Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 1 فبراير 2023

إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 .

 

إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 . 

المحتويات

المقدمة

فصل في أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها القرآن

فصل في الدلالة على أن القرآن معجز

فصل في جملة وجوه إعجاز القرآن

فصل في شرح ما بينا من وجوه إعجاز القرآن

فصل في نفي الشعر من القرآن

فصل في نفي السجع من القرآن

فصل في ذكر البديع من الكلام

فصل في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن

خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم

خطبة له صلى الله عليه وسلم

خطبة له صلى الله عليه وسلم

خطبة له صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق

خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة

خطبته صلى الله عليه وسلم بالخيف

خطبة له صلى الله عليه وسلم رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه

كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك فارس

كتاب له صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية

خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه

عهد لأبي بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنهما

نسخة كتاب كتبه أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم

عهد من عهود عمر رضي الله عنه

ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه

ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه

خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه

كلام لابن عباس رضي الله عنه

خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه

خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

خطبة للحجاج بن يوسف

خطبة لقس بن ساعدة الإيادي

خطبة لأبي طالب

باب

فصل

فصل في التحدي

فصل في قدر المعجز من القرآن

فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة

فصل فيما يتعلق به الإعجاز

فصل في وصف وجوه من البلاغة

فصل في حقيقة المعجز

فصل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأمور تتصل بالإعجاز

فصل

فصل

إعجاز القرآن إعجاز القرآن

 

الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الايمان، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلى البرهان، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن، ليكون بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وهاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه، وسلطانا أوضح وجه تبيينه، ودليلا على وحدانيته، ومرشدا إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحا عن صفات جلاله، وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله الذي أرسله به، وعلما على صدقه، وبينة على أنه أمينه على وحيه، وصادع بأمره.

فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، ورسالة تشتمل على قول مؤديها. بين فيه سبحانه أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها، أو حجة تتلوها، وأن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات، والتشكك في المشاهدات. ولذلك قال عز ذكره: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين }. وقال عز وجل: { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون }.

فله الشكر على جزيل إحسانه، وعظيم مننه. والصلاة على محمد المصطفى وآله، وسلم.

ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لاصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادا ونظاما وعلى صدق نبيهم ﷺ برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة. ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم [1] حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه والأخذ في سبله.

فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق، ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته.

فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين.

وقد قل أنصاره، واشتغل عنه أعوانه، وأسلمه أهله. فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره. فمن قائل قال: إنه سحر، [2] وقائل يقول: إنه شعر، [3] وآخر يقول: إنه أساطير الأولين، [4] وقالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا. [5] إلى الوجوه التي حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه، وتكلموا به، فصرفوه إليه.

وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه!

وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر، وقد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم. إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره استبان رشده، وأبصر قصده، فتاب وأناب، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه، وقوة إتقانه، لا لتصرف لسانه، بل لهداية ربه وحسن توفيقه. والجهل في هذا الوقت أغلب، والملحدون فيه عن الرشد أبعد، وعن الواجب أذهب.

وقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام، أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته، والدلالة على مكانه.

فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الجزء [ والطفرة ]، ودقيق الكلام في الأعراض، وكثير من بديع الإعراب وغامض النحو. فالحاجة إلى هذا أمس، والاشتغال به أوجب.

وقد قصر بعضهم في هذه المسألة، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصر فيها، ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا. ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفى في وجهه، قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه.

وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلا بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك لطيفة المأخذ.

وإذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن.

وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى.

 

وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة، تسقط الشبهات وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال وتنتهى إلى ما يخطر لهم ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة.

فأجبناه إلى ذلك، متقربين إلى الله عز وجل، ومتوكلين عليه وعلى حسن توفيقه ومعونته.

ونحن نبين ما سبق فيه البيان من غيرنا، ونشير إليه ولا نبسط القول، لئلا يكون ما ألفناه مكررا ومقولا، بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة.

ونَصِف ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع.

ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام، من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجارى الخطاب. وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح، وتقصد فيه البلاغة، لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب، ولا يتجوز فيها.

ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم. والتفاوت فيه أكثر، لأن التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف.

ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظيم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل.

ولسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه، وأردنا شرحه وتفصيله، لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا وعن وجه اللسان غافلا، لأن ذلك مما لا سبيل إليه، إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شئ من أصول الدين.

وإنما ضمن الله عز وجل فيه البيان لمثل من وصفناه، فقال: { كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون }. وقال: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }.

فصل في أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها القرآن

الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن نبوة نبينا عليه السلام بُنيت على هذه المعجزة، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة. إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة، وأحوال خاصة، وعلى أشخاص خاصة. ونقل بعضها نقلا متواترا يقع به العلم وجودا. وبعضها مما نقل نقلا خاصا، إلا أنه حكى بمشهد من الجمع العظيم وأنهم شاهدوه، فلو كان الأمر على خلاف ما حكى لا نكروه، أو لا نكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه. وبعضها مما نقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد.

فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة، عمت الثقلين، وبقيت بقاء العصرين. ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله - وجه دلالته، فيغنى ذلك عن نظر مجدد في عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله.

وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله، عن النظر في حال أهل العصر الأول.

وإنما ذكرنا هذا الفصل، لما حكى عن " بعضهم " أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه، ويكفى عجز أهل العصر الأول في الدلالة، لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم.

ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه إن شاء الله.

فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن وبنى أمر نبوته عليه فسور كثيرة وآيات نذكر بعضها وننبه بالمذكور على غيره، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه.

فمن ذلك قوله تعالى: { الر. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا يكون حجة إن لم يكن معجزة.

وقال عز وجل: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه. ولا يكون حجة إلا وهو معجزة.

وقال عز وجل: { وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين، على قلبك لتكون من المنذرين }. وهذا بين جدا فيما قلناه، من أنه جعله سببا لكونه منذرا. ثم أوضح ذلك بأن قال: { بلسان عربي مبين }. فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة، لم يعقب كلامه الأول به.

وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه. ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده.

وكثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن والتنبيه على وجه معجزته.

فمن ذلك سورة المؤمن، قوله عز وجل: { حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم }. ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } فدل على أن الجدال في تنزيله كفر وإلحاد.

ثم أخبر بما وقع من تكذيب الامم برسلهم، بقوله عز وجل: { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } فتوعدهم بأنه آخِذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء.

ورد براهينهم، فقال تعالى: { فأخذتهم فكيف كان عقاب }.

ثم توعدهم بالنار، فقال تعالى: { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار }.

ثم عظم شأن المؤمنين بهذه الحجة، بما أخبر من استغفار الملائكة لهم وما وعدهم عليه من المغفرة، فقال تعالى: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا: ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم }. فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه.

ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين، ثم عطف على وعيد الكافرين، فذكر آيات، ثم قال: { هو الذي يريكم آياته }. فأمر بالنظر في آياته وبراهينه، إلى أن قال: { رفيع الدرجات ذو العرش، يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق } فجعل القرآن والوحي به كالروح، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ولانه لا فائدة للجسد من دون الروح. فجعل هذا الروح سببا للانذار، وعلما عليه، وطريقا إليه. ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الانذار والإخبار عما يقع عند مخالفته، ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد - حجة ولا معلوما صدقه، فكان لا يلزمهم قبوله.

فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول، ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات، وجحد الدلالات والمعجزات، فقال: { أوَلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق }.

ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السُّوآى، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، وكانوا لا يقبلونها منهم. فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله ﷺ.

ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهما السلام، ومجيئهما بالبينات، ومخالفتهم حكمها، إلى أن قال تعالى: { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }. فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة، وإنما يقع عن جهل، وأن الله يطبع على قلوبهم، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان، لجحودهم وعنادهم واستكبارهم.

ثم ذكر كثيرا من الاحتجاج على التوحيد، ثم قال تعالى: { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون }.

ثم بين هذه الجملة وأن من آياته الكتاب، فقال: { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون }. إلى أن قال: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله }.

فدل على أن الآيات على ضربين: أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر، ويقع عندها العلم الضروري، وأنها إذا جاءت ارتفع التكليف، ووجب الإهلاك. إلى أن قال تعالى: { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا }. فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات، ولكنه إذا أقامها زال التكليف، وحقت العقوبة على الجاحدين.

وكذلك ذكر في حم السجدة على هذا المنهاج الذي شرحنا، فقال عز وجل: { حم. تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرا ونذيرا } فلولا أنه جعله برهانا لم يكن بشيرا ولا نذيرا، ولم يختلف بأن يكون عربيا مفصلا أو بخلاف ذلك.

ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم، بقوله تعالى: { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون }. ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه.

وليس لقائل أن يقول: قد يكون حجة ولكن يحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى، كما أن الرسول ﷺ حجة، ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه، وصحة نبوته.

وذلك أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره.

ويبين ذلك أنه قال عقيب هذا: { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى }. فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي.

ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون }. ومعناه: الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة.

ثم تصرف في الاحتجاج على الوحدانية والقدرة، إلى أن قال: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }. فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من قوم عاد وثمود في الدنيا. ثم توعدهم بأمر الآخرة، فقال: { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون }، إلى انتهاء ما ذكره فيه.

ثم رجع إلى ذكر القرآن، فقال: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }.

ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول، فقال: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا }. ثم قال: { وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }.

وهذا ينبه على أن النبي ﷺ يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزع الشيطان. ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه.

ثم قال: { إن الذين يلحدون في آياتنا }، إلى أن قال: { إن الذين كفرا بالذكر لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }. وهذا وإن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي - فلا يخرج عن أن يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب، مع أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه. وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته [ وإعجازه ]. وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.

ثم قال: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته، أأعجمي وعربي } فأخبر أنه لو كان أعجميا لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه. لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه - وجبت الحجة عليهم به، على ما نبينه في وجه هذا الفصل. إلى أن قال: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به، من أضل ممن هو في شقاق بعيد }.

والذي ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكر هنا سرد القول فيها. فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.

ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: { وقالوا: لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وأن ذلك يكفى في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء، صلوات الله عليهم.

ويدل عليه قوله عز وجل: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السموات والأرض }.

ويدل عليه قوله: { أم يقولون افترى على الله كذبا، فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته }.

فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه، ومستنزلا لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره. وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق، وإبطال الباطل مع صرفه عنه. ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها.

فبان بهذا وبنظائره ما قلناه من أن بناء نبوته ﷺ على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزا، وإن كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا.

وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.

وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله، وإن اختلف الخال في ذلك من بعض الوجوه، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلما، وليس كذلك الواحد منا. وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل.

والذي نرومه الآن ما بيناه من اتفاقهما في المعنى الذي وصفناه، وهو: أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال.

فصل في الدلالة على أن القرآن معجز

قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا ﷺ مبنية على دلالة معجزة القرآن. فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك:

قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا هو أن يعلم أن القرآن، الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف، هو الذي جاء به النبي ﷺ، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا وعشرين سنة.

والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر، الذي يقع عنده العلم الضروري به.

وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره ممن لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يخيل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره، ويأخذه غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش، وغيرهم من ملوك الأطراف.

ولما ورد ذلك مضادا لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر - وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالايمان على جملته وتفاصيله، وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلما عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم.

ثم تناقله خلف عن سلف هم مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا، على ما وصفناه من حاله.

فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك، مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى. فهذا أصل.

وإذا ثبت هذا الأصل وجودا، فإنا نقول: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به، طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك. [ وهذا أصل ثان ].

والذي يدل على هذا الاصل: أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة، كقوله: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }.

وكقوله: { أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون }.

فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه ودليلا على وحدانيته.

وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن تُعلم بالقرآن الوحدانية، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل، لأن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا.

فقلنا: إذا ثبت بما نبينه إعجازه، وأن الخلق لا يقدرون عليه - ثبت أن الذي أتى به غيرهم، وأنه إنما يختص بالقدرة عليه من يختص بالقدرة عليهم، وأنه صدق. وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من [ طريق القرآن، بل يمكن عندنا أن يعرف من ] الوجهين.

وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل لأنه خارج عن مقصود كلامنا، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.

ومن ذلك قوله عز وجل: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقوله: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه ولم يأتوا بمثله.

وفي هذا أمران: أحدهما التحدي إليه. والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل. والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.

وإن قال قائل: لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن؛ كان ذلك قولا باطلا، يعلم بطلانه بمثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن القرآن أضعاف هذا! وهو يبلغ حمل جمل! وأنه كُتم وسيظهره المهدي! أو يدّعى أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي ﷺ، وإنما هو شئ وضعه عمر أو عثمان رضي الله عنهما، حيث وضع المصحف. أو يدعى فيه زيادة أو نقصانا.

وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ووعده الحق.

وحكاية قول من قال ذلك يغنى عن الرد عليه. لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الامصار وفي البوادي، وفي الأسفار والحضر، وضبطوه حفظا، من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف - لا يجوز عليهم السهو والنسيان، ولا التخليط فيه والكتمان. ولو زادوا أو نقصوا أو غيروا لظهر.

وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره - على أنه لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط كضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه إمساسها إلى القرآن - لو زيد فيه بيت، أو نقص منه بيت، لا، بل لو غير فيه لفظ - لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه.

فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر امرئ القيس ونظرائه، مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية، فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن، مع شدة الحاجة إليه في أصل الدين، ثم في الأحكام والشرائع، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه:

فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها.

ومنهم من يحفظه للشرائع والفقه.

ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه.

ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة.

ومن الملحدين من يحصله لينظر في عجيب شأنه.

وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة والآراء المتباينة - على كثرة أعدادهم واختلاف بلادهم وتفاوت أغراضهم - أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان؟

ويبين ذلك: أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم، وقولهم: { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ وقول بعضهم: إن ذلك سحر ]، وقول بعضهم: { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه.

فمنهم من يستهين بها ويجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله.

ومنهم من يزعم أنه مفترى، فلذلك لا يأتي بمثله.

ومنهم من يزعم أنه دارسَ، وأنه أساطير الأولين.

وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه، لئلا يقع التطويل.

ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما لجاز على كله. ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا لجاز ذلك في كله.

فثبت بما بيناه أنه تحداهم به، وأنهم لم يأتوا بمثله. وهذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه.

فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه.

والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، وضمن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه، بأمر قريب، هو عادتهم في لسانهم، ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي. فلما لم تحصل هناك معارضة منهم، عُلم أنهم عاجزون عنها.

يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، لا سيما مع استعظامه ما بدهه بالمجئ من خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرف على حكم إرادته، والعدول عن إلفه وعادته، والانخراط في سلك الأتباع بعد أن كان متبوعا، والتشييع بعد أن كان مشيعا، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إياه على جملة أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقة، وعبادات متعبة، بقوله، وقد علم أن بعض هذه الاحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه.

هذا، والحمية حميتهم، والهمم الكبيرة هممهم، وقد بذلوا له السيف فأخطروا بنفوسهم وأموالهم.

فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين، [ أو ينقطع دونه وتين ]، أو يشتمل به خاطر، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع، والرتبة التي ليس فوقها منزع؟

ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه.

فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك، مع طول المدة، ووقوع الفسحة، وكان أمره يتزايد حالا فحالا، ويعلو شيئا فشيئا، وهم على العجز عن القدح في آيته، والطعن [ بما يؤثر ] في دلالته - عُلم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته، ولا على توهين حجته.

وقد أخبر الله تعالى عنهم: أنهم { قوم خصمون } وقال: { وتنذر به قوما لدا }، وقال: { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين }.

وعلم أيضا ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن، مما حكى الله عز وجل عنهم في قولهم: { لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين } وقولهم: { ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } وقالوا: { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } وقالوا: { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } وقالوا: { أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون }، وقال: { وقال الذين كفروا: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا }، { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا }، وقوله: { الذين جعلوا القرآن عضين }. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور: من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه ووجد الحث عليه.

وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب، وجاهدوه ونابذوه، وقطعوا الارحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان [ بالملائكة ] وغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه.

فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم - وذلك يدحض حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره - فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة، ويتركون الأمر الخفيف؟

هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.

وإلى هذا [ الموضع ] قد استقصى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه.

ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة [6] والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، ويكرر فيما جاء به ذكر عجزهم عن مثل ما يأتي به، ويقرعهم ويؤنبهم عليه، ويدرك آماله فيهم، وينجح ما سعى له في تركهم المعارضة.

وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه، وتفخيم أمره، حتى يتلو قوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }، وقوله: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون }، وقوله: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم }، وقوله: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، وقوله: { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون } وقوله: { هدى للمتقين }، وقوله: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله }.

إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن. فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها، ومنها ما ينفرد فيها. وذلك مما يدعوهم إلى المباراة، ويحضهم على المعارضة، وإن لم يكن متحديا إليه. ألا ترى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة، وأخبار مشهورة، وآثار منقولة مذكورة. وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة، ويتبجحون بذلك، ويتفاخرون بينهم. فلن يجوز والحال هذه أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها تحداهم أو لم يتحدهم إليها.

ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر، لوجب في ذلك أمر آخر، وهو: أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا لقبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه، وتعمل نظمه في الحال.

فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئت به وأغرب منه أو هو مثله - علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لم يوجد له نظير.

ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا، ولعرفناه، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد، وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم، وصنوف فصاحاتهم.

فإن قيل: الذي بُني عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن: أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه، فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب - وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه، وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي، وأن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال.

قيل: إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة، وإظهار وجه البرهان [ على الكافة ]، لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه، ولا تظهر على مدع لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله. فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي. لأنه تزول بذلك الشبهة عن الكل، وينكشف للجميع أن العجز واقع في المعارضة. وإلا كان مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب، ويفتن في مصارف الكلام، وكان كاملا في فصاحته، جامعا للمعرفة بوجوه الصناعة - لو أنه احتج عليه بالقرآن، وقيل له، إن الدلالة على النبوة والآية للرسالة ما تلوته عليك منه، لكان ذلك بالغا في إيجاب الحجة [ عليه ]، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه.

ومما يؤكد هذا، أن النبي ﷺ قد دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجا عليهم بالقرآن، لأنا نعلم [ ضرورة ] أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا، ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه، إنما دخلوا على بصيرة. ولم نعلمه قال لهم: ارجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبت حجتي.

بل لما رآهم يعلمون إعجازه، ألزمهم حكمه فقبلوه، وتابعوا الحق، وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا في صدقه، ولم يرتابوا في وجه دلالته.

فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ، كان إلى القبول منه أسبق. ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، أو خفى عليه بعض شروط المعجزات وأدلة النبوات - كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته، وترادفت عليه مواده.

وهذا فصل يجب أن يتمم القول فيه [ من ] بعد، فليس هذا بموضع له.

ويبين ما قلناه: أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله والانقياد له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه، ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم، وجرى مجراهم في توجه الحجة عليه.

وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان، من هذا الشأن، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه.

وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما - [ من ] غور هذا الشأن - ما يَعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام وطرق البراعة. فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه لعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.

فأما من كان متناهيا في معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه. وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال: إن النبي ﷺ لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه، حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه! وهذا خطأ من القول.

فصح من هذا الوجه أن النبي ﷺ حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا، أو عرف - بأن قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك - أنه كذلك، من قبل أن يقرأه على غيرة أو يتحدى إليه سواه.

ولذلك قلنا: إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو. وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوته، ودلالة على رسالته بأن يقال له: إن هذه آية لنبي، وإنها ظهرت عليه، وادعاها معجزة له، وبرهانا على صدقه.

فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه. فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن، فهو يخفى عليه عجز غيره.

قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم.

ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن، علم عجز غيره عنه، وأنه كهو، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء. إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أن يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه. فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة - وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام، وأنواع الخطاب، ووجد القرآن مباينا لها - علم خروجه عن العادة، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات، فهو لا يجوزه من نفسه، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره، إلا على وجه نقض العادة، بل يرى وقوعه موقع المعجزة. وهذا وإن كان يفارق فلق البحر، وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك من وجه، فهو أنه يستوى الناس في معرفة عجزهم عنه، بكونه ناقضا للعادة، من غير تأمل شديد، ولا نظر بعيد. فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات، والكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع. فكل واحد منهما يؤول إلى مثل حكم صاحبه، في الجمع الذي قدمناه.

ومما يبين ما قلناه - من أن البليغ المتناهى في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن، وتكون معرفته حجة عليه، إذا تحدى إليه وعجز عن مثله، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره، وما الذي يصنع ذلك بالغير - فهو ما روي في الحديث أن جبير بن مطعم ورد على النبي ﷺ في مُعَنًّى حليف له، أراد أن يفاديه، فدخل والنبي ﷺ يقرأ سورة { والطور وكتاب مسطور } في صلاة الفجر، قال: فلما انتهى إلى قوله: { إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع }، قال: خشيت أن يدركني العذاب. فأسلم.

وفي حديث آخر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة طه فأسلم.

وقد روي أن قوله عز وجل في أول { حم } السجدة إلى قوله { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش، بعتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ ليكلمه، وكان حسن الحديث، عجيب البيان بليغ الكلام،. وأرادوا أن يأتيهم بما عنده فقرأ النبي ﷺ سورة حم السجدة، من أولها حتى انتهى إلى قوله: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }، فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع فذكر أنه لم يفهم منه كلمة واحدة، ولا اهتدى لجوابه. ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد. فقال له عثمان بن مظعون: لتعلموا أنه من عند الله، إذ لم يهتد لجوابه.

وأبين من ذلك قول الله عز وجل: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }. فجعل سماعه حجة عليه بنفسه، فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه.

فإن قيل: لو كان [ كذلك ] على ما قلتم، لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي ﷺ، على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه.

قيل له: لا يجب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة، منها أنهم كانوا يشكون، ففيهم من يشك في إثبات الصانع، وفيهم من يشك في التوحيد، وفيهم من يشك في النبوة. ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول الله ﷺ ليسلم عام الفتح، قال له النبي عليه السلام: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى. فشهد، قال: أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟ قال: أما هذه ففي النفس منها شئ.

فكانت وجوه شكوكهم مختلفة، وطرق شبههم متباينة، فمنهم من قلت شبههه وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كثرت شبهه، أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عَجْزَ غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره.

ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة - لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.

فإن قيل: فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن، وما الوجه الذي يتطرق به إليه، والمنهاج الذي يسلكه، حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟ قيل: هذا سبيله أن يفرد له فصل.

 

فإن قيل: فلم زعتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم: إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه من هذه الطرق الغريبة - كان على مثل نظم القرآن قادرا، وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضربا من المنع، أو تقصر دواعيه [ إليه ] دونه، مع قدرته عليه، ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين، لم يعجز عن نظم مثلها، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة، حتى يتكامل قدر الآية والسورة؟

فالجواب: أن لو صح ذلك لصح لكل من أمكنه نظم ربع بيت أو مصراع من بيت أن ينظم القصائد ويقول الأشعار، وصح لكل ناطق قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة! ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن.

على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه، [ كان ] أبلغ في الاعجوبة، إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغنى عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب.

على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنهم لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته.

فلما لم يوجد في كلامه من قبله مثله، علم أن ما ادعاه القائل " بالصرفة " ظاهر البطلان.

وفيه معنى آخر، وهو أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاما مطمعا لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم.

ومن كان متناهيا في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال.

فإن قال صاحب السؤال: إنه قد يطمع في ذلك.

قيل له: أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن، وقد يزيد عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظا ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه ويحسبه ظان من أمره. والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد. ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ببين الغلط، وأن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه: { إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر } فهم يعبرون عن دعواهم: أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله، وأن ذلك من قول البشر، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.

ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة - وإنما منع منها الصرفة - لم يكن الكلام معجزا. وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.

وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيبٍ لو تعلموه لوصلوا إليه به.

ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.

 

فإن قيل: فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عز وجل معجز، كالتوراة والإنجيل والصحف؟

قيل: ليس شئ من ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار عن الغيوب.

وإنما لم يكن معجزا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولانا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن.

ولمعنى آخر، وهو أن ذلك اللسان لا يتأتي فيه من وجوه الفصاحة، ما يقع به التفاضل الذي ينتهى إلى حد الإعجاز، ولكنه يتقارب.

وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة، ويقولون: ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب. ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشئ الواحد، من الأسماء ما نعرف من اللغة، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات، ووجوه الاستعمالات البديعة، التي يجئ تفصيلها بعد هذا.

ويشهد لذلك من القرآن: أن الله تعالى وصفه بأنه: { بلسان عربي مبين }. وكرر ذلك في مواضع كثيرة، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا.

فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وأنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله: إنه عربي مبين، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم، فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضا، كما أفاد بظاهره ما قدمناه.

ويبين ذلك أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها، وفى العربية، فقد وقفوا على أنه ليس فيها من التفاضل والفصاحة، ما يقع في العربية. ومعنى آخر، وهو أنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادعى لهم المسلمون. فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن.

ويبين هذا أن الشعر لا يتأتي في تلك الألسنة، على ما قد اتفق في العربية. وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتي في العربية، وكذلك لا يتأتي في الفارسية جميع الوجوه التي تتبين فيها الفصاحة على ما يتأتي في العربية.

فإن قيل: فإن المجوس تزعم أن كتاب زرادشت وكتاب ماني معجزان؟

قيل: الذي يتضمنه كتاب ماني، من طرق النيرنجات، [7] وضروب من الشعوذة، ليس يقع فيه إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب الحِكَم، وهي حكم منقولة متداولة على الألسن، لا تختص بها أمة دون أمة، وإن كان بعضهم أكثر اهتماما بها، وتحصيلا لها، وجمعا لأبوابها.

وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة واليتمية. وهما كتابان. أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شئ بديع من لفظ ولا معنى؛ والآخر في شئ من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل.

وكتابه الذي بيناه في الحكم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة. فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟

وبعد، فليس يوجد له كتاب يدعي مدع أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة، ثم مزق ما جمع، واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك، فقد أصاب وأبصر القصد، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده، ويتبين له أمره، وينكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه، لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته.

ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شئ من كتبها أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟

فصل في جملة وجوه إعجاز القرآن

ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:

أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه.

فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه، عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عز وجل: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون }، ففعل ذلك.

وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص رحمه الله وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، ويحرضهم به، ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في متوجهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه، إلى بلخ، وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو الشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور إلى جيحون، وكذلك فتح في أيامه فارس إلى إصطخر، وكرمان، ومكران، وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبدا، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود إرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضا ناحية الشام، والأردن، وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.

وقال الله عز وجل: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد }، فصدق فيه.

وقال في أهل بدر: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }. ووفى لهم بما وعد.

وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الإخبار عن الغيوب، يكثر جدا، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.

 

والوجه الثاني: أنه كان معلوما من حال النبي ﷺ أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.

وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتداء خلقه، وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة. ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما انتهى إليه أمرهم. وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم.

ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم؛ وإذ كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لاهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه - عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال الله عز وجل: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون } وقال: { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست }.

وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادرا، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعلم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.

والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها.

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوه:

منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه - خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا، فتطلب فيه الإصابة والافادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، ترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [ فيه ]، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق. ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شئ منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي فيه شعرا كثيرا. والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع.

فهذا إذا تأمله المتأمل تبين - بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم - أنه خارج عن العادة وأنه معجز. وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميُّز حاصل في جميعه.

 

ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف.

وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز من قائل: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } * وقوله: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال.

وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل.

 

وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها: من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة. وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع - يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.

فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو.

ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح.

ومنهم من يسبق في التقريط دون التأبين.

ومنهم من يجود في التأبين دون التقريط.

ومنهم من يغرب في وصف الابل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب.

ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.

ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الاحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره؛ ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتي في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، ستغنينا عن ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.

ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا. ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر [ تقصيرا عجيبا، ويقع ذلك من رجزه موقعا بعيدا. ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية، ولا ينظم الرجز، أو يقصر ] فيه مهما تكلفه أو تعمّله.

ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا بينا. ومنهم من يوجد بضد ذلك.

وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا.

وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.

وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة [ تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة ] فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة.

فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن.

 

ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.

ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه. حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري، مع جودة نظمه وحسن وصفه، في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشئ، وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى، وتنقل يستحسن.

وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شئ إلى شئ، والتحول من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا، ونفسر هذه الجملة، ونبين أن القرآن - على اختلاف [ فنونه و ] ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تبين به الفصاحة وتظهر به البلاغة ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.

 

ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام [ الجن، كما يخرج عن عادة كلام الإنس ]. فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.

فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن [ الإتيان ] بمثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا - للطفها - إليها. وإذا كان كذلك، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.

قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل. وقد يمكن أن يقال: إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذي نقلوه [ من ذلك ] قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم. قال تأبط شرا:

وأدهم قد جبت جلبابه * كما اجتابت الكاعب الخيعلا [8]

إلى أن حدا الصبح أثناءه * ومزق جلبابه الأليلا [9]

على شيم نار تنورتها * فبت لها مدبرا مقبلا [10]

فأصبحت والغول لي جارة * فيا جارتا أنت ما أهولا

وطالبتها بضعها، فالتوت * بوجه تهول واستغولا

فمن سال أين ثوت جارتي * فإن لها باللوى منزلا

وكنت إذا ما هممت اعتزمـ * ت وأحْرِ إذا قلت أن أفعلا

وقال آخر: [11]

عشوا ناري فقلت: منون أنتم * فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما

فقلت إلى الطعام فقال منهم * زعيم يحسد الإنس الطعاما

ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجني، وأشعارا لهما، كرهنا نقلها لطولها.

وقال عبيد بن أيوب:

فلله در الغول أي رفيقة * لصاحب قفر خائف يتقفر

أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت * حوالى نيرانا تلوح وتزهر [12]

وقال ذو الرمة بعد قوله:

قد أعسِف النازح المجهول معسفه * في ظل أخضر يدعوا هامه البوم [13]

للجن بالليل في حافاتها زجل * كما تناوح يوم الريح عيشوم [14]

دويه ودجى ليل كأنهما * يم تراطن في حافاته الروم [15]

وقال أيضا:

وكم عرست بعد السرى من معرس * به من كلام الجن أصوات سامر [16]

وقال: ورمل عزيف الجن في عقباته * هزير كتضراب المغنين بالطبل [17]

وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكى لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس.

ويبين ذلك من القرآن: أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن فقال: { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين } إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه.

فإذا ثبت أنه وصف كلامهم ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشئ المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.

وهذان الجوابان أسد عندي من جواب بعض المتكلمين عنه، بأنه عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره. ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه، فقال لنا قائل: فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.

وإنما ضعفنا هذا الجواب، لأن الذي حُكي وذكر عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه كما علمنا عجز الإنس عنه. ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه.

فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة؟

قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة، فإنه يدل على التفصيل أيضا، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.

 

ومعنى سادس: وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب، من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم - موجود في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم، في الفصاحة والابداع والبلاغة. وقد ضمنا بيان ذلك [ من ] بعد، لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات، دون البسط والتفصيل.

 

ومعنى سابع، وهو أن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة والاحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع، وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه - بان التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر - فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم.

 

ومعنى ثامن، وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع، وتتشوف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد.

وأنت ترى الكلمة من القرآن يُتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جميعه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه، برونقه وجماله، واعتراضه في حسنه ومائه، وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادعيناه منه.

ولولا هذه الوجوه التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ويتوقفون لها.

فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه.

ولا يمتنع أن يلتبس - على من لم يكن بارعا فيهم، ولا متقدما في الفصاحة منهم - هذا الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره.

إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك، تحققا بظهور العجز وتبينا له.

وأما قوله تعالى حكاية عنهم: { لو نشاء لقلنا مثل هذا } فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم، [ وقد يمكن أن يكون قاله منهم أهل الضعف في هذه الصناعة دون المتقدمين فيها ]، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم، وهو يدل على عجزهم. ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء، فلما لم يفعلوا ذلك - مع استمرار التحدي وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه - عُلم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط.

ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيات، وفى وصف الأزمّة والأنساع، والأمور التي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة، والعبارات الفصيحة، مع تضمن المعارضة لتكذيبه، والذب عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم، وتضليله إياهم. والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته. ثم لا يفعلون شيئا من ذلك، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعللونها بالاباطيل. [ هذا محال ].

 

ومعنى تاسع، وهو: أن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا. وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة. وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفا؛ ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.

والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها أقسام، نحن ذاكروها:

فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة.

فالمهموسة منها عشرة، وهي: الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والصاد، والسين.

وما سوى ذلك من الحروف فهي مهجورة.

وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور.

وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء، لا زيادة ولا نقصان.

والمجهور معناه: أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع أن يجرى معه [ النفس ] حتى ينقضي الاعتماد، ويجري الصوت.

والمهموس كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس.

وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى عليه أصول العربية.

وكذلك مما يقسمون إليه الحروف، يقولون: إنها على ضربين: أحدهما حروف الحلق، وهي ستة أحرف: العين، والحاء، والهمزة، والهاء، والخاء، والغين.

والنصف [ الآخر ] من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المثبتة في أوائل السور، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.

وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجرى فيه، وهي الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والظاء، والذال، والطاء، والباء.

وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بنى عليها تلك السور.

ومن ذلك الحروف المطبقة، وهي أربعة أحرف، وما سواها منفتحة. فالمطبقة: الطاء، والظاء، والصاد، والضاد.

وقد علمنا أن نصف هذه [ الحروف ] في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.

وإذا كان القوم - الذين قسموا في الحروف هذه الاقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي ﷺ - رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التنصيف الذي وصفنا - دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه بعد العهد الطويل لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل، لأن ذلك يجرى مجرى علم الغيوب.

وإن كان إنما تنبهوا على ما بني عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم شئ، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان، فذلك أيضا من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.

فإن كان أصل اللغة توقيفا فالأمر في ذلك أبين. وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضا، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.

وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم، إذا كانت حروفا، كنحو { الم } لأن الالف المبدوء بها هي أقصاها مطلعا، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة.

فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين.

ويشبه أن يكون التنصيف وقع في هذه الحروف دون الالف، لأن الالف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعا واحدا.

 

ومعنى عاشر، وهو أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة. وجعله قريبا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارتَه إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به.

فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع أو يوضع فيه الإعجاز.

ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف - لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع.

ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابها متماثلا، وبين مع ذلك إعجازهم فيه.

وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.

فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *

ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصور في النفس كتصور الاشكال، ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.

واعلم أن من قال من أصحابنا إن الاحكام معللة بعلل موافقة لمقتضى العقل جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه، كنحو ما يعللون به الصلاة، ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة، ووجوه تستحسن.

وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم. وفى ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول.

وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور وذكرنا المزية المتعلقة بها، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه.

فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه؟

قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضا: إن وجه الإعجاز في نظم القرآن [ من أجل ] أنه حكاية عن كلام الله، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف. وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك.

فصل في شرح ما بينا من وجوه إعجاز القرآن

فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب والصدق والإصابة في ذلك كله، فهو كقوله تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } فأغزاهم أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، إلى قتال العرب والفرس والروم.

وكقوله: { الم. غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين }. وراهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك، وصدق الله وعده.

وكقوله في قصة أهل بدر: [ { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } وكقوله ]: { سيهزم الجمع ويولون الدبر }

وكقوله: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءؤسكم ومقصرين لا تخافون }.

وكقوله: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا }. وصدق الله تعالى وعده في ذلك كله.

وقال في قصة المخلفين عنه في غزوته: { لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا }. فحق ذلك كله وصدق، ولم يخرج من المنافقين الذين خوطبوا بذلك معه أحد.

وكقوله: { ليظهره على الدين كله }.

وكقوله: { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }. فامتنعوا من المباهلة، ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية نارا، على ما ذكر في الخبر.

وكقوله: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } ولو تمنوه لوقع بهم. فهذا وما أشبهه فصل.

 

وأما الوجه الثاني الذي ذكرناه، من إخباره من قصص الأولين وسير المتقدمين، فمن العجيب الممتنع على من لم يقف على الأخبار ولم يشتغل بدرس الآثار. [18] وقد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها وحضرها.

ولذلك قال الله تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون }.

وقال: { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين }.

وقال: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك }. فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة.

وقال: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين }.

 

فأما الكلام في الوجه الثالث، وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف، فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوها:

منها: أنا قلنا إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم.

ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزون غير المقفى، لأن قوما من كفار قريش ادعوا أنه شعر.

ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا.

ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم.

ومنهم من يدعي أنه كلام موزون.

فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.

فصل في نفي الشعر من القرآن

قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر عن القرآن وعن النبي ﷺ، فقال: { وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }. وقال في ذم الشعراء: { والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات. وقال: { وما هو بقول شاعر }.

وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار - من قولهم: إنه شاعر، وإن هذا شعر - لابد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه [ إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، لا أنهم نسبوه ] في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة.

أو يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرق لهم في المنطق. وإن كان ذلك الباب خارجا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة.

أو يكون محمولا على أنه أطلقه بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر. وهذا أبعد الاحتمالات.

فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحا، وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره، وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه - في رأيهم وعندهم - أقدر، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب.

فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرا كثيرا، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة، ومنه ما يزعمون أنه مصراع، كقول القائل: قد قلت لما حاولوا سلوتي * { هيهات هيهات لما توعدون } ومما يزعمون أنه بيت قوله:، { وجفان كالجواب وقدور راسيات } قالوا: هو من الرمل، من البحر الذي قيل فيه:

ساكن الريح نطوف الـ * مزن منحل العزالي [19]

وقوله: { من تزكى فإنما يتزكى لنفسه }. كقول الشاعر من بحر الخفيف:

كل يوم بشمسه * وغد مثل أمسه

وكقوله عز وجل: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } قالوا: هو من المتقارب.

وكقوله: { ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا }. ويشبعون حركة الميم، فيزعمون أنه من الرَّجَز.

وذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك شعرا، وهو قوله:

وفتية في مجلس وجوههم * ريحانهم قد عدموا التثقيلا

{ دانية عليهم ظلالها * وذللت قطوفها تذليلا }

وقوله عز وجل: { ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين }. زعموا أنه من الوافر، كقول الشاعر:

لنا غنم نسوقها غزار * كأن قرون جلتها عصى [20]

وكقوله عز وجل: { أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم } ضمنه أبو نواس في شعره ففصل وقال: "فذاك الذي "، وشعره:

وقرا معلنا ليصدع قلبي * والهوى يصدع الفؤاد السقيما

أرأيت الذي يكذب بالديـ * - ن فذاك الذي يدع اليتيما

وهذا من الخفيف. كقول الشاعر:

وفؤادي كعهده بسليمى * بهوًى لم يحُل ولم يتغير

وكما ضمنه في شعره من قوله:

سبحان ( من ) سخر هذا لنا * ( حقا ) وما كنا له مقرنين

فزاد فيه حتى انتظم له الشعر.

وكما يقولونه في قوله عز وجل: { والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا } ونحو ذلك من القرآن كثير، كقوله: { والذاريات ذروا. فالحاملات وقرا. فالجاريات يسرا }. وهو عندهم شعر من بحر البسيط.

والجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها من وجوه:

أولها: أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن، لو كانوا يعتقدونه شعرا، ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم - لبادروا إلى معارضته، لأن الشعر مسخر لهم مسهل عليهم، ولهم فيه ما علمت من التصرف العجيب والاقتدار اللطيف. فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ولا عولوا عليه، عُلم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمرمدون في هذا الشأن. وإن استدراك من يجئ الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم، وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن [ وقد ] ذهب أولئك النفر عنه وخفي عليهم مع شدة حاجتهم [ عندهم ] إلى الطعن في القرآن والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه - فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه، ويعرفه من جاء الآن، وهو بالجهل حقيق.

إذا كان كذلك، علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال سديد، وهو أنهم قالوا: إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا، وأقل الشعر بيتان فصاعدا. وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.

وقالوا أيضا: إن ما كان على وزن بيتين، إلا أنه يختلف وزنهما أو قافيتهما، فليس بشعر.

ثم منهم من قال: إن الرجز ليس بشعر أصلا، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا. وكذلك ما كان يقاربه في قلة الاجزاء. وعلى هذا يسقط السؤال.

ثم يقولون: إن الشعر إنما يطلق، متى قصد القاصد إليه - على الطريق الذي يعتمد ويسلك، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء، دون ما يستوي فيه العامي والجاهل، والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وما يتفق من كل واحد، فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم شاعر، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض، كان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر وينتظم انتظامه.

ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه: "أغلق الباب وائتني بالطعام". ويقول الرجل لأصحابه "أكرموا من لقيتم من تميم". ومتى تتبع الإنسان هذا [ النحو ] عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه. [21]

وهذا القدر الذي يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة، إذا لم تعلم فيه حقيقة الأخذ. كقول امرئ القيس:

وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تهلك أسًى وتجمل

وكقول طرفة:

وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تهلك أسًى وتجلد

ومثل هذا كثير.

فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت ولم يمتنع التوارد فيه، فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعرا.

وكذلك يمتنع التوارد على بيتين، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما.

فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا، وإنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه تأتي له ولم يمتنع عليه.

فإذا كان هو مع قصده لا يتأتي له، وإنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه - لم يصح أن يقال إنه شعر، ولا إن صاحبه شاعر، ولا يصح أن يقال إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعرا، لأنه لو قصده لكان يتأتي له.

وإنما لم يصح ذلك، لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد، وما كان شعرا من أحد من الناس كان شعرا من كل أحد.

ألا ترى أن السوقي قد يقول: "اسقني الماء يا غلام سريعا"، وقد يتفق ذلك من الساهي ومن لا يقصد النظم.

فأما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينا، فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه.

وأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا، فإذا كان بيتا واحدا فليس ذلك بشعر.

وقد قيل: إن أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات بعد أن تتفق قوافيها، ولم يتفق ذلك في القرآن بحال. فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجرى مجراه في قلة الكلمات، فليس بشعر.

وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الرَّوِيّ، ويقولون: إنه متى اختلف الروي خرج عن أن يكون شعرا.

وهذه الطرق التي سلكوها في الجواب معتمدة أو أكثرها.

ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد، وأهله يتقاربون فيه، أو يضربون فيه بسهم.

 

فإن قيل: في القرآن كلام موزون كوزن الشعر، وإن كان غير مقفًّى، بل هو مُزاوج متساوي الضروب، وذلك أحد أقسام كلام العرب.

قيل: من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر والسواكن والحركات. فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا، كقوله:

رب أخ كنت به مغتبطا * أشد كفى بعرا صحبته

تمسكا مني بالود ولا * أحسبه يزهد في ذي أمل

تمسكا مني بالود ولا * أحسبه يغير العهد ولا

يحول عنه أبدا * فخاب فيه أملي

وقد علمنا أن القرآن ليس من هذا القبيل، بل هذا قبيل غير ممدوح ولا مقصود من جملة الفصيح، وربما كان عندهم مستنكرا، بل أكثره على ذلك.

وكذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولا وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء، غير الاختلاف الواقع في التقفية. ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بينا، وتتم فائدته بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.

فصل في نفي السجع من القرآن

ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره [ الشيخ ] أبو الحسن الأشعري [ رضي الله عنه ] في غير موضع من كتبه.

وذهب كثير ممن يخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع فيها التفاضل في البيان والفصاحة، كالتجنيس والالتفات وما أشبه ذلك من الوجوه التي تعرف بها الفصاحة.

وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هرون عليهما السلام، ولمكان السجع قيل في موضع { هرون وموسى }. ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون، قيل: { موسى وهرون }.

قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر، لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعرا، وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم، كما يتفق وجوده من الشاعر.

وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير المقصود إليه.

ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع. قال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على وزن واحد. وقال ابن دريد: "سجعت الحمامة، معناه: رددت صوتها". وأنشد:

طربت فأبكتك الحمام السواجع * تميل بها ضحوا غصون نوائع

النوائع: الموائل، من قولهم: جائع نائع، أي متمايل ضعفا.

وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز.

ولو جاز أن يقولوا: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز.

وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات، وليس كذلك الشعر.

وقد روي أن النبي ﷺ قال للذين جاءوه وكلموه في شأن الجنين: كيف نَدِي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يُطلّ؟ فقال: "أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟" وفى بعضها: "أسجعًا كسجع الكهان". فرأى ذلك مذموما لم يصح أن يكون في دلالته.

والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعا، لأن ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه دون بعض، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى.

فإن قيل: فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعا، فيجب أن تسموا أحدهما سجعا.

قيل: الكلام في تفصيل هذا خارج عن غرض كتابنا، وإلا كنا نأتي على فصل فصل من أول القرآن إلى آخره، ونبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى، ولكنه خارج عن غرض كتابنا. وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين.

ثم إن سلم لهم مسلم موضعا أو مواضع معدودة، وزعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام، وزعم أن الوجه في ذلك أنه من الفواصل، أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه - فإن ذلك إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعا، على ما قد بينا في القليل من الشعر، كالبيت الواحد، والمصراع، والبيتين من الرجز، ونحو ذلك يعرض فيه، فلا يقال إنه شعر، لأنه لا يقع مقصودا إليه، وإنما يقع مغمورا في الخطاب، وكذلك حال السجع الذي يزعمونه ويقدرونه.

ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن على ما تقدرونه سجعا، لكان مذموما مرذولا، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه واختلفت طرقه، كان قبيحا من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق مضبوط، متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة. كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئا، وكان شعره مرذولا، وربما أخرجه عن كونه شعرا.

وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا متقارب الفواصل، متداني المقاطع، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير، وهذا في السجع غير مرضي ولا محمود.

فإن قيل: متى خرج السجع [ من ] المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه، خرج من أن يكون سجعا، وليس على المتكلم أن يلتزم أن يكون كلامه كله سجعا، بل يأتي به طورا ثم يعدل عنه إلى غيره، ثم قد يرجع إليه.

قيل: متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفا للآخر، كان تخليطا وخبطا، وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع وتفاوت كان خبطا.

[ وقد ] علم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الاصل، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب.

ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه لما تحيروا فيه، ولكانت الطباع تدعو إلى المعارضة، لأن السجع غير ممتنع عليهم، بل هو عادتهم، فكيف تنقض العادة بما هو نفس العادة، وهو غير خارج عنها ولا متميز منها؟ وقد يتفق في الشعر كلام [ متزن ] على منهاج السجع وليس بسجع عندهم. وذلك نحو قول البحتري:

تشكَّى الوجى، والليل ملتبس الدُّجا * غريرية الإنساب مرت بقيعها

وقوله:

قريب المدى، حتى يكون إلى الندى * عدو البنى، حتى تكون معالي

ورأيت بعضهم يرتكب هذا، فيزعم أنه سجع مداخل!

ونظيره من القرآن قوله تعالى: { ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم }. وقوله: { أمرنا مترفيها ففسقوا فيها }. وقوله: { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله }. وقوله: { والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل }. وقوله: { إني وهن العظم مني }.

ولو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير، حتى سماه بعضهم سحرا، وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ويصرفونه إليه ويتوهمونه فيه. وهم في الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم، المألوفة لديهم.

والذي تكلمنا به في هذا الفصل كلام على جملة دون التفصيل.

ونحن نذكر بعد هذا في التفصيل ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع.

ومن جنس السجع المعتاد عندهم، قول أبي طالب لسيف بن ذي يزن: "أنبتك منبتا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، ونبت زرعه، في أكرم موطن، وأطيب معدن". وما يجري هذا المجرى من الكلام.

والقرآن مخالف لهذه الطريقة مخالفته للشعر وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم.

ولا معنى لقولهم: إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد وروي غير مختلف، لأن ما جرى هذا المجرى لا يبنى على الاشتقاق وحده، ولو بني عليه لكان الشعر سجعا، لأن رويه يتفق ولا يختلف، وتتردد القوافي على طريقة واحدة.

وأما الأمور التي يستريح إليها الكلام فإنها تختلف. فربما كان ذلك يسمى قافية، وذلك إنما يكون في الشعر؛ وربما كان ما ينفصل عنده الكلامان مقاطع السجع، وربما سمي ذلك فواصل.

وفواصل القرآن مما هو مختص بها، لا شركة بينه وبين سائر الكلام فيها ولا تناسب.

وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون عليهما السلام في موضع وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع وتساوي مقاطع الكلام فليس بصحيح، لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه. وهي: أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا من الأمر الصعب الذي تظهر به الفصاحة وتتبين به البلاغة. وأعيد كثير من القصص في مواضع [ كثيرة ] مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا.

ولو كان فيهم تمكُّن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها، وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه، وإلى مساواته فيما [ حكى و ] جاء به. وكيف وقد قال لهم: { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }. فعلى هذا يكون المقصد - بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها - إظهار الإعجاز على الطريقين جميعا، دون السجع الذي توهموه.

فإن قال قائل: القرآن مختلط من أوزان كلام العرب، ففيه من جنس خطبهم ورسائلهم [ وشعرهم ] وسجعهم وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى، ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته وفصاحته.

قيل: قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ونثر، وكلام مقفى غير موزون [ وكلام موزون غير مقفى ]، ونظم موزون ليس بمقفى كالخطب والسجع، ونظم مقفى موزون له روي.

ومن هذه الاقسام ما هو سجية الأغلب من الناس، فتناوله أقرب وسلوكه لا يتعذر. ومنه ما هو أصعب تناولا، كالموزون عند بعضهم، والشعر عند الآخرين.

وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن تقع لهم بأحد أمرين: إما بتعمل وتكلف وتعلم وتصنع، أو باتفاق من الطبع وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه.

ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم، ويعرض على ألسنتهم، وتجيش به خواطرهم، ولا ينصرف عنه الكل، مع شدة الدواعي إليه.

ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه والمهلة لهم فسيحة، والأمد واسع.

 

وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل: إنه اتفق في الأصل غير مقصود إليه، على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه قد تألفه الاسماع وتقبله النفوس تتبعوه من بعد وتعملوه. وحكى لي بعضهم عن أبي عمر غلام ثعلب عن ثعلب: أن العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول، يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * ويسمون ذلك الوضع المتير واشتقاقه من المتر، وهو الجذب أو القطع، يقال: مترت الحبل، أي قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره، فيحتمل ما قاله.

وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.

وقد يحتمل - على قول من قال: إن اللغة اصطلاح - أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم.

وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر، وأنهم وقفوا على ما يتصرف إليه القول من وجوه التفاصح، وتواقفوا بينهم على ذلك.

ويمكن أن يقال: إن التواضع وقع على أصل الباب، وكذلك التوقيف، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب، وإن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد، وبنوا عليه وطلبوه، ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الإطراب بوزنها، وتهش النفوس إليها، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها، واختبار طرق نم تنزيلها، وعرفهم محاسن الكلام، ودلهم على كل طريقة عجيبة، ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان [ بمثل ] القرآن، [ وأن ] القدر الذي تتناهى إليه قدرهم هو ما لم يخرج عن لغتهم، ولم يشذ من جميع كلامهم، بل قد عرض في خطابهم، ووجدوا أن هذا لما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد والحاجة الماسة إليه، مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر، وتكامل أحوالهم فيه - دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة. ولولا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه، فلان يقدروا بعد التنبيه على وجهه والتحدي إليه، أولى أن يبادروا إليه، لو كان لهم إليه سبيل.

ولو كان الأمر على ما ذكره السائل: لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم، أو لا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ويبادون إلى المعارضة.

ومعلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم، والأسباب التي لا يحتاج إليها، فيكثر فيها من شعر ورجز، ونجد من يعينه على نقله عنه، على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل ونتاجها، وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا.

ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة، ويتنافرون فيه وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار، على ما لا يخفى على أهله.

فاستدللنا بتحيرهم في أمر القرآن على خروجه من عادة كلامهم، ووقوعه موقعا يخرق العادات. وهذه سبيل المعجزات.

فبان بما قلنا أن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الاسجاع، لا يخرجها عن حدها، ولا يدخلها في باب السجع.

وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الاجزاء، فكان بعض مصاريعه كلمتين، وبعضها أربع كلمات، ولا يرون في ذلك فصاحة، بل يرونه عجزا.

فلو رأوا أن ما تلى عليهم من القرآن سجع لقالوا: نحن نعارضه بسجع معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن، ونتجاوز حده في البراعة والحسن.

ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع تارة إلى غيره ثم رجع إليه، لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع { 1، لأنه لو كان من باب السجع لكان أرفع نهاياته، وأبعد غاياته.

ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظام، وعباد بن سليمان، وهشام الفوطي، ويذهب مذهبهم، في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضربا من الصرف. [22]

ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه. وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم أنهم كانوا لا يلزمون أبدا طريقة السجع والوزن، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة، فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين.

فصل في ذكر البديع من الكلام

إن سأل سائل فقال: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تضمنه من البديع؟

قيل: ذكر أهل الصنعة ومن صنف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظا نحن نذكرها، ثم نبين ما سألوا عنه، ليكون الكلام واردا على أمر مبين، وباب مقرر مصور.

ذكروا: أن من البديع في القرآن قوله عز ذكره: { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }. وقوله: { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }. وقوله: { واشتعل الرأس شيبا وقوله: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون }. وقوله: { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم }. وقوله: { نورٌ على نور }.

وقد يكون البديع في الكلمات الجامعة الحكيمة، كقوله: { ولكم في القصاص حياة }.

وفي الألفاظ الفصيحة، كقوله: { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا }.

وفي الألفاظ الإلهية، كقوله: { وله كل شئ }. وقوله: { وما بكم من نعمة فمن الله }. وقوله: { لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار }.

 

ويذكرون من البديع قول النبي ﷺ «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها».

وقوله: «ربنا تقبل توبتي، واغسل حوبتي».

وقوله: «غلب عليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي حالقة الدين، لا حالقة الشعر».

وقوله: «الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة».

وقوله: «وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم».

وقوله: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطا أو يُلِمُّ».

وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في كلام له قد نقلناه بعد هذا على وجهه، وقوله لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "احرص على الموت توهب لك الحياة". وقوله: "فر من الشرف يتبعك الشرف".

وكقول علي بن أبي طالب في كتابه إلى ابن عباس، وهو عامله على البصرة: "أرغب راغبهم، واحلل عقدة الخوف عنهم". وقوله رضي الله عنه حين سئل عن قول النبي ﷺ: "[ غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" -: إن النبي ﷺ ] إنما قال ذلك والدين في قل، فأما وقد اتسع نطاق الإسلام، فكل امرئ وما اختار".

وسأل علي رضي الله عنه بعض كبراء فارس عن أحد ملوكهم عندهم؟ فقال: لأردشير فضيلة السبق، غير أن أحمدهم أنوشِروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال على رضي الله عنه: "هما توأمان ينتجهما علو الهمة".

وقال: "قيمة كل امرئ ما يحسن".

وقال: "العلم قفل، ومفتاحه المسئلة".

وكتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس: "أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم، وفرق كلمتكم". والخَدَمة: الحلقة المستديرة، ولذلك قيل للخلاخيل، خِدَام.

وقال الحجاج: "دلوني على رجل سمين الأمانة".

ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي على الخوارج أرادوه على الكلام، فقال: "لا خير في الرأي الفطير "، وقال: "دعوا الرأي يُغِبُّ".

وقال أعرابي في شكر نعمة: "ذاك عنوان نعمة الله عز وجل". [23]

ووصف أعرابي قوما فقال: "إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام". [24]

وسئل أعرابي عن رجل فقال: "صفرت عياب الود بيني وبينه بعد امتلائها، واكفهرت وجوه كانت بمائها". [25]

وقال آخر: "من ركب ظهر الباطل نزل دار الندامة".

وقيل لرؤبة: كيف خلفت ما وراءك؟ فقال: "التراب يابس، والمال عابس".

 

ومن البديع في الشعر طرق كثيرة، قد نقلنا منها جملة، لتستدل بها على ما بعدها:

فمن ذلك قول امرئ القيس:

وقد أغتدي والطير في وكناتها * بمنجرد قيد الأوابد هيكل [26]

قوله: "قيد الأوابد" عندهم من البديع ومن الاستعارة، ويرونه من الألفاظ الشريفة، [27] وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيدا لها، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره.

واقتدى به الناس، واتبعه الشعراء، فقيل: قيد النواظر، وقيد الألحاظ، وقيد الكلام، وقيد الحديث، وقيد الرهان.

وقال الأسود بن يعفر:

بمقلص عتد جهيز شده * قيد الأوابد والرهان جواد [28]

وقال أبو تمام:

لها منظر قيد الأوابد لم يزل * يروح ويغدو في خفارته الحب

وقال آخر:

ألحاظه قيد عيون الورى * فليس طرف يتعداه

وقال آخر: * قيد الحسن عليه الحدقا *

وذكر الأصمعي وأبو عبيد وحماد وقبلهم أبو عمرو: أنه أحسن في هذه اللفظة وأنه اتبع فلم يلحق، وذكروه في باب الاستعارة البليغة.

وسماها بعض أهل الصنعة باسم آخر، وجعلوها من باب الإرداف، وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ هو تابع له ورِدف.

قالوا: ومثله قوله: * نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل * وإنما أراد ترفُّهها بقوله: "نؤوم الضحى". [29]

ومن هذا الباب قول الشاعر: [30]

بعيدةُ مَهوَى القُرط إما لنوفلٍ * أبوها وإما عبدُ شمسٍ وهاشمُ

وإنما أراد أن يصف طول جيدها، فأتى بردفه. [31]

ومن ذلك قول امرئ القيس: * وليل كموج البحر أرخى سدوله * وذلك من الاستعارة المليحة.

ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن: { واشتعل الرأس شيبا }، { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }.

ومما يعدونه من البديع التشبيه الحسن، كقول امرئ القيس:

كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب [32]

وقوله:

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي

واستبدعوا تشبيه شيئين بشيئين على حسن تقسيم، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحْدَثين قول بشار:

كأن مثار النقع فوق رؤوسهم * وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وقد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالاخرى، دون صحة التقسيم والتفصيل.

وكذلك عدوا [33] من البديع قول امرئ القيس في أذني الفرس:

وسامعتان يُعرف العِتق فيهما * كسامعتي مذعورة وسط رَبرَبِ [34]

واتبعه طرفة، فقال فيه:

وسامعتان يعرف العتق فيهما * كسامعتي شاة بحومل مفرد [35]

ومثله قول امرئ القيس في وصف الفرس:

وعينان كالماويتين ومحجر * إلى سند مثل الصفيح المنصب [36]

وقال طرفة في وصف عيني ناقته:

وعينان كالماويتين استكنتا * بكهفي حجاجي صخرة قَلْتِ مورِد [37]

ومن البديع في التشبيه قول امرئ القيس:

له أيطلا ظبي وساقا نعامة * وإرخاء سرحان وتقريب تتفل [38]

وذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء، أحسن فيها.

 

ومن التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى: { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام }. وقوله تعالى: { كأنهن بيض مكنون }. ومواضع نذكرها بعد هذا.

ومن البديع في الاستعارة قول امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله * علي بأنواع الهموم ليبتلي [39]

فقلت له لما تمطى بصلبه * وأردف أعجازا وناء بكلكل

وهذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل.

ومن ذلك قول النابغة:

وصدر أراح الليل عازب همه * تضاعف فيه الحزن من كل جانب [40]

فاستعاره من إراحة الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوي إليها بالليل.

وأخذ منه ابن الدمينة فقال:

أقضّي نهاري بالحديث وبالمُنَى * ويجمعني والهمَّ بالليل جامعُ

ومن ذلك قول زهير:

صحا القلب عن سلمى وأقصَرَ باطله * وعٌرِّيَ أفراسُ الصِّبا ورواحلُهُ

ومن ذلك قول امرئ القيس:

سَمَوتُ إليها بعد ما نام أهلها * سموَّ حَبَاب الماء حالا على حالِ

وأخذه أبو تمام فقال: * سمو عُباب الماء جاشت غواربُه * [41] وإنما أراد امرؤ القيس إخفاء شخصه.

ومن ذلك قوله: * كأني وأصحابي على قرن أعفرا * [42] يريد أنهم غير مطمئنين.

ومن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد الله بن سعيد، قال: أخبرني أبي قال: أخبرنا عسل بن ذكوان، أخبرنا أبو عثمان المازني قال: سمعت الأصمعي يقول: أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن ولا أجمع من قول النابغة:

فإنك كالليل الذي هو مدركي * وإن خِلتُ أن المنتأى عنك واسع

قال الحسن بن عبد الله: وأخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا عون بن محمد الكندي، أخبرنا قعنب بن محرز قال: سمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو يقول: كان زهير يمدح السُّوَقَ، ولو ضرب على أسفل قدميه مئتا دَقَل صيني [43] على أن يقول كقول النابغة: "فإنك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع" - لما قال. يريد أن سلطانه كالليل إلى كل مكان.

واتبعه الفرزدق فقال:

ولو حملتني الريح ثم طلبتني * لكنتُ كشئ أدركتني مقادره

فلم يأت بالمعنى ولا اللفظ على ما سبق إليه النابغة.

ثم أخذه الأخطل فقال:

وإن أمير المؤمنين وفعله * لكالدهر لا عارٌ بما فعل الدهر

وقد روي نحو هذا عن النبي ﷺ: "نصرت بالرعب، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل".

وأخذه علي بن جبلة فقال:

وما لامرئ حاولتَه منك مهرب * ولو رفعته في السماء المطالع

بلى، هاربٌ لا يَهتدي لمكانه * ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع

ومثله قول سلم الخاسر:

فأنت كالدهر مبثوثا حبائله * والدهر لا ملجأ منه ولا هربُ

ولو ملكت عِنان الريح أصرفه * في كل ناحية ما فاتك الطلب

فأخذه البحتري فقال:

ولو أنهم ركبوا الكواكب لم يكن * ينجيهم عن خوف بأسك مهرب

ومن بديع الاستعارة قول زهير:

فلما وردنَ الماء زُرقا جِمامُه * وضعن عِصيَّ الحاضر المتخيِّمِ

وقول الأعشى:

وإن عِتاق العِيس سوف يزوركم * ثناء على أعجازهن معلق

ومنه أخذ نصيب فقال:

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله * ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

ومن ذلك قول تأبط شرا:

فخالط سهلَ الأرض لم يكدح الصفا * به كدحةً والموت خزيانُ ينظر [44]

ومن الاستعارة في القرآن كثير، كقوله: { وإنه لذكر لك ولقومك } يريد ما يكون الذكر عنه شرفا.

وقوله: { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة }. قيل: دين الله أراد.

وقوله: { اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم }.

 

ومن البديع عندهم [ الغلو والإفراط في الصفة ]، كقول النمر بن تولب:

أبقى الحوادثُ والأيام من نمر * أسبادَ سيف قديم أثرُه بادي

تظل تحفر عنه إن ضربت به * بعد الذراعين والقيدين والهادي [45]

وكقول النابغة:

تقدُّ السلوقيَّ المضاعفَ نسجُه * ويوقدنَ بالصفاح نارَ الحُباحِبِ

وكقول عنترة:

فازْوَرَّ مِن وقع القَنا بلَبانه * وشكا إلي بعبرة وتحمحُمِ

وكقول أبي تمام:

لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه * لخر يلثم منه موطئ القدم

وكقول البحتري:

ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما * في وسعه، لمشى إليك المنبر

ومن هذا الجنس في القرآن: { يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد }.

وقوله: { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا }.

وقوله: { تكاد تميز من الغيظ }.

 

ومما يعدونه من البديع المماثلة، وهو ضرب من الاستعارة [ سماه قدامة التمثيل، وهو على العكس من الإرداف، لأن الإرداف مبني على الإسهاب والبسط، وهو مبني على الإيجاز والجمع ].

وذلك أن يقصد الإشارة إلى معنى، فيضع ألفاظا تدل عليه، وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الإشارة إليه.

نظيره من المنثور أن يزيد بن الوليد بلغه أن مروان بن محمد يتلكأ عن بيعته، فكتب إليه: "أما بعد، فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فاعتمد على أيتهما شئت".

وكنحو ما كتب به الحجاج إلى المهلب: "فإن أنت فعلت ذاك، وإلا أشرعت إليك الرمح." فأجابه المهلب: "فإن أشرع الأمير الرمح، قلبت إليه ظهر المجن".

وكقول زهير:

ومن بعض أطراف الزجاج فإنه * يطيع العوالي ركبت كل لهذم [46]

وكقول امرئ القيس:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتل [47]

وكقول عمرو بن معدي كرب:

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم * نطقتُ ولكن الرماح أجَرَّتِ [48]

وكقول القائل:

بني عمنا لا تذكروا الشعر بعد ما * دفنتم بصحراء الغمير القوافيا [49]

وكقول الآخر:

أقول وقد شدوا لساني بنِسعة * أمعشر تيم أطلِقوا عن لسانيا [50]

ومن هذا الباب في القرآن قوله: { فما أصبرهم على النار }.

وكقوله: { وثيابك فطهر }. قال الأصمعي: أراد البدن، قال: وتقول العرب: "فدًى لك ثوباي". يريد نفسه. وأنشد:

ألا أبلغ حفص رسولا * فِدًى لك من أخي ثقةٍ إزاري

 

ويرون من البديع أيضا ما يسمونه المطابقة، وأكثرهم على أن معناها أن يذكر الشئ وضده، كالليل والنهار، والسواد والبياض، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والأصمعي، ومن المتأخرين عبد الله بن المعتز.

وذكر ابن المعتز من نظائره من المنثور ما قاله بعضهم: "أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع، فأدخلتنا في ضيق الضمان".

ونظيره من القرآن: { ولكم في القصاص حياة }.

وقوله: { يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى }.

وقوله: { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل }. ومثله كثير جدا.

وكقول النبي ﷺ للأنصار: "إنكم تكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع".

وقال آخرون: بل المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة، وإليه ذهب قدامة بن جعفر الكاتب.

فمن ذلك قول الأفوه الأودي:

وأقطع الهَوجَل مستأنسا * بهوجل مستأنسٍ عَنتَريس [51]

عنى بالهوجل الأول الأرض، وبالثاني الناقة. [52]

ومثله قول زياد الأعجم:

ونُبِّئتُهم يَستنصرون بكاهل * وللؤم فيهم كاهلٌ وسَنام

ومثله قول أبي دواد:

عهدت لها منزلا داثرا * وآلا على الماء يحملن آلا

فالآل الأول: أعمدة الخيام تنصب على البئر للسقي، والآل الثاني: السراب. [53]

وليس عنده قول من قال: المطابقة إنما تكون باجتماع الشئ وضده بشئ.

ومن المعنى الأول قول الشاعر:

أهين لهم نفسي لأكرمها بهم * ولن تكرم النفس التي لا تهينها

ومثله قول امرئ القيس:

وتَردي على صم صِلاب مَلاطِسٍ * شديداتِ عَقدٍ ليناتِ مِتانِ [54]

وكقول النابغة:

ولا يحسبون الخير لا شر بعده * ولا يحسبون الشر ضربة لازب [55]

وكقول زهير، وقد جمع فيه طباقين:

بعزمة مأمور مطيع وآمر * مطاع فلا يُلفَى لحزمهم مِثلُ

وكقول الفرزدق:

والشيب ينهض في الشباب كأنه * ليل يصيح بجانبيه نهار

ومما قيل فيه ثلاث تطبيقات قول جرير:

وباسط خير فيكم بيمينه * وقابض شر عنكم بشماليا

وكقول رجل من بلعنبر: [56]

يجزون مِن ظُلم أهل الظلم مغفرةً * ومن إساءة أهل السوء إحسانا

وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه تمثل بقول القائل:

فلا الجود يُفني المال والجد مقبل * ولا البخل يُبقي المال والجد مدبر

وكقول الآخر:

فسِري كإعلاني وتلك سجيتي * وظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا

وكقول قيس بن الخطيم:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما * يرجى الفتى كيما يضر وينفعا

وكقول السموأل:

وما ضرنا أنا قليل وجارنا * عزيز وجار الأكثرين ذليل

فهذا باب يرونه من البديع.

 

وباب آخر وهو التجنيس. ومعنى ذلك: أن تأتي بكلمتين متجانستين:

فمنه ما تكون الكلمة تجانس الاخرى في تأليف حروفها [ ومعناها ]. وإليه ذهب الخليل.

ومنهم من زعم أن المجانسة أن تشترك اللفظتان على جهة الاشتقاق.

كقوله عز وجل: { فأقم وجهك للدين القيم }.

وكقوله: { وأسلمت مع سليمان }.

وكقوله: { يا أسفا على يوسف }

وكقوله: { الذين آمنوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون }.

وكقوله: { وهم ينهون عنه وينأون عنه }.

وكقول النبي ﷺ: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله، [ وتجيبٌ أجابت الله ورسوله ]".

وكقوله: "الظلم ظلمات يوم القيامة".

وقوله: "لا يكون ذو الوجهين وجيها عند الله".

وكتب بعض الكتاب: "العذر مع التعذر واجب، فرأيك فيه".

وقال معاوية لابن عباس: ما لكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم؟ فقال: كما تصابون في بصائركم.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هاجروا ولا تهَجَّروا". [57]

ومن ذلك قول قيس بن عاصم:

ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة * كسته نجيعا من دم الجوف أشكلا [58]

وقال آخر: * أمل عليها بالبلى الملوان * [59]

وقال الآخر:

وذاكم أن ذل الجار حالفكم * وأن أنفكم لا تعرف الأنفا

وكتب إلي بعض مشايخنا، قال: أنشدنا الاخفش عن المبرد، عن التوزي:.

وقالوا حمامات فَحُمّ لقاؤها * وطَلحٌ فَزِيرَت والمطيُّ طُلوحُ

عُقابٌ بأعقاب من النأي بعد ما * جرت نية تنسي المحبَّ طَروح

وقال صحابي: هدهدٌ فوق بانةٍ * هُدًى وبيانٌ بالنجاح يلوح

وقالوا: دَمٌ دامت مواثيق عهده * ودام لنا حسن الصفاء صريح

وقال آخر: * أقبلن من مصر يبارين البُرَى * [60]

وقال القطامي:

ولما ردها في الشول شالت * بذيال يكون لها لِفاعا [61]

وقد يكون التجنيس بزيادة حرف [ أو بنقصان حرف ] أو ما يقارب ذلك، كقول البحتري:

هل لما فات من تلاقٍ تلافِ * أم لشاكٍ من الصبابة شافِ

وقال ابن مقبل:

يمشين هيل النقا مالت جوانبه * ينهال حينا وينهاه الثرى حينا [62]

وقال زهير:

هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا * لا ينكلون إذا ما استحلموا وحموا [63]

ومن ذلك قول أبي تمام:

يمدون من أيد عواص عواصم * تصول بأسياف قواض قواضب

وأبو نواس يقصد في مصراعي مقدمات شعره هذا الباب، كقوله:

ألا دارها بالماء حتى تلينها * فلن تكرم الصهباء حتى تهينها

وكذلك قوله:

ديار نوار ما ديار نوار * كسونك شجوا هن منه عوار

وكقول ابن المعتز:

سأثني على عهد المطيرة والقصر * وأدعو لها بالساكنين وبالقطر

وكقوله أيضا:

هي الدار إلا أنها منهمُ قفرُ * وأنى بها ثاوٍ وأنهمُ سَفْرُ

وكقوله:

للأماني حديث [ قد ] يقر * ويسوء الدهر من قد يسر

وكقول المتنبي:

وقد أراني الشباب الروح في بدني * وقد أراني المشيب الروح في بدلي [64]

وقد قيل: إن من هذا القبيل قوله عز وجل: { خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون }، وقوله: { قل الله أعبدُ مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه }.

 

ويعدون من البديع المقابلة، وهي أن يوفق بين معان ونظائرها والمضاد بضده، وذلك مثل قول النابغة الجعدي:

فتى تم فيه ما يسر صديقَه * على أن فيه ما يسوء الأعاديا

وقال تأبط شرا:

أهزُّ به في ندوة الحي عِطفَه * كما هز عِطفي بالهجان الأوارِكِ [65]

وكقول الآخر:

وإذا حديث ساءني لم أكتئب * وإذا حديث سرني لم أشرر [66]

وكقول الآخر:

وذي إخوة قَطَّعْتُ أرحامَ بينهم * كما تركوني واحدا لا أخا ليا

ونظيره من القرآن: { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون }.

[ ومن هذا الجنس قول هند بنت النعمان للمغيرة بن شعبة، وقد أحسن إليها: بَرَّتكَ يدٌ نالتها خَصاصة بعد ثروة، وأغناك الله عن يد نالت ثروة بعد فاقة ].

 

ويعدون من البديع الموازنة، وذلك كقول بعضهم: اصبر على حر اللقاء، ومضض النزال، وشدة المصاع. [67]

وكقول امرئ القيس:

سليم الشظا عبل الشوى شنج النسا * [ له حجبات مشرفات على الفال ] [68]

ونظيره من القرآن: { والسماء ذات البروج. واليوم الموعود وشاهد ومشهود }.

 

ويعدون من البديع المساواة، وهي أن يكون اللفظ مساويا للمعنى، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه. وذلك يعد من البلاغة، وذلك كقول زهير:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وكقول جرير:

فلو شاء قومي كان حلمي فيهم * وكان على جهال أعدائهم جهلي

وكقول الآخر:

إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا * أصبت حليما أو أصابك جاهل

وكقول الهذلي:

فلا تجز عن من سنة أنت سرتها * وأول راض سنة من يسيرها

وكقول الآخر:

فإن هم طاوعوكِ فطاوعيهم * وإن عاصوك فاعصي من عصاكِ

ونظير ذلك في القرآن كثير.

 

ومما يعدونه من البديع " الإشارة " وهو اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة.

وقال بعضهم في وصف البلاغة: [ البلاغة ] لمحة دالة.

ومن ذلك قول طرفة:

فظل لنا يوم لذيذ بنعمة * فقل في مقيل نحسه متغيب

وكقول زيد الخيل:

فخيبة من يخيب على غنى * وباهلة بن أعصر والرباب [69]

ونظيره من القرآن: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا }. ومواضع كثيرة.

 

ويعدون من البديع المبالغة، والغلو.

والمبالغة: تأكيد معاني القول، وذلك كقول الشاعر:

ونكرم جارنا ما كان فينا * ونتبعه الكرامة حيث مالا

ومن ذلك قول الآخر:

وهم تركوك أسلحَ من حُبارى * رأت صقرا وأشردَ من نعامِ

فقوله: "رأت صقرا " مبالغة.

ومن الغلو قول أبي نواس:

توهمتها في كأسها فكأنما * توهمت شيئا ليس يدركه العقل

فما يرتقى التكييف فيها إلى مدى * يحد به إلا ومن قبله قبل

وقول زهير:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

وكقول النابغة:

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا [70]

وكقول الخنساء:

وما بلغت كف امرئ متناول * بها المجد إلا حيثما نلت أطول

وما بلغ المهدون في القول مدحة * وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل

وقول الآخر:

له همم لا منتهى لكبارها * وهمته الصغرى أجل من الدهر

له راحة لو أن معشار جودها * على البَرِّ صار البر أندى من البحر

 

ويرون من البديع الإيغال في الشعر خاصة، فلا يطلب مثله في القرآن إلا في الفواصل، كقول امرئ القيس:

كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب [71]

فقد أوغل بالقافية في الوصف وأكد التشبيه بها، والمعنى قد يستقل دونها.

 

ومن البديع عندهم التوشيح. وهو أن يشهد أول البيت بقافيته وأول الكلام بآخره، كقول البحتري:

فليس الذي حللته بمحلل * وليس الذي حرمته بحرام [72]

ومثله في القرآن: { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم }.

 

ومن ذلك رد عجز الكلام على صدره.

كقول الله عز وجل: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }

وكقوله: { لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى }. [73]

ومن هذا الباب قول القائل:

وإن لم يكن إلا تعلل ساعة * قليلا فإني نافع لي قليلها

وكقول جرير:

سقى الرمل جون مستهل غمامه * وما ذاك إلا حب من حل بالرمل

وكقول الآخر:

يود الفتى طول السلامة والغنى * فكيف يرى طول السلامة يفعل

وكقول أبي صخر الهذلي:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها * فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

وكقول الآخر:

أصد بأيدي العِيس عن قصد أرضها * وقلبي إليها بالمودة قاصد

وكقول عمرو بن معدي كرب:

إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

 

ومن البديع صحة التقسيم، ومن ذلك قول نُصَيب:

فقال فريق القوم: لا وفريقهم: * نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري

وليس في أقسام الجواب أكثر من هذا.

وكقول الآخر:

فكأنها فيه نهار ساطع * وكأنه ليل عليها مظلم

وقول المقنع الكندي:

وإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم * وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم * وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا

وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي * زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

وكقول عروة بن حزام:

بمن لو أراه عانيا لفديته * ومن لو رآني عانيا لفداني

ونحوه قول الله عز وجل: { الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات }.

 

ونحوه: صحة التفسير، [ وهو أن توضع معان تحتاج إلى شرح أحولها، فإذا شرحت أثبتت تلك المعاني من غير عدول عنها ولا زيادة ولا نقصان ]. كقول القائل:

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم * ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

 

ومن البديع: التكميل والتتميم. [ وهو أن يأتي بالمعنى الذي بدأ به بجميع المعاني المصححة المتممة لصحته المكملة لجودته، من غير أن يخل ببعضها، ولا أن يغادر شيئا منها. كقول القائل: وما عسيت أن أشكرك عليه من مواعيد لم تشن بمطل، ومرافد لم تشب بمن، وبشر لم يمازجه ملق، ولم يخالطه مذق ].

وكقول نافع بن خليفة:

رجال إذا لم يقبلوا الحق منهم * ويُعطَوه عادوا بالسيوف القواطع

وإنما تم جودة المعنى بقوله: "ويعطوه".

وذلك كقول الله عز وجل: { إن الله عنده علم الساعة } إلى آخر الآية. ثم قال: { إن الله عليم خبير }.

 

ومن البديع: الترصيع. وذلك على ألوان.

منها قول امرئ القيس:

مِخَشٍّ مِجَشٍّ مقبل مدبر معا * كتيسِ ظباء الحلَّب العَدَوان

ومن ذلك كثير من مقدمات أبي نواس:

يا مِنَّةً أمتَنَّها السُّكرُ * ما ينقضي منى لها الشكرُ

وكقوله، وقد ذكرناه قبل هذا:

ديارُ نوارٍ ما ديار نوار * كسونك شجوًا هن منه عَوار

 

ومن ذلك: الترصيع مع التجنيس، كقول ابن المعتز:

ألم تجزع على الربع المحيل * وأطلال وآثار محول

ونظيره من القرآن كقوله: { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون }.

وقوله: { ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لاجرا غير ممنون }.

وكقوله: { وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد }.

وكقوله: { والطور. وكتاب مسطور }.

وقوله: { والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا }.

وقد أولع الشعراء بنحو هذا، فأكثروا فيه. ومنهم من اقتنع بالترصيع في بعض أطراف الكلام. ومنهم من بنى كلامه [ كله ] عليه، كقول ابن الرومي:

أبدانهن وما لبسـ * ن من الحرير معا حرير

أرادنهن وما مسسـ * ن من العبير معا عبير

وكقوله:

فلراهب أن لا يريث مكانه * ولراغب أن لا يريث نجاحه

ومما يقارب الترصيع ضرب يسمى: المضارعة، وذلك كقول الخنساء:

حامي الحقيقة محمود الخليفة مهـ * دي الطريقة نفاع وضرار [74]

جوابُ قاصيةٍ جزّازُ ناصية * عقّادُ ألوية للخيل جرّارُ [75]

 

ومن البديع باب التكافؤ. وذلك قريب من المطابقة، كقول المنصور: لا تخرجوا من عز الطاعة إلى ذل المعصية. وقول عمر بن ذر: إنا لم نجد لك إذ عصيت الله فينا خيرا من أن نطيع الله فيك. [76]

ومنه قول بشار:

إذا أيقظتك حروب العِدا * فنبه لها عُمرا ثم نَمْ

[ ومنه قول أعرابي يذم قومه: ألسن عامرة من الوعد، وقلوب خربة من العزم. وقال آخر: وساع في الهوى، وطرب في الحاجة ].

ومن البديع باب التعطف، كقول امرئ القيس: * عَودٌ على عَودٍ على عودٍ خَلَقْ * [77] وقد تقدم مثاله.

 

ومن البديع: السلب والايجاب، كقول القائل:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم * ولا ينكرون القول حين نقول

 

ومن البديع الكناية والتعريض. كقول القائل:

وأحمر كالديباج أما سماؤه * فريّا، وأما أرضه فمحولُ [78]

ومن هذا الباب لحن القول.

 

ومن ذلك: العكس والتبديل، كقول الحسن: "إن من خوّفك لتأمن خير ممن أمنك لتخاف". وكقوله: "اللهم أغنني بالفقر إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك". وكقوله: "بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا".

وكقول القائل:

وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا

وقد يدخل في هذا الباب قوله تعالى: { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل }.

 

ومن البديع: الالتفات، فمن ذلك ما كتب إليّ الحسن بن عبد الله العسكري، أخبرنا محمد بن يحيى الصولي، [ قال ]: حدثني يحيى بن على المنجم، عن أبيه، عن إسحاق بن إبراهيم، قال: قال لي الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، فما هي؟ قال:

أتنسى إذ تودعنا سُليمى * بفرع بَشامة؟ سُقِيَ البَشام [79]

ومثل ذلك لجرير:

متى كان الخيام بذى طُلُوح * - سُقيتِ الغيث - أيتها الخيامُ؟

ومعنى الالتفاتات أنه اعترض في الكلام [80] قوله: "سقيت الغيث"، ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتا وكان الكلام منتظما، وكان يقول: "متى كان الخيام بذى طلوح أيتها الخيام". فمتى خرج عن الكلام الأول ثم رجع إليه على وجه يلطف كان ذلك التفاتا.

ومثله قول النابعة الجعدي:

ألا زعمت بنو سعد بأني * - ألا كذبوا - كبيرُ السن فاني

ومنه قول كُثَيِّر:

لو أن الباذلين، وأنتِ منهم، * رأوكِ، تعلموا منكِ المِطالا

ومثله قول أبي تمام:

وأنجدتم من بعد إتهام داركم * فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

وكقول جرير:

طرب الحمام بذي الأراك فشاقني * لا زلت في غلل وأيك ناضر

التفت إلى الحمام فدعا لها.

ومثله قول حسان:

إن التي ناولتني فرددتها * قُتِلَتْ قُتِلْتَ فهاتِها لم تُقتَلِ [81]

ومثله قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:

وأجمِل إذا ما كنت لا بد مانعا * وقد يمنع الشئ الفتى وهو مجمل

وكقول ابن ميّادة:

فلا صُرْمُه يبدوا وفى اليأس راحة * ولا وصلُه يَصفُو لنا فنكارمه [82]

ونظير ذلك من القرآن ما حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل من قوله: { اعبدوا الله واتقوه، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } إلى قوله: { فما كان جواب قومه }.

وقوله عز وجل: { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز، وبرزوا لله جميعا }.

ومثله قوله: { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين }.

ومثله قوله: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث }.

ومثله قوله: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه }.

ومنهم من لا يعد الاعتراض والرجوع [83] من هذا الباب. ومنهم من يفرده عنه، كقول زهير:

قِفْ بالديار التي لم يعفُها القِدم * نعمْ، وغيّرها الأرواحُ والدِّيَمُ

وكقول الأعرابي:

أليس قليلا نظرةٌ إن نظرتُها * إليكِ، وكلا ليس منكِ قليلُ

وكقول ابن هَرْمة:

ليت حظي كلحظة العين منها * وكثيرٌ منها القليلُ المهَنّا

 

ومن الرجوع قول القائل:

بكل تداوينا فلم يُشفَ ما بنا * على أن قرب الدار خير من البعد [84]

وقال الأعشى:

صَرَمتُ ولم أصرِمكم وكصارمٍ * أخٌ قد طوى كَشحًا وأبَّ ليذهبا

وكقول بشار:

لي حيلة فيمن ينمـ * مُ وليس في الكذاب حيله

من كان يخلق ما يقو * ل فحيلتي فيه قليله

وقال آخر:

وما بي انتصار إن عدا الدهر ظالما * عليَّ، بلى إن كان من عندك النصر

 

وباب آخر من البديع يسمى: التذييل، وهو ضرب من التأكيد، وهو ضد ما قدمنا ذكره من الإشارة، [85] كقول أبي دواد:

إذا ما عقدنا له ذمة * شددنا العِناج وعقد الكَرَبْ [86]

وأخذه الحطيئة فقال:

[ قومٌ إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا [87]

وكقول الآخر ]:

فدعوا نزالِ فكنتُ أول نازل * وعلامَ أركبُه إذا لم أنزلِ؟ [88]

وكقول جرير:

لقد كنت فيها يا فرزدقُ تابعا * وريشُ الذُّنابي تابعٌ للقوادم

ومثله قوله عز وجل: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا.

يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم، إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }، إلى قوله: { كانوا خاطئين }.

وباب من البديع يسمى الاستطراد. [89] فمن ذلك ما كتب إلي الحسن بن عبد الله قال: أنشدني أبو بكر بن دريد، قال: أنشدنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، لحسان بن ثابت رضي الله عنه:

إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتِني * فنجوتِ منجى الحارث بن هشام [90]

ترك الاحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طِمِرّة ولجام [91]

وكقول السموأل:

وإنا لقوم لا نرى القتل سُبّة * إذا ما رأته عامرٌ وسَلول

وكقول الآخر:

خليليّ من كعب أعينا أخاكما * على دهره، إن الكريم معينُ

ولا تبخلا بخل ابن قَزْعَةَ، إنه * مخافة أن يُرجى نداه حزينُ

وكقول الآخر:

فما ذرَّ قرنُ الشمسِ حتى كأننا * من العِيّ نحكي أحمد بن هشام

وكقول زهير:

إن البخيل ملوم حيث كان ولـ * كنّ الجواد على علاته هَرِمُ

وفيما كتب إلي الحسن بن عبد الله، قال: أخبرني محمد بن يحيى [ قال ]: حدثني محمد بن على الأنباري، قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام لنفسه:

وسابحٍ هَطِلٍ التَّعْداءِ هَتّانِ * على الجِراء أمينٍ غيرِ خَوّان

أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه * فخَلِّ عينيك في ريان ظمآن

ولو تراه مُشيحا والحصى فِلَق * بين السنابك من مثنى ووُحدان

أيقنتَ - إن لم تثبت - أن حافره * من صخر تدمرَ أو من وجه عثمان [92]

وقال لي: ما هذا من الشعر؟ قلت لا أدري، قال: هذا المستطرد أو قال الاستطراد. قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يُري أنه يصف الفرس، ويريد هجاء عثمان.

وقال البحتري:

ما إن يعافُ قَذًى ولو أوردتَه * يوما خلائق حَمدَويهِ الأحولِ

قال: فقيل للبحتري: إنك أخذت هذا من أبي تمام، فقال: ما يعاب علي أن آخذ منه وأتبعه فيما يقول.

ومن هذا الباب قول أبي تمام:

صُبَّ الفراقُ علينا صُبَّ من كَثَبٍ * عليه إسحاقُ يوم الروع منتقما [93]

ومنه قول السري الرفّاء:

نزع الوشاة لنا بسهم قطيعةٍ * يُرمى بسهم الحينِ من يرمي به

ليت الزمان أصاب حب قلوبهم * بقَنا ابن عبد الله أو بحرابه

ونظيره من القرآن: { أولم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون، ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون } كأنه كان المراد من أن يجري بالقول الأول إلى الإخبار عن أن كل شئ يسجد لله عز وجل، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص.

 

ومن البديع عندهم: التكرار، كقول الشاعر:

هلا سألت جموعَ كنـ * دةَ يوم ولّوا أين أينا؟

وكقول الآخر:

وكانت فَزارة تَصلى بنا * فأولى فزارةُ أولى فَزارا

ونظيره من القرآن [ كثير، كقوله تعالى ]: { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا }.

وكالتكرار في قوله: { قل يا أيها الكافرون }.

وهذا فيه معنى زائد على التكرار، لأنه يفيد الإخبار عن الغيب.

 

ومن البديع عندهم ضرب من الاستثناء، كقول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب

وكقول النابغة الجعدي:

فتًى كملت أخلاقه غير أنه * جواد فلا يبقى من المال باقيا

فتى تمّ فيه ما يَسُرُّ صديقه * على أن فيه ما يسوء الأعاديا

وكقول الآخر:

حليمٌ إذا ما الحلم زَيَّن أهلَه * معَ الحلم في عين العدو مَهيبُ

وكقول أبي تمام:

تَنصَّل ربُّها من غير جُرم * إليكَ سوى النصيحة والوِدادِ

 

ووجوه البديع كثيرة جدا، فاقتصرنا على ذكر بعضها ونبهنا بذلك على ما لم نذكر كراهة التطويل، فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع.

 

وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه.

وليس كذلك عندنا، لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعوّد والتصنع لها، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له وأمكنه نظمه.

والوجوه التي نقول إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل إليه بحال. ويبين ما قلنا أن كثيرا من المحدثين [94] قد تصنع لأبواب الصنعة، حتى حشى جميع شعره منها، واجتهد أن لا يفوته بيت إلا وهو يملؤه من الصنعة، كما صنع أبو تمام في لاميته:

متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل * * وصدرك منها مدة الدهر آهل [95]

تطل الطلول الدمع في كل موقف * وتمثل بالصبر الديار المواثل

دوارس لم يجف الربيع ربوعها * ولا مر في أغفالها وهو غافل [96]

فقد سحبت فيها السحاب ذيولها * وقد أخملت بالنور تلك الخمائل

تعفين من زاد العفاة إذا انتحى * على الحى صرف الازمة المتماحل

لهم سلف سمر العوالي وسامر * وفيهم جمال لا يغيض وجامل [97]

ليالي أضللت العزاء وخزلت * بعقلك آرام الخدور العقائل

من الهيف لو أن الخلاخيل صيرت * لها وشحا جالت عليه الخلاخل

مها الوحش إلا أن هاتا أوانس * قنا الخط إلا أن تلك ذوايل

هوى كان خلسا إن من أطيب الهوى * هوى جلت في أفيائه وهو خامل

ومن الأدباء من عاب عليه هذه الأبيات ونحوها على ما قد تكلف فيها من البديع وتعمّل من الصنعة، فقال: قد أذهب ماء هذا الشعر ورونقه وفائدته، اشتغالا بطلب التطبيق وسائر ما جمع فيه. [98]

وقد تعصب عليه أحمد بن عبيد الله بن عمار وأسرف حتى تجاوز إلى الغض من محاسنه.

ولِما قد أولع به من الصنعة ربما غُطّي على بصره حتى يبدع في القبيح، وهو يريد أن يبدع في الحسن. كقوله في قصيدة له أولها:

سَرتْ تستجير الدمع خوف نَوَى غَدِ * وعاد قَتادًا عندها كل مَرقَدِ

فقال فيها:

لعمري لقد حُرِّرت يوم لقيته * لو أن القضاءَ وحدَه لم يُبّرِّدِ

وكقوله:

لو لم تدارك مُسنّ المجد مذ زمن * بالجود والبأس كان المجد قد خَرِفا

فهذا من الاستعارات القبيحة والبديع المقيت.

وكقوله:

تسعون ألفا كآساد الشرى نَضِجَت * أعمارُهم قبل نُضج التين والعنبِ

وكقوله:

لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا * لمات، إذ لم يمت، من شدة الحزن [99]

وكقوله: * خشنتِ عليه أختَ بني خشين * [100]

وكقوله:

ألا لا يمدّ الدهر كفا بسيءٍ * إلى مجتدي نصر فتقطعْ من الزندِ

وقال في وصف المطايا:

لو كان كلفها عبيد حاجة * يوما لزنّى شَدقما وجَديلا [101]

وكقوله:

فضربتَ الشتاءَ في أخدعيه * ضربة غادرتْهُ عَودا رَكوبا [102]

فهذا وما أشبهه إنما يحدث من غلوه في محبة الصنعة، حتى يعميه عن وجه الصواب. وربما أسرف في المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها حتى استثقل نظمه واستوخم رصفه، وكان التكلف باردا والتصرف جامدا. وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح، كما يتفق البارد القبيح.

 

وأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام، ويقلُّ التصنع له. فإذا وقع في كلامه كان في الأكثر حسنا رشيقا، وظريفا جميلا. وتصنعه للمطابق كثير حسن، وتعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة والرغبة في السلاسة، فلذلك يخرج سليما من العيب في الأكثر.

وأما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى وقعود العبارات عن الغاية القصوى، فشئ لا بد منه وأمر لا محيص عنه. كيف وقد وقف على من هو أجل منه وأعظم قدرا في هذه الصنعة وأكبر في الطبقة، كامرئ القيس وزهير والنابغة وابن هرمة. ونحن نبين تميز كلامهم وانحطاط درجة قولهم ونزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن في باب مفرد، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره ويتحقق وجه الإعجاز فيه، بمشيئة الله وعونه.

 

ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه.

وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة.

وله طريق يسلك، ووجه يقصد، وسلم يرتقى فيه إليه، ومثال قد يقع طالبه عليه. فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا، وآخر يتعود أن يكون جميع خطابه سجعا، أو صنعة متصلة، لا يسقط من كلامه حرفا، وقد يتأتي له لما قد تعوده. وأنت ترى أدباء زماننا يضعون المحاسن في جزء. وكذلك يؤلفون أنواع البارع، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة أو خطبة فيحسنون به كلامهم. ومن كان قد تدرب وتقدم في حفظ ذلك - استغنى عن هذا التصنيف، ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف، وكان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطا من باع كلامه، وموشحا بأنواع البديع ما يحاوله من قوله.

وهذا طريق لا يتعذر وباب لا يمتنع، وكل يأخذ فيه مأخذا ويقف منه موقفا، على قدر ما معه من المعرفة، وبحسب ما يمده من الطبع.

فأما شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، كما يتفق للشاعر البيت النادر، والكلمة الشاردة، والمعنى الفذ الغريب، والشئ القليل العجيب، وكما يلحق من كلامه، بالوحشيات، ويضاف من قوله إلى الأوابد، لأن ما جرى هذا المجرى ووقع هذا الموقع، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره، وللكاتب في قليل من رسائله، وللخطيب في يسير من خطبه. ولو كان كل شعره نادرا، ومثلا سائرا، ومعنى بديعا، ولفظا رشيقا، وكل كلامه مملوءا من رونقه ومائه، ومحلى ببهجته وحسن روائه، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين، والمتردد بين الطرفين، ولا البارد المستثقل، والغث المستنكر - لم يبن الإعجاز في الكلام، ولم يظهر التفاوت العجيب بين النظام والنظام.

وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل، ومبهم قد يحتاج في بعضه إلى تفسير. وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه.

ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم: إن ذلك باب من أبواب البراعة، وجنس من أجناس البلاغة، وإنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم، وإذا أورد هذا المورد، ووضع هذا الموضع، كان جديرا.

وإنما لم نطلق القول إطلاقا، لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه الخاصة ووقفا عليها، ومضافا إليها، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة، آخذة بحظها من الحسن والبهجة، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع والتعمل المستشنع.

فصل في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن

قد بينا أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية، من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك. فإذا عرفوا هذا - بأن علموا أنهم قد تُحدوا إلى أن يأتوا بمثله، وقرعوا على ترك الإتيان بمثله، ولم يأتوا به - تبينوا أنهم عاجزون عنه. وإذا عجز أهل ذلك اللسان، فهم عنه أعجز.

وكذلك نقول: إن من كان من أهل اللسان العربي - إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة، وما يعدونه فصيحا بليغا بارعا من غيره - فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن، إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره، وهو ومن ليس من أهل اللسان، سواء.

فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي ووقف على طرقها ومذاهبها - فهو يعرف القدر الذي ينتهى إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع، ويتجاوز حدود القدرة - فليس يخفى عليه إعجاز القرآن، كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر، وكما يميز بين الشعر الجيد والردئ، والفصيح والبديع، والنادر والبارع والغريب.

وهذا كما يميز أهلُ كل صناعة صنعتهم، فيعرف الصيرفي من النقد ما يخفى على غيره، ويعرف البزاز من قيمة الثوب وجودته ورداءته ما يخفى على غيره، وإن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن أمر آخر، وربما اختلفوا فيه: لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين، والقول الرصين.

ومنهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه، وتروع بهجته ورواؤه، ويسلس مأخذه، ويسلم وجهه ومنفذه، ويكون قريب المتناول، غير عويص اللفظ، ولا غامض المعنى.

كما [ قد ] يختار قوم ما يغمض معناه، ويغرب لفظه، ولا يختار ما سهل على اللسان، وسبق إلى البيان.

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف زهيرا فقال: كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه.

وقال لعبد بنى الحسحاس حين أنشده: * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا *: أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.

وروي أن جريرا سئل عن أحسن الشعر؟ فقال: قوله:

إن الشقي الذي في النار منزله * والفوزُ فوزُ الذي ينجو من النار

كأنه فضله لصدق معناه.

ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه، حتى ربما قالوا: أحسن الشعر أكذبه، كقول النابغة:

يَقُدُّ السَّلُوقيَّ المضاعفَ نَسجُهُ * ويوقدن بالصُّفّاح نارَ الحُباحِبِ

وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين: في الغلو والاقتصاد، وفى المتانة والسلاسة.

ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة، وألطف تعملا، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعاني البديعية والقوافي الواقعة، كمذهب البحتري، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب [ في قوله ]:

في نظام من البلاغة ما شكـْ * كَ امرؤٌ أنه نظام فريد

وبديع كأنه الزهر الضا * حكُ في رونق الربيع الجديد

حُزْنَ مستعملَ الكلام اختيارا * وتجنبنَ ظلمةَ التعقيد

وركبن اللفظَ القريب فأدركـ * نَ به غاية المراد البعيد

[ كالعذارى غدون في الحلل الـ * بيض إذا رُحنَ في الخطوط السود ]

ويرون أن من تعدى هذا كان سالكا مسلكا عاميا، ولم يروه شاعرا ولا مصيبا.

وفيما كتب [ إلي ] الحسن بن عبد الله أبو أحمد العسكري، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: أخبرني عبد الله بن الحسين قال: قال لي البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين، إلى أن ذكرنا شعر أشجع [ السلمي ]، فقال لي: إنه يُخلي، وأعادها مرات، ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة ونظرت في شعره، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه: أن يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيت نادر، كما أن الرايى إذا رمى برشقة فلم يصب بشئ، قيل: قد أخلى. قال: وكان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.

وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام، الذي يجمع الغريب والمعاني، مثل أبي عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي.

ومنهم من يختار الوحشي من الشعر، كما اختار المفضل للمنصور من المفضليات، وقيل: إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.

وذكر الحسن بن عبد الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس، قال: حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد سأل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد: أيهما أشعر؟ فقال البحتري: أبو نواس أشعر. فقال عبيد الله: إن أبا العباس ثعلبا لا يطابقك على قولك، ويفضل مسلما. فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دُفع في مسلك الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضروراته. فقال له عبيد الله: ورِيَتْ بك زنادي يا أبا عبادة، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار بن برد في جرير والفرزدق، [ فإن دعبلا حدثني عن أبي نواس، أنه حضر بشارا، وقد سئل عن جرير والفرزدق، و ] أيهما أشعر؟ فقال: جرير أشعرهما. فقيل له: بماذا؟ فقال: لأن جريرا يشتد إذا شاء، وليس كذلك الفرزدق، لأنه يشتد أبدا. فقيل له: فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير. فقال: ليس هذا من عمل أولئك القوم، إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله، وفى الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار امرأته فناح عليها بقول جرير:

لولا الحياء لعادني استعبار * ولزرت قبرك والحبيب يزار

وروي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق: ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولا، ثم جاء فأنشد:

يا أختَ ناجية بن سامة إننى * أخشى عليك بَنيَّ إن طلبوا دمي

والأعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة، وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكبَ المستنكر الوحشي والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة.

وهذه طريقة من ينصف في الاختيار، ولا يعدل به غرض يخص، لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم وإظهار التقدم في معرفته وعجز غيرهم عنه، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشئ يرجع إليها في أنفسها.

ويبين هذا: أن الكلام الموضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن، و [ لا ] مستنكر المورد على النفس، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام، أو يمتنع بتعويص معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عامى اللفظ، مبتذل العبارة، ركيك المعنى، سفسافى الوضع، مجتلب التأسيس على غير أصل ممهد، ولا طريق موطد.

وإنما فضلت العربية على غيرها، لاعتدالها في الوضع. لذلك وضع أصلها على أن أكثرها [ هو ] بالحروف المعتدلة، فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها وأسقطوها من كلامهم، وجعلوا عامة لسانهم على الأعدل. ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي، لأنهم بدءوا بحرف وسكتوا على آخر، وحعلوا حرفا وُصلةً بين الحرفين، ليتم الابتداء والانتهاء على ذلك. والثنائي أقل. وكذلك الرباعي والخماسي أقل، ولو كان ثنائيا لتكررت الحروف. ولو كان كله رباعيا أو خماسيا لكثرت الكلمات.

وكذلك بني أمر الحروف التي ابتدئ بها السور على هذا: فأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف، ذكر فيها ثلاثة أحرف. وما هو أربعة أحرف سورتان. وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان.

فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه؛ فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا، وإنما جعله فعلا واسما لشئ خاص. ومن جعل ذلك حرفا قال: أراد أن يحقق الحروف مفردها ومنظومها.

ولضيق ما سوى كلام العرب أو لخروجه عن الاعتدال، يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيرا، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان يونان، وكنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشئ واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكنُ في اللغة العربية.

والعربية أشدها تمكنا، وأشرفها تصرفا وأعدلها، ولذلك جعلت حلية لنظم القرآن، وعلق بها الإعجاز، وصار دلالة في النبوة.

 

وإذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها، فما كان أقرب في تصويرها وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد وأشد تحقيقا في الإيضاح عن المطلب وأعجب في وضعه وأرشق في تصرفه وأبرع في نظمه - كان أولى وأحق بأن يكون شريفا.

وقد شبهوا النطق بالخط، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة، [ وملاحة ] ولطف، حتى يحوز الفضيلة ويجمع الكمال.

وشبهوا الخط والنطق بالتصوير، وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صور لك الباكي المتضاحك، والباكي الحزين، والضاحك المتباكي، والضاحك المستبشر. وكما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الامثلة، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان والطبع في تصوير ما في النفس للغير.

وفي جملة الكلام ما تقصر عبارته وتفضل معانيه. وفيه ما تقصر معانيه وتفضل العبارات. وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقا للآخر. ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على [ جملة وقد يفيدها على ] تفصيل. وكل واحد منهما قد ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعا شريفا، وغريبا لطيفا. وقد يكون كل واحد منهما مستجلبا متكلفا، ومصنوعا متعسفا، وقد يكون [ كل ] واحد منهما حسنا رشيقا، وبهيجا نضيرا. وقد يتفق أحد الأمرين دون الآخر. وقد يتفق أن يسلم الكلام والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما. [ و ] إنما يميز من يميز، ويعرف من يعرف. والحكم في ذلك صعب شديد، والفصل فيه شأو بعيد.

وقد قل من يميز أصناف الكلام، فقد حكى عن طبقة أبي عبيدة وخلف الاحمر وغيرهما في زمانهما، أنهم قالوا: ذهب من يعرف نقد الشعر.

وقد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار، وما يجب أن يجمعوا عليه ويرجعوا عند التحقيق إليه، فكلام المقتدر نمط، وكلام المتوسط باب، وكلام المطبوع له طريق، وكلام المتكلف له منهاج، والكلام المصنوع المطبوع له باب.

ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة، لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم تشتبه عنده هذه الطرق: فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحله محله، ويعتقد فيه ما هو عليه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم.

وإن كان المتكلم يجود في شئ دون شئ، عرف ذلك منه. وإن كان يعم إحسانه، عرف.

ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يجود في الهجو وحده، ومنهم من يجود في المزح والسخف، ومنهم من يجود في الأوصاف.

والعالم لا يشذ عنه [ شئ من ذلك، ولا تخفى عليه ] مراتب هؤلاء، ولا تذهب عليه أقدارهم، حتى إنه إذا عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة، فأُنشِد غيرها من شعره - لم يشك أن ذلك من نسجه، ولم يرتب في في أنها من نظمه، كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه حيث رآه من بين الخطوط المختلفة، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره، وكذلك أمر الخطب.

فإن اشتبه عليه البغض، فهو لاشتباه الطريقين، وتماثل الصورتين، كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري: في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع، ويقصد فيه التسهل، ويسلك الطريقة الكتابية، ويتوجه في تقريب الألفاظ وترك تعويض المعاني، ويتفق له مثل بهجة أشعار البحتري وألفاظه.

ولا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة سَبْكُ أبي نواس [ من سبك مسلم ]، ولا نسجُ ابن الرومي من نسج البحتري؛ وينبهه ديباجة شعر البحتري وكثرة مائه وبديع رونقه وبهجة كلامه، إلا فيما يسترسل فيه، فيشتبه بشعر ابن الرومي؛ ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة والرشاقة والسلاسة، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم.

وكذلك يميز بين شعر الأعشى في التصرف، وبين شعر امرئ القيس، وبين شعر النابغة وزهير، وبين شعر جرير والأخطل، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف، وطريق مألوف.

ولا يخفى عليه في زماننا الفصل بين رسائل عبد الحميد وطبقته وبين طبقة من بعده، حتى إنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن العميد وبين رسائل أهل عصره ومن بعده من برع في صنعة الرسائل وتقدم في شأوها، حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين وطريقة المتأخرين، [ و ] حتى خلص لنفسه طريقة، وأنشأ لنفسه منهاجا، فسلك تارة طريقة الجاحظ وتارة طريقة السجع، وتارة طريقة الاصل، وبرع في ذلك باقتداره، وتقدم بحذقه؛ ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق غيره، وإن كان قد يشتبه البعض، ويدق القليل، وتغمض الأطراف، وتشذ النواحي.

وقد يتقارب سبك نفر من شعراء عصر، وتتدانى رسائل كتاب دهر، حتى تشتبه اشتباها شديدا وتتماثل تماثلا قريبا، فيغمض الأصل.

وقد يتشاكل الفرع والأصل، وذلك فيما لا يتعذر دِراك أمَدِه، ولا يتصعب طِلابُ شأوه، ولا يمنع بلوغ غايته والوصول إلى نهايته، لأن الذي يتفق من الفصل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا [ في سبق ] وتفاوتوا في مضمار، فصل قريب وأمر يسير.

وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ و [ لا ] سارق المعاني، ولا من يخترعها، ولا من يلم بها، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به، ولا من يخترع الكلام اختراعا، ويبتدهه ابتداها، ممن يُروّي فيه، ويجيل الفكر في تنقيحه، ويصبر عليه، حتى يتخلص له ما يريد، وحتى يتكرر نظره فيه.

قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو يقول: زهير والحُطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين.

وكان زهير يسمي كبر شعره الحوليات المنقحة. وقال عدى ابن الرقاع:

وقصيدة قد بت أجمع بينها * حتى أقوم ميلها وسنادها

نظر المثقف في كعوب قناته * حتى يقيم ثقافة منادها

وكقول سويد بن كُراع:

أبِيتُ بأبواب القوافي كأنما * أصادي بها سربا من الوحش نُزَّعا

ومنهم من يُعرف بالبديهة وحدة الخاطر ونفاذ الطبع وسرعة النظم، يرتجل القول ارتجالا ويطبعه عفوا صفوا، فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا وكدوا أنفسهم، وجاهدوا خواطرهم.

وكذلك لا [ يمكن أن ] يخفى عليهم الكلام العُلوي، واللفظ الملوكي، كما لا يخفى عليهم الكلام العامي، واللفظ السوقي؛ ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلا، ويعطفونه - كيف تصرف - حقوقه، ويعرفون مراتبه؛ فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم، من الوجه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يساهمه سواه.

ألا تراهم وصفوا زهيرا بأنه أمدحهم وأشدهم أسرَ شِعر، قاله أبو عبيدة.

وروي أن الفرزدق انتحل بيتا من شعر جرير، وقال: هذا يشبه شعري.

فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم من المعرفة بهذا الشأن، وهذا كما يعلم البزاز أن هذا الديباج عمل بتُسْتَرَ، [103] وهذا لم يعمل بتستر، وأن هذا من صنعة فلان دون فلان، ومن نسج فلان دون فلان، حتى لا يخفى عليه، وإن كان قد يخفى على غيره.

ثم إنهم يعلمون أيضا من له سمت بنفسه، ورفت برأسه، ومن يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره، ويجعل سواه قدوة له، ومن يلم في الاحوال بمذهب غيره، ويطور في الأحيان [ بجنبات كلامه ].

وهذه أمور ممهدة عند العلماء، وأسباب معروفة عند الأدباء، وكما يقولون: إن البحتري يغير على أبي تمام إغارة، ويأخذ منه صريحا وإشارة، ويستأنس بالأخذ منه بخلاف ما يستأنس بالأخذ من غيره، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه، وكما كان أبو تمام يلم بأبي نواس ومسلم، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد ولا يتحاشى، ويؤلف ما يقوله من فرق شتى.

وما الذي نفع المتنبي جحوده الأخذ وإنكاره معرفة الطائيين، وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهارا، أو ألم بهما فيه سرارا.

وأما ما لم يأخذ عن الغير، ولكن سلك النمط وراعى النهج، فهم يعرفونه، ويقولون: هذا أشبه به من التمر بالتمرة، وأقرب إليه من الماء إلى الماء، وليس بينهما إلا كما بين الليلة والليلة، فإذا تباينا وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه وسلك في غير جانبه، قيل: بينهما ما بين السماء والأرض، وما بين النجم والنون، وما بين المشرق والمغرب.

 

وإنما أطلت عليك، ووضعت جميعه بين يديك، لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله، وغامضه وجليه، وقريبه وبعيده، ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول، وهو قريب متناول، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم، ويبعد عما هو في عرفهم، ويفوت مواقع قدرهم؟

وإذا اشتبه ذلك، فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه ويديرونه بينهم ولا يتجاوزونه. فلكلامهم سبل مضبوطة، وطرق معروفة محصورة.

وهذا كما يشتبه على من يدعي الشعرَ - من أهل زماننا - والعلمَ بهذا الشأن، فيدعي أنه أشعر من البحتري، ويتوهم أنه أدق مسلكا من أبي نواس، وأحسن طريقا من مسلم! وأنت تعلم أنهما متباعدان، وتتحقق أنهما لا يجتمعان؛ ولعل أحدهما إنما يلحظ غبار صاحبه ويطالع ضياء نجمه ويراعي خفوق جناحه وهو راكد في موضعه، ولا يضر البحتريَّ ظنُّه، ولا يُلحقه بشأوِه وهمُه.

فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مُرمد فصاحةُ القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته، فما عليك منه؛ إنما يخبر عن نقصه، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله.

وإنما قدمنا ما قدمناه في هذا الفصل، لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن وعجيب نظمه وبديع تأليفه، أمر لا يجوز غيره، ولا يحتمل سواه، ولا يشتبه على ذي بصيرة، ولا يخيل عند أخي معرفة، كما يعرف الفصل بين طبائع الشعراء من أهل الجاهلية، وبين المخضرمين، وبين المحدثين، ويميز بين من يجرى على شاكلة طبعه وغريزة نفسه، وبين من يشتغل بالتكلف والتصنع، وبين من يصير التكلف له كالمطبوع، وبين من كان مطبوعه كالمتعمل المصنوع.

هيهات هيهات! هذا أمر - وإن دق - فله قوم يقتلونه علما، وأهل يحيطون به فهما، ويعرّفونه إليك إن شئت، ويصورونه لديك إن أردت، ويجلونه على خواطرك إن أحببت، ويعرفونه لفطنتك إن حاولت، وقد قال القائل:

للحرب والضرب أقوام لها خلقوا * وللدواوين كتاب وحساب

ولكل عمل رجال، ولكل صنعة ناس، وفى كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط، ولكل قد قل من يميز في هذا الفن خاصة، وذهب من يحصل في هذا الشأن، إلا قليلا.

فإن كنت ممن هو بالصفة التي وصفناها - من التناهي في معرفة الفصاحات، والتحقق بمجاري البلاغات - فإنما يكفيك التأمل، ويغنيك التصور.

وإن كنت في الصنعة مُرمِدا وفى المعرفة بها متوسطا، فلا بد لك من التقليد، ولا غنى بك عن التسليم. إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها.

فإن أراد أن نقرب عليه أمرا، ونفسح له طريقا، ونفتح له بابا - ليعرف به إعجاز القرآن - فإنا نضع بين يديه الامثلة، ونعرض عليه الأساليب، ونصور له صور كل قبيل من النظم والنثر، ونحضره من كل فن من القول شيئا يتأمله حق تأمله، ويراعيه حق رعايته، فيستدل استدلال العالم، ويستدرك استدراك الناقد، ويقع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية، الطالع عن الإلهية، الجامع بين الحكم والحكم، والإخبار عن الغيوب والغائبات، والمتضمن لمصالح الدنيا والدين، والمستوعب لجلية اليقين، والمعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة وفروعها بالألفاظ الشريفة، على تفننها وتصرفها.

ونعمد إلى شئ من الشعر المجمع عليه، فنبين وجه النقص فيه، وندل على انحطاط رتبته، ووقوع أبواب الخلل فيه. حتى إذا تأمل ذلك، وتأمل ما نذكره من تفصيل إعجاز القرآن وفصاحته وعجيب براعته انكشف له واتضح، وثبت ما وصفناه لديه ووضح، وليعرف حدود البلاغة، ومواقع البيان والبراعة ووجه التقدم في الفصاحة.

وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين أن الفارسي سئل فقيل له: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل.

وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.

وسئل الرومي عنها فقال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة.

وسئل الهندي عنها فقال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.

وقال مرةً: التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني أو غمض وشرد من اللفظ وتعذر؛ وزينته أن تكون الشمائل موزونة، والألفاظ معدلة، واللهجة نقية؛ وأن لا يكلم سيد الأَمة بكلام الأمة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة؛ ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، و [ لا ] يصفيها كل التصفية، و [ لا ] يهذبها بغاية التهذيب.

وأما البراعة فهي فيما يذكر أهل اللغة: الحذق بطريقة الكلام وتجويده، وقد يوصف بذلك كل متقدم في قول أو صناعة.

وأما الفصاحة فقد اختلفوا فيها: فمنهم من عبر عن معناها بأنه: ما كان جزل اللفظ، حسن المعنى. وقد قيل: معناها الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس، على عبارات جلية، ومعان نقية بهية.

 

والذي يصور عندك ما ضمنا تصويره، ويحصل لديك معرفته - إذا كنت في صنعة الأدب متوسطا، وفى علم العربية متبينا - أن تنظر أولا في نظم القرآن، ثم في شئ من كلام النبي ﷺ، فتعرف الفصل بين النظمين، والفرق بين الكلامين. فإن تبين لك الفصل، ووقعت على جلية الأمر وحقيقة الفرق - فقد أدركت الغرض، وصادفت المقصد. وإن لم تفهم الفرق، ولم تقع على الفصل - فلا بد لك من التقليد، وعلمت أنك من جملة العامة، وأن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان.

خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم

روى طلحة بن عبيد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يخطب على منبره يقول:

"ألا أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم - بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية - ترزقوا وتؤجروا وتنصروا.

واعلموا أن الله عز وجل قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في عامي هذا، في شهري هذا، إلى يوم القيامة، حياتي ومن بعد موتي؛ فمن تركها وله إمام فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره؛ ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا بر له.

ألا ولا يؤم أعرابي مهاجرا، ألا ولا يؤم فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه ولا سوطه". [104]

خطبة له صلى الله عليه وسلم

"أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم.

إن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله تعالى قاض عليه فيه.

فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت.

والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار". [105]

خطبة له صلى الله عليه وسلم

" إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. [106]

إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه.

أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تَقْسُوا عليه قلوبكم، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. اتقوا الله حق تقاته، وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، والسلام عليكم ورحمة الله". [107]

خطبة له صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق

قال بعد حمد الله: "أيها الناس، أتدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟

قالوا: في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام.

قال: ألا فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه.

ثم قال: اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا.

ثم قال: اسمعوا مني تعيشوا؛ ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا.

ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.

ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه. ألا وإن أول دم وضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - كان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل -.

ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع، ألا وإن الله تعالى قضى أن أول ربا يوضع ربا عمي العباس؛ لكم { رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }.

ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض [108] { منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم }.

ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. [109]

ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينكم. [110]

اتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، [111] لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا، ولكم عليهن حق: أن لا يوطئن فرشكم أحدا غيركم، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فإنما أخذتموهن بأمانة الله تعالى واستحللتم فروجهن بكلمة الله.

ألا ومن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.

ثم بسط يده فقال: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أبلغ من سامع". [112]

خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة

وقف على باب الكعبة، ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدّعى فهو تحت قدمى هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.

ألا وقتيل الخطإ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة، منها أربعون خَلِفة، [113] في بطونها أولادها. [114]

يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء؛ الناس من آدم، وآدم خلق من تراب. [115] ثم تلا هذه الآية: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }.

يا معشر قريش، أو يا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ [ كريم. ثم ] قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء". [116]

خطبته صلى الله عليه وسلم بالخيف

وروى زيد بن ثابت: أن النبي ﷺ خطب بالخيف من مِنًى، فقال:

"نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها؛ فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاث لا يُغِلُّ [117] عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأولي الأمر، ولزوم الجماعة، إنّ دعوتهم تكون من ورائه. [118]

ومن كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.

ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له". [119]

خطبة له صلى الله عليه وسلم رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه

قال: خطب بعد العصر فقال: "ألا إن الدنيا خَضِرة حُلْوة؛ [120] ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء.

ألا لا يمنعن رجلا مخافةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه. [121]

قال: ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف، فقال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى". [122]

كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك فارس

"من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله تعالى، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويَحِقَّ القولُ على الكافرين. فأسلم تسلم". [123]

كتاب له صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

"من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة: سِلمٌ أنت، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة، فحملت بعيسى، فحملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني. وإني أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي. والسلام على من اتبع الهدى". [124]

نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية

"هذا [125] ما صالح عليه محمد بن عبد الله ﷺ سُهيلَ ابن عمرو: اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله ﷺ من قريش بغير إذن وليه رده عليهم. ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله ﷺ لم يردوه عليه؛ وأن بيننا عيبة مكفوفة؛ [126] وأنه لا إسلالَ، ولا إغلال؛ [127] وأنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله ﷺ وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه، وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عاما قابلا خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، وأن معك سلاح الراكب والسيوف في القرب، [128] فلا تدخلها بغير هذا". [129]

 

ولا أطولُّ عليك، وأقتصرُ على ما ألقيته إليك، فإن كان لك في الصنعة حظ، أو كان لك في هذا المعنى حس، أو كنت تضرب في الأدب بسهم، أو في العربية بقسط - وإن قل ذلك السهم أو نقص ذلك النصيب - فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول ﷺ في خطبه ورسائله، وما عساك تسمعه من كلامه، ويتساقط إليك من ألفاظه؛ وأُقدِّرُ أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا، وأمدا مديدا، وميدانا واسعا، ومكانا شاسعا.

 

فإن قلت: لعله أن يكون تعمل للقرآن وتصنع لنظمه وشبه عليك الشيطان ذلك من خبثه؛ فتثبت في نفسك، وارجع إلى عقلك، واجمع لبك، وتيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام، والمحافل الكبار، والمواسم الضخام، ولا يتجوز فيها، ولا يستهان بها، والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه، [130] ويشمر لها عن جد واجتهاد، فكيف يقع بها الإخلال؟ وكيف تعرض للتفريط؟ فستعلم لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي، وأن كلام النبي ﷺ من الأمر النبوي.

فإذا أردت زيادة في التبين وتقدما في التعرف وإشرافا على الجلية وفوزا بمحكم القضية، فتأمل - هداك الله - ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبي ﷺ واحد، وسبكها سبك غير مختلف؛ وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين وبين شعر الشاعرين، وذلك أمر له مقدار معروف، وحد ينتهى إليه مضبوط.

فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج ولجملته طريق، وتبينت ما يمكن فيه من التفاوت، نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى وتأملته مرة ثانية، فتُراعى بُعدَ موقعه وعاليَ محله وموضعه، وحَكَمتَ بواجب من اليقين وثَلَجِ [131] الصدر بأصل الدين.

خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه

قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد، فإني وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسن النبي ﷺ، وعلَّمنا فعَلِمنا.

واعلموا أن أكيس الكيس التُّقَى، وأن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق.

أيها الناس، إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زُغت فقوموني".

عهد لأبي بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنهما

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله ﷺ، آخرَ عهده بالدنيا وأولَ عهده بالآخرة، ساعةَ يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر.

إني استخلفتُ عليكم عمر بن الخطاب، فإن بَرَّ وعَدَلَ: فذاك ظني به ورأيي فيه، وإن جارَ وبدَّل فلا علم لي بالغيب، والخيرَ أردتُ لكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الاثم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 

وفي حديث عبد الرحمن بن عوف رحمة الله عليه، قال:

دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في علته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئا يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني - على ذلك - لشديد الوجع، ولَمَا لقيتُ منكم - يا معشر المهاجرين - أشد علي من وجعي.

إني ولَّيتُ أمورَكم خيرَكم في نفسي، فكلُّكم وَرِمَ أنفُه [132] أن يكون له الأمرُ من دونه.

والله لتتخذن نضائد [133] الديباج وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي، [134] كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان. [135] والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا.

يا هادي الطريق جرت،[136] إنما هو - والله - الفجر أو البجر. [137]

قال: فقلت: خَفِّضْ عليك يا خليفة رسول الله - ﷺ - فإن هذا يهيضك [138] إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحا مصلحا، لا تأسى على شئ فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك، فما رأيت إلا خيرا.

وله خطب ومقامات مشهورة اقتصرنا منها على ما نقلنا، منها قصة السقيفة.

 

نسخة كتاب كتبه أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم

سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.

أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مُهِمّ، فأصبحت وقد وليت أمر هذه الامة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الصديق والعدو، والشريف والوضيع، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت - يا عمر - عند ذلك، فإنا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه، وتَجِبُ فيه القلوب.

وإنا كنا نتحدث أن أمر هذه الامة يرجع في آخر زمانها: أن يكون إخوانُ العلانية أعداءَ السريرة، وإنا نعوذ بالله أن تنزل كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة لك، والسلام.

فكتب إليهما:

من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل:

سلام عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو. [139]

أما بعد، فقد جاءني كتابكما، تزعمان أنه بلغكما أني وليت أمر هذه الامة: أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الصديق والعدو، والشريف والوضيع، وكتبتما أن انظر كيف أنت يا عمر عند ذلك. وإنه لا حول ولا قوة لعمر - عند ذلك - إلا الله.

وكتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا، وقديما كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس: يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم، من الجنة أو النار، ثم توفى كل نفس بما كسبت، إن الله سريع الحساب.

وكتبتما تزعمان أن أمر هذه الامة يرجع في آخر زمانها: أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بذاك، وليس هذا ذلك الزمان، ولكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة والرهبة، فتكون رغبة بعض الناس إلى بعض إصلاح دينهم، ورهبة بعض الناس إصلاح دنياهم.

وكتبتما تعوذانني بالله أن أنزل كتابكما منى سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما، وإنما كتبتما نصيحة لي، وقد صدقتكما، فتعهداني منكما بكتاب، ولا غنى بي عنكما.

عهد من عهود عمر رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدِ الله عمرَ بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس: [140] سلام عليك.

أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدليَ إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.

آسِ [141] بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، [142] ولا ييأس ضعيف من عدلك.

البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.

والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا.

ولا يمنعنَّك قضاء قضيته بالأمس - فراجعت فيه عقلك، وهديت لرشدك - أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.

الفهم الفهم، فيما تلجلج في صدرك [143] مما ليس في كتاب ولا سنة؛ ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقِسِ الأمور عند ذلك، واعمِد إلى أشبهها بالحق.

واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة - أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذتَ له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعَمَى.

المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب. [144] فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالأيمان والبينات. [145]

وإياك والغلق [146] والضجر، والتأذى بالخصوم، والتنكر عند الخصومات؛ [147] فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله. [148] فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه، وخزائن رحمته؛ والسلام.

ولعمر رضي الله عنه خطب مشهورة مذكورة في التاريخ، لم ننقلها اختصارا.

 

ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه

خطبة له رضي الله عنه

قال: إن لكل شئ آفة، وإن لكل نعمة عاهة؛ وإن عاهة هذا الدين عيابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون؛ طغام [149] مثل النعام، يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم النازح.

لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم علي، ولكنه وَقَمَكُم وقَمَعَكم، وزجركم زجر النعام المخزمة. [150] والله إني لأقرب ناصرا، وأعز نفرا، [151] وأقْمَنُ - إن قُلتُ: هَلُمَّ - أن تجاب دعوتي، من عمر.

هل تفقدون من حقوقكم شيئا، فما لي لا أفعل في الحق ما أشاء، إذا فلم كنت إماما.

كتابه إلى علي حين حُصِرَ رضي الله عنهما

أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، [152] وطمع فيَّ من لا يدفع عن نفسه. فإذا أتاك كتابي هذا: فأقبل إلى، على كنت أم لي.

فإن كنتُ مأكولا فكن خير آكل * وإلا فأدركني ولما أمزق [153]

 

ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قال: لما قبض أبو بكر رضي الله عنه ارتجت المدينة بالبكاء، كيوم قبض النبي ﷺ، وجاء على باكيا مسترجعا، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر، فقال:

رحمك الله أبا بكر، كنتَ إلفَ رسول الله ﷺ وأُنسَه وثقته وموضع سره، كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله، وأحوطهم على رسول الله، وأثبتهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله [154] ﷺ سَننًا وهديا ورحمة وفضلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده.

فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرا، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر.

صَدَّقتَ رسول الله ﷺ حين كذبه الناس، فسماك في تنزيله صديقا، فقال: { والذي جاء بالصدق وصدق به }.

واسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أكرم الصحبة، ثاني اثنين وصاحبه في الغار، [155] والمنزل عليه السكينة والوقار، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وفى أمته - أحسن الخلافة - حين ارتد الناس، فنهضت حين وهن أصحابك، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، [156] مضيت بنور إذ وقفوا، واتبعوك فهدوا.

وكنت أصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وأكثرهم رأيا، وأشجعهم نفسا، وأعرفهم بالأمور، وأشرفهم عملا.

كنت للدين يعسوبا، [157] أولا حين نفر عنه الناس، وآخرا حين قفلوا. [158] وكنت للمؤمنين أبا رحيما، إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما ضعفوا عنه، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا؛ شمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا.

وكنت كما قال رسول الله ﷺ أَمَنَّ الناس عليه في صحبتك وذات يدك، وكنت كما قال ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في أعين الناس، كبيرا في أنفسهم.

لم يكن لاحد فيك مغمز، ولا لاحد مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز، حتى تأخذ له بحقه، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل، حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله.

شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأبلغت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفأتَ النيران، واعتدل بك الدين، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا وفزت بالخير فوزا عظيما، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الايام فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله ﷺ بمثلك أبدا، فألحقك الله بنبيه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.

وسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.

 

خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه

أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم، وغدا السباق.

ألا وإنكم في أيام مَهَل، ومن ورائه أجل، فمن أخلص في أيام مهله فقد فاز، ومن قصر في أيام مهله، قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أمله.

ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة.

ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.

ألا وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يَجُرْ به الضلال.

ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد.

ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الامل. [159]

 

وخطب رضي الله عنه، فقال بعد حمد الله:

أيها الناس، اتقوا الله، فما خُلق امرؤ عبثا فيلهو، ولا أُهمل سُدًى فيلغو، ما دنياه التي تحسنت إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر إليه، وما الخسيس الذي ظفر به - من الدنيا - بأعلى همته، كالآخر الذي ذهب من الآخرة من سهمته. [160]

 

وكتب على رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس رحمة الله عليهما وهو بالبصرة:

أما بعد، فإن المرء يُسَرُّ بدَركِ ما لم يكن ليحرمه، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه؛ فليكن سرورك بما قدمت من أجر أو منطق، وليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك.

وانظر ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه جزعا، وما نلته فلا تنعم به فرحا، وليكن همك لِما بعد الموت.

كلام لابن عباس رضي الله عنه

قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس: ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبي موسى يوم الحكمين؟

قال: منعه - والله - من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء.

أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه، ناقضا لما أبرم، ومبرما لما نقض، أُسِفُّ إذا طار، وأطير إذا أسفَّ، ولكن مضى قدرٌ، وبقي أسفٌ، ومع يومنا غد، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولى.

 

خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه

أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى؛ خير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة النبي محمد ﷺ؛ خير الأمور أوساطها، وشر الأمور محدثاتها؛ ما قل وكفى خير مما كثر وألهى؛ خير الغنى غنى النفس، وخير ما أُلقي في القلب اليقينُ؛ الخمر جماع الإثم، النساء حِبَالة الشيطان، الشباب شُعبة من الجنون؛ حب الكفاية مفتاح المَعجَزة؛ مِن الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا، ولا يذكر الله إلا هُجرا؛ أعظم الخطايا اللسان الكذوب؛ سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية؛ مَن يَتَأَلَّ على الله يكذبه؛ [161] من يغفر يغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من وُعظ بغيره، الأمور بعواقبها. ملاك العمل خواتيمه، أشرف الموت الشهادة؛ من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره.

 

خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

قال الراوي: لما حضرته الوفاة قال لولي له: من بالباب؟ فقال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! فقال: ويحك، ولم؟ ثم أذن للناس، فحمد الله وأثنى عليه فأوجز، ثم قال:

أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوا؛ لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا. فالناس على أربعة أصناف:

منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلال حده ونضيض وفره.

ومنهم المصلت لسيفه، [162] والمجلب برجله، [163] والمعلن بشره، قد أشرط نفسه، [164] وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب [165] يقوده أو منبر يفرعه، [166] وبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا.

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا؛ قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.

ومنهم من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه وانقطاع سببه، فقصر به الحال عن حال، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهاد، وليس من ذلك في مراح ولا مَغدًى.

وبَقي رجالٌ أغض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادٍّ، [167] وخائف منقمع، [168] وساكت مكعوم، [169] وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، في بحر أجاج، أفواههم دامية، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا.

فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من حتاتة القرظ، [170] وقراضة الجلم، [171] واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، فارفضوها ذميمة، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون؛ فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم.

يا أيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب. [172]

خطبة للحجاج بن يوسف

حمد الله وأثنى عليه، [173] ثم قال:

يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقع بالقرقر؛ [174] إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان، وإنما مثلي ومثلكم ما قاله ابن براقة الهمداني:

وكنتُ إذا قوم غزوني غزوتُهم * فهل أنا في ذا، يا لهمدان، ظالمُ

متى تجمعِ القلبَ الذكي وصارِما * وأنفا حميا، تجتنبك المظالمُ

أما والله لا تَقرعُ عصًا عصًا إلا جعلتُها كأمس الدابر.

خطبة لقس بن ساعدة الإيادي

أخبرني محمد بن على الأنصاري بن محمد بن عامر، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن داود بن عبد الرحمن العمري، قال: حدثنا الأنصاري علي بن محمد الحنظلي - من ولد حنظلة الغسيل - حدثنا جعفر بن محمد، عن محمد بن حسان، [175] عن محمد بن حجاج اللخمي، [176] عن مجالد، [177] عن الشعبي، عن ابن عباس، قال:

لما وفد وفد عبد القيس على رسول الله ﷺ قال: أيكم يعرف قُسّ بن ساعدة؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله. [178]

قال: لست أنساه بعكاظ، إذ وقف على بعير له أحمر، فقال: أيها الناس اجتمعوا، وإذا اجتمعتم فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا؛ من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.

أما بعد، فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أَقسَم بالله قُسٌّ قسما حقا لا كاذبا فيه ولا آثما، لئن كان في الأرض رضًا ليكونن سخطا، إن لله تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، وقد أتاكم أوانه، ولحقتكم مدته.

ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا؟

ثم قال رسول الله ﷺ: أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه:

في الذاهبين الأوليـ * ن من القرون لنا بصائرْ

لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يسعى الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إليْـ * يَ ولا من الباقين غابر

أيقنتُ أني لا محا * لة حيثُ صار القوم صائر

 

أخبرني الحسن بن عبد الله بن سعيد، حدثنا علي بن الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا عبيد الله بن الضحاك، عن هشام عن أبيه: أن وفدا من إياد قدموا على رسول الله ﷺ، فسألهم عن حال قس ابن ساعدة، فقالوا: قال قس:

يا ناعي الموت والأموات في جدث * عليهم من بقايا بَزِّهِم خِرَقُ

دَعهُم فإن لهم يوما يصاح بهم * كما ينبه من نوماته الصَّعِق

منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها الأورَقُ الخَلَق

مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت. وآيات في إثر آيات، وأموات بعد أموات. ضوء وظلام، وليال وأيام، وغني وفقير، وشقي وسعيد، ومحسن ومسئ. أين الارباب الفعلة؟ ليصلحن كل عامل عمله.

كلا، بل هو الله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا.

أما بعد، يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والاجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ أين الظلم الذي لم ينقم؟ كلا ورب الكعبة ليعودن ما بدا، ولئن ذهب يوم ليعودن يوم.

قال: وهو قس بن ساعدة بن حذاق بن ذهل بن إياد بن نزار، أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ على عصا، وأول من تكلم ب "أما بعد".

خطبة لأبي طالب

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكام على الناس.

وإن محمد بن عبد الله، ابن أخي، لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به بركة وفضلا وعدلا ومجدا ونبلا، وإن كان في المال مُقِلا، فإن المال عارية مسترجعة وظل زائل، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أردتم من الصداق فعليَّ. [179]

 

قد نسخت لك جملا من كلام الصدر الأول ومحاوراتهم وخطبهم، وأحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ والكتب المصنفة في هذا الشأن. فتأمل ذلك وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف، وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن، والألفاظ المنثورة، والمخاطبات الدائرة بينهم، والأمثال المنقولة عنهم.

ثم انظر - بسكون طائر، وخفض جناح، وتفريغ لب، وجمع عقل - في ذلك، فسيقع لك الفصل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين، وتعلم الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ والبليغ، والخطيب والخطيب، والشاعر والشاعر، وبين نظم القرآن جملة.

فإن خيل إليك أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب، وأبرع من الرسائل، وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات - ولذلك قالوا له ﷺ: هو شاعر أو ساحر - وسوّل إليك الشيطان أن الشعر أبلغ وأعجب، وأرق وأبرع، وأحسن الكلام وأبدع - فهذا فصلٌ فيه نظرٌ بين المتكلمين، وكلام بين المحققين.

باب

سمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة مع تقدمه في الكلام يقول:

إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر، لأن الشعر يضيّق نطاق الكلام، ويمنع القول من انتهائه، ويصده عن تصرفه على سَنَنه.

وحَضَره من يتقدم في صنعة الكلام، فراجعه في ذلك، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة، وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة.

ويشهد عندي للقول الأخير: أن معظم براعة كلام العرب في الشعر، ولا نجد في منثور قولهم ما نجد في منظومه، وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب، ولم ينقل في دواوينهم وأخبارهم.

وهو، وإن ضيّق نطاق القول، فهو يجمع حواشيه ويضم أطرافه ونواحيه، فهو إذا تهذب في بابه ووفى له جميع أسبابه - لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب.

وقد حُكي عن المتنبي أنه كان ينظر في المصحف، فدخل إليه بعض أصحابه، فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده، فقال له: هذا المكي على فصاحته كان مُفحما.

فإن صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده عُرِف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر [ أمكن و ] أبلغ.

وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم ويتقدم في بلاغته على كل قول، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ويتبين به بيان الصبح - وقفت على جلية هذا الشأن. فانظر فيما نعرضه عليك، وتصور بفهمك ما نصوره، ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن، وتأمل ما نرتبه، ينكشف لك الحق.

إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها، وصحة نظمها، وجودة بلاغتها، ورشاقة معانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع، يقرن بينه وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقي، يقرن بلفظ ملوكي، وغير ذلك من الوجوه التي يجئ تفصيلها، ونبين ترتيبها وتنزيلها.

 

فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن، فهو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه.

وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضَلَّ، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع! ومن نظر فيما نقلناه عنه وفهم موضع جهله، كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم وآتاه من علم.

فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء: "والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم "! وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه!

وقال أيضا: "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس"!

وكان يقول: "والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبهانها، والشاة السوداء، واللبن الابيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون"!

وكان يقول: "ضِفدَع بنت ضفدعين، نِقّي ما تَنِقّين، أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون "!

وكان يقول: "والمبديات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المَدَر، ريفكم فامنعوه، والمُعتَرَّ فآووه، والباغي فناوئوه."

وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان - وكانت تتنبأ، فاجتمع مسيلمة معها - فقالت له: ما أوحي إليك؟

فقال: "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحَشا"!

وقالت: فما بعد ذلك؟ قال: أوحي إلى: "إن الله خلق النساء أفواجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قَعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا، فينتجن لنا سِخالا نِتاجا"!

فقالت: أشهد أنك نبي!

ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهية التثقيل.

وروى: أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواما قدموا عليه من بنى حنيفة، عن هذه الألفاظ؟ فحكوا بعض ما نقلناه، فقال أبو بكر: سبحان الله! ويحكم، إن هذا الكلام لم يخرج عن إلٍّ، فأين كان يذهب بكم؟

ومعنى قوله: "لم يخرج عن إل": أي عن ربوبية.

ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام. [180]

 

فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الاشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع أنواع البلاغة، وتستدل على مواضع البراعة.

وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها، من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يصل بذلك: من البديع الذي أبدعه، والتشبيه الذي أحدثه، والمليح الذي تجد في شعره، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه: من صناعة وطبع، وسلاسة وعفو، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد، وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا، ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه، أو سوّوا بينهم وبينه، أو قربوا موضع تقدمه عليهم، وبرزوه بين أيديهم.

ولما اختاروا قصيدته في السبيعيات، [181] أضافوا إليها أمثالها وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون: لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته، وربما غبّرت في وجهه في أشياء كثيرة، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.

وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره، كان أمرا محصورا، وشيئا معروفا. أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، ومتانته إلى عذوبته، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته، حتى إن منهم من إن قصر عنه في بعض تقدم عليه في بعض، [ وإن وقف دونه في حال، سبقه في أحوال، وإن تشبه به في أمر، ساواه في أمور ]؛ لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه، هو مما للآدمي فيه مجال، وللبشرى فيه مثال؛ فكل يضرب فيه بسهم، ويفوز فيه بقدح، ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا، وتتباين تباينا، وقد تتقارب تقاربا، على حسب مشاركتهم في الصنائع، ومساهمتهم في الحرف.

ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص، وقَبيلٌ عن النظير متخلص. فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره، على التفصيل. وذلك قوله:

قَفا نَبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ * بسِقْط اللِّوى بين الدخول فَحَوْمَل

فَتُوضِحَ فالمِقراةِ لم يَعفُ رسمُها * لِما نَسَجَتْها مِن جنوبٍ وشَمأَلِ

الذين يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر، يقولون: هذا من البديع، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واستوجع، كله في بيت؛ ونحو ذلك.

وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا على مواضع المحاسن، إن كانت، ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة، إن وجدت.

تأمل أرشدك الله وانظر هداك الله: أنت تعلم أنه ليس في البيتين شئ قد سبق في ميدانه شاعرا، ولا تقدم به صانعا. وفي لفظه ومعناه خلل:

فأول ذلك: أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخَلِيِّ، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا، على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة بُرَحائه، فأما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه، فأمر محال.

فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضا عاشقا، صح الكلام [ من وجه ]، وفسد المعنى من وجه آخر! لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه!

ثم في البيتين ما لا يفيد، من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن: من "الدَّخول" و "حومل" و "تُوضِح" و "المِقراة" و "سِقْط اللوى"، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربا من العي.

ثم إن قوله: "لم يعف رسمها"، ذكر الأصمعي من محاسنه: أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا.

وهذا بأن يكون من مساويه أولى، لأنه إن كان صادق الود، فلا يزيده عَفاءُ الرسوم إلا جِدّة عهد، وشدة وَجْد. وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشيةَ أن يعاب عليه فيقال: أي فائدة لأن يُعرفنا أنه لم يعفُ رسم منازل حبيبه، وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلصه - بانتصاره له - من الخلل.

ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقّب البيت بأن قال: * فهل عند رسم دارس من معول * فذكر أبو عبيدة: أنه رجع فأكذب نفسه، كما قال زهير:

قِف بالديار التي لم يَعفُها القِدم * نعم، وغيَّرها الأرواحُ والديَم [182]

وقال غيره: أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله، وبالثاني أنه ذهب بعضه، حتى لا يتناقض الكلامان.

وليس في هذا انتصار، لأن معنى "عفا" و "درس" واحد، فإذا قال: "لم يعف رسمها" ثم قال: "قد عفا"، فهو تناقض لا محالة.

واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله زهير، فهو إلى الخلل أقرب.

وقوله: "لما نسجتها"، كان ينبغى أن يقول: "لما نسجها " ولكنه تعسف فجعل "ما" في تأويل تأنيث، لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد قادته إلى هذا التعسف.

وقوله: "لم يعف رسمها" كان الأولى أن يقول: "لم يعف رسمه" لأنه ذكر المنزل، فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل، لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه، بعفائه، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره.

وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث، فذلك أيضا خلل.

ولو سَلِمَ من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما.

 

ثم قال: وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون: لا تهلك أسًى وتحملِ

وإن شفائي عبرة مهراقة * فهل عند رسم دارس من معول

وليس في البيتين أيضا معنى بديع، ولا لفظ حسن كالأولين.

والبيت الأول منهما متعلق بقوله: "قفا نبك" فكأنه قال: قفا وقوف صحبي بها على مطيهم، أو: قفا حال وقوف صحبي.

وقوله "بها": متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ، ففي ذلك تكلف وخروج عن اعتدال الكلام.

والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا، فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى، وتحمل ومعول عند الرسوم؟

ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدل على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن، ثم يسائل: هل عند الربع من حيلة أخرى؟

 

وقوله:

كدأبك من أم الحويرث قبلها * وجارتها أم الرباب بمأسل

إذا قامتا تضوع المسك منهما * نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل [183]

أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة، ليس له مع ذلك بهجة، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ، وإن كان منزوع المعنى!

وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله: * إذا قامتا تضوع المسك منهما * ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال، فأما في حال القيام فقط، فذلك تقصير.

ثم فيه خلل آخر، لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك شبه ذلك بنسيم القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص.

وقوله: "نسيم الصبا"، في تقدير المنقطع عن المصراع الأول، لم يصله به وُصْلَ مِثلِه.

 

وقوله:

ففاضت دموع العين منى صبابة * على النحر حتى بل دمعي محملي

ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح * ولا سيما يومٍ بدارةَ جُلْجُلِ

قوله: "ففاضت دموع العين"، ثم استعانته بقوله: "مني" استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة، وهو حشو غير مليح ولا بديع.

وقوله: "على النحر"، حشو آخر، لأن قوله: "بل دمعي محملي" يغني عنه ويدل عليه، وليس بحشو حسن. ثم قوله: "حتى بل محملي" إعادة ذكره الدمع حشو آخر، وكان يكفيه أن يقول: حتى بلت محملي، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله.

ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله، تفريط منه وتقصير، ولو كان أبدع لكان يقول: حتى بل دمعي مغانيهم وعِراصَهم. ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية: لأن الدمع يبعد أن يبل المِحْمَل، وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل، وإن بله فلِقلّته وأنه لا يقطر.

وأنت تجد في شعر الخُبْزَرُزّي ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن وأعجب منه.

والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع، خاوٍ من المعنى، وليس له لفظ يروق، ولا معنى يروع، من طباع السوقة. فلا يرعك تهويلُه باسم موضع غريب.

 

وقال:

ويوم عقرتُ للعذارى مَطِيّتي * فيا عجبا من رَحلِها المُتَحَمَّلِ

فظلَّ العذارى يرتمين بلحمها * وشحمٍ كهُدّاب الدِّمَقس المُفَتَّلِ

تقديره: اُذكر يوم عقرت مطيتي، أو يرده على قوله: "يوم بدارة جلجل"، وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته.

قال بعض الأدباء: قوله "يا عجبا" يعجبهم من سفهه في شبابه: من نحره لهن. وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول، وأراد أن يكون الكلام ملائما له.

وهذا الذي ذكره بعيد. وهو منقطع عن الأول، وظاهره أنه يتعجب من تحمل العذارى رَحلَه! وليس في هذا تعجب كبير، ولا في نحر الناقة لهن تعجب.

وإن كان يعني به أنهن حملن رحله، وأن بعضهن حملته، فعبر عن نفسه برحله، فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا، لكن الكلام لا يدل عليه، ويتجافى عنه.

ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شئ غريب، ولا معنى بديع، أكثر من سفاهته، مع قلة معناه، وتقارب أمره، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا.

وإلى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع، وكلام رائق.

وأما البيت الثاني فيعدونه حسنا، ويعدون التشبيه مليحا واقعا. وفيه شئ: وذلك أنه عرف اللحم ونكر الشحم، فلا يعلم أنه وصف شحمها، وذكر تشبيه أحدهما بشئ واقع [ للعامة، ويجري على ألسنتهم ]، وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة! وهذا نقص في الصنعة، وعجز عن إعطاء الكلام حقه.

وفيه شئ آخر من جهة المعنى: وهو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة، وهذا قد يعاب. وقد يقال: إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيبا، وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا.

وأما تشبيه الشحم بالدمقس، فشئ يقع للعامة ويجري على ألسنتهم، فليس بشئ قد سبق إليه، وإنما زاد "المفتل" للقافية، وهذا مفيد؛ ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة، ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع، ورأوه قريبا.

وفيه شئ آخر [ من جهة المعنى ]: وهو أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم، وإن سوغ التبجح بما أطعم للاضياف، إلا أن يورد الكلام مورد المُجُون، وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة!

 

وقوله:

ويوم دخلتُ الخدر خدر عنيزة * فقالت: لك الويلاتُ إنك مُرْجِلِي

تقول وقد مال الغَبِيط بنا معا: * عقرتَ بعيرى يا امرأ القيس فانزلِ

قوله: "دخلت الخدر خدر عنيزة"، ذكره تكريرا لإقامة الوزن، لا فائدة فيه غيره، ولا ملاحة له ولا رونق.

وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت: "فقالت لك الويلات إنك مرجلي" كلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره، وليس فيه غير هذا.