذاه وطال ذلك ، فالتفت إليه وقال له : يا مشقوق ؛ نعلك زائفة ، وقميصك مقرون الحاجبين ، وإزراك صدفٌ أزرق ، وأنت تتلاهى بأولاد الملوك والأمراء . قال السري : فخجل العامي ومر ، فقلت له : فسر لي هذا الغريب . فقال : امضر إلى ثعلب . فقلت : ليس هذا من عمله ؛ فسرهلي . قال : النعل الزائفة التي تجرف التراب جرفاً ، والقميص المقرون ، هو الخلق الذي في كتفيه رقعتان أجود منه ، فهما تفصحان بياناً ، والإزار صدفٌ أزرق ، أي مخرقٌ مفتت . فقلت : فقولك : يا مشقوق ؟ قال : قطيع الظهر . قيل للشعبي : أيجوز أن يصلى في البيعة ؟ قال : نعم . ويجوز أن يخرأ فيها . وقال سعيد بن جبير : القبلة رسول الجماع . وقال الرشيد للجماز : كيف مائدة محمد بن يحيى ، يعني البرمكي . قال : شبرٌ في شبر ؛ وصحفته من قشر الخشخاش ، وبين الرغيف والرغيف مضرب كرة ؛ وبين اللون واللون فترة نبي . قال : فمن يحضرها : قال : الكرام الكاتبون ؛ فضحك وقال : لحاك الله من رجل . قال نضلة : دخلت ساقيةً في الكرخ فتوضأت ؛ فلما خرجت تعلق السقاء بي وقال : هات قطعة ؛ فضرطت ضرطةً وقلت : خل الآن سبيلي فقد نقضت وضوئي ؛ فضحك وخلاني . وعد رجلٌ بعض إخوانه أن يهدي إليه بغلاً ؛ فطال مطله ، فأخذ قارورة وبال فيها وجاء إلى الطبيب وقال : انظر إلى هذا الماء ، هل يهدي إلي بعض إخواني بغلاً . حدثنا ابن الخلال البصري قال : سمعت ابن اليعقوبي يقول : رأيت على باب المربد خالداً الكاتب وهو ينادي : يا معشر الظرفاء ، والمتخلقين بالوفاء ؛ أليس من العجب العجيب ، والنادر الغريب ، أن شعري يزني به ويلاط منذ أربعين سنةً وأنا أطلب درهماً فلا أعطى ، ثم أنشأ يقول : أحرم منكم بما أقول وقد . . . نال به العاشقون من عشقوا صرت كأني ذبالةٌ نصبت . . . تضىء للناس وهي تحترق وسمعت الماجن المعروف بالغراب يقول : ويلك أيش في ذا ؟ لا تختلط الحنطة بالشعير ، أو يصنع الباذنجان قرعاً ، أو يتحول الفجل إلى الباقلاء ، ويصير الخرنوب إلى الأرندج . وسمعت دجاجة المخنث يقول لآخر : إنما أنت بيتٌ بلا باب ، وقدمٌ بلا ساق ، وأعمىبلا عصا ، ونارٌ بلا حطب ، ونهرٌ بلا معبر ، وحائطٌ بلا سقف . وشتم آخر فقال : يا رأس الأفعى ، ويا عصا المكاري ، ويا برنس الجاثليق ، يا كودن القصار ، يا بيرم النجار ؛ يا ناقوس النصارى ؛ يا ذرور العين ، يا تخت الثياب ، يا طعن الرمح في الترس ؛ يا مغرفة القدور ، ومكنسة الدور ؛ لا تبالي أين وضعت ؟ ولا أي جحرٍ دخلت ؟ ولا في أي خانٍ نزلت ، ولا في أي حمام عملت ؛ إن لم تكن في الكوة مترساً فتح اللصوص الباب ؛ يا رحىً على رحى ؛ ووعاءً في وعاء ، وغطاءً على غطاء ، وداءً بلا دواء ؛ وعمىً على عمى ؛ ويا جهد البلاء ؛ ويا سطحاً بلا ميزاب ، ويا عوداً بلا مضراب ، ويا فماً بلا ناب ، ويا سكيناً بلا نصاب ، ويا رعداً بلا سحاب ، ويا كوةً بلا باب ؛ ويا قميصاً بلا مئزر ، ويا جسراً بلا نهر ، ويا قراً على قر ؛ ويا شط الصراة ، ويا قصراً بلا مسناه ويا ورق الكماه ، يا مطبخاً بلا أفواه ؛ يا ذنب الفار ، يا قداراً بلا أبزار ، يا رأس الطومار ، يا رسولاً بلا أخبار ؛ يا خيط البواري ، يا رحىً في صحاري ، يا طاقاتٍ بلا سواري . دخل أبو نواس على عنان جارية الناطفي فقال لها : لو رأى في البيت جحراً . . . لنزا حتى يموتا أو رأى في البيت ثقباً . . . لتحول عنكبوتافأجابته : زوجوا هذا بألفٍ . . . وأظن الألف توتا قبل أن ينقل الدا . . . ء فلا يأتي ويوتى فقال - أدام الله دولته ، وبسط لديه نعمته - قدم هذ الفن على غيره ، وما ظننت أن هذا يطرد في مجلسٍ واحد ، وربما عيب هذا النمط كل العيب ، وذلك ظلم ، لأن النفس تحتاج إلى بشر . وقد بلغني أن ابن عباس كان يقول في مجلسه بعد الخوض في الكتاب والسنة والفقه والمسائل : احمصوا ، وما أراه أراد بذلك إلا لتعديل النفس لئلا يلحقها كلال الجد ، ولتقتبس نشاطاً في المستأنف ، ولتستعد لقبول ما يرد عليها فتسمع ؛ والسلام .
الليلة التاسعة عشرة
ورسم بجمع كلماتٍ بوارع ، قصارٍ جوامع ، فكتبت إليه أشياء كنت أسمعها من أفواه أهل العلم والأدب على مر الأيام في السفر والحضر ، وفيها قرعٌ للحس ، وتنبيهٌ للعقل ، وإمتاعٌ للروح ، ومعونةٌ على استفادة اليقظة ، وانتفاعٌ في المقامات المختلفة ، وتمثلٌ للتجارب المخلفة ؛ وامتثالٌ للأحوال المستأنفة . من ذلك : الحمد لله مفتاح المذاهب . البر يستعبد الحر . القناعة عز المعسر . الصدقة كنز الموسر . ما انقضت ساعةٌ من أمسك إلا ببضعةٍ من نفسك . درهمٌ ينفع خيرٌ من دينار يضر . من سره الفساد ، ساءه المعاد . الشقي من جمع لغيره فضن على نفسه بخيره . زد من طول أملك في قصر عملك . لا يغرنك صحة نفسك ، وسلامة أمسك ، فمدة العمر قليلة ، وصحة النفس مستحيلة . من لم يعتبر بالأيام ، لم ينزجر بالملام . من استغنى بالله عن الناس ، أمن من عوارض الإفلاس . من ذكر المنية ، نسي الأمنية . البخيل حارس نعمته ، وخازن ورثته . لكل امرىء من دنياه ، ما يعينه على عمارة أخراه . من ارتدى بالكفاف ، اكتسى بالعفاف . لا تخدعنك الدنيا بخدائعها ، ولا تفتننك بودائعها . رب حجة ، تأتيعلى مهجة ؛ ورب فرصة ، تؤدي إلى غصة . كم من دم ، سفكه فم . كم إنسان ، أهلكه لسان . رب حرف ، أدى إلى حتف . لا تفرط ، فتسقط . الزم الصمت ، وأخف الصوت . من حسنت مساعيه ، طابت مراعيه . من أعز فلسه ، أذل نفسه . من طال عدوانه ، زال سلطانه . من لم يستظهر باليقظة ، لم ينتفع بالحفظة . من استهدى الأعمى عمي عن الهدى . من اغتر بمحاله ، قصر في احتياله . زوال الدول ، باصطناع السفل . من ترك ما يعنيه ، دفع إلى ما لا يعنيه . ظلم العمال ، من ظلمة الأعمال . من استشار الجاهل ضل ، ومن جهل موضع قدمه زل . لا يغرنك طول القامة ، مع قصر الاستقامة ، فإن الذرة مع صغرها ، أنفع من الصخرة على كبرها . تجرع من عدوك الغصة ، إن لم تنل منه الفرصة ، فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك ، أو يصيبك الفلك ، فإن الدنيا دولٌ تبنيها الأقدار ، ويهدمها الليل والنهار . من زرع الإحن ، حصد المحن . من بعد مطمعه ، قرب مصرعه . الثعلب في إقبال جده ، يغلب الأسد في استقبال شده . رب عطب ، تحت طلب . اللسان ، رق الإنسان . من ثمرة الإحسان ، كثرة الإخوان ، من سأل ما لا يجب ، أجيب بما لا يحب ، وأنشدت : وليس لنا عيبٌ سوى أن جودنا . . . أضر بنا والبأس من كل جانب فأفنى الندى أموالنا غير ظالمٍ . . . وأفنى الردى أعمارنا غير عائب أبونا أبٌ لو كان للناس كلهم . . . أبٌ مثله أغناهم بالمناقب قال حميد بن الصميري لابنه : اصحب السلطان بشدة التوقي كما تصحب السبع الضاري والفيل المغتلم والأفعى القاتلة ؛ واصحب الصديق بلين الجانب والتواضع ؛ واصحب العدو بالإعذار إليه والحجة فيما بينك وبينه ؛ واصحب العامة بالبر والبشر واللطف باللسان .وقع عبد الحميد الكاتب على ظهر كتاب : يا هذا ، لو جعلت ما تحمله القراطيس من الكلام مالاً حويت جمالاً وحزت كمالاً . ووقع السفاح مرة : ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وحاشيتنا خارجون منها ، فعجل أرزاقهم ، وزد على قدر كل رجل منهم إن شاء الله . قال الحسن بن علي : عنوان الشرف ، حسن الخلف . وقال جعفر بن محمد : إن لم تجف ، فقلما تصفو . وقال أعرابي : النخلة جذعها نماء ، وليفها رشاء ، وكربها صلاء ، وسعفها ضياء ، وحملها غذاء . وقال الأصمعي : سمعت كساحاً يقول لغلام له : ألم أضع إزارك ، ألم أصنع عود مجرفتك ؟ ألم أجعلك كساحاً على حمارين ؟ وجد كتابٌ باليمن فيه : أنا فلانة بنت فلان التبعي ، كنت آكل البقل الرطب من الهند وأنا باليمن ، ثم جعنا حتى اشترينا مكوك برٍ بمكوك در ، من يوسف بن يعقوب بمصر ، فمن رآنا فلا يغتر بالدنيا . وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لرجل من بني تغلب يوم صفين : أآثرتم معاوية ؟ فقال : ما آثرناه ، ولكنا آثرنا القسب الأصفر ، والبر الأحمر ، والزيت الأخضر . قيل للحسن بن عليٍ - رضي الله عنه - لما صالح معاوية : يا عار المؤمنين . فقال : العار خيرٌ من النار . نظر الحجاج يوماً على المائدة إلى رجل وجاأ عنق رجل آخر ، فدعا بهما ، فقالللواجىء : علام صنعت ؟ فقال : غص بعظمٍ فخفت أن يقتله ، فوجأ عنقه فألقاه ؛ فسأل الآخر فقال : صدق ؛ فدعا بالطباخ فقال له : أتدع العظام في طعامك حتى يغص بها ؟ فقال : إن الطعام كثير ، وربما وقع العظم في المرق فلا يزال . قال : تصب المرق على المناخل . فكان يفعل . قال سلمة بن المحبق : شهدت فتح الأبلة ، فوقع في سهمي قدر نحاس ، فنظرت فإذا هي ذهبٌ فيها ثمانون ألف مثقال ، فكتبت في ذلك إلى عمر ، فأجاب بأن يحلف سلمة بأنه أخذها يوم أخذها وهي عنده ، فإن حلف سلمت إليه ، وإلا قسمت بين المسلمين ، قال : فحلفت فسلمت إلي ، فأصول أموالنا اليوم منها . قال بعض الحكماء : لا يصبر على المروءة إلا ذو طبيعةٍ كريمة . . . . . . . أصاب عبد الرحمن بن مدين - وكان رجل صدق بخراسان - مالاً عظيماً فجهز سبعين مملوكاً بدوابهم وأسلحتهم إلى هشام بن عبد الملك ، ثم أصبحوا معه يوم الرحيل ، فلما استوى بهم الطريق نظر إليهم فقال : ما ينبغي لرجل أن يتقرب بهؤلاء إلى غير الله . ثم قال : اذهبوا أنتم أحرارٌ ، وأذل لقدرك عزه . كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المهدي : أنا ناديت عفوك من قريبٍ . . . كما ناديت سخطك من بعيد وإن عاقبتني فلسوء فعلي . . . وما ظلمت عقوبة مستقيد وإن تصلح فإحسانٌ جديدٌ . . . عطفت به على شكرٍ جديد وقال رجل لمحمد بن نحرير : أوصني ؛ فقال : اسمع ولا تتكلم ، واعرف ولا تعرف ،واجلس إلى غيرك ولا تجلسه إليك . وقال رجل لابن أسيد القاضي : إن أمي تريد أن توصي فتحضر وتكتب ؛ فقال : وهل بلغت مبلغ النساء ؟ ودخل صاحب المظالم بالبصرة على رجلٍ مبرسم وعنده طبيبٌ يداويه ، فأقبل على الطبيب وأهل المريض ، وقال : ليس دواءٌ المبرسم إلا الموت حتى تقل حرارة صدره ، ثم حنيئذ يعالج بالأدوية الباردة حتى يستبل . واجتاز به بائع دراجٍ فقال : بكم تبيع الدراجة ؟ فقال : بدرهم ؛ فقال له : أحسن . قال : كذا بعت . قال : نأخذ منك اثنتين بثلاثة . قال : هما لك . قال : يا غلام خذ منه ، فإنه يسهل البيع . ودخل حجاج بن هارون على نجاحٍ الكاتب ، فذهب ليقبل رأسه ؛ فقال له : لا تفعل ، فإن رأسي مملوءٌ بالدهن ، فقال : والله لو أن عليه ألف رطلٍ خراءً لقبلته . قدم لابن الحسحاس سكباجةٌ فقال لصديق له : كل فإنها أم القرى . وعزى ابن الحسحاس صديقاً له ماتت ابنته ، فقال : من أنت حتى لا تموت ابنتك البظراء قد ماتت عائشة بنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . أخذ يعقوب بن الليثي في أول أمره رجلاً فاستصفاه ، ثم رآه بعد زمان ، فقال له : أبا فلان ، كيف أنت الساعة ؟ قال له : كما كنت أنت قديماً . قال وكيف كنت أنا ؟ قال : كما أنا الساعة ؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم . قال ابن المبارك : إذا وضع الطعام فقد أذن للآكل . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب لا تصلح ببلاد لا تصلح بها الإبل . وقال إبراهيم بن السندي : نظر رجلٌ من قريش إلى صاحب له قد نام فيغداةٍ من غدوات الصيف طيبة النسيم ، فركضه برجله وقال : ما لك تنام عن الدنيا في أطيب وقتها ، نم عنها في أخبث حالاتها ، نم في نصف النهار لبعدك عن الليلة الماضية والآتية ، ولأنها راحةٌ لما قبلها من التعب ، وجمامٌ لما بعدها من العمل ، نمت في وقت الحوائج ، وتنبهت في وقت رجوع الناس ؛ وقد جاء : قيلوا فإن الشياطين لا تقيل . وقال إبراهيم بن السندي أيقظت أعرابيةٌ أولاداً لها صغاراً قبل الفجر في غدوات الربيع وقالت : تنسموا هذه الأرواح ، واستنشقوا هذا النسيم ، وتفهموا هذا النعيم ، فإنه يشد من منتكم . ويقال في الوصف : كأنه محراك نار ، وكأنه الجأم صدىً . وإذا وصفوه بالقصر قالوا : كأنه عقدة رشاً ، وابنةُ عصا . وإذا كان ضعيفاً قالوا : كأنه قطعة زبد ، والمولدون يقولون : كأنه اسكرجة . قال بعض السلف في دعائه : اللهم لا أحيط بنعمك علي فأعدها ، ولا أبلغ كنه واحدةٍ منها فأحدها . دعا عطاءٌ السندي فقال : أعوذ بك من عذابك الواقع ، الذي ليس له دافع ، وأسألك من خيرك الواسع ، الذي ليس له مانع . ودعا بعض السلف : اللهم إن قلبي وناصيتي بيدك لم تملكني منهما شيئاً ، وإذ فعلت ذلك فكن أنت وليهما ، فاهدنا سواء السبيل . ودعا بعض الصالحين : اللهم ما كان لي من خيرٍ فإنك قضيته ويسرته وهديته ، فلا حمد لي عليه ؛ وما كان مني من سوءٍ فإنك وعظت وزجرت ونهيت فلا عذر لي فيه ولا حجة . ودعا آخر : اللهم إني أعوذ بك من سلطان جائر ، ونديمٍ فاجر ، وصديق غادر ، وغريم ماكر ، وقريب مناكر ، وشريكٍ خائن ، وحليفٍ مائن ، وولدٍ جافٍ ، وخادمهافٍ ، وحاسد ملافظ ، وجارٍ ملاحظ ، ورفيقٍ كسلان ، وخليلٍ وسنان ، و ضعيف ، ومركوبٍ قطوف ، وزوجةٍ مبذرة ، ودارٍ ضيقة . قال المدائني : قال بعض السلف لابنه : اسحذ طبعك بالعيون والفقر وإن قلت ، فإن الشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كان ثمرها نافعاً ، وأكلها ناجعاً . وقيل للأوزاعي : ما كرامة الضيف ؟ قال : طلاقة الوجه . قال مجاهد في قول الله تعالى : ' ضيف إبراهيم المكرمين ' قال : قيامه عليهم بنفسه . وقال عمر بن عبد العزيز : ليس من المروءة أن تستخدم الضيف . وقال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : أربعٌ للشريف لا ينبغي أن يأنف منهن وإن كان أميراً : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته لضيفه ، وخدمته للعالم يتعلم منه ، وإن سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم . حاتم كان يقول : العجلة من الشيطان إلا في خمسة أشياء ، فإنها من السنة : إطعام الضيف إذا حل ، وتجهيز الميت ، وتزويج البكر ، وقضاء الدين ، والتوبة من الذنب . وقال : من أطعم الضيف لحماً وخبز حنطة وماءً بارداً فقد تمم الضيافة . وقال حاتم : المزور المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم الخليل ، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم . وقال ميمون بن ميمون : من ضاف البخيل صامت دابته ، واستغنى عن الكنيف ، وأمن التخمة . وقال بعض السلف الصالح : لأن أجمع إخواني على صاعٍ من طعامٍ أحب إلي من عتق رقبة .قال الأعمش : كان الربيع بن خيثم يصنع لنا الخبيص ويقدمه ويقول : اللهم اغفر لأطيبهم نفساً ، وأحسنهم خلقاً ، وارحمهم جميعاً . وقال أنس بن مالك : كل بيت لا يدخله الضيف لا تدخله الملائكة . ولما قرأته على الوزير - بلغه الله آماله ، وزكى أعماله ، وخفف عن قلبه أثقاله - قال : ما علمت أن مثل هذا الحجم يحوي هذه الوصايا والملح ؛ وهذه الكلمات الغرر ما فيها ما لا يجب أن يحفظ ، والله لكأنها بستان في زمان الخريف ، لكل عينٍ فيه منظر ، ولكل يدٍ منه مقطف ، ولكل فمٍ منه مذاق . إذا فرغت فأضف لي جزءاً أو جزءين أو ما ساعدك عليه النشاط ، فإن موقعها يحسن ، وذكرها يجمل ، وأثرها يبقى ، وفائدتها تروى ، وعاقبتها تحمد . فقلت : السمع والطاعة .
الليلة العشرون
وقال لي مرة أخرى : اكتب لي جزءاً من الأحاديث الفصيحة المفيدة . فكتبت : قال مالك بن عمارة اللخمي . كنت أجالس في ظل الكعبة أيام الموسم عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير ، وكنا نخوض في الفقه مرةً ، وفي الذكر مرةً ؛ وفي أشعار العرب وىثار الناس مرةً ؛ فكنت لا أجد عند أحدٍ منهم ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم والفصاحة والبلاغة ، وحسن استماعه إذا حدث ، وحلاوة لفظه إذا حدث ، فخلوت معه ذات ليلة فقلت : والله إني لمسرورٌ بك لما أشاهده من كثرة تصرفك وحسن حديثك ، وإقبالك على جليسك ؛ فقال : إنك إن تعش قليلاً فسترى العيون طامحة إلي والأعناق قاصدةً نحوي ، فلا عليك أن تعمل إلي ركابك . فلما أفضت إليه الخلافة شخصت أريده ، فوافيته يوم جمعة وهو يخطب الناس ، فتصديت له ، فلما وقعت عينه علي بسر في وجهي ، وأعرض عني ، فقلت : لم يثبتني معرفةً ولو عرفني ما أظهر نكرة . لكنني لم أبرح مكاني حتى قضيت الصلاة ودخل ،فلم ألبث أن خرج الحاجب إلي فقال : مالك بن عمارة ، فقمت ، فأخذ بيدي وأدخلني عليه ، فلما رآني مد يده إلي وقال : إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت من الإعراض والانقباض ؛ فمرحباً وأهلاً وسهلاً ، كيف كنت بعدنا ؟ وكيف كان مسيرك ؟ قلت : بخير ، وعلى ما يحبه أمير المؤمنين . قال : أتذكر ما كنت قلت لك ؟ قلت : نعم ، وهو الذي أعملني إليك ؛ فقال : والله ما هو بميراثٍ ادعيناه ، ولا أثرٍ وعيناه ، ولكني أخبرك عن نفسي خصالاً سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى ، مالاحيت ذا ودٍ ولا ذا قرابة قط ، ولا شمت بمصيبة عدوٍ قط ، ولا أعرضت عن محدثٍ حتى ينتهي ، ولا قصدت كبيرةً من محارم الله متلذذاً بها وواثباً عليها ، وكنت من قريش في بيتها ، ومن بيتها في وسطه ، فكنت آمل أن يرفع الله مني ، وقد فعل ؛ يا غلام ، بوئه منزلاً في الدار . فأخذ الغلام بيدي وقال : انطلق إلى رحلك ؛ فكنت في أخفض حال ، وأنعم بال ؛ وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ، فإذا حضر عشاؤه أو غداؤه أتاني الغلام وقال : إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس ، فأمشي بلا حذاء ولا رداء فيرفع مجلسي ، ويقبل على محادثتي ، ويسألني عن العراق مرة ، وعن الحجاز مرة ، حتى مضت لي عشرون ليلة . فتغديت عنده يوماً ، فلما تفرق الناس نهضت للقيام ، فقال : على رسلك أيها الرجل ، أي الأمرين أحب إليك : المقام عندنا ، ولك النصفة في المعاشرة والمجالسة مع المواساة ، أم الشخوص ولك الحباء والكرامة ؟ فقلت : فارقت أهلي وولدي على أن أزور أمير المؤمنين ، فإن أمرني اخترت فناءه على الأهل والولد ، قال : بل أرى لك الرجوع إليهم ، فإنهم متطلعون إلى رؤيتك ، فتجدد بهم عهداً ويجددون بك مثله ، والخيار في زيارتنا والمقام فيهم إليك ، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار ، وكسوناك وحملناك ، أتراني ملأت يدك أبا نصر ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، أراك ذاكراً لما رويت عن نفسك . قال : أجل ، ولا خير فيمن ينسى إذا وعد ؛ ودع إذا شئت صحبتك السلامة . قال الوزير : ما أحلى هذا الحديث هات ما بعده ، قلت : قال يحيى بن أبي يعلى : لما قدم المال من ناحية عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - على أبي بكر بن حزم ، قسمه بين الناس في المدينة ، فأصاب كل إنسان خمسين ديناراً ، فدعتني فاطمة بنت الحسينالسلام - فقالت : اكتب ، فكتبت : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من فاطمة بنت الحسين سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فأصلح الله أمير المؤمنين وأعانه على ما تولاه ، وعصم به دينه ، فإن أمير المؤمنين كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يقسم فينا مالاً من الكتيبة ، ويتحرى بذلك ما كان يصنع من قبله من الأئمة الراشدين المهديين ، وقد بلغنا ذلك ، وقسم فينا ، فوصل الله أمير المؤمنين ، وجزاه من والٍ خير ما جزى أحداً من الولاة ، فقد كانت أصابتنا جفوةٌ ، واحتجنا إلى أن يعمل فينا بالحق ؛ فأقسم بالله يا أمير المؤمنين لقد احتدم من آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من لا خادم له ، واكتسى من كان عارياً ، واستقر من كان لا يجد ما يستقر به . وبعثت إليه رسولاً . قال يحيى : فحدثني الرسول قال : قدمت الشام عليه ، فقرأ كتابها وإنه ليحمد الله ويشكره ، فأمر لي بعشرة دنانير ، وبعث إلى فاطمة خمسمائة دينارٍ ، وقال : استعيني بها على ما يعوزك ، وكتب إليها كتاباً يذكر فيه فضلها وفضل أهل بيتها ، ويذكر ما فرض الله لهم من الحق . فرق الوزير عند هذا الحديث وقال : أذكرتني أمر العلوية ، وأخذ القلم ، واستمد من الدواة ، وكتب في التذكرة شيئاً ، ثم أرسل إلى نقيب العلوية العمري في اليوم الثاني بألف دينار ، حتى تفرق في آل أبي طالب ، وقال لي : هذا من بركة الحديث . ثم قال : كيف تطاول هؤلاء القوم إلى هذا الأمر مع بعدهم من رحم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرب بني هاشم منه ؟ وكيف حدثتهم أنفسهم بذلك ؟ إن عجبي من هذا لا ينقضي ، أين بنو أمية وبنو مروان من هذا الحديث مع أحوالهم المشهورة في الدين والدنيا ؟ فقلت : أيها الوزير ، إذا حقق النظر واستشف الأصل لم يكن هذا عجيباً ، فإن أعجاز الأمور تاليةٌ لصدورها ، والأسافل تاليةٌ لأعاليها ، ولا يزال الأمر خافياً حتى ينكشفسببه فيزول التعجب منه ، وإنما بعد هذا على كثير من الناس ، لأنهم لم يعنوا به وبتعرف أوائله والبحث عن غوامضه ، ووضعه في مواضعه ، وذهبوا مذهب التعصب . قال : فما الذي خفي حتى إذا عرف سقط التعجب ولزم التسليم ؟ فكان من الجواب : لا خلاف بين الرواة وأصحاب التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توفي وعتاب بن أسيدٍ على مكة ، وخالد بن سعيد على صنعاء ، وأبو سفيان بن حرب على نجران ، وأبان بن سعيد بن العاص على البحرين ، وسعيد بن القشب الأزدي حليف بني أمية على جرش ونحوها ، والمهاجر بن أبي أمية المخزوومي على كندة والصدف ؛ وعمرو بن العاص على عمان ، وعثمان بن أبي العاص على الطائف . فإذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسس هذا الأساس ، وأظهر أمرهم لجميع الناس ؛ كيف لا يقوى ظنهم ، ولا ينبسط رجاؤهم ، ولا يمتد في الولاية أملهم ؟ وفي مقابلة هذا ، كيف لا يضعف طمع فيها ، والعاجلة محبوبة ، وهذا وما أشبهه حدد أنيابهم ، وفتح أبوابهم ؛ وأترع كأسهم ، وفتل أمراسهم ، ودلائل الأمور تسبق ، وتباشير الخبر تعرف . قال ابن الكلبي : حدثني الحكم بن هشام الثقفي قال : مات عبيد الله بن جحشٍ عن أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت معه بأرض الحبشة ، فخطبها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي ، فدعا بالقرشيين فقال : من أولاكم بأمر هذه المرأة ؟ فقال خالد بن سعيد بن العاص : أنا أولاهم بها . قال : فزوج نبيكم . قال : فزوجه ومهر عنه أربعمائة دينار ؛ فكانت أول امرأة مهرت أربعمائة دينار ؛ ثم حملت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعها الحكم بن أبي العاص ، فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر النظر إليه ، فقيل له : يا رسول الله ، إنك لتكثر النظر إلى هذا الشاب . قال : أليس ابن المخزومية ؟ قالوا : بلى ؛ قال : إذا بلغ بنو هذا أربعين رجلاً كان الأمر فيهم ، وكان مروان إذا جرى بينه وبين معاوية كلامٌ قال لمعاوية : والله إني لأبو عشرة ، وأخو عشرة ، وعم عشرة ، وما بقي إلا عشرة حتى يكون الأمر في ؛ فيقول معاوية بن أبي سفيان : أخذها والله من عينٍ صافيةٍ .فهذا - كما تسمع - إن كان حقاً فلا سبيل إلى رده ، وإن كان مفتعلاً فقد صار داعيةً إلى الأمر الذي وقع النزاع فيه ، وجال الخصام عليه . وها هنا شيء آخر . قال القعقاع بن عمرو : قلت لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : ما حملكم على خلاف العباس بن عبد المطلب وترك رأيه ؟ وهذا يعني به أن العباس كان قال لعليٍ - كرم الله وجهه - في جوابه لي : لو فعلنا ذلك فجعلها في غيرنا بعد كلامنا لم ندخل فيها أبداً ، فأحببت أن أكف ، فإن جعلها فينا فهو الذي نريد ، وإن جعلها في غيرنا كان رجاء من طلب ذلك منا ممدواً ، ولم ينقطع منا ولا من الناس . قال القعقاع : فكان الناس في ذلك فرقتين : فرقةٌ تحزب للعباس وتدين له ، وفرقةٌ تخرب لعليٍ وتدين له . فهذا وما أشبهه يضعف نفوساً ، ويرفع رءوساً ؛ وبعد فهذا البيت خص بالأمر الأول ، أعني الدعوة والنبوة والكتاب العزيز ، فأما الدنيا فإنها تزول من قوم إلى قوم ، وقد رؤي أبو سفيان صخر بن حرب وقد وقف على قبر حمزة بن عبد المطلب وهو يقول : رحمك الله يا أبا عمارة ، لقد قاتلتنا على أمرٍ صار إلينا . فإن قال قائل : فقد وصل هذا الأمر بعد مدةٍ إلى آل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فالجواب : صدقت ، ولكن لما ضعف الدين وتحلحل ركنه وتداوله الناس بالغلبة والقهر ، فتطاول له ناسٌ من آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالعجم وبوقتهم ونهضتهم وعادتهم في مساورة الملوك ، وإزالة الدول ، وتناول العز كيف كان ، وما وصل إلى أهل العدالة والطهارة والزهد والعبادة والورع والأمانة ، ألا ترى أن الحال استحالت عجماً : كسرويةً وقيصريةً ، فأين هذا من حديث النبوة الناطقة ، والإمامة الصادقة ؛ هذا الربيع - وهو حاجب المنصور - يضرب من شمت الخليفة عند العطسة ، فيشكي ذلك إلى أبي جعفر المنصور ، فيقول : أصاب الرجل اسنة وأخطأ الأدب . وهذا هو الجهل ، كأنه لا يعلم أن السنة أشرفمن الأدب ، بل الأدب كله في السنة ، وهي الجامعة للأدب النبوي والأمر الإلهي ، ولكن لما غلبت عليهم العزة ، ودخلت النعرة في آنافهم ، وظهرت الخنزاونة بينهم ، سموا آيين العجم أدباً ، وقدموه على السنة التي هي ثمرة النبوة ، هذا إلى غير ذلك من الأمور المعروفة ، والأحوال المتعالمة المتداولة التي لا وجه لذكرها ، ولا فائدة لنشرها ، لأنها مقررةٌ في التاريخ ، ودائرةٌ في عرض الحديث . ولما كانت أوائل الأمور على ما شرحت ، وأواسطها على ما وصفت ، كان من نتائجها هذه الفتن والمذاهب ، والتعصب والإفراط ، وما تفاقم منها وزاد ونما وعلا وتراقى ، وضاقت الحيل عن تداركه وإصلاحه ، وصارت العامة مع جهلها ، تجد قوةً من خاصتها مع علمها ، فسفكت الدماء ، واستبيح الحريم ، وشنت الغارات ، وخربت الديارات ، وكثر الجدال ، وطال القيل والقال ، وفشا الكذب والمحال ، وأصبح طالب الحق حيران ، ومحب السلامة مقصوداً بكل لسانٍ وسنان ، وصار الناس أحزاباً في النحل والأديان ، فهذا نصيري ، وهذا أشجعي ، وهذا جارودي ، وهذا قطعي ، وهذا جبائي ، وهذا أشعري ، وهذا خارجي ، وهذا شعيبي ، وهذا قرمطي ، وهذاراوندي ، وهذا نجاري ، وهذا زعفراني ، وهذا قدري ، وهذا جبري ، وهذا لفظي ، وهذا مستدركي ، وهذا حارثي ، وهذا رافضي ، ومن لا يحصي عددها إلا الله الذي لا يعجزه شيء ؛ لا جرم شمت اليهود والنصارى والمجوس بالمسلمين ، وعابوا وتكلموا ، ووجدوا آجراً وجصاً فبنوا ، وسمعوا فوق ما تمنوا فرووا . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا يزداد الأمر إلا صعوبة ، ولا الناس إلا اتباع هوىً ، حتى تقوم الساعة على شرار الناس ' . وقال أيضاً : ' بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء من أمتي ' . وقلت لابن الجلاء الزاهد بمكة سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاثمائة : ما صفة هذا الغريب ؟ فقال لي : يا بني هو الذي يفر من مدينةٍ إلى مدينة ، ومن قلةٍ إلى قلة ؛ ومن بلدٍ إلى بلد ومن برٍ إلى بحر ، ومن بحر إلى بر ، حتى يسلم ، وأنى له بالسلامة مع هذه النيران التي قدطافت بالشرق والغرب ، وأتت على الحرث والنسل ، فقدمت كل أفوه ، وأسكتت كل ناطق ، وحيرت كل لبيب ، وأشرقت كل شارب ، وأمرت على كل طاعم ؛ وإن الفكر في هذا الأمر لمختلسٌ للعقل وكارثٌ للنفس ، ومحرقٌ للكبد . فقال الوزير : والله إنه لكذلك ، وقد نال مني هذا الكلام ، وكبر علي هذا الخطب ، والله المستعان . ونظرت إليه وقد دمعت عينه ورق فؤاده وهو - كما تعلم - كثير التأله ، شديد التوقي ، يصوم الاثنين والخميس ، فإذا كان أول رجب أصبح صائماً إلى أول يومٍ من شوال ، وما راينا وزيراً على هذا الدأب وبهذه العادة ، لا منافقاً ولا مخلصاً ، وقد قال الله تعالى : ' إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ' تولاه الله أحسن الولاية ، وكفاه أكمل الكفاية ، إنه قريب مجيب . فلما رايت دمعته قلت : أيها الوزير ، روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' حرمت النار على عينٍ بكت من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله وحرمت النار على عينٍ غضت عن محارم الله ' ، فقال - أحسن الله توفيقه - : هو الهلاك إن لم ينقذ الله بفضله ، ولم يتغمد بعفوه ؛ لو غرقت في البحر كان رجائي في الخلاص منه أقوى من رجائي في السلامة مما أنا فيه . قلت : إذا علم الله من ضميرك هذه العقيدة ألبسك ثوب عفوه ، وحلاك بشعرا عافيته وولايته ، وكفاك كيد أعدائك ، وعصب برءوسهم ما يريدونه بك ' إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ' . فقال : اجمع لي جزءاً من رقائق العباد وكلامهم اللطيف الحلو ، فإن مراميهم شريفة ، وسرائرهم خالصة ، ومواعظهم رادعة ، وذاك - أظن - للدين الغالب عليهم ، والتألهالمؤثر فيهم ؛ فالصدق مقرونٌ بمنطقهم ، والحق موصولٌ بقصدهم ، ولست أجد هذا المعنى في كلام الفلاسفة ، وذاك - أظن أيضاً - لخوضهم في حديث الطبائع والأفلاك والأثار وأحداث الزمان . قلت : أفعل ، فكتبت تمام ما تقعدم به ، ثم كتبت بعد وريقاتٍ في حديث النساك . قال عتبة بن المنذر السلمي : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأجلين قضى موسى - عليه السلام - ؟ فقال : أكثرهما وأوفاهما ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن موسى - عليه السلام - لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من نتاج غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام ، فلما وردت الحوض وقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاةٌ إلا ضرب جنبها بعصاه ، فوضعت قوالب ألوان كلها ووضعت اثنتين أو ثلاثةً كل شاة ، ليس فيهن فشوشٌ ولا ضبوبٌ ولا ثعولٌ ولا كميشةٌ تفوت الكف فإن افتتحتم الشام وجدتم بها بقايا منها ، فاتخذوها ، وهي السامرية ' . قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي في حديثٍ : بعث الله تعالى رسولاً فينا نعرف صدقه وأمانته ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبده ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وقال صاحب التاريخ : ولدت لعمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زيداً ورقية ؛ وأم أم كلثوم فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال أنس بن مالك : صلى الناس على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما توفي أفراداً لم يؤمهم عليه أحد .ولما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمان سنين ، هلك عبد المطلب ، وهو شيبة أبو الحارث ، وذلك بعد الفيل بثمان سنين ، وتوفيت آمنة أمه وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة ، كانت قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم ، فماتت وهي راجعة إلى مكة .
الليلة الحادية والعشرون
وسأل مرة عن المغني إذا راسله آخر لم يجب أن يكون ألذ وأطيب ، وأحلى وأعذب ؟ فكان من الجواب : أن أبا سليمان قال في جواب هذه المطالب ما يمنع من اقتضاب قولٍ وتكلف جواب ، ذكر أن المسموع الواحد إنما هو بالحس الواحد ، وربما كان الحس الواحد أيضاً غليظاً أو كدراً ، فلا يكون لنيله اللذة به بسطٌ ونشوٌ ولذاذة ، وكذلك المسموع ربما لم يكن في غاية الصفاء على تمام الأداء بالتقطيع الذي هو نفس في الهواء ، فلا تكون أيضاً إنالته للذة على التمام والوفاء ، فإذا ثنى المسموع - أعني توحد النغم بالنغم - قوي الحس المدرك ، فنال مسموعين بالصناعة ، ومسموعاً واحداً بالطبيعة ؛ والحس لا يعشق المواحدة والمناسبة والاتفاق إلا بعد أن يجدها في المركب ، كما أن العقل لا يعشق إلا بعد أن ينالها في فضاء البسيط ؛ فكلما قوي الحس باستعماله ، التذ صاحبه بقوته حتى كأنه يسمع ما لم يسمع بحسٍ أو أكثر ، وكما أن الحس إذا كان كليلاً كان الذي يناله كليلاً ، كذلك الحس إذا كان قوياً كان ما يناله قوياً . قال : هذا كله موهوبٌ للحس ، فما للعقل في ذلك ؟ فإنا نرى العاقل تعتريه دهشةٌوأريحية واهتزاز . قلت : قد أتى على مجموع هذا ومعرفته أبو سليمان في مذاكرته لابن الخمار ، وذكر أن من شأن العق السكون ، ومن شأن الحس التهيج ، ولهذا يوصف العاقل بالوقار والسكينة ، ومن دونه يوصف بالطيش والعجرفة ، والإنسان ليس يجد العقل وجداناً فيلتذ به ، وإنما يعرفه إما جملةً وإما تفصيلاً ؛ أعني جملةً بالرسم وتفصيلاً بالجد ، ومع ذلك يشتاق إلى العقل ، ويتمنى أن يناله ضرباً من النيل ويجده نوعاً من الوجدان ، فلما أبرزت الطبيعة الموسيقى في عرض الصناعة بالآلات المهيأة ، وتحركت بالمناسبات التامة والأشكال المتفقة أيضاً ، حدث الاعتدال الذي يشعر بالعقل وطلوعه وانكشافه وانجلائه ، فبهر الإحساس ، وبث الإيناس ، وشوق إلى عالم الروح والنعيم ، وإلى محل الشرف العميم ، وبعث على كسب الفضائل الحسية والعقلية ، أعني الشجاعة والجود والحلم والحكمة والصبر ، وهذه كلها جماع الأسباب المكملة للإنسان في عاجلته وآجلته ؛ وبالواجب ما كان ذلك كذلك ، لأن الفضائل لا تقتنى إلا بالشوق إليها ، والحرص عليها ، والطلب لها ؛ والشوق والطلب والحرص لا تكون إلا بمشوقٍ وباعثٍ وداعٍ ، فلهذا برزت الأريحية والهزة ، والشوق والعزة ؛ فالأريحية للروح ، والهزة للنفس ، والشوق للعقل ، والعزة للإنسان . ومما يجب أن يعلم أن السمع والبصر أخص بالنفس من الإحساسات الباقية ، لأنهما خادما النفس في السر والعلانية ، ومؤنساها في الخلوة ، وممداها في النوم واليقظة ؛ وليست هذه الرتبة لشيء من الباقيات ، بل الباقيات آثارها في الجسد الذي هو مطية الإنسان ، لكن الفرق بين السمع والبصر في أبواب كثيرة : ألطفها أن أشكال المسموع مركبةٌ في بسيط ، وأشكال المبصر مبسوطة في مركب . قلت : وقد حكيت هذا لأبي زكرياء الصيمري فطرب وارتاح وقال : ما أبعد نظر هذا الرجل وما أرقى لحظه وما أعز جانبهالليلة الثانية والعشرون
وقال لي مرة أخرى : ارو لي شيئاً من كلام أبي الحسن العامري ، فإني أرى أصحابنا يرذلونه ويذيلونه ، فلا يرون له في هذه العصبة قدماً ، ولا يرفعون له في هذه الطائفة علماً . فقلت : كان الرجل لكزازته وغلظ طباعه وجفاء خلقه ينفر من نفسه ، ويغري الناس بعرضه ، فإذا طلب منه الفن الذي قد خص به وطولب بتحقيقه وجد على غاية الفضل . فمن كلامه قوله : الطبيعة تتدرج في فعلها من الكليات البسيطة ، إلى الجزئيات المركبة ، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة ، إلى البسائط الكلية ، والإحاطة بالمعاني البسيطة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني المركبة ، ليتوصل بتوسطها إلى استثباتها ، والإحاطة بالمعاني المركبة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني البسيطة ليتوصل بتوسطها إلى تحقيق إثباتها . وكما أن القوة الحسية عاجزةٌ بطباعها عن استخلاص البسائط الأوائل ، بل تحتاج معها إلى القوة العاقلة ، وإنقويت لصار العقل فضلاً - كذلك أيضاً القوة العاقلة لا تقوى بذاتها على استثبات المركبات إلا من جهة القوة الحساسة ، ولو قويت عليه لصار الحس فضلاً للعاقلة . قال : هذا كلامٌ بارعٌ من صدرٍ واسع ، وأحب أن تزيدني من نمطه . قلت : وقال أيضاً : الكلي مفتقرٌ إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً ، والجزئي مفتقر إلى الكلي لا لأن يصير بتوسطه موجوداً ، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً ، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً . وقال : الحال في جميع السبل - أعني مسالك الأشياء في تكونها صناعيةً كانت أوتدبيريةً أو طبيعيةً أو اتفاقيةً - واحدة ، مثاله أن الإنسان وإن التذ بالدستنبان فلن يعد موسيقاراً إلا إذا تحقق بمبادئه الأول التي هي الطنينات وأنصاف الطنينات ، وكذلك الإنسان وإن استطاب الحلو فلن يسمى حلوانياً إلا إذا عرف بسائطه وأسطقساته . وقال : العلم لا يحيط بالشيء إلا إذا عرف مبادئه القريبة والبعيدة والمتوسطة . وقال : نتوصل إلى كرية القمر بما نراه من اختلاف أشكاله ، أعني أنا نراه في الدورة الواحدة هلالياً مرتين ومنصفاً مرتين وبدراً مرة واحدة ، وهذه الأشكال وإن كانت متقدمةً عندنا فإن كونه كرياً هو المتقدم بالذات . وقال : ما هو أكثر تركيباً فالحس أقوى على إثباته ، وما هو أقل تركيباً فالعقل أخلص إلى ذاته . وقال : الأحداث - وهي الذوات الإبداعية - الوقوف على إثباتها يغني عن البحث عن ماهياتها . وقال : كل معنىً يوجد بوجوده غيره لا يرتفع بارتفاع ذلك الذي هو غيره ، بل يرتفع غيره بارتفاعه ، فإنه أقدم ذاتاً من غيره ، مثاله الجنس لا يرتفع بارتفاع واحدٍ من أنواعه ، والأنواع ترتفع بارتفاع الجنس ، وكذلك حال النوع مع الشخص ، فالجنس أقدم من النوع ، والنوع أقدم من الشخص ، وأعني بالجنس والنوع الطبيعيين لا المنطقيين . وقال : معرفتنا أولاً تتعلق بالأشخاص الجزئية ثم بتوسطها ثبتت الأجناس فإذاً المتقدم بالذات غير المتقدم إلينا . وقال : مسلك العقل في تعرف المعاني الطبيعية مقابلٌ لمسلك الطبيعة في إيجادها ، لأن الطبيعة تتدرج من الكليات البسيطة إلى الجزئيات المركبة ، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة إلى البسائط الكلية . قال أبو النضر نفيس : إنما كان هذا هكذا لأن الطبيعة متناولة من العقل والعقل مناولٌ للطبيعة ، فوجب أن يختلف الأمران ، فإن قال قائل : فهلا تم الأمران معاً بواحدٍ منهما ، أعني الطبيعة أو العقل ؟ فالجواب أن أحدهما في العلو ، والآخر في السفل ، فليس للعالي أنيهبط ، ولا للسافل أن يعلو ؛ فلما كان هذا محالاً توسط بينهما - أعني العالي والسافل - المناولة والتناول حتى اتصل الأول بالثاني ، وغص الفضاء بينهما بضروب الأفراد والأزواج ، وانتظم الكل فلم يكن فيه خلل ، ولا دونه مأتىً ، ولا وراءه متوهم . وقال : الإنسان مركب من الأعضاء الآلية بمنزلة الرأس واليدين والرجلين وغيرها ، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأعضاء المتشابهة الأنواع بمنزلة اللحم والعظم والعصب والشريان ، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمريان ، ثم كل واحد من هذه الأخلاط مركب من الأسطقسات الأربع التي هي النار والهواء ، والأرض والماء ؛ ثم كل واحدٍ من هذه الأسطقسات مركب من الهيولى والصورة . وقال : كما أن لكل عضو قوةً تخصه بتدبيرها ، كذلك لجميع البدن قوةٌ أخرى ضامنةٌ لتدبيره . قال : وقال الحكيم في كتاب السماء : علة الأنواع والأجناس ودوامها هي الفلك المستقيم ، وعلة كون الأشخاص وتجدد حدوثها هي الفلك المائل ، فأما الكليات المنطقية فإن طبيعتها هي القوة القياسية المستتبة لها عند تكون الحس على واحدٍ منها . قال أبو النضر نفيس : هذا حكمٌ بالوهم ، ورأيٌ خرج من الظن ؛ الفلك المستقيم والفلك المائل هما بنوع الوحدة ونسبة الاتفاق ، فليس لأحدهما اختصاص بالأنواع والأجناس ، ولا بتجدد الأشخاص ، والدليل على هذا أن قالباً لو قلب قالبه ذلك لم يكن له عنه انفصال . وللرأي زلات ، كما أن للسان فلتات ،وللحكيم هفوات ، كما أن للجواد عثرات ؛ وما أكثر من يسكر فيقول في سكره ما لا يعرف ، وما أكثر من يغرق في النوم فيهذي بما لا يدري ، ومن الذي حقق عنده أن الفلك المستقيم هذا نعته ، والفلك المائل تلك صفته ؛ هذا توهم وتلفيق ، لا يرجع مدعيه إلى تحقيق ، وقول أبي الحسن هذا عن الحكيم تقليدٌ ، كما أن دعوى ذاك الحكيم توهم ، ومحبة الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على قبول الباطل ، وبغض الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على رد الحق ؟ وهذا أمرٌ قد طال منه الضجيج ، وفزع إلى الله منه بالتضرع . قال أبو الحسن : الموجود له حقيقةٌ واحدةٌ لا تدرك إلا عقلاً ، وليس له مبدأ ، ولو كان له مبدأٌ لشاركه المبدأ في طبيعة الوجود ، وليس بمتحرك لأنه لا مقابل له فيتحرك إليه . وقال أبو النضر نفيس : عني بهذا الموجود الحق الأول الذي هو علة العلل ، وهو البارىء الإله ، وما أنصف ، لأنه يجب أن يقسم الموجود بأقسامه ، ويصف مرتبة كل موجود على ما هي عليه وعلى ما هو به حتى ينتهي من هذا الموجود الأعلى إلى آخر الموجود الأسفل ، أو يصف الموجود الأسفل حتى يرتقي إلى هذا الموجود الأعلى ، فإنه لا شيء مما يعقل ويحس إلا وله من هذا الوجود نصيب به استحق أن يكون موجوداً ، وإن كان ذلك النصيب قليلاً . وقال : قد يوصف الشيء بأنه واحد بالمعنى وهو كثير بالأسماء ، ويوصف بأنه واحد بالاسم وهو كثير بالمعنى ، ويوصف بأنه واحد بالجنس وهو كثير بالأنواع ، ويوصف بأنه واحد بالنوع وهو كثير بالشخوص ، ويوصف بأنه واحد بالاتصال وهو كثير بالأجزاء ، وقد نقول في شيء : إنه واحد بالموضوع وهو كثير بالحدود ، كالتفاحة الواحدة التي يوجد فيها اللون والطعم والرائحة ، وقد يكون واحداً في الحد وكثيراً في الموضوع ، كالبياض الذي يوجد في الثلج والقطن والاسفيداج ، وقد يكون كثيراً بالحج والموضوع كالعلم والحركة ، فإن موضوع هذا الجسم ، وموضع ذاك النفس ، وحد أحدهما غير حد الآخر ، وقد يكون واحداً بالموضوع والحد بمنزلة السيف والصمصام ؛ وقد نقول أشياء تكون واحدةً بالفعل ،وهي بالقوة كثيرة ، كالسراج الواحد ؛ فأما أن يكون واحداً بالقوة وكثيراً بالفعل من وجهٍ واحد ، فلا يكون ، بل من جهات مختلفة . قال أبو النضر نفيس : الواحد الذي ينقسم فينشأ منه الكثرة غير الواحد الذي لا ينقسم ، والكثير الذي يتوحد حتى يكون واحداً غير الكثير الذي لا يتوحد ، فالواحد الذي لا ينقسم علة الواحد المنقسم ، والكثير الذي يتوحد هو علة الكثير الذي لا يتوحد ، وبالحكمة الإلهية ما كان هكذا حتى يكون الكثير الذي يتوحد في مقابلة الكثير الذي لا يتوحد ، والواحد الذي ينقسم في مقابلة الواحد الذي لا ينقسم ، وهذه المقابلة هي عبارة عن صورة التمام الحاصل للكل ، وليست هي عبارة عن صورةٍ مزاحمةٍ لصورة ، أو كثيرةٍ غالبةٍ لكثرة ، المستغاث بالله من قصور العبارة عن الغاية ، وتقاعس اللفظ عن المراد . وقال : يعجبني من جملة الحكم الأمثال التي يضربونها ، والعيون التي يستخرجونها ، والمعاني التي يقربونها . قلت : صدقت ، مثل قول فيلسوف : البدن للنفس بمنزلة الدكان للصانع ، والأعضاء بمنزلة الآلات ، فإذا انكسرت آلات الصانع وخرب الدكان وانهدم ، فإن الصانع لا يقدر على عمله الذي كان يعمله إلا أن يتخذ دكاناً آخر ، وآلاتٍ جددً أخر . قال : أحب أن أسمع شيئاً من منثور كلامهم في فنون مختلفة . قلت : قال فيلسوف : العاقل يضل عقله عند محاورة الأحمق . قال أبو سليمان : هذا صحيح ، ومثاله أن العاقل إذا خاطب العاقل فهم وإن اختلفت مرتبتاهما في العقل ، فإنهما يرجعان إلى سنخ العقل ، وليس كذلك العاقل إذا خاطب الأحمق ، فإنهما ضدان ، والضد يهرب من الضد ؛ وقد قيل لأبي الهذيل العلاف - وكان متكلم زمانه - : إنك لتناظر النظام وتدور بينكما نوبات ، وأحسن أحوالنا إذا حضرنا أن ننصرف شاكين في القاطع منكما والمنقطع ، ونراك مع هذا يناظرك زنجويه الحمال فيقطعك في ساعة .فقال : يا قوم إن النظام معي على جادة واحدة لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدر ما يراه صاحبه فيذكره انحرافه ، ويحمله على سننه فأمرنا يقرب ، وليس هكذا زنجويه الحمال فإنه يبتدىء معي بشيء ، ثم يطفر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة ، وأبقى ، فيحكم علي بالانقطاع ، وذاك لعجزي عن رده إلى سنن الطريق الذي فارقني آنفاً فيه . وقال فيلسوفٌ آخر : العادات قاهرات ، فمن اعتاد شيئاً في السر فضحه في العلانية . قال أبو سليمان : وهذا صحيح ، لأن حقيقة العادة في الشيء المعهود عوده بعد عوده ، فهي - أعني العادة - بالاستمرار الذي يقهر من اعتاده ، والخلوة حال ، والعلانية حال ، والعادة بجريانها تهجم في الحالين ولا تفرق ؛ ولهذا ما قيل : العادة هي الطبيعة الثانية ؛ كأن الطبيعة عادة ، ولكنها الأولى بالجبلة ؛ والعادة طبيعة ولكنها الأخرى بحسن الاختيار أو بسوء الاختيار . وقال فيلسوف : ما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئاً كثيراً وهذا فقير من جهة العرض ، فأما الفقير الطبيعي فالذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال ؛ كما أن الغني الطبيعي لا يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال ، أي الذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته ؛ وقد ظن قومٌ أن الذين منعوا من الشهوات ، ورضوا بالزهد في اللذات ، خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم ، وحرموهم ما هو لهم ، وصدوهم عن محبوباتهم ؛ وهذا ظنٌ خطأ ، وأي مرادٍ في هذا للواعظين والمزهدين ، والذين وصوا وأشفقوا ، وردعوا عن الخوض في لذات النفوس الغضبية والبهيمية ؟ والله ما كان ذلك منهم إلا على طريق النصيحة والشفقة والإعذار والإنذار ، إلا أن يكون الذين ظنوا هذا إنما ظنوه لأنهم رأوا بعض المزهدين راغباً ، وبعض الناصحين غاشاً ، وبعض الآمرين مخالفاً ، وليس العمل على المحتال ، وعلى من آثر الغش في المقال ؛ ولكن المرجع إلى ما يدل عليه الحق ، ويشهد له العقل ، ويصح فيه البرهان ؛ أترى الفيلسوف غش في قوله لأصحابه :اقنعوا بالقوت ، وانفوا عن أنفسكم الحاجة ، ليكون لكم قربة إلى الله ، لأن الله غير محتاج ، فكلما احتجتم أكثر كنتم منه أبعد ، واهربوا من الشر والإثم ، واطلبوا من الخير أعمه وأعظمه ، وأبقاه وأدومه ؛ واعرفوا الأبد ، واطلبوا السرمد ، فإن من طلب الأبد ثم وجد بقي على الأبد ، ومن طلب الأمد ثم وجد فني على الأمد . الحاجة ذلٌ ، والغنى عز ، والعز ضد الذل ؛ فمن طلب العز في العاجلة فقد طلب الذل وهو لا يدري ، ومن طلب العز في الآجلة فقد وجد العز وهو لا يدري . في الحكمة أن يقال : اصبر على الذل لتنال العز ، وليس في الحكمة اثبت على العز لتنال الذل ، هذا معكوس .
الليلة الثالثة والعشرون
وكان الوزير رسم بكتابه لمعٍ من كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأفردت ذلك في هذه الورقات ، وهي : قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أشد الأعمال ثلاثة : إنصاف الناس من نفسك ، ومواساة الأخ من مالك ، وشكر الله تعالى على كل حال ' . وقال الواقدي : لما غالط خالد بن الوليد عبد الرحمن بن عوف قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا خالد ذروا لي أصحابي ، لو كان لك أحدٌ ذهباً تنفقه قراريط في سبيل الله لم تدرك غدوةً أو روحةً من عبد الرحمن . وقال عليه السلام : ' إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة تبشبش الله إليه ، وإن أخرها أعرض عنه ' . وقال عليه السلام : ' إنما فدك طعمةٌ أطعمنيها الله حياتي ، ثم هي بين المسلمين ' . وقال عليه السلام : ' المقوم قد يأثم ولا يغرم ' . وقال عليه السلام في دعائه : ' اللهم اجمع على الهدى أمرنا ، وأصلح ذات بيننا ،وألف بين قلوبنا ، واجعل قلوبنا كقلوب خيارنا ، واهدنا سواء السبيل وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ومعايشنا ، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمتك ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ' . وقيل له ( صلى الله عليه وسلم ) : إن فلاناً استشهد ، فقال : ' كلا إن الشملة التي أخذها من الغنائم يوم حنين اشتعلت عليه ناراً ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من اطلع من صبر بابٍ ففقئت عينه فهي هدر ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لرجل يذبح شاةً : ' ارهف شفرتك ، فإذا فريت فأرح ذبيحتك ، ودعها تخب وتشخب ، فإن ذلك أمرى للدم وأحلى للحم ' . وقال عليه السلام : ' خير الناس الغني الخفي التقي ' . وقال : ' التاجر الصدوق إن مات في سفره كان شهيداً ، أو في حضره كان صديقاً ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ظهر المؤمن مشجبه ، وبطنه خزانته ، ورجله مطيته ، وذخيرته ربه ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما نقص مالٌ من صدقة ، فتصدقوا ، ولا عفا رجلٌ عن مظلمةٍ إلا زاده الله عز وجل عزاً وعفواً ؛ ولا فتح رجلٌ على نفسه باب مسئلةٍ إلا فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر ، فاستعفوا ' . وقال عليه السلام : ' أجود الأعمال الجود في العسر ، والقصد في الغضب ، والعفو عند المقدرة ' . وقال عليه السلام : ' إن بين مصراعي باب الجنة مسيرة مائة عام ، وليأتين عليه يومٌوهو كظيظٌ من الزحام ' . وفد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رسول قومٍ من بني عامر يستأذنه في المرعى حول المدينة ؛ فقال عليه السلام : إنها ديارٌ لا تضيق عن جارنا ، وإن جارنا لا يظلم في ديارنا ، وقد ألجأتكم الآزمة ، فنحن نأذن لكم في المرعى ونشرككم في المأوى ، على أن سرحنا كسرحكم ، وعانينا كعانيكم ، ولا تعينوا علينا بعد اليوم ؛ فقال : لا نعين عدواً ما أقمنا في جوارك ، فإذا رحلنا فإنما هي العرب تطلب أثآرها ، وتشفي ذحولها ؛ فقال عليه السلام : يا بني عامر ، أما علمتم أن اللوم كل اللوم أن تنحاشوا عند الفاقة ، وتثبوا عند العزة ، فقال : وأبيك إن ذلك للؤم ، ولن نبغيك غائلةً بعد اليوم ، فقال : اللهم اشهد ، وأذن لهم . وسئل ( صلى الله عليه وسلم ) : كيف يأتيه الوحي ؟ فقال : ' في مثل صلصلة الجرس ، ثم ينفصم ' . وقد روى ابن الكلبي عن أبيه عن ابن صالح ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال علي للمقداد : أعطني فرسك أركبه ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أنت تقاتل راجلاً خيرٌ منك فارساً . قال : فركبه ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن الفرس فصرمه ، فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أمسك على فيه ، فلما رأى عليٌ ضحكه غضب فسل سيفه ، ثم شد على المشركين ، فقتل ثمانيةً قبل أن يرجع ، فقال عليٌ : لو أصابني شرٌ من هذا كنت أهله حين يقول : أنت تقاتل راجلاً خيرٌ منك فارساً ، فعصيته . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن امرأ عرف الله وعبده وطلب رضاه وخالف هواه لحقيقٌ بأن يفوز بالرحمة ' . لما ورد محمد بن مسلمة عن عمرو بن العاص من جهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، صنع عمرو له طعاماً ودعاه إليه ، فأبى محمدٌ ، فقال عمرو : أتحرمطعامي ؟ قال : لا ، ولكني لم أومر به . فقال عمرو : لعن الله زماناً عملنا فيه لابن الخطاب ، لقد رأيته وأباه وإنهما لفي شملة ما تواري أرساغهما ، وإن العاصي بن وائل لفي مقطعات الديباج مزررةً بالذهب . فقال محمد : أما أبوك وأبو عمر ففي النار ، وأما أنت فلولا ما وليت لعمر لألفيتك معتقلاً غنزاً يسرك غزرها ويسوءك بكوها ، فقال عمرو : المجالس أمانة ، فقال محمد : أما ما دام عمر حياً فنعم . دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على فاطمة يعودها من علة ، فبكت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما يبكيك ؟ فقالت : قلة الطعم ، وشدة السقم ، وكثرة الهم . قال عبد الله بن مسعود : شر الأمور محدثاتها ، وشر الغني غني الإثم ، وخير الغنى غنى النفس ، والخمر جماع الإثم ، والدنيا حبالة الشيطان ، والشباب شعبةٌ من الجنون . قيل له : أتقول هذا من تلقائك ؟ قال : لا ، بل من تلقاء من فرض الله علي طاعته . وقال أبو ذر رحمة الله عليه : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا أبا ذر : إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم . وقال أبو هريرة : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ستحرصون على الإمارة ، وستكون حسرةً وندامةً يوم القيامة ، فنعمت المرضعة ، وبئست الفاطمة . أبو أمامة يرفعه ، قال : ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً أطلقه العدل ، أو أوثقه الجور . قال العباس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أمرني يا رسول الله فأصيب .قال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن رجلاً جاء إلى النجاشي فقال له : أقرضني ألف دينار إلى أجل ، فقال : من الكفيل بك ؟ فقال : الله . فأعطاه الألف ، فلما بلغ الأجل أراد الرد ، فحبسته الريح ، فعمل تابوتاً وجعل فيه الألف وغلفه ، وألقاه في البحر ، وقال : اللهم أد حمالتك ؛ فخرج النجاشي إلى البحر فرأى سواداً ؛ فقال : ائتوني به . فأتوه بالتابوت ، ففتحه ، فإذا فيه الألف ، ثم إن الرجل جمع ألفاً بعد ذلك ، وطابت الريح ، وجاء إلى النجاشي فسلم عليه ؛ فقال له النجاشي : لا أقبلها منك حتى تخبرني بما صنعت فيها . فأخبره بالذي صنع ؛ فقال النجاشي : فقد أدى الله عنك ، وقد بلغت الألف في التابوت ، فأمسك عليك ألفك . رأى أبو هريرة رجلاً مع آخر ، فقال : من هذا الذي معك ؟ قال : أبي . قال : فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له . قال أبو هريرة : كان جريجٌ يتعبد في صومعته ، فأتت أمه فقالت : يا جريج ، أنا أمك ، كلمني ؛ فقال : اللهم أمي وصلاتي ؛ فاختار صلاته ، فرجعت ثم أتته ثانيةً فقالت : يا جريج ، كلمني ، فصادفته يصلي فقال : اللهم أمي وصلاتي ، فاختار صلاته ، ثم جاءته فصادفته يصلي ، فقالت : اللهم إن هذا ابني قد عقني فلم يكلمني فلا تمته حتى تريه المومسات ، ولو دعت عليه أن يفتن لفتن ؛ قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره ، فخرجت امرأةٌ من القرية ، فوقع عليها الراعي ، فحملت فولدت غلاماً ، فقيل لها : ممن هذا ؟ فقالت : من صاحب هذه الصومعة ، فأقبل الناس إليه بفؤوسهم ومساحيهم فبصروا به ، فصادفوه يصلي ، فلم يكلمهم ، فأخذوا يهدمون ديره ، فنزل وتبسم ومسح رأس الصبي وقال : من أبوك ؟ فقال : أبي راعي الضأن . فلما سمع القوم ذلك راعهم ، وعجبوا ،وقالوا : نحن نبني لك ما هدمنا بالذهب والفضة . قال : لا ، أعيدوها كما كانت تراباً ؛ ثم عاد . وقال أبو الدرداء : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواب . وقال أيضاً : ليس على سارق الحمام قطع . وقال : إذا اخترتم أرضاً فلا تختاروا أرمينية ، فإن فيها قطعةً من عذاب الله ، يعني البرد . أبو هريرة يرفعه : ويلٌ للعرفاء ، ويلٌ للأمناء ، ليتمنين أقوامٌ يوم القيامة أنهم كانوا متعلقين بين السماء والأرض يتذبذبون من الثريا ، وأنهم لم يلوا عملاً . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الرحمن بن سمرة : ' لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسئلةٍ وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسئلةٍ أعنت عليها ' . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كلكم راع ومسؤولٌ عن رعيته ، فالأمير راعٍ على الناس وهو مسؤولٌ أقام أمر الله فيهم أم ضيع ؛ والمرأة راعيةٌ على بيتها وما وليت من زوجها ، ومسئولةٌ عنهم أقامت أمر الله فيهم أم ضيعت ؛ والخادم مسؤولٌ عن مال سيده أقام أمر الله فيه أم ضيع ' . هكذا رواه ابن عتبة عن نابع عن ابن عمر . قال عياض الأشعري : قدم أبو موسى على عمر ومعه كاتبٌ له ، فرفع حسابه ، فأعجب عمر . وجاء إلى عمر كتابٌ ، فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ قال : إنه لا يدخل المسجد . قال : لم ؟ أجنبٌ هو ؟ قال : إنه نصراني . قال : فانتهره ، وقال : لا تدنهم وقد أقصاهم الله ، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ، ولا تأتمنهم وقد خونهم الله . قال عبد الله بن نافع : جاء رجلان من الأنصار إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : إنكم لتختصمون إلي وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ،وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعةً من نار ، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . قال : فبكى الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقي لأخي ؛ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أما إذ قلتما هذا فاذهبا فاستهما ، وتوخيا الحق ، وليحلل كل واحد منكما صاحبه . وفي رواية أخرى : اذهبا فاصطلحا . وروي أن عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى النجاشي أصحمة : سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، فكتب النجاشي : إلى محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من النجاشي أصحمة بن أبجر : سلامٌ عليك يا نبي الله من الله ورحمته وبركاته . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الكافر خبٌ ضبٌ ، والمؤمن دعبٌ لعب ' . وقال رجلٌ للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اعدل فإنك إلى الآن لم تعدل . فقال : ويلك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل ؟ . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الواجد يبيح ظهره وعرضه ' . وقال عمر : ردد الخصوم كي يصطلحوا . وقال عليه السلام : لا تحلفوا بأيمانكم ، ومن حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له فليقبل . وقال : من حلف يميناً كاذبة يقتطع بها مال امرىء مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان . وقال : من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خيرٌ ، وليكفر عن يمينه . وقال - عليه السلام - لا تسافر المرأة ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرم . حدثنا أبو السائب القاضي عتبة بن عبيد قال : حدثنا محمد بن المرزبان قال : حدثنا المغيرة قال : حدثنا محمد بن العباس المنقري قال : كان شريك ابن عبد الله على القضاءبالكوفة ، فقضى على وكيلٍ لعبد الله بن مصعب بقضاء لم يوافق عبد الله ، فلقي شريكاً ببغداد ، فقال له : قضيت على وكيلي قضاءً لا يوافق الحق . قال : من أنت ؟ قال : من لا تنكر . قال : قد نكرتك أشد النكير . قال : أنا عبد الله بن مصعب . قال : فلا كبيرٌ ولا طيب . قال : كيف لا تقول هذا وأنت تشتم الشيخين . قال : من الشيخان ؟ قال : أبو بكرٍ وعمر . قال : والله لا أشتم أباك وهو دونهما ، فكيف أشتمهما وهما فوقي وأنا دونهما ؟ وقال عقبة بن عامر الجهني : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما من رجل يؤتى الدنيا ويوسع له فيها وهو لله على غير ما يحب إلا وهو مستدرج ، لأن الله تعالى يقول : ' فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ' . قال ابن الأنباري : قوله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا وهو مستدرج ، معناه إلا وهو مستدعٍ هلكته ، مأخوذٌ من الدراج ، وهو الهالك ، يقال هو أعلم من دب ودرج ، ويراد بدرج : هلك ؛ وبدب : مشى . وقال سعيد بن عامر بن حزيم ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن لله أمناء على خلقه يضن بهم على القتل يعيشهم في عافية ، ويميتهم في عافية ' . قال ناشرة بن سمي : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول يوم الجابية : إني قد نزعت خالد بن الوليد وأمرت أبا عبيدة ، فقال رجلٌ : والله لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال عمر : إنك لشابٌ قريب القرابة ، وهذا القائل هو أبو عمرو بن حفص بن المغيرة ابن عم خالد . قال قبيصة بن المخارق : نهى رسول الله عن الطرق والعيافة والخط . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صلةٌ وصدقة ' .قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو قالا : لما نزلت : ' وأنذر عشيرتك الأقربين ' ، انطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى رضمةٍ من جبلٍ فعلا أعلاها حجراً ، وقال : يا بني عبد مناف ، يا بني فهر ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ رأى العدو فانطلق يريد أهله ، وخشي أن يسبقوه إلى أهله ، فجعل يهتف واصباحاه . النعمان بن بشير وقبيصة قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ، ولكن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع ' . تزوج رجلٌ امرأةً فمات قبل أن يدخل بها ، ولم يسم لها صداقاً ، فسئل ابن مسعود فقال : لها صداق إحدى نسائه ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام أبو سنان في رهطٍ من أشجع ، فقالوا : لقد قضى فيها بقضاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في برزع بنت واشقٍ الأشجعية . عقبة السلمي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إذا تباطأت المغازي وكثرت الغرائم واستؤثر بالغنائم فخير جهادكم الرباط ' . حبان الأنصاري قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطب الناس يوم حنينٍ فأحل لهم ثلاثة أشياء كان نهاهم عنها ، وحرم عليهم ثلاثة أشياء كان الناس يحللونها ، أحل لهم أكل لحوم الأضاحي ، وزيارة القبور والأوعية ، ونهاهم عن بياع المغنم حتى يقسم ، ونهاهم عن النساء من السبايا ألا يوطأن حتى يضعن أولادهن ، ونهاهم ألا تباع ثمرةٌ حتى يبدو صلاحها ، ويؤمن عليها من العاهة . وهب بن حذيفة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : الرجل أحق بمجلسه . حسان بن ثابتٍ قال : لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زائرات القبور . قال مالك بن عبادة الغافقي : مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعبد الله بن مسعود فقال : لا تكثر همك ما يقدر يكن ، وما ترزق يأتك .خالد بن عدي الجهني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من بلغه معروفٌ من أخيه من غير مسئلةٍ ولا إشراف نفسٍ فليقبله ولا يرده ، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه . رافع بن مكيثٍ - أخو جندب بن مكيث - شهد الحديبية قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ' حسن الملكة نماءٌ ، وسوء الخلق شؤم ، والصدقة تدفع ميتة السوء ، والبر زيادةٌ في العمر . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن يوم الجمعة يوم زينةٍ كيوم الفطر والنحر . خباب بن الأرت - وكان من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى يوماً إلى جدارٍ كثير الجحرة إما ظهراً أو عصراً ، فلما صلى خرجت إليه عقرب فلدغته ؛ فغشي عليه ، فرقاه الناس فأفاق ، فقال : ' إن الله شفاني وليس برقيتكم ' . قال الوزير : ما أحسن هذا المجلس .
الليلة الرابعة والعشرون
وجرى حديث الفيل ليلةً فأكثر من حضر وصفه بما لم يكن فيه فائدةٌ تعاد ، ولا غريبةٌ تستفاد ؛ فحكيت : إن العلماء بطبائع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية ، وتحت مدار برج الحمل ، والزرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة ، والسمور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية ؛ وأما الصقور والنسور والبزاة وما شاكلها من الطير فإنها لا تفرخ إلا في رءوس الجبال الشامخة والعقاب . والنعام لا تفرخ إلا في البراري والقفار والفلوات . والوطواط والطيطوي وأمثالهما من الطير لاتفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام ؛ والعصافير والفواخت وما شاكلها من الطير لا تفرخ إلا بين الأشجار والدحال والقرى والبساتين . وحدث ابن الأعرابي عن هشام بن سالم - وكان مسناً من رهط ذي الرمة - قال : أكلت حيةٌ بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها ، حتى إذا فتحت فاها تريده وهمت به ألقى في فيها حسكةً ؛ فأخذت بحلقها حتى ماتت . وأنشد أبو عمرو الشيباني قول الأسدي : إن كنت أبصرتني قلا ومصطلما . . . فربما قتل المكاء ثعبانا فقال - حرس الله نفسه - من أين للحيوان غير الإنسان هذه الفطنة وهذه الفضيلة وهذه الجرأة وهذه الحيلة ؟ فقلت : شيخنا أبو سليمان يقول في هذه الأيام - وقد جرى حديث الحيوان وعجائب أفاعيله - إن الإحساسات التي للحيوان على أصنافه لها غرضٌ عظيم ، وبذلك الغرض لها تفاوتٌ عظيم ظاهرٌ وخافٍ ، وأفعالٌ معهودة ونادرة ، ولها أخلاق معروفة ، ومعارف موصوفة ؛ ولولا ذلك ما كان يقال : أصول من جمل ، وأغدر من ذئب ، وأروغ من ثعلب ، وأجبن من صقر ، وأجمع من ذرة ، وآلف من كلب ، وأهدى من قطاة ، واحذر من عقعق ، وأزهى من غراب ،وأظلم من حية . وأشد عداوةً من عقرب . وأخبث من قرد ، وأحمق من حبارى ، وأكذب من فاخته ، والأم من كلبٍ على جيفة ، وأعق من ضب ، وأبر من هرة ، وأنفر من ظليم ، وأجرأ من ليث ، وأحقد من فيل ؛ وعلى هذا . قال : وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتاً في الأخلاق ، كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت ، وكما أنه يزل بعض العقلاء فيركب ما لا يظن بمثله لعقله ، كذلك يزل ويغلط بعض الحمقى فيأتي بما لا يحسب أن مثله يهتدي إليه ، فليس العقل بخاطرٍ على صاحبه أن يندر منه ما يكون من الحيوان ، وأصناف الحيوان من الناس وغير الناس تتقاسم هذه الأخلاق بضروب المزاج المختلفة في الأزمان المتباعدة ، والأماكن المتنازحة ، تقاسماً محفوظ النسب بالطبيعة المستولية ، وإن كان ذلك التقاسم مجهول النسب للغموض الذي يغلب عليه ، وإذا عرف هذا الشرح وما أشبهه مما يزيده وضوحاً ، زال التعجب الناشىء من جهل العلة وخفاء الأمر . قال : ومن العجب أنا إذا قلنا : أروغ من ثعلب ، وأجبن من صقر ، وأحقد من فيل ، أن هذا الروغ وهذا الجبن وهذا الحقد في هذه الأصاف ليست لتكون عدةً لها مع نوع الإنسان ، ولكن لتتعاطى أيضاً بينها ، وتستعملها عند الحاجة إليها ؛ وكما يشبه إنسانٌ لأنه لصٌ بالفأرة ، أو بالفيل لأنه حقود ، أو بالجمل لأنه صؤول ، كذلك يشبه كل ضرب منالحيوان في فعله وخلقه وما يظهر من سنخه بأنه إنسان . ويقال للبليد من الناس : كأنه حمار ؛ ويقال للذكي من الخيل : كأنه إنسان ؛ ولولا هذا التمازج في الأصل والجوهر ، والسنخ والعنصر ، ما كان هذا التشابه في الفرع الظاهر ، والعادة الجارية بالخبر والنظر . فقال : هذا كلامٌ لا مزيد عليه . وقالت العلماء : إن هذا الاعتبار واصلٌ في الحقيقة إلى جنس النبات ، فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلدان الدافئة والأرض اللينة والتربة ، والجوز والفستق وأمثالهما لا ينبتان إلا في البلدان الباردة والأرض الجبلية . والدلب وأم غيلان في الصحارى والقفار ؛ والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار . قالوا : وهكذا أيضاً وصف الجواهر المعدنية ، كالذهب ، فإنه لا يكون إلا في الأرض الرملية والجبال والأحجار الرخوة . والفضة والنحاس والحديد لا تكون إلا في الأرض الندية والتراب اللين والرطوبات الدهنية ، والأملاح لا تنعقد إلا في الأراضي والبقاع السبخة ، والجص والاسفيداج لا يكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابها بالحصى ، والزاج لا يكون إلا في التراب العفص ؛ وقد أحصى بعض من عني بهذا الشأن هذه الأنواع المعدنية فوجد سبعمائة نوعٍ . وقالوا : من الجواهر المعدنية ما هو صلب لا يذوب إلا بالنار الشديدة ، ولا يكسر إلا بالفأس كالياقوت والعقيق . ومنها ترابيٌ رخوٌ لا يذوب ولكن ينفرك ، كالملح والزاج ، والطلق ؛ ومنها مائي رطب ينفر من النار كالزئبق ، ومنها هوائي دهني تأكله النار ، كالكبريت والزرنيخ ؛ ومنها نباتيٌ كالمرجان ، ومنها حيوانيٌ كالدر ، ومنها طلٌمنعقد ، كالعنبر والبادزهر ، وذلك أن العنبر إنما هو طلٌ يقع على سطح ماء البحر ، ثم ينعقد في مواضع مخصوصةٍ في زمان مقدر ؛ وكذلك البادزهر ، فإنه طلٌ يقع على بعض الأحجار ، ثم يرسخ في خللها ، ويغيب فيها ، وينعقد في بقاعٍ مخصوصةٍ ، في زمانٍ معلوم ، وكالترنجبين الذي هو طلٌ يقع على ضربٍ من الشوك ؛ وكذلك اللك فإنه يقع على نباتٍ مخصوصٍ ينعقد عليه ؛ وكذلك الدر فإنه طلٌ يرسخ في أصداف نوعٍ من الحيوان البحري ، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه ، وكذلك الموميا ، وهي طلٌ يرسخ في صخورٍ هناك ويصير ماء ثم ينز من مسام ضيقةٍ ويجمد وينعقد . والطل هو رطوبةٌ هوائيةٌ تجمد من برد الليل ، وتقع على النبات والشجر والحجر والصخر ؛ وعلى هذا القياس جميع الجواهر المعدنية ، فإن مادتها إنما هي رطوباتٌ مائية ، وأنداءٌ وبخاراتٌ تنعقد بطول الوقوع ومر الزمان . وقالت الحكماء الأولون : ها هنا طبيعةٌ تألف طبيعةً أخرى ، وطبيعةٌ تلزق بطبيعة أخرى ، وطبيعةٌ تأنس بطبيعة ، وطبيعةٌ تتشبه بطبيعة ، وطبيعة تقهر طبيعة ، وطبيعةٌ تخبث مع طبيعة ، وطبيعة تطيب مع طبيعة ، وطبيعةٌ تفسد طبيعة ، وطبيعة تحمر طبيعة ، وطبيعة تبيض طبيعة ، وطبيعة تهرب من طبيعة ، وطبيعةٌ تبغض طبيعة ، وطبيعةٌ تمازج طبيعة . فأما الطبيعة التي تألف طبيعةً فمثل الماس فإنه إذا قرب من الذهب لزق به وأمسكه ، ويقال : لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلدٍ من ناحية المشرق . ومثل طبيعة المغناطيس في الحديد ، فإن هذين الحجرين يابسان صلبان ، وبين طبيعتيهما ألفة ، فإذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به وجذب الحديد إلى نفسه وأمسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق . وكذلك يفعل الحجر الجاذب للخز والحجر الجاذب للشعر ، والجاذب للتبن ؛ وعلى هذا المثال ما من حجر من أحجار المعدن إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر إلفٌ واشتياق ، عرف ذلك أو لميعرف ؛ ومثل هذا ما يكون بين الدواء والعضو العليل ، وذلك أن من خاصة كل عضوٍ عليلٍ اشتياقه إلى طبيعة الدواء التي هي ضد طبيعة العلة التي به ، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضو العليل وأحس به جذبته القوة الجاذبة إلى ذلك العضو وأمسكت الممسكة واستعانت بالقوة المدبرة لطبيعة الدواء على دفع الطبيعة المؤلفة للعلة وقويت عليها ودفعتها عن العضو العليل كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة من يعينه على خصمه وعدوه ويدفعه عن نفسه ؛ وأما الطبيعة التي تقهر طبيعةً أخرى فمثل طبيعة السنباذج الذي يأكل الأحجار عن الحك أكلاً ويلينها ويجعلها ملساء . ومثل طبيعة الأسرب الوسخ في الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة ، وذلك أن الماس لا يقهره شيءٌ من الأحجار ، وهو قاهر لها كلها ، ولو ترك على السندان وطرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر ، وإن جعل بين صفيحتين من أسربٍ وضمتا عليه تفتت ؛ ومثل طبيعة الزئبق الطيار الرطب القليل الصبر على حرارة النار ، إذا طلي به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والفضلة والنحاس والحديد أوهنها وأرخاها حتى يمكن أن تكسر بأهون سعيٍ ، وتتفتت قطعاً . ومثل الكبريت المنتن الرائحة المسود للأحجار النيرة البراقة ، المذهب لألوانها وأصباغها ، يمكن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة . والعلة في ذلك أن الكبريت رطوبة دهنيةٌ لزجةٌ جامدة ، فإذا أصابته حرارة النار ذاب والتزق بأجساد الأحجار ومازجها ، فإذا تمكنت منها احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتاً كانت أو ذهباً أو غيرهما . وأما الطبيعة التي ترسب في طبيعة أخرى وتنيرها ، فمثل النوشاذر الذي يغوص في قعر الأشياء ويغسلها من الوسخ . وأما الطبيعة التي تعين طبيعةً أخرى فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الذائبة ، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنيرهها وتصبغها ، ومثلالمغنيسيا والقلي المعينين على سبك الرمل وتصفيته حتى يكون منه زجاج ؛ وعلى هذا المثال جميع الأحجار المعدنية . النار هي الحاكمة بين الجواهر المعدنية بالحق . ويقال : من أدمن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسدت مزاجه ، وعرض له أمراضٌ صعبة ، وإن أدنيت أواني النحاس من السمك شممت لها رائحةً كريهة وإن كبت آنية النحاس على سمكٍ مشويٍ أو مطبوخٍ بحرارته حدث منه سمٌ قاتل . القلعي قريبٌ من الفضة في لونه ، ولكن يخالفها في ثلاث صفات : الرائحة والرخاوة والصرير ، وهذه الآفات دخلت عليه وهو في معدنه كما تدخل الآفات على المفلوج وهو في بطن أمه ؛ فرخاوته لكثرة زئبقه ، وصريره لغلظ كبريته . ويقال : إن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز ، ولون الزعفران وما شاكلها من الألوان المشرقة منسوبةٌ إلى نور الشمس وبريق شعاعها ، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن وما شاكله من ألوان النبات منسوبةٌ إلى نور القمر وبريق شعاعه ؛ وعلى هذا المثال سائر الألوان . وقال أصحاب النجوم : السواد لزحل ، والحمرة للمريخ ، والخضرة للمشتري ، والزرقة للزهرة ، والصفرة للشمس ، والبياض للقمر ، والتلون لعطارد . ويقال : إن العلة الفاعلة للجواهر المعدنية هي الطبيعة ، والعلة الطينية الزئبق والكبريت ؛ والعلة الصورية دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ؛ والعلة التمامية المنافع التي ينالها الإنسان والحيوان . ويقال : إن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع : منها ما يكون في التراب والطين والأرضالسبخة ، ويتم نضجه في السنة وأقل كالكباريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شابهها ؛ ومنها ما يكون في قعر البحار وقرار المياه ، ولا يتم نضجه إلا في السنة أو اكثر كالدر والمرجان ، فإن أحدهما نباتٌ وهو المرجان ، والآخر حيوان ، وهو الدر . ومنها ما يكون في وسط الحجر وكهوف الجبال وخلل الرمال فلا يتم نضجه إلا في السنين ، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها ؛ ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عشرات السنين ، كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها . وقال بعض من حضر المجلس - وهو الرجل الفدم الثقيل - : إن الزارع لا يزرع طالباً للعشب ، بل قصده للحب ، ولابد للعشب من أن ينبت إن أحب أو كره ، فلم ذلك ؟ فقيل له : قد يصحب المقصود ما ليس بمقصود ، من حيث لا يتم المقصود إلا بما ليس بمقصود ، والعشب هو فضلات الحب ، وبه صفاء الحب وتمامه ، ولولا القوة التي تصفي الحب وتصوره بصورته الخاصة به ، وتنفي كدره وتحصل صفوه لكان العشب في بدن الحب ، وحينئذ لا يكون الحب المنتفع به المخصوص باسمه المعروف بعينه ، بل يكون شيءٌ آخر ؛ فلما تميزت تلك الشوائب التي كانت ملابسةً له من أجزاء الأرض والماء وآثار الهواء والنار ، خلص منتفعاً به ، مفصوداً بعينه ، فوجب بهذا الاعتبار أن يكون الحب بالذات ، والعشب بالعرض . فقال - أدام الله دولته - هل تعرف العرب الفرق بين الروح والنفس في كلامها ؟ وهل في لفظها من نظمها ونثرها ما يدل على ما بينهما ، أو هما كشيء واحد لحقه اسمان ؟ فكان الجواب : إن الاستعمال يخلط هذا بهذا وهذه بهذا في مواضع كثيرة ، وإذا جاء الاعتبار أفرد أحدهما عن الآخر بالحد والاسم ؛ وعلى هذا اتفق رأي الحكماء ، لأنهم حكموا بأن الروح جسمٌ لطيف منبثٌ في الجسد على خاص ماله فيه فأما النفس الناطقة فإنها جوهرٌ إلهي ، وليست في الجسد على خاص ماله فيه ولكنها مدبرةٌ للجسد ؛ ولم يكن الإنسان إنساناً بالروح ، بل بالنفس ، ولو كان إنساناً بالروح لم يكن بينه وبين الحمارفرق ، بأن كان له روحٌ ولكن لا نفس له . فأما النفسان الأخريان اللتان هما الشهوية والغضبية فإنهما أشد اتصالاً بالروح منهما بالنفس ، وإن كانت النفس الناطقة تدبرهما وتمدهما وتأمرهما وتنهاهما ؛ فهذا أيضاً يوضح الفرق بين الروح والنفس ، فليس كل ذي روحٍ ذا نفس ، ولكن كل ذي نفسٍ ذو روح ؛ وقد وجدنا في كلام العرب مع هذا الفرق بينهما ، فإن النابغة قد قال للنعمان بن المنذر : وأسكنت نفسي بعد ما طار روحها . . . وألبستني نعمي ولست بشاهد وقال أبو الأسود : لعمرك ما حشاك الله روحا . . . به جشعٌ ولا نفساً شريرة قال : هذا من الفوائد التي كنت أحن إليها ، وأستبعد الظفر بها ، وما أنفع المطارحة والمفاتحة وبث الشك واستماحة النفس ، فإن التغافل عما تمس إليه الحاجة سوء اختيار ، بل سوء توفيق . وما أحسن ما قاله بعض الجلة : توانيت في أوان التعلم عن المسئلة عن أشياء كانت الحاجة تحفز إليها والكسل يصد عنها ، فلما كبرت أنفت من ذكرها وعرضها على من علمها عنده ، فبقيت الجهالة في نفسي ، وركدت الوحشة بين قلبي وفكري . ثم جرى في حديث النفس ذكر بعض العلماء فإنه قال : إن نفسك هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية ، لا هي بعينها ، ولا منفصلةٌ عنها ، كما أن جسدك جزءٌ من العالم لا هو كله ولا منفصلٌ عنه ؛ وقد مر من أمر النفس ما فيه إيضاحٌ تامٌ واستبصارٌ واسع ، وإن كان الكلام في نعت النفس لا آخر له ، ولا وقوف عنه . ولو قال قائلٌ : إن جسدك هو كل العالم لم يكن مبطلاً ، لأنه شبيهٌ به ، ومسلولٌ منه ، وبحق الشبه يحكيه ، وبحق الانسلال يستمد منه ؛ وكذلك النفس الجزئية هي النفس الكلية ، لأنها أيضاً مشاكهةٌ لها ، وموجودةٌ بها ، فبحق الشبه أيضاً تحكيحالها ، وبحق الوجود تبقى بقاءها ، فليس بين الجسد إذا أضيف إلى العالم ، والنفس إذا قيست بالأخرى فرق ، إلا أن الجسد معجونٌ من الطينة ، والنفس مدبرةٌ بالقوة الإلهية ؛ ولهذا احتيج إلى الإحساس والمواد ، وإلى الاقتباس والالاتماس حتى تكون مدة الحياة الحسية بالغة إلى آخرها من ناحية الجسد ، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولاً بالأبد بعد الأبد . فقال - أدام الله سعادته - لو كان ما يمر من هذه الفوائد الغرر والمرامي اللطاف مرسوماً بسوادٍ على بياض ، ومقيداً بلفظٍ وعبارة ، لكان له ريعٌ وإتاء ، وزيادةٌ ونماء . فكان الجواب إن هذا غير متعذر ولا صعبٍ إن نفس الله في البقاء ، وصرف هذه الهموم التي تقسم الفكر بالعوارض التي لا تحتسب ، والأسباب التي لا تعرف ؛ فأما والأشغال على تكاثفها ، والزمان على تلونه فكيف يمكن ذلك ؛ والعجب أنه يجري حرفٌ من هذه الأمور الشريفة في هذه الأوقات الضيقة . ولقد قال أبو سليمان أمس : كيف نشاط الوزير - أدام الله سعادته - في شأنه ، وكيف كان تقبله لرسالتي إليه ، وتلطفي له ، وخدمتي لدولته ؟ فقلت : ما ثم شيءٌ يحتاج إلى الزيادة من فهمٍ ودراية ، وبيان واستبانة ، وهشاشةٍ ورفق ، واطلاعٍ وتأنٍ ؛ ولكن الوقت مستوعبٌ بالتدبير والنظر ، وكف العدو بالمداورة مرة ، وبالإحسان مرة . فقال : الله يبقيه ، ويرينا ما نحبه فيه . وقال أيضاً أبو سليمان : كيف لا يكون ما تقلده ثقيلاً ، وما تصدى له عظيماً ، وما يباشره بلسانه وقلمه صعباً ، والأولياء أعداء ، والأعداء جهال ، والحض عليه من ورائه شديد ، ونصيحه غاش ، وثقته مريب ، والشغب متصل ، وطلب المال لا آخر له ، والمصطنع مستزيد ، والمحروم ساخط ، والمال ممزق ، والتجديف من الطالب واقع ،والتحكم بالإدلال دائم ، والاستقالة من الكبير والصغير زائدة ، والكلام ليس ينفع ، والتدبر ليس يقمع ؛ والوعظ هباءٌ منثور ، والأصل مقطوعٌ مبتور ؛ والسر مكشوف ، والعلانية فاضحة ؛ وقد ركب كلٌ هواه ، وليس لأحدٍ فكرٌ في عقباه ؛ واختلط المبرم بالسحيل ، وضاق على السالك كل سبيل ؛ ومنابع الفساد ومنابت التخليط كلها من الحاشية التي لا تعرف نظام الدولة ولا استقامة المملكة ؟ وإنما سؤلها تعجيل حظٍ وإن كان نزراً ، واستلاب درهمٍ وإن كان زيفاً ، ولعمري ليس يكون الكدر إلا بعد الصفو ، كما لا يكون الصفو إلا بعد الكدر ، هكذا الليل والنهار ، والنور والظلام ، هذا يخلف هذا ، وهذا يتلو هذا . قال : أعني بهذا أنه لم افقد الملك السعيد - رضي الله عنه - بالأمس حدث هذا كله ، فإنه كان قد زم وخطم ، وجبر وحطم ، وأسا وجرح ، ومنع ومنح ؛ وأورد وأصدر ، وأظهر وستر ، وسهل ووعر ، ووعد وتوعد ، وأنحس وأسعد ، ووهب زمانه وحياته لهذا ، لأنه جعل لذته فيه ، وغايته إليه ، واشتهى أن يطير صيته في أطراف الأرض فيسمع ملوكها بفطنته وحزمه ، وتصميمه وعزمه ، وجده وتشميره ، ورضاه في موضع الرضا ، وسخطه في وقت السخط ، ورفعه لمن يرفعه بالحق ، ووضعه لمن يضعه بالواجب ؛ يجري الأمور بسنن الدين ما استجابت ، فإن عصت أخذ بأحكام السياسة التي هي الدنيا ، ولما كانت الأمور متلبسةً بالدين والدنيا لم يجز للعاقل الحصيف ، والمدبر اللطيف أن يعمل التدبير فيها من ناحية الدين فحسب ، ولا من ناحية الدنيا فقط ، لأن دائرة الدين إلهية ، ودائرة الدنيا حسية ، وفي الإحسان أحقادٌ لابد من إطفاء ثائرتها ، وصنائع لابد من تربيتها ، وموضوعاتٌ لابد من إشالتها ومرفوعاتٌ لابد من إزالتها ؛ وتدبيراتٌ لابد من إخفائها ، وأحوالٌ لابد من إبدائها ، ومقاماتٌ لابد من الصبر على عوارض ما فيها ، وأمورٌ هي مسطورةٌ في كتب السياسات للحكماء لابد من عرفانها والعمل بها والمصير إليها ، والزيادة عليها ؛ فليسالخبر كالعيان ، ولا الشاهد كالغائب ، ولا المظنون كالمستيقن . ثم قال : - أعني أبا سليمان - وهذا كله منوطٌ بالتوفيق والتأييد اللذين إذا نزلا من السماء واتصلا بمفرق السائس تضامت أحواله على الصلاح ، وانتشرت على النجاح ؛ وكفى كثيراً من همومه ؛ ثم دعا للوزير بالبقاء المديد ، والعيش الرغيد والجد السعيد ؛ وأمن الحاضرون على ذلك ، وكانوا جماً غفيراً ، لا فائدة في ذكر أسمائهم والإشارة إلى أعيانهم ؛ وكلهم لما سمعوا هذا الكلام الشريف عجبوا منه ، وعوذوه وسألوه أن ينظم لهم رسالةً في السياسة ؛ فقال : قد رسمت شيئاً منذ زمان ، وقد شاع وفشا ، وكتب وحمل في جملة الهدية إلى قابوس بجرجان ، فهذا - أيها الشيخ - نمط أبي سليمان وأنت عنه مشغول ، قد رضيت بترك النظر في أمره ، وبذل الجاه له فيما عاد بشأنه ، والله ما هذا لسوء عهدك فيه ، ولا لحيلولة نيتك عنه ؛ ولكن لقلة حظه منك وإنحاء الزمان على كل من يجري مجراه ، مع عوز مثله في عصره ؛ وكيف تتهم بسوء اعتقاد وقلة حفاظٍ ، وتوانٍ عن رعاية عهدٍ ، وقيامٍ بحق ، وأنت من فرقك إلى قدمك فضلٌ وخيرٌ وجود ومجدٌ وإحسانٌ وكرمٌ ومعونةٌ ورفدٌ وإنعامٌ وتفقد وتعهد وبذلٌ وعرفٌ ؛ ولو كان امرءٌ من الذهب المصفى لكنته ولو كان أحدٌ من الروح الصرف لكنته ؛ ولو كان أحدٌ من الضياء المحيط لكنته ؛ فسبحان من خلقك صرفاً بلا مزاج ، وصفواً بلا كدر ، وواحداً بلا ثان ، لقد فخر بك الشرق على الغرب ، وسلم لك بلا خصومةٍ ولا شغب ، فأدام الله لك ما آتاك وأفاض عليك من لدنه ما ينور مسعاك ؛ وبلغك السعادة العظمى في عقباك ، كما بلغك السعادة الصغرى في دنياك . أعرض أيها الشيخ هذا الحديث على ما ترى ، والكلام ذو جيشان ، والصدر ذو غليان ، والقلم ذو نفيان ومتدفقه لا يستطاع رده ؛ ومنبعثه لا يقدر على تسهيله ، وخطبه غريب ، وشأنه عجيب ؛ وإنما يعرف دقه وجله من يذوق حلوه ومره ، ومع هذا كله ، فإنيأذكرك أمري لتلحظه بعين الرعاية ، وأعرض عليك حديثي لتحفظه في صحيفة العناية ؛ فلقد أمسيت بين صديقٍ يشق علي حزنه لي ، وبين عدوٍ تسوءني شماتته بي ؛ وقد صح عندي أن إقبالك على يسر ، كما أن إعراضك عني عسر ، وأرجع إلى تمام هذين الجزأين وإنه أحرى . وأما حديث الزهاد وأصحاب النسك ، فإنه كان تقدم بإفراد جزء فيه ، وقد أثبته في هذا الموضع ، ولم أحب أن أعزله عن جملته ، فإن فيه تنبيهاً حسناً ، وإرشاداً مقبولاً ، وكما قصدنا بالهزل الذي أفردنا فيه جزءاً جماماً للنفس قصدنا بهذا الجزء الذي عطفنا عليه إصلاحاً للنفس وتهذيباً للخلق ، واقتداءً بمن سبق إلى الخير واتباعاً لمن قصد النصح ؛ وشرف الإنسان موقوفٌ على أن يكون فاتحاً لباب من أبواب الخير على نفسه وعلى غيره ، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن يكون مقتفياً لأثر من كان فاتحاً قبله ؛ ومن تقاعس عن هذين الأمرين فهو الخاسر الذي جهل قيمة نفسه ، وضل عن غاية حياته ، وحرم التوفيق في إصابة رشده ؛ والله المستعان . قال ابن مسعود : لو عرفت البهائم ما عرفتم ما أكلتم سميناً . وقال أبو هريرة : اللهم إني أسألك قلباً قاراً ، ورزقاً داراً ، وعملاً ساراً . وقال بعض السلف : اللهم إني أسألك قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وبدناً صابراً . وقال صالح بن مسمار : لا أدري أنعمته علي فيما بسط لي أفضل ، أم نعمته فيما زوى عني ، لأنه فيما بسط لي أحياني ، وفيما زوى عني حماني ، نظر لي بما يزيد على نظري لنفسي ، وآتاني من عنده أكثر مما عندي . وقال الله عز وجل - لموسى - عليه السلام : حببني إلى عبادي . قال : وكيف أحببك ؟ قال : ذكرهم آلائي ونعمائي . وقال شداد بن حكيم لبعض الواعظين : أي شيء تقول إذا جلست على المنبر ؟ قال : أذكرهم آلاء الله ليشكروا ، وأذكرهم جفاءهم ليتوبوا ، وأخبرهم عن إبليس وأعوانه حتى يحذروا .وقال بعض الصالحين : مثل الدنيا ونعيمها كخابيةٍ فيها سمٌ وعلى رأسها عسلٌ ، فمن رغب في العسل سقي من السم ، ومثل شدة الدنيا كمثل خابيةٍ مملوءةٍ من العسل وعلى رأسها قطراتٌ من سم ، فمن صبر على أكلها بلغ إلى العسل . جاء رجلٌ إلى حاتم الزاهد بنميمةٍ ، فقال : يا هذا أبطأت عني وجئت بثلاث جنايات ؛ بغضت إلي الحبيب ، وشغلت قلبي الفارغ ، وأعلقت نفسك التهمة ، وأنت آمن . وكان خالد بن صفوان يقول : قبول قول النمام شرٌ من النميمة ، لأن النميمة دلالة ، والقبول إجازة ، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز . وقال ابن السماك الواعظ : يدرك النمام بنميمته ما لا يدرك الساحر بسحره . وقال معمر : ما نزلت بعبدٍ نازلةٌ فكان مفزعه إلى الله إلا فرج الله عنه . وقال عمر : ما أسأل الله الرزق وقد فرغ منه ، ولكن أسئلة أن يبارك لي فيه . وقال مالك بن دينار : الجلوس مع الكلب خيرٌ من الجلوس مع رفيق سوء . وقال أبو هريرة : تهادوا عباد الله يتجدد في قلوبكم الود ، وتذهب السخيمة . وقال حاتم : صاب الضغن غير ذي دين ، والغائب غير ذي عبادة والنمام غير صدوق ، والحاسد غير منصور . وقال بعض السلف : من استقصى عيوب الناس بقي بلا أصدقاء . وقال محمد بن واسع : ينبغي للرجل أن يكون مع المرأة كما يكون أهل المجنون مع المجنون ، يحتملون منه كل أذى ومكروه . قيل لمالك بن دينار لو تزوجت ؛ قال : لو استطعت لطلقت نفسي . قال شقيق : اشتريت بطيخة لأمي ، فلما ذاقتها سخطت . فقلت : يا أمي ، على من تردين القضاء ومن تلومين ، أحارثها أم مشتريها أم خالقها ؟ فأما حارثها ومشتريها فمالهما ذنب ، فلا أراك تلومين إلا خالقها . ويقال : إن عبداً حبشياً ناوله مولاه شيئاً يأكله ، وقال : أعطني قطعةً منه فأعطاه ، فلما أكله وجده مراً ، فقال : يا غلام ، كيف أكلت هذا مع شدة مرارته . قال : يا مولاي ، قد أكلت من يدك حلواً كثيراً ، ولم أحب أن أريك من نفسي كراهةً لمرارته . وأوحى الله تعالى إلى عزير : إذا نزلت بك بليةٌ لا تشكني إلى خلقي كما لم أشكك إلى ملائكتي عند صعود مساوئك إلي ، وإذا أذنبت ذنباً فلا تنظر إلى صغره ، ولكن انظر من أهديته إليه . وقال لقمان : إن الذهب يجرب بالنار ، وإن المؤمن يجرب بالبلاء . وقال بعض السلف : عليكم بالصبر فإن الله تعالى قال : ' وبشر الصابرين ' . وقال : : ' إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ ' . وقال : ' أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ' . وقال : اصبروا وصابروا . وقال : ' سلامٌ عليكم بما صبرتم ' . وقال الأوزاعي : المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل . والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل . وقال فضيل بن عياض : الخوف مادام الرجل صحيحاً أفضل ، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إياكم والخيانة ، فإنها بئست البطانة ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه لفح النار يوم القيامة ' . وروي من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي شره الشباب . وقيل لابن المبارك : إنك لتحفظ نفسك من الغيبة . قال : لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي ، لأنهما أحق بحسناتي . وقال بعض الصالحين : لو أن رجلاً تعشى بألوان الطعام وقد أصاب من النساء فيالليل ، ورجلاً آخر رأى رؤيا على مثال ما أصاب الأول في اليقظة ، فإذا مضيا صار الحالم والآخر سواء . وقال شقيق : من أبصر ثواب الشدة لم يتمن الخروج منها . وقال شقيق لأصحابه : أيما أحب إليكم ، أن يكون لكم شيءٌ على الملىء ، أو يكون شيءٌ للملىء عليكم . فقالوا : بل نحب أن يكون لنا على الملىء . فقال : إذا كنتم ف الشدة يكون لكم على الله ؛ وإذا كنتم في النعمة يكون الله عليكم . وقال بعض السلف : شتان ما بين عملين : عملٍ تذهب لذته وتبقى تبعته ، وعملٍ تذهب مؤونته ويبقى ذخره . وقال الرقاشي في مواعظه : خذوا الذهب من الحجر ، واللؤلؤ من المزبلة . وقال يحيى بن معاذ : العلم قبل العمل ، والعقل قائد الخير ، والهوى مركب المعاصي ، والمال داء المتكبر . وقال : من تعلم علم أبي حنيفة فقد تعرض للسلطان ، ومن تعلم النحو والعربية دله بين الصبيان ، ومن علم علم الزهاد بلغ إلى العرش . . وقال بعض الصالحين : إن العلماء يسقون الناس ، فبعضهم من الغدران والحياض ، وبعضهم من العيون والقلب ، وبعضهم من البحار الواسعة . وقال حاتم : لا تنظر إلى من قال ، ولكن انظر إلى ما قال . وقال مالك بن دينار : إني لا أقدر أن أعمل بجميع ما اقول . وقال وهيب بن الورد : مثل عالم السوء كمثل الحجر يقع في الساقية فلا هو يشرب الماء ، ولا يخلي عن الماء فيذهب إلى الشجرة . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لأنا من غير الدجال أخوف عليكم . قيل : ومن هو ؟ قال : الأئمة المضلون . وقال الثوري : نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر ، وفتنة القائد الجاهل .وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سيكون في امتي علماء فساق ، وقراءٌ جهال ' . وقال الثوري : العلم طبيب الدين ، والمال داؤه ، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره . وقال عيسى بن مريم : ما ينفع الأعمى ضوء الشمس ولا يبصرها . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أشد الناس حسرةً يوم القيامة عالمٌ علم الناس ونجوا به ، وارتهن هو بسوء عمله ' . وقال أحمد بن حرب : إن منازل الدنيا لا تقطع بالكلام ، فكيف يقطع طريق الآخرة بالكلام . وقال أبو مسلم الخولاني : العلماء ثلاثة : رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناس ، ورجلٌ عاش بعلمه ولم يعش به الناس ، ورجلٌ عاش بعلمه الناس وهلك هو . وشاور رجلٌ محمد بن أسلم فقال : إني أريد أن أزوج بنتي ، فبمن أزوج ؟ قال : لا تزوجها عالماً مفتوناً ، ولا كاسباً كاذباً ، ولا عابداً شاكاً . قيل : نصح إبليس فقال : إياك والكبر ، فإني تكبرت فلعنت ؛ وإياك والحرص فإن أباك حرص على أكل الشجرة فأخرج من الجنة ؛ وإياك والحسد فإن أحد بني آدم قتل أخاه بالحسد . ومر حاتمٌ بقومٍ يكتبون العلم فنظر إليهم وقال : إن يكن معكم ثلاثة أشياء لن تفلحوا . قالوا : وما هي ؟ قال : هم أمس ، واغتمام اليوم ، وخوف الغد . وقال ابن عمر : كان في بني إسرائيل ثلاثةٌ خرجوا في وجهٍ ، فأخذهم المطر فدخلوا كهفاً ، فوقع حجرٌ عظيم على باب الكهف ، وبقوا في الظلمة وقالوا : لا ينجينا إلا ما عملناه في الرخاء . فقال أحدهم : إني كنت راعياً فأرحت وحلبت ، وكان لي أبوان وأولاد وامرأةٌ فسقيت أولاً الوالدين ثم الأولاد ، فجئت يوماً فوجدت أبوي قد ناما فلم أوقظهما لحرمتهما ولم أسق الأولاد ، وبقيت قائماً إلى الصبح ؛ فإن كنت يا رب قبلت هذا مني فاجعل لنافرجاً ، فتحرك الحجر ودخل عليهم الضوء . وقال الثاني : إني كنت صاحب ضياعٍ ، فجاءني رجل بعد ما متع النهار ، وكان لي أجراء يحصدون الزرع ، فاستأجرته ، فلما تم عملهم أعطيتهم أجورهم ، فلما بلغت إلى ذلك الرجل أعطيته وافياً كما أعطيت غيره ، فغضبوا وقالوا : تعطيه مثل ما أعطيتنا . فأخذت تلك الأجرة واشتريت بها عجولاً ونمي حتى كثر البقر ؛ فجاء صاحب الأجرة يطلب فقلت : هذه البقر كلها لك ، فسلمتها إليه ، فإن كنت يا رب قبلت مني هذا الوفاء ففرج عنا . فتحرك الحجر ودخل منه ضوءٌ كثير . وقال الثالث : كانت لي بنت عمٍ فراودتها ، فأبت ، حتى أعطيتها مائة دينار فلما أردت اضطربت وارتعدت . فقلت لها : ما لك ؟ فقالت : إني أخاف الله . فتركتها ورجعت عنها ، إلهي فإن كنت قبلت ذلك مني ففرج عنا . فتحرك الحجر وسقط عن باب الكهف وخرجوا منه يمشون . وقال حاتم : لو أدخلت السوق شياهٌ كثيرةٌ لما اشترى أحدٌ المهزول ، بل يقصد السمين للذبح . وقال يحيى بن معاذ : في القلب عيونٌ يهيج منها الخير والشر . وقال بعض الصالحين في دعائه : اللهم إن أحدنا لا يشاء حتى تشاء ، فاجعل مشيئتك لي أن تشاء ما يقربني إليك ؛ اللهم إنك قدرت حركات العبد ، فلا يتحرك شيءٌ إلابإذنك ، فاجعل حركاتي في هواك . وقال قاسم بن محمد : لأن يعيش الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم . وقال الشعبي : لم يكن مجلسٌ أحب إلي من هذا المجلس ، ولأن أبعد اليوم عن بساطه أحب إلي من أن أحبس فيه . وقال حاتم : إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عليه فقد خنته ، وإن قلته لغيره فقد اغتبته ، وإن واجهته به فقد أوحشته ؛ قيل له : كيف أصنع ؟ قال : تكني عنه ، وتعرض به ،وتجعله في جملة الحديث . وقال : إذا رأيت من أخيك زلةً فاطلب لها سبعين وجهاً من العلل ، فإن لم تجد فلم نفسك . وقال إبراهيم بن جنيد : اتخذ مرآتين ، وانظر في إحداهما عيب نفسك ، وفي الأخرى محاسن الناس . وقال يحيى بن معاذ : الدنيا دار خراب ، وأخرب منها قلب من يعمرها ، والآخرة دار عمران ، وأعمر منها قلب من يعمرها . وقال ابن السماك : الدنيا كالعروس المجلوة تشوفت لخطابها وفتنت بغرورها ، فالعيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها والهة ؛ والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها قاتلة . وقال بعض العارفين : الدنيا أربعة أشياء : الفرح والراحة والحلاوة واللذة ؛ فالفرح بالقلب . والراحة بالبدن ، واللذة بالحلق ، والحلاوة بالعين . وقال يحيى بن معاذ : الدنيا خمر الشيطان ، فمن سكر منها لم يفق إلا في مسكن النادمين . وقال بعض السلف : الزهد خلع الراحة ، وبذل الجهد ، وقطع الأمل . وقال الأنطاكي أحمد بن عاصم : الزهد هو الثقة بالله ، والتبرء من الخلق ، والإخلاص في العمل ، واحتمال الذل . وقال داود - عليه السلام - في دعائه : يا رازق النعاب في عشه . وقال بعض السلف : لو كنت على ذنب الريح لم تفر من رزقك . وقال آخر : الإنسان بين رزقه وأجله ، إلا أنه مخدوعٌ بأمله . وقال عيسى بن مريم عليه السلام : خلقك ربك في أربع مراتب ، فكنت آمناً ساكناً في ثلاث ، وقلقلت في الرابعة ، أولاها في بطن أمك في ظلماتٍ ثلاث ، والثانية حين أخرجك منه وأخرج لك لبناً من بين فرثٍ ودمٍ . والثالثة إذا فطمت أطعمك المري الشهي ، حتى إذااشتدت عظامك وبلغت تمامك صرت خائناً وأخذت في السرقة والحيلة . وقال أنس : رأيت طائراً أكمه فتح فاه فجاءت جرادة فدخلت فمه . وقال عيسى - عليه السلام - يابن آدم اعتبر رزقك بطير السماء ، لا يزرعن ولا يحصدن وإله السماء يرزقهن . فإن قلت : لها أجنحةٌ فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها وما أبشمها وأبدنها وقال ابن السماك لو قال العبد : يا رب لا ترزقني لقال الله : بل أرزقك على رغم أنفك ، ليس لك خالقٌ غيري ، ولا رازقٌ سواي ، إن لم أرزقك فمن يرزقك ؟ وقيل لراهب : من أين تأكل ؟ فقال : إن خالق الرحى يأتي بالطحين . وقال حاتم : الحمار يعرف طريق المعلف ، والمنافق لا يعرف طريق السماء . وقال إبراهيم بن أدهم : سألت راهباً من أين تأكل ؟ قال : ليس هذا العلم عندي ، ولكن سل ربي من أين يطعمني . وقال حاتم : مثل المتوكل مثل رجلٍ أسند ظهره إلى جبل . وقال بعض الأبرار : حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصراً غيره ، ولا لرزقك خازناً غيره ، ولا لعملك شاهدأً غيره . وقال عبد الحميد بن عبد العزيز : كان لأبي صديقٌ وراق ، فقال له أبي يوماً : كيف أصبحت ؟ قال : بخير ما دامت يدي معي ، فأصبح الوراق وقد شلت يده . قال أبو العالية : لا تتكل على غير الله فيكلك الله إليه ، ولا تعمل لغير الله فيجعل ثواب عملك عليه . وقال رجلٌ لأبي ذرٍ : أنت أبو ذرٍ ؟ قال : نعم . قال : لولا أنك رجل سوء ما أخرجت من المدينة . فقال أبو ذر : بين يدي عقبةٌ كؤودٌ إن نجوت منها لا يضرني ما قلت ، وإن أقع فيها فأنا شرٌ مما تقول . وقيل لفضيل : إن فلاناً يقع فيك . فقال : لأغيظن منأمره بذلك اللهم اغفر له . وقال رجل لأبي هريرة : أنت أبو هريرة ؟ قال : نعم . قال : سارق الذريرة ؟ قال : اللهم إن كان كاذباً فاغفر له ، وإن كان صادقاً فاغفر لي ؛ هكذا أمرين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال رجل لابن مكدم : يا كافر . قال : وجب علي الشكر ، حيث لم يجر ذلك على لساني ، ولم تجب علي إقامة الحجة فيه ، وقد طويت قلبي على جملة أشياء : قال : وما هن ؟ قال : إن قلت ألف مرة لا أجيبك مرة ، ولا أحقد عليك ، ولا أشكوك إلى أحد ، وإن نجوت من الله عز وجل بعد هذه الكلمة شفعت لك . فتاب الرجل . كان للحسن جارٌ نصراني ، وكان له كنيف على السطح ، وقد نقب ذلك في بيته ، وكان يتحلب منه البول في بيت الحسن ، وكان الحسن أمر بإناء فوضع تحته ، فكان يخرج ما يجتمع منه ليلاً ، ومضى على ذلك عشرون سنةً ، فمرض الحسن ذات يومٍ فعاده النصراني ، فرأى ذلك ، فقال : يا أبا سعيد : مذ كم تحملون مني هذا الأذى ؟ فقال : منذ عشرين سنةً . فقطع النصراني زناره وأسلم . وجاءت جاريةٌ لمنصور بن مهران بمرقةٍ فهراقتها عليه ، فلما أحس بحرها نظر إليها ، فقالت : يا معلم الخير اذكر قول الله . قال : وما هو ؟ قالت : ' والكاظمين الغيظ ' . قال : كظمت . قالت : واذكر ' والعافين عن الناس ' . قال : قد عفوت . قالت واذكر ' والله يحب المحسنين ' . قال : اذهبي فأنت حرة . قال الحسن : ما جزعةٌ أحب إلي من جزعة مصيبةٍ ردها صاحبها بصبرٍ ، وجزعة غضبٍ ردها صاحبها بحلم . وكان محمد بن المنكدر إذا غضب على غلامه يقول : ما أشبهك بسيدك وقال أبو ذر : كيف يكون حليماً من يغضب على حماره وسخله وهره .ومات ابنٌ للرشيد فجزع جزعاً شديداً ، فوعظه العلماء فلم يتعظ ؛ فدخل مخنث وقال : أتأذي لي في الكلام ؟ قال : تكلم . فكشف عن رأسه وقام بين يديه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا رجل ، وقد تشبهت بالنساء كما ترى ، فأي شيء كنت تصنع لو كان ابنك في الأحياء وكان على صورتي ، فاتعظ به وأخرج النواحات من الدار . قال وهب : مكتوبٌ في الكتب القديمة : إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي . وقال جعفر بن محمد حسن الجوار عمارة الديار ومثراة المال . ولما قرأ هذا الجزء - حرسه الله - ارتاح وقال : أين نحن من هذه الطريقة ، إلى الله المشتكى .
الليلة الخامسة والعشرون
وقال - أدام الله دولته - ليلةً : أحب أن أسمع كلاماً في مراتب النظم والنثر ، وإلى أي حدٍ ينتهيان ، وعلى أي شكل يتفقان ، وأيهما أجمع للفائدة ، وأرجع بالعائدة ، وأدخل في الصناعة ، وأولى بالبراعة ؟ ؟ فكان الجواب : إن الكلام على الكلام صعب . قال : ولم ؟ قلت : لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس ممكن ، وفضاء هذا متسع ، والمجال فيه مختلف . فأما الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه ، ويلتبس بعضه ببعضه ؛ ولهذا شق النحو وما أشبه النحو من المنطق ، وكذلك النثر والشعر وعلى ذلك . وقد قال الناس في هذين الفنين ضروباً من القول لم يبعدوا فيها من الوصف الحسن ، والإنصاف المحمود ، والتنافس المقبول ، إلا ما خالطه من التعصب والمحك ، لأن صاحب هذين الخلقين لا يخلو من بعض المكابرة والمغالطة وبقدر ذلك يصيرله مدخلٌ فيما يراد تحقيقه من بيان الحجة أو قصورها عما يرام من البلوغ بها ، وهذه آفةٌ معترضةٌ في أمور الدين والدنيا ، ولا مطمع في زوالها ، لأنها ناشئةٌ من الطبائع المختلفة ، والعادات السيئة ، لكني مع هذه الشوكة الحادة ، والخطة الكادة ؛ أقول ما وعيته عن أرباب هذا الشأن ، والمنتمين لهذا الفن ، وإن عن شيءٌ يكون شكلاً لذلك وصلته به تكميلاً للشرح ، واستيعاباً للباب ، وصمداً للغاية ، وأخذاً بالحياطة ، وأخذاً بالحياطة ، وإن كان المنتهى منه غير مطموع فيه ، ولا موصولٍ إليه ؛ والله المعين . قال شيخنا أبو سليمان : الكلام ينبعث في أول مبادئه إما من عفو البديهة ، وإما من كد الروية ، وإما أن يكون مركباً منهما ، وفيه قواهما بالأكثر والأقل ؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى ، وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى ، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى ؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل ؛ وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل ، وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما : الأغلب والأضعف ؛ على أنه إن خلص هذا المركب من شوائب التكلف ، وشوائن التعسف ، كان بليغاً مقبولاً رائعاً حلواً ، تحتضنه الصدور ، وتختلسه الآذان ، وتنتهبه المجالس ، ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس ، والتفاضل الواقع بين البلغاء في النظم والنثر ، إنما هو في هذا المركب الذي يسمى تأليفاً ورصفاً ؛ وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح ، وأن تكون صورة الحس في الروية الوح إلا أن ذلك من غرائب آثار النفس ونوادر أفعال الطبيعة ، والمدار على العمود الذي سلف نعته ، ورسا أصله . وسمعت أبا عابدٍ الكرخي صالح بن علي يقول : النثر أصل الكلام ، والنظم فرعه ؛والأصل أشرف من الفرع ، والفرع أنقص من الأصل ؛ لكن لكل واحد منهما زائناتٌ وشائنات ، فأما زائنات النثر فهي ظاهرةٌ ، لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر ، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعيةٍ عارضة ، وسببٍ باعث ، وأمرٍ معين . قال : ومن شرفه أيضاً أن الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرسل بالتأييد الإلهي مع اختلاف اللغات كلها منثورةٌ مبسوطة ، متباينة الأوزان ، متباعدة الأبنية ، مختلفة التصاريف ، لا تناقد للوزن ، ولا تدخل في الأعاريض ؛ هذا أمرٌ لا يجوز أن يقابله ما يدحضه ، أو يعترض عليه بما يحرضه . قال : ومن شرفه أيضاً أن الوحدة فيه أظهر ، وأثرها فيه أشهر ، والتكلف منه أبعد ، وهو إلى الصفاء أقرب ، ولا توجد الوحدة غالبةً على شيء إلا كان ذلك دليلاً على حسن ذلك الشيء وبقائه ، وبهائه ونقائه . قال : ومن فضيلة النثر أيضاً كما أنه إلهي بالوحدة ، كذلك هو طبيعيٌ بالبدأة ، والبدأة في الطبيعيات وحدة ، كما أن الوحدة في الإلهيات بدأة ، وهذا كلامٌ خطير . قال : ألا ترى أن الإنسان لا ينطق في أول حاله من لدن طفوليته إلى زمانٍ مديدٍ إلا بالمنثور المتبدد ، والميسور المتردد ؛ ولا يلهم إلا ذاك ، ولا يناغى إلا بذاك ؛ ولبس كذلك المنظوم ، لأنه صناعي ؛ ألا ترى أنه داخلٌ في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف ، مع توقي الكسر ، واحتمال أصناف الزحاف ، لأنه لما هبطت درجته عن تلك الربوة العالية ، دخلته الآفة من كل ناحية . قال : فإن قيل : إن النظم قد سبق العروض بالذوق ، والذوق طباعي ؛ قيل في الجواب : الذوق وإن كان طباعياً فإنه مخدوم الفكر ، والفكر مفتاح الصنائع البشرية ، كما أن الإلهام مستخدم للفكر ، والإلهام مفتاح الأمور الإلهية . قال : ومن شرف النثر أيضاً أنه مبرأٌ من التكلف ، منزهٌ عن الضرورة ، غنيٌ عنالاعتذار والافتقار ، والتقديم والتأخير ، والحذف والتكرير ، وما هو أكثر من هذا مما هو مدون في كتب القوافي والعروض لأربابها الذين استنفدوا غايتهم فيها . وقال عيسى الوزير : النثر من قبل العقل ، والنظم من قبل الحس ، ولدخول النظم في ظي الحس دخلت إليه الآفة ، وغلبت عليه الضرورة ، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر . وقال ابن طرارة - وكان من فصحاء أهل العصر بالعراق - : النثر كالحرة ، والنظم كالأمة ، والأمة قد تكون أحسن وجهاً ، وأدمث شمائل ، وأحلى حركات ؛ إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل حيائها . وقال : ولشرف النثر قال الله تعالى في التنزيل : ' إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً ' ولم يقل : لؤلؤاً منظوماً ؛ ونجوم السماء منتثرة وإن كان انتثارها على نظام ، إلا أن نظامها في حد العقل ، وانتثارها في حد الحس ، لأن الحكمة إذا غطيت نفسها كانت الغلبة للصورة القائمة بالقدرة . وقال أحمد بن محمد كاتب ركن الدولة : الكلام المنثور أشبه بالوشي ، والمنظوم أشبه بالنير المخطط ، والوشي يروق ما لا يروق غيره . ويقال : كنا في نثار فلان ، ولا يقال : كنا في نظام فلان . وقال ابن هندو الكاتب : إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما ، والاطلاع على هواديهما وتواليهما كان أن المنظوم فيه نثرٌ من وجه ، والمنثور فيه نظمٌ من وجه ، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا . وقال ابن كعب الأنصاري : من شرف النثر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينطق إلا به آمراً وناهياً ، ومستخبراً ومخبراً ، وهادياً وواعظاً ، وغاضباً وراضياً ، وما سلب النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر ، ولا نزه عنه إلا لما فيه من النقص ، ولو تساويا لنطقبهما ، ولما اختلفا خص بأشرفهما الذي هو أجول في جميع المواضع ، وأجلب لكل ما يطلب من المنافع . فهذا قليل من كثير مما يكون تبصرةً لباغي هذا الشأن ، ولمن يتوخى حديثه عند كل إنسان . وأما ما يفضل به النظم على النثر فأشياء سمعناها من هؤلاء العلماء الذين كانت سماء علمهم دروراً ، وبحر أدبهم متلاطماً ، وروض فضلهم مزدهراً ، وشمس حكمتهم طالعة ، ونار بلاغتهم مشتعلة ، وأنا آتي على ما يحضرني من ذلك ، منسوباً إليهم ، ومحسوباً لهم ، ليكون حقهم به مقضياً ، وذكرهم على مر الزمان طرياً . قال السلامي : من فضائل النظم أن صار لنا صناعةً برأسها ، وتكلم الناس في قوافيها ، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها ، وتصرفوا بحورها ، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة ، وشواهد القدرة الصادقة ؛ وما هكذا النثر ، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة ، والقلة العالية ؛ فصار بذلك بذلةً لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان . وقال أيضاً : من فضائل النظم أنه لا يغني ولا يحدي إلا بجيده ولا يؤهل للحن الطنطنة ، ولا يحلى بالإيقاع الصحيح غيره ، لأن الطنطنات والنقرات ، والحركات والسكنات لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم عليها ، ولو كان فعل هذا بالنثر كان منقوصاً ، كما لو لم يفعل هذا بالنظم لكان محسوساً ؛ والغناء معروف الشرف ، عجيب الأثر ، عزيز القدر ، ظاهر النفع في معاينة الروح ، ومناغاة العقل ، وتنبيه النفس ، واجتلاب الطرب وتفريج الكرب ؛ وإثارة الهزة ، وإعادة العزة ، وإذكار العهد ، وإظهار النجدة ، واكتساب السلوة ؛ وما لا يحصى عدده . ويقال : ما أحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيتٌ من الشعر ، ولا يقال : ما أحسن هذا الشعر لو كان فيه شيءٌ من النثر ، لأن صورة المنظوم محفوظة ، وصورة المنثور ضائعة . وقال ابن نباتة : من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه ، والحجج لا تؤخذ إلامنه ، أعني ان العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون : قال الشاعر ؛ وهذا كثيرٌ في الشعر ، والشعر قد أتى به ، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة ، والشعر هو الحجة . وقال الخالع : للشعراء حلبة ، وليس للبلغاء حلبة ، وإذا تتبعت جوائز الشعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرخة ، ومجالسهم الفاخرة ، وأنديتهم المشهورة ، وجدتها خارجةً عن الحصر ، بعيدةً من الإحصاء ؛ وإذا تتبعت هذه الحال لأصحاب النثر لم نجد شيئاً من ذلك ؛ والناس يقولون : ما أكمل هذا البليغ لو قرض الشعر ولا يقولون : ما أشعر هذا الشاعر لو قدر على النثر وهذا لغنى الناظم عن الناثر ، وفقر الناثر إلى الناظم ؛ وقد قدم الناس أبا علي البصير على أبي العيناء ، لأن أبا علي جمع بين الفضيلتين ، وضرب بالسيفين في الحومتين ، وفاز بالقدحين المعليين في المكانين . وقال لنا الأنصاري : سمعت ابن ثوابة الكاتب يقول : لو تصفحنا ما صار إلى أصحاب النثر من كتاب البلاغة ، والخطباء الذين ذبوا عن الدولة ، وتكلموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليل والنهار به ؛ مما فتق به الرتق ، ورتق به الفتق ، وأصلح به الفاسد ، ولم به الشعث ، وقرب به البعيد ، وبعد به القريب ، وحقق به الحق ، وأبطل به الباطل ، لكان يوفى على كل ما صار إلى جميع من قال الشعر ولاك القصيد ، ولهج بالقريض ، واستماح بالمرحمة ؛ ووقف موقف المظلوم ، وانصرف انصراف المحروم ؛ وأين من يفتخر بالقريض ، ويدل بالنظم ، ويباهي بالبديهة ، من وزير الخليفة ، ومن صاحب السر ، وممن ليس بين لسانه ولسان صاحبه واسطة ، ولا بين أذنه وأذنه حجاب ؟ ومتى كانت الحاجة إلى الشعراء كالحاجة إلى الوزراء ؟ ومتى قام وزير لشاعر للخدمة أو للتكرمة ؟ ومتى قعد شاعرٌ لوزير على رجاء وتأميل ؟ بل لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفةٍ أووزيرٍ أو أميرٍ باسط اليد ، ممدود الكف ، يستعطف طالباً ، ويسترحم سائلاً ؛ هذا مع الذلة والهوان ، والخوف من الخيبة والحرمان ، وخطر الرد عليه في لفظٍ يمر ، وإعرابٍ يجري ، واستعارةٍ تعرض ، وكنايةٍ تعترض ، ثم يكون مقلياً مشيناً بما يظن به من الهجاء الذي ربما دلاه في حومة الموت ، وقد برأ الله تعالى بإحسانه القديم ومنه الجسيم صاحب البلاغة من هذا كله ، وكفاه مؤونة الغدر به ، والضرر فيه . قال : وكان ابن ثوابة إذا جال في هذه الأكناف لا يلحق شأوه ، ولا يشق غباره ، ولا يطمع في جوابه . قال : وله مناظراتٌ واسعةٌ في هذا الباب مع جماعةٍ من أهل زمانه ناقضوه وعارضوه ، وكاشفوه وواجهوه ؛ فثبت لهم ، وانتصف منهم ، وأربى عليهم ، ولم يقلع عن مسالطتهم ومبالطتهم إلى أن نكصوا على أعقابهم ، وراجعوا ما هو أولى بهم . قال أبو سليمان : المعاني المعقولة بسيطةٌ في بحبوحة النفس ؛ لا يحوم عليها شيءٌ قبل الفكر ، فإذا لقيها الفكر بالذهن الوثيق والفهم الدقيق القى ذلك إلى العبارة ، والعبارة حينئذ تتركب بين وزنٍ هو النظم للشعر ، وبين وزن هو سياقه الحديث ؛ وكل هذا راجعٌ إلى نسبةٍ صحيحة أو فاسدة ، وصورةٍ حسناء أو قبيحة ، وتأليفٍ مقبولٍ أو ممجوج ، وذوقٍ حلوٍ أو مر وطريقٍ سهلٍ أو وعر ، واقتضابٍ مفضلٍ أو مردود ، واحتجاجٍ قاطعٍ أو مقطوع ، وبرهانٍ مسفرٍ أو مظلم ، ومتناولٍ بعيدٍ أو قريب ، ومسموعٍ مألوفٍ أو غريب . قال : فإذا كان الأمر في هذه الحال على ما وصفنا فللنثر فضيلته التي لا تنكر ، وللنظم شرفه الذي لا يجحد ولا يستر ، لأن مناقب النثر في مقابلة مناقب النظم ، ومثالب النظم في مقابلة مثالب النثر ؛ والذي لابد منه فيهما السلامة والدقة ، وتجنب العويص ، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص .وقد قال بعض العرب : خير الكلام ما لم يحتج معه إلى كلام . ووقف أعرابيٌ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل معه ، فحار وعجب ، وأطرق ووسوس ، فقال له الأخفش : ما تسمع يا أخا العرب ؟ قال : أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا . وقال أعرابيٌ آخر : مازال أخذهم في النحو يعجمني . . . حتى سمعت كلام الزنج والروم وقال أبو سليمان : نحو العرب فطرة ، ونحونا فطنة ؛ فلو كان إلى الكمال سبيلٌ لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا ، أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم . وقال : لما تميزت الأشياء في الأصول ، تلاقت ببعض التشابه في الفروع ، ولما تباينت الأشياء بالطبائع ، تألفت بالمشاكلة في الصنائع ، فصارت من حيث افترقت مجتمعة ، ومن حيث اجتمعت مفترقة ، لتكون قدرة الله - عز وجل - آتيةً على كل شيء ، وحكمته موجودةً في كل شيء ، ومشيئته نافذةً في كل شيء . وقد أنشد بعض الأعراب ما يقتضي هذا المكان رسمه فيه ، لأنه موافق لما نحن فيه في ذكره ووصفه . قال : ماذا لقيت من المستعربين ومن . . . تأسيس نحوهم هذا الذي ابتدعوا إن قلت قافيةً فيه يكون لها . . . معنىً يخالف ما قاسوا وما وضعوا قالوا لحنت وهذا الحرف منخفضٌ . . . وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا . . . وبين زيدٍ وطال الضرب والوجع إني نشأت بأرضٍ لا تشب بها . . . نار المجوس ولا تبنى بها البيع ولا يطا القرد والخنزير ساحتها . . . لكن بها الهيق والسيدان والصدعما كل قولي معروفٌ لكم فخذوا . . . ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم . . . وآخرين على إعرابهم طبعوا وبين قوم رأوا شيئاً معاينةً . . . وبين قومٍ رووا بعض الذي سمعوا فهذا هذا . وقال أبو سليمان : البلاغة ضروب : فمنها بلاغة الشعر ومنها بلاغة الخطابة ومنه بلاغة النثر ، ومنها بلاغة المثل ، ومنها بلاغة العقل ، ومنها بلاغة البديهة ، ومنها بلاغة التأويل . قال : فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولاً ، والمعنى من كل ناحية مكشوفاً ، واللفظ من الغريب بريئاً ، والكناية لطيفة ، والتصريح احتجاجاً ، والمؤاخاة موجودة ، والمواءمة ظاهرة . وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللفظ قريباً ، والإشارة فيها غالبة ، والسجع عليها مستولياً ، والوهم في أضعافها سابحاً ، وتكون فقرها قصاراً ، ويكون ركابها شوارد إبل . وأما بلاغة النثر فأن يكون اللفظ متناولاً ، والمعنى مشهوراً ، والتهذيب مستعملاً ، والتأليف سهلاً ، والمراد سليماً ، والرونق عالياً ، والحواشي رقيقة ، والصفائح مصقولة ، والأمثلة خفيفة المأخذ ، والهوادي متصلة ، والأعجاز مفصلة . وأما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضباً ، والحذف محتملاً ، والصورة محفوظة ،والمرمى لطيفاً ، والتلويح كافياً ، والإشارة مغنية ، والعبارة سائرة . وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن ، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ ، وتقفية الحروف ، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب ، ويكون المقصود ملحوظاً في عرض السنن ، والمرمي يتلقى بالوهم لحسن الترتيب . وأما بلاغة البديهة فأن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى ، وهناك يقع التعجب للسامع ، لأنه يهجم بفهمه على ما لا يظن أنه يظفر به كمن يعثر بمأموله ، على غفلةٍ من تأميله ، والبديهة قدرةٌ روحانية ، في جبلةٍ بشرية ، كما أن الروية صورةٌ بشرية ، في جبلةٍ روحانية . وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبر والتصفح ، وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة كثيرةً نافعةً ، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا ، وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحرام والحلال ، والحظر والإباحة ، والأمر والنهي ، وغير ذلك مما يكثر ؛ وبها تفاضلوا ، وعليها تجادلوا ، وفيها تنافسوا ، ومنها استملوا ، وبها اشتغلوا ؛ ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الروح كله ، وبطل الاستنباط أوله وآخره ، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا النمط في أعماق هذا الفن ؛ وها هنا تنثال الفوائد ، وتكثر العجائب ، وتتلاقح الخواطر ، وتتلاحق الهمم ، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة ، حتى تكون معينةً ورافدةً في إثارة المعنى المدفون ، وإنارة المراد المخزون .وأمثلة هذه الأبواب موجودةٌ في الكتب ، ولولا ذلك لرسمت في هذا المكان لكل فن مثالاً وشكلت شكلاً ، ولو فعلت ذلك لكنت مكرراً لما قد سبق إليه ، ومتكلفاً ما قد لقن من قبل على أن الزهد في هذا الشأن قد وضع عنا وعن غيرنا مؤونة الخوض فيه ، والتعني به ، والتوفر عليه ، وتقديمه على ما هو أهم منه ، أعني طلب القوت الذي ليس إليه سبيل إلا ببيع الدين ، وإخلاق المروءة ، وإراقة ماء الوجه ، وكد البدن ، وتجرع الأسى ، ومقاساة الحرقة ، ومض الحرمان ، والصبر على ألوانٍ وألوان ؛ والله المستعان . وقد كان هذا الباب يتنافس فيه أوان كان للخلافة بهجة ، وللنيابة عنها بهاء ، وللديانة معتقد ، وللمروءة عاشق ، وللخير منتهز ، وللصدق مؤثر ، وللأدب شراة ، وللبيان سوق ، وللصواب طالب ، وفي العلم راغب ؛ فأما اليوم واليد عنه مقبوضة ، والذيل دونه مشمر ، والمتحلي بجماله مطرود ، والمباهي بشرفه مبعد ، فما يصنع به ، ولله أمرٌ هو بالغه . وقال ابن دأب : قال لي ابن موسى : اجتمعنا عند عبد الملك بن مروان فقال : أي الآداب أغلب على الناس ؟ فقلنا فأكثرنا في كل نوع ؛ فقال عبد الملك : ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاورون القول ، ويتعاطون البيان ، ويتهادون الحكم ، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها ؛ ويجمعون ما تفرق منها ؛ إن الكلام فارقٌ للحكم بين الخصوم ، وضياءٌ يجلو ظلم الأغاليط ، وحاجة الناس إليه كحاجتهم إلى مواد الأغذية .وقد قال زهير : لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده . . . فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فقلنا : لم يقله زهير ، إنما قاله زيادٌ الأعجم ؛ فقال : لا ، قاله من هو أعظم تجربةً وأنطق لساناً منه . وقال أبو العيناء : سمعت العباس بن الحسن العلوي يصف كلام رجل فقال : كلامه سمحٌ سهل ، كأن بينه وبين القلوب نسب ، وبينه وبين الحياة سبب ؛ كأنما هو تحفة قادم ، ودواء مريض ، وواسطة قلادة . ورأيت أبا إسحاق الصابي وهو يعجب من فصلٍ قرأه من كتاب ورد عليه ، وهو : أشعر قلبك يأس مجاوز السبيل ، مقصرٍ عن الشوط . وقال ابن ذكوان : سمعت إبراهيم بن العباس الصولي يقول : ما سمعت كلاماً محدثاً أجزل في رقة ، ولا أصعب في سهولة ، ولا أبلغ في إيجاز ، من قول العباس بن الأحنف : تعالي نجدد دارس العهد بيننا . . . كلانا على طول الجفاء ملوم أناسيةٌ ما كان بيني وبينها . . . وقاطعةٌ حبل الصفاء ظلوم وفي الجملة ، أحسن الكلام ما رق لفظه ، ولطف معناه ، وتلألأ رونقه ، وقامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر ، ونثرٍ كأنه نظم ، يطمع مشهوده بالسمع ، ويمتنع مقصوده على الطبع ؛ حتى إذا رامه مريغٌ حلق ، وإذا حلق أسف ، أعني يبعد على المحاول بعنف ، ويقرب من المتناول بلطف .وما رأيت أحداً تناهى في وصف النثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة ابن جعفر في المنزلة الثالثة من كتابه ؛ قال لنا علي بن عيسى الوزير : عرض على قدامة كتابه سنة عشرين وثلثمائة ؛ واختبرته فوجدته قد بالغ وأحسن ، وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى ، مما يدل على المختار المجتبى والمعيب المجتنب . ولقد شاكه فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض ؛ ولكني وجدته هجين اللفظ ، ركيك البلاغة في وصف البلاغة ، حتى كأن ما يصفه ليس ما يعرفه ، وكأن ما يدل به غير ما يدل عليه . والعرب تقول : فلان يدل ولا يدل ، حكاه ابن الأعرابي ، وهذا لا يكون إلا من غزارة العلم ، وحسن التصور ، وتوارد المعنى ، ونقد الطبع ، وتصرف القريحة . قال : ولولا أن الأمر على ما ذكرت لكان ذلك الطريق الذي سلكه ، والفن الذي ملكه ، والكنز الذي هجم عليه ، والنمط الذي ظفر به ؛ قد برز في أحسن معرض ، وتحلى بألطف كلام ، وماس في أطول ذيل ، وسفر عن أحسن وجه ، وطلع من أقرب نفق ، وحلق في أبعد أفق . وابن المراغي يقول كثيراً - وهو شيخٌ من جلة العلماء ، وله سهمٌ وافٍ في زمرة البلغاء - : ما أحسن معونة الكلمات القصار ، المشتملة على الحكم الكبار ، لمن كانت بلاغته في صناعته بالقلم واللسان ، فإنها توافيه عند الحاجة ، وتستصحب أخواتها على سهولة ؛ وهكذا مصاريع أبيات الشعر ؛ فإنها تختلط بالنثر متقطعةً وموزونة ، ومنتثرةً ومنضودة . قال لي ابن عبيدٍ الكاتب : بلغني هذا الوصف عن هذا الشيخ ؛ فبلوته بالتتبع فوجدته على ما قال ؛ وما أشبه ما ذكره إلا بالصرة المعدة عند الإنسان ، لما يحتاج إليه في الوقت المهم والأمر الملم ؛ فهذا هذا .فقال - أدام الله دولته ، وكبت أعداءه - : قدم هذا الباب فقد أتى على ما لم أظن أنه يؤتى عليه ويهتدى إليه - إذا شئت ؛ وانصرفت .
الليلة السادسة والعشرون
ثم قال : وما أمثلة الكلمات القصار التي أومأ إليها ذلك الشيخ ؟ فكان من الجواب : إن هذا الباب واسع ، نحو قول القائل : ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار . كل عزيزٍ دخل تحت القدرة فهو ذليل . غنم من أدبته الحكمة ، وأحكمته التجربة . التضاغن رائد التباين . المرء ما عاش في تجريب . الدهر يومٌ ويوم . . . والعيش عذلٌ ولوم وأكثر أسباب النجاح مع الياس من لم يقدمه حزم أخره عجز . كم مستدرجٍ بالإحسان إليه ، ومغترٍ باليسر عليه . الحرب متلفة العباد مذهبةٌ للطارف والتلاد . ليس المقل عن الزمان براضي من ضاق صدره اتسع لسانه . وحسبك داءً أن تصح وتسلما العيال سوس المال . الموت الفادح خيرٌ من الزي الفاضح . احذروا نفاد النعم ، فما كل شاردٍ مردود . خير الأمور أوساطها . يكفيك من شرٍ سماعه . الكريم لا يلين على قسر ، ولا يقتسر على يسر . ما أدرك النمام ثأراً ، ولا محا عاراً .==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

باقي مؤلفات الشيخ الالباني

  ...