Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 27 فبراير 2023

ج3وج4.كتاب زهر الأداب وثمر الألباب أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

 

ج3وج4.كتاب زهر الأداب وثمر الألباب

 أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

صَفَن ، وإن استوقف فطن ، وإنْ رعَى أبنَ ، فهو كما قال تأبّط شرًّا ، وذكر البيت .
وأول هذه الأبيات : الطويل :
وإني لَمُهْدٍ من ثَنائي فَقَاصِد . . . به لابْنِ عمّ الصَدْقِ شَمس بن مالكِ
أهزُ به في نَدْوَةِ الحيّ عِطْفَهُ . . . كما هز عِطْفي بالهِجانِ الأوَارِكِ
قليل التشَكَي لِلْمُلَم يُصيبُهُ . . . كثيرُ الهوَى شَت النَوَى والمسَالِك
يظَل بِمَوْماةٍ ويُمْسِي بِغَيرِها . . . جَحِيشاً ويَعْرَوْرِي ظُهورَ المهالِك
ويَسْبِقُ وَفْدَ الرّيح من حيث ينتحي . . . بمُنْخَرِقٍ مِنْ شَدّه المتدارك
إذا خاط عينيه كرَى النوم لم يَزًل . . . له كالئٌ من قلب شَيْحَانِ فاتِكِ
إذا طَلَعَتْ أُولى العدوً فَنَفْرُهُ . . . إلى سَلَّةٍ من صارم الغَرْب باتِك
ويجعل عينيه ربَيئة قلبه . . . إلى ضربة من حَدَ أخلقَ صائِكِ
إذا هَزَهُ في عظم قِرْنٍ تَهَلَلت . . . نواجذُ أَفواهِ المنايا الضَّوَاحِكِ
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي . . . بحيث اهْتَدَتْ أمُ النجوم الشَوابِك
وأهدى عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرساً من سَوابِق خَيْل مِصْر ، فعُرِضت عليه ، وعنده عقبة بن سنان بن يزيد الحارثي ، فقال له معاوية : كيف تَرَى هدايانا يا أَبا سعيد ؟ فإن أخَاك عَمْراً قد أَطْنَبَ في وَصْفها ، فقال : أراها يا أميرَ المؤمنين على ما وصف ، وإنها لمُخَيِّلة بكل خير ؛ إنها لسَامِيَةُ العُيون ، لاحقة البطون ، مصغية الآذان ، قَبَّاءالأسنان ، ضِخَام الرُّكبات ، مشرفات الحجبات ، رِحَاب المَناخِرِ ، صِلاب الحوافر ، وقعُها تحليل ، ورفعها تعليل ، فهذه إن طلِبت سبقت ، وان طَلَبت لَحِقتَ . قال له معاوية : اصرفها إلى رَحْلك ؛ فإنّ بِنَا عنها غِنًى ، وبفتيانك إليها حاجة .
وقال النابغة الجعديّ : الطويل :
وإنا أنَاسٌ لا نُعَوِّدُ خَيْلَنَا . . . إذا ما التقَينَا أن تَحِيدَ وتَنفرَا ونُنكر يوم الرَوْعِ ألوانَ خَيْلِنا . . . من الطعن حتى نحسب الجَونَ أَشْقَرا
فليس بمعروفٍ لنَا أنْ نَرُدَّهَا . . . صِحَاحاً ، ولا مُسْتَنكَر أن تعَقرا
وقال بعض العرب : الكامل :
ولقد شَهِدْتُ الخيلَ يوم طرادها . . . بسليم أَوْظِفَهِ القَوَائِم هَيْكلِ
فدعَوا : نزالِ فكنت أوَّل نازلٍ . . . وعَلاَمَ أركبه إذا لم أنزلِ ؟
ووصف أعرابي فرساً فقال : لما أرسلت الخيل جَاءوا بشيطان في أَشْطَان ، فأرسلوه ، فلمع لَمْعَ البَرْقِ ، واستهل استهلالَ الوَدْقِ ، فكان أَقْرَبهم إليه الذي يقعُ عينه من بُعْدٍ عليه .
وذكر أعرابي رجلاً فقال : عنده فرسٌ طويل العِذَار ، أمِينُ العِثَار ؛ فكنت إذا رأيته عليه ظننته بَازِياً على مَرْبأ ، عليه رُمْحٌ طويل يقصرُ به الآجال .
وقال بعض المحدثِينَ في هذا التطابق : الوافر :
لَقيناهُمْ بأَرْماح طوالٍ . . . تبُشرُهُمْ بأعمارٍ قِصَارِ
ووصف أعرابي خيلاً لبني يربوع فقال : خرجَتْ علينا خيل من مستطير نَقْعٍ ، كأنهَوَادِيهَا أعْلام ؟ وآذانَها أقلام ، وفرسانها أُسود آجام .
ولما أنشد العمَّاني الرشيد يصف فرساً : الرجز :
كأنً أذْنَيْهِ إذا تَشَوَّفَا . . . قادِمَةً أو قَلَماً مُحَرفا
ولحن ، ففهم ذَلك أكْثَرَ من حضر ؛ فقال الرشيد : اجعل مكان كأَن يَخَال ، فعِجبوا لسُرْعَة تَهَدَيه .
وللطائيين في هذا النوع أشعار كثيرة منعني من اختبارها كثرةُ اشتهارها ، وسأنشد بعض ذلك ، قال أبو تمام : الكامل :
ما مُقْرَبٌ يَخْتَالُ في أَشْطَانِه . . . ملآنُ مِنْ صَلَفٍ به وتَلَهْوُق
بحَوافرِ حُفرٍ وصَلْتٍ أَصلتٍ . . . وأَشَاعِرٍ شُعْرٍ وخلق أَخْلَقِ
ذو أولقٍ تحْتَ العجاج ، وإنما . . . من صحةٍ إفراطُ ذاك الأَوْلق
صافي الأديم كأنما ألبستهُ . . . من سنْدُس بُرْداً ومن إسْتَبْرَق
إمْلِيسةٌ إمليدةٌ لو عُلِّقت . . . في صَهْوتيهِ العينُ لم تتعلَّقِ
مُسْوَدُ شَطْرٍ مثل ما اسْوَدَ الدجى . . . مبيضُّ شَطْرٍ كابيضاض المُهْرَقِ
وقال أبو عبادة : الكامل :
وأغَرَّ في الزمَنِ البهيم مُحَجَّل . . . قد رُحْتُ عنه على أغرَ مُحَجلوَافي الضْلوع يَشُد عَقْدَ حِزامه . . . يوم اللقاء على مُعِمّ مُخْولِ
يهوي كما هَوَتِ العُقابُ إذا رَأَتْ . . . صيداً ويَنتصِبُ انتِصَابَ الأجدَلِ
متوحّشٌ بدقيقتين كأنما . . . تُرَيَانِ من وَرقٍ عليه مُوَصَلِ
كالرائح النَشْوان أكْثَرُ مَشيهِ . . . عَرْض على السنَن البعيد الأطْوَل
ويظن رَيْعَان الشباب يَرُوعُه . . . من نَشْوَةٍ أو جِنة أو أَفْكَل
هَزج الصهيل كأنَّ في نَبَراتِهِ . . . نغماتِ مَعْبَدَ في الثقيلِ الأوَل
تتوَهمُ الْجَوْزاء في أرْسَاغِه . . . والبَدْرُ غُرةُ وَجْهِهِ المتهللِ
صافي الأديم كأنَما عُنِيَتْ له . . . بصفاءَ نُقْبَته مَدَاوِكُ صَيْقَلِ
وكأنما كُسِيَ الخدودَ نَوَاعِماً . . . مهما تلاحِظْها بلَحْظٍ يخْجَل
وكأنما نَفَضْتُ عليه صِبْغَها . . . صَهْبَاءُ للبَرَدانِ أو قُطْرَبُّلِ
مَلَكَ العيون ؛ فإن بَدَا أعْطَينهُ . . . نَظَرَ المُحب إلى الحبيبِ المُقْبلِ
وقال إسحاق بنُ خلف النهرواني لأبي دُلَف ، وكان له فرسٌ أدهم يسميه غراباً : الكامل :
كم كم تجرَعه المنونُ ويسلمُ . . . لو يستطيعُ شَكَا إليك لَهُ الفمُ
من كل منبت شعرة من جِلْدِهِ . . . خَط ينمّقُه الْحُسامُ المِخْذَمُ
ما تُدْرِكُ الأرواح أدْنَى جَرْيهِ . . . حتى يَفُوتَ الريحَ وهو مقدَمُ
رَجَعَتْه أَطْرَافُ الأسِنة أشْقراً . . . واللون أدْهَمُ حين ضَرَّجه الدَمُوكأنما عقد النجُومَ بِطَرْفِهِ . . . وكأنَه بِعُرَى المجرَة مُلْجَمُ وقال أبو الطيب : الطويل :
جَفَتْني كأني لَسْت أنْطَقَ قَوْمِها . . . وأطْعَنَهمْ والشُهْبُ في صُوَر الدُهْمِ
وقال أبو الفتح كشاجم : الرجز :
قد راح تحت الصُّبْحِ ليْل مظلم . . . إذ لاح في السَّرْج المحلَّى الأدْهَمُ
ديباجُ أَلْوانِ الجيادِ ، ولم يكن . . . ليُخَص بالديباج إلا الأكْرَمُ
ضَحِكَ اللجَيْنُ على سَوادِ أدِيمه . . . وكذا الظلامُ تنِيرُ فيه الأنجمُ
فكأنه ببنات نعْشٍ ملبب . . . وكأنما هُوَ بالثريا مُلجَمُ
قلت : هذا من قول ابن المعتز : الطويل :
أَلاَ فاسقياني والظلامُ مُقَوّضٌ . . . ونَجْم الدُجَى تحت المغارب يَرْكُض
كأنَّ الثريا في أواخرِ لَيلِها . . . تَفتّحُ نَوْرٍ أو لِجامٌ مفضض
وقال أبو الفتح : الكامل :
مَنْ شَك في فضلِ الكُمَيْت فبينه . . . فيهُ وبين يقينهِ المِضْمارُ
في منظَرٍ مستحسَنٍ محمودة . . . أخبَارُه إذ تُبْتَلى الأخبارُ
ماء تَدَفَّق طَاعَةً وسَلاَسَة . . . فإذا أسْتُدرَ الْحُضْرُ فيه فنَار
وإذا عَطَفْتَ به على نَاوَرْدِه . . . لتُدِيرَه فكأنَّه بِركَارُ
وصف الخَلوقَ أَديِمه فكَأنما . . . أَهْدَى الْخَلوق لجلدِه عَطّارُ
قصرَتْ قِلاَدَةُ نحْرِهِ وعِذَارِه . . . والرُسْغ ، وهيَ من العِتَاق قِصَارُ
وكأنما هاديه جِذعٌ مُشْرِفٌ . . . وكأنما للضبع فيه وِجارُ
يَرِدُ الضحَاضِحَ غير ثاني سُنْبكٍ . . . ويَرُودُ طَرْفك خَلْفَه فتحارُ
لو لم تكن للخيل نسبة خَلْقهِ . . . حَاكَتْه من أَشْكالِها الأطْيَارُوقال ابن المعتز : الطويل :
وخَيْل طَواها القَوْدُ حتى كأنّها . . . أنابيبُ سُمرٌ من قَنَا الخَطِّ ذُبَّل
صببْنا عليها ظالمين سِيَاطنافطارَتْ بها أيدٍ سِرَاعِّ وأرْجُلُ
قولُهُ : ظالمين من أَبْدَع حَشْوٍ جرى في بيت ، وكأنّ ابن المعتز أشار إلى قول أعرابي مولد : الطويل :
وعَوْدٍ قليل الذنب عاوَدْتُ ضربَه . . . إذا هاج شَوْقِي من معاهدها ذِكر
فقلت له : ذَلفاءُ ويْحَك سَبّبتْلك الضَّرْبَ ، فاصبر إنَّ عادتَك الصّبرُ
قال ابن المعتز : الوافر :
أراجعتي فِدَاك بأعوَجِيّ . . . كقدْح النّبعِ في الرّيشِ اللُؤامِ
بأدهمَ كالظَّلاَمِ أغرَّ يَجْلُو . . . بغُرَّتِهِ دَياجِيرَ الظّلامِ
تَرَى أحْجَاله يَصْعَدْنَ فيه . . . صُعودَ البَرْقِ في جَوِّ الغَمَام
وقال أيضاً : الرجز :
قد أَغْتَدي والصُّبْحُ كالمَشيبِ . . . في أُفُقٍ مِثْلِ مَدَاكِ الطِّيبِ
بقارح مسَوَّم يَعْبُوبِ . . . ذي أُذن كخُوصَةِ العَسيبِ
أو أسةٍ أوْفَتْ على قَضِيب . . . يَسْبِقُ شأَوَ النظرِ الرّحيبِ
أَسْرَع من ماءً إلى تَصْوِيب . . . ومن رُجوع لحظة المُرِيبِ
وقال : المديد :
رُب رَكْب عرّسوا ثم هَبُّوا . . . نحو إسْرَاجٍ وشَدَ رِحَالِوعَدَوْنا بأعِنة خيل . . . تَأْكُلُ الأرْضَ بأَيْدٍ عِجَالِ
زينتها غررّ ضَاحِكاتّ . . . كبدورٍ في وُجُوهٍ ليال
وقال علي بن محمد الإياديَ : الكامل :
مسحَ الظلام بعرفه يدَهُ . . . ومَشَى فقبَّل وَجْهَهُ البَدْرُ
وقال الناشئ أبو العباس عبد الله بن محمد : الكامل :
أحْوَى عليه مَسائحٌ من لِيطَةٍ . . . شهب تسيل على نَوَاشِرِ ساقه
فكأَنه مُتَلفع قبطِية . . . أَثنَاؤُها مشدودةٌ بِنطَاقهِ
فَسَوادُه كاللَيْل في إظلاَمِهِ . . . وبَيَاضه كالصُبْح في إشراقه
صافي الأدِيم كريمةٌ أنسَابهُ . . . أخْلاَقه عَيْنٌ على أعْرَاقِهِ
كتب أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي إلى الأمير أبي الفضل عبد اللّه بن أحمد بن ميكال ، وقد زاره الأميرُ في داره : الكامل : لا زال مَجْدُك للسِّمَاك رَسِيلا . . . وعلوُّ جَدِّكَ بالخلود كَفِيلا
يا غُرَةَ الزمنِ البهيم إذا غَدَا . . . أهلُ العُلاَ لزمانهم تَحْجِيلاَ
يا زائراً مَدّت سَحَائبُ طَوْله . . . ظِلاًّ عليَ مِنَ الجَمال ظليلا
وأتت بصَوْبِ جواهرٍ من لَفْظِه . . . حتى انتظَمْنَ لمفْرقي إكْلِيلاَ
بأبي وغَيْر أبي هِلالٌ نُورُهُ . . . يستَعْجِلُ التسبيحَ والتهليلا
نقشت حوافِرُ طِرفِه في عَرصَتي . . . نَقْشاً مَحَوْتُ رسومَه تَقْبِيلا
ولو استطعت فرَشتُ مَسقَطَ خَطوه . . . بعيون عِينٍ لا تَرَى التكْحِيلاَ
ونثرتُ رُوحي بعدما مَلَكَت يَدِي . . . وخَرَرْتُ بين يَدَيْ هَواهُ قَتيلا
وقال أبو القاسم بن هانئ يصف خيل المعزّ : الطويل :
له المُقْرَبات الْجُرْدُ يُنْعِلُها دماً . . . إذا فَرَعَتْ هَامَ الكُماةِ السنَابِكُ
يُرِيق عليها اللؤلؤُ الرَطْبُ مَاءه . . . ويَسْبِكُ فيها ذائبَ التّبْرِ سابِكُصقيلات أجْسامِ البرُوق كأنما . . . أُمِّرَتْ عليها بالشموس المَدَاوِكُ
وقال يصف فرساً لجعفر بن علي بن حمدون : الطويل :
تهلَلَ مَصْقُولَ النواحي كأنه . . . إذا جالَ ماءُ الْحُسن فيه غريقُ
مِنَ البُهْم وَرْدُ اللون شِيبَ بِكُمْتَةٍ . . . كما شِيبَ بالمسكِ الفتيق خَلوقُ
فلو مِيزَ منه كبنُ لون بذاته . . . جَرَى سَبَجٌ منه وذَابَ عَقِيق
وقال في قصيدة يمدح بها أبا الفرج الشيباني : الكامل :
فَتَقَتْ لكم رِيحُ الجِلاَدِ بعَنْبَرِ . . . وأمدَكُمْ فَلَقُ الصَباح المسفِرِ
وجنيتمُ ثمرَ الوقائع يانعاً . . . بالنصرِ من وَرَق الحديد الأخْضَرِ
أبني العوالي السَمْهَرِية والسيو . . . ف المَشْرَفية والعديد الأكْثَرِ
مَنْ منكم الملكُ المطاعُ كأنَهُ . . . تحت السَوابغِ تبعٌ في حميَرِ
القائدَ الخيل العِتاق شوازباً . . . خُزْراً إلى لحظ السنان الأخْزَر
شُعْثَ النَوَاصِي حَسْرَةً آذانُها . . . قُب الأياطل دامِيات الأنْسُرِ
تنبَو سنابكُهُن عن عَفَرِ الثرى . . . فيَطَأنَ في خد العزيز الأصْعَرِ
في فتية صدَأُ الحديدِ عَبِيرُهُمْ . . . وخَلوقهم عَلَقُ النَجيع الأحمرلا يأكلُ السرحانُ شِلْوَ عقيرهم . . . مما عليه من القَنا المتكَسر
وقال في قصيدة يمدح بها إبراهيم بن جعفر بن علي : الكامل :
فخرٌ لِطْرفٍ أعوجي أنْتَ في . . . صهواته والحسن والتطهيمُ
يُبْدِي لعزَك نَخْوَةً ، فكأنَّهُ . . . مَلك تَدينُ له الملوكُ عَظيمُ
هادٍ على الخيلِ العِتاق ، كأنَهُ . . . بين الدُجُنَّة والصباحِ صَرِيمُ
سامي القَذال بمِسْمَعَيْه عيافَةٌ . . . تحت الدُجَى ولطَرْفه تَنْجِيمُ
أذُن مُؤَللةٌ ، وقلب أصْمَع . . . وحَشاً أقب ، وكَلْكَل ملمومُ
فالطَّوْدُ من صَهَواته مُتَزَلْزِلٌ . . . والجيشُ من أنْفَاسِه مَهْزُومُ
خَرَقَ العيونَ فَضَل عنها لونُه . . . وصفَا فقُلْنَا ما عليه أديمُ
فكأنما جَمَدَتْ عليه مُزْنَة . . . وانْجابَ عَنْه عارِضٌ مَرْكومُ
وكأنما نُحِرَتْ عليه بَوارِقٌ . . . وكأنما كُسِفَتْ عليه نُجومُ
وكأنكَ ابنُ المنذِرِ النعمانُ فو . . . ق سَراته ، وكأنه اليَحْمُومُ
وقال علي بن محمد الإيادي يصف فرس أبي عبد اللّه جعفر بن أبي القاسم القائم : الكامل :
وأقب من لَحْق الجيادِ ، كأنه . . . قَصْرٌ تباعَدَ ركْنُه من ركْنِهِلَبِسَتْ قوائمهُ عصائبَ فِضَّةٍ . . . وغَدَتْ بسُمْرِ صفَا المسيل ودُكْنِهِ وكأنما انفجرَ الصَباحُ بوجههِ . . . حُسناً ، أو احْتَبس الظلامُ بمتْنِهِ
قَيْدُ العيون إذا بصرْنَ بشَخْصه . . . ورضا القلوب إذا اصطليْنَ بضِغْنِه
مُتَسَيْطِر بالراكبينَ ، كأنَّهُ . . . بَازٍ تروح به الْجَنوب لوَكْنِهِ
يستوقف اللحَظَاتِ في خَطَراتِه . . . بكمال خِلْقَتِه ودِقَّة حُسنِهِ
حُلْوُ الصَهيل تخال في لَهَواتِه . . . حادٍ يَصُوغُ بدائعاً من لحنِه
متجبِّر يُنْبِي بعِتْق نِجارهِ . . . إشرافُ كاهِلِهِ ودِقَّةُ أذْنِه
ذو نَخْوَةٍ شمختْ به عن نِدهِ . . . وشهامةٍ طمحت به عن قِرْنِه
وكأنهُ فلكٌ إذا حركتَهُ . . . جارٍ على سَهْل البلادِ وحَزْنه
قد راح يحمِلُ جعفرَ بن محمدٍ . . . حَمْلَ النسيم لوابل من مُزْنه
وما أحسن ما قال أبو الطيب المتنبي : الطويل :
ويوم كَلَوْنِ العاشقينَ كَمَنته . . . أُراقِبُ فيه الشَّمسَ أيانَ تَغْرُبُ
وعَيْني إلى أُذْنَي أغرَ كأنهُ . . . مِنَ الليلِ باقٍ بين عينيه كَوْكَب
له فَضْلةٌ عن جسمِه في إهَابه . . . تجيءُ على صدْرٍ رحيب وتذْهَبُ
شقَقْتُ به الظلْمَاءَ ، أُدْني عِنَانَهُ . . . فيَطْغَى ، وأرْخيه مِرارًاً فيلْعَبُ
وأصْرَعُ أي الوَحْش قَفَّيْتُه بهِ . . . وأنْزِلُ عنه مِثْلَه حينَ أرْكَبُ
وما الخيلُ إلاَّ كالصَدَيقِ قليلة . . . وإنْ كَثُرَتْ في عَيْنِ مَنْ لا يُجَرِّبُإذا لم تُشَاهِدْ غيْرَ حُسْنِ شِياتِها . . . وأعْضائها فالْحُسنُ عنك مُغيبُ
وينخرط في سِلْك هذا المعنى مقامة من مقامات الإسكندري في الكُدْية ، ممّا أنشأه بديعُ الزمان وأملاه في شهور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة . قال البديع : حدَّثنا عيسى بن هشام قال : حضرْنا مجلسَ سيف الدولة يوماً وقد عُرِضَ عليه فَرسٌ : الطويل :
متى ما تَرَق العين فيه تَسهَّل
فلحَظَتْهُ الجماعة ؛ فقال سيف الدولة : أيكم أحْسَنَ صفته ، جعلته صِلَته ؛ فكلٌّ جَهد جَهْدَه ، وبذل ما عِنْدَه ؛ فقال أحد خَدَمِه : أصْلَح اللّه الأمير رأيْتُ بالأمْس رجلاً يَطأُ الفَصاحَة بنَعْلَيْه ، وتَقفُ الأبصارُ عليه ، يُسَلَي الناس ، ويشفي الياس ، ولو أمر الأميرُ بإحضاره ، لفضَلَهم بحِضَاره .
فقال سيفُ الدولة : علي به في هيئته ، فصار الخدمُ في طلبه ، فجاءوا للوقت به ، ولم يُعْلِموه لأيّ حالٍ دُعِيَ به ، ثمَّ قُرِّب واستُدْني ، وهو في طِمْرَيْنِ قد أكل الدهرُ عليهما وشرب ، وحين حضر السِّماط ، لثمَ البساطَ ، ووقف . فقال سيف الدولة : بلغَتْنا عنك عارِضة ، فأعرِضْها في هذا الفرس وصِفْه . فقال : أصلح الله الأمير كيف به قبْلَ ركوبه ووُثُوبه ، وكَشْفِ عيوبه وغُيُوبهِ ؟ فقال : اركَبْه ، فركبه وأَجْراه ، ثم قال : أصلح اللَّهُ الأميرَ هو طويل الأُذنين ، قليل الاثنين ، واسع الْمَراثِ ، لين الثلاث ، غَليظَ الأكرُع ، غامض الأربع ، شَديد النَّفس ، لطيف الْخَمْس ، ضيق القَلْبِ ، رقيق الست ، حديدالسَمْع ، غليظ السَبع ، رقيق اللسان ، عريض الثمان ، شديد الضِّلع ، قصير التّسع ، واسع السحْر ، بعيد العَشْر ، يأخذ بالسابح ، ويُطلِقُ بالرَّامح ، ويَطلُع بلائِح ، ويَضْحَكُ عن قَارح ، يحز وَجْهَ الكديد ، بمداقّ الحديد ، يُحْضِر كالبَحر إذا ماجَ ، والسيل إذا هاج .
فقال سيفُ الدولة : لك الفرس مُباركاً فيه . فقال : لا زِلت تأخذُ الأنفاس ، وتَمْنَحُ الأفراس ، ثم انصرف ، وتبعتُه ، وقلت : لك عليَ ما يليقُ بهذا الفرس من خِلعَة إن فسرْتَ ما وصفْتَ ، فقال : سَلْ عما أحببت .
فقلت : ما معنى قولك : بَعيدُ العَشْر ؟ فقال : بَعيد النظر ، والْخَطْو ، وأعالي الْجَنبَيْن ، وما بين الوَقْبَيْنِ والْجَاعِرتَين ، وما بين الغُرَابَيْنِ ، والمنخرين ، وما بين الرُجلين ، وما بين النقبة والصفاق ، وبعيد القامة في السباق . فقلت : لا فُضّ فُوك فما معنى قولك : قصير التسْع ؟ قال : هاك : قصير الشّعرة ، قصير الأُطْرَة ، قصير العَسيب ، قَصِير القضيب ، قصير العَضُدين ، قصير الرُسْغَيْن ، قصير النسَا ، قصير الطهْر ، قصير الوَظيفِ .
فقلت : لله أنت فما معنى قولك : عريض الثمان ؟ قال : عريض الْجَبهة ، عريض الصهْوَة ، عريض الكتف ، عريض الْجنْب ، عريض الورك ، عريض العَصَب ، عريض البَلْدة ، عريض صَفْحة العنق .
فقلت : أحسنت ، فما معنى قولك : غليظ السبع ؟ قال : غليظ الذراع ، غليظ المحْزِمِ ، غليظ العُكْوَة ، غليظ الشوَى ، غليظ الرُسْغِ ، غليظُ الفَخِذَيْنِ ، غليظ الْحِبَالِ .
فقلت : لله درك فما معنى قولك : رقيق الست ؟ فقال : رقيق الجَفْن ، رقيق السَالِفة ،رقيق الجَحْفَلة ، رقيق الأديم ، رقيق أَعْلَى الأُذنين ، رقيق الغَرضَيْن .
فقلت : أجَدْتَ ، فما معنى قولك : لطيف الخمس ؟ قال : لطيف الزور ، لطيف النسْر ، لطيف الجُبَّة ، لطيف العُجَايَة ، لطيف الركْبَة .
فقلت : حياك الله فما معنى قولك : غامِض الأربع ؟ قال : غامض أعالي الكَتِفَيْن ، غامض المَرْفِقَيْن ، غامض الحِجَاجَيْن ، غامض الشَّظَى .
قلت : فما معنى قولك : لَين الثلاث ؟ قال : لين المَرْدَغَتَيْنِ ، لَين العُرْفِ ، لين العِنان .
قلت : فما معنى قولك : قليل الاثْنَين ؟ قال : قيل لَحم الوجه ، قليل لحم المَتْنَين .
قلت : فمن أين نَبَاتُ هذا العلم ؟ قال : من الثغور الأموية ، وبلاد الإسكندرية .
فقلت له : أنت مع هذا الفضل ، تُعَرضُ وجهكَ لهذا البَذْلِ ؟ فأنشأ يقول : المجتث :
ساخِفْ زمانك جِدَّا . . . فالدهر جِد سَخيفِ
دَعِ الحميةَ نِسْياً . . . وعِشْ بخَيْرٍ ورِيفِ
وقُلْ لعبدك هَذا . . . يَجئ لنا بِرَغِيفِ
سقط عنا تفسيره في لين الثلاث ، وأكثرُ هذا التفسير يحتاجُ إلى تفسير ، ولم يُرِدْ بما أورد إفْهام العَوامّ ، والبلاغة لمحة دالة ، وبلاغة النثر أخت بلاغة الشعر ؛ وقد قال البحتري : المنسرح :
والشعْرُ لَمْح يخفي إشارتُهُ . . . وليس بالهَذر طُولتْ خُطَبُهُ
وسأقول في شرحه بكلام وجيز زيادة في الإفادة : الوَقْبان : نُقْرتان فوق العينين .والجاعِرتان من الفرس : موضع الرّقمتين من الحمار ، وهما منتهى ضَرْبه بذَنَبه إذا حرَكه . والغرابان : الناتئان من أعلى الوركين ، وفكر النقبة هنا ، وهو الذي يُعْرف بالمنْقَبِ ، وهو من السُرَّة حيث ينقب البيطار . والصَفاق : الخاصرة ، وقد قيل : جلد البطن كفه صفاق ، والذي أراده الخاصرة . وأراد بِبُعْد القامة في السباق امتدادَهُ إذا جَرَى مع الأرض . والأُطرَة هنا : طرف الأبْهر ، وهي طِفطفة غلِيظة . والأبهر : عِرْق يستبطن الظّهر ، فيتّصل بالقلب ، وقيل : هو الأكحل . والعسيب : عظم الذنب . والرُّسْغ من الفرس : موضع القيد . والنَّسَا : عرق مستبطن الفخذين ، وقصَره محمود في جرْي الفرس ، ولكنه لا يسمح بالمشي . والوظيف لكل ذي أربع : ما فوق الرُسْغ إلى الساق . والصَهوة : الظهر . والبَلْدة : ما بين عينيه . والعُكْوَة : مغرز الذَّنب . والشّوى : الأطراف . والحبال : حبلا العاتق والظهْر . والجَحْفَلة من ذوات الحافر : كالشفة من الإنسان . والغُرْضَانْ من الفرس : ما انحدر من قَصَبة الأنف من جانبيها . والزور : الصدر . والنَّسْر في الحافر : لحمة يابسة أَسفَله يشبهها الشعراء بالنَّوى . والجبَّة : التي فيها الحوشب ، والحَوْشب : حشو الحافر . والعُجَاية : عَصَب في قوائم الفرس والبعير مركب فيه فصوص من عظام كأمثال الكِعَاب تكون عند الرّسغ . والحِجَاجان : العظمان المُطِيفان بالعين . والشَّظَى : عظم لاصق بالذراع . والمتنان : جانبا الظهر ؛ وسقط عنّا تفسير الثلاث من نفس المقامة .
ما قيل في المواعد
قال الجاحظ : قال أبو القاسم بن معن المسعودي لعيسى بن موسى : أيها الأمير ، ما انتفعتُ بك مُنْذُ عرفتُك ، ولا إلى خيرٍ وصلتُ منك منذ صَحِبْتُك ، فقال : ولم ؟ ألم أُكلَمْ لك أميرَ المؤمنين في كذا وكذا ؟ قال : بلى فهل استنجزتَ ما وعِدْت ، وعاودت ما ابتَدَأْت ؟ فقال : حالَتْ دون ذلك أمورٌ قاطعة ، وأحوال عاذرة . قال : أيها الأمير ، فما زِدْتَني على أنْ نبهْتَ الهمَّ من رَقْدَتِه ، وأثرْتَ الحُزْنَ من رَبْضتِه ، إنَ الوعدَ إذا لم يصحَبْه إنجازٌ يحقِّقُه كان كلفظٍ لا مَعْنَى له ، وجسمٍ لا روحَ فيه . وكلَّم منصورُ بن زيادٍ يحيى بن خالدٍ في حاجةٍ لرجل ، فقال : عِدْه قَضَاءَها . قال : فقلت : أصلحك اللّه وما يَدْعُوك إلى العِدَة مع وجود القدرة ؟ فقال : هذا قولُ من لا يعرفُ موضِعَ الصّنائع من القلوب ، إنَّ الحاجةَ إذا لم يتقدمها مَوْعد يُنتظر به نُجْحُها لم تتجاذَب الأنفس سرورها ؛ إن الوَعْدَ تطعُم والإنجاز طَعَام ؛ وليس من فَاجأهُ طعامٌ كمن وَجَدَ رائِحته ؛ وتمطَق به ، وتطعَمه ثم طَعِمه ؛ فدَعِ الحاجَة تُخْتَمْ بالوَعد ؛ ليكونَ بها عند المصطنع حُسْنُ مَوْقع ، ولُطْفُ مَحَلّ .ووعد المهديُ عيسى بن دَأْب جَارِيةً ، ثم وهبها له ، فأنشده عبد اللّه بن مُصْعب الزبيري معرَضاً بقول مضرس الأسدي : الطويل :
فلا تيأسَنْ مِنْ صالحٍ أَن تَنَالَهُ . . . وإن كَانَ قِدماً بين أيدٍ تبادرُه
فضَحك المهدي ، وقال : ادفعوا إلى عبد اللّه فلانة ، لجاريةٍ أخرى ؛ فقال عبد الله بن مصعب : الرجز :
أنجز خَيْرُ الناس قبل وَعدِهِ . . . أراح من مَطْل وطُول كَدّهِ
فقال ابن دأب : ما قلت شيئاً ، هلا قلت : الرجز :
حَلاَوَةُ الفضل بوعْدٍ يُنْجَزُ . . . لا خَيْرَ في العُرْفِ كَنَهبٍ يُنْهَزُ
فقال المهدي : مجزوء الكامل :
الوَعْدُ أحْسنُ ما يكو . . . نُ إذا تَقَدَّمه ضَمَانُ
وقد قال أبو قابوس النصراني يمدح يحيى بن خالد : البسيط :
رأيتُ يحْيَى ، أتمَّ اللَّهُ نِعْمَتَه . . . عليه ، يَأتي الَذِي لم يَأته أحَدُ
يَنْسَى الَّذي كان من معروفه أَبداً . . . إلى الرَجال ، ولا يَنْسَى الذي يعِدُ
وقال أبي الطيب المتنبي : المنسرح :
قَوْمٌ بُلوغُ الغُلامِ عندَهُمُ . . . طَعْنُ نُحُورِ الكُماةِ لاَ الْحُلُمُ
كَأَنما يُولَدُ النَّدى مَعَهُمْ . . . لا صِغَرٌ عَاذرٌ ولا هَرَمُ
إذا تَوَالَوا عداوَةً كَشَفوا . . . وإنْ تَوَلَوْا صنيعَةً كَتَمُوا
تظُنُّ من فَقْدِكَ اعْتِدادَهُمُ . . . أنَهُمُ أنْعَموا وما عَلِموا
ودخل أبو عليّ البصير على الفضل بن يحيى ، فأنشده : الرمل :
وُصِفَ الصدُّ لمَنْ أَهَوَى فصدْ . . . وبدا يَمْزَح بالهَجْرِ فجد
ما لَهُ يعدل عَنّي وَجْهَهُ . . . وهو لا يعدِلُهُ عِندي أحَدْ ؟
لا تُريدوا غِرّة الفَضْل ، ومنْ . . . يطلب الغروّة في خِيسِ الأسَدْ
ملكٌ نَدْفَعُ ما نَخْشَى بِهِ . . . وَبِهِ نُصْلِحُ منَا ما فَسَدْ
يُنْجِزُ الناسُ إذا ما وَعدُوا . . . وإذا ما أنْجَزَ الفضلُ وَعَدْوقال ابن الرومي في هذا المعنى : البسيط :
له مواعدُ بالخَيْرَاتِ بادِرَةٌ . . . لكنها تَسْبِقُ الميعادَ بالصّفَدِ
يُعْطِيكَ في اليوم حق اليوم مبتدئاً . . . ولا يُضَيِّع بَعْدَ اليومِ حق غَدِ
في البرّ والإنعام
خطب سليمانُ بن عبد الملك فقال : أيها الناسُ ، مَنْ لم يعلم أبْوَابَ مَدْخَله في الكرامة ، وجَهِل طريقته التي وقَعَتْ به على النَعمة كان بِعُرْضِ رُجوعٍ إلى دارِ هَوَان ، وانقلابٍ بفادح خُسْران .
فقام إليه أبو وائلة السدوسي ، وهو حاجِبُه ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، كنّا كما قال اللّه تعالى . ' هَلْ أتى عَلَى الإنْسَانِ حِين مِنَ الدَهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذكُوراً ' ، ثم صِرْنا كما قال زُهير : الوافر :
يَدُ المَلِكِ الجليل تناولَتْهُمْ . . . بإحسانٍ فليس لها مُزيلُ
لأنَ الخيرَ أَجْمَعَ في يَدَيْه . . . ورَبي بالجزاء له كَفِيلُ
فقال سليمان : هذه والله المعرِفةُ بقَدْرِ النَعمة ، والعلمُ بما يَجب للمنعم .
ورؤي يونس بن المختار في دار المأمون ، ومرتبَتُه في أَعلَى مراتِبِ بني العباس ، قاعداً على الأرض ، فقال الحاجبُ : ارتفِعْ يا أَبا المعلّى إلى مَرتبَتِكَ ، قال : قد رفعني اللّه إليها بأمير المؤمنين ، وليس لي عملٌ يَفي بها ، فلِم لا أكرِمها عن القعود عنها إلى أن يتهيأ لي الشكر عليها ؟ فبلغ الكلامُ المأمونَ ؛ فقال : هذا والله غايةُ الشكر ، وبمثله تدر النَعَم . وقال رجل للمعلى بن أيوب ، وقد رَفَعه المعتصمُ إلى مرتبَة أَهْل بيته : ما يزيدُك التقريبُ إلاَّ تباعُداً . فقال : يا هذا ، إني أَصُون تقريبَه إياي بتباعدي منه ؛ لئلاَ تفسد حُرْمَتي عنده بقلَّةِ الشكرِ على نعمته .
ولما استعانَ المنصورُ بالحارث بن حسان قال له : يا حارث ، إني قد مكنتك من حُسْنِ رَأيي فيك ، فاحفَظْهُ بتركِ إغفال ما يجبُ عليك قال : يا أميرَ المؤمنين ، مَنْ أَغْفَل سببَ حُلولِ النعمة ، وَلَهَا عَن الحال التي أصارَتهُ إليها ، استصحبَ اليأسَ من نَيْلِ مِثْلِها ، وانقطع رجاؤُه من الزيادة فيها ، فقال أبو جعفر : مَن كانت عنده هذه المعرفة دامَت النعمةُ له ، وبقي الإحسانُ إليه .ولما قال المأمونُ لعبد اللّه بن طاهر عند قدومه من مصر : ما سرَني اللَهُ منذ ولّيتُ الخلافةَ بشيءً عظُم موقُعه عندي ، بعد جميل عافيةِ الله ، هو أكثر من سروري بقدومك ، فقال عبدُ اللّه : إيذَنْ لي يا أميرَ المؤمنين ، في تفريق أَمْوالي من طَارِفٍ وتالد . قال : ولم ؟ قال : شكراً على هذه الكلمة ؛ وإلاَ قَصَّر بي الحياءُ عن النظرِ إلى أمير المؤمنين ، فقال المأمون لمَنْ حضر من أهل بيته وقوَاده : ما شيءٌ من الخلافة يَفِي لعبد اللّه ببعض شكره .
وقال أبو نواس : الكامل :
قد قلتُ للعباس معتذراً . . . عن ضعف شُكْرِيه ومُعْتَرفا
أنتَ امرؤٌ جَلَلْتَنِي نِعَماً . . . أَوْهَتْ قُوى شكري فقد ضَعُفَا
فإلَيْكَ مني اليوم تَقْدِمةً . . . تَلْقَاك بالتَّصريح منكشفا
لا تُسْدِيَنَ إلي عارِفةً . . . حتى أقومَ بشكر مَا سَلَفا
عارضه الناشئ واعترض معناه ، فقال : الكامل :
إنْ أَنْتَ لم تُحْدِثْ إليَ يداً . . . حتى أقومَ بشُكرِ ما سَلَفَا
لم أَحْظَ مِنكَ بنائل أبداً . . . ورجَعْتُ بالْحِرْمان مُنْصَرِفا
وقال ابن الرومي : الخفيف :
عاقَنا أنْ نعودَ أنَكَ أَوْلَي . . . تَ أموراً يَضيقُ عَنْهَا الجزاءُ
غَمَرتْنا مِنْكَ الأيادي اللّواتي . . . ما لِمِعْشارِها لَدَيْنا كِفاءُ
فَنَهانا عنك الحياءُ طَوِيلاً . . . ثُمَ قد رَدَنا إلَيْك الحياءُ
ولَمَا حقَّ إنْ قَرُبْتَ التنائي . . . ولَمَا حقَّ إنْ بَرَزْتَ الجفاءُ
غَيْرَ أنا أنْضاءُ شُكْرٍ أُريحتْ . . . وقَدِيماً أريحَتِ الأنضاءُ
ألفاظ لأهل العصر في العجز عن الشكر لتكاثر الإنعام والبرّ
عندي من بره ما ملك الاعتذار بأَزِمَتِه ، وقبض أَلسِنةَ أمراء الكلام وأئمته . عندي لهمبارّ أعجزني شكرها ، كما أعوزني حَصْرها . شُكْرُه شَأْوٌ بعيدٌ لا تبلغه أشْوَاطي ، ولا أتلاَفَى التفريطَ في حقَه بإفراطي . إحسانُه يُعيد العربَ عُجْماً ، والفُصحاء بُكْماً . قد زحمني من مكارِمه ما يُحصَرُ عنه المبين ، ويصحبه العي وبئس القَرين .
وقال أعرابي : الطويل :
رهنت يَدِي بالعَجْزِ عن شُكْرِ بِرِّهِ . . . وما فَوْقَ شُكْرِي للشكورِ مَزِيد
ولو كان شيئاً يستطاعُ استطعْتُهُ . . . ولكنً ما لا يُسَتطاعُ شَدِيدُ
وقال يحيى بن أكثم : كنتُ عند المأمونِ ، فأتى برجل تُرْعَدُ فرائِصُه ؛ فلمّا مثل بين يديه قال المأمونُ : كَفَرْتَ نعمتي ، ولم تشكر معروفي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وأين يقعُ شكري في جَنْبِ ما أنعم اللَّهُ بك عليّ ، فنظر إليّ المأمون ، وقال متمثلاً : الطويل :
ولو كان يَسْتغني عن الشكر مَاجِدٌ . . . لرفعةِ قَدْر أو علوِّ مَكانِ
لما أمر اللَهُ العبادَ بشكرهِ . . . فقال : اشكروا لي أيّها الثقَلاَن
ثم التفت إلى الرجل فقال : هلاّ قلت كما قال أصرم بن حميد : البسيط :
ملكت حمدِي حتى إنَني رَجُلٌ . . . كُلِّي بكلّ ثناءً فيك مشتَغِلُ
خُوّلت شكري لما خَوّلت من نِعَمٍ . . . فحُرّ ُشكري ، لما خَولْتَني ، خَوَل
وقال أبو الفتح البستي : الطويل :
لئن عَجَزَتْ عن شُكْرِ بِرَك قوّتي . . . وأقوَى الوَرَى عن شكْرِ بِرِّك عاجِزُ
فإنّ ثنائي واعتقادي وطاقتي . . . لأفلاكِ ما أوليتِنيها مَراكِزُ وقال أبو القاسم الزعفراني : الخفيف :
لي لسانٌ كأنه لي مُعَادِي . . . ليس يُنْبي عن كُنْهِ ما في فؤادي
حكم اللَهُ لي عليه فلو أن . . . صف قلبي عَرَفْتُ قَدْرَ ودادِيوقال إسماعيل بن القاسم ، أبو العتاهية ، يمدحُ عُمر بن العلاء : الكامل :
إني أَمِنْتُ من الزمان ورَيْبهِ . . . لمَّا عَلِقْتُ من الأمير حِبَالا
لو يستطيعُ الناسُ من إجلالِه . . . لحذَوْا له حُرَ الوجُوهِ نِعَالا
ما كان هذا الجودُ حتى كنت يا . . . عمر ، ولو يوماً تَزُولُ لزالا
إنَ المطايا تشتكيكَ لأنَّهَا . . . قطعَتْ إليك سَبَاسِباً ورِمالا
فإذا ورَدْنَ بنا وَرَدْن مُخِفَةً . . . وإذا صدرْنَ بنا صَدَرْنَ ثِقالا
وهي قصيدة سهلةُ الطبع ، سلسلة النظام ، قريبة المتناول .
وروي أنَّ عمر بن العلاء وصلَه عليها بسبعين ألف درهم ، فحسدته الشعراء ، وقالوا : لنا بباب الأمير أعَوامٌ نَخْدُم الآمالَ ، ما وصلنا إلى بعض هذا ا فاتصل ذلك به ، فأمر بإحضارهم ، فقال : بلغني الذي قُلْتُم ؛ وإنَّ أحدكم يأتي فيمدحني بالقصيدة يشبِّب فيها فلا يَصِلُ إلى المدح حتى تذهب لذّةُ حلاوته ، ورائقُ طلاوته ؛ وإنَّ أبا العتاهية أتى فشبَّب بأبياتٍ يسيرة ، ثم قال : إنَّ المطايا تشتكيك ؛ لأنَّها . . . وأنشد الأبيات . وكان أبو العتاهية لمّا مدحه بهذا الشعر تأَخر عنه برّه قليلاً ، فكتب إليه يستبطِئه : الطويل :
أصابت علينا جودَك العينُ يا عُمَرْ . . . فنحن لها نَبْغِي التمائمَ والنُشَر
أصابتك عَيْنٌ في سخائك صُلبةٌ . . . ويا ربّ عين صُلْبَةٍ تَفْلِقُ الْحَجَرْ
سَنَرْقيكَ بالأَشعارِ حتى تّملّها . . . فإن لم تُفِقْ منها رقَيْنَاكَ بالسُوَرْ
وقال : البسيط :
يا ابنَ العَلاء ويا ابْنَ القَرْم مرداس . . . إني مَدَحْتُكَ في صَحْبي وجُلاسي
أُثني عليك ولي حالٌ تُكَذِّبني . . . فيما أَقول فأَسْتَحْيي مِنَ الناسِ
حتى إذا قيل : ما أوْلاكَ من صَفَدٍ . . . طَأْطأْتُ من سُوء حالي عندها رَاسي
فأمر حاجبه أن يدفع إليه المال ، وقال : لا تُدْخِلْه عَلَيَ ، فإني أَسْتَحْي منه .
وذكر بعضُ الرواة أنَّ المهدي خرج متصيداً ، فسمِعَ رجلاً يتغنَّى من القصيدة التيمرَت منها الأبيات في عمر بن العلاء آنفاً : الكامل :
يا مَنْ تفرَدَ بالجمال فما تَرَى . . . عيني على أحَدٍ سِوَاهُ جَمَالا
أكثرتُ في قولي عليك من الرُقَى . . . وضرَبْتُ في شِعرِي لك الأمثَالا
فأبيتَ إلا جفوة وقَطِيعة . . . وأبيت إلاَ نخوَةً ودَلالاَ
باللَّهِ قولي إنْ سألتك واصْدُقي . . . أوَجَدْتِ قَتلي في الكتاب حَلاَلاَ ؟
أمْ لاَ ، ففِيمَ جَفَوتني وظلَمْتني . . . وجعلتني للعالمين نكَالاَ ؟
كم لائم لو كنت أسْمَعُ قوله . . . قد لامني ونَهَى وعَدَ وَقَالاَ
فقال المهدي : عَلَيَ به ، فجاءه ، فقال : لِمَنْ هذا الشعر ؟ قال : لإسماعيل ابن القاسم أبي العتاهية ، قال : لمن يقوله ؟ قال : لعُتْبة جارية المهدي ، قال : كَذَبْتَ ، لو كانَتْ جاريتي لوَهَبْتُها له ، وكانت عُتبة لرَيطة بنت أبي العباس السفاح ، وكان أبو العتاهية فد بلغ من أمرها كل مبلغ ، وكل ذلك فيما زعم الرواةُ تصنع ، وتخلق ، ليُذكَر بذلك .
أبو العتاهية
قال يزيد بن حوراء المغني : كلمني أبو العتاهية أَن أكلمَ المهدي في عتبة ؛ فقلت : إن الكلام لا يمكنني ، ولكن قل شعراً أغنيه إياه ، فقال : البسيط :
نفسي بشيء من الدنيا مُعَلقَة . . . اللهُ والقائمُ المهدِيُ يَكفِيها
إني لأيأسُ منها ثم يطمِعُني . . . فيها احتقارُك للدنيا وما فيها
فعملت فيه لَحْناً وغنَيْتُه المهدي ؛ فقال : لِمَنْ هذا ؟ فأخبرته خَبَرَ أبي العتاهية ، فقال : ننظرُ في أمره ، فأخبرت بذلك أبا العتاهية ؛ فمكث أشهراً ، ثم أتاني فقال : هل حَدَثَ خبر ؟ فقلت : لا ، فقال : غَنه بهذا الشعر : الخفيف : ليت شِعْري ما عندكم ليت شعري . . . إنما أخرَ الجوابُ لأِمرِ
ما جواب أولى بكل جميل . . . من جوابٍ يُرَدُ من بَعدِ شهرِ
قال يزيد : فغنَيتُ به المهدي ، فقال : علي بعُتبة ، فأحضرت ، فقال : إن أبا العتاهية كلمني فيك ، وعندي لكِ وله ما تحبانِ ؛ فقالت له : قد علم مولاي أمير المؤمنين ما أوجَبه من حق مولاتي ، فأُريد أن أذكُرَ لها ذلك ؛ قال : فافعلي ؛ فأَعلَمتُ أبا العتاهية بما جرى ، ومضت الأيام ؛ فسألني معاودةَ المهدي ، فقلتُ له : قد عرفت الطريقَ فقل ما شئت حتى أُغنيه ، فقال : الكامل :
أَشرَبتَ قَلْبي مِن رَجائك مالَهُ . . . عَنَق إليكَ يَخبُ بي ورَسيمُوأمَلْتُ نحو سماءً صوْبِكَ ناظِرِي . . . أرْعَى مَخَايل بَرْقِها وأشيمُ
ولقد تنسَمْتُ الرياحَ لحاجتي . . . وإذا لها من راحَتَيْك نسِيم
ولربما استيأستُ ثم أقولُ : لا . . . إنَّ الذي ضَمِنَ النجاحَ كريم
فغنيته بالشعر ، فقال : عَلَيَ بعُتبة ، فأَتت ؛ فقال : ما صنعت ؟ قالت : ذكرت ذلك لمولاتي فأبتْه وكرِهَتْه ، فليفعَلْ أميرُ المؤمنين ما يريد ، فقال : ما كنتُ لأفعل شيئاً تكرهه ، فأعلمت أبا العتاهة بذلك ، فقال : الكامل :
قَطعْتُ منك حبائِلَ الآمالِ . . . وأَرَحْتُ من حلّ ومن ترحال
ما كان أشأمَ إذْ رجاؤك قَادَني . . . وبناتُ وعدك يَعْتَلِجْنَ بِبالي
ولئن طَمِعتُ لَرُب بَرْقٍ خُلَبِ . . . مالَت بذِي طَمَعٍ ولُمْعَةِ آلِ
وقد نُقِلت هذه الحكاية على غير هذا الوجه ، والله أعلم بالحقّ في ذلك .
وضرب المهدي أبا العتاهية مائة سوط لقوله : الطويل :
ألاَ إنَ ظَبْياً للخليفة صادَني . . . ومالي على ظَبْي الخليفة مِنْ عَدْوَى
وقال : أبي يتمرَسُ ، ولحرمي يَتَعَرَضُ ، وبِنِسَائي يَعْبث ؟ ونَفَاهُ إلى الكوفة .
وفي ضربه يقول أبو دهمان : المنسرح :
لولا الَذِي أحدَث الخليفةُ لل . . . عُشاق من ضَرْبهمْ إذا عشقوا
لبُحْتُ باسمِ الذي أحِب ول . . . كنيّ امرْؤٌ قد ثنانِيَ الفَرَقُ
وكان أبو العتاهية بالكوفة ، لمَا نفي ، يَذْكُرُ عُتبة ، ويكنّي باسمها ، فمن ذلك قوله : مجزوء الرمل :
قُلْ لمن لسْتُ أسمي . . . بأَبي أنْت وأمِّي
بأبي أنْت لقد أص . . . بحْت من أكْبَرِ هَمِّي
ولقد قلت لأهْلي . . . إذْ أذاب الحب لَحْمِي
وأرَادُوا لي طبيباً . . . فاكتَفُوا منّي بعلمي :من يكن يَجْهَلُ ما ألْ . . . قى فإنَ الحبَّ سُقْمِي
إنَ رُوحِي لببغدا . . . دَ ، وفي الكوفةِ جِسْمِي
وقوله : البسيط :
أَمسى ببغدادَ ظَبْيٌ لَسْتُ أَذْكُرُهُ . . . إلاَ بَكَيْتُ إذا ما ذِكْرُه خَطَرا
إن المحب إذا شطَتْ منازِلُهُ . . . عن الحبيب بكى أوْ حَنَ أو ذَكَرا
يَا رب لَيْلى طويل بِتُّ أرْقُبهُ . . . حتى أضاءَ عمودُ الصُبْح فانْفَجَرا
ما كنتُ أحسِب إلاَ مُذْ عرفتكُمْ . . . أن المضَاجِعَ مِمَّا تُنْبِتُ الإبَرا
وَاللَيْلُ أطْوَلُ مِنْ يَوْمِ الحِسَابِ عَلَىعَيْنِ الشَّجِيِّ إذا ما نَوْمُهُ نَفَرا
ولمَا قدمت عُتبة ببَغْداد قدِم معها أبو العتاهية ، وتلطَف حتى اتَّصَل بالرشيد في خلافة أبيه المهدي ؛ وتمكَّن منه ، وبلغ المهديّ خبرُه ، فأحضره ؛ فقال : يا بائس ، أنت مستقتل ، وسأَله عن حاله ؛ فأنشده قصيدته التي يقول فيها : مجزوء الكامل :
أنْتَ المُقَابِلُ والمُدَا . . . بِر في المناسبِ والعَديدِ
بَيْنَ العُمُومَةِ والخُؤو . . . لةِ والأُبُوّةِ والجُدُودِ
فَإذَا انْتَمَيْتَ إلى أبِي . . . كَ فأنْتَ في المَجْدِ المَشِيدِ
وإذا انتمَى خَالٌ فَما . . . خالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ يَزِيدِ
يريد يزيد بن منصورة وكانت أم المهديّ أم موسى بنت منصور الحميري ، وأنشده : المديد :
عَلِمَ العَالَم أنَّ المنَايا . . . سامعاتٌ لَكَ فِيمَنْ عَصَاكا فإذا وجَّهْتَها نحْوَ طَاغٍ . . . رَجَعَتْ تَرْعُفُ منه قَنَاكا
وَلَوَ أنَّ الريحَ بارَتْكَ يَوماً . . . في سماحٍ قصرَتْ عن نَدَاكا
وأنشده : المتقارب :
أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً . . . إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها
فلم تَكُ تَصْلُحُ إلاّ لهُ . . . ولم يَكُ يَصْلُحُ إلاَّ لَهَا
ولو رامَها أحدٌ غيرهُ . . . لزُلزِلَت الأرضُ زِلْزالَها
ولو لم تُطِعْه بناتُ القلوبِ . . . لَمَا قَبِل اللَهُ أعمالَها
فقال له المهدي : إن شئت أدَبناك بضَرْبٍ وجيع ؛ لإقدامك على ما نُهيت عنه ،وأعطيناك ثلاثين ألف درهم جائزةً على مَدحِك لنا . وإن شئتَ عَفَونا عنك فقط .
فقال : بل يضِيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميلَ معروفه ؛ ومكرُمتان أكثرُ من واحدة ، وأمير المؤمنين أولى من شَفع نعمَته وأتمّ كرمه . فأمر له بثلاثين ألف درهم وعَفا عنه .
ولمَا قدم الرشيد الرَقَّة أظهر أبو العتاهية الزهد والتصوَف وترك الغَزل ، فأمره الرشيد أن يتغزّل ، فأبى ، فحبسه ، فغنّى بقوله : الطويل :
خَلِيليَ ما لي لا تزال مَضَرَتي . . . تكونُ على الأقدار حَتْماً من الحَتْمِ
كفاك بحقّ اللَه ما قد ظلمتَني . . . فهذا مقام المستجير من الظلمِ
أَلاَ في سبيل اللَّه جسمي وقُوتي . . . أَلاَ مُسعِدٌ حتى أنوحَ على جِسْمِيَ
فأمر بإحضاره وقال : بالأمس يَنْهاك أمير المؤمنين المهدي عن الغَزل فتأبى إلاّ لجاجاً ومَحْكا ؛ واليوم آمرك بالقول فتأبَى جُرْأة عليّ وإقداماً ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الحسناتِ يُذْهبنَ السيئات ، كنتُ أقول الغزلَ ولي شبابٌ وجِدَّة ، وبي حَراك وقُوَة ، وأنا اليوم شيخ ضعيف لا يحسن بمثلي تَصابٍ ؛ فردَه إلى حبسه ؛ فكتب إليه : الطويل :
أنا اليوم لي ، والحمدُ للَّه ، أشْهرٌ . . . يَرُوح عليَ الغَمُّ منك ويَبْكُرُ
تذكَّر ، أمينَ اللَهِ ، حَقّي وحُرْمَتي . . . وما كنت تُوليني ، لعلَك تَذْكُرُ
لياليَ تُدني منك بالقُرب مجلسي . . . ووجهُك من ماءِ البشاشة يقطُرُ
فمَن لي بالعين التي كنتَ مرّةً . . . إليَّ بها من سالِفِ الدَّهْرِ تَنْظُرُ ؟
فبعث إليه : لا بأس عليك : فقال : الوافر :
كأنَّ الخلقَ رَكْبٌ فيه رُوح . . . له جَسَدٌ وأنْت عليه راسُ
أمين اللّهِ إنَّ الحَبْسَ بأسٌ . . . وقد وقّعتَ : ليس عليك باسُ
فأخرجه .
أخذ البيتَ الأول من هذين علي بن جبلة وزاد فيه ، فقال لأبي غانم الطوسي : السريع :
دجلة تَسْقي وأبو غانمٍ . . . يُطْعِمُ مَنْ تَسْقي من النَّاسِ
والخلْقُ جِسمٌ ، وإمام الهدى . . . رَأس ، وأنتَ العينُ في الرَاسعمر بن العلاء
وكان عمر بن العلاء ممدَّحاً ، وفيه يقول بشار بن برد : المتقارب :
إذا أيقظَتْكَ حُرُوبُ العِدَى . . . فَنبِّه لها عُمَراً ثمَّ نَمْ
دَعَاني إلى عُمرٍ جودُهُ . . . وقولُ العشيرة بَحْرٌ خِضَم
ولولا الذي ذكروا لم أكُنْ . . . لأمدَح ريحانةً قبل شَم
فتًى لا يَبيتُ على دِمنَةٍ . . . ولا يشرب الماءَ إلا بدَم
أخذ هذا البيت أبو سعيد المخزومي ، فقال : البسيط :
وما يُرِيدون ، لولا الجبن ، من رَجُل . . . بالليل مشتَمِل بالجَمْرِ مُكْتَحِلِ
لا يضربُ الماء إلاَ من قلِيبِ دم . . . ولا يبيتُ له جارٌ على وَجَلِ
وقال أبو الطيب : الطويل :
تعوَدَ ألاَ تَقضَمَ الحَب خيْلُهُ . . . إذا الهامُ لم تَرْفَعْ جُنُوبَ العَلائِق
ولا تَرِد الغُدْران إلا ومَاؤُها . . . مِنَ الدَمِ كالرَّيْحَانِ تحتَ الشَقائِقِ
وقال أبو القاسم بن هانئ : الكامل :
مَنْ لَمْ يَرَ المَيْدَان لَمْ يَرَ مَعْرَكاً . . . أشِباً ، ويَوْماً بالأَسنة أكْهَباوكتائباً تُرْدِي غَوَارِبُها العِدَى . . . وفَوَارساً تَعْدو صوالِجها الظبا لا يورِدون الماء سُنْبُكَ سَابحٍ . . . أو يكتسي بِدَمِ الفَوَارس طُحْلُبا
قال : وبلغ عمرَ بن العلاء أن أبا العتاهية عاتبٌ عليه في هَنَاتٍ نالها منه في مجلس ، وكان كثيرَ الانقطاع إليه ، فتخلّف عنه ، فساء ذلك عمر ، فكتب إليه : قد بلغني الذي كان من تجنبك فيما استخفك به سوءُ الأدب عن عِلْمِ حقيقةٍ مني ، فصرت مُتَردّداً . من العمى في يَلامِيع الشبهة ؛ ولو كان معك من علمك داع إلى لقائي لكشفت لك مَوْرِدَ الأمر ومصدره ، لترجع إلى الصلة ، فتقال أو تأبى إلا الصَّريمة فتَصْرِم ؛ وقد قال الأول : الطويل :
ومُستَعتب أَبْدَى على الظن عَتْبَهُ . . . وأخرج منه المحفِظَاتِ غَليلُ
كشفتُ له عُذراً فأَبْصَر وجهه . . . فعاد إلى الإنصافِ وهو ذَليلُ
فأجابه أبو العتاهية : لم أَجُزْ بعَتْبي الحقيقةَ إلى الشبهة ، ولم أجد سعةً مع عظيم قدرتك إلى حمل اللائمة ، فقصَر بي الخوفُ من سُخْطِك ، على تَرْك معاتبتك ، لأنَّ المعاتبة لا تجتني إلاَّ من المساوِي ، ولو رغبت عن الصلة إلى القطيعة لتقاضيتك ذلك عن طول الصُحبة ، وسالف المدَّة ، وأنا أقول : الطويل :
رضِيتُ ببعض الذلّ خَوْفَ جميعهِ . . . وليسَ لمثلي بالملوكِ يَدَانِ
وكنتُ امْرَأً أخْشَى العقابَ وأتقي . . . مَغَبةَ ما تَجْني يَدِي ولسَاني
فهل مِنْ شَفِيع منك يَضْمَن تَوْبَتي . . . فإني امْرَؤٌ أوفي بكل ضمانِ ؟
فتراجعا إلى أحسن ما كانا عليه .
وإنما ألّم أبو العتاهية في قوله : إن المطايا تشتكيك . . . وما يليه بقول أبي الْحَجناء نُصَيبٍ الأكبر : الطويل :
فعاجوا فأَثْنَوا بالذي أَنْتَ أهْلُه . . . ولو سَكَتُوا أَثْنَت عليك الْحَقائِبُ
وقال أبو الطيب في أبي العشائر الحمداني : المنسرح :
تُنْشِدُ أثْوَابُنَا مَدَائحَهُ . . . بألْسُنٍ مَا لَهُنَ أفْوَاهُإذَا مَرَرْنَا عَلَى الأصْمِّ بِهَا . . . أَغْنتهُ عَن مِسْمَعَيْهِ عَيْنَاهُ
وهذا المعنى من النصْبَةِ الدالة بذاتها التي ذكرتُها عن الجاحظ في أقسام البيان .
سبحان الخالق الكريم
وقال بعْضُ الخطباء : أشهد أنّ في السماوات والأرض آياتٍ ودَلالات ، وشواهدَ قائماتٍ ، كل يؤدي عنك الحجَّة ، ويشهد لك بالربوبية .
ونظيرُ هذا قولُ أبي العتاهية ، وروى أنه جلس في دكان ورَاق ، وأخذ كتاباً فكتب على ظهره : المتقارب :
فوا عجباً كيف يُعْصَى المَلِي . . . كُ أمْ كيف يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ ؟
وللَّهِ في كل تحريكةٍ . . . وتَسْكِينَةٍ في الوَرَى شاهِدُ
وفي كلِّ شيءً له آيَة . . . تَدُلُ على أنَه وَاحِدُ
وانصرف ، فاجتاز أبو نواس بالموضع فرأى الأبياتَ ، فقال : لمِنْ هذا ؟ فلودِدْتها لي بجميع شِعْرِي ، فقيل : لإسماعيل بن القاسم ، فوقع تحتها : المجتث :
سبحانَ مَنْ خَلَقَ الْخَل . . . قَ من ضعِيفٍ مَهِينِ
فصَاغَهُ من قَرَارٍ . . . إلى قَرَار مكينِ
يَحُولُ شيئاً فشيئاً . . . في الْحُجْبِ دونَ العيونِ
حتى بَدَتْ حركات . . . مخلوقةٌ مِنْ سُكُونِ
وقال الفضل بن عيسى الرَقاشي : سَلِ الأرض مَنْ غَرس أشْجارَكِ ، وشَق أنهارَكِ ، وجَنَى ثمارَكِ ، فإنْ لم تُجِبْكَ حِوَارا ، أجابَتْك اعتباراً .وهذا شبيهٌ بقول عديّ بن زيد ، وقد نزل النعمانُ بن المنذرِ تحت سَرْحَة ، فقال : أتدرِي ما تقول هذه السَّرْحة أيها الملك ؟ قال : وما تقول ؟ قال : تقول : الرمل :
رُبً رَكْبٍ قد أنَاخُوا حَوْلَنا . . . يشربون الْخَمْرَ بالماءِ الزُلالِ
ثم أضْحَوْا لَعِبَ الدّهرُ بهم . . . وكذَاك الدَّهْرُ حالاً بَعْدَ حالِ
ويروى عَكَفَ الدَهْرُ بهم فثَوَوْا . فتكدَّرَ حالُ النُعمان وما كان فيه من لذةٍ .
ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال
لو سكت الشَّاكرُ لنَطَقَت المآثِرُ . لو صَمتَ المُخَاطِبُ لأثْنَت الحقائِبُ ، ولَشَهِدَتْ شواهِدُ حاله ، على صِدْقِ مَقَالِه . إن جَحَدْتُ ما أوْلاَنيه ، كَفَرْتُ ما أعْطَانيه ، نطقتْ آثارُ أياديه عليَّ ، ولمعت أعلامُ عَوَارِفه لديَ .
ولأبي الفضل الميكالي من رسالة : وردَ فلانٌ فتعاطى من شُكْرِه على نعمِه التي ألبسه جمالَها ، وأسحَبه أفْيالَها ، ما لو لم يتحدّث به ناشراً ومُثنياً ، ومعِيداً ومُبْدياً ، لأَثنَت به حَالُه ، وشهَدَتْ به رِحَاله ، حتى لقد امتلأت بذكرِه المحافلُ ، وسارت بحبره الركْبَان والقوافل ، وصارت الألسِنةُ على الشكر والثناء لساناً ، والجماعة على النَّشْرِ والدعاءَ أنصاراً وأعواناً ، على أنه وإن بالغَ في هذا الباب ، وجاوزَ حَدَ الإكثار والإسهاب ، نهايتُه القصورُ دون واجبه ، والسقوطُ عن أدنى درجاته ومَرَاتبه .
ومما يقترن لهم بهذا المعنى من ذِكْرِ الشكر : قال أبو الفتح البستي : الحرّ نَحْلُ الشكر ، إن أجْنَاه المرءُ من خيره شكراً أجناه من بِرّه شَهْداً .
غيره : الشكر ترجمانُ النيَّةِ ، ولسانُ الطَوَية ، وشاهدُ الإخلاصِ ، وعنوان الاختصاص . الشكرُ نسيمُ النِّعَمِ ، وهو السببُ إلى الزيادة ، والطريقُ إلى السعادة . الشكرُ قيْدُ النَعْمَة ، ومفتاح المزيد ، وثَمنُ الجنةِ . مَنْ شكرَ قليلاً ، استحقَّ جزيلاً . شكْرُ الموْلَى ، هو الأوْلى . الشكر قَيْد النِّعم وشِكالها ، وعِقالُها ، وهو شبيه بالوَحْشِ التي لا تقيم مع الإيحاش ، ولا تَريم مع الإيناس . مَوْقِعُ الشكرِ من النعمة مَوْقِعُ القِرَى من الضيفِ ، إنْ وجده لم يَرِم ، وإن فَقَدهُ لم يُقِم . الشكر غرسٌ إذا أُودِع سَمْع الكريم أثْمر الزيادةَ ، وحفظَ العادة . الشكرُ تعرّض للمزيد السائغ ، والنِّعم السَوابغ . شُكْرُهُ شكرُ الأسير لمن أطلْقَه ،والمملوك لمن أعتْقَه . أثْنَى عليه ثناء الرَوْضِ المُمْحِل ، على الغَيْثِ المُسْبِل . أثنى عليه ثناء لسان الزهَر ، على راحة المطر . أْثنى عليه ثناء العطشان الوارد ، على الزُلالِ الباردِ . شكْرُه شكر الأرض للدِّيم ، وزُهَيْر لهَرِم . بَسَطَ لسانَ الثناء والدعاء ، وبلغ عنان الشكْرِ عَنَان السماء . شَكَره شكراً ترتاحُ له المكارم ، وتهتز له المواسم . لأشكُرَنه شُكْراً تَشِيع أنواعُه ، وتَنَبسطُ أبْواعه ، ويلذ ذكره وسماعُه . شُكر ملأَ القلبَ واللسانَ ، كشكر حَسَان لآل غَسانَ . أَطال عِنان الشكْرِ ، وفسح مجالَه ، ورفع أعْمِدته ، ومذَ أرْوِقته . شكْر كأنفاسِ الأحبابِ ، أو أنفاس الأسحارِ ، أو أنفاس الرّياض غِب القِطَار .
من أخبار نُصَيب وشعره
رجع إلى ما انقطع : كان سببُ قولِ نصيب : الطويل :
فَعَاجُوا فأَثْنَوا بالَذي أنْتَ أهْلُه
أنه كان مع الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك ، فقال سليمان بن عبد الملك : يا فرزدق ، مَنْ أشعر الناس ؟ قال : أنا يا أمير المؤمنين ، قال : لماذا ؟ قال : بقولي : الطويل :
ورَكْبٍ كأَنَ الريحَ تطلُبُ عندهُم . . . لها تِرَةً من جَذْبها بالعصائبِ
سرَوْا وسَرَتْ نكباءُ وَهْيَ تلفهمْ . . . إلى شُعَب الأكْوارِ ذاتِ الحقائِبِ
إذا آنسُوا ناراً يقولون : لَيتَها ، . . . وقد خَصِرَتْ أيديهُمُ نارُ غالبِ
يريد أباه - وهو غالب بن صَعْصَعَةَ بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان ابن مجاشع - فأَعرض عنه سليمان كالمغضَب ؛ لأنه إنما أراد أن يُنشِدَ مدحاً فيه ؛ ففهم نُصَيب مراده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد قلتُ أبياتاً على هذا الروي ليست بدونها ، فقال :هَاتِها ؛ فأنشأ نُصَيْبٌ يقول : الطويل :
أقولُ لركْبٍ قافلين لَقِيتهُمْ . . . قَفَا ذاتِ أَوْشالٍ وموْلاَك قَارِبُ
فقد أخبروني عن سليمان أنني . . . لمعروفهِ من آل وَدَّانَ طالبُ
فعاجوا فأَثْنوا بالَذي أنْتَ أهلُهُ . . . ولو سكتوا أثنَتْ عليكَ الحقائِبُ
فقالوا : تركْنَاهُ وفي كل لَيْلَةٍ . . . يُطِيفُ به من طالبي العُرْف راكِبُ
ولو كان فَوْقَ الناس حي فِعاله . . . كفعلِك أو للفعل منكَ يقارِبُ
لقُلْنا : له شِبْهُ ، ولكِنْ تعذَّرَتْ . . . سِوَاك عن المستشفعين المطالِبُ هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حَوْلَه . . . وهل تُشْبِه البدرَ المنيرَ الكواكبُ ؟
فقال سليمانُ : أحسنتَ ، والتفتَ إلى الفرزدق فقال : كيف تسمعُ يا أبا فِراس ؟ قال : هو أشعَرُ أهل جِلْدَته ، قال : وأهل جِلْدَتك ؛ فخرج الفرزدق وهو يقول : الوافر :
وخَيْرُ الشعر أكْرَمُه رجالاً . . . وشَرُ الشعرِ ما قَال العبيدُ
في باب المدائح
قال أبو العباس محمد بن يزيد : وهذا بابٌ في المدح حسن متجاوز مُبْتدع لم يُسْبَق إليه .
قول نصيب : من أهْل ودّان . قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : ذكر محمد ابن كناسة والزبيدي أن نصَيباً من أهل ودّان ، وكان عبْداً لرجل من بني كنانة هو وأهل بيته ، وزعم أبو هفان أنه عبد لعبد العزيز بن مروان ، وكان نصيبٌ شديدَ السواد ، وهو القائل : الطويل :
كُسيتُ ولم أمْلِكْ سَواداً ، وتحتَهُقميصٌ من القُوهيِّ بيضٌ بنَائقُهْ
فما ضرَّ أثْوابي سَوادي ، وإنَني . . . لكالمِسْك لا يَسْلُو عن المسك ذائِقُهْ
وقال سُحَيم عبد بني الحسحاس : البسيط :
أشْعَارُ عبد بني الحسْحاس قُمْنَ لهُ . . . عند الفَخار مَقَامَ الأصْل والوَرِقِإن كنتُ عبْداً فنفسي حُرَّةٌ كَرَماً . . . أو أسْوَدَ اللَّونِ إني أبْيَضُ الخُلُقِ
وقال أبو الطيب المتنبي لكافور الإخشيدي : الخفيف :
إنَما الجِلْدُ مَلْبَسٌ وابيِضاضُ ال . . . خلق خَيْرٌ من ابْيضاضِ القَباءِ
وقال نصيب لبعض ملوك بني أمية : إن لي بنات نفَضْت عليهنّ من سواديَ ، فقال : ما أحسن ما تلطّفت لهنّ وأمر له بصلة .
وكان أبو تمام حبيبُ بن أوْسٍ ، لمَّا مدح أبا جعفر محمد بن عبد الملك الزيات بقصيدته التي أولها : الطويل :
لَهَان علينا أنْ نقولَ وتَفْعلا . . . ونذكرَ بعضَ الفضل منك وتفضلا
وهي من أحسن شعره ، وفج له على ظهرها : الطويل :
رأيتك سَمْحَ البيع سَهْلاً ، وإنما . . . يُغَالي إذا ما ضَنَّ بالشيءِ بائعُهْ
فأما إذا هانتْ بضائعُ بَيْعهِ . . . فيوشك أنْ تبقى عليه بَضَائعُهْ
هو الماء إن أجْممتَهُ طابَ وِرْدُهُ . . . ويفسد منه أَنْ تُباحَ مَشَارعه
فأجابه بقصيدة طويلة ، واحتجّ عليه واعتذرَ إليه في مدحه لغيره ؛ فقال في بعض ذلك : البسيط :
أمّا القوافي فقد حصَّنْتُ غُرَّتها . . . فما يُصَاب دَمٌ منها ولا سَلَبُ
مَنَعْت إلاَّ مِنَ الأكفاء أيِّمَها . . . وكانَ منكَ عليها العَطْف والحدَبُ
ولو عَضَلْتَ عن الأكفاء أيمَها . . . ولم يكن لكَ في إظهارها أرَبُ
كانت بناتِ نصيبٍ حين ضَن بها . . . على المَوالي ولم تحفل بها العَرَبُ
وقد قيل إن أبا تمام أجابه بقوله : الطويل :
أبا جعفر ، إن كنتُ أصبحْتُ شاعراً . . . أُسامح في بَيْعِي له من أبايعُهْ
فقد كنتَ قبلي شاعراً تاجراً بهِ . . . تسَاهلُ من عادَت عليك مَنافعُهْفصِرْتَ وزيراً والوزارة مَكرع . . . يَغَصُ به بعد اللَّذَاذة كَارِعُهْ
وكم من وزير قد رأينا مسَلَّطاً . . . فعادَ وقد سُدَّتْ عليه مَطَالِعُهْ
وللَه قَوْسٌ لا تطيش سِهامُها . . . وللَّهِ سيفٌ لا تقلُّ مَقَاطعُهْ
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي : ويقال إن هذه الأبيات متحولة لحبيب . وليس مثل أبي جعفر في جلالةِ قَدْره واصطناعه لحبيب يُعَامَل بمثل هذا الجواب ، ولا يَنْتَهي جَهْلُ حبيب أن يقابل مأموله ومن يَرْتَجي جليلَ الفائدة منه بهذه الأبيات .
وقد قيل : بل قالها ، ولم ينشدها أحداً ؛ وإنما ظهرت بعد موته .
وكان ابنُ الزيات كما قال شاعراً ، ومدح الحسن بن سهل في وزارته للمأمون ؛ وأعطاه عشرة آلاف درهم ، فقال : البسيط :
لم أمْتَدِحكَ رجاءَ المالِ أطْلُبه . . . لَكن لِتُلْبِسني التَّحْجِيلَ والغُرَرَا
ما كان ذلك إلاَّ أنّني رَجُلٌ . . . لا أقربُ الوِردَ حتى أعْرِفَ الصَدَرا قال الصولي : وكان السببُ الذي أوْجد أبا جعفر على أبي تمام حتى قال : لقد رأيتك سَهْلَ البيع - الأبيات قولَ أبي تمام قصيدته المشهورةَ في ابن أبي دوَاد التي أولها : الوافر :
سَقَى عَهْدَ الحمى سَبَلُ العِهادِ . . . ورُوِّيَ حاضر منه وبادِ
نَزَحْتُ به رُكِيَّ الدمعِ لما . . . رأيت الدمعَ عِنْ خَيْر العَتاد
يقول فيها في مدحه :
هُمُ عِظَمُ الأثافي من نَزَارٍ . . . وأهلُ الهَضب منها والنَّجَادِ
مُعَرَسُ كل معْضَلةٍ وخَطْبٍ . . . ومَنْبِتُ كلًّ مكرمةٍ وآدِ
إذا حدَثُ القبائلِ ساجَلُوهم . . . فإنهم بَنُو المجد التَلادِتُفرج عنهم الغمراتِ بيضٌ . . . جِلاد تحت قَسْطَلةِ الجِلاد
وحشو حوادِث الأيام منهم . . . معاقل مِطْرَدٍ وبنو طِرادِ
لهم جهلُ السباع إذا المنايا . . . تمشَّتْ في الوغى وحُلُومُ عادِ
لقد أنْسَتْ سُلوّي كل دهرٍ . . . محاسنُ أحمدَ بن أبي دُوادِ
متى تحْلُلْ به تحلُلْ جَنابا . . . رضيعاً للسواري والغَوادِي
وما اشتبهت سبيلُ المَجدِ إلاَ . . . هَداك لِقبْلَةِ المعروفِ هادِ
وما سافرتُ في الآَفاق إلاّ . . . ومِنْ جَدْواك راحِلَتي وزادي
مقيمُ الظنِّ عندك والأماني . . . وإن قَلِقَتْ ركابي في البلادِ
وهذه النكَت التي أحْقَدت أبا جعفر ، وأعتبته على أبي تمام ، وفي هذه القصيدة يقول معتذراً إليه في الذي قُرِفَ به عنده من هجاء مضر :
أتاني عائر الأنباء تَسْري . . . عقاربُهُ بداهيةٍ نآد
نَثَا خَبَرا كأنَ القلبَ منهُ . . . يُجَرُ به على شَوْكِ القَتَادِ
بأني نِلْتُ من مُضَرٍ وخَبتْ . . . إليكَ شَكِيتي خَبَب الجوادِ
وما رَبْع القطيعةِ لي برَبْعٍ . . . ولا نَادى الأَذىَ مِني بِنَادِ
وأين يجوز عن قَصْدٍ لساني . . . وقَلْبي رائحٌ برِضاكَ غادِ ؟
ومما كانتِ الحُكَماء قالَتْ : . . . لِسَانُ المرء من خَدمِ الفُؤَادِ
وقِدْما كنتُ معسولَ القوافي . . . ومأدومَ المعاني بالسَّدادِابن أبي دُوَاد
وكان ابن أبي دُوَاد غالياً في التعصُب لإياد وإلحاقها بنزار ، على مذهب نُسَاب العَدْنانيين . قال : وكل من بالعراق من إياد دخلوا في النَخَع ، وإليهم يُنْسَبون ؛ ومَنْ كان بالشام فهم على نسبهم في نزار ، وابن أبي دُوَاد يرمى بالدعوة ؛ والتكثيرُ من أخباره يُخْرِجُ إلى ما أخَافَهُ من تَطْويلِ التصرُف ، في مملول التكلُفِ .
وكان ابن أبي داود عالماً بضروبِ العِلم والأدب ، متصرّفاً في صناعة الجِدال ، على مذهبِ أهل الاعتزال ، وكانت العداوة بينه وبين ابن الزيات بينة ، والنفاسة في الرياسة بينهما متمكَنة ، وقال له بعض الشعراء : الوافر :
أكلّ أبي دُوادٍ من إيادِ . . . فكل أبي ذؤيبٍ من هُذَيلِ
قال مسلم : ما تاه إلاَ وضيع ، ولا فاخر إلا سقيط ، ولا تعصَب إلاَّ دَخِيل .
وقال مدني لرجل : ممن أنت ؟ فقال : من قريش ، والحمد لله ، قال : بأبي أنت التحميد هاهنا ريبة واسم أبي دُوَاد دُعْمِيّ ، قال أبو اليقظان : وهم من قبيلة يقالُ لها بنو زهرة أخوة بني جدان ، وقد ذكرهُ الطائي في قوله : الكامل :
والغيث من زهْرٍ سحابةُ رَأفةٍ . . . والركنُ من شيبانَ طَوْدُ حديدِ
ذكر شيبان ؛ لأن خالدَ بن يزيد الشيباني شَفَع له عند ابن أبي دُوَاد فيما ينساقُ الحديثُ إليه من مَوْجِدَتِه عليه . قال محمود الوراق : كنتُ جالساً بطَرفِ الْجِسْر مع أصحاب لي ، فمرَ بنا أبو تمام ، فجلس إلينا ، فقال له رجل منّا : يا أبا تمّام ، أيّ رجل أنْتَ لو لم تكن من اليَمَن ؟ قال : ما أحب أني بغير الموضع الذي اختاره اللَهُ لي ، فَمِفَن تحِب أن أكونَ ؟ قال : من مُضَر ، قال : إنما شَرُفَتْ مُضَر بالنبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولولا ذلك ما قيسوا بملوكنا وأذْوائنا ، وفينا كَذَا ، ومنا كذا - يَفْخَر ؛ وذكر أشياءَ عاب بها مُضَر ، ونُمِي الخبرُ إلى ابن أبي دُوَاد وزِيدَ فيه ، فقال : ما أُحِب أنْ يَدْخُلَ علَيَّ ، فقال يعتذر إليه بقصيدة أولها : الخفيف :
سَعِدَتْ غُرْبةُ النوَى بسُعَادِ . . . في طلوع الإتْهامِ والإنجادِ
يقول فيها :
بعد أن أصْلَت الوُشاةُ سُيُوفاً . . . قَطَعَتْ فيَ وَهْيَ غيرُ حِدَادِفَنَفى عنكَ زُخْرف القولِ سَمعٌ . . . لم يكن فرضه لغيرِ السدادِ
ضربَ الحِلْمُ والوقارُ عليه . . . دونَ عُورِ الكلامِ بالأسْدادِ
ملأتك الأحْسابُ أيّ حياةٍ . . . وحيا أزْمَةٍ وحيَّة وَادِ
عاتقٌ مُعْتَق من الرقّ إلاَ . . . من مُقَاساةِ مَغْرَمٍ أوْ نِجَادِ
للحَمالاتِ والحمائلِ فيهِ . . . كلُحوب الموارِدِ الأعدادِ
فما رَضِي عنه حتى تشفع إليه بخالد بن يزيد بن مزْيد الشيباني ، فقال في قصيدة : الكامل :
أسْرَى طريداً للحياء مِنَ التي . . . زَعَمُوا ، وليس لقوله بطَريدِ
كنتَ الربيعَ ، أمامَهَ ووراءَه . . . قَمَرُ القبائل خالِدُ بن يزيدِ
وغداً تَبيّنُ ما براءة ساحتي . . . لو قدْ نفضت تَهائمي ونجودِي
لله درُك أيُ بابِ مُلِمَةِ . . . لم يُرْمَ فيه إليك بالإقليدِ
لما أظلَتني غَمامُك أصبْحَتْ . . . تلك الشهودُ علي وهْي شُهودي
من بعد ما ظنُوا بأنْ سيكونُ لي . . . يومٌ بِزَعمهم كيوم عَبيدِ
يريد عَبِيد بن الأبرص الأسدي ، وكان النعمان بن المنذر لقيه يوم بُؤْسِه فقتله .
وكان ابن أبي دُوَاد كريماً فصيحاً جَزْلاً . قال أبو العيناء : كنا عند ابن أبي دُواد ومعنا محمود الورّاق وجماعة من أهل الأدب والعلم ؛ فجاءه رسول إيتاخ فقال : إن الحاجب أبا منصور يقرأُ على القاضي السلام ، ويقول : القاضي يتَعنَى ويَجيء في الأوقات ؛ وقد تفاقم الأمرُ بينه وبين كاتب أمير المؤمنين ، يريد ابن الزيات ، فصار يضرُنا عند قَصْدِه القاضي ، وما أحِب أن يتعنى إلي لهذا السبب ؛ إذ كنت لا أصِل إلى مكافأته . فقال : أجيبوهعن رسالته ، فلم نَدْر ما نقول ، ونظر بعضُنا إلى بعض فقال : أمَا عندكم جواب ؟ قلنا : القاضي - أعزّه اللّه ، أعلمُ بجوابه منّا ، فقال للرسول : اقرَأْ عليه السلام ، وقلْ له : ما أتيتك متكثراً بك من قلة ، ولا متعززاً بك من ذِلَة ، ولا طالباً منك رُتْبة ، ولا شاكياً إليك كُرْبَة ، ولكنّك رجلٌ ساعدَك زَمَان ، وحرَكَك سلطان ، ولا علم يُؤلف ، ولا أصل يُعْرَف ؛ فإن جِئتك فبسلطانك ، وإن تركتك فلنفسك فعَجبْنا من جَوَابِه .
خالد بن عبد اللّه القسْري
صعد خالدُ بن عبد اللّه القسري المنبر يومَ جمعة ، فخطب وهو إذْ ذاك أميرٌ على مكة ، فذكر الحجَّاج فأحْمَد طاعتَه ، وأثْنى عليه خيراً ، فلمّا كان في الجمعة الثانية وردَ عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك يأمرُه فيه بِشَتْم الحجّاج وذِكْرِ عيوبهِ ، وإظهار البراءة منه ، وصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : إن إبليس كان مَلَكاً من الملائكة ، وكان يُظْهِر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترَى له بذلك فضلاً ، وكان الله تعالى قد علم من غِشّه ما خَفِيَ عن الملائكة ، فلّما أراد الله فضيحتَه ابتلاه بالسجود لآدم ، فظهر لهم ما كان يُخْفيه عنهم فلعنوه ؛ وإن الحجاجَ كان يُظْهِر من طاعة أمير المؤمنين ما كنَّا نرى له بذلك فضلاً ، وكان الله عزّ وجلّ ، أطْلَعَ أميرَ المؤمنين من غِلَه وخُبْثه على ما خَفِيَ عنّا ، فلما أراد الله فضيحتَه أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين ، فالْعَنُوه ، لعنهُ الله . ثم نزل .
أبو تمام والأفشين
وكان أبو تمام قد مدح الأفشين التركي ، واسمه خيذر بن كَاوُس ، وكان من أجلّ قُوَاد المعتصم ، وأبْلَى في أمر بابك الخُرّمِيَ بلاءً حمده له ؛ فلما سَخِطَ المعتصمُ عليه لِمَا نُسِبَ إليه من سوء السيرة ، وقُبْح السريرة ، وأنه يخْطب درجة بابك ، ويريد التحصن بموضع يَخْلَع فيه يدَه عن الطاعة ، وأظْهر القاضي أحمد بن أبي دُواد عليه أنه على غير الإسلام ، قال أبو تمام معتذراً للمعتصم من تقديمه واجتبائه ، ولنفسه من مدحه وإطرائه : الكامل :
ما كان لولا فحشُ غدرة حيدرٍ . . . ليكونَ في الإسلام عامُ فِجَارِ
هذا الرسول وكان صفوةَ ربِّهِ . . . من خَيْرِ بادٍ في الأنام وقارِقد خصَ من أهل النفاق عصابةً . . . وهم أشدُ أذًى من الكُفارِ
واختار من سعدٍ لَعِينَ بني أبي . . . سَرْح لعمر اللّه غيرَ خيار
حتى استضاءَ بشعلةِ السُوَرِ التي . . . رفَعت له ستراً من الأستار
ثم ذكر في هذه القصيدة أنّ قتل الأفشين لبابك لم يكن بصِدْق بصيرة ، ولا لصحة سريرة ، فقال :
والهاشمون المستقلة ظُعنهم . . . عن كَربلاءَ بأَثْقَل الأوزار
فشفاهم المختارُ منهُ ولم يكن . . . في دينهِ المختارُ بالمختارِ
أهل النفاق
أما من ذُكِر من أهل النفاق ، فقد كانوا يظهرون غَيْرَ ما يُسِرُّون ، حتى أَطلع الله نبيَّه عليه السلام على أخبارهم ، ونَشَرَ له مَطْوِفي أسرارهم .
وأما ابنُ أبي سَرْح فهو عبدُ الله بن سعد بن أبي سَرْح بن الحسام بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيٌ ، أسلم قبل الفَتْح ، واستكتبه النبيّ عليه السلام ؛ فكان يكتبُ موضِعَ الغفورِ الرحيم العزيزِ الحكيم ، وأشباه ذلك ؛ فأطْلَع اللَهُ عليه النبيّ عليه السلام ، فهرب إلى مكة مرتداً ؛ وأُنزل فيه : ' ومَنْ قالَ سأنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَهُ ' . فأَهْدَر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، يوم الفتح دَمَه ، فهرب من مكة ، فاستَأمن له عثمانُ رضي اللّه عنه ؛ فأمَنه رسولُ الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو أخو عثمان من الرَضاعة ، وأسلم فحسُنَ إسلامُه ، وولّي مصر سنة أربع وعشرين ، فأقام عليها إلى أنْ حُصِر عثمان ، ومات بقيسارية الشام ، ولم يدخل في شيء من الفتَن الحجازية في ذلك الوقت .
وأما المختارُ الذي ذكره فهو المختار بن أبي عُبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير ابن عوف بن عَفدة بن عروة بن عَوف بن قَسي وهو ثقيف ؛ وكانت لأبيه في الإسلام آَثارٌ جميلة ، وأختُ المختار صفية بنت أبي عبيد زوجُ ابن عمر ، والمختار هو كذاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث ، وكان يَزْعُم أنه يُوحَى إليه في قتَلَةِ الحسين ؛ فقتلهم بكل موضع ،وقتل عبيد الله بن زياد ، وله أسْجاع يَصْنَعُها ، وألفاظ يبتدعها ، ويزعم أنها تنزل عليه ، وتُوحَى إليه .
وقيل للأحنف بن قيس : إنّ المختارَ يزعم أنه يُوحَى إليه فقال : صدق ، وتلا : ' وَإنَّ الشَيَاطِينَ لَيُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ ' . وأخبارُه كثيرة ليس هذا موضعها .
لما هُزم أمية بن خالد بن أُسَيْدٍ لم يَدْرِ الناس كيف يقولون له ، فدخل عبدُ الله بن الأهتم عليه ، فقال : الحمد للّه الذي نظر لنا أيها الأمير عليك ، ولم ينظرْ لك علينا ، فقد تعرَضت للشهادة بجَهْدِك ، إلاَ أن اللّه علم حاجةَ أهل الإسلام إليك ، فأبقاك لهم بخذلان مَنْ معك . فصدر الناسُ عن كلامه .
ويتعلّق بهذه المقامة فصل في غرائب التكاتب
كتب حمدون بن نَهْران إلى عامل عُزِل عن عَمَله : بلغني ، أعزَّك الله ، انْصِرافك عن عملك ، ورجوعُكَ إلى منزلك ؛ فسُرِرْت بذلك ، ولم أسْتَفْظِعْهُ وأجْزَع له ؛ لعلمي بأَنَّ قدرَك أجلُّ وأعْلى من أنْ يرفعَك عملٌ تتولاَه ، أو يضعَك عَزْلٌ عنه ؛ ووالله لو لم تختَر الانصرافَ وتُرِد الاعتزالَ لكان في لُطْفِ تدبيرك ، وثُقوبِ رَوِيتك ، وحُسْنِ تأتيك ، ما تُزِيل به السببَ الداعي إلى عَزْلك ، والباعثَ على صَرْفِك ؛ ونحن إلى أن نهنئك بهذه الحال أوْلى بنا من أن نعزيك ؛ إذ أردْتَ الانصرافَ فأوتيته ، وأحبَبْتَ الاعتزالَ فأُعْطِيته ، فبارك اللَهُ لك في مُنْقَلَبك ، وهنَّاكَ النعمَ بدَوامها ، ورزقك الشُكرَ الموجِب لها الزائدَ فيها .
وكتب ابن مكرم إلى نصراني أسْلَم : أمَا بعد ، فالحمدُ لله الذي وفقك لشكره ، وعرَّفك هدايتَه ، وطهر من الارتياب قلبَك ، وما زالت مَخَايِلُك ممثلةً لنا حقيقةَ ما وهب اللَهُ فيك ، حتى كأنَّك لم تزل بالإسلام مَوْسُوماً ، وإن كنت على غيره مُقيماً ، وكنا مؤملين لما صِرْتً إليه ، مُشْفِقين مما كنتَ عليه ، حتى إذا كاد إشفاقُنا أن يَستَعْلي رجاءنا أتت السعادةُ بما لم تَزَل الأنفسُ تعدّ منْكَ ؛ فأسأل اللهَ الذي أضاءَ لك سبيلَ رُشدِك أن يوفقَك لصالح العمل ، وأنْ يؤتيك في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً ، ويَقِيَك عذابَ النار .
قال بعضُ الكتاب : من الحقّ ما يُستْحَسن تَرْكُه ، ويستهجَنُ عملُه ، وقد يقع من ذلكفيما يحِلّه الشرع ، ويكرهه الأدباء ؛ وكثير ممن يغلبُ على طبعه هذا المعنى يراه سموَ نَفْس ، وعلوَ همة ، حتى رأينا من لا يحضر تزويج كريمتِهِ ، ويولّي أمرَها غير نفسه ، ورأينا من يُجَاوِزَ ذلك إلى ألا يُنكِحَ مستنكحاً ، وزاد به العلوُ إلى تَرْكِ ما ذكره أوْلى ، وكنّا عرفنَا حال إنسان تزوجَتْ أُمّه ، فعظُمَ لذلك همُه ، وانفرد عن أوِدَّائه ، وتوارَى عن أصفيائه ؛ حياءً من لقّائهم ، وكُرْهاً لتهنئتهم له أو عَزائهم ، واضطرته الوَحْشَة إلى قَصْدِ من ظنّ به منهم المسْكَة في تحامي خطابه فيما اجتنب لأجله خُلانَه ، وفارق بسببه إخوانه ، وتخَيّل ذلك المقصودُ أنه إنما لجأَ إليه ليسلّيه ؛ فأَفاض معه فيما قدَر أنه قصد له من المعنى الذي جعله وحيداً خوف المفاوضة .
ثم مضت الأيامُ واختلف الحال ، ورجع إلى العِشرَة وأبناء المودَة ؛ فكان عنده من لم يخاطِبْه أحْظَى ، وفي نفسه أوْفى ، وعلى قلبه أخفّ ، وفي نفسه أشفت ، ونَقَم على ذلك الصديق وعَتب ؛ إذْ لكل من الناس - إلاَّ من طاب مَحْتِدُه وطالَ سؤدده - حالٌ من الإلف والرغبة تحسن المساوي ، ثم حال من المَلَلِ والزَهادة تقبحُ المحاسن ؛ واعتذر المتكلَف من التسلية بما لم يلزمه ، ولم يُرِدْه صفيه ، فإنه فعل ما أوجبته الأخوَّة ، وحقوق الخلطة ، وأسبابُ العشرة ، وانبساط المفاوَضة ؛ ودبَت عقارب الظنون والوشاية ، إلى أن خرجَا بالمُلاحاةِ إلى المُعَاداة ؛ فلمّا وقع بعضُ الناس بينهما من معاوَدَة الحسنى ، ومراجعة الأوْلى ؛ جاهرَ هذا الماقِتُ بفَرْعِ سِنَ الأسَفِ على تخيل النهى والوقار من الممقوت ، وظاهر الممقوت بتقريع الماقت ، بتزويج أمِّه ، الذي تجشّم من كلامِه فيه فضَلاً ، وتكلّف من خطابه عليه ما من حَسْرة خَلاَ ؛ فأفضى الأمرُ بينهما إلى الأوْتَار ، وطلب الثأر .
فإن اضطر إلى القول في هذا المعنى أحدٌ بأَمرٍ قاهر من السلطان ، أو حوادثِ الأزمان ، أو تطارُحِ الإخوان ، فليقل وليكتُبْ ما مثّلنا إن لم يَجِدْ عنه بدّاً : أنت - بِفَضْلِ اللّه عليك وإحسانِ تبصيره إياك - حق أهْل الدّين ، وخلوصِ اليقين ، فكما لا تتبع الشهوة في محظوَر تُبيحه ، فكذا لا تتبَعُ الأَنَفَة في مُباح تحظره ؛ وقد اتّصَل بنا ما اختاره اللَّهُ والقّضاء لذات الحق عليك ، المنسوبةِ - بعد نسبك إليها - إليك ، ممّا كرهه إباؤك الدنيوي لك ولها ، ورَضِيَه الحلالُ الديني له ولها ، فنحن نعزيك عن فائت محبوبك ، ونهنئك في الخيرة في اختيارِ القَدَر لك ، ونسألُ الله أن يجعلها أبداً معك فيما رضيت وكَرِهْتَ ، وأبيت وأتيْتَ .
فهذا ، ونحوه أصْوَبُ وأسلم ، إن اضطررت إليه ، وتركهُ أحْسن وأحزم ، إن ملكت رأيك فيه ؛ والتلطف للكتابة عمّا يُستهْجن ولا يستحسن التواجه به من أحْسنِ الأشياء وأَسدها .وكتب أبو الفضل بن العميد في بابه : الحمدُ للّه الذي كشف عنًا سِتْرَ الَحَيْرة ، وهدانا لسَترِ العَورَة ، وجَدَع بما شرع من الحلال أنْفَ الغَيْرَة ، ومَنَع من عَضْلِ الأمهات ، كما منع من وَأدِ البنات ، استِنزالاً للنفوس الأبيَّة ، عن حَمِيَّةِ الجاهلية . ثم عرّض للجزيل من الأحر من استسلم لمواقع قضائه ؛ وعوض جزيلَ الثواب لمنْ صبر على نازلِ بلائِه ؛ وهناك الله ، الذي شرح للتقوى صَدرك ، ووسع في البَلْوى صبرَك ، ما ألهمك من التسليم بمشيئته ، والرضا بقضيته ، ووفّقك له من قضاء الواجب في أَحد أبويك ، ومن عظم حقه عليك ؛ وجعل اللِّه تعالى حَدَه ما تجرَّعتَه من أَنفٍ ، وكظَمْتَه من أَسفٍ ، معدوداً يعظم اللهُ عليه أجرك ، ويجزل به ذُخرك ؛ وقَرَن بالحاضر من امتِعَاضك لِفعْلها المنتظَرَ من ارتماضِك لدَفنِها ، وعوّضك من أسِرَة فرشِها أعواد نَعْشِها ؛ وجعل ما يُنْعِمُ به عليك من بعدها من نعمة مُعَرًّى من نِقمة ، وما يوليك بعد قَبْضها من منحة مبرأً من مِحْنَةٍ .
ألفاظ لأهل العصر في التهاني بالبنات
هنأ اللّه سيدي وِرْدَ الكريمة عليه ، وثمّر بها أعداد النسل الطيِّب لديه ؛ وجعَلَها مُؤْذِنةً بأخوة برَرَة ، يَعْمُرون أنْدِية الفَضْل ، ويَغْبُرون بقيّةَ الدَّهْرِ .
اتصل بي خَبَر المولودة ، كرّم الله غُرّتها وأنْبتها نباتاً حسناً ، وما كان من تَغَيُّرِك بعد اتِّضَاحِ الخبَر ، وإنكارك ما اختاره اللَّهُ لك في سابقِ القَدَر ، وقد علمتَ أنهن أقربُ من القلوب ، وأنَّ الله تعالى بدأ بهن في الترتيب ، فقال جلى من قائل : ' يَهَبُ لِمَنْ يشاءُ إناثاً ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُكُورَ ' . وما سمّاه هبة فهو بالشكر أوْلَى ، وبحُسْنِ التقبل أحرَى . أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء ، وأُمّ الأبناء ، وجالبة الأصهار ، وأولاد الأطهار ، والمبشّرة بأخوة يتناسقون ، ونُجَباء يتلاحقون : الوافر :
فَلَوْ كانَ النِّسَاءُ كَمِثْلِ هذِي . . . لَفُضِّلَتِ النَسَاءُ على الرِّجَالِ
فما التأْنِيثُ لاسْمِ الشَّمْس عَيْبٌ . . . ولاَ التذْكِيرُ فَخْرٌ لِلهلاَلِ
والله يعرفُكَ البركةَ في مَطْلعها ، والسعادةَ في موقعها ، فأدَرع اغتباطاً ، واستأنِفنشاطاً . الدنيا مؤنثة ، والرجال يخدمونها . والنارُ مؤنثة ، والذكور يَعْبُدونها . والأرض مؤّنثة ، ومنها خُلِقت البرية ، وفيها كثرت الذريّة . والسماءُ مؤنثة ، وقد حُلِّيت بالكواكب ، وزينت بالنجوم الثواقب . والنفسُ مؤنثة ، وهي قوام الأبدان ، ومِلاَك الحيوان . والحياةُ مؤنثة ، ولولاها لم تتصرَّف الأَجسامُ ولا عُرِفَ الأنام . والجنّة مؤنّثة ، وبها وُعِدَ المتقون ، وفيها يَنْعَم المرسلون ؛ فهنأك اللّه ما أُوليت ، وأوْزَعك شُكْرَ ما أُعطيت ، وأطَالَ اللَّهُ بقاءك ما عُرِفَ النَسْل والوَلد ، وما بقي العَصْرُ والأبد ؛ إنه فعّالٌ لما يشاء .
مديح النساء
والتصرّف في النساء ضيِّقُ النطاق ، شديدُ الخِنَاق ، وأكثرُ ما يُمْدح به الرجال ذمّ لهنّ ، وَوَصْمٌ عليهنّ ، قال ابن الرومي : البسيط :
ما للحِسان مسيئاتٍ بِنَا ، ولنا . . . إلى المسيئات طولَ الدَهْرِ تَحنْاَنُ
فإن يَبُحْنَ بعَهدٍ قُلن : معذرةً . . . إنا نسينا ، وفي النسوان نَسيانُ
لا نُلزَم الذكْرَ ، إنا لَمْ نُسَمَ به . . . ولا مُنِحْنَاه ، بل للذكر ذُكْرَانُ
فَضْلُ الرجالِ علينا أنّ شيمتهم . . . جودٌ وبأس وأحلامٌ وأذْهان
وأن منهم وفاءً لا نقوم له . . . وهل يكون مع النقصان رُجحَانُ ؟
وقال أبو الطيب المتنبي : الطويلَ :
بنَفْسي الخيالُ الزائِرِي بَعْدَ هَجعَةٍ . . . وقَوْلته لي : بَعْدَنا الغُمْضَ تَطْعَمُ
سَلام فلولا البخْلُ والخَوْف عِنْدَهُ . . . لَقُلْنا أبو حَفْصٍ عَلَيْنا المسَلَمُ
ألا ترى أَن الجود ، والوفاء بالعهود ، والشجاعة والفطَن ، وما جرى في هذا السنن ، من فضائل الرجال ، لو مُدِح النساءُ به لكان نَقْصاً عليهن ، وذمَّاً لهنَ ؟ ولمديح النساء أبواب تفرقت في الكتاب : أنشد رجل زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور : مجزوء الكامل :
أزُبيدةُ ابنةُ جَعْفَرٍ . . . طُوبَى لزائرك المثَابِ تُعطِينَ من رِجْلَيك ما . . . تُعْطِي الأكف من الرَغابِ
فوثب إليه الخدم يضربونه ، فمنعتهم من ذلك ، وقالت : أراد خيراً وأخطأ ، وهو أحب إلينا ممن أراد شراً فأصاب ، سمم قولهم شِمالك أنْدَى من يمين غيرك فظن أنه إذاقال هكذا كان أبلغ ، أعطوه ما أمّل ، وعرَفوه ما جهل .
وقال كثير : الطويل :
ولمّا قضَينا من منَى كل حاجة . . . ومَسًحَ بالأركانِ مَن هو ماسِحُ
وشُدت على حدبِ المَطَايا رحالنا . . . ولا يعلم الغادي الذَي هو رَائِحُ
أخَذْنَا بأطْرَافِ الأحاديثِ بيننا . . . وسَالَتْ بأَعْنَاقِ المَطِيَ الأباطِحُ
نَقَعْنا قلوباً بالأحاديثِ واشتَفَت . . . بذاك صدُورِّ منضجاتٌ قَرَائِح
ولم نَخْشَ رَيْبَ الدهرِ في كلِّ حالة . . . ولا رَاعَنا مِنه سَنِيح وبَارحُ
وقال : الطويل :
تفرّق أُلاَّفُ الحجيج على مِنَى . . . وشتّتهم شَحْط النوى مَشْيَ أربعِ
فريقان منهم سَالك بطن نَخلَةٍ . . . وآخرُ منهم جازع ظَهر تَضرُع
فلم أر داراً مثلها دَار غِبطة . . . ولهْوٍ إذا التفَ الحجيج بمجمع
أقلَّ مقيماً رَاضِياً بمكانِهِ . . . وأكثرَ جَاراً ظاعناً لم يُوَدَع
فأصبح لا تلقى خباءً عَهدْتهُ . . . بمَضْربه أوْتادهُ لم تُنزع
فشاقُوك لما وجّهوا كل وجهةٍ . . . فبانُوا وخلّوا عن مَنازِل بَلقع
ودخل كثير على عزَّة يوماً ، فقالت : ما ينبغي أن نَأذَن لك في الجلوس ، فقال : ولم ذلك ؟ قالت : لأني رأيت الأحوص أَلينَ جانباً عند الغواني منك في شعره ، وأضرعَ خدًّا للنساء ، وأنه الذي يقول : البسيط :
يا أيها اللائمي فيها لأِصْرِمَها . . . أكْثَرْتَ لو كان يُغْنِي عنك إكثارُ
أكثِر فلسْتَ مُطاعاً إذ وَشَيْتَ بها . . . لا القَلْبُ سَالٍ ولا في حبها عارُ
ويعجبني قولُه : الطويل :
أدُورُ ولَوْلاَ أنْ أرَى أُمَّ جَعْفَرٍ . . . بأَبياتِكُمْ ما دُرْتُ حَيْثُ أدُورُ
وما كنتُ زوَّاراً ، ولكنَّ ذا الهوى . . . إذَا لم يُزرْ لا بدَّ أنْ سَيزُورُ
لقد مَنَعَتْ معروفَها أمُ جَعفرٍ . . . وإني إلى معروفِها لَفَقيرُ
ويعجبني قوله : البسيط :
كم من دني لها قد كنتُ أتبَعُهُ . . . ولو صحا القَلْبُ عنها كان لي تَبَعَا
لا أستطيع نُزوعاً عن مَحبَّتِها . . . أوْ يصنع الحبُّ بي فوق الذي صنَعا
أدْعُو إلى هَجْرِها قلبي فَيْتبعني . . . حتى إذا قلتُ هذا صادقٌ نَزَعَاوزادني رغبةً في الحبِّ أن منَعتْ ، . . . أشْهَى إلى المرء من دُنياه ما مُنعَا
وقوله : الطويل :
إذا أنت لم تَعْشَق ولم تَدْرِ ما الهوى . . . فكُنْ حجَراً من يابس الصَّخْر جَلْمَدا
وما العَيْش إلاَّ ما تلَدُّ وتَشْتَهِي . . . وإن لام فيه ذو الشّنَانِ وفَنَدا
وإني لأهْوَاها وأَهوى لقاءَها . . . كما يشتهي الصَّادِي الشرابَ المبَرَّدَا
علاقة حبّ لجَّ في سنن الصِّبا . . . فأَبْلَى ، وما يزدادُ إلاّ تجدُدا
هذان البيتان ألحقهما العُتبي وغيره بشعر الأحوص ، وأنشدها أبو بكر بن دريد لأعرابي ، فقال كثير : قد والله أجادَ فما استقبحت من قولي ؟ قالت : قولك : الطويل :
وكنت إذا ما جِئْت أجْلَلْنَ مَجْلسي . . . وأظْهَرنَ مِني هيبة لا تجهُما
يُحَاذِرْنَ منّي غيرةً قد عَرَفْنها . . . قديماً ، فلا يضحكْنَ إلاّ تبسُما
تراهنّ إلاَّ أن يخالِسْنَ نظرةً . . . بمؤْخِرِ عَيْنٍ أو يقلّبْنَ مِعْصَمَا
كواظِمَ لا يَنْطِقن إلاَ مَحُوَرَة . . . رَجيعَة قول بعد أن يتَفهّما
وكن إذا ما قُلْنَ شيئاً يسرُّهُ . . . أسر الرضَا في نَفْسِه وتَحرَّمَا
وقولك : الطويل :
وَدِدْتُ وَبَيْتِ اللَهِ أنك بَكْرَةٌ . . . هِجانٌ ، وأني مُصْعَبٌ ثم نَهْرُبُ كِلاَنا به عُرّ فَمَنْ يَرَنا يَقُلْ . . . على حُسْنها جَرْبَاءُ تُعْدِي وأجْرَبُ
نكون لذِي مالٍ كثير مغَفَل . . . فلا هو يَرْعَانا ولا نَحْنُ نُطْلَبُ
إذا ما ورَدْنا منهلاً صاح أهْلُه . . . علينا فما ننفك نُؤْذىَ ونُضْرَبُ
وَيْحك لقد أردتَ بي الشقاءَ ، أفما وجدت أمنية أوْطأَ من هذه ؟ فخرج خَجلاً .
وقد تمنَّى بمثل هذه الأُمنية الفرزدق . وأغرب من هذا قول أبي صَخْر الهذلي : الطويل :
تَمَنَيتُ من حُبي عُلَيةَ أنَّنا . . . على رَمَثٍ في البحر ليس لنا وَفْرُ
على دائمٍ لا يعبر الفلكُ مَوْجَهُ . . . ومِنْ دوننا الأهوال واللُجَج الخُضْرُفنقضيَ همَّ النفسِ في غير رِقْبةٍ . . . ويُغْرِق مَنْ نَخْشَى نميمتَه البَحْرُ
وقيل : الأمل رفيق مُؤْنِس ؛ إن لم يُبلغك فقد ألهاكَ .
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وأكثرُ أفعال الليالي إساءةٌ . . . وأكثرُ ما تَلْقَى الأماني كَوَاذِبا
وقال آخر : الطويل :
مُنى إن تكُن حَقاً تكن أحْسنَ المُنَى . . . وإلا فقد عِشْنا بها زمناً رَغْدَا
أمانيّ من لَيْلَى حِسَانٌ كأنما . . . سقتني بها لَيْلَى على ظَمَإ بَرْدا
وقال آَخر : الطويل :
رَفَعْتُ عن الدنيا المُنَى غير حبّها . . . فلا أسأل الدنيا ولا أستزيدُها
وقيل لأعرابي : ما أمتع لذَّات الدنيا ؟ فقال : ممازحةُ المحبّ ، ومحادثةُ الصديق ، وأماني تقطَع بها أيامك ، وأنشد : مجزوء الخفيف :
علَلِيني بمَوْعدٍ . . . وامْطُلِي ما حَيِيتِ بِهْ
ودَعِيني أفوزُ من . . . ك بنَجْوَى تطلبهْ
فعسى يعثر الزَّمَا . . . ن بخطَي فينتبِهْ
كثير عزة
وكان كثير بن عبد الرحمن بن أبي جُمْعة الخزاعي - ويعرف بعزّة ، على حدَةِ خاطرِه ، وجَوْدَةِ شعره - أحْمَقَ الناس .
دخل عليه نفرٌ من قريش وهو عليل يهزأون به ، قال بعضهم : فقلت له : كيف تجدُك ؟ قال : بخير ، هل سمعتُم الناسَ يقولون شيئاً . فقلت : نعم ، سمعتُهم يقولون : إنك الدجّال . فقال : والله لئن قلتَ ذلك إني لأجِدُ في عيني اليمنى ضَعْفاً منذ أيام .
وكان رافضياً يَدِين بالرَّجْعَة ، ويقول بإمامة محمد بن الحنفية ، والروافض يزعمون أنه دخل في شِعْب باليمن في أربعين من أصحابه ، ولا بدَ من ظهوره ، وفي ذلك يقول : الوافر :
ألاَ إنَ الأئمة مِنْ قُرَيشٍ . . . وُلاَةَ الْحَقِّ أرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَليٌ والثلاثَةُ مِنْ بَنِيهِ . . . هم الأسْبَاطُ لَيْسَ بهمْ خَفَاءُ
فَسِبْط سِبطُ إيمَانٍ وبِر . . . وَسِبْطٌ غَيبتْهُ كَربَلاءُوَسِبطٌ لا يَذُوق الْمَوْتَ حتى . . . يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُها اللَواء
تَغَيَّبَ لا يُرَى عنهم زَماناً . . . برَضوَى عِنْدَهُ عَسَل ومَاء
وكان خلفاءُ بني أمية يعلمون ذلك منه ، ويَلْبَسُونه عليه .
دخل يوماً على عبد الملك بن مروان فقال : نشدتك بحقِّ علي بن أبي طالب ، هل رأيت أعْشَق منك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لو سألتَني بحقّك لأخبرتُك ، نعم ، بينما أنا أسيرُ في بعض الفَلَوات إذا أنا برجل قد نَصَب حَبَائِلَه ، فقلت له : ما أَجْلَسك هاهنا ؟ قال : أهلكني وأهلي الجوع ، فنصبت حَبَائلي لأُصِيبَ لهم ولنفسي ما يكفينا سحابة يَوْمنا ، قلت : أرأيتَ إن أقمتُ معك فَأَصَبْنا صيدا ، أتجْعَلُ لي منه جزءًا ؟ قال : نعم ، فبينما نحن كذلك إذْ وقَعَتْ ظبيةٌ ، فخرجْنَا مُبْتدِرِين ، فأسرع إليها فحلها وأطلقها ؛ فقلت : ما حملك على هذا ؟ قال : دخلتني لها رِقَةٌ لشبهها بلَيْلَى ، وأنشأ يقول : الطويل :
أيا شِبْهَ لَيْلَى لا تُرَاعِي فإنَني . . . لك اليوم من وَحْشِيَّةٍ لَصَدِيقُ
أقول وقد أطلقْتُها من وَثاقهالأنْتَ لليلى ما حَييت طليقُ
وروى الكلبي وابن دَاب أنه لمّا حَلَها قال : الخفيف :
اذهبي في كِلاءة الرَّحْمنِ . . . أنْتِ مني في ذِمَة وأَمانِ
لا تخافي بأن تُهاجي بسوءً . . . ما تَغَنَّى الحَمَام في الأغصانِ ترهبيني والجيدُ منك لِلَيْلَى . . . والحَشَا والبُغَام والعينانِ ؟
وقال قيس بن الملوّح : الكامل :
راحوا يَصِيدون الظباء وإنني . . . لأرى تَصَيُّدها عليَّ حَرَاما
أشْبَهْنَ مِنْكِ محاجراً وسوَالِفاً . . . فأرى عليَ لها بذاك ذِمَاما
أعْزِزْ عليَ بأنْ أرُوع شبيهها . . . أو أنْ يَذُقْنَ على يَدَيَ حِمَاما
ومن جيد شعر كثير : الطويل :
وكانت لِقطْعِ الْحَبْل بيني وبينها . . . كنا ذرة نَذْراً فأوْفَتْ وحَلتِ
فقلتُ لها : يا عزُ ، كل مُصيبة . . . إذا وُطنَتْ يَوْماً لها النَفْسُ ذَلَتِ
ولم يَلْقَ إنسان من الحبِّ مَيْعَةً . . . تعم ولا غماء إلاَ تَجَلَتأباحَتْ حِمَى لم يَرْعَهُ الناسُ قبلها . . . وحَلًت تِلاَعاً لم تكن قَبْلُ حُلَّتِ
هنيئاً مريئاً غَيْرَ دَاءً مُخَامر . . . لعزَةَ من أعْرَاضنا ما استحلَتِ
أسِيئي بِنَا أوْ احْسِني لا مَلُومة . . . لَدَيْنا ولا مَقْلية إنْ تَقَلَتِ
وواللَّهِ ما قاربْتُ إلاّ تباعدتْ . . . بهَجْر ، ولا استكثرت إلاّ أقلّتِ
وما مرَّ من يوم عليَّ كيومها . . . وإن عَظُمَتْ أيام أخرى وجَلَتِ
فيا عجباً للقَلْبِ كيف اعترافُه . . . وللنفس لما وُطِّنت كيف ذَلَتِ
وإنّي وتَهيامي بعزَّة بعدما . . . تخلَّيْتُ ممّا بَيْنَنا وتَخَلَّتِ
لكالمرتَجِي ظلَّ الغمامة ، كلما . . . تبوَّأ منها للمَقِيلِ اضْمَحلَّتِ
وكان كثير قصيراً دميماً ، ولذلك قال : الطويل :
فإنْ أكُ معروقَ العِظام فإنني . . . إذا ما وَزَنْتُ القومَ بالقومِ وَازِنُ
ودخل كثير على عبد الملك بن مروان في أول خلافته ، فقال : أنت كثير ؟ فقال : نعم ، فاقتحمه ، وقال : تَسْمَع بالمعَيْدي لا أنْ تَراه ؛ فقال : يا أميرَ المؤمنين ، كلّ إنسان عند محلّه رَحْبُ الفِناء ، شامخُ البناء ، عَالي السناء ، وأنشد يقول : الوافر :
ترى الرجل النحيفَ فتَزْدَرِيه . . . وفي أثوابه أسَد هَصُورُ
وَيُعْجِبُك الطَّرِيرُ إذا تراهُ . . . فيُخْلِفَ ظنك الرجلُ الطريرُ
بُغَاثُ الطير أطولها رِقاباً . . . ولم تَطُلِ البُزاة ولا القصور
خَشاشُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً . . . وأم الباز مِقْلاَة نَزُورُ
ضِعافُ الأُسْدِ أكثرُها زئيراً . . . وأصْرَمُها اللَواتي لا تَزيرُ
وقد عَظُمَ البعيرُ بغير لُب . . . فلم يستَغْنِ بالعِظَم البعيرُيُنَوَّخُ ثم يُضْرَبُ بالهَراوَى . . . فلا عُرْف لديه ولا نكيرُ
يُقَوِّدُه الصبيُ بكلِّ أرْضٍ . . . ويصْرَعُه على الْجَنْبِ الصغير
فما عِظَمُ الرجال لهم بزَيْنٍ . . . ولكنْ زَيْنهُمْ حَسَبٌ وخِيرُ
فقال : قاتله اللّه ما أطْوَلَ لسانَه ، وأمدّ عِنَانه ، وأَوْسع جَنانه ؛ إني لأحسبه كما وصف نفسه .
في الطول والقصَر
وأنشد أحمد بن عبيد اللّه الشاعر قديم : الطويل :
وعاذلةٍ هبَّتْ بليل تَلُومُني . . . ولم يغتمرني قَبْلَ ذاك عَذولُ
تقول : اتئدْ لا يَدْعُك الناسُ مُمْلِقاً . . . وتُزْرِي بمَنْ يا ابْنَ الكرام تَعولُ ؟
فقلتُ : أبَتْ نفس عليَّ كريمةٌ . . . وطارقُ ليل عند ذاكَ يَقُولُ
ألم تعلمي يا عَمْرَكِ اللَّه أنني . . . كريمٌ على حين الكرامُ قليلُ
وأني لا أخْزَى إذا قيل مُمْلِق . . . سَخِي ، وأخْزَى أنْ يُقالَ بخيلُ
فلا تَتْبَعي النفسَ الغويةَ وانظرِي . . . إلى عُنْصُرِ الأحساب كيف يَؤُولُ
ولا تَذْهَبْن عيناكِ في كل شَرْمَحٍ . . . له قَصَبٌ جُوفُ العِظام أسيلُ
عسى أن تَمَنَى عرسُه أنني لها . . . به ، حين يشتدُّ الزمانُ ، بَدِيلُ إذا كنتُ في القوم الطوال فطُلْتُهُمْ . . . بعارفةٍ حتى يقال طويلُ
ولا خيرَ في حُسْنِ الجسوم وطولها . . . إذا لم تَزِنْ حُسْن الجُسوم عقولُ
فكائنْ رأينا من فروع طويلة . . . تموت إذا لم تُحيِهِنَّ أصول
فإلاّ يَكُنْ جسمي طويلاً فإنني . . . له بالفِعَال الصالحاتِ وَصولولم أرَ كالمعروفِ : أمَّا مَذاقُه . . . فحُلوٌ ، وأماَّ وَجْهُهُ فجميلُ
وقال ابن الرومي : الخفيف :
ونَصِيفٍ من الرجال نحيفٍ . . . رَاجح الوَزِن عند وَزنِ الرجال
في أُناسٍ أوتوا حلومَ العَصافي . . . ر فلم تُغنِهِم جسوم البِغَالِ
أخذه من قول حسان بن ثابت ؟ وقال له بنو الديان الحارثيون : قد كنَّا نحن نَطول بأجسامنا على العرب حتى قلت : البسيط :
دَعوا التَّخاجؤَ وامشوا مشيَةً سجحاً . . . إنَ الرجال ذوو قدَ وتَذْكير
لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظمٍ . . . جِسمُ البغالِ وأحْلاَمُ العَصافيرِ
فتركتنا لا نرى أجسامَنا شيئاً .
والعربُ تمدح الطول ، وتثني عليه ، وقال عنترة بن شداد : الكامل :
بَطَلٌ كأنَّ ثِيَابَه في سَرحَة . . . يُحْذَى نِعَالَ السبْت لَيس بتَوْأمِ
قوله : ليس بتوأم يريد ليس ممن زوحم في الرَّحم فضعف ، كما قال الشعبي ، وقد دخل على عبد الملك بن مروان ، فجعل ينظُرُ إليه ، وكان الشعبي قد وُلد توأماً مع أخيه ، فكان نحيفاً ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني زُوحمت في الرحم ، وقال : الطويل :
ولمّا التقى الصفَّانِ واختلف القَنَا . . . نِهَالاً ، وأسبابُ المنايا نِهالها
تبين لي أنّ القماءةَ ذِلّةٌ . . . وأنَّ أعزاء الرجال طِوالُها
وقال أبو نواس : الطويل :
وكنّا إذا ما الحائنُ الْجَدِّ غرَّهُ . . . سَنَى بَرْقِ غادٍ أو ضجيجُ رِعَادِ
ترَدَّى له الفضلُ بن يحيى بن خالدٍ . . . بماضي الظبَى يَزْهاه طولُ نجادِ
أمام خميس أرجوانٍ كأنهُ . . . قَميص مَحُوكٌ من قناً وجِيَادٍومن هذا البيت أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : المتقارب :
ومَلموَمة زرد ثَوبهَا . . . ولَكِنهُ بالقَنا مخمَل
رجع إلى كثير عزة
ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان وهو عَليل ، وأهلُه يتمنون أنْ يتبسًم ، فقال : لولا أنّ سرورك لا يتمّ بأن تَسلَم وأسقم لدعوت اللهَ أن يصرف ما بك إلي ، ولكني أسألُ الله أيها الأمير العافيةَ لك ولي في كنَفك ؛ فضحك وأمر له بمال فخرج وهو يقول : الكامل :
ونعودُ سيدنا وسيِّدَ غيرنا . . . ليت التشكّي كانَ بالعُوَادِ
لو كان تُقْبَلُ فِدْيةٌ لفديتهُ . . . بالمصطَفى من طارِفي وتِلاَدي
قال محمد بن سلام الجمحي : قال أبي : ذاكرتُ مروان بن أبي حَفْصة شِعرَ جرير والفرزدق وكثير ، فذهب إلى تقديم كثير ، وجعل يُطْرِيه ويقول : هو أمدحهم للخلفاء ، فقلت : أمِنْ جودة مدحه للخلفاء قوله لعبد الملك بن مروان : الطويلَ :
ترى ابنَ أبي العاصي وقد صُفّ دونهُ . . . ثمانون ألفاً قد تَوافَتْ كمولها
يقلِّب عينَي حية بمفَازَةٍ . . . إذا أمكَنته شَدّةٌ لا يُقيلها ؟
فقال هذا للخليفة ودونه ثمانون ألفاً ، وجعله يقلّب عيني حية .
وقوله : الطويل :
وإنَ أميرَ المؤمنين هو الذي . . . غَزَا كامناتِ الودِّ مني فنالها
زعم أن أمير المؤمنين استعطفَه حتى غَزَا كامناتِ صَدْره .
وقوله لعبد العزيز بن مروان : الوافر :
وما زالَتْ رُقاكَ تَسُل ضِغْني . . . وتخُرِجُ من مَكَامنها ضِبَابي
ويَرْقيني لك الحاوون حتى . . . أجابَك حَيّة تحت الحجابِ
زعم أن عبد العزيز تَرَضَّاه ، واحتال له ورقَاه ، حتى أجابه ؛ أكَذَا تُمدَح الملوك ؟ فأسْكَته .فصول قصار
من كان له من نَفْسِه واعظ ، كان من الله عليه حافظ . العبد حرٌ إذا قَنَع ، والحُرُ عبدٌ إذا طمع . الأماني تَخْدَعك ، وعند الحقائق تَدَعك . إذا كان الطمعُ هلاكاً ، كان اليأسُ إدراكاً . ليس يُعَدٌ حكيماً ، من لم يكن لنفسه خَصِيماً . تعزَ عن الشيء إذا مُنِعْتَه ، بقلة ما يصحبك إذا مُنحْتَه . تجرَعْ مَضَض الصبر تطفئ نار الضر . الحكمة حفظُ ما كلفت ، وتَرْكُ ما كفيت . الصَّبْرُ عن محارِم اللّه ، أيْسر من الصبر على عذاب اللّه .
شذور لأهل الصِّرّ في معانٍ شتَّى
قطعة من كلام الأمير قابوس بن وَشْمَكير شمس المعالي في أثناء رَسائِله : بزَنْد الشفيع تُورِي نار النجاح ، ومن كفّ المفيض يُنتظر فوز القِداح ، الوسائل أقدام ذوي الحاجات ، والشفاعات مفاتيحُ الطلِبَات . العفو عن المجرم من مُوجبات الكرم ، وقَبُول المعذرة من محاسن الشَيَم . وبالقوادم والخوافي قُوَةُ النجاح ، وبالأسنّة والعًوَالي عمل الرماح . الدنيا دار تغرير وخداع ، وملتقى ساعة لوداع ، والناس مُتَصرّفون بين كلّ وِرد وصدَر ، وصائرون خبَراً بعد أثر . غايةُ كل متحرك إلى سكون ، ونهاية كل متكون أَلاَ يكون ، وآّخر الأحياء فناء والجزع على الأموات عَنَاء ، وإذا كان ذلك كذلك ، فلِمَ التهالك على الهالك ؟ حشْوُ الدهر أحزان وهموم ، وصَفْوُه من غير كدر معدوم . إذا سمح الدهر بالْحِبَاء ، فأبْشر بوشْك الانقضاء ، وإذا أعار ، فاحسبه قد أغار . الدهر طعمان ؛ حلو ومر ، والأيام ضربان ؛ عُسْر ويسر . لكل شيء غاية ومنتهى ، وانقطاع وإن بلغ المدى . تَرْكُ الجواب ، داعيةُ الارتياب ، والحاجة إلى الاقتضاء ، كسوف في وجه الرجاء . هم المنتظر للجواب ثقيل ، والمدى فيه وَإن كان قصيراً طويل . النجيب إذا جرى لم يشق غباره ، وإذا سرى لم تلحق آثاره . ومن أيْنَ للضباب صَوْب السحاب ، وللغراب هُوِيّ العقاب ، وهيهات أن يكتسب الأرض لطافة الهواء ، ويصير البدر كالشمس في الضياء .
شمس المعالي ابن وشمكير
وقد ترجم عن شمس المعالي أبو منصور الثعالبي في كتاب ألفه له ؛ قال في أوله : أما على أثر حَمدِ الله الذي هو أولُ كتابه ، وآخرُ دعوى ساكني دَار ثَوابه ، والصلاةِ على خيرته من بريتِه ، وعلى الصَفْوةِ من ذريته ، فإن خيرَ الكلام ما شغل بخِدمَة مَن جمع اللهُ لهعِزَةَ المُلْكِ إلى بَسْطَةِ العلم ، ونورَ الحكمة إلى نفوذِ الحكم ، وجَعَلَه مميَّزاً على ملوكِ العصر ، ومدبِّرِي الأرضِ ووُلاة الأمر ، بخصائص من العَدْلِ ، وجلائلَ من الفضل ، ودقائقَ من الكرَمِ المَحْضِ ، لا يدخلُ أيسرُها تحت العادات ، ولا يُدْرَك أقلُها بالعبارات ؛ ومحاسنُ سِيَرِ الأنام ، تَحْرُسها أسِنّةُ الأقلام ، وتدرسها ألسنةُ الليالي والأيام ، وهذه صفة تُغني عن تشبيه الموصوف لاختصاصه بمعناها ، واستحقاقه إياها ، واستئثاره على جميع الملوك بها ، ولعِلْم سامعها ببديهة السّماع أنها للأميرِ ، شمسِ المعالي ، خالصةً وعليه مقصورة ، وبه لائقة ، وعن غيره نَافِرة ؛ إذ هو - بِمُعَاينة الآثار ، وشهادة الأخيار ، وإجماع الأولياء ، واتفَاقِ الأعداء - كافلُ المجد ، وكافي الخَلق ، وواحدُ الدهر ، وغُرَّة الدنيا ، ومفزَع الوَرَى ، وحسنَةُ العالم ، ونكْتَةُ الفَلكِ الدائر ؛ فبلّغه الله أقصى نهايةِ العمر ، كما بلّغه أقصى غايةِ الفخر ؛ وملكه أزِمَة الأمر ، كلّما ملَّكه أعِنَة الفضل ؛ وأدام حُسْنَ النظر للعباد والبلاد ، بإدامة أيامه التي هي أعيادُ الدَّهْرِ ، ومواسم اليُمن والأمْنِ ، ومطالع الخير والسَّعْدِ ، وزاد دولَتَهُ شباباً ونموًّا ، كما زادهُ في الشرف عُلوًّا ، حتى تكون السعاداتُ وَفْدَ بابه ، والبشائر قِرَى سَمْعِهِ ، والمسارّ غِذَاءَ نفسه ، ويترامَى به الإقبالُ إلى حيث لا يبلُغه أمل ، ولا يَقطَعَه أجل .
نَحَا في قوله : وهذه صفة تُغني عن الموصوف إلى قول أبي الطيب يَرْثي أُختَ سيف الدولة : البسيط :
يا أخْتَ خَيْرِ أخٍ يا بنْتَ خَيْرِ أبِ . . . كنايةً بهمَا عن أشْرَفِ النَسَبِ
أجلُ قَدْرَكِ أن تُسْمَيْ مُؤَثثةً . . . ومَنْ دعَاكِ فَقَدْ سَمَاكِ لِلْعَرَبِ
ومن شمس المعالي يقول الأمير أبو الفضل الميكالي : الرجز :
لا تَعْصِيَنْ شَمْسَ العُلاَ قابوساً . . . فمن عَصَى قابوسَ لاقى بوسا وله يقولُ بديعُ الزمان في قصيدة نظمها في تضاعيف رسالةٍ موشحة : الخفيف :
إن مَنْ كنت من مُناه بمَرْأَى . . . وتعدّاك سيّءُ الاقتراحِ
بين بِشْرٍ يَرُدُّ غائِضَ جاهي . . . وقَبُولٍ يُعيد رِيشَ جناحِي
وبساطِ ورَدْتُ مَشْرَعة الأُن . . . س به وادرَعتُ بُرْد النجاحِ
فاقْض أوْطَاراً التَقتْ والمَعَالي . . . في نظام من النُهَى وتَصاحِ
ملك دُونَه تقطَّعُ أبصا . . . ر الليالي يَوْمَا نَدى وكِفَاحِ
ملك لو يشاءُ مَد على النَّج . . . م رِوَاقاً ورَدَّ وفْدَ الريَاحتارةً في خُشونَةِ الدَّهْرِ تَلْقا . . . ه وطوراً في حُسْنِ ذات الوِشَاحِ
ملك كلَّما بَدَا نقفُ الأف . . . لاك عُجباً به وفَرْطَ ارْتِيَاحِ
هكذا هكذا تكونُ المعالي . . . طُرُقُ الجدِّ غَيْرُ طُرْقِ المزاحِ
وهي طويلةٌ ، كتبتها على طريق الاختيار .
رقعة لبديع الزمان إلى شمس المعالي ، وقد ورد حضرته : لم تَزَلِ الآمالُ - أطال اللَهُ بقاء الأمير السيد شمس المعالي ، وأدام سلطانه - تَعِدُني هذا اليوم ، والأيامُ تمطُلني بأَلسنةِ صروفِها ، على اختلافِ صنوفها ، بين حُلْوٍ استرقَني ، ومرٍّ استخفني ، وشرّ صار إليّ ، وخيرٍ صِرْتُ إليه ، وأنا في خلال هذه الأحوال أذْرَعُ الآفاقَ فأكون طوراً مَشْرِقاً للمشرق الأقصى ، وطوراً مَغْرِباً للمغرب ، ولا مطمح إلا حضرته الرفيعةْ ، وسُدَتُه المريعة ، ولا وسيلة إلاّ المنزع الشّاسع ، والأمل الواسع ؛ وقد صرت - أطال اللَّهُ بقاء الأمير مولانا - بين أنياب النوائب ، وتجشَّمْت هَوْلَ الموارد ، وركبت أكْتَافَ المكاره ، ورضعْتُ أخْلاَفَ العوائق ، ومسحت أطْراف المراحل ، حتى حضرت الحَضْرَة البهيّة أو كِدتُ ، وبلغت الأُمنية أو زِدْت ، وللأمير السيد في الإصغاء إلى المجد ، والبَسْطِ من عنان الفَضل ، بتمكين خادِمه من المجلس يَلْقَاه بقَدَمه ، والبساط يلْثِمُه بفمه ، تَفضُّله ، فلهُ الرأي العالي إن شاء الله .
وله إلى بعض الرؤساء وقد وعد بحضور مجلسه بالغداة وأمره أنْ يزف إليه ما أنشأه ، فبعث به وكتب إليه : مَرْحَباً بسلامِ الشيخ سيّدي ومولاي أطال اللَهُ بقاه ، ولا كالمَرْحَبِ بِطَلْعَتِه ؛ وقد وصَلت تحيَّتُه فشكرتها ، وعِدَتُه الجميلةُ بالحضورِ غدا فانتظرتها ؛ ودعوتُ الله أن يَطْوي ساعاتِ النهار ، ويزجّ الشمسَ في المَغَار ، ويُقَرَب مسافَة الفَلكِ الدَّوَار ، ويَرْفَع البركة من سيره ، ويجهز الحركة إلى دوره ؛ ويُسِرّني بوفْدِ الظلام وقد نزل ، ثم لم يَلْبَثْ إلا ريثما رَحَل ؛ وقد بعثتُ بما طلب سمعاً لأمره وطاعة ، والنسخة أسقمُ من أجْفان الغَضْبان ، والشيخ سيدي - أدام اللَّهُ عزه - يُرْكِضُ قلمه في إصلاحها ، وحبَّذا هو في غدٍ ، وقد طلع كالصبح إذا سطع ، والبرق إذا لمع : الكامل :
يا مرحباً بغَدٍ ويا أهلاً بهِ . . . إن كان إلمامُ الأحبةِ في غدِ
وله إلى أبي الطيب سهل بن محمد يسأله أن يصله بأبي إبراهيم إسماعيل بن أحمد : لو كان للكرم عن جَنابِ الشيخ مُنْصَرَفٌ لانْصَرَفْت ، أو للأمل مُنحَرَف إلى سواه نْحَرَفت ، أو للنجح بابٌ سواه لَوَلجت ، أو للفضل خاطبٌ غيره لزوجت ، ولكِن أبى اللهأنْ يعقدَ إلاّ عليه الخنصر ، أو يتحلى إلا بفواضله الدهر ، ولا يزال كذا يتسِم المجدُ بِسِمَته ، ويجذب العلاءَ بهمته ، ويُسعِدُ الدينَ بنظره ، والدنيا بجماله ، وغلامُه أنا لو استعار الدهر لسانا ، واتّخذ الريح تَرجُمانا ، ليُشِيع إنعامَه حقّ الإشاعة ، لقَصُرَت به يَدُ الاستطاعة ، فليس إلا أن يلبس مكارمه صافيةً سابغة ، ويَرِدَ مشارِعَه صافيةً سائغة ، ويحيل الجزاء على يد قصور ، والشكر على لسان قَصِير ؛ ثم إنَ حاجاتي ، إذا لم يَعْرَ من قلائدِ المجدِ نحْرُها ، ولم يَعْطَلْ من حَلْي المجدِ صَدرُها ، كبر مَهْرُها ، وَعَز كفؤها ، ولم أجد لها إلا واحداً أخْضَر الجلدة في بيت العرب ، أو ماجداً يملأُ الدَلْو إلى عقد الكَرَب . وهذه حاجة أنا أزفها إلى الشيخ الإمام حرَص اللَّهُ مُهجَته ، وأَسوقها منظومة من الصدْرِ إلى العجزِ ، كما يساقُ الماءُ إلى الأرض الجُرُز ؛ وأنا من مفتًتح اليوم إلى مختَتِمه ، ومن قَرْنِ النهار إلى قَدَمِهِ ، قاعد كالكُرْكِي ، أو الديك الهنْدِي ، في هذا الأُدْحِي ، يمرُّ بي أولو الحلى والحلل ، ويجتاز ذوو الخَيل والخَول ، ومَا أنا والنظر إلى ما لا يَليني ، والسؤال عما لا يَعنِيني ، واليوم ، لما افتضضنا عُذرة الصباح ، ملأتُ جفوني من مَنظَرٍ ما أحْوَجَه إلى عَيبٍ يَصْرِفُ عَيْنَ كمالِه ، عن جماله ، فقلت لمن حضر : مَنْ هذا ؟ فأخذوا يحركون الرؤوسَ استظرافاً لحالي ، ويتغامزون تعجباً من سؤالي ، وقالوا : هذا الشيخُ الفاضلُ أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بن أحمد ، فقلت : حَرَسَ اللهُ مُهجَته ، وأدام غِبْطته ؛ فكيف الوصولُ إلى خِدْمَته ، وأنى مَأتى معرفته ؟ قالوا : إن الشيخ الإمام - أدام الله تأييده - يضربُ في مَودته بالقِدْحِ المُعَلَى ، ويَأخُذ في معرفته بالحظ الأعلى ، فإن رأى الشيخ - أطال الله بقاه - أن تُجعَل عنايتُه حَرْفَ الصلة ، وتفضّله لاَمَ المعرِفَة ، فَعَلَ ، إن شاء الله .
البرامكة
قال الرشيد ليحيى بن خالد : يا أبتِ ، إني أردتُ أن أجعل الخاتم الذي في يد الفَضل إلى جعفر ، وقد احتشمت منه فاكفِنِيه .
فكتب إليه يحيى : قد أمر أميرُ المؤمنين - أَعلَى الله أمره - أن يحول الخاتم من يمينك إلى شمالك .فأجاب الفضل : قد سَمعتُ ما قاله أمير المؤمنين في أخي ، وقد اطلعت على أمره ، وما انقلَبَتْ عني نعمةٌ صارت إليه ، ولا غَرَبت عني رتبة طلعَتْ عليه .
فقال جعفر : لله أخي ما أَنْفَسَ نفسه ، وأَبيَن دلائل الفضل عليه ، وأقوى مُنَة العَقْل فيه ، وأَوْسع في البلاغة ذَرْعَه ، وأَرْحَبَ بها جنابه . يُوجب على نفسه ما يجب له ، ويَحْمِلُ بكرمه فوق طاقته .
وذُكِر جعفرُ بن يحيى في مجلس ثُمامَة بن أشرس فقال : ما رأيت أحداً من خَلْق الله كان أبْسَطَ لساناً ، ولا أَلْحَن بحجّة ، ولا أقدر على كلام ، بنَظْمٍ حَسَنٍ ، وألفاظٍ عذبة ، ومَنْطق فصيح ، من جعفر بن يحيى ، كان لا يتوقف ، ولا يتحبس ، ولا يَصِلُ كلامه بِحَشْوِ من الكلام ، ولا يُعِيدُ لفظاً ولا معنى ، ولا يَخْرجُ من فنّ إلى غيره ، حتى يبلغ آخِرَ ما فيه ؛ وكان لا يرى شيئاً إلا حكاه ، ولا يَحْكي شيئاً إلاّ كان أكثر منه ، ولا يمُرُ بذهنه شيء إلاّ حفظه ، وكان إذا شاء أضحك الثكْلَى ، وأَذْهَل الزاهد ، وخشَن قَلْبَ العابد .
قلت : فكيف كانت معرفته ؟ قال : كان من أعلم الناس بالخبر الباهر ، والشعر النادر ، والمثل السائر ، والفصاحة التامة ، واللسان البسيط . قال سهل بن هارون ، وذكر يحيى بن خالد وابنه جعفراً ، فقال : لو كان الكلام مُتصوَراً دُرُّاً ، ويُلْقيه المنطق جَوْهَراً ، لكان كلامَهُمَا ، والمنتقى من ألفاظهما . ولقد غَبَرت معهما ، وأدرَكْتُ طبقة المتكلمين في أيامهما ، وهم يَرَوْن البلاغة لم تُسْتَكْمَلْ إلاّ فيهما ، ولم تكُنْ مقصورةً إلاّ عليهما ، ولا انقادت إلاّ لهما . وإنهما للُبابُ الكرم ، عِتْقَ منظرٍ ، وجودةَ مَخْبرٍ ، وسهولَةَ لفظِ ، وجزالة منطق ، ونزاهة نفس ، وكمال خصال ؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهما ، والمأثورِ من خصائصها جميعَ أيامِ مَنْ سواهما من لدُنْ آدم إلى أن يُنْفَخَ في الصور ، ويبْعث أهل القبور - حاشا أنبياء اللّه الكرام ، وسَلَفِ عباده الصالحين - لما باهت إلاّ بهما ، ولا عَوَلت في الفخر إلاّ عليهما ، ولقد كنا - مع تهذيب أخلاقهما ، ومَعْسُول مَذَاقهما ، وسنا إشراقهما ، وكمالِ الخيرِ فيهما - في محاسن المأمونِ كالنقْطَة في البحر ، والخَردَلِ في القَفْرِ .
ووقع جعفرُ بن يحيى لرجو اعتذر عنده من ذنب : قد قدمَتْ طاعَتك ، وظهرت نصيحتك ، ولا تغلب سيئة حسنتين .ووَقَع - وقد قرأ كتاباً فاستحسن خطّه - : الخطُ خَيْطُ الْحِكمة ، يُنْظَمُ فيه منثورُها ، ويفصل فيه شذُورُها .
واختصم رجلان بحضرته ، فقال لأحدهما : أنت خلِيّ ، وهذا شَجِي ؛ فكلامك يجْرِي على بَرْدِ العافية ، وجوابُه يَجْرِي على حَرِّ المصيبة .
ودخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده : الطويل :
ابرُ فما تَرْجُو الْجِيادُ لحَاقهُ . . . أبو الفضل سَبَّاقُ الأضامِيم جَعْفَرُ
وزيرٌ إذا ناب الخلافةَ حادِثٌ . . . أشار بما عنه الخلافةُ تَصْدُرُ
فقال جعفر : أنشدني مرثيتك في مَعْنِ بن زائدة ، فأنْشَدَهُ : الوافر :
أقَمْنَا باليمامة أو نَسينا . . . مقاماً ما نُرِيدُ به زَوالا
وقلنا : أينَ نذهبُ بعد مَعْنٍ . . . وقد ذهب النَوَالُ فلا نَوَالا ؟
وكان الناسُ كلُهم لمَعْنٍإلى أن زار حُفْرَتَهُ عِيَالا
حتى فرغ من القصيدة ، وجعفر يُرْسِل دموعه على خدّيه ، فقال : هل أثابك على هذه المرثية أحدٌ من أهْلِ بيته وولده ؟ قال : لا ، قال : فلو كان معن حيًّا ، ثم سمعَها منك ، كم كان يُثنيك عليها ؟ قال : أربعمائة دينار ، قال : فإنَما كنَّا نظنّ أنه لا يَرْضَى لك بذلك ، وقد أمرنا لك عن مَعْن - رحمه الله - بالضّعف مما ظننته ، وزِدْناك مثلَ ذلك ؛ فاقْبِض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تخرج ، فقال مروان - يذكر جعفراً وما سمح به عن معن - : الوافر :
نَفَحْتَ مُكافِئاً عن جُودِ مَعْنٍ . . . لنا فيما تَجُودُ به سِجَالا
فعجلْتَ العطية يا ابْنَ يحيى . . . لنادِبهِ ولم تُرِدِ المِطَالا
فكافأ عن صَدَى معْنٍ جَوَادٌ . . . بأَجْوَدِ راحةٍ بَذَلتْ نَوَالا
بَنَى لك خالدٌ وأبوك يحيى . . . بناءً في المكارمِ لَنْ يُنالا
كأن البرمكيّ لكل مالٍ . . . تجودُ به يداه يُفيد مَالا
أخذ هذا من قول زهير : الطويل :
تَرَاه إذَا ما جِئْتَه مُتَهَلَلاً . . . كأنكَ تُعْطِيه الَذِي أنْتَ سائِلُهْوهذا البيت لزهير من قصيدة يقول فيها :
وَذِي نِعْمَةٍ تَمَّمْتها وشكرتها . . . وخَصْمِ يكادُ يغِلبُ الحقَّ باطلُهْ
دفعتُ بمعروفٍ من الحق صائبٍ . . . إذا ما أضَلَّ القائلين مَفَاصِلُهُ
وذي خطل في القول يَحْسَبُ أنه . . . مُصيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائِلُهْ
عَبَأْتُ له حلماً ، وأكرمت غيرهُ . . . وأعرضتُ عنهُ وهو بادٍ مَقاتِلُهُ
وأبيضَ فيّاضٍ يَدَاهُ غَمامَةٌ . . . على مُعْتَفيهِ ما تُغِبُّ نَوافِلُهْ
غَدَوْتُ عليه غَدْوَةً فرأيْتُهُ . . . قُعُوداً لَدَيْهِ بالصَريمِ عَواذِلُه
يُفَدِّينَهُ طَوْراً ، وطَوْراً يَلُمْنَهُ . . . وأعْيا فما يَدْرِينَ أينَ مَخاتلهْ
فأعْرَضْنَ عنه عن كريم مُرَزَّإ . . . جَمُوح على الأمرِ الذي هو فاعلُهْ أخِي ثِقَةٍ لا يُذْهِبُ الخمرُ مَالَهُ . . . ولكنّه قد يُذْهِبْ المالَ نائِلُهْ
قال أبو الفرج قُدامةُ بن جعفر ، في معنى أبيات زهير الأولى : لما كانت فضائلُ الناسِ من حيث هم ناس ، لا من طريقِ ما هم مشترِكون فيه مع سائر الحيوان ، على ما عليه أهلُ الألباب من الاتّفاق في ذلك ، إنما هي العقلُ والعفةُ والعَدْلُ والشجاعة ، كان القاصد للمَدْح بهذه الأربعة مُصِيباً ، وبما سواها مخطئاً ؛ وقد قال زهير :
أخي ثقةٍ لا يُتْلِفُ الخمرُ مالَهُ . . . ولكنه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
فوصفه بالعفَة لقلّةِ إمعانه في اللذات ، وأنه لا يُنْفد فيها ماله ، وبالسخاء لإهلاك ماله في النوال ، وانحرافه إلى ذلك عن اللذّات ، وذلك هو العدل ، ثم قال :
تراه إذا ما جِئْتَه مُتَهَلِّلاً . . . كأنّك تُعْطِيه الذي أنتَ سائِلُهْ
فزاد في وَصْفِ السخاء بأنه يَهَش ولا يلحقه مضَض ولا تكَرُّهٌ لِفعْله ثم قال :
فَمَنْ مثلُ حِصْنٍ في الحروب ومِثْلهُ . . . لإنكار ضَيْم أو لأمْرٍ يُحاوِلُه
فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل ؛ فاستوفى ضروبَ المدحِ الأربعة ، التي هي فضائلُ الإنسان على الحقيقة ، وزاد الوفاءَ ، وإن كان داخلاً في الأربعة ؛ فكثير من الناس لا يعلم وَجْهَ دخوله فيها حيث قال : أخي ثقة فوصفه بالوفاء ؛ والوفاءُ داخل في هذه الفضائل التي قدّمناها .وقد يتفنن الشعراء فيعدّون أنواعَ الفضائل الأربع وأقسامها ، وكلّ ذلك داخل في جملتها ؛ مثل أن يذكروا ثقابَةَ المعرفة ، والحياءَ ، والبيانَ ، والسياسة ، والصدْعَ بالحجة ، والعلم ، والحلم عن سفاهة الْجَهَلةِ ؛ وغير ذلك ممّا يَجْرِي هذا المجرى ، وهو من أقسام العقل . وكذكرهم القناعة ، وقلّة الشَرهَ ، وطهارة الإزار ؛ وغير ذلك أيضاً من أقسام العِفة . وكذِكْرِهم الحماية ، والأخْذَ بالثَّار ، والدفاع ، والنكايةَ ، والمهابة ، وقَتْلَ الأقران ، والسير في المَهَامِه والقفار ؛ وما يشاكلُ ذلك ، وهو من أقسام الشجاعة ؛ وكذِكرهم السماحة ، والتغابن ، والانظلام ، والتبرّع بالنائل ، وإجابة السائل وقِرَى الأضياف ؛ وما جانس هذه الأشياء ، وهو من أقسام العدل .
فأمّا تركيب بعضها على بعض فتحدث منها ستة أقسام : يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة : الصبرُ على الملمات ، ونوازِلِ الخطوب ، والوفاءُ بالوعود . وعن تركيب العقل مع السخاء : إنجازُ الوعد ، وما أشبه ذلك . وعن تركيب العقل مع العفة : التنزه والرغبةُ عن المسألة ، والاقتصار على أدنى معيشة ، وما أشبه ذلك . وعن تركيب الشجاعة مع السخاء : الإخلاف ، والإتلاف ، وما أشبه ذلك . وعن تركيب الشجاعة مع العفة : إنكارُ الفواحش ، والغيرةُ على الحُرَم . ومن السخاء مع العفة : الإسعاف بالقوت ، والإيثارُ على النفس ، وما شاكَلَ ذلك . وكل واحدة من هذه الفضائل الأربع وَسَط بين طرفين مذمومين .
وقد قال أبو جعفر محمد بن مناذر لمّا حجَ الرشيد مع البرامكة : الطويل :
أتانا بنو الأملاكِ مِنْ آلِ بَرْمَكٍ . . . فيا طِيبَ أخْبَارٍ ، ويا حُسنَ مَنظرِ
لهم رِحْلة في كلّ عام إلى العِدا . . . وأُخْرى إلى البيتِ العتيقِ المُشَهّرِ
فتُظلِم بغداد ، ويَجْلو لنا الدُّجَى . . . بمكةَ ما حَجوا ثلاثةُ أقمُرِ
إذا نزلوا بطحاءَ مكة أشرقَتْ . . . بيَحْيَى وبالفضل بن يحيى وجعفرِ
فما خُلِقَتْ إلا لجودٍ أكفُهم . . . وأقدامُهم إلا لأغوَادِ مِنبَرِ
إذا راضَ يحيى الأمرَ ذَلَتْ صِعَابهُ . . . وحَسْبُك مِن راعِ له ومدبرِ
ترى الناسَ إجلالاً له وكأنهم . . . غَرانِيقُ ماءً تحت بازٍ مُصَرصِرِمذهب التجنيس في الغزل
قطعة من شعر الأمير أبي الفضل الميكالي في طَرف أخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل ، قال : الطويل :
لقد راعني بَحْرُ الدُّجَى بصُدُودهِ . . . ووَكَّلَ أجفاني بِرَعي كواكِبِهْ
فيا جَزَعي ، مَهْلاً عَساهُ يَعودُ لي . . . ويا كَبِدي ، صَبْراً على ما كَواكَ بِهْ
وقال : الطويل :
مواعيده في الفَضْل أحلامُ نائم . . . أشَبِّهُهَا بالقَفْرِ أو بِسَرَابِهِ فمَنْ لي بوَجْهٍ لو تَحَيرَ في الدُجَى . . . أخُو سَفَرٍ في ليل غَيْمٍ سَرَى بِهِ
وقال : الخفيف :
صِل محبًّا أعياه وَصْف هواهُ . . . فضَناه يَنُوبُ عن ترُجمانِه
كلّما راقهُ سِواكَ تَصَدَتْ . . . مُقْلَتاهُ بدمعةِ تَرْجُمانِه
وقال : السريع :
يا ذا الذي أرسل من طَرْفِه . . . عليّ سَيْفاً قْدني لو فَرَا
شفاءُ نفسي منك تخميشةٌ . . . تَغْرِسُ في خدّك نَيْلَوْفَرا
وقال : الكامل :
يا مُبْتَلًى بضناه يَرْجُو رحمةً . . . من مالكٍ يشفيه من أوْصابهِ
أوصاك سِحْرُ جفونه بتسهُد . . . وتبلّد ، فقبلت ما أوْصَى به
اصْبِر على مَضَضِ الهوى فلرَبما . . . تَحلُو مرارةُ صبرهِ أوصابه
وقال : الوافر :
كتبْتُ إليه أستهدي وِصالاً . . . فعلَلني بوَعْدِ في الجوابِ
ألا ليت الجوابَ يكون خيراً . . . فيطفئ ما أحاط من الجوَى بي
وقال : الكامل :
إنْ كنتَ تأنَسُ بالحبيبِ وقُربه . . . فاصْبر على حُكمِ الرقيبِ ودارِهِ
إن الرقيبَ إذا صبرت لحكمه . . . بَواكَ في مَثْوَى الحبيبِ ودَارِهِوقال : الطويل :
شكوتُ إليه ما ألاقي فقال لي : . . . رُوَيداً ، ففي حُكم الهوَى أنْتَ مُؤتلي
فلو كان حقاً ما ادَّعيت مِنَ الهوى . . . لقل بما تلقَى إذاَ أن تموتَ لي
وقال : الوافر :
نَوى لي بعد إكثارِ السؤال . . . حبيب أنْ يُسامحَ بالنوَالِ
فلما رُمْتُ إنجازاً لوعدي . . . عليه أبى الوفاءَ بما نَوَى لي
وكان القربُ منه شفاءَ نفسي . . . فقد قضتِ النوائبُ بالنَّوَى لي
وقال : البسيط :
سقياً لدهرٍ مضَى والوصلُ يجمَعُنَا . . . ونحنُ نحكِي عِناقاً شكل تَنْوينِ
فصرْتُ إذ عَلِقَتْ كفّي حَبَائِلكُم . . . فسَهْمُ هجرك تَرْمِي ثم تَنْويني
وقال : مجزوء الكامل :
صَدَفَ الحبيبُ بوَصْلهِ . . . فجفَا رُقَادِي إذْ صَدَفْ
ونثرت لؤلؤ أدمُع . . . أضْحَى لها جَفْني صَدفْ
وقال : الكامل :
يا مَنْ يقولُ الشعرَ غَيْرَ مهذّبٍ . . . ويَسُومُني التعذيبَ في تهذيبهِ
لو أنّ كل النَّاس فيك مُسَاعِدِي . . . لعجزت عن تهذيبِ ما تَهْذِي بهِ
وقال : السريع :
أراد أن يُخْفِي هَوَاهُ وقَدْ . . . نمَ بما تُخْفي أسَاريرُهُ
وكيفَ يُخْفي داءَه مُدْنَفٌ . . . قد ذاب من فرْط الأسَى رِيرُهُ
وقال : مجزوء الكامل :
ومهفهف تهفُو بِل . . . ب المرء منْه شَمَائِلُ
فالرّدْفُ دِعْصٌ هائلٌ . . . والقَدُ غُصنٌ مائلُ
والخدّ نورُ شقائق . . . تنشقُّ عنه خمائلُ
والعَرْفُ نَشْرُ حَدائق . . . تمّت بهن شمائلوالطَّرْفُ سَيْف ما لهُ . . . إلاّ العِذار حَمائِلُ
ولأبي الفتح البستي في هذا المذهب : الخفيف :
إن لي في الهوى لِسَاناً كَتُوماً . . . وجَناناً يخفي حَرِيقَ جَواهُ
غير أني أخاف دَمْعِي عليهِ . . . سَتَرَاهُ يُفْشِي الذي ستَرَاهُ
ولأبي الفتح البستي في مذهب هذا البيت الأخير : الخفيف :
نَاظِرَاه فيما جَنَى نَاظِرَاهُ . . . أوْدَعاني أَمُتْ بما أَوْدَعاني
وله : المتقارب :
خُذِ العفوَ وأمُرْ بعَرْفٍ كما . . . أُمِرْتَ وأعْرِضْ عن الجاهلينْ
ولنْ في الكلام لكلِّ الأنام . . . فمستَحْسَن من ذوي الجاه لِينْ
وله : مجزوء الوافر :
إلى حَتْفِي سَعَى قَدَمِي . . . أَرَى قَدَمِي أراقَ دَمِي
فَمَا أنفَكُّ من نَدَمِي . . . وليس بنافعي نَدَمِي
وله : البسيط :
إنْ هز أقلامَه يوماً ليُعْمِلَها . . . أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عامِلَهُ
وإن أقرَّ على رَق أنامِلهُ . . . أقرَّ بالرِّق كتَّابُ الأنامِ لهُ
وقال لمن استدعاه إلى مودَّته : المتقارب : فَدَيْتُكَ قلَّ الصديقُ الصدُوق . . . وقلّ الْخَليلُ الْحَفيُّ الوفي
ولي راغب فيك إمَّا وفيت . . . فهل راغبٌ أنت في أنْ تَفِي ؟
وللأمير أبي الفضل : مخلع البسيط :
أهلاً بَظْبِي حواهُ قَصْر . . . كجنَّةٍ قد حَوَتْ نَعِيما
طَرَقْتُه لا أهاب سوءًا . . . أبَاحَني حبّه الحريما
فجاد مَنْ فيه لي برَاحٍ . . . تَنْفي حريقاً به قديما
أفْدِي حريقاً أباح رِيقا . . . لا بَلْ حَرِيماً أباح رِيمَاوله : البسيط :
مَنْ لي بشَمْل المُنَى والأُنْس أجْمًعهُ . . . بشادنٍ حَل فيه الحسْنُ أجمعُهُ
ما زال يُعْرِضُ عن وَصْلي وأَخْدَعُهُ . . . فالآن قد لاَنَ بعد الصدّ أخْدعُهُ
وقال : الكامل :
بأبي غَزال نام عَن وًصَبي به . . . ومُراقِ دَمْعي للنَّوَى وصَبِيبِهِ
يا لَيته يَرْثي على وَلَهي بهِ . . . لغرامِ قَلْبي في الهَوَى ولَهيبه
وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلاماً مخموراً خمش وجهه : الكامل :
هَبْهُ تْغَيَّرَ حائلاً عن عَهْدِه . . . ورَمى فُؤادي بالصدود فأَزْعَجَا
ما بالُ نَرْجِسهِ تحوَل وردةً . . . والوردُ في خديه عاد بَنَفْسَجا
وله في هذا المعنى : المتقارب :
وريمٍ على السُكْرِ خمّشْتُهُ . . . بقَرْص بعارضهِ أثرا
فأصبح نرْجسُه وردةً . . . ووردةُ خدَيْهِ نَيْلَوفَرا
وقال في وصف العِذار : الكامل :
ظَبْيٌ كَسَا رَأسَ الشبابِ بعارضٍ . . . نَمَ العِذارُ بحافَتيه فَلاَحا
فكأنما أهْدَى لعارضِ خدِّهِ . . . شعري ظَلاماً واستعاضَ صَبَاحا
وقال في غلام افتصد : مجزوء الكامل :
ومُهفْهفِ غرس الجما . . . لُ بخده رَوْضاً مَرِيعا
فًصَدً الطبيبُ ذِراعَهُ . . . فجرى له دَمعِي ذريعا
وأمسني وقعُ الحدي . . . د بعِرقِة ألماً وَجيعاً
فأريته من عَبْرتي . . . ما سال من دَمِهِ نجيعَا
فِقرٌ في ذكر العلم والعلماء
العلماء ورثةُ الأنبياء . والعلماءُ أعلامُ الإسلام . العلماء في الأرض كالنجوم في السماء .ابن المعتز - العلماءُ غرباء ، لكَثْرَةِ الجهل . وله : العلمُ جمالٌ لا يخفى ، ونَسَب لا يُجْفَى . وله : زَلَةُ العالم كانكِسَار سفينةٍ تَغْرق ويَغْرق معها خَلْقٌ كثير .
غيره - إذا زلّ العالم ، زَل بزلَتِه عالَم . غيره : الملوك حُكامٌ على الناس ، والعلماء حكام على الملوك . من لم يحتمل ذلَّ التعلّم ساعة ، بقي في ذلّ الجهل أبداً . مَا صِينَ العلم بمثل بَذْلِهِ لأهله . من كتم علماً فكأنه جاهلُه : مجزوء الكامل :
العلمُ يمنعَ أهله . . . أن يمنعوه أهلُه
أبو الفتح كشاجم : مجزوء الكامل :
لا تمنع العلم أمرأً . . . والعلمُ يمنعُ جانبَهْ
أمّا الغبي فليس يف . . . هم لطْفَهُ وغَرائبهْ
وتكون حاضرةُ الفوا . . . ئد عنده كالغائبهْ
وأخو الحصافة مُسْتَحِق . . . أَن ينالَ مَطَالبهْ
فبحقَه أعطيتهُ . . . مِنْ فَضْلِ علمك وَاجِبَهْ
ومن رق وجْهه عند السؤال ، رقّ عِلمُه عند الرجال . عِلْم بلا عمل ، كشجرة بلا ثمر . كما لا يُنْبِتُ المطرُ الكثيرُ الصَخْرَ ، كذلك لا ينفعُ البليدَ كثرة التعلّم . من ترفَّع بعلمه وضَعه اللَهُ بعملِهِ . الجاهلُ صغيرٌ وإن كان كبيراً ، والعالم كبيرٌ وإن كان صغيراً . من أكثر مذاكرةَ العلماء ، لم ينس ما علم ، واستفاد ما لم يعلم .
ابن المعتز : المتواضعُ في طلاب العلم أكثرهم عِلْماً ، كما أن المكان المنخفضَ أكثر البقاع ماء . إذا علمت فلا تَذْكُرْ مَنْ دونك من الجهال ، واذكُرْ مَنْ فوقَك من العلماء . النارُ لا يُنقِصُها ما أخذَ منها ، ولكن يُنْقِصُها أَلاَّ تجد حطباً ، كذلك العلمُ لا يُفْنِيه الاقتباس منه ، وفَقْدُ الحاملين له سببُ عدمه . مات خَزَنة الأموال وهم أحياء ، وعاش خُزانُ العلم وهم أموات . مثَلُ عِلم لا ينفع ككنز لا ينفَق منه . أزْهَدُ الناس في عالم جيرانُه . وقيل للصلْتِ بن عطاء ، وكان مقدماً عند البرامكة : كيف غَلَبت عليهم وعندهم مَنْ هو آدبُ منك ؟ قال : ليس للقُرَباء طَرافة الغُرَباء ، وكنت أمرأَ بعيدَ الدار ، نائي المَزار ، غريبَ الاسم ، قليلَ الجرم ، كثير الالْتِواء ، شحيحاً بالإملاء ؛ فرغَبهم فيَ رغبتي عنهم ، وزهَدني فيهم رغبتُهم في .
علم لا يَعْبُر معك الوادي ، لا يعمر بك النادي . لو سكت مَنْ لا يعلم لسقط الاختلاَف . إذا ازدحمَ الجوابُ خَفِي الصواب . الغلط تحت اللَغط . خَرقُ الإجماع خُرْق . المحجوج بكل شيء ينطق .استعارات فقهية تليق بهذا المكان
دخل أبو تمام الطائي على أحمد بن أبي دُوَاد في مجلس حكمه ، وأنشده أبياتاً يستَمْطِرُ نائِله ، وينشر فضائله ، فقال : سيأتيك ثوابُها يا أبا تمام ، ثم اشتغل بتوقيعات في يده ؛ فأحْفَظَ ذلك أبا تمام ، فقال : احضرْ ، أيّدك اللّه ، فإنك غائب ، واجْتَمِعْ فإنك مفترق ، ثم أنشده : المنسرح :
إنَّ حَرَاماً قبولُ مِدْحَتِنا . . . وتَرْكُ ما نَرْتَجي من الصَّفَدِ
كما الدنانير والدراهمُ في ال . . . صَّرْف حرام إلاَ يَداً بيَدِ
فأمر بتوفير حِبَائه ، وتعجيلِ عطائه .
ولمّا ولي طاهر بن عبد اللّه بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه ، وفيهم تمام بن أبي تمام فأنشده : السريع :
هَنَاك رَبُّ الناس هنَاكا . . . ما من جزيل الملك أعطاكا
قرَّت بما أعطِيت يا ذَا الحِجَى . . . والبأسِ والإنعامِ عَيْناكا
أشرقتِ الأرضُ بِمَا نِلْتَهُ . . . وأوْرَقَ العودُ بجَدْوَاكا
فاستضعف الجماعةُ شعره ، وقالوا : يا بُعدَ ما بينه وبين أبيه فقال طاهر لبعض الشعراء : أجبه ، فقال :
حياك ربُّ الناس حيَّاكا . . . إنَّ الذي أمَّلْتَ أخطاكا
فقلتَ قولاً فيه ما زانهُ . . . ولو رأى مَدْحاً لآساكا
فهاك إن شئتَ بها مدحةً . . . مثل الذي أعطيتَ أعْطاكا
فقال تمام : أعز اللّه الأمير ، وإنَ الشّعْرَ بالشعر رِباً ، فاجعلْ بينهما صنجاً من الدراهم ، حتى يحلّ لي ولك فضحك وقال : إلا يكن معه شعرُ أبيه ، فمعه ظرف أبيه ؛ أعطوه ثلاثة آلاف درهم فقال عبد الله بن إسحاق : لو لم يعط إلاّ لقول أبيه في الأمير أبي العباس - رحمه اللّه - يريد عبد الله بن طاهر : البسيط :
يقولُ في قَوْمَسٍ صَحْبي وقد أخذَتْ . . . منا السُّرَى وخُطَا المَهْرِيةِ القُودِ
أمطلع الشمس تبغي أن تَؤُمَّ بنا ؟ . . . فقلتُ : كلاّ ، ولكن مطلعَ الجودِ
فقال : ويعطى بهذا ثلاثة آلاف .ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان
وكان سببُ ولاية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدَّث به أبو العيناء قال : كنّا عند أحمد بن أبي دواد ، فجاء الخبر أنّ الكتبَ وردت على الواثق من خراسان بوفاة عبد الله بن طاهر ، وأن الواثق يُعَزَّى عنه ، وأنه قد ولّي مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم ، وكان عدوًّا له لانخراطِه في سِلْكِ ابن الزيات ؛ فلبس ثيابَه ومضى ، وقال : لا تبرحوا حتى أعودَ إليكم ، فلبث قليلاً ، ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد اللّه وجلس ، قال : فقال لي الواثق : قد وَلّينا إسحاق خراسان ، فما عندك ؟ قلت : وفق اللّه أمير المؤمنين ولا نذمّه . قال : قلْ ما عندك في هذا . قلت : أمر قد أُمضِي ، فما عسيت أن أقولَ فيه . قال : لَتَفْعَلنّ . فقلت : يا أمير المؤمنين ، خراسانُ منذ ثلاثين سنة في يد طاهر وابنه ، وكلّ مَن بها صنائعهُم ، وقد خَلَّفَ عبدُ الله عشرَ بنين أكثرهم رجال ، وجميعُ جيش خراسان لهم عبيد أو مَوَالٍ أو صَنَائع ، وسيقولون : أما كان فينا مُصْطَنع ؟ وكان يجب أن يجرّبَنا أميرُ المؤمنين ، فإن وَفَيْنا بما كان يَفي به أبونا وجدُّنَا ، وإلاّ استبدل منّا بعد عُذْرٍ فينا ؛ ويقدم خراسانَ إسحاقُ وهو رجل غريب فينافسه هؤلاء ، ويتعصّب أهلُها لهم ؛ فينتقض ما أُبْرِمَ ، ويفسد ما أُصلح .
قال : صدقت يا أبا عبد اللّه ، والرأي ما قلت ، اكتبوا بعهد طاهر بن عبد اللّه على خراسان . فكتبت كتبُ طاهر ، وحُرِقت كتب إسحاق ، فخرجت الزنج تطيرُ بها ، ثم لقيني إسحاق داخلاً ، فقلت : يا أبا الحسن ، لا عدمت عداوة رجل أزال عنك ولاية خراسان بكلمة . ومدح ابن الرومي أبا العباس بن ثوابة ، فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها ، فقال ابن الرومي : المتقارب :
ألَيْسَ الْقَوافي بَنَاتِ الْفَتى . . . إذا صورَةُ الحق لم تُمْسَخِ
فلا تَقبَلَنَّ أَمادِيهُ . . . حَرامٌ نِكاحُ بناتِ الأخِ
ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم :
السيف أصدق أنباء من الكتب
قال له : لقد جَلَوْتَ عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلاءَها . قال : يا أمير المؤمنين ، والله لو كانت من الحورِ العين لكان حُسْنُ إصغائك إليها من أوْفَى مُهُورِها .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الوافر :
أقول لشَادِنَ في الحُسْنِ أضْحَى . . . يَصِيدُ بلَحْظِهِ قَلبَ الكَميملكت الحسنَ أجمعَ في قوام . . . فأدّ زكاةَ منظرك البَهيّ
وذلك أن تجودَ لمُسْتَهام . . . بريق من مُقَبلِك الشَهِي
فقال : أبو حنيفة لي إمامٌ . . . فعندي لا زكاةَ على الصَبيِّ
وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال : الوافر :
أقول لشَادنِ في الحسن فَرْدٍ . . . يصيد بلحظِهِ قَلْبَ الجليدِ
ملكتَ الحسن أجمعَ في قوام . . . فلا تَمْنَع وجوباً عن وجُودِ
وذلك أنْ تجودَ لمستهام . . . برَشْفِ رُضَابك العذْبِ البَرودِ
فقال : أبو حنيفة لي إمام . . . فعندي لا زَكاة على الوليدِ
وقال : الطويل :
بنَفْسِي غَزال صار للحُسْنِ قبلةً . . . يُحَج من البيت العتيق ويُقصَدُ
دعاني الهوى فيه فلبَّيتُ طائعاً . . . وأحْرَمْتُ بالإخلاص والسَعْي يَشْهَدُ
فطرفيَ بالتسهيد والدَمْعِ قارِنٌ . . . وقلبي عليْه بالصبابة مُفرِدُ
وقال أبو الفتح كشاجم : البسيط :
فَدَيْتُ زائرةً في العيد واصِلةً . . . والهَجْرُ في غفلة من ذلك الخبرِ
فلم يزل خذُها رُكْناً أطوف بِه . . . والخالُ في خدّها يُغْني عن الحجَرِ
وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبي نصر بن المرزبان : كتابي ، أطال الله بقاء الشيخ وأنا سالم ، والحمد لله رب العالمين ، كيف تقلبُ الشيخ في درع العافية ، وأحوالُه بتلك الناحية ؛ فإني ببعده مُنغصُ شِرْعة العيش ، مقصوص أجنحة الأنس . ورد كتابه المشتملُ من خبر سلامته ، على ما أرغب إلى الله في إدامَته ، وسكنتُ إليه بعد انزعاجي لتأخُره ؛ وقد كان رَسَمَ أن أعرفه سببَ خروجي من جرجان ، ووُقوعي بخُراسان ، وسببَ غضبِ السلطان ؟ وقد كانت القصة أني لما وردتُ من ذلك السلطان حضرتَه ، التي هي كَعْبَةُ المحتاج ، لا كعبة الحجاج ، ومستقرُ الكرم ، لا مَشعَر الحرم ، وقِبْلة الصلاَتِ ، لا قبلة الصلاة ، ومُنَى الضَّيف ، لا مِنَى الخَيْفِ ، وجدت بها نُدَماء من نَبَات العام ، اجتمعوا قيضَةَ كلب على تلفيق خطب ، أزعجني عن ذلك الفِنَاء ،وأِشرف بي على الفَنَاء ، لولا ما تدارك اللّه بجميل صُنْعه ، وحسن دفعه ؛ ولا أعلم كيف احتالوا ، ولا ما الَذي قالوا ؛ وبالجملة غَيَّروا رأيَ السلطان ، وأشار علي إخواني ، بمفارقةِ مكاني ، وبقيت لا أعلم أيمنةً أضرِب أم شآمة ، ونَجْدا أقصد أم تهامة : الطويل :
ولو كنت في سَلْمى أجد وشِعابِها . . . لكان لِحَجاجٍ عليَ دليلُ وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماءٌ إذا تغيم لم يُرْجع صَحْوُه ، وماء إذا تغيَّر لم يُشرب صَفْوُه ، وملك إذا سَخِط لم يُنتظر عفوه ، وليس بين رضاه والسخط عَوْجَة ، كما ليس بين غَضَبه والسيف فَرْجة ، وليس من وراء سُخْطِهِ مجاز ، كما ليس بين الحياة والموت معه حِجاز ؛ فهو سيدٌ يُغْضبه الْجُرم الْخَفِيّ ، ولا يُرْضِيه العذر الجلي ؛ وتكفيه الجناية وهي إرجاف ، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف ، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظلّ الرمح ، ويَعْمَى عن العذر وهو أبين من عمود الصُبْح ؛ وهو ذو أذنين يسمع بهذهِ القول وهو بهتان ، ويحجب عن هذه العذر وله برهان ؛ وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح ، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح ؛ وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم ، ويغمض الأخرى عن الحلم ، فمزحه بين القَدِّ والقَطْع ، وجدّه بين السيف والنِّطْع ، ومراده بين الظهور والكمون ، وأمره بين الكاف والنون ؛ ثم لا يعرف من العقاب ، غير ضرب الرقاب ، ولا يهتدي من التأنيب إلاَ لإزالة النعم ، ولا يعلم من التأديب غير إراقة الدم ، ولا يحتمل الهَنَة على حجم الذرة ، ودقة الشعرة ، ولا يحلم عن الهَفْوَة ، كوزن الهَبْوَة ، ولا يُغْضي عن السقطة ، كجرم النقطة ؛ ثم إن النقم بين لفظه وقلمه ، والأرض تحت يده وقدمه ، لا يلقاه الولي إلاَ بفمه ، ولا العدو إلاَ بدمه ؛ والأرواح بين حَبْسه وإطلاقه ، كما أنَّ الأجسام بين حله ووَثاقِه ؛ فنظرتُ فإذا أنا بين جُودَين ؛ إما أن أجودَ ببأسي ، وإمّا أن أجود برأسي ، وبين رُكُوَبين ؛ إما المفازة ، وإمّا الجِنَازة ، وبين طريقين ؛ إما الغُرْبة ، وإمَا التربة ، وبين فِراقَيْنِ ؛ إمّا أن أُفارق أَرْضي ، أو أُفارق عرضي ، وبين راحلتين ؛ إمّا ظهور الجِمال ، وإمَا أَعْنَاق الرجال ، فاخترتُ السماح بالوَطَن ، على السماح بالبَدَن ؛ وأنشدت : الطويل :
إذا لم يكُنْ إلا المنية مَرْكَبٌ . . . فلا رَأيَ للمحمول إلا ركوبُها
وَلَدَ ما ذكر من كعبة المحتاج ، لا كعبة الْحُجّاج ، من قول أبي تمام : الكامل :
بيتان حجهُما الأنامُ ؛ فهذه . . . حجُ الغَنِيَ ، وتِلكمُ لِلْمُعْدِمأبو عليّ البصير
وشتم بعضُ الطالبيين أبا عليّ الفضلَ بن جعفر البصيرَ ، فقال أبو عليّ : والله ما نَعْيَا عن جوابك ، ولا نَعْجِزُ عن مَسَابِّك ؛ ولكنَّا نكونُ خيراً لِنَسَبِك منك ، ونحفظ منه ما أَضَعْتَ ؛ فاشكُرْ توفيرَنا ما وفَّرْنا منك ، ولا يَغُرَّنك بالجهل علينا حِلْمُنا عنك .
وسأل أبو علي البصير بعض الرؤساء حاجةً ولقيه ؛ فاعتذر إليه من تأخرها ؛ فقال أبو عليّ : في شُكْرِ ما تقدّم من إحسانك شاغلٌ من استبطاء ما تأخر منه .
وأبو عليً أحَدُ مَنْ جمع له حظُ البلاغة في الموزون والمنثور ، وهو القائلُ : الطويل :
ألمَت بنا يَوْمَ الرحيل اختلاسَةً . . . فأضرَمَ نيرانَ الهَوى النَّظَرُ الخَلْسُ
تأبتْ قليلاً وهي تُرعَدُ خِيفةً . . . كما تتأتَّى حين تَعْتَدِل الشمسُ
فخاطبها صَمْتي بما أنا مُضْمِرٌ . . . وأَنْبَسْتُ حتى ليس يُسْمَع لي حِسُ
وولَت كما ولّى الشباب لِطِيّةٍ . . . طوَتْ دونها كَشْحاً على يَأسها النفسُ
وقال يصف بلاغةَ الفتح بن خاقان وشعره : الطويل :
سَمِعنا بأشعار الملوكِ ؛ فكلُها . . . إذا عَضَ مَتْنَيْه الثقافُ تأوَدَا
سوى ما رأينا لأمْرِئ القيس ؛ إننانراه متى لم يَشْعُر الفَتْحُ أوْحَدا
أقام زماناً يَسْمَعُ القولَ صامتاً . . . ونحسبه إن رام أكْدَى وأصْلَدا
فلما امتطاه راكباً ذل صعبُه . . . وسار فأضحى قد أغار وأنجَدَا
والفتح بن خاقان يقول : الطويل :
وإني وإياها لكالْخَمْرِ ، والفتى . . . متى يستَطِع منها الزيادةَ يَزْدَدِ
إذا ازدَدْتُ منها زاد وَجْدِي بقُرْبها . . . فكيف احتراسِي مِنْ هوًى متجددِ ؟ وكتب إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى : وإن أميرَ المؤمنين لمَا استْخلَصك لنفسه ، وائتمنك على رعيته ؛ فنطق بلسانك ، وأخذَ وأعطى بيدك ، وأوْرَدَ وأصدْرَ عن رأيك ، وكان تفويضُه إليك بعد امتحانه إياك ، وتَسلِيطه الحقّ على الهوى فيك ، وبعد أن مثل بينك وبين الذين سمَوا لمرْتَبتك ، وجرَوْا إلى غايتك ، فأسقطهم مَضَاؤُك ، وخَفُوا في ميزانك ، ولم يزدك - أكرمك الله - رفعة وتشريفاً إلا ازددتَ له هيبةً وتعظيماً ، ولا تسليطاً وتمكيناً ، إلا زِدْتَ نفسك عن الدنيا عُزوفاً وتنزيهاً ، ولا تقريباً واختصاصاً ، إلا ازددتَ بالعامة رأفةً وعليها حدَبا ، لا يخرجك فَرطُ النصح له عن النظر لرعيته ، ولا إيثار حقه عنالأخذ بحقِّها عنده ، ولا القيامُ بما هو له عن تضمين ما هو عليه ، ولا يشغلك مُعَاناةُ كبار الأمور عن تفقُد صغارِها ، ولا الْجِدُّ في صلاح ما يَصْلُحُ منها عن النظر في عواقبها ، تمْضي ما كان الرَّشَدُ في إمضائه ، وتُرْجِئُ ما كان الحَزْمُ في إرجائه ، وتبذُلُ ما كان الفضلُ في بَذْله ، وتمنعُ ما كانت المصلحةُ في مَنْعِه ، وتَلِين في غير تكبر ، وتَخُص في خير مَيل ، وتعمُ في غير تصنّع ، لا يَشْقَى بك المحق وإن كان عدواً ، ولا يَسْعَدُ بك المبطلُ وإن كان وليّاً ؛ فالسلطان يعتدّ لك من الغَناء والكِفاية ، والذَّبِّ والحياطة ، والنُصح والأمانة ، والعِفة والنزاهة ، والنصب فيما أدَى إلى الراحة ، بما يراك معه - حيث انتهى إحسانُه إليك - مستوجباً للزيادة ، وكافةُ الرعية - إلاَّ من غَمِطَ منهم النَعْمة - مُثْنُونَ عليك بحُسْنِ السيرة ، ويُمْنِ النقيبة ، ويَعُدُونَ من مآثرك أنك لم تُدْحِض لأحدٍ حُجة ؛ ولم تدفع حقاً لشبْهَة ؛ وهذا يسيرٌ من كثير ، لو قصدنا لتفصيله ، لأنْفَدْنا الزمان قبل تحصيله ، ثم كان قَصْدُنا الوقوفَ دون الغاية منه .
وله إلى عبيد الله بن يحيى : يقطعني عن الأخْذِ بحظِّي من لقائك ، وتعريفك ما أنا عليه عن شُكْرِ إنعامك ، وإفرادي إياك بالتأميل دونَ غيرك ، تخلفي عن منزلة الخاصة ، ورغبتي عن الحلول محل العامة ، وأني لسْتُ معتاداً للخِدْمَة ولا الملازمة ، ولا قويًّا على المغَادَاةِ والمُرَاوَحة ؛ فَلاَ يمنَعْك ارتفاعُ قَدْرك ، وعلو أمرك ، وما تعانيه من جلائل الأحوال الشاغلة ، من أنْ تتطوَل بتجديد ذكري ، والإصغاء إلى مَنْ يحضك على وَصْلي وبري ، ويرغَبك في إسداء حُسْنِ الصنيعة عندي .
وله إليه آخِرَ فصل من كتاب : وأنا أسألُ الله الذي رَحِم العبادَ بك ، على حينِ افتقارٍ منهم إليك ، أن يُعِيذهم من فَقْدِك ، ولا يُعيدهم إلى المكاره التي استنقذتهم منها بيدك .
السفر
ولقي رجلٌ رجلاً خارجاً من مِصْر يريد المغْرِب ، فقال : يا أخي ، أتتَبعُ القَطْرَ ، وتَدُع مَجْرى السيول ؟ فقال : أخرجني من مصر حَق مُضَاع ، وشُكى مُطَاع ، وإقتار الكريم ، وحركة اللئيم ، وتغير الصديق ، بين السعة والضيق ، والهربُ إلى النزرِ بالعز ، خير من طلب الوَفْرِ بذلُ العَجزِ .
وأوصى بعضُ الحكماء صديقاً له ، وقد أرادَ سفراً ، فقال : إنك تدخُلُ بلداً لا يَعْرِفُك أهلُه ، فتمسّك بوصيتيَ تنفق بها فيه ؛ عليك بحُسن الشمائل فإنها تدكُ على الحرية ، ونَقَاء - الأطراف فإنها تشهد بالمُلوكية ؛ ونظافة البِزة فإنها تنبئ عن النَشء في النعمة ؛ وطيبالرائحة فإنها تظهرُ المروءة ، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة ، وليَكُن عقلُك دون دينك ، وقولُك دون فِعْلك ، ولباسُك دونَ قَدْرِك ، والزمِ الحياءَ والأنفَة ؛ فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبتْ الخساسة ، وإن أنِفْتَ عن الغلبة ، لم يتقدمْكَ نظيرٌ في مرتبة .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يُوصِي آخرَ أراد سفراً ، فقال : آثر بعملك مَعَادَك ، ولا تَدَع لِشَهْوَتِكَ رَشادَك ، وليكُنْ عقلُك وزيرَك الذي يَدْعُوك إلى الهدى ، ويجنِّبك من الرَدى ، واحْبِس هواك عن الفواحش ، وأطْلِقه في المكارم ؛ فإنك تبرّ بذلك سلَفك ، وتَشِيد به شرفَك .
وأوصت أعرابية ابنَها في سفر ، فقالت : يا بني ، إنك تجاورُ الغرباء ، وتَرْحَلُ عن الأصدقاء ، ولعلك لا تَلْقَى غيرَ الأعداء ؛ فخالِط الناسَ بجميل البِشْر ، واتَّقِ اللَّهَ في العَلاَنية والسرّ .
وقال بعضُ الملوك لحكيم وقد أراد سفراً : قِفْني على أشياء من حِكْمتك أعْمَلْ بها في سفري ، فقال : اجعلْ تأنيك أمام عَجَلَتِك ، وحِلْمَك رسولَ شِدَّتك ، وعفوَك مالِكَ قدرتك ، وأنا ضامن لك قلوبَ رعيتك ، ما لم تُحْرِجْهم بالشدّةِ عليهم ، أو تُبْطِرْهم بالإحسان إليهم .
وقال أبان بن تغلب : شهدت أعرابيةً لُوصِي ولداً لها أراد سفراً وهي تقول : أي بني ، اجلسْ أمْنَحك وصيتي ، وباللّه توفيقك ، قال أبان : فوقفت مستمعاً لكلامها ، مستحسناً لوصيتها ، فإذا هي تقول : أي بني ، إياك والنَّمِيمة ، فإنها تَزْرَعُ الضغينة ، وتفرَق بين المحبّين ، وإياك والتعرض للعيوبِ فتُتخذ غَرَضاً ، وخليقٌ ألاَ يَثْبُتَ الغَرضُ على كثرة السهام ؛ وقلَما اعتَوَرَتِ السهامُ غَرَضاً إلاَ كَلَمَتْه ، حتى يَهيَ ما اشتدَ من قُوَته ؛ وإياك والجودَ بدينك ، والبخلَ بمالك ؛ وإذا هززت فاهزز كريماً يَلِنْ لِمَهَزتك ؛ ولا تَهْزُز اللئيم فإنه صخرةٌ لا يتفجَّرُ ماؤها ، ومثِّل بنفسك مثال ما استحسنتَ من غيرك فاعمل به ، وما استقبحتَ من غيرك فاجتنبه ؛ فإن المرءَ لا يرى عيْبَ نفسه ؛ ومن كانت مودته بشره ، وخَالَفَ منه ذلك فعلُهُ ، كان صديقه منه على مِثْل الريح من تصرفها .
ثم أمسكت ، فدنوتُ منها ، فقلت لها : بالله يا أعرابية ، إلا ما زِدْته في الوصية ؛ قالت : أو قد أعْجَبَك كلامُ العرب يا حَضَري ؟ قلت : نعم قالت : الغَدرُ أقبح ما تعاملَ به الناسُ بينهم ، ومَنْ جمع الْحِلْمَ والسخاءَ فقد أجادَ الحُلّة رَيْطَتها وسِرْبَالها .فقر في مدح السفر
أبو القاسم بن عباد الصاحب : الخبر المنقول أنَ المقبوضَ غريباً شهيد . وفي الحديث : سافروا تَغْنَموا . السفرُ أحدُ أسباب العيش التي بها قِوامه ، وعليها نِظَامه . إن الله لم يجمَعْ منافعَ الدنيا في الأرض ؛ بل فرَّقها وأحوجَ بعضها إلى بعض . المسافرُ يسمع العجائب ، ويَكْسبُ التجاربَ ، ويَجْلِبُ المكاسب . الأسفارُ مما تَزِيدك علماً بقدرة اللّه وحِكْمته ، وتدعوكُ إلى شكر نعمته . ليس بينك وبين بلدٍ نَسب ؛ فخيرُ البلاد ما حملك . السفرُ يُسْفِر عن أخلاق الرجال . أوحِشْ أهلَك إذا كان في إيحاشهم أُنْسُك ، واهْجُرْ وطنَك إذا نبَتْ عنه نفسك . ربما أسفر السفر عن الظفَر ، وتعذر في الوطن قضاءُ الوطَر ، وأنشد : البسيط
ليس ارتحالُكَ تَرْتَادُ الغِنَى سفراً . . . بَلِ المُقَامُ على خَسْفٍ هو السفرُ
وهذا كقول الطائي : الطويل
وما القفْرُ بالبيدِ الفضاء ، بَكِ الَتي . . . نَبتْ بي وفيها ساكِنُوها هِي القَفْرُ
أخذه المتنبي فقال : البسيط
إذا تَرَحَلْتَ عن قوم وقد قَدرُوا . . . ألاَ تُفارِقَهُمْ فالرَاحِلونَ هُمُ
نقيض ذلك في ذمّ السفر والغربة
في الحديث إن المسافرَ وماله لعَلَى ، قلت : إلاّ ما وَقى الله ؛ أي على هلاك . شيئان لا يعرفهما إلا من ابْتُلِي بهما : السفرُ الشاسع ، والبناءُ الواسع . السفرُ والسقَمُ والقتال ثلاث متقاربة ؛ فالسفرُ سفينة الأذى ، والسقَمُ حَريقُ الجسد ، والقتالُ مَنبتُ المنايا . إذا كنتَ في غير بلدك فلا تَنسَ نصيبك من الذل . الغربةُ كرْبة . النّقلة مُثْلة . الغريب كالغرسِ الذي زايل أرْضَه ، وفَقَد شِرْبَه ؛ فهو ذَاوٍ لا يُثْمِر ، وذابلٌ لا ينضر . الغريب كالوَحْشِ النائي عن وطنه ؛ فهو لكل سَبُعٍ فَرِيسة ، ولكل رام رَمية ؛ وأنشد : الوافر
لَقربُ الدار في الإقتار خَيْرٌ . . . منْ العيش الموسع في اغترابِ
وقال أبو الفتح البُسْتي : البسيط
لا يعدم المرء شيئاً يستعينُ به . . . ومنعه بين أهليه وأصحابهومن نأى عنهمُ قلَّتْ مهابتهُ . . . كالليثِ يحقر ُلما غاب عن غابِهْ
العزل بعد المؤانسة
كتب أبو عبيد الله إلى المهدي بعد عَزْلِه إيّاه عن الدواوين : لم يُنكِر أميرُ المؤمنين حالي في قُرْب المؤانسة وخصوص الخلطة ، وحالي عنده قَبْلَ ذلك في قيامي بواجب خِدمَته ، التي أدنتني من نعِمته ، فلم أبدِّل - أعز اللّه أميرَ المؤمنين - حال التبعيد ، ويقرّب في محل الإقصاء ، وما يعلمُ اللّه مني فيما قلت إلاَّ ما علمه أميرُ المؤمنين ، فإن رأى أكرمه اللّه أن يُعَارِض قولي بعلمه بدءًا وعاقبةً فعل إن شاء اللّه .
فلمّا قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبُه ، فقال : ظلمنا أبا عبيد اللّه ، فيردّ إلى حاله ، ويُعْلَم ما تجدّد له من حُسْنِ رأيي فيه . ولما أمر المأمونُ أن يُحْجَب عنه الفضلُ بن الربيع لسبب تألَمَ قلبُه منه كتب إليه : يا أمير المؤمنين ، لم يُنْسِني التقريبُ حالي أيامَ التبعيد ، ولا أغفلتني المُؤانسة عن شكر الابتداء ، فعلى أيِّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين ، ويَلْحَقُني ذمُ التقصيرِ في واجب خدمته ؟ وأميرُ المؤمنين أعْدلُ شهودي على الصَدْق فيما وَصْفت ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين ألا يكتم شهادتي فَعل إن شاء اللّه .
وقال أبو جعفر المنصور لأبي مسلم حين أزْمَع قَتْله : هل كنتَ قبل قيامك بدولتنا جائزَ الأمْرِ على عَبْدين ؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين . قال : فلِمَ لَمْ تَعْرِض حالَيْ عُسرتك ومَهانتك على أيامنا ، وتعرِف لنا ما يَعْرِفُ غيرُك من إجلالنا وإعظامنا ، حتى لا ينازعك الحين عِنَان الطمأنينة ؟ قال : قد كان ذلك يا أميرَ المؤمنين ، ولكنَ الزمانَ وإساءتَه قَلَبَا ما كان من حُسْنِ صنيعتي ، قال : فلا مرغوبَ فيك ، ولا مأسوفَ عليك ، وفي اللّه خَلَفٌ منك وأَمر بقتله .
جملة من شعر أبي الفتح كشاجم في الأوصاف
قال يصف أجزاء من القرآن : الخفيف
مَنْ يَتُبْ خشيةَ العقابِ فإني . . . تُبْتُ أنْساً بهذهِ الأجزاء
بَعَثَتني على القراءة والنُس . . . ك وما خِلْتُني مِنَ القرَاء
حين جاءت تَرُوقني باعتدال . . . من قدود وصيغَةٍ واستواء
سبعة أشْبَهَت ليَ السبعةَ الأن . . . جم ذاتَ الأنوار والأضواء
كُسيت من أديمِها الحالِك اللَو . . . ن غِشاءً أحبب به من غِشَاءمُشْبِهاً صبغة الشَّبَابِ ولَمَا . . . ت العَذارى ولبْسَةَ الخطباءِ
ورأت أنها تحسنُ بالضدِّ . . . فَتَاهَتْ بحِلْية بيضاء
فهي مسودّةُ الظهور ، وفيها . . . نورُ حق يَجْلُو دُجَى الظلماءَ
مطبقات على صحائفَ كالرّي . . . ط تخيرنّ من مُسُوك الظباء
وكأنَّ الخطوط فيها رياض . . . شَاكِرات صنيعةَ الأنْواء
وكأنَّ البياض والنُّقَطَ السُّو . . . دَ عَبِيرٌ رشَشْتهُ في مُلاء
وكأن العشورَ والذَّهب السا . . . طع فيها كواكب في سماءِ
وهي مشكولةٌ بعدَّةِ أشكا . . . لٍ ومقروءةٌ على أنحاءِ
فإذا شئتَ كان حمزةُ فيها . . . وإذا شئت كان فيها الكِسَائي
خُضْرة في خلالِ حُمرٍ وصفْر . . . بين تلك الأضْعَاف والأثناء
مثل ما أثَر الدَّبيبُ من الذرّ . . . على جلد ِبَضَةٍ عَذْراء
ضُمِّنت مُحكَم الكتابِ كتاب الل . . . ه ذي المكرُمات والآلاء
فحقيقٌ عليَّ أنْ أتلوَ القر . . . آنَ فيهنَّ مُصْبَحِي ومَسائي
وقال يصفُ التخت الذي يُضْرَب عليه حساب الهند : الرجز
وقلمٍ مِدادُهُ ترَابُ . . . في صُحُفٍ سُطُورها حِسابُ
يَكْثُر فيها المَحْوُ والإضرابُ . . . من غير أن يُسَوّد الكتابُ
حتى يبينَ الحقُّ والصواب . . . وليس إعجامٌ ولا إعرابُ
فيه ولا شكَ ولا ارتيابُ
وقال يصف برْكاراً استهداه : المنسرح :
جُدْ لي ببركارك الذي صَنَعَتْ . . . فيه يَدَاً قَيْنةِ الأعاجيبا
ملتئم الشُعبتَيْن معتدلٌ . . . ماشِينَ من جانبٍ ولا عِيَبا
شخصان في شكْل واحدٍ قُدَرا . . . ورُكبا بالعقولِ تركيبا
أشبه شيئين في اشتكالهما . . . بصاحبٍ لا يزالُ مصحوبا
أُوثِقَ مسمارُهُ وغُيِّب عن . . . نواظر الناقدين تَغْييبا
فعَيْنُ مَنْ يجتَلِيه يحسبُهُ . . . في قالب الاعتدال مَصْبوباقد ضَمَ قُطْرَيْه مُحْكِماً لهما . . . ضَمَ مُحِب إليه محبوبا
يزداد حِرْصاً عليه مُبصِره . . . ما زَاده بالبَنانِ تَقْلِيبا
ذو مُقْلَة بصَرَتْهُ مَذهبه . . . لم تَألُهُ رِقةً وتهذيبا
ينظرُ فيها إلى الصواب فما . . . بها يزالُ الصوابُ مطلوبا لولاه ما صحَّ خطُ دَائرة . . . ولا وَجَدْنَا الحسابَ محسوبا
الحقّ فيه فإن عَدَلت إلى . . . سواه كان الحسابُ تقريبا
لَوْ عَيْنُ إقليدسٍ به بَصُرَت . . . خرَ لهُ بالسجودِ مكبوبا
فابعَثْهُ واجْنبه لي بمسْطَرة . . . تُلْفِ الهوَى بالثناء مَجْنُوبا
وقال يصف بيكاتا : البسيط :
روح من الماء في جِسْمٍ من الصُفْر . . . مولد بلطيف الحِسَ والنظرِ
مستعبر لم يَغِبْ عن طَرْفِهِ سكن . . . ولم يَبِتْ من ذَوِي ضِغْن على حَذَرِ
له على الظهر أجفان محجرةٌ . . . ومُقْلة دمْعُها جَارٍ على قَدَرِ
تنْشَا له حركاتٌ من أسافلِه . . . كأنها حركاتُ الماء في الشجرِ
وفي أعاليه حُسْبان يُفَصِّلُه . . . للناظرين بلا ذهنٍ ولا فِكَرِ
إذا بكى دارَ في أحشائه فلَك . . . خافي المسير وإن لم يبكِ لم يدُرِ
مُتْرجم عن مَواقيتٍ يخبرُنا . . . بها فيوجَدُ فيها صادق الخبر
تُقْضَى به الخمسُ في وَقْتِ الوجوب وإن . . . غطى على الشمس سِتْرُ الغَيْم والمَطَرِ
وإن سَهِرْتُ لأوقاتٍ تؤرقني . . . عرفتُ مقدارَ ما ألقى من السَّهَرِ
مُحَدد كل ميقاتٍ تخيرَه . . . ذَوو التخَيرِ للأسفار والحَضَرِ
ومخرج لكَ بالأجزاء ألْطَفَها . . . من النهار وقوسُ الليلِ والسحَرِ
نتيجة العلمِ والتفكير صورَتُه . . . يا حبذا أبدع الأفكار في الصور
وقال يصفُ أسطَرلاباً : البسيط
ومستدير كجِرْم البدرِ مَسْطوح . . . عن كلِّ رافعةِ الأشكال مَصْفُوحصُلْبٌ يُدَارُ على قُطْبٍ يثبته . . . تمثالُ طرفٍ بشكر الحذقِ مَكبُوحِ
ملء البنَانِ وقد أوفَتْ صفائحُه . . . على الأقاليم من أقطارهَا الفِيح
تُلْفى به السبعةَ الأفلاكَ مُحْدِقةً . . . بالماء والنارِ والأرْضِينَ والريحِ
تُنْبيك عن طائح الأبرَاجِ هيئتُه . . . بالشمس طَوراً ، وطَوْراً بالمصابيح
وإن مضَتْ ساعة أو بعض ثانية . . . عرفْتَ ذاك بعلم فيه مَشرُوح
وإنْ تعرَض في وقتٍ يُقَدره . . . لك التشككُ جَلاَهُ بتصحيحِ
مميز في قياساتِ الضلوع بهِ . . . بين المشائم منها والمنَاجِيحِ
له على الظهر عَيْنَا حِكمةٍ بهما . . . يَحْوِي الضياء وتُنْجِيه من اللوح
وفي الدواوين من أشكاله حِكم . . . تنقح العقلُ فيها أيَ تَنْقيح
لا يستقل لما فيه بمعرفةٍ . . . إلاَ الخصيف اللطيفُ الْحِسّ والرُوحِ
حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال . . . أبوَابِ عمن سواهُ جدّ مفتوح
نتيجة الذهنِ والتفكير صَوره . . . ذَوُو العقولِ الصحيحاتِ المَرَاجِيحِ
وكان أبو شجاع فَنَاخَسْرو عَضُدُ الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابي ، على تقدمه في الكتابة ، ومكانه في البلاغة ، واستصفى أمواله من غير إيقاعِ به في نفسه ، فأهدى إليه في يوم مهرجان أسطرلاباً في دَور الدرهم ، وكتب إليه : البسيط
أهدَى إليكَ بنو الحاجاتِ واحْتَشَدوا . . . في مِهْرَجانٍ عظيمٍ أنْتَ تُعْلِيهِ
لكنَ عبدَك إبراهيم حين رأى . . . سُمُو َقَدْرِكَ عن شيءً يُسَامِيهِ
لَمْ يرضَ بالأرض يُهْدِيها إليك ، فقد . . . أفدَى لك الفَلَكَ الأعْلَى بما فيه
وصف المرأة
وقولُ أبي الفتح : ملء البنان . . . . . . البيت نظيرُ قولِ علي ابن العباس الرومي يصف هَنَ امرأة : الخفيف :
يَسَعُ السبعة الأقاليم طُراً . . . وهو في أصبعين من إقليم
كضميرِ الفؤادِ يَلتَهمُ الدن . . . يا وتحويهِ دَفتا حَيْزُومِوإنما أخذه ابن الرومي من قول بعض الشعراء يذكر كاتباً : السريع في كَفّهِ أخْرَس ذُو منطق . . . بقافهِ واللام والميمِ
شَبْر إذا قيسَ ، ولكنه . . . في فعلهِ مِثلُ الأقاليمِ
محذف الرَّأسِ ومُسْودُه . . . كإبرةِ الرَوْقِ منَ الرَيمِ
وهذا البيت الأخير مقلوب من قول عدي بن الرقاع العاملي ، وقد وصف قًرْنَ ريم ، وشبّهه بقلم عليه مداد ، وذكر ظبية : الكامل
تُزْجِي أغَنَ كأنَ إبرَةَ رَوْقِه . . . قلمٌ أصابَ منَ الدَوَاةِ مِدَادَهَا
وقلب المعنى إذا تمكن الشاعرُ من إخفائه لا يَجْرِي مَجْرَى السرقةِ .
وقد ترى تكثيرَ الشعراء من تشبيه أوراك النسوان بالرَملِ والكُثبان ، قال الشاعر : الطويل
وبيض نضيرَاتِ الوجوه كأنما . . . تأزَرْنَ دُون الأزْرِ رَمْلاَتِ عالجِ
خِدالِ الشَوى لا تحتشي غير خَلقها . . . إذا الرُسحُ لم يصبرنَ دون المَنَافِجِ
يَذرْنَ مُرُوط الخزِّ مَلأى كأنها . . . قِصَار وإنْ طالَتْ بِأيدِي النوَاسِجِ
وهذا المعنى متداوَل متناقَل في الجاهلية والإسلام ، فأغرب ذو الرمة في قلبه وأحسن ، فقال يصف رملا : الطويل
ورمل كأوْرَاكِ العذارى قطعْتُه . . . وقد جلَلَتهُ المظلماتُ الْخَنادِسُ
وكذلك مدحهم ضُمُورَ الكَشْح ، وجولان الوُشُح ، وصمُوت القُلْب والخلخال ، وامتناع الخِدَام من المَجَال ؛ قال خالد بن يزيد بن معاوية ، وذكر رملة بنت الزبير بن العوام : الطويل :
تجولُ خلاخيلُ النساءَ ، ولا أرَى . . . لِرملَةَ خلخالاً يجولُ ولا قُلْباأُحِب بني العوَّام طُرّاً لحبِّها . . . ومن أجلها أحببتُ أخوالها كَلْبا
وقال النابغة : الطويل :
على أن حِجْلَيْهَا وإن قلتَ أوسعا . . . صمُوتانِ من ملءً وقلّةِ منطقِ
وقال الطائي : الطويل :
مَهَا الوحشِ إلاَ أنَ هَاتَا أوانِسٌ . . . قَنَا الخط إلاَ أنَ تلك ذَوَابِلُ
من الهِيف لو أن الخلاخيلَ صُيِّرَت . . . لها وُشُحاً جالت عليها الخلاخِلُ
وقال ابن أبي زرعة الدمشقي : الكامل :
اِسْتَكْتَمَتْ خلخالها ومَشَتْ . . . تحتَ الظلام به فما نطقا
حتى إذا ريحُ الصَّبَا نَسَمت . . . ملأ العبيرُ بسيرها الطُرُقَا
وقال المتنبي : الوافر :
وخَصْرٍ تثبُتُ الأبصارُ فيه . . . كأنَ عليه من حَدقِ نِطَاقا
قلَبَ هذا كلّه أبو عثمان الناجم ، فقال يهجو قَيْنة ، مخلع البسيط :
مسلولة الكلِّ غيْر َبَطْن . . . مثقل فهي عنكبوتُ
حُجولها الدهْرَ في اصْطِخَابٍ . . . ووُشْحُهَا كظم صُمُوتُ
وقال أبو عثمان يمدح قَيْنة : السريع
محسنة في كل ألْحَانها . . . لا كالتي تحسن في الندْرَة
ثم قلبه في هجاء ، فقال : السريع :
عجِبْتُ منها وَيْحَها كيف لا . . . تُخْطِئ بالإحسان في الندرَهْ
وهذا مأخوذ من قول محمد بن مناذر يهجو خالد بن طليق ، وكان قد تقلد قضاء البصرة : السريع :
يا عجباً من خالدِ كيف لا . . . يخطئ فينا مرَةً بالصوابكان قضاةُ الناسِ فيما مضى . . . مِنْ رحمَةِ اللّه ، وهذا عَذابْ
وهذا أيضاً من قلب الهجاء مديحاً ، والمديح هجاء ؛ كما قال مسلم بن الوليد يهجو قوماً : الكامل :
قَبُحَت مَنَاظِرُهُمْ فحين خَبَرْتُهم . . . حَسُنَتْ مناظرهُمْ بقبح المخبَرِ
قلبه أبو الطيب المتنبي فقال : الطويل :
وأَسْتَكْثِرُ الأخْبَارَ قَبْلَ لِقائه . . . فَلما التَقَينا صَغر الخبَر الخبرُ
وقال أبو تمام : الكامل :
عبأ الْكَمِينَ له فَضَل لحينه . . . وكمينُه المخفي عليه كمينُ
قلبه البحتري فقال : المنسرح :
لا ييأس المرءُ أن يُنجيَهُ . . . ما يَحسِبُ الناسُ أنه عَطَبُهْ
وقال أبو تمام : الكامل :
وَحشية ترمِي القلوبَ إذا غَدَت . . . وَسْنَى فما تَصْطَادُ غَيْرَ الصيدِ
قلبه البحتري فقال : الطويل
على أنني أخشَى على دارِ أمْنِها . . . فوارس يصطاد الفوارسَ صِيدُها
وقال أبو تمام : الخفيف : يُشْنَأُ الغيثُ وهو جدُ حبيب . . . رب حَزام بِغْضِةِ الموموقِ
قلبه البحتري فقال : المنسرح :
يَسرُني الشيء قد يسوءكُم . . . نوَهَ يَوْماً بِخامِل لقبُهقال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر : المعنى في المصراع الأول أبْيَنُ منه في الثاني ؛ ألا ترى أنه لو قال : إنه ليسوءك الشيء قد يسر ، كان مثل ذلك المعنى مستوياً ، إلاّ أنه قلبه لحاجته .
قال ابن الرومي يهجو مغنية : الرمل :
قينة ملعونة من أجلها . . . رفَضَ اللهو َمعاً مَن رَفضَهْ
فإذَا غَنت ترى في حَلقها . . . كل عِرْقٍ مثل بَيتِ الأرَضَة
فقلبَهُ ابن المعتز فقال يصف أرَضة أكلت له كتاباً : الرجز
تَثْني أنابيبَ لها فيها سبل . . . مثل العروق لا ترَى فيها خَلَلْ
وهذا كثير يُكْتَفى منه باليسير .
ما لا ينقلب من المعاني
ومن المعاني ما لا ينقلب : ألا تَرَى أنك تقول : نام القوم حتى كأنهم موتى ، ولا يحسن أن تقول : ماتوا حتى كأنهم نيام ؛ وقد أخذ على أبي نواس قوله يصف داراً وقف بها : السريع :
كأنها إذ خَرستْ جارم . . . بين يَدَي تفنيده مُطرِقُ
قالوا : إنما يجب أن يشبه الجارم إذا عذلوه فسكت وانقطعت حجتُه بالدار الخالية التي لا تُجِيب .
وأخذوا عليه قوله : البسيط :
كأن نيراننا في جنبِ حصنهمُ . . . معصفرات على أرسَانِ قَصَارِ
وقد تبعه أبو تمام الطائي فقال في الأفشين لما أحرق : الكامل :
ما زالَ سرُ الكُفْر بينَ ضُلُوعِه . . . حتى اصْطَلى سرَ الزنادِ الوَارِي
نارٌ يساورُ جسمَه من حرها . . . لَهب كما عصفرتَ شِق إزارِطارت له شُعَل يهدِّم لفحها . . . أركانَهُ هَدْماً بغيرِ غبَارِ
فصَّلْنَ منه كلَّ مجمَع مَفْصِل . . . وفعَلْنَ فاقرة بكُلّ فَقَارِ
صلّى لها حيًّاً ، وكان وقُودها . . . مَيتاً ، ويدخُلها مع الكفارِ
وكذاك أهلُ النارِ في الدنيا هم . . . يومَ القيامة جلُ أهْلِ النَّارِ
أردت البيت الثاني ، قالوا : وإنما تشبه الثيابُ المعصفرة بالنار ؛ فهذا وما أشبهه لا يتوازنُ انعكاسه ، وتتضادّ قضاياه ؛ وإنما يصح القلْب فيما يتحقّق تضادّه أو يتقارب .
قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم
قال أبو الفتح البستي : البسيط :
قد غضَّ مِن أملي أني أرى عملي . . . أقْوَى من المشتري في أوَلِ الحَمَلِ
وأنني راحِل عمّا أُحاوِله . . . كأنني أسْتدرُّ الحظ من زُحَلِ
وقال : البسيط
إذا غدا ملكٌ باللَّهْوِ مشتغلاً . . . فاحكم على مُلْكِه بالوَيْلِ والحَربِ
ألم تر الشمس في الميزان هابطةً . . . لمّا غدا برج نجمِ اللَّهْو والطَّرَبِ ؟
وقال : الوافر
وقد تُدْني الملوكُ لدى رِضَاها . . . وتُبْعِدُ حين تحتقدُ احتقادا
كما المرَيخ في التثليث يُعْطي . . . وفي التربيع يَسْلُبُ ما أفَادا
وقال : المتقارب
ألا فثقوا بي فإني كما . . . تمدَحت فَلْيمتحن من يُحبْ
فما كوكبي راجعاً في الوفاء . . . ولا بُرْجُ قلبيَ بالمنقلبْوقال : المتقارب
لئن كسَفُونا بلا علّةٍ . . . وفازت قِداحُهُمُ بالظفَرْ
فقد يَكْسِفُ المرءَ مَنْ دونه . . . كما يَكْسِفُ الشمسَ جِرمُ القَمَر
وقال : الرمل :
شَرَفُ الوَغْد بوغد مثلهِ . . . ما فيهِ بزيغٍ وخَلَلْ
ودليل الصدقِ فيما قُلْتُه . . . شرفُ المرّيخ في بيت زُحَلْ
وقال : الكامل :
قل للذي غَرَّتهُ عِزَّةُ مُلْكِه . . . حتى أخَل بطاعةِ النصحاءِ
شرفُ الملوكِ بعلمهم وبرأيهم . . . وكذاك أوْجُ الشمسِ في الجوزاء
وقال : المتقارب :
وقد يفسدُ المرء بعد الصلاح . . . فساد الأماكن ، والشر يُعْدِي
كما السّعد يَقبل طبع النحوس . . . إذا كان في موضعٍ غَيْر سَعْدِ
وقال : الرجز : ما أنْسُ ظمآنٍ بماءً باردِ . . . من بَعْدِ طولِ العهد بالمواردِ
إلاّ كأُنْسِي بكتابٍ وارد . . . من سيدٍ مَحْضِ النِّجار ماجِدِ
كأنما استملاه من عُطارِد
وقال : الكامل :
يا معشرَ الكتاب لا تتعرضوا . . . لرياسةٍ ، وتصاغرُوَا وتخادَموا
إن الكواكب كُن في أشرافها . . . إلاّ عطارد حين صُوَر آدمُ
وقال : المتقارب :
دعاني إلى بيته سيّدٌ . . . له الْخُلق الأشرفُ الأظرفُفلازَمْتُ بيتي ولاطَفْتُهُ . . . بعذر هو الأظرف الأطرفُ
عُطَارِدُ نَجْمِي ، ولا شكّ أن . . . عطاردَ في بيته أشرفُ
وقال : البسيط :
لئن تنقلْتُ مِنْ دارٍ إلى دارِ . . . وصِرْتُ بعد ثَوَاء رَهْنَ أسفارِ
فالحر حرٌ عزيزُ النفس حيث ثَوَى . . . والشَمْسُ في كل بُرْج ذاتُ أنوار
وقال : الطويل :
لئن صدع الدهرُ المشتتُ شملنا . . . وللدهر حكم للجميع صَدُوعُ
فللنَجْمِ من بعد الرجوع استقامةٌ . . . وللشمس من بعد الغروب طلوع
وقال لمحبوس : الطويل :
حُبسْتَ ومن بعد الكسوف تبلّج . . . تضيءُ به الآَفاقُ للبدر والشمسِ
فلا تعتقدْ للحبس غماً ووَحْشَة . . . فأول كون المرء في أضْيَق الحبْسِ
وقال أيضاً : الكامل :
يا من تولى المشتري تدبيرَهُ . . . حاشاك أن تنقادَ للمريخِ
وقال : الكامل :
لا تفزعَنْ من كل شيء مُفْزعٍ . . . ما كلُّ تدبير البروج بضائِرِ
وقال يرثي أبا القاسم الصاحب : الطويل :
فَقَدْناهُ لما تمَ واعتمَ بالعُلاَ . . . كذاك كسوفُ البدر عند تمامِهِ
وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن درست لأبي الفضل الميكالي : الوافر :
إذا ما غاب وَجْهُ البَدْرِ عنا . . . فَوَجهُكَ عِندَنا البَدرُ المُقيمُ
فإن رَجَعَت نُجومُ السعدِ يَوماً . . . فوجهك نجمُ سعدٍ مستقيمُ
وقال مسكويه الخالدي : البسيط :
لا يعجبنكَ حسنُ القصر تنزله . . . فضيلة الشمس ليست في منازلهالو زيدت الشمسُ في أبراجها مائةً . . . ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
وقال أبو بكر الخوارزمي : الطويل :
رأيتك إن أيسرْتَ خيمتَ عندنا . . . لزاماً ، وإن أعسَرت زُرْتَ لماما
فما أنت إلا البدر : إن قل ضوؤه . . . أغَب ، وإن زاد الضياء أقاما
وهذا كقول إبراهيم بن العباس الصولي في محمد بن عبد الملك الزيات : الرمل :
أسَدٌ ضَارٍ إذا مانَعْتَهُ . . . وأبٌ برٌ إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ، ولا . . . يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
وقال ابن المعتز : الطويل :
إذا ما أراد الحاسدون انهدامَه . . . بناهُ إلهٌ غالبُ العز قاهرُهْ
وماذا يريد الحاسدون من امرئً . . . تزينهمُ أخلاقُهُ ومآَثِرُه ؟
إذا ما هو استغنى اهتدى لافتقارهمْ . . . ولا تهتدي يَوْماً إليهم مَفَاقِرُهْ
وكانوا كَرَام كوكبا ببصاقِهِ . . . فرُدَ عليهم وَبْله ومَوَاطِرُهْ
وهذا البيت كما قال بعض العرب في إحدى الروايات : الطويل :
رَماني بأمر كنتُ منه وَوَالدي . . . برياً ومِنْ جالِ الطوِيَ رَمَاني
الجُول والجَال : الناحية ، والطوي : البئر ؛ يريد رماني بما عاد عليه ، والرواية المشهورة : من أجل الطَّوِي ، فعلى هذا تسقط المناسبة بينه وبين قول ابن المعتز .
من أخبار الأصمعي
قال بعضُ الرواة : كنّا مع أبي نصر رَاوية الأصمعي في رياضٍ من المذاكرة نَجْتَني ثمارَها ، ونَجتَلي أنوارَها ، إلى أن أفَضْنَا في ذكر أبي سعيد عبد الملك بن قرَيب الأصمعي ؛ فقال : رحم اللَهُ الأصمعي إنه لمَعدِنُ حِكم ، وبَحرُ عِلْم ، غيرَ أنه لم نر قط مثلَ أعرابي وقف بنا فسلم ، فقال : أيكم الأصمعي ؟ فقال : أنا ذاك ، فقال : أتأذنون بالجلوس ؟ فأذِنا له ، وعجبنا من حُسن أدبه مع جفاء أدب الأعراب . قال : يا أصمعي ، أنتَ الذي يزعمُ هؤلاء النَفر أنك أثقبهُم معرفة بالشعر والعربية ، وحكايات الأعراب ؟ قال الأصمعي : فيهم مَنْ هو أعلم مني ، ومَنْ هُوَ دوني ، قال : تنشدونني من بعض شعر أهل الحضر حتى أقيسَهُ على شعر أصحابنا ؟ فأنشده شعراً لرجل امتدح به مسلمة بن عبدَ الملك : الطويل :
أمَسلمَ ، أنتَ البحرُ إن جاءَ واردٌ . . . وليث إذا ما الحربُ طارَ عُقابُهاوأنت كسيف الهنْدُوَانِيّ إن غدَت . . . حوادثُ من حربٍ يعب عُبابها
وما خُلِقت أُكْرومَةٌ في امرئٍ له . . . ولا غاية إلاّ إليك مَآَبُها
كأنك ديَّانٌ عليها مُوَكَّلٌ . . . بها ، وعلى كفيك يَجرِي حِسابُها
إليك رحلْنَا العِيسَ إذ لم نجد لها . . . أخا ثقة يرجَى لديه ثوابُهَا
قال : فتبسَّم الأعرابي ، وهزَّ رأسه ، فظننا أن ذلك لاستحِسانه الشعر ، ثم قال : يا أصمعيّ ، هذا شعرٌ مهَلهل خَلَق النسج ، خطْؤه أكثر من صوابه ، يغطي عيوبَه حسن الرَوِيِّ ، ورواية المنشد ؛ يشبّهون الملك إذا امتُدح بالأسد ، والأسد أبْخَر شَتيم المَنظَر ، وربما طرده شِرْذِمَة من إمائِنَا ، وتلاعَب به صبياننا ، ويشبّهونه بالبحر ، والبحرُ صَعْبٌ على مَن رَكبه ، مُرّ على من شربه ، وبالسيف وربما خان في الحقيقة ، ونَبَا عند الضِّريبة ألا أنشدتني كما قال صبيّ من حيّنا قال الأصمعي : وماذا قال صاحبكم ؟ فأنشده : البسيط :
إذا سألت الوَرَى عن كل مكرمة . . . لم يُعْزَ إكرامها إلاّ إلى الهولِ
فتًى جَوادٌ أذابَ المالَ نَائِلهُ . . . فالنّيلُ يشكرُ منه كثْرَةَ النَّيْلِ
الموتُ يكره أن يلقى مَنِيّتَهُ . . . في كرِّهِ عند لفِّ الخيل بالخيلِ
وزاحم الشمسَ أبقى الشمسَ كاسِفة . . . أو زاحم الصُّمَّ ألْجَاها إلى الميْل
أمضَى من النجم إن نابَتْه نائبةٌ . . . وعند أعدائه أجْرَى من السَّيْلِ
لا يستريح إلى الدنيا وزينتها . . . ولا تراه إليها ساحبَ الذيْلِ
يقصَرُ المجدُ عنه في مكارمِهِ . . . كما يقصّر عن أفعاله قَوْلي
قال أبو نصر : فأَبْهَتَنا والله ما سمعنا من قوله ، قال : فتأنّى الأعرابي ، ثم قال للأصمعي : ألا تنشدني شعراً ترتاحُ إليه النفس ، ويسكن إليه القلب ؟ فأنشده لابن الرِّقاع العاملي : الطويل :
وناعمة تجْلُو بعود أراكةٍ . . . مؤشَّرَة يَسْبي المُعانِق طِيبُها
كأنّ بها خمراً بماءِ غمامةٍ . . . إذا ارتشِفَتْ بعد الرّقاد غُروبُها
أراك إلى نَجْدٍ تَحِنُّ ، وإنما . . . مُنَى كلِّ نفس حيثُ كان حبيبُها
فتبسَم الأعرابي وقال : يا أصمعي ، ما هذا بدون الأول ، ولا فوقه ، ألا أنشدتني كما قلت ؟ قال الأصمعي : وما قلت ؟ جعلت فداك فأنشده : الطويل :
تَعلَّقْتُها بِكراً ، وعُلِّقْت حبَّها . . . فقلبيَ عن كلِّ الورَى فارغٌ بِكْرُإذا احتجَبَتْ لم يكفكِ البدرُ ضوءَها . . . وتكفيك ضوءَ البدر إن حُجِبَ البَدْرُ
وما الصبرُ عنها ، إن صبرتَ ، وجدتُه . . . جميلاً ، وهل في مثلها يَحْسُن الصَّبْرُ ؟
وحسبُك من خمر يفوتُك ريقُها . . . وواللّه ما من ريقها حَسْبُكَ الخمرُ
ولو أن جلد الذر لامَسَ جِلْدَها . . . لكان لمسَ الذر في جِلْدِها أثْرُ
ولو لم يكُنْ للبَدْرِ ضِدًّا جمالُها . . . وتفضله في حُسْنِها لصفا البَدْرُ
قال أبو نصر : قال لنا الأصمعي : اكتبوا ما سمعتم ولو بأطرافِ المُدَى في رِقاق الأكباد قال : وأقامَ عندنا شهراً ، فجمَع له الأصمعيُّ خمسمائة دينار ، وكان يتعاهدنا في الْحِين بعد الْحِين ، حتى مات الأصمعي وتفرّق أصحابنا
فِقَرٌ من كلام الأعراب في ضروب مختلفة
قال الجاحظ : ليس في الأرض كلامٌ هو أمْتَع ، ولا أنْفَع ، ولا آنقُ ، ولا ألذّ في الأسماع ، ولا أشد اتّصالاً بالعقول السليمة ، ولا أفْتَق لِلسان ، ولا أجود تقويماً للبيان ، من طُولِ استماع حديث الأعراب العقلاءِ الفصحاءَ . قال ابنُ المقفع ، وقد جرى ذِكْرُ الشعرِ وفضيلته : أي حكمة تكون أبلغ ، أو أحسن ، أو أغرب ، أو أعجب ، من غلام بدوي لم ير رِيفاً ، ولم يشبع من طعام ؛ يستوحشُ من الكلام ، ويَفْزَع من البشر ، ويَأوِي إلى القَفْرِ واليرابيع والظَباء ، وقد خالط الغِيلاَن ، وأنسَ بالجانِ ؛ فإذا قال الشعر وصف ما لم يَرَه ، ولم يغذ به ، ولم يعرفه ، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساويها ، ويمدح ويهجو ، ويذمّ ويعاتب ، ويشبب ويقول ما يُكتب عنه ، ويروى له ، ويبقى عليه .
وقال بعض الأعراب : الطويل :
وإني لأهدَى بالأوانس كالدُمى . . . وإني بأطراف القَنَا للَعوبُ
وإني على ما كان من عُنْجُهيتي . . . ولُوثَة أعرابيتي لأدِيبُكأن الأدب غريب من الأعراب ، فافتخر بما عنده منه .
وقال الطائي في فطنتهم ، يستعطف مالك بن طَوْق على قومه بني تغلب : الكامل :
لا رِقة الخَصْرِ اللطيف غَذَتْهُمُ . . . وتباعدوا عن فطْنَةِ الأعرابِ
فإذا كَشَفْتُهُمُ وجدْت لديهمُ . . . كرَم النفوس وقلّةَ الآَدابِ
ووصف أعرابي رجلاً فقال : هو أطهرُ من الماء ، وأرق طباعاً من الهواء ، وأمضى من السيل ، وأهدى من النجم .
ووصف أعرابيّ رجلاً فقال : ذاك والله من ينفع سِلمه ، ويتَواصَفُ حِلمه ، ولا يُسْتَمرَأ ظُلْمه .
وقال أعرابي : جلستُ إلى قوم من أهل بغداد فما رأيتُ أرجَح من أحلامهم ، ولا أطيًشَ من أقلامهم .
وذكر أعرابي من بني كلاب رجلاً فقال : كان والله الفهمُ منه ذا أذنين ، والجواب ذا لِسَانين ، ولم أرَ أحداً أرتقَ لخلَلِ رَأي ، ولا أبعد مسافة روية ، ومَرادَ طَرْفٍ منه ؛ إنما كان يرمي بهمّته حيث أشار إليه الكرم ، وما زال يتحسى مرارة أخلاق الإخوان ، ويسقيهم عذوبةَ أخلاقه .
وذكر أعرابي رجلاً فقال : والله لكأن القلوب والألسُن ريِضتْ له ، فما تُعْقَدُ إلا على وُده ، ولا تنطق إلاَّ بحمده .
وقال أعرابي : أقبحُ أعمال المقتدرين الانتقامُ ، وما استنبط الصوابُ بمثل المشاوَرة ، ولا اكتُسِبت البغضاءُ بمثل الكبر .
قال الأصمعي : وخطَبنا أعرابي بالبادية ، فقال : أيها الناس ، إنّ الدنيا دارُ مفر ، والآَخرة دار مقَر ؛ فخذوا من مفركم لمقَركم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم .
قال المعافر بن نعيم : وقفتُ أنا ومعبد بن طوق العنبري على مجلس لبني العنبري ، وأنا على ناقة وهو على حمار ، فقاموا فبدأوني فَسَلموا علي ؛ ثم انكفَأوا على معبد ، فقبض يده عنهم ؛ وقال : لا ، ولا كَرَامة بدأتم بالصغير قبل الكبير ، وبالمولَى قبل العربي ،وبالمُفْحَم قبل الشاعر ، فأسكت القومُ ، فانبرى إليه غلام ، فقال : بدَأنا بالكاتب قبل الأُمي ، وبالمهاجر قبل الأعْرابي ، وبراكب الراحلة قبل راكب الحمار .
ووصف أعرابي قومَه فقال : ليوثُ حَرْب ، وغُيوث جَدْب ، إنْ قاتلوا أبْلَوْا ، وإنْ بذلوا أغْنَوْا .
ووصف أعرابي قوماً فقال : إذا اصطفُوا سَفَرَتْ بينهم السهام ، وإذا تصافَحُوا بالسيوف فَغَر فَمَه الْحِمامُ .
وُسئل أعرابي عن صديق له ، فقال : صَفِرت عِيَابُ الود بيني وبينه بعد امتلائها ، واكفهّرت وجوهٌ كانت بمائها .
وقال الأصمعي : وسمعت أعرابياً يقول : إن الآمال قَطَعتْ أعناقَ الرجال ، كالسراب غَرَ مَنْ رآه ، وأخلف من رَجاه ، ومَنْ كان الليلُ والنهار مَطِيته أسرعا السير والبلوغ به : البسيط :
والمرءُ يفرح بالأيام يقطَعُها . . . وكلُّ يوم مضى يُدْني من الأجَل
وذكر أعرابي مصيبة نالَتْه ، فقال : إنها ، والله ، مصيبة جعلت سُودَ الرؤوس بيضاً ، وبيضَ الوجوه سوداً ، وهونت المصائب ، وشَيبت الذوائب .
وهذا كقول عبد الله بن الزَبير الأسدي : الوافر :
رَمَى الحِدْثَانُ نِسْوَةَ آل حَرْبٍ . . . بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمُودا
فرد شعورهنَ السُود بيضاً . . . ورد وجوهَهُن البيضَ سُودا
وإنكُ لو رأيت بكاءَ هِنْدٍ . . . ورَمْلَة إذ تَصُكَانِ الخدُودا
بَكَيتَ بُكاءَ مُعْوِلةٍ حَزين . . . أصابَ الدهرُ واحدَها الفقيدا
ونظيرُ هذا التطابق بين السواد والبياض ، وإن لم يكن من هذا المعنى ، قولُ ابن الرومي : الخفيف :
يا بياضَ المَشِيبِ سَوَّدْتَ وَجْهي . . . عند بيضِ الوجوه سُودِ القرونِ فلعمري لأخفينَك جَهْدِي . . . عن عِياني وعن عِيان العيونِ
ولعمري لأمنعنك أن تَض . . . حك في رَأسِ آسفٍ محزونبسوادِ فيه ابيضَاضٌ لوجهي . . . وسوادٌ لوَجْهِكَ المَلْعُونِ
سأل أعرابيان رجلاً ، فحرمهما ، فقال أحدُهما لصاحبه : نزلتَ والله بوادٍ غير ممطور ، وأتيتَ رجلاً بك غير مسرور ، فلم تّدرك ما سألت ، ولا نِلْتَ ما أمَّلْت ؛ فارتحِل بندم ، أو أَقمْ على عَدَم .
قال الأصمعي : وسمعتُ أعرابياً يقول : غَفَلنا ولم يَغْفُلِ الدهرُ عنّا ، فلم نتعظ بغيرنا حتى وُعِظ غيرُنا بنا ، فقد أدركتِ السعادةُ من تَنبه ، وأدركت الشقاوة من غفَل ، وكَفى بالتجربة واعظاً .
وقال أعرابي لرجل : أشكر للمنعم عليك ، وأنْعم على الشاكر لك ، تستَوْجب من ربك زيادته ، ومن أخيك مُنَاصحته .
ومدح أعرابي رجلاً فقال : ذلك والله فَسيح الأدب ، مُسْتَحْكِم السبب ، من أيِّ أقطاره أتيته تُثْني عليه بكرم فعال ، وحُسْن مقال .
وذمّ أعرابي رجلاً فقال : أفسد آخِرتَه بصلاح دُنْياه ، ففارقَ ما أصْلح غيرَ راجعِ إليه ، وقدم على ما أفسد غَيْرَ منتقل عنه ، ولو صدق رجلٌ نفسه ما كَذَبتهّ ، ولو ألقى زمامه أوْطأه رَاحِلتَهُ .
وقال أعرابي : خرجت حين انحدرَتْ أيدي النجوم ، وشالَتْ أرجلها ، فما زلّتُ أصدع الليلَ حتى انصدَع الفجر .
وقال أعرابي : الرجز :
وقد تَعَالَلْتُ ذَمِيلَ العَنْسِ . . . بالسَّوْطِ في دَيْمُومة كالتّرسِ
إذ عَرّج الليلُ بُرُوجَ الشَمْسِ
ومن مليح الاستعارة في نحو هذا قولُ الحسن بن وهب : شربت البارحة على وَجْهِ الجوزاء ؛ فلما انتبه الفَجْرُ نِمْت ، فما عقلت حتى لَحَفَني قَمِيصُ الشَمْسِ .
وقال أعرابي لصاحبه في شيء ذكره : قل إن شاء الله ، فإنها تُرْضِي الربَّ ، وتُسْخِط الشيطان ، وتُذْهِب الحِنْثَ ، وتَقْضي الحاجة .وروى العتبيُ عن أبيه قال : سمعت أعرابيَاً يقول لأخيه في معاتبة جرَتْ بينهما : أما والله لرُبً يوم كتَنُّور الطاهي ، رقّاص بالحمامة ، قد رميتُ نَفْسي في أجِيج سَمُومِه ، أحتَمِلُ منه ما أكره لما أحبّ .
قال أبو العباس محمد بن يِزيد : وأحسب العتبي صنع هذا الكلام ، وأخذه من قول بَشَار : الطويل :
ويوم كَتَنورِ الإماء سَجَرنَه . . . وأوقَدنَ فيه الْجَزْل حتى تَضرَّما
رميتُ بنفسي في أجيج سَمُومه . . . وبالعيس حتى بَضّ مَنْخَرها دَمَا
أخذ هذا المعنى بعضُ أصحاب أبي العباس ثعلب فقال يهجو المبرد : الطويل :
ويوم كتنُّور الطّهاة سَجَرْتُه . . . على أنه منه أحَرّ وأوقدُ
ظللت به عند المبرّدِ جالِساً . . . فما زلت في ألفاظِهِ أتبرَدُ
قال الأصمعي : حجت أعرابيةٌ ومعها ابنٌ لها ، فأصيبت به ، فلمّا دُفِن قامت على قبره ، وهي مُوجَعَة فقالت : واللّه يا بنيّ لقد غَذَوْتُك رضيعاً ، وفقدتُك سريعاً ، وكأنه لم يكن بين الحالين مدةٌ ألتذُ بعيشك فيها ، فأصبحتَ بعد النَّضارة والغَضَارة ورونق الحياة والتنسّم في طِيب روائحها ، تحت أطباق الثرَى جَسداً هامداً ، ورُفَاتاً سحيقاً ، وصعيداً جُرُزاً ؛ أي بني لقد سَحَبَتِ الدنيا عليك أذيال الفناء ، وأسكنتك دارَ البِلَى ، ورمتني بعدك نكْبَةُ الرَّدَى ، أي بني ، لقد أسفر لي وجهُ الدنيا عن صباح دَاجٍ ظلامُه .
ثم قالت : أي ربّ ومنك العدل ، ومن خَلْقِك الجَوْر ، وهَبْتَه لي قُرَةَ عين فلم تُمَتِّعني به كثيراً ، بل سَلَبتنِيه وَشِيكاً ؛ ثم أمرتني بالصبر ، وَوَعَدْتني عليه الأجر ، فصدقت وَعْدَك ، ورضيت قضاءك ، فرحم الله من ترحَّم على من استودَعْتُه الرَّدْم ، ووسَدْتُه الثَّرَى ؛ اللهم ارحم غربته ، وآنِس وحشَته ، وأسترْ عَوْرَته ، يوم تُكْشَف الهَنَات والسوءات .
فلما أرادت الرجوعَ إلى أهلها وقفت على قبره ، فقالت أي بني ، إني قد تزوَّدْت لسفري ، فليت شعري ما زادُك لبُعْدِ طريقك ، ويوم مَعَادِك ؟ اللهم إني أسألُك له الرضا برضائيِ عنه . ثم قالت : استودَعْتُك مَن استودَعَنِيك في أحْشَائي جنيناً ؛ وأثكلَ الوالدات ما أمض حرارةَ قلوبهنّ ، وأَقْلَق مضْاجِعهن ، وأطولَ ليلهن ، وأقصرَ نهارهن ، وأقلَّأنسهنّ ، وأشدّ وحشتهن ، وأبعدهنّ من السرور ، وأقربهنّ من الأحزان . لم تزلْ تقولُ هذا ونحوه حتى أبكتْ كل مَنْ سمِعها . وحمدت الله عزَّ وجلَّ واسترجعَتْ وصلت ركعات عند قَبْره وانطلقت .
وأنشد المُفضلُ الضبيُ لامرأةٍ من العرب ترثي ابناً لها : الكامل :
يا عمرُو مالي عنك من صبرِ . . . يا عَمْرو يا أسَفي على عَمْرِو
لله يا عمرو ، وأيَ فتىً . . . كفّنْت يوم وُضِعْتَ في القبرِ ؟
أحْثوا الترابَ على مَفَارقهِ . . . وعلى غَضَارة وجهه النضْرِ
حين استوى وعَلا الشبابُ بهِ . . . وبدا مُنِيرَ الوجه كالبدر
ورجا أقاربُه منافَعهُ . . . ورأوا شمائل سَيّد غَمْرِ
وأهمَه هَمَي فساوَرَهُ . . . وغَدَا مع الغادِينَ في السفر
تغدُو به شَقراء سامية . . . مَرَطَى الْجِراء شَديدةُ الأسْر
ثبت الجَنَان به ، ويقدمها . . . فَلِجٌ يقلبُ مُقْلتي صَقْرِ
ربيتُه دَهْراً أفتَقُهُ . . . في اليُسْر أغْذُوه وفي العُسْرِ
حتى إذا التأميلُ أمكنني . . . فيه قبَيْلَ تلاحُقِ الثغر
وجعلتُ من شغفي أُنقلهُ . . . في الأرض بين تَنَائِفٍ غُبْرِ
أدَع المَزارعَ والحصونَ بهِ . . . وأُحِلُه في المهْمَهِ القَفْرِ
ما زلْتُ أُصْعِده وأُحْدِرُهُ . . . من قُتْر مَوْمَاةِ إلى قُتْرِ
هرباً به والمَوْتُ يطلبُه . . . حيث انتويْتُ به ولا أدْري
حتى دفَعْتُ به لمَصْرَعِه . . . سَوقَ المُعيز تُسَاق للعَتْرِما كان إلاَ أن هَجَعْتُ له . . . ورمى فأغْفَى مطلع الفجر
ورمى الكَرَى رَأسي ومال به . . . رمسٌ يُسَاوِر منه كالسُكْرِ
إذ راعني صوت هببت به . . . وذُعِرْتُ منه أيّما ذُعْرِ
وإذا منيتُه تساوِرُه . . . قد كدَحت في الوَجْه والنَحْرِ
وإذا له عَلَقٌ وحَشْرَجة . . . مما يَجِيشُ به من الصَدْرِ
والموتُ يَقْبِضُه ويَبْسُطه . . . كالثوبِ عند الطيِّ والنشْرِ
فدَعَا لأنْصُرَه وكُنْتُ له . . . من قبل ذلك حاضرَ النصْر
فعجزتُ عنه وهي زَاهِقة . . . بين الوريد ومَدْفَعِ السحْرِ
فمَضى وأي فتى فُجعْتُ به . . . جَلَت مصيبتُه عن القَدْرِ
لو قيل تَفدِيه بذلتُ له . . . مالي وما جمَّعتَ من وَفْرِ
أو كنت مقتدراً على عُمُري . . . آثرتُه بالشَّطْرِ من عُمْرِي
قد كنتُ ذا فَقْرٍ له ، فَعَدا . . . ورَمَى عليَّ وقد رأى فَقْرِي
لو شاء رَبِّي كان متعني . . . بابْني وشد بأزْرِه أزْري
بُنيَتْ عليك بُنَي ، أحوج ما . . . كنّا إليك ، صفائحُ الصَخْر
لا يبعدنكَ الله يا عمري . . . إمَا مَضَيْتُ فنحنُ بالإثْر
هذي سبيلُ الناس كلهم . . . لا بد سالكها على سَفْرِ
أوَ لا تراهم في ديارهم . . . يتوقعون وهم على ذُعْرِ
والموتُ يُورِدهم مواردهم . . . قَسراً ؛ فقد ذَلُوا على القَسْرِ
وقال أعرابي يمدح رجلاً : الطويل :
يمُدُ نِجادَ السيف كأنه . . . بأعلى سنامَيْ فالجٍ يَتَطَوَحُ
ويُدلجُ في حاجاتِ مَنْ هو نائم . . . ويُوري كريماتِ الندى حين يقدحُ
إذا اعتمّ بالبُرْدِ اليماني حسبته . . . هلالاً بَدَا في جانب الأفْقِ يَلْمَحُ
يزيدُ على فَضْل الرجال فضيلة . . . وَيقصُر عنه مَدْحُ مَنْ يتمدَحُ
وأنشد ابنُ أبي طاهر لأعرابي : الطويل :
وقبليَ أبكىَ كل من كان ذا هوى . . . هَتُوفُ البواكي والديارُ البَلاقِعُوهن على الأطلال من كلّ جانبٍ . . . نَوَائح ما تَخْضَلُّ منها المَدَامِعُ مُزَبْرَجَةُ الأعناق نمْرٌ ظهورُها . . . مخطّمة بالدُّرِّ خضر رَوَائع
تَرَى طرُزاً بَيْنَ الخَوَافي كأنها . . . حَوَاشِيّ بُرْدٍ زَيَّنتها الوَشائعُ
ومن قِطَع الياقوتِ صيغَتْ عُيُونُها . . . خواضب بالحِنّاء منها الأصابع
ومن جيد ما قيل في الحمام قول ابن الرومي : الطويل :
وقَفْتُ بمِطْرَاب العشياتِ والضُحَى . . . فظَلْتُ أسُحُّ الدمع مني وأسْجُمُ
حليفة شَجْوٍ هَاجَ ما بي وما بها . . . تباريح شوق يشتكيها المتيّمُ
فباحَ به فُوها وأخْفَتْه عينها . . . وباحَتْ به عَيني وكتَّمه الفَم
ودخل أعرابي على الرشيد ، فأنشده أرجوزةً مدحه بها ، وإسماعيل بن صبيح يكتبُ كتاباً بين يديه - وكان من أحسن الناس خطّاً ، وأسرعهم يدا - فقال الرشيد للأعرابي : صف الكاتب فقال : الطويل :
رقيقُ حَواشي العلم حينَ تبورهُ . . . يُرِيك الهُوينا والأُمورُ تَطِيرُ
له قَلَمَا بؤسى ونُعْمى كلاهما . . . سحابَتُه في الحالتَيْنِ ذَرُورُ
يُنَاجِيك عمّا في ضميرك خَطّهُ . . . ويَفْتَحُ باب النُّجْحِ وهو عسيرُ
فقال الرشيد : قد وجب لك يا أعرابي عليه حقّ ، كما وجب لك علينا يا غلام ؛ ادفَعْ له دِية الْحُرّ ، فقال إسماعيل : وعلى عبدِك دية العَبْد .
وقال أعرابي من بني عقيل : الطويل :
أَحِنُّ إلى أرضِ الحجاز ، وحاجَتي . . . خِيامٌ بنَجْدٍ دونها الطَّرْفُ يَقْصُرُ
وما نَظَرِي نحو الحِجازِ بنافعي . . . فتيلاً ، ولكني على ذَاك أنْظُر
أفي كلِّ يوم نَظْرَةٌ ثم عَبرةٌ . . . لعيَنْيك يجرِي ماؤُها يتحَدَرُ
متى يستريح القلب إمَا مجاورٌ . . . حزينٌ وإمَا نازح يتذَكَرُ
وقال أعرابي : الطويل :
وإني لأُغْضِي مقلتيَّ على القَذَى . . . وألْبَسُ ثوبَ الصبْرِ أبْيَض أبْلَجا
وإنّي لأدْعو اللَّهَ والأمرُ ضَيّقٌ . . . عليَ ، فما ينفك أنْ يتفرجا
وكم من فتًى ضاقَتْ عليه وجوهُهُ . . . أصاب لها من دَعْوَةِ اللَهِ مَخْرَجاوقال آخر : الطويل :
ذكرتُك ذِكْرى هائمٍ بك تَنتهِي . . . إليك أمانيه وإن لم يكُنْ وَصْلُ
وليسَتْ بِذِكرى ساعةٍ بعد ساعةٍ . . . ولكنها موصولةٌ ما لَهَا فَصْلُ
وقال آخر : الطويل :
أريتُكِ إنْ شطتْ بك العامَ نِية . . . وعَالَكَ مُصْطَافُ الحِمَى ومرابِعُهْ
أترعَيْنَ ما استُودعت أم أنت كالذي . . . إذا ما نَأى هَانَتْ عليك ودَائِعُهْ
ألا إنّ حَسْياً دونه قُلَةُ الحِمَى . . . مُنَى النفسِ لو كانت تُنَالُ شَرَائِعُهْ
أخذت أزْدُ العتيك شاعراً من قَيْس بن ثعلبة اسمه المعذل في دَم ، فأتاه البَيْهَس بن ربيعة فحمله ، وأمره أن يَنْجُوَ بنفسه ، وأسلم نفسه مكانه ، فقال له المعذل : أُخيرك بين أن أمْدَحَك أو أمدح قومَك ؛ فاختار مدحَ قومه فقال : الطويل :
جزى الله فتْيانَ العَتيك ، وإن نَأَتْ . . . بيَ الدَّارُ عنهم ، خيرَ ما كان جازِيا
هُمُ خَلَطُوني بالنفوس وأحسنوا الصّح . . . ابة لما حُمَ ما كان آتيا
مَتَاعُهُمُ فَوْضى فَضاً في رحالِهِمْ . . . ولا يحسنُون الشَرَ إلا تبَادِيا
كأنّ دنانيراً على قَسَمَاتِهِمْ . . . إذا الموتُ في الأبطال كان تحاميا
وذكرت الرواة أن المهلب بن أبي صُفْرَة عرض جُنَده بخراسان ، فعرض جيش بكر بن وائل ، فمرّ به المعذّل فقال : هذا المعذل القيسي الذي يقولُ ، وأنشد الأبيات ، فقالوا : أيها الأمير ، أحسبه علينا ، فانطلق مائة منهم ، فجاءوا بمائة وصيف ووصيفة ، فقالوا : أَعْطِه هذا وليعذرنا .
قوله : كأن دنانيراً على قسماتهم نظيرُ قول أبي العباس الأعمى : الخفيف :
ليت شِعْرِي من أيْنَ رائحة الْمس . . . ك وما إن إخال بالخَيْف إنسْي ؟
حين غابت بنو أمية عنهُ . . . والبهاليلُ من بني عبد شمس
خطباء على المنابر ، فُرسَا . . . نٌ عليها ، وَقَالة غيرُ خُرسِ في حلوم إذا الحلوم استُفزَتْ . . . ووجوه مثل الدنانير مُلْسِمن أخبار أبي نواس
ولما خلع المأمونُ أخاه محمد بن زُبيده ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته ، كان يعملُ كتباً بعيوبِ أخيه تُقْرأ على المنابر بخراسان ؛ فكان مما عابه به أن قال : إنه استخلص رجلاً شاعراً ماجِناً كافراً ، يقال له الحسن بن هانئ ، واستخلصه ليَشرَبَ معه الخمر ، ويرتكبَ المآثم ، ويَهْتِكَ المحارم ، وهو الذي يقول : الطويل :
ألا فاسقِني خَمْراً وقُل لي هي الخمرُ . . . ولا تسقني سرَاً إذا أمْكَنَ الجَهرُ
وُبحْ باسم مَنْ تهوى ودَعْني عن الكُنَى . . . فلا خَيرَ في اللَذاتِ من دونها سِتْرُ
ويذكر أهلَ العراق فيقول : أهل فسوق وخمور ، ومَاخُور وفجور ؛ ويقوم رَجلٌ بين يديه فيُنْشِد أشعار أبي نواس في المجون ؛ فاتصل ذلك بابن زبيدة ؛ فنهى الحسنَ عن الخمر ، وحبسه ابنُ أبي الفضل بن الربيع ؛ ثم كلمه فيه الفضل ، فأخرجه بعد أن أخذ عليه ألا يشربَ خمراً ، ولا يقول فيها شعراً ، فقال : الكامل :
ما مِنْ يدٍ في الناس واحدةٍ . . . كَيَدٍ أبو العباسِ مَولاَها
نامَ الثقاتُ على مضاجعهم . . . وسَرَى إلى نفسي فأحياها
قد كنتُ خِفْتُكَ ، ثم آمنني . . . من أن أخافك ، خَوْفُكَ الله
فَعفوتَ عني عَقوَ مُقتدرٍ . . . وجَبَت لهُ نِقَم فألغاها
ومن قوله في ترْك الشراب : الخفيف :
أيها الرائحان باللَّومِ ، لُوما . . . لا أذوقُ المُدَامَ إلا شَمِيما
نَالَني بالمَلام فيها إمام . . . لا أرى لي خلافَهُ مُستقيما
فاصرِفاها إلى سِوَايَ ؛ فإني . . . لست إلا على الحديث نديما
جُل حظي منها إذا هي دارت . . . أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزينُ منها . . . قَعَدِي يُزَيًن التحكيماكَل عَنْ حَمْلِهِ السلاح إلى الحر . . . ب فأوصى المُطِيقَ ألاّ يُقيما
القَعَدِيّة : فرقة من الخوارج ، يَأمرون بالخروج ولا يخرجون ؛ وزعم المبرد أنه لم يُسْبَقْ إلى هذا المعنى .
وقال : الكامل :
عَيْن الخليفةِ بي مُوَكلة . . . عَقَدَ الحِذارُ بطَرْفِها طَرْفي
صَحَتْ عَلاَنيتي له ، وأرى . . . دِينَ الضمير له على حَرْفِ
ولئن وَعَدْتُكَ تَرْكَها عِدَةً . . . إني عليك لخائف خُلْفي
سلبوا قِناعَ الدن عن رَمق . . . حي الحياةِ مُشَارِفِ الحَتْفِ
فْتنفسَتْ في البيت إذ مُزِجَتْ . . . كتنفُس الريْحانِ في الأنْفِ
أخذْ قوله : ولئن وعدتك تركها عدة الحسنُ بن علي بن وكيع فقال : البسيط :
متى وَعَدْتُك في تركِ الصَبا عِدَةً . . . فاشْهَدْ على عِدَتي بالزورِ والكَذِبِ
أمَا تَرى الليل قد ولَت عَساكِرُهُ . . . وأقبل الصبحُ في جيش له لَجِبِ
وجدَ في أثر الجوزْاء يطلُبُها . . . في الجو رَكْضاً هِلالٌ دائمُ الطلب
كصولَجانِ لُجَين في يدَيْ ملك . . . أدناه من كُرَةٍ صيغَتْ من الذهب
فقُم بنا نَصْطَبِحْ صفراءَ صافيةً . . . كالنار لكنها نَار بلا لَهَبِ
عروسُ كَرْم تختالُ في حُلَل . . . صُفْرٍ على رأسها تاجٌ من الحَبَبِ
وقال أبو الفضل الميكالي في اقتران الهلال بالزهرة : الرجز :
أما ترى الزُهرةَ قد لاحَتْ لنا . . . تحت هلال لونُه يَحكِي اللَهَبْ
ككُرة من فِضةٍ مَجلوة . . . وافَى عليها صَولَجانٌ من ذَهَبْ
وعلى قول أبي نواس : الكامل :
صَحت عَلانيتي له ، وأرى . . . دِينَ الضمير له على حَرْفِ
كتب أبو العباس بن المعتز إلى أبي الطيب القاسم بن محمد النميري : السريع :
يا أيها الجافي ويستجفي . . . ليس تجنيك من الظرفِإنَّك في الشوقِ إلينا كمَنْ . . . يُؤْمِنُ باللّهِ على حَرْفِ
مَحَوْتَ آثارَكَ من ودِّنا . . . غير أساطيرك في الصُحْفِ فإن تحامَلْتَ لنا زَوْرَةً . . . يوماً تحاملت على ضَعْفِ
وحدث أبو عمر الزاهد قال : دَلَك بعضُ الزهاد المرائين جَبْهَتَهُ بِتُوْمٍ وعصبها ، ونام ليصْبح بها كأثر السجود ، فانحرفت العِصابة إلى صُدْغه ، فأخَذ الأثر هناك ، فقال له ابنُه : ما هذا يا أبت ؟ فقال : أصبح أبوك ممن يَعْبُدُ اللّه على حرف وقال أبو نواس في الباب الأول : الخفيف :
غَنَنا بالطلولِ كيف بَلِينا . . . واسْقِنَا نُعْطِكَ الثناءَ الثمينا
من سُلاَفٍ كأنها كلُّ شيءً . . . يتمنَّى مُخَيَّرٌ أنْ يَكونا
أكَلَ الدهرُ ما تجسَم منها . . . وتبقَّى لُبابها المكْنُونَا
فإذا ما اجْتَلَيْتَها فَهَباء . . . يمنع الكَفَّ ما يُبِيحُ العيونا
ثم شُجتْ فاستضحكتْ عن لآلٍ . . . لو تَجَمَعْنَ في يدٍ لاقْتينا
في كؤوس كأنهن نجومٌ . . . دائراتٌ بُرُوجُها أيْدِينا
طالعات مع السُقَاةِ علينا . . . فإذا ما غَرَبْنَ يَغْربْنَ فينا
لو ترى الشربَ حولَها من بعيد . . . قُلْتَ قوماً من قِرة يصَطلُونا
وغزال يُدِيرُها ببَنَانِ . . . ناعماتِ يَزِيدُها الغَمْز لِينَا
كلما شِئْتُ عَلنِي بِرُضَاب . . . يَتْرُك القلبَ للسرور قرينا
ذاك عيشٌ ، لو دَامَ لي غيرَ أني . . . عِفْتُه مُكْرهاً وخِفْتُ الأمِينا
وقال : الطويل :
أعاذلَ ، أعتبْت الإمامَ ، وأعْتبا . . . وأعْرَبْتُ عمَا في الضمير وأعْرَبا
وقلتُ لساقيها : أجزْها فلم أكن . . . ليأبى أميرُ المؤمنين وأشْرَبافجوَّزَها عنِّي سُلاَفاً تَرَى لها . . . لدى الشَّرَفِ الأعلى شُعاعا مُطَنَبا
إذا عَبَّ فيها شاربُ القوم خِلته . . . يُقَبلَُ في داجٍ من الليل كوكبا
ترى حيثما كانَتْ من البيت مَشْرِقاً . . . وما لم تكن فيه من البيت مَغْرِبا
يَدُور بها رَطْبُ البنان ترى لهُ . . . على مُسْتَدار الخدّ صُدْغاً مُعَقْرَبا
سقاهُمْ ومَنانِي بعيْنَيْهِ مُنْيَةً . . . فكانت إلى قلبي ألذ وأطَيبا
قال الحسين بن الضحاك الخليع : أنشدت أبا نواس قولي : المنسرح :
وشاطريَ اللسانِ مختلق التَّ . . . كْرِيه شابَ المُجُونَ بالنُّسُكِ
فلما بلغْتُ فيه :
كأنما نُصْبَ كَأسِهِ قَمَر . . . يَكْرَعُ في بعْضِ أنْجُم الفَلَكِ
نَعرَ نَعْرَةً منكرةً ، فقلت : ما لكَ ، فقد رعتني ؟ قال : هذا المعنى أنا أحقُّ به منك ؛ ولكن سترى لمن يُرْوَى ثم أنشد بعد أيام :
إذا عبَّ فيها شاربُ القوم خِلْتَهُ . . . يُقْبِّلُ في داجٍ من الليل كوكبا
فقلت : هذه مطالبة يا أبا علي فقال : أتظنّ أنه يُرْوى لك معنى مليح وأنا في الحياة ؟ وقال ابن الرومي فكان أحسن منهما : الكامل :
ومهفهف كَمُلَتْ مَحَاسِنُهُ . . . حتى تجاوزَ مُنْيَةَ النَّفْسِ
تَصْبُو الكؤوس إلى مَرَاشِفِه . . . وتَضِجّ في يده من الحَبْسِ
أبصرْتُها والكأسُ بين فمٍ . . . منه وبين أنامِل خَمْسِ
فكأنهَّا وكأن شَارِبها . . . قمرٌ يقتل عَارِضَ الشمسِ
وقال أبو الفتح كشاجم : الخفيف :
وسحاب يجرُ في الأرض ذَيْلَيْ . . . مُطْرَفٍ زَرَهُ على الأرض زَرا
بَرْقُه لَمْحةٌ ، ولكن له رَع . . . د بطيءٌ يكسو المسامِعَ وَقْرا
كخَلِي منافق لِلَّذي يه . . . واهُ يَبْكي جَهْراً ويَضْحَك سِرا
قد سقتني المُدام فيها فتاةٌ . . . سحَرَتْني وليس تُحْسِنُ سِحْرافإذَا ما رأيتُها تشربُ الرا . . . حَ أرَتني شَمْساً تُقبلُ بَدْرا
بشار بن برد
وإنما احتذَى أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها تَرْك الشراب وطاعته لأمْرِ الأمين مثالَ بشار بن بُرْد ، وصبّ على قالبه ؛ وذاك أن بشاراً لما قال : الكامل : لا يُؤْيَسَنكَ من مخبأةِ . . . قَول تُغَلظُهُ وإن جَرَحا
عُسرُ النساء إلى مُياسرة . . . والصعبُ يُمكِنُ بعدما جَمَحَا
بلغ ذلك المهدي فغاظه ؛ وقال : يحرض النساء على الفجور ، ويسهل السبيل إليه فقال له خالهُ يزيد بن منصور الحميري : يا أمير المؤمنين ، قد فتن النساء بشعره ، وأي امرأة لا تَصْبُو إلى مثل قوله : الرمل :
عَجِبَتْ فَطْمَةُ من نَعْتِي لها . . . هل يُجِيد النعتَ مكفوفُ النظَر ؟
بِنْتُ عَشرٍ وثلاث قسمَتْ . . . بين غُصْنٍ وكثيبٍ وقَمَرْ
درّةٌ بَحْرِيةٌ مكنونة . . . مازَها التاجر من بين الدُرَرْ
أذْرَتِ الدمعَ وقالت : ويلَتي . . . من وَلُوعِ الكف ركابِ الخَطَر
أمَتي بددَ هذا لُعبَي . . . ووِشاحِي حله حتى انتثَرْ
فَدَعيني معه يا أمتي . . . علنا في خَلْوةٍ نَقْضِي الوَطَرْ
أقْبَلَتْ في خَلْوَة تضربها . . . واعتراها كجنونٍ مُسْتَعِرْ
بِأَبي واللهِ ما أحسنَه . . . دَمْعُ عين غَسلَ الكُحْلَ قَطَرْ
أيها النُّوَامُ هبوا وَيْحَكُم . . . وسَلُوني اليومَ ما طَعْمُ السهَر
فأمره المهدي ألا يتغزل ، فقال أشعاراً في ذلك ، منها : مجزوء الكامل :
يا منظراً حسناً رأيْتُه . . . من وجه جارية فدَيتُه
لمعتْ إلي تَسُومني . . . ثَوْبَ الشباب وقد طويْتُه
واللهِ رب محمدٍ . . . ما إن غَمَزتُ ولا نَوَيْتُه
أمْسَكْتُ عنكِ ، وربما . . . عَرض البلاءُ وما ابتغيْتُهْ
إن الخليفة قد أبى . . . وإذا أبى شيئاً أبيْتُهويَشُوقني بيتُ الحبي . . . ب إذا غَدَوتُ ، وأين بيتهْ
قام الخليفةُ دونَهُ . . . فصبَرت عنه وما قَلَيْتُهْ
ونهانيَ المَلِكُ الهُما . . . مُ عن النساء فما عصيْتُه
بل قد وفيتُ ولم أُضِع . . . عَهْداً ، ولا رأياً رأيْتُه
وقال أيضاً : المنسرح :
والله لولا رِضَا الخليفةِ ما . . . أعطيتُ ضَيماً عليَ في شجَن
قد عِشْتُ بين النَدْمان والرَّاح وال . . . مِزْهر في ظل مَجْلسٍ حَسَنِ
ثم نهاني المهديُ فانصرفَتْ . . . نفسيَ ، صُنْعَ الموفَق اللَقِن
وقال : السريع :
أفنيتُ عمري وتَقَضى الشبابْ . . . بين الحمَيا والجَوَاري العِذَابْ
فالآن شفعتُ إمام الهُدَى . . . وربما طِبْتُ لحب وطَابْ
لهوتُ حتى رَاعَني دَاعياً . . . صوتُ أمير المؤمنين المُجَابْ
لَبيكَ لبيك هَجَرتُ الصّبا . . . ونَام عُذالي وماتَ العِتَاب
أبصرت رُشدِي وتركتُ المُنَى . . . وربما ذلًتْ لهن الرَقَابْ
في كلمة طويلة يقول فيها :
يا حامد القول ، ولم يَبلُه . . . سَبَقْتَ بالسَيْلِ مَسَاك السَحَابْ
الفعلُ أَوْلَى بثناء الفتى . . . ما جاءه من خطإ أوْ صَوَابْ
دعْ قولَ وَاءً وانتظر فعله . . . يثْني على اللقْحَةِ ما في الحِلاَبْإذا غدا المهديُّ في جُنْدِهِ . . . ورَاحَ في آلِ الرسول الغِضَابْ
بدَا لك المعروف في وجهِه . . . كالظَّلْم يَجْرِي في الثنايا العِذَابْ
ومن شعر بشار في الغزل : الخفيف :
أيها الساقيان صُبَّا شَرَابي . . . واسقياني من ريق بيضاءَ رُودِ
إن دائي الصَّدى ، وإنّ شفائي . . . شَرْبَةٌ من رُضَابِ ثَغْرٍ بَرُودِ
عندها الصبرُ عن لقائي ، وعندي . . . زَفَراتٌ يأكُلْنَ قَلْبَ الجَلِيدِ
ولها مَبْسِمٌ كغُرّ الأقاحي . . . وحديثٌ كالوَشْي وَشْي البُرُودِ
نزلَت في السواد من حبّة القل . . . ب ونالت زيادةَ المستزيد ثم قالت : نَلقَاك بعد لَيالٍ . . . والليالي يُبْلِينَ كلَّ جديد
لا أُبالي مَنْ ضَنَ عني بوَصْل . . . إنْ قَضَى الله منك لي يَوْم جودِ
وقال : البسيط :
تُلْقَى بتسبيحةٍ من حسن ما خُلِقَتْ . . . وتستفزّ حَشَا الرَائي بإرْعَادِ
كأنما صُوَرَتْ من ماءِ لؤلؤةٍ . . . فكلّ جارحةٍ وَجْهٌ بمِرْصَادِ
وقال : الوافر :
وهبْتِ له على المسواك رِيقاَّ . . . فطابَ له بطيبِ ثَنِيتَيْكِ
أقبله على الذكرى كأنّي . . . أقبِّلُ فيه فاكِ ومُقْلَتَيْكِ
وقال : المنسرح :
لا أستطيعُ الهوى وهِجْرَتَها . . . قلبي ضعيفٌ وقَلْبُها حَجَرُكأنَّ وجْدِي بها وقد حجبت . . . في الرأس والعين والْحَشَا سُكُرُ
وأنشد له أبو تمام ، وكان يقول : ما رأيتُ شعراً أغزل منه : الخفيف :
زوَدينا يا عَبْدَ قبْلَ الفراق . . . بتلاقِ ، وكيف لي بالتَّلاَق ؟
أنا والله أشتهي سِحْرَ عيني . . . ك وأخْشَى مصارعَ العشّاق
أُمَّتي من بني عُقيل بن كَعْبٍ . . . موضعَ السلْكِ في طُلاَ الأعناق
وقال : الطويل :
لقد عَشِقَتْ أذْني كلاماً سمعْتُه . . . رَخيماً ، وقَلْبي للمليحةِ أعْشَقُ
ولو عايَنُوها لم يَلومُوا على البُكا . . . كريماً سقاهُ الخمرَ بَدْرٌ مُحَلّق
وكيف تناسِي مَنْ كأنَّ حديثه . . . بأذني وإن عنيت قُرْطٌ مُعَلَقٌ
وقال : الطويل :
وقد كنت في ذاك الشبابِ الذي مضى . . . أزارُ ويَدْعُوني الهوَى فأَزُورُ
فإن فاتني إلْفٌ ظَلِلْتُ كأنما . . . يُديرُ حياتي في يديه مُدِيرُ
ومُرْتجةِ الأرْداف مهضومةِ الحشَا . . . تَمُورُ بسِحْرٍ عَيْنُها وتَدُورُ
إذا نظرتْ صبَّتْ عليك صَبابة . . . وكادَتْ قلوبُ العالمين تَطِيرُ
خَلَوْتُ بها لا يَخْلصُ الماءُ بيننا . . . إلى الصُبْح دوني حَاجِبٌ وسُتُورُ
ومن هذا أخذ علي بن الجهم قوله : الطويل :
صِليني وحَبْلُ الوصل لم يتشعَبِ . . . ولا تهجري أفْدِيك بالأُم والأْبِ
رَعَى اللَّهُ دهراً ضَمَنَا بعد فُرقَةٍ . . . وأدْنَى فؤاداً من فؤادٍ مُعَذبِ
عناقاً وضماً والتزاماً كأنما . . . يرى جَسدَانَا جسم روح مركبِ
فَبِتْنَا وإنا لو تُرَاق زجاجة . . . من الْخَمْرِ فيما بيننا لم تَسَربِ
وشعره في هذا المعنى كثير .
وروى أنه قال : أنا أشْعَرُ الناسِ ؛ لأن لي اثني عشر ألفَ قصيدة ، فلو اختير من كلقصيدة بيت لاستندر ، ومن ندرت له اثنا عشر ألف بيت فهو أشعرُ الناس ؛ وقد نثرتُ نَظْمَه في أضعاف الكتاب استدعاءً لنشاط القارئ وكراهة في إملاله .
وكان بشار أرقّ المحدَثين ديباجةَ كلام ، وسُمي أبا المحدثين ؛ لأنه فَتَقَ لهم أكمام المعاني ، ونهَج لهم سبيل البديع ، فاتَبعوه ؛ وكان ابن الرومي يُقَدمه ، ويزعمُ أنه أشعرُ من تقدَّم وتأخر .
وهو يتعلّق في شعره بولاء عَقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، ويفتخرُ بالمضرية . قال له المهدي : فيمن تَعْتَزِي ؟ قال : أمَا اللسان فعربيّ ، أما الأصل فكما قلت في شعري قال : وما قلت ؟ فأنشده : المتقارب :
ونبئْتُ قوماً لهمْ إحنة . . . يقولون مَنْ ذا وكَنْتُ العَلمْ
ألا أيها السائلي جَاهِلاً . . . ليَعْرِفَني أنا إلْفُ الكَرَمْ
نمَتْ في المكارمِ بي عامر . . . فُرُوعي وأصلي قُريشُ العَجَمْ
وإني لأُغني مَقامَ الفتى . . . وأُصْبي الفتاة فلا تَعْتَصِمْ
البيت الأول من هذه الأبيات ينظرُ إلى قول جميل : الطويل :
إذا ما رأوني طالعاً من ثنيّةٍ . . . يقولون مَنْ هذا وقد عَرَفوني
وفي هذه القصيدة يقول بشار : المتقارب :
وبيضاءَ يضحكُ ماءُ الشبا . . . ب في وجهها لك إذ تبتسم
دُوارُ العذَارى إذا زُرْنَها . . . أطَفْنَ بَحَوْراءَ مِثْلِ الصَنَمْ يَرُحْنَ فَيَمْسَحْنَ أركانَها . . . كما يَمْسَحُ الحجَرَ المستَلِم
أصفراء ليس الفتى صَخْرَةً . . . ولكنه نُصبُ هَمّ وغَمّ
صَبَبْتِ هواكِ على قلبهِ . . . فضاق وأعْلَنَ ما قد كَتَم
ويقال : إنه مولى لأم الظباء السَدُوسية ، ولذلك قال أبو حُذَيفة واصِلُ بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة لمّا هجاه بشار : أمَا لهذا الأعمى الملحِد المشَنَف المكتني بأبي معاذمَنْ يَقْتُله ؟ واللّه لولا أنَ الغِيلة من سجَايَا الغَالِية ، لبعثتُ إليه من يَبْعَجُ بطنه في جوف منزله ، ولا يكون إلاَ سَدُوسِيّاً ، أو عُقَيْلِياً .
وكان واصلُ بن عطاء أحَد أعاجيب الدنيا ؛ لأنه كان ألثغ في الراء ، فأسقطها من جميع كلامه وخطبه ؛ إذ كان إمامَ مَذْهَب ، وداعيَ نحِلْة ، وكان محتاجاً إلى جَوْدَةِ البَيَانِ ، وفصَاحَةِ اللَسَان . قال الجاحظ : فانظر كثرةَ ترداد الراء في هذا الكلام وكيف أسقطها ؟ قال : الأعمى ، ولم يقل الضرير ، وقال : الملحد ولم يقل الكافر ، وقال : المشنَف ، ولم يقل المرعَث ، وقال : المكتَني : بأبي معاذ ، ولم يقل بشاراً ولا ابن برد ، وقال : الغالية ، ولم يقل المغيرية ، ولا المنصورية ، وهم الذين أراد ، وقال : لبعثت ، ولم يقل لأْرْسلت ، وقال : يبعَج ، ولم يقل يَبْقُر ، وقال : في جوف منزله ، ولم يقل في داره ، وأراد بذكر عُقَيْل وسدُوس ما ذكر من اعتزائه إليهم .
وزعم الجاحظ أن بشاراً كان يَدِين بالرَجعة ، ويُكَفر جميعَ الأمة ؛ وأنشد له أشعاراً صوب بها رَأيَ إبليس في تقديم النار على الطين ، منها قولُه : البسيط
الأرض مُظْلِمَةٌ ، والنارُ مُشْرِقةٌ . . . والنارُ معبودةٌ مُذْ كانتِ النارُ
وقال داود بن رَزِين : أتينا بشاراً ، فأذِنَ لنا والمائدةُ بين يديه ، فلم يَدْعُنَا إلى الطعام ، ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصل ، ودعا بطسْت فَبالَ بحضرتنا ، فقلنا له : أنت أستاذُنا ، وقد رأينا منك أشياءَ أنكرناها ، قال : ما هي ؟ قلنا : دخلْنَا والطعامُ بين يديك فلم تَدْعُنَا ، قال : إنما أذِنْتُ لتَأكلوا ، ولو لم نُرِدْ ذلك لم نأذن لكم ، قلنا له : ودعوت بالطست ونحن حضور ، قال : أنا مكفوف ، وأنتم مأمورون بغض الأبصار دوني ، قلنا : وحضرت الصلاة فلم تصلّ قال : الذي يقبلها تفارِيقَ يقبلها جملة هذا وهو القائل : الخفيف :
كيف يبكي لمَحْبَس في طُلُول . . . من سَيُفْضِي لِحَبْسِ يَوم طويلِ
إن في البعث والحساب لشغلاً . . . عن وقوفٍ برَسْمِ دَار محيلوقال : الطويل :
ذكرتُ بها عيشاً فقلت لصاحبي : . . . كأن لم يكُنْ ما كان حينَ يزولُ
وما حاجتي لو ساعد الدهرُ بالْمُنى . . . كِعَابٌ عليها لؤلؤٌ وشُكولُ
بدا ليَ أن الدهرَ يَقْدَحُ في الصّفَا . . . وأن بَقَائي إن حَيِيتُ قَلِيلُ
فعِشْ خائفاً للموتِ أو غيرَ خَائِفٍ . . . على كلِّ نفس للحمامِ دَلِيل
خليلك ما قدَمْتَ من عمل الثُقَى . . . وليس لأيام المَنُون خَليلُ
وكان بشَارٌ حاضرَ الجواب ، سجًّاعاً ، خطيباً ، صاحبَ منثور ومُزْدَوج ورَجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام ، ودخل على عُقْبة بن مسلم بن قتيبة ، فأنشده مديحاً وعنده عقبة بن رُؤْبة ، فأنشده أرجوزة ، ثم أقبل على بشار فقال : هذا طِراز لا تحسنه يا أبا معاذ فقال : واللّه لأنا أرجز منك ومن أبيك ؛ ثم غدا على عقبة من الغَد ، فأنشده أرجوزته : رجز :
يا طَلَل الحيّ بذات الصَّمْد . . . باللّهِ خَبّر ْكيف كنتَ بعدي
يقول فيها :
صَدَّتْ بخدً وجلَتْ عن خَد . . . ثم انثَنَتْ كالنَّفَس المُرْتَد
وصاحبٍ كالدمل المُمِدّ . . . حملْتُه في رُقْعَة من جِلدي
حتى اغتدى غيرَ فقيد الفَقْد . . . وما درى ما رَغْبَتي من زهدي
وهذا كقول الآخر : الطويل
يودون لو خَاطُوا عليك جلودَهم . . . ولا يَدْفع الموتَ النفوسُ الشحائحُ
وفيها يقول :
الحرّ يُلْحَى والعصا لِلْعَبْد . . . وليس لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الردَاسْلَمْ وحُيِّيتَ أبا المِلَدّ . . . مفتاحَ باب الْحَدَث المُنْسَدِّ والبَسْ طِرَازي غيرَ مُسْتَرَد . . . للَّهِ أيامُك في مَعَد
هي طويلة ، فأجزلَ صلته ، فلمّا سمع ابن رُؤبة ما فيها من الغريب قال : أنا وأبي وجدي فتحْنَا الغريبَ للناس ؛ وإني لخليق أن أسدّه عليهم ، فقال بشار : ارحمهمْ ، رحمك اللّه قال : تستخفّ بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر ؟ قال : إذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجْس وطهَّرهم تطهيراً فضحك كلّ مَنْ حضر .
ودخل على المهدي وعنده خالُه يزيد بن منصور الحميري ، فأنشده قصيدة ، فلمّا أتمها قال له يزيد : ما صناعتك يا شيخ . قال : أثْقُبُ اللُؤلُؤَ ، فقال له المهدي : أتهْزَأُ بخَالي ؟ . فقال : يا أميرَ المؤمنين ، فما يكونُ جَوَابي لمن يَرَى شَيْخاً أعمى يُنْشِدُ شعراً فيسأله عن صِنَاعته ؟ وقْال جَوَاري المهدي للمهدي : لو أذِنْتَ لبشَّار يدخل إلينا يؤانسنا ويُنُشِدنا فهو محجوب البَصَرِ ، لا غيرة عليك منه ، وأكمره فدخل إليهنّ واستظرفْنَه ، وقلْن له : وددْنا واللَّهِ يا أبا معاذ أنك أبونا حتى لا نفارقِك ، قال : ونحن على دينِ كسرى فأمر المهدي ألاّ يدخل عليهن .
وكأن المتنبي نظر إلى هذا فقال : الكامل :
يا أخْتَ مُعْتَنِقِ الفوارسِ في الوَغَى . . . لأخُوكِ ثَمَّ أرَق مِنْكِ وأرْحَمُ
يَرْنُو إليك مع العَفافِ وعِنْدَه . . . أنَ المجوسَ تصِيبُ فيما تَحْكُم
في المودة والعتاب والصدق والكذب
قال علي بن عبيدة الريحاني : المودَةُ تَعَاطُفُ القلوب ، وائتلافُ الأرواح ، وحَنين النفوس إلى مَثَابة السرائر ، والاسترواحُ بالمستكنات في الغرائز ، ووحشة الأشخاص عند تَبَايُن اللقاء ، وظاهر السرور بكثرة التزوار ، وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون اتفَاقُ الخصَال .وقال : العِتابُ حدائقُ المتحابِّين ، وثمارُ الأوداء ، ودليل الظنّ ، وحركات الشَوق ، وراحةُ الوَاجد ، ولسان المُشْفق .
قال بعض الكتاب : العِتاب عَلاَمةُ الوَفاء ، وحاصَة الْجَفاء ، وسلاحُ الأكفاء .
وقال علي بن عبيدة : التجنّي رسولُ القطيعة ، وداعي القلَى ، وسبب السلو ، وأولُ التجافي ، ومنزل التهاجر .
وقال : الصدقُ ربيعُ القلب ، وزكاة الْخَلْقِ ، وثمرة المروءة ، وشُعاعُ الضمير ، وعن جلالة القدر عبارته ، وإلى اعتدالِ وزْن العقل يُنْسَب صاحبه ، وشهادتُه قاطعةٌ في الاختلاف ، وإليه ترجع الحكومات .
وقال : الكذبُ شِعارُ الخيانة ، وتحريفُ العلم ، وخواطر الزور ، وتسويلُ أضغاث النفس ، واعوجاج التركيب ، واختلافُ البنية ، وعن خمول الذكر ما يكون صاحبه .
وعلي بن عبيدة كثير الإغاْرة ، عَلَى ما كان غَيْرُه قد استثَارَه .
فقر في الكذب لغير واحد
بعض الفلاسفة : الكذاب والميتُ سواء ؛ لأن فضيلة الحي النُّطق ، فإذا لم يُوثَق بكلامه فقد بطلت حياته .
الحسن بن سهل : الكذاب لِصّ ؛ لأن اللص يسرقُ مالك ، والكذاب يسرقُ عقلك ؛ ولا تأمن مَنْ كذب لك أنْ يَكذِب عليك ، ومن اغتاب غيرَك عندك فلا تأمَنْ أن يغتابَك عند غيرك .
قال إبراهيم بن العباس في هذا النحو : مجزوء الكامل :
إني متى أحقِدُ بحق . . . دك لا أضُر به سِوَاكا
ومتى أطعتُك في أخي . . . ك أطعتُ فيك غداً أخاكا
حتى أرى متقسماً . . . يَوْمِي لذا ، وغَداً لِذَاكا
حَسبُ الكاذب بعقله سَقَماً وبقلبه خصماً .ابن المعتز : علامةُ الكذاب جُوْده باليمين لغير مستحلف ، وقال : البسيط
وفي اليمين على ما أنت فاعلهُ . . . ما دلّ أنك في الميعادِ مُتَّهَمُ
وقال : اجتنِبْ مصاحبة الكذاب ، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه ، ولا تُعلِمه أنك تكذبه ، فينتقل عن وده ، ولا ينتقل عن طبعه . يعترِي حديثَ الكذّاب من الاختلاف ما لا يعتري الْجَبانَ من الارتعاد عند الحَرْب . لا تَصِحُ للكذاب رُؤْيا ، لأنه يُخْبر عن نفسه في اليقظة بما لم يَرَ ، فتريه في النوم ما لا يكون ، وأنشد : البسيط :
لا يكذب المرءُ إلاَّ مِنْ مَهَانَته . . . أو عادة السوء ، أو مِنْ قِلَةِ الأدَبِ
ولأهل العصر : فلان مُنْغَمِس في عيبه ، يكذب لذيله على جَيْبِه ، يقول بهْتاً ، وزُوراً بَحْتاً ، قد ملأ قلبه رَيْناً ، وقوله مَيْناً ؛ يدين بالكذب مَذْهباً ، ويستثير الزور مركباً . أقاويلُ يتمشى الزُورُ في مناكِبها ، ويَبْرُزُ البهتانُ في مذاهبها .
وقال أعرابي لابنه وسمعه يَكْذِب : يا بني ، عجبتُ من الكذَّاب المُشِيد بكَذبه ، وإنما يدكُ على عَيْبِه ، ويتعرَّضُ للعقاب من رَبِّه ؛ فالآثامُ له عادة ، والأخبارُ عنه متضادة ، إن قال حقاً لم يُصَدَق ، وإن أراد خيراً لم يوفَّق ، فهو الجاني على نفسه بفعاله ، والدّالُ على فضيحته بمقَالِه . فما صحَّ من صدقه نُسِب إلى غيره ، وما صحّ من كذب غَيْرِه نُسِب إليه ، فهو كما قال الشاعر : مجزوء الكامل :
حَسْب الكذوب من المَهَا . . . نة بَعْضُ ما يحكى عليهِ
ما إن سمعت بكذبة . . . من غَيْرِه نسبَتْ إليهِ
ما قيل في الزفاف
كتب الحسن بن سهل إلى المأمون ، بعد أن زُفَّت إليه بوران وتوهَّم القوادُ أن هذا التزويجَ قد أنْسَى الحسَن حالَه قبل ذلك ؛ قد تولّى أميرُ المؤمنين من تَعْظِيم عبده في قبول أمَتِه شيئاً لا يتسعُ له الشكرُ عنه إلاَ بمعونة أميرِ المؤمنين ، أدام الله عزَه ، في إخراج توقيعه بتزيين حَالي في العامة والخاصة ، بما يراه فيه صواباً إن شاء اللّه .
فخرج التوقيع : الحسنُ بن سهل زمامٌ على ما جمع أُمور الخاصة ، وكَنَف أسباب العامة ، وأحاط بالنفقات ، ونفذ بالولاة ، وإليه الخراجُ والبريدُ واختيارُ القُضَاة ، جزاءً بمعرفته بالحالِ التي قَربَتْهُ منا ، وإثابةً لشكره إيانا على ما أولينا .قال يحيى بن أكثم : أراد المأمون أن يزوج ابنته من الرضا فقال : يا يحيى تكلّم ، فأجللْتُه أن أقولَ : أنكحت ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنت الحاكم الأكبر ، والإمام الأعظم ، وأنْتَ أوْلى بالكلام ، فقال : الحمدُ للّه الذي تصاغرت الأمور بمشيئته ، ولا إلهَ إلا هو إقراراً بربوبيته ، وصلّى الله على محمد عند ذكره .
أمّا بعد ، فإن الله قد جعل النكاح دِيناً ، ورَضِيَه حُكْماً ، وأنزله وحياً ؛ ليكونَ سببَ المناسبة ؛ ألاَ وإني قد زوجت ابنة المأمون من عليّ بن موسى ، وأمهرتها أرْبَعَمِائَةِ درهمٍ ، اقتداءً بسنةِ رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وانتهاء إلى ما دَرَج إليه السلفُ ، والحمدُ لله ربّ العالمين .
قال الأصمعي : كانوا يستحبّون من الخاطب إلى الرجل حُرمته الإطالة ، لتدل على الرغبة ، ومن المخطوب إليه الإيجاز ، ليدلّ على الإجابة .
وخطب رجل من بني أمية إلى عمر بن عبد العزيز أخته ، فأطال ؛ فقال عمر : الحمدُ لله في الكبرياء ، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء ؛ أما بعد ، فإن الرغبةَ منك دَعَتْك إلينا ، والرغبة منّا فيك أجابَتْ ، وقد زوّجناك على كتاب الله : إمساكٌ بمعروف ، أو تسريحٌ بإحسان .
وخطب رجل إلى قوم فأتى بمن تَخْطُب له ، فاستفتح بحمد الله وأطال ، وصلّى على النبي عليه السلام وأطال ، ثم ذكر البَدء وخلْقَ السماوات والأرض ، واقتص ذِكر القرون حتى ضَجِر مَنْ حضر ، والتفت إلى الخاطب ، فقال : ما اسمُكَ أعزَّك الله ؟ فقال : والله قد أنسيت اسمي من طول خطبتك ، وهي طالقٌ إن لزوجتها بهذه الخطبة ؛ فضحك القوم ، وعَقَدُوا في مجلس آخر .
فقر في الكتاب والقلم والسيف والخطّ
وقال ابن المعتز : الكتاب وَالِجُ الأبواب ، جريءٌ على الحجاب ، مُفْهِم لا يَفْهَم ، وناطقٌ لا يتكلم ، به يشخص المشتاقُ ، إذا أقعده الفراق ، والقلم مجهزٌ لجيوش الكلام ، يخدم الإرادة ، لا يمل الاستزادة ، ويسكتُ واقفاً ، ويَنْطِقُ سائراً ، على أرض بياضُهَا مُظْلِم ، وسوادها مُضِيء ، وكأنه يقبل بِسَاط سلطان أو يفتح نُوَار بستان .
وهذا كقوله في القاسم بن عبيد الله ، قال الصولي : لما عُرض القاسم بن عبيد الله ليخلف أباه : قال ابن المعتز : الخفيف :
قلم ما أراهُ أم فلك يَج . . . ري بما شاء قاسم ويسيرُخاشعٌ في يدَيْه يَلْثِمُ قِرْطا . . . ساً كما قتل البساطَ شكورُ
ولَطِيفُ المعنى جَليلٌ نَحِيفٌ . . . وكبير الأفعال وَهْوَ صغيرُ
كم منايا وكم عطايا وكم حت . . . فٍ وعيشٍ تَضُمُّ تلك السُطُورُ
نقشت بالدُجا نهاراً فما أدْ . . . ري أخطٌ فيهن أم تَصْويرُ
هكذا مَنْ أبوه مِثْلُ عُبَيْدِ ال . . . له ينمى إلى العُلاَ ويَصِير عَظُمَتْ مِنّةُ الإله عليْهِ . . . فهناك الوزيرُ وهْوَ الوَزِيرُ
وقال بعض البلغاء : صورةُ الخطّ في الأبصار سواد ، وفي البصائر بَيَاض .
وقال أبو الطيب المتنبي : الطويل :
دَعاني إليكَ العلمُ والحِلْمُ والحِجَى . . . وهذا الكلامُ النَظْمُ والنّائِلُ النثْرُ
وما قُلْتُ مِنْ شِعْرٍ تكَادُ بُيوتهُ . . . إذا كُتِبَتْ يَبْيَضُ مِنْ نورِها الحِبْرُ
وقال ابن المعتز في عبيد الله بن سليمان بن وهب : الطويل :
عليمٌ بأعْقَاب الأمور ، كأنه . . . بمختلسات الظن يسمعُ أو يرى
إذا أخذ القرطاس خِلْتَ يمينهُ . . . يُفتَح نَوْراً أو يُنَظمُ جوهرا
فاخرَ صاحبُ سيفٍ صاحبَ قلم ، فقال صاحب القلم : أنا أقتلُ بلا غَرَر ، وأنت تقتلُ على خَطَر . فقال صاحب السيف : القلمُ خادِمُ السيف ، إن تَمَ مرادُه وإلاَ فإلى السيف مَعاده ؛ أما سمعت قول أبي تمام : البسيط :
السيفُ أصدَقُ إنباءَ من الكتُبِ . . . في حده الحدُ بَيْنَ الجِد واللَعبِ
بِيضُ الصفائح لا سُودُ الصحائفِ في . . . مُتُونِهنَ جَلاَءُ الشًكَّ والرَيَبِ
وقال أبو الطيب : البسيط :
ما زِلْتُ أُضْحِكُ إبلي كُلما نظرَتْ . . . إلى مَن احتَضَنَتْ أخْفافُها بدَمِ
أسِيرُها بَيْنَ اصنام أشاهِدها . . . ولا أشاهِدُ فيها عِفةَ الصَنَمِ
حتى رَجَعْتُ وأقلامِي قوائِلُ لي . . . المجد للسيف ليسَ المَجدُ لِلقَلِم
أكتُب بنا أبداً بعدَ الكِتَابِ به . . . فإنما نَحنُ للأسيافِ كالخَدمهذا مقلوبٌ من قول علي بن العباس النوبختي ، وقد رواه أبو القاسم الزجاجي لابن الرومي ، وإنما وهم لاتّفاق الاسمين : البسيط :
إن يَخْدُمِ القلم السيف الذي خضعَتْ . . . له الرقابُ ودانَتْ خوفه الأممُ
فالموتُ والموت لا شيء يُغَالبه ما زال يَتْبَع ما يَجْرِي به القلم
بذا قَضَى اللَه للأقلام مذْ بُرِيَتْأنّ السيوفَ لها مذْ أرهِفت خَدَم
وقال ابن الرومي : المتقارب :
لَعَمْرُكَ ما السيْفُ سَيْف الكَمِي . . . بأخْوَفَ منْ قَلمِ الكاتِبِ
لَهُ شاهد إنْ تأمَلْتَهُ . . . ظَهَرْتَ على سِرِّهِ الْغَائِبِ
أداةُ المنيَّةِ في جانبيه . . . فمِنْ مِثْلِه رَهْبَةُ الرَّاهِبِ
سِنَانُ المنية في جانِبِ . . . وحَدُّ المنِيةِ في جَانِبِ
ألم تَرَ في صَدْرِهِ كالسنَانِ . . . وفي الرِّدْفِ كالمُرْهَفِ الْقَاضِبِ ؟
وقال أبو الفتح البستي : الطويل :
إذا أقسم الأبطالُ يوماً بسيفهم . . . وعدّوه ممّا يُكْسِبُ المجدَ والكرمْ
كفى قَلَمُ الكتاب مَجْداً ورفعةً . . . مدَى الدَّهرِ أنّ اللَه أقْسَم بالقَلَمْ
وقد قيل : صريرُ الأقلام ، أشدّ من صليل الحُسام .
قال الصولي : أنشدني طلحة بن عبيد : الكامل :
وإذا أمرَ على المهارِقِ كَفَّهُ . . . بأنامل يَحْمِلْنَ شَخْتا مُرْهَفا
متقاصراً مُتَطاوِلاً ومفصلاً . . . وموصلاً ومشتتاً ومُؤلفا
ترك العُداة رَواجفاً أحشاؤُها . . . وقِلاَعَها قِلَعاً هنالِكَ رُجَفا
كالحيّة الرَّقْشَاء إلاَّ أنه . . . يستنزل الأرْوَى إليه تلطفا
يرمي به قلماً يمجُّ لُعابه . . . فيعود سيفاً صارِماً ومثقَّفا
وقال محمود بن أحمد الأصبهاني : السريع :
أخرسُ يُنْبيك بإطْرَاقِهِ . . . عن كل ما شئتَ منَ الأمرِ
يُذْرِي على قِرْطاسهِ دَمْعَةً . . . يُبْدِي بها السرَّ وما يَدْرِي
كعاشق أخْفَى هواه وقد . . . نفَت عليه عَبْرَة تجْرِيتُبْصِرُه في كلِّ أحوالهِ . . . عُرْيانَ يكسُو الناس أو يُعْرِي
يُرَى أسيراً في دوَاةٍ وقد . . . أطلَق أقواماً من الأسْرِ
أخرق لو لم تَبْرِه لم يَكُنْ . . . يَرْشُقُ أقواماً وما يَبْرِي كالبَحْر إذْ يجري ، وكالليل إذْ . . . يَغْشَى ، وكالصارم إذْ يَفْرِي
وقال أحمد بن جِرَار : السريع :
أهيفُ ممشوقٌ بتحريكهِ . . . يحل عقدَ السِّرَ إعلانُ
له لسانٌ مُرْهَفٌ حدُهُ . . . من رِيقَة الكُرْسُف رَيانُ
تَرَى بسيطَ الفكر في نَظْمِهِ . . . شخْصاً له حدٌ وجُثْمَانُ
كأنما يَسْحَبُ في إثرهِ . . . ذَيْلاً من الحِكمَة سَحْبَانُ
لولاه ما قام مَنارُ الهدى . . . لا سَمَا لِلْمُلْكِ ديوانُ
ومن أجود ما قيل في صفة القلم قول تمام لمحمد بن عبد الملك الزيات : الكامل :
لَكَ القَلَمُ الأعْلَى الّذي بِشَباتهِ . . . تُصابُ من الأمرِ الكُلى والمفاصِلُ
له رِيقة طَلٌّ ولكِن وَقْعَها . . . بآثارِه في الشَرْقِ والغَرْبِ وَابِلُ
لُعابُ الأفاعِي القاتِلاَتِ لُعَابُهُ . . . وَأرْيُ الْجَنَى اشْتَارَتْهُ أيْدٍ عَوَاسِلُ
له الخلوات اللاء لولا نَجِيُّها . . . لما اختلفتِ للمُلك تِلْكَ المَحَافل
وقال الأمير تميم بن المعز : الطويل :
وذي عَجَبٍ من طول صَبْرِي على الذي . . . أُلاقي من الأرْزَاءِ وَهْوَ جليلُ
يقولون : ما تَشْكو ؟ فقلت : مَتَى شَكَا . . . شَبَا السيفِ عَضبُ الشفرتَيْنِ صَقِيل ؟
وإن أمرأ يشكو إلى غير نافع . . . ويَسْخو بما في نفسهِ لجَهولعذابيَ أنْ أشكو إلى الناس أنني . . . عليلٌ ومَنْ أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى اللَّه عِلْمُهُ . . . بجمْلَة ما ألْقاه قَبْلَ أقولُ
سأسكتُ صَبْراً واحتساباً فإنني . . . أرى الصبْرَ سيفاً ليس فيه فُلُولُ
وقال : الكامل :
يا دَهْرُ ، ما أقساك مِنْ مُتَلون . . . في حالَتَيك ، وما أقلَّك مُنْصِفَا
أتروح للنكْس الجهول ممهّداً . . . وعلى اللبيب الحُرِّ سيفاً مُرْهَفا ؟
وإذا صَفَوْتَ كَدُرْتَ ، شيمةَ باخل ، . . . وإذا وَفَيتَ نَقَضْتَ أسباب الوَفا
لا أرتضيك ، وإن كرمْتَ ؛ لأنني . . . أدري بأنك لا تدومُ على الصّفَا
زمنٌ إذا أعطى استرد عَطاءَهُ . . . وإذا استقام بَدَا له فتحرَّفا
ما قام خيرك يا زمانُ بشرّهِ . . . أوْلَى بنا ما قل منك وما كَفَى
من أخبار الكاتب أحمد بن يوسف
وكان أحمدُ بن يوسف منصرفاً عن غسَّان بن عباد ، وجرَتْ بينهما هَنَات بحَضْرَةِ المأمون ، فقال يوماً بحضرة خاصَّة أصحابه : أخبروني عن غسَان بن عباد ؛ فإني أُريده لأمرٍ جسيم ؛ وكان قد عَزم على تقليده السند مكانَ بِشْرِ بن داود ؛ فتكلّمَ كلُّ فريق بما عنده في مَدْحِه ؛ فقال أحمد بن يوسف : هو ، يا أميرَ المؤمنين ، رجلٌ محاسِنُه أكثرُ من مساويه ، لا يتطرَّفُ به أمرٌ إلاّ تقدَم فيه ، ومهما تخوف عليه فإنه لن يَأْتي أمراً يَعْتذر منه ؛ لأنه قسم أيامه بين أفعال الفَضْل ؛ فجعل لكلِّ خُلُق نَوبة ، إذا نظرتَ في أمْرِه لم تَدْرِ أيّ حالاته أعجب ؛ أمَا هَدَاهُ إليه عَقْلُه أمْ ما اكتسبه بأدبه ؟ فقال له المأمون : لقد مدحته على سوء رَأيك فيه قال : لأني في أمير المؤمنين كما قال الشاعر : الوافر :
كفَى ثمنا لِمَا أسْدَيْت أني . . . نصحتُك في الصديق وفي عِدَائي
وأني حين تَنْدُبُني لأمرٍ . . . يكون هَواكَ أغْلَبَ مِنْ هَوائيقال الصولي : وقد روي هذا لغير أحمد ، ولعل أحمد استعاره ؛ فأعجب المأمون ذلك منه ، وشكره غسان بن عبّاد له ، وتأكَّدت الحالُ بينهما . وكان أحمدَ بن يوسف بن القاسم بن صبيح ، مولى عِجْل بن لجيم ، عَاليَ الطبقة في البلاغة ، ولم يكن في زمانه أكْتب منه ، وله شعرٌ جيد مرتفع عن أشعار الكتّاب ، ووزر للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد ، وكان أول ما ارتفع به أحمد أن المخلوعَ محمد بن الرشيد لمّا قتِل أمر طاهر بن الحسين الكُتَّاب أن يكتبوا إلى المأمون ؛ فأطالوا ، فقال طاهر : أريد أخصر من هذا ، فوُصِفَ له أحمد بن يوسف وموضعه من البلاغة ، فأحضره لذلك ، فكتب : أمَا بعد ، فإنْ كان المخلوع قَسيمَ أمير المؤمنين في النَّسَب واللّحْمَة ، فقد فرَّق بينهما حكمُ الكتاب في الولاية والخدمة ، بمفارقته عِصمة الدين ، وخروجه عن الأمْرِ الجامع للمسلمين ؛ لقول اللّه عزّ وجلّ فيما اقتص علينا من نبإ نوح وابنه : ' إنّه ليسَ مِنْ أهْلِك إنّه عَمَلٌ غَيْرُ صالحٍ ' ، ولا طاعة لأحدٍ في معصية الله ، ولا قطيعةَ ما كانت القطيعةُ في ذاتِ اللّه ؛ وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد أنجز اللَّهُ له ما كان ينتظرُ من سابقِ وَغدِه ، والحمد للّه الراجع إلى أمير المؤمنين معلوم حقّه ، الكائد له فيمن خَتَر عَهْدَه ، ونَقَضَ عَقدَه ، حتى رَدّ به الأُلْفَةَ بعد فُرْقَتِها ، وجَمع به الأمة بعد شَتَاتِها ، وأضاء به أعْلام الدين بعد درُوسِها ؛ وقد بعثتُ إليك بالدنيا وهي رَأسُ المخلوع ، وبالآخرة وهي البُرْدَةُ والقَضيب ؛ والحمدُ لله الآخذِ لأمير المؤمنين حقَه ، الراجع إليه تُرَاثَ آبائه الراشدين .
وكان أحمد بن أبي خالد كثيراً ما يَصِفُ أحمد للمأمون ويحثه عليه ، فأمره المأمون بإحضاره ، فلمّا وقف بين يديه قال : الحمدُ للّه يا أميرَ المؤمنين الذي استخصَّك فيما استحفظَك من دينه ، وقلدَك من خلافته ، بسوابغ نعَمه ، وفضائل قِسَمِه ، وعرَفَكَ من تيسير كلِّ عسيرٍ حاولك عليه متمرّد ، حتى ذلَّ لك ما جعله تكملة لما حَبَاك به من مواردِ أمورِه بنُجْح مصادرها ، حَمْداً نامياً زائداً لا يَنْقَطِعُ أُولاه ، ولا يَنْقَضِي أُخْرَاه ، وأنَا أسأَلُ الله يا أميرَ المؤمنين من إتمام بلائه لديك ، ومِنَنِه عليك ، وكفايَتِه ما ولاَّك واسترعاك ، وتحصين ما حازَ لك ، والتمكين من بلادِ عدوِّك ، مما يمنعُ به بَيْضَةَ الإسلام ، ويُعِز بك أهْلَه ، ويُبِيحُ بك حِمَى الشِّرْكِ ، ويجمع لك مُتَباين الأُلْفَة ، ويُنْجِز بكَ في أهل العِنادِ والضلالة وَعْدَهُ ؛ إنه سميع الدعاء ، فعّال لما يشاء .
فقال المأمون : أحسنتَ ، بُورك عليك ناطقاً وساكتاً ثم قال بعد أن بَلاه واختبره : ياعجباً لأحمد بن يوسف كيف استطاع أن يكْتُم نَفْسَه ؟ وكتب إلى المأمون يستَجْدِي لزوار على بابه : إن داعِي نَدَاك ، ومُنَادِي جَدْوَاك ، جَمَعاً ببابك الوُفود ، يرجون نائلَكَ العَتيد ، فمنهم من يَمُتُ بحُرْمة ، ومنهم من يُدْلي بسالفِ خِدْمَة ، وقد أَجْحَفَ بهم المقام ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يَنْعَشهم بسِيبِه ، ويحقق ظنَهُم بطَوْله ، فَعَلَ .
فوقعَ المأمون في عرض كتابه : الخيرُ متبع ، وأموال الملوك مَظَان لطلاب الحاجات ؛ فاكتُب أسماءَهم ، وبيِّنْ مرتبةَ كل واحد منهم ، ليصيرَ إليه على قَدرِ استحقاقه ؛ ولا تكدرَن معروفنا بالمَطْلِ والحجاب ؛ فقد قال الشاعر : الوافر :
فإنك لَنْ تَرَى طَرْداً لحُرّ . . . كإلصاق به طرف الهَوَانِ
ولم تُجْلَبْ مودَةُ ذِي وَفَاءً . . . بمثل الوُدّ أو بَذلِ اللسَانِ
قال أحمد بن يوسف : أمرني المأمون أن كتب في زيادة قناديل شهر رمضان ؛ فأعْيا علي ، ولم أجِدْ مثالاً أحْتَذِي عليه ؛ فبت مغموماً ، فأتاني آتٍ في النوم فقال : اكتب : فإنَ فيها إضاءة للمتهجدين ، ونفياً لمكان الريب ، وأنْسَا للسابِلة ، وتنزيهاً لبيوت الله من وَحْشَةِ الظلم ، فأخبرت بذلك المأمون ، فاستظرفه ، وأمر أن تمضي الكُتُب عليه .
وأهدى إلى المأمون في يوم نوروز طبقَ جَزع عليه ميلِ من ذَهب ، فيه اسمه منقوش ، وكتب إليه : هذا يوم جَرَت فيه العادةُ ، بإلطاف العبيد السادة ، وقد بعثتُ إلى أمير المؤمنين طبق جزع فيه ميل .
فلمّا قرأ المأمون الرقعة قال : أجاءت هديةُ أحمد بن يوسف ؟ قالوا : نعم ، قال : هي في داري أمً داري فيها ؟ فلمّا رفع المنديل استظرف الهدية واسترجح مُهدِيها . وأهدى إلى إبراهيم بن المهدي هدية وكتب إليه : الثقةُ بك قد سهلت السبيلَ إليك ، فأهْدَيْتُ هديةَ من لا يَحتَشِم إلى من لا يَغْتَنِم .
وكتب إلى بني سعيد بن سلم : لولا أن الله ، عز وجلّ ، ختم نبوته بمحمد ، ( صلى الله عليه وسلم ) ،وكتبَه بالقرآن ، لنزَل فيكم نبيَ نِقْمَة ، وأنزل فيكم قرآن غَدْر ؛ وما عَسيت أن أقولَ في قومٍ محاسنهم مساوي السُفْل ، ومساويهم فَضَائحُ الأمم ، وألسنتُهم معقولة بالعِيِّ ، وأيديهم معقودة بالبخْل ، وهم كما قال الشاعر : البسيط :
لا يكبرون وإن طَالَتْ حياتهُمُ . . . ولا تَبِيد مَخَازِيهم وإن بَادُوا
وغنَّى مُغَن بحضرة أحمد بن يوسف ولم يكن مُحسناً ، فلم يُنْصِتوا له ، وتحدَثوا مع غِنائه ، فغضب المغنّي ، فقال أحمد بن يوسف : أنت ، عافاك الله ، تحمَل الأسماع ثقلاً ، والقلوب مَلَلا ، والأعْيُن قَبَاحة ، والأنف نتَانة ، ثم تقولُ : اسمعوا مني ، وأنصِتوا إلي هذا إذا كانت أفهامُنا مُقْفَلة ، وآذاننا صَدِئِة ، فإمّا رضيت بالعَفْو منا ، وإلا قمت مذموماً عنّا .
ألفاظ لأهل العصر في ذم المغنين
يترنَم فيُتْعِبُ ولا يُطْرِب . إذا غنى عَنى ، وإذا أدَى آذى . يميت الطَّرَب ، ويحيي الكُرَب . ضرْبُه يُوجِب ضَرْبه . من عجائب غِنائه أنه يُورِد الشتاء في الصيف . ما رؤي قطّ في دارٍ مرتين ، وحضر جحظة مجلساً فيه علي بن بسام ، فتفرق القومُ المخادّ ، فقال جحظة : فما لي لم تعطوني مخدَّة ؟ فقال علي بن بسام : غنِّ فالمخاد كلّها إليك تصير وفيه يقول ابن بسام : السريع :
يا مَنْ هَجَوْناه فَغَنّانا . . . أنت ، وبيتِ اللَه ، أهجانا
سِيان إن غنّى لنا جحظةٌ . . . أو مرَ مجنون فزنانا
وكان خالد يُستَبرد ، فبعث بعضُ الظرفاء غلامه يشتري له خمسة أرطال ثلج ، فأتاه بخالدٍ وقال : يا مولاي ، طلبت خمسة أرطال ، وهذا حِمْل وتغنى بحَضْرة محموم ، فقال : ويحك دَعْنا نعرق وقال بعض المحدثين في قريس المغني : المتقارب :
ألاَ فاسقني قدحاً وافراً . . . يُعِينُ على البَلْغَمِ الهائجِ
أكلنا قَرِيساً وغَنى قريس . . . فنحنُ على شرف الفالجِ
ولقي أبو العباس المبرد بردَ الخيار المغنّي في يوم ثَلْج بالجسر ، فقال : أنت المبّرد وأنا برد الخيار ، واليوم كما تَرى ، اعبُر بنا لا يهلك الناس بالفالج بسببنا .وقال ابن عباد الصاحب في مغن يعرف بابن عذاب : مخلع البسيط :
أقول قولاً بلا احتشام . . . يعقله كلُّ مَن يَعيهِ
ابن عذابٍ إذا تغنّى . . . فإنني منه في أبيه
رجع إلى أحمد بن يوسف
ومن شعر أحمد بن يوسف : مخلع البسيط :
ضمِيرُ وَجدٍ بقَلبِ صَب . . . تَرجَمَ دَمعِي بِهِ فَشَاَعا
فصار دَمْعي لِسانَ وَخدِي . . . ضيّع سِرَيً به فَذاعا
لولا دموعي وفَرط حُبي . . . ما كان سِرِّي كذا مضاعا
وقال : المنسرح :
وعامل بالفجورِ يَأمُر بال . . . بِرِّ كهادٍ يخوضُ في الظلَمِ
أو كطبيب قد شفَّه سَقَم . . . وَهْو يُدَاوي من ذلك السَقَمِ
يا واعظَ الناسِ غير متَّعظٍ . . . ثَوْبَكَ طَهِّرْ أوْلا فلا تَلُمِ
وقال : الطويل :
إذا ما التقينا والعيون نواظرٌ . . . فألْسُنُنا حَرْبٌ وأبصارنا سَلْمُ
وقال في الحزن : الطويل :
كثير همومِ القلبِ حتى كأنما . . . عليه سرورُ العالَمين حَرَامُ
إذا قيلَ ما أضْنَاك أسْبَل دَمْعَهُ . . . فأخبر ما يلقي وليس كلامُ
وقال : الطويل :
كريم له نفس يَلينُ بلِينها . . . ليردَعَ عَنْ سلطانِهِ سُنَنَ الكِبْرِ
إذا ذكَّرَتْه نفسه عَظْمَ قَدْرها . . . دعاه إلى تسكينها عظم القَدْرِ
ووقَّع في كتاب رجل يحثه على استتمام صنائعه عنده : مستتمُّ الصنيعةِ من عَدَّل زَيْغها ، وأقام أوَدها ، صيانةً لمعروفِه ، ونصرةً لرأيه ؛ فإن أول المعروف مستخفّ ، وآخره مستَثْقَل ، يكاد أول الصنيعة يكون للهوى ، وآخرها للرَّأي ، ولذلك قيل : رَبُّ الصنيعة أشدّ من ابتدائها .وكان أبو العتاهية له صديقاً قبل ارتفاع حالِه ، فأحس منه في حين وزارته تغيراً ، فكتب إليه : الطويل : أمنْتَ إذا استغنيْتَ من سورةِ الفَقْرِ . . . فصرتَ تَرَى الإخوانَ بالنَّظَرِ الشزْرِ
أبا جعفر إن الشريفَ يُهينهُ . . . تتَايُهه دونَ الأخلاّء بالوَفْرِ
فإنْ تِهْتَ يوماً بالذي نِلْتَ من غنى . . . فإن عنائي بالتجمُّل والصَبْرِ
ألم تر أنّ الفقرَ يُرْجَى له الغِنَى . . . وأن الغِنى يُخْشَى عليه من الفَقْرِ
وروىَ أبو بكر يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال : حجب أحمد بن يوسف أبا العتاهية ، ثم عاد ، فقيل : هو نائم ، فكتب إليه : الطويل :
لئن عدتُ بعد اليوم إني لظالمٌ . . . سأصْرِف وجهي حيثُ تُبْغَى المكارِمُ
متى يظفر الغادي إليك بحاجةٍ . . . ونِصْفُك محجوب ونِصْفُك نائمُ
وقال : الخفيف :
في عداد الموتى وفي ساكني الدن . . . يا أبو جعفر أخي وخَلِيلي
ميت مات وهو في ورق العَي . . . شِ مقيماً في ظِل عَيْش ظليلِ
لم يمت ميتةَ الوَفاةِ ، ولَكِنْ . . . مات عن كلِّ صالحٍ وجَمِيل
وخاصم أحمدُ بن يوسف رجلاً بين يدي المأمون ، وكان صَغَا المأمون إليه على أحمد ، ففطن لذلك ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنه يَسْتَمْلي من عينيك ما يَلْقَاني به ، ويستَبِينُ بحركته ما تُجِنّه له ، وبلوغُ إرادتك أحب إليّ من بلوغ أملي ، ولذّةُ إجابتك أمتَعُ عندي من لذة ظفري ؛ وقد تركتُ له ما نازعني فيه ، وسلَمتُ له ما طالبني به ، فاستحسن ذلك المأمون .
ومن كلام أحمد بن يوسف : مجالسةُ البُغَضَاء تُثِيرُ الهمومَ ، وتَجْلِبُ الغموم ، وتُؤْلم القَلْبَ ، وتقدح في النّشاط ، وتَطْوي الانبساط .
ألفاظ لأهل العصر في صفات الثقلاء
فلان ثقيل الطَّلْعَة ، بَغيضُ التفصيل والجُمْلة ، باردُ السكونِ والحَرَكةِ ؛ قد خرج عنحد الاعتدال ، وذهب مِن ذاتِ اليمين إلى ذات الشمال . يحكي ثقل الحديث المعَاد ، ويَمْشي في القلوب والأكباد ، ولا أدْرِي كيف لم تحمل الأمانةَ أرضٌ حَمَلَتْهُ ؟ وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلّتْه ؟ كأن وجهَه أيامُ المصائب ، وليالي النوائب ، وكأنما قُرَّ به فقْدُ الحبائب ، وسوء العواقب . وكأنما وصلُه عدمُ الحياة ، وموتُ الفجأة ، وكأنما هَجره قوة المنّة ، وريحُ الجنة . يا عجبي من جِسْمٍ كالخيال ، وروحٍ كالجبال ، كأنه ثقل الدينِ ، على وَجعِ العين . هو ثقيلُ السكون ، بغيضُ الحرَكَة ، كثيرُ الشؤم ، قليلُ البركة . هو بين الْجَفن والعين قَذَاة ، وبين الأخمص والنَّعلِ حصاة . ما هو إلا غداةُ الفراق ، وكتابُ الطلاق ، وموتُ الحبيب ، وطلوعُ الرقيب . ما هو إلا أربعاء لا تَدُور في صفَر ، والكابوسُ في وَقْتِ السحَر ، وأثْقَل من خَرَاجٍ بلا غلّة ، ودَوَاءً بلا عِلَة ، وأبْغَض من مثل غير سائر ، وأجْمَع للعيوب من بغلة أبي دُلامة ، وحمار طيّار ، وطيلسان ابْن حَرْب ، وأير أبي حكيمة ، وأنشد : الطويل :
مشى فدعا من ثقلِهِ الحوتُ ربَّهُ . . . وقال : إلَهي زِيدَتِ الأرضُ ثانِيَهْ
وأنشد : الخفيف :
مشتَمِل بالبُغْض لا تَنْثَني . . . إليه لَحْظاً مُقْلَة الرَامِقِ
يظل في مجلسنا قاعداً . . . أثْقَل من وَاشٍ على عاشِقِ
وقال الحمدوني : المتقارب :
سألتك باللَّهِ إلا صدقْتَ . . . وعِلْمي بأنَك لا تصدقُ
أتبغضُ نفسَك من ثقلها . . . وإلا فأنت إذاً أحْمَقُ
وكتب أبو عبد الرحمن العطوي إلى بعض إخوانه : الطويل :
إذا أنت لم تُرْسِل وجئتَ فلم أصل . . . مَلأت بعذْرٍ منك سَمْعَ لبيبِ
أتيتك مشتاقاً فلم أرَ حاجباً . . . ولا صاحباً إلا بوجهٍ قطوبِ
كأني غريمٌ مُقْتَضٍ ، أو كأنني . . . طلوعُ رَقيبٍ أو نهوضُ حبيبِ
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يستثقلُ جليساً اسمه زنباع ، فقال له رجل يوماً : ما الزنبعة في كلام العرب ؟ قال : التثاقلُ ، ولذلك سُمَي جليسُنا زنباعاً .وقد كَثر الناس في الثقلاء ، وأنا أستحسن قول جحظة ، وإن كان غيره قد تقدمه في مثله : السريع :
يا لفظةَ النَّعْي بمَوْتِ الخليلْ . . . يا وقفة التَّوْديع بين الحُمُولْ يا شربةَ اليارَجِ يا أُجرة . . . المَنْزِل يا وَجْهَ العَذولِ الثقيل
يا طلعة النعْش ويا منزلاً . . . أقفَر منٍ بعد الأنيس الْحُلُولْ
يا نهضة المحبوب عن غَضْبةِ . . . يا نعمة قد آذَنَتْ بالرَحيلْ
يا كتاباً جاء من مُخْلِفٍ . . . للوعد مملوءا بعذرٍ طويلْ
يا بُكرة الثكْلَى إلى حُفْرةٍ . . . مستودعٍ فيها عزيزُ الثكُولْ
يا وثبةَ الحافظِ مستَعْجِلاً . . . بصَرْفِه القَيْناتِ عند الأصيلْ
ويا طبيباً قد أتى باكراً . . . على أخي سُقْمٍ بماءِ البقول
يا شوكةً في قدم رخْصَةٍ . . . ليس إلى إخراجها من سبيل
يا عِشْرَةَ المجذوم في رَحْله . . . ويا صُعود السِّعْر عند المُعِيل
يارَدَّة الحاجب عن قَسْوةٍ . . . ونكسَةً من بعد بُرْءِ العليل
وجَحْظَة هذا هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك ، وقال أبو الحسن علي بن محمد بن مُقْلة الوزيرُ : سألتُ جَحْظَة مَنْ لقبه بهذا اللقب ؟ فقال : ابنُ المعتز ، لقيني يوماً ، فقال لي : ما حيوان إنْ نكَّسُوه أتانا آلة للمراكب البحرية ، فقلت : عَلَقٌ ، إذا نكَس صارَ قِلْعاً ، قال : أحسنت يا جحظة ؛ فلزمني هذا اللقب ، وكان ناتئ العينين جدًّا ، قبيحَ الوجه ، ولذلك قال ابن الرومي : الكامل :
نبئت جَحْظَة يستعيرُ جُحوظَهُ . . . مِنْ فِيل شِطْرَنْجٍ ومن سرطان
يا رحمتي لمُنادميهتحمَلواألمَ العيونِ للذَّةِ الآذان
وكان طيبَ الغناء ، ممتدَ النفَس ، حسنَ المسموع ؛ إلاّ أنه كان ثقيلَ اليد في الضرب ؛ وكان حُلْوَ النادرة ، كثير الحكاية ، صالح الشعْرِ ، ولا تزال تندر له الأبيات الجيدة ، وهو القائل : الكامل :
جانبت أطْيَب لذتي وشرابي . . . وهجرت بعدك عامداً أصحابي
فإذا كتبتُ لكي أنزِّه ناظري . . . في حُسْنِ لفظك لم تَجُدْ بجوابِ
إن كنت تنكر ذِلَتي وتذلّلي . . . ونُحُولَ جسمي وامتدادَ عَذَابي
فانظر إلى بَدَنيِ الذي موَّهتُه . . . للناظرين بكَثْرة الأثوابِوقال : مجزوء الكامل :
وإذا جفاني صاحِبٌ . . . لم أستَجِزْ ما عِشتُ قَطْعَهْ
وتركتُه مِثْلَ القُبُو . . . رِ أزورها في كُلّ جُمْعَه
وقال : البسيط :
ضاقت عليَ وجوهُ الرأي في نَفَر . . . يَلْقَوْن بالْجَحدِ والكُفْرَان إحساني
أقلَب الطرْفَ تصعيداً ومنحدراً . . . فما أُقابل إنساناً بإنساني
وقال : المتقارب :
لقد مات إخواني الصالحون . . . فما لي صديقٌ وما لي عمادُ
إذا أقبل الصبحُ وَلَى السرور . . . وإن أقبل الليل ولى الرقاد
وقال يهجو رجلاً : الكامل :
لا تعذلوني إن هَجَرْتُ طعامه . . . خوفاً على نفسي مِنَ المأكولِ
فمتى أكَلْتُ قتلتُه من بُخْلِه . . . ومتى قَتَلْتُ قُتِلت بالمقتولِ
ومن حكاياته ما حدّثني خالد الكاتبُ قال : جاءني يوماً رسولُ إبراهيم ابن المهدي ، فصرت إليه ، فرأيتُ رجلاً أسْودَ على فُرُش فد غاص فيها ، فاستجلسني وقال : أنشدني من شعرك ، فأنشدته : الطويل :
رأتْ منه عيني منظَرَيْنِ كما رأتْ . . . من الشمس والبدرِ المنير على الأرضِ
عشيّة حيَّاني بوَرْد كأنهُ . . . خدودٌ أضِيفَتْ بعضهُنً إلى بعضِ
ونازعني كأْساً كأنّ حبَابَها . . . دموعيَ لما صَدّ عن مقلتي غمضي
وراح وفِعْلُ الراحِ في حَرَكاتِهِ . . . كفعْل نسيم الريح بالغُصُنِ الغضِّ
فزحف حتى صار في ثلثي الفراش ، وقال : يا فتى ، شبهوا الخدودَ بالوَرْدِ ، وأنت شبهْتَ الورد بالخدود ، زِدْني فأنشدته : مجزوء الكامل :
عاتبتُ نفسي في هوا . . . ك فلم أجدْها تَقْبَلُ
وأطعتُ داعيَها إلي . . . ك فلم أطِعْ من يَعْذُلُ
لا والذي جعل الوُجُو . . . ه لحُسنِ وَجْهِك تَمْثُلُ
لا قلتُ إنّ الصبرَ عن . . . ك من التَّصَابي أجْمَلُفزحف حتى انحدر عن الفرش ثم قال لي : زدْني ، فأنشدته : الرمل :
عِش فحُبِّيك سَريعاً قاتلي . . . والضَّنى إن لم تَصلني وَاصلي
ظَفرَ الحبّ بقَلَب دَنِفٍ . . . فيك والسّقْمُ بجسمٍ ناحلِ
فهما بين اكتئابٍ وضَنًى . . . ترَكاني كالقضيب الذَّابل
وبكى العاذِلُ لي من رحمة . . . فبكائي لبكاء العاذِل
فنَعر طربَاً وقال : يَلبَق ؛ كم معك لنفقتنا ؟ قال . ثمانمائة وخمسون ديناراً . قال : أقسمها بيني وبين خالد ، فدفع إليَ نصفها .
وأنشد جحظة أو غيره ولم يسمِّ قائله : البسيط :
لا يبعد اللّه إخواناً لنا سلفوا . . . أفناهم حَدَثان الدهر والأبدُ
نمِدّهُمْ كل يومٍ من بقيَّتنا . . . ولا يَوؤوب إلينا مِنْهُمُ أحَدُ
ما قيل في السكّين
وكان أحمد بن يوسف جالساً بين يدي المأمون ، فسأل المأمون عن السكّين فناوله أحمد السكين ، وقد أمسك بنِصَابها ، وأشار إليه بالحدّ ، فنظر إليه المأمون نظر مُنكِر ؛ فقال : لعل أميرَ المؤمنين أنكر عليَّ أخْذِي النّصاب ؛ وإشارتي إليه بالحدِّ ؛ وإنما تفاءلت بذلك أن يكونَ له الحدَّ على أعدائه ، فعجب المأمون من سرْعَةِ فطنته ، ولطيف جوابه .
وقال بعض الكتاب : السكين مسُّ الأقلام يشحذها إذا كلّت ، ويَصْقُلُها إذا نَبَتْ ، ويطْلِقُها إذا وقفت ، ويلمّها إذا شَعِثت ، وأحْسَنُها ما عَرُضَ صَدْرُه ، وأُرْهِفَ حَدُّه ، ولم يفصل على القبضة نِصَابُه .
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي سكيناً سرقت له : البسيط :
يا قاتل اللّه كتابَ الدواوين . . . ما يستحثُونَ من أخذِ السكاكينِ
لقد دهاني لطيفٌ منهمُ خَتِلٌ . . . في ذات حدٍّ كحدّ السيفِ مَسْنُونِ
فأقَفْرَتْ بعد عُمْرانٍ بموقعها . . . منها دواةُ فتًى بالكُتْبِ مَفْتُون
تبكي على مُديَةٍ أودى الزمان بها . . . كانت على جائرِ الأقلام تُعْدِيني
كانت تقدِّمُ أقلامي وتَنْحَتُها . . . نحتاً وتسْخِطها بَرْياً فتُرْضينيوأضحك الطرس والقرطاس عن حَلل . . . ينوب للعين من نَوْرِ البساتين
فإن قَشَرت بها سوداءَ من صُحفي . . . عادت كبعض خدودِ الْخُرَّدِ العِين
جزْعُ النصاب لطيفات شَعَائرُها . . . محسَنات بأصناف التَّحاسين
هيفاء مُرْهَفَةٌ بيضاء مُذْهَبة . . . قال الإله لها سبحانه : كُوني
لكن مقطيَ أمسى شامتاً جَذِلاً . . . وكان في ذِلَةٍ منها وفي هُونِ
فَصِين حتى يُضاهي في صيانته . . . جَاهي لصَوْنِيهِ عَمَّنْ لا يُدَانيني
ولستُ عنها بسَالٍ ما حَيِيتُ ، ولا . . . بواجِدٍ عِوَضاً منها يُسليني
ولو يَردُ فِدَاء ما فَجِعتُ بِهِ . . . منها فديناه بالدنيا وبالدين
ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين
سكّين كأنَّ القدرَ سائقُها ، أو الأجَل سابقها ، مُرْهَفَة الصَدْرِ ، مُخْطَفة الخصْر ، يجولُ عليها فِرند العِتْق ، ويموج فيها ماء الْجَوهر ؛ كأنّ المنية تبرق من حدها ، والأجل يَلْمع من متنها ، رَكبَتْ في نِصَاب آبنوس ، كأنَ الحَدَق نفضَت عليه صِبْغَها ، وحَبّ القلوب كستهْ لباسها . أخذ لها حديدها الناصح بخط من الروم ، وضرب لها نصابها الحالِك بسهم من الزنج ، فكأنها ليل من تحتِ نَهار ، أو مجمر أبْدَى سَنَا نَار ، ذات غِرار ماضٍ ، وذبَاب قاض . سكيِن ذات مِنْسَر بازِيّ ، وجَوْهر هوائي ، ونِصَاب زنجي ، إن أُرضِيت أولت مَتْناً كالدهان ؛ وان أُسْخِطَتْ اتَقَتْ بنابِ الأُفعوان . سكين أحْسَنُ من التلاَقْ ، وأقْطَع من الفراقْ ، تفعل فِعْلَ الأعْدَاء ، وتنفعُ نَفْعَ الأصدقاء . هي أمْضَى من القَضَاء ، وأنْفَذُ من القَدَر المتَاح ، وأقْطَعُ من ظُبَةِ السيف الحُسام ، وألمع من البَرْقِ في الغَمام . جمعت حُسْن المنظر ، وكَرَمَ المخْبَر ، وتملَكتْ عِنان القلب والبصر ، ولم يُحْوجهَا عتْقُ الْجَوهَر إلى إمهاء الحجر .
الاستدعاء إلى المؤانسة والمنادمة
قال محمد بن أنس للقاسم بن صبيح : ما زِلنا في سَمَرٍ نَصِلُ فصولَه بتشوقك ، فيذهِب ذِكْرُك مَلَلَ السامر ، ونَعْسَة الساهر . فقال القاسم : مثلك ذكر صديقه فأطراه ، واعتذر إليه فأرضاه ، ولو كنتم آذَنُتمُوني كنت أحدكم ، مسروراً بما به سُررتم ، مفيضاً فيما فيه أفَضْتُم .قال بعض الظرفاء : شَرْطُ المنادمة قِلّة الخلاف ، والمعاملةُ بالإنصاف ، والمسامحة في الشراب ، والتغافل عن ردّ الجواب ، وإدمان الرضا ، واطِّرَاح ما مَضَى ، وإسقاط التحيات ، واجتناب اقتراح الأصوات ، وأكل ما حضر ، وإحضار ما تيسر ، وسَتْر العَيْبِ ، وحفظ الغيب .
وقد أحسن أبو عبد الرحمن العطوي في قوله : الوافر :
حقوقُ الكأس والنَّدْمانِ خمس . . . فأوّلُها التزين بالوَقَارِ
وثانيها مسامَحَةُ النَدَامَى . . . فكَمْ حَمَتِ السماحة مِنْ ذِمارِ
وثالثها ، وإن كنتَ ابنَ خَيْرِ الْ . . . برية مَحتْدِاً ، ترْكُ الفَخَارِ
ورابعها وللندْمان حق . . . سوى حقّ القرابة والجوارِ
إذا حدَثته فاكْسُ الحديث ال . . . ذي حدّثته ثَوْبَ اختصارِ
فما حُثَ النبيذُ بمثل حسن الأ . . . غَاني والأحاديثِ القِصار
وخامسةٌ يدكُ بها أخوها . . . على كرم الطبيعةِ والنَجار
حديث الأمس ننساه جميعاً . . . فإنَّ الذنْب فيه لِلْعُقَارِ
ومن حكَمتَ كاسَك فيه فاحْكمْ . . . له بإقالة عِنْدَ العِثار
وقال حسان بن ثابت : الوافر :
نُوَلَيْها الملامةَ إنْ ألَمْنَا . . . إذا ما كان مَغْثٌ أو لِحَاء
وشرب اليزيدي عند المأمون فلما أخذَتْ منه الكأس أقبل يعتز عليه بتعليمه إياه ، وأساء مُخاطبته ، فلما أفاق من سُكْرِه عُرَف ما جرى ، فلبِس أكفانه ، ووقف بين يديَ المأمون فأنشده : الطويل :
أنا المذنبُ الخطَاءُ والعفوُ واسعٌ . . . ولو لم يكن ذنبٌ لما عُرِف العفوُ
ثَمِلْتُ فأبْدَتْ منِّيَ الكاسُ بعضَ ما . . . كَرِهْتَ وما إن يستوي السّكْرُ والصَّحو
ولا سيما إن كنتُ عند خليفةٍ . . . وفي مجلسٍ ما إنْ يجوز به اللَغْوُ
فإن تَعْفُ عني أُلْفِ خَطويَ واسعاً . . . وإلا يكن عَفْوٌ فقد قَصُر الْخَطْوُفقال المأمون : لا تثريبَ عليك ، فالنبيذ بساط يُطوَى بما عليه .
وشرب كورَان المغني عند الشريف الرضي ، فافتقد رِداءَه ، وزعم أنه سرق . فقال له الشريف : ويحك مَنْ تتهم منا ؟ أما علمتَ أن النبيذ بِساط يطوى بما عليه ؟ قال : انشروا هذا البساط حتى أخذَ ردائي واطوَوه إلى يوم القيامة .
وكان أبو جعفر أحمد بن جَدَار ، كاتب العباس بن أحمد بن طولون ، ينقل أخبارَ أبي حفص عمر بن أيوب ، كاتب أحمد بن طولون ، على الشراب إلى العباس ، فصار إليه أبو حفص فقال : يا أبا جعفر ، إنما مجلس المدام مجلس حرمة ، وداعية أنس ، ومسرح لبانة ، ومَذَاد هَمّ ، ومَرتع لهو ، ومعهد سرور ، وإنما توسطته عند من لا يتهم غَيبَه ، ولا يخشى عتبه ، وقد أتصل بي ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل أعز الله أمره ، من أخبار مجالستي ، فلا تفعَل ، وأنشده : الخفيف :
ولقد قلت للأخلاّءِ يوماً . . . قولَ ساعٍ بالنصحِ لو سمعوه
إنما مَجلِسُ المدَام بِساطٌ . . . للمودات بينهم وضَعُوهُ
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا . . . من نعيمٍ ولذّةٍ رفعوه
وهمُ أحْرياء ، إنْ كان منهم . . . حافظٌ ، ما أتوه أن يمنعوهُ
فاعتذر ابن جدار وحلف ما فعل ، وقام من مجلسه .
وأنشد أبو حفص : الكامل :
كم من أخٍ أوْجَستُ منه سجيّةً . . . فأنْسِت بعدَ وِدَادِهِ بفراقِهِ
لم أحمد الأيام منه خليقَةَ . . . فتركتُه مستمتعاً بخلاَقهِ
عوّل أبو حفص في أكثر كلامه على نَقْل كلام أبي العباس الناشئ في الشراب ، والأبيات التي أنشد أولاً له . أبو القاسم الصاحب : قدماً حُمِلَتْ أوْزَارُ السُكْرِ ، على ظهور الخمر ، وطوي بساطُ الشراب ، على ما فيه من خطإ أو صواب . متابعة العُقار ، تعذر في خَلْع العِذَار ، وتُغْني عن الاعتذار . متابعة الأرطال ، تبطل سورة الأبطال ، وتَدَعُ الشيوخ كالأطفال .
كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى بعض الجِلَّة يستدعيه : يوْمُنا يوم لَيِّنٌ الحواشي ، وَطِيءُ النواحي ؛ وسماؤنا قد أقبلت ، ورعدت بالخير وبَرَقَتْ ، وأنت قُطْبالسرور ، ونظام الأمور ؛ فلا تفرِدْنا فنقلّ ، ولا تنفرد عنا فنذلّ .
وكتب بعض أهل العصر - وهو السَّرِي الموصلي - إلى أخ له يستدعيه إلى مؤانسته : الطويل :
خِلاَلك ، ما اختل الصديق ، سحَائِبُ . . . وبِشرك ما هبَّت رِياح ، مَوَاهِب
وأنت شقيق الرُوحِ تُؤثِر وَصلَها . . . إذا رَاعَها بالهَجْرِ خِل وصاحِبُ
ونحن خلال القَصْفِ ولعَزْفِ نجتَني . . . ثمارَ مَلاَهٍ كلهنَّ أطَايبُ
وعندي لك الرّيحان زِين بِسَاطُهُ . . . بزَهْرٍ كما زانَتْ سماءً كَوَاكِبُ
وجَيْشٌ كما انجرَت ذيولُ غَلائِل . . . مُصنْدَلةً تختالُ فيها الكَوَاعِب
وقد أطلِقَت فيه الشمائِل ، وانثنَتْ . . . مُفَنّدةً عن جانبيها الْجَنائِب
وحافظة ماءَ الحياةِ لفِتيَةٍ . . . حياتهم أن تستلذ المشارِبُ
نُسَرْبِلُها أخفَى اللباس ، وإنما . . . يلَفُ بها أفْوَاهُه والَسبائِبُ
على جَسَدٍ مثل الزّبَرْجَدِ لم تزل . . . تشاكله في لونه وتُناسِبُ
إذا استودعت حُرّ اللُجَيْن سبائكاً . . . تَصوَّبَه في أحشائها وَهْوَ ذَائِبُ
وشوق رؤوس القوم غَيمٌ معلًق . . . من النَّد لا يَجْرِي ولا هو ذاهِب
بوارقُهُ خَمْرُ الكؤوس ورَعْدُهُ . . . أناملُ بيضٌ للطبول تلاَعِب
ولا عائق يثْني عِنانَكَ عَنْ هوًى . . . رَغَى جانب منه وأوْمَضَ جانبُ
فبادِرْ ؛ فإن اليوم صافٍ من القَذَى . . . ويا رُبَّ يومٍ بادَرتْهُ النوَائب
وقال ابن المعتز : المنسرح :
لا شَيْء يسلي همَي سوَى قَدَحٍ . . . تَدمَى عليه أوْدَاج إبرِيقِ
في غيْمِ نَدّ يُزجِي سَحائبَهُ . . . بَرْقُ ابتسامٍ ورَعْدُ تصفيقِ
وقال الحسن بن محمدٍ الكاتب يصف طبلاً : البسيط :
يا حبَّذَا يومنا نَلْهُو بمُلْهِيَةٍ . . . تُلْهى بشيءً له رَأْسان في جَسَدِ
قد شَدَّ هذا إلى هذا كأنهما . . . من شِدَّة الشدِّ مقرونَانِ في صَفَدِ
نَظَل نلطم خَدَّيهِ إذا ضرَبَتْ . . . بكل طاقتها لطماً بلا حَرَد
فتسمعُ الصوتَ منه حين تَضْرِبُه . . . كأنه خارجٌ من ماضِغَيْ أسَدومن ألفاظهم في الاستدعاء
نحن في مجلِسٍ قد أبت رَاحه أن تصفوَ لنا أو تتناولَها يُمْناك ، وأقسم غِنَاؤه لا طاب أو تَعِيَه أذنَاك ، فأمَا خدودُ نارنجه فقد احمرَت خَجَلاً لإبطائك ، وعيون نَرْجِسه قد حدقَت تَأْمِيلاً للقائك ، فبحياتي عليك إلا تعجلت ، وما تمهلت .
نحن بغيبتك كعِقد تغيبَتْ وَاسِطتَه ، وشبابٍ قد أخلَقَت جِدَتُه ، وإذ قد غابت شمس السماء عنَّا ، فلا بد أن تدنُوَ الأرض منّا . أنت من ينتظم به شمْل الطرَب ، وبلقائه يبلغُ كل أرَب . طِر إلينا طَيَرانَ السَّهْمِ ، واطلع علينا طلوعَ النجم . ثِبْ إلينا وثوبَ الغزال ، واطلُعْ علينا طلوعَ الهِلال ، في غرّة شوّال . كنْ إلينا أسرعَ من السهم إلى ممرّه ، والماء إلى مقره . جشمْ إلينا قدمك ، واخلَع علينا كَرمَك ، وإن رأيتَ أن تحضرنا لتتصِل الواسِطة بالعِقد ، ونَحْصل بقُرْبُك في جَنةِ الْخُلْدِ ، وتُسْهم لنا في قربِك الذي هو قوت النفس ، ومادةُ الأنْس .
ولهم في استدعاء الشراب
قد تألّف لي شَمل إخوانٍ كان يفترق لعَوَز المشروب ، واعتدنا فضلَك المعهود ، وورَدْنا بَحْرَك المورود ، وأنا ومَن سامحني الدهرُ بزيارته من إخواني وأوليائك وقوفُ بحيث يقفُ بنا اختيارُك من النشاط والفتور ، ويَرتَضِيه لنا إيثارك من الهم والسرور ، والأمرُ في ذلك إليك ، والاعتمادُ في جَمْعِ شمْلِ السمرَةِ عليك ، فإن رأيتَ أن تكِلَني إلى أولى الظنيْن بك فعلت . ألطف المنَن مَوقعاً ، وأجَلُها في النفوس موضعاً ، ما عَمَرَ أوْطانَ المسرًةِ ، وطرد عوارض الهمَ والفكرة ، وجمع شَمْلَ المودةِ والأُلفة . قد انتظمتُ في رُفقَةٍ لي في سِمْط الثريا ، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المُدَام عُذنا كبنات نَعْش ، والسلام . فرأيك في إرواء غلَّتنا بما ينقعها ، والطَول على جماعتنا بما يجمعها .
ولهم في الكتابة عن الشراب
قد نَشِطَ لتناول ما يستمد البِشر ، ويشرح الَصدْر ، قد استمطر سحابةَ الأنس ، واستدرّ حلُوبة السرور ، وقَدَح زَندَ اللهو ، فهو يَمْرِي دِماءَ العناقيد ، ويَفْصِد عروقَ الدَنان ، ويَنْظم عقْدَ النَدْمَان .
كتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم دجْنٍ لم يمطر :أما ترى تكافؤ هذا الطمع واليَأس في يومنا هذا بقرْب المطر وبعده ، كأنه قول كثير : الطويل :
وإني وَتَهْيامي بعزة بعدما . . . تَخَليتُ مما بيننا وتَخَلّتِ
لكالمرتَجِي ظل الغمامةِ ، كلّما . . . تَبَوَأ منها للمَقيل اضمحلتِ
وما أصبحَتْ أمنيتي إلاَ في لقائك ، فليت حِجاب النأي هتك بيني وبينك رقعَتي هذه وقد دارت زجاجاتٌ أوقعَتْ بعقلي ولم تَتَحيّفه ، وبعثَت نشاطاً حركني للكتاب ؛ فرأيك في إمطاري سروراً بسار خَبرك ؛ إذ حُرِمت السرور بمَطَر هذا اليوم ، موفّقاً إن شاء الله .
وكتب الحسنُ بن وهب : وصل كتاب الأمير أيَّده اللّه وفَمِي طاعِم ويدي عامِلة ، ولذلك تأخرّ الجواب قليلاً ، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته ، وما استوجب ذنباً استحقّ به دماً ؛ لأنه إذا أشمس حكى حُسنَكَ وضياءك ، وإن أمطر حكى جودك وسخاءك ، وإن غام أشبه ظِلَك وفِناءَك ، وسؤالُ الأمير عني نعمة من نعم اللّه ، عز وجل ، أُعفَي بها آثارَ الزمان السيئ عندي وأنا كما يحِب الأمير صرف اللهُ الحوادث عنه ، وعَن حَظي منه .
وذم رجل رجلاً فقال : دعواته ولائم ، وأقْدَاحه مَحَاجم ، وكؤوسُه محابر ، ونوادره بوادر .
وقال أبو الفتح كشاجم : كان عندي بعض المجَّانِ من النبيذيين ، فسمعني وأنا أحمدُ الله جلَّ ذِكرُه في وسط الطعامِ لشيءٍ خطر ببالي من نِعَم الله التي لا تُحْصَى ، فنهض وقال : أُعْطِي اللّه عهداً إن عاودْتُ وما معنى التحميد هنا ؟ كأنك تُعْلِمُنا أنا قد شبعنا . ثم مال إلى الدواة والقرطاس ، وكتب ارتجالاً : الوافر :
وحَمْدُ الله يَحْسُنُ كلَّ وقتٍ . . . ولَكِنْ ليس في أولَى الطعام
لأنك تُحْشِمُ الأضيافَ فيهِ . . . وتأمرُهم بإسراع القِيَام
وتؤذِنهم ، وما شَبِعُوا بشَبْعٍ . . . وذلك ليس من خُلُقِ الكِرَامِ
وكتب المَرِيمي إلى بعض إخوانه وقد ترك النبيذ : البسيط :
إنْ كُنتَ تُبْتَ عن الصهباءِ تَشْرَبُها . . . نُسْكاً فما تُبْتَ عَنْ بِرٍّ وإحسانِ
تُب راشداً ، واسقِنا منها ، وإن عَذَلوا . . . فيما فعلت فقلْ ما تاب إخواني
وقال بعض النبيذيين ، وقد ترك الشرب : الوافر :
تحامَوْني لتَرْكِي شُرْب راح . . . أقَمْتُ مكانَها الماءَ القَرَاحاوما انفَرَدوا بها دُوني لِفَضلٍ . . . إذَا ما كُنتُ أكثَرَهم مِرَاحَا
وأرفعهم على وتر وصَنجٍ . . . وأطرفهُم وأظرَفهم ، مزاحا
إذا شقُّوا الجيوبَ شَققت جَيبِي . . . وإن صاحَوا عَلَوتهم صِيَاحا
فِقر للنبيذيين
ما جمِشَت الدنيا بأَطرَفَ من النبيذ ، ما للعقَارِ والوَقَارِ . إنما العيش في الطيش ، الراح ترياق سمَ الهَمّ . النبيذ ستر فانظر مع مَن تهتكه . اشرب النبيذ ما استبشعته ، فإذا استطَبتَه فدَعه . لولا أنَّ المخمور يعلم قصَته لقدم وصيته . الصاحِي بين السكارى كالحي بين الموتى ؛ يضحك من عَقلِهم ، ويَأكل من نَقلهم . أحمق ما يكون السكرَان إذا تعاقل . التبذل على النبيذ ظَرف ، والوقار عليه سخف ، حد السكران أن تَغرب الهموم ، ويظهر السرَّ المكتوم .
وقال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب : ما أنصَفتها ، تَضحك في وجهك ، وتَعبس في وَجهها .
وقال الطائي : الطويل :
إذا ذاقها ، وَهيَ الحياة ، رأيتَه . . . يُعَبِّس تعبيسَ المقدَّمِ للِقَتل
وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال : البسيط :
وأن أُقَطَب وَجْهي حينَ تَبْسِمُ لي . . . فعند بَسْطِ المَوالي يحفظ الأدب
وترك رجلٌ النبيذَ ، فقيل له : لم تركتَه ، وهو رسولُ السرورِ إلى القلب ؟ قال : ولكنه رسولُ بأسٍ يُبعَثُ إلى الْجَوفِ فيذهب إلى الرأس .
وقيل لبعضهم : ما أصبّك بالخمر فقال : إنها تُسْرج في يَدِي بنورها ، وفي قلبي بسرورها ، كأنَّ الناشئ نظر إلى هذا الكلام فقال : الكامل :
راحٌ إذا عَلتِ الأكفَّ كؤُوسُها . . . فكأنها من دونها في الرَّاحِ
وكأنما الكَاسَاتُ ممّا حولها . . . من نورِها يَسْبَحنَ في ضَحْضَاحِ
لو بُثَّ في غَسَق الظلام ضِياؤُها . . . طَلع المساءُ بغُرَّةِ الإصباحِ
نفضَتْ على الأجسام ناصعَ لَوْنَها . . . وسَرَتْ بلذتها إلى الأرواح

=============

ج4. كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

البيت الأول كقول البحتري : الكامل :
يخفي الزجاجةَ ضوءَها ، فكَأنها . . . في الكفَ قائمةٌ بغيرِ إناء
وللناشئ في هذا المعنى : الكامل :
ومُدامة يخفى النهار لنورها . . . ونَذل أكنافَ الدجا لضيائها
صبت فأحدق نورها بزجاجها . . . فكأنها جعلت إناءَ إنائها
وترىَ إذا صبت بَدَت في كأسها . . . متقاصرَ الأرجَاء عن أرْجائها
وتكادُ إنْ مُزِجَتْ لرقةِ لونِها . . . تَمتَاز عند مِزاجِهَا من مَائها
صفراء تُضْحِي الشمسُ ، إن قِيسَتْ بها . . . في ضوئها ، كاللَيلِ ، في أضْوائها
وإذا تصفحْتَ الهواءَ رأيتهُ . . . كَدِر الأدِيمة عند حُسْن صفائها
تَزدَاد مِن كرمِ الطباعِ بقَدرِ ما . . . تودِي به الأيام مِن أجْزَائها
لا شيء أعجَب من تَوَلُدِ بُرئِها . . . من سقمها ، ودَوَائها مِنْ دَائها
وقال : الكامل :
إن رمتَ وصفَ الراجِ فأتِ بما . . . فيها من الأوْصاف من قُرْبِ
هي ماء ياقوتٍ ، وإن مُزِجَتْ . . . في كَأسِها بالباردِ العَذْبِ
فكأنها وحبَابُها ذهَبٌ . . . كللتَه باللؤلؤ الرَطْبِ
ولأهل العصر : الدنيا معشوقةٌ رِيقُها الراح . أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي في صاعد بن مخلد : الطويل :
فتًى هاجرَ الدنيا وحرَم رِيقَها . . . وهل رِيقُهَا إلاَ الرحيقُ الموَرَدُ ؟
ولو طَمِعت في عَطْفِهِ ووصالِه . . . أبَاحته منها مَرْشَفاً لا يُصَرَّد
الخمرُ أشبهُ شيء بالدنيا ؛ لاجتماع اللذات والمرارة فيها . الخمر مصباحُ السرور ، ولكنها مفتاح الشرور . لكل شيء سر ، وسرُ الراحِ السرور . لا يطيبُ المُدَام الصافي ، إلاّ مع النديم المُصَافي .ومن ألفاظهم في صفات
مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر
مَجْلِس رَاحُه ياقوت ، ونَوْره ورد ، ونَارنْجُه ذَهَبٌ ، ونرجِسه دينار ودرهم ، يحملهما زبرجَد . عندنا أُتْرُج كأنه من خَلْقِك خُلِق ، ومن شَمَائِلك سُرِق ، ونَارَنج ككُرَاتِ من سفَن ذهِّبت ، أو ثدي أبكار خلِّقت . مجلس أَخَذَتْ فيه الأوتار تتجاوب ، والأقداح تتناوب . أعلامُ الأُنْسِ خافقةٌ ، وأَلْسُن الملاهي ناطقة . ونحن بين بدور ، وكاساتٍ تَدور ، وبروقِ رَاح ، وشموس أقْدَاح . قد نشأت غَمامة الندِّ ، على بساط الوَرْدِ . مجلس قد تفتحت فيه عيونُ النرْجِس ، وفاحت مَجامِير الأُترُج ، وفتقت فَارَات النَّارَنج ، ونطقت ألسُنُ العيدان ، وقامَت خطباءُ الأوتار ، وهبت رياحُ الأقداح ، وطلَعَتْ كواكبُ النًدْمان ، وامتدَتْ سماء النَّدّ . مجلس مَنْ رآه حسب الجنَان قد اصْطَفَتْ عيونُهَا ، فجعلت في قدر من الأرض ، وتخيّرت فصوصها ، فنُقِلَت إلى مجلس الأُنْس واللَهْوِ . قد فضّ اللَهْوُ ختامه ، ونشر الأُنْس أعلامه . قد هَبَّت للأنْس ريح بَرْقها الراح ، وسحابها الأقداح ، ورعودها الأوتار ، ورياضها الأقمار . قد فرغنا للهو والدهرُ عنّا في شغل .
جُل هذا من قولِ بعض أهل العصر : الرمل :
كم جوًى مثّله رَسْم مَثَل . . . ودم قد طُل أثناء طَلَلْ
ولآلٍ كلل الخدّ بها . . . لعب البين بربّاتِ الكِلَلْ
حبذا عيشُ الليالي باللِّوى . . . لو تجافَى الدّهْرُ عنا وغَفَلْ
إذ فَرَغْنا فيه للَّهو وقد . . . باتَتِ الأقْدَارُ عنَا في شُغُلْ
وأدَرْنَا ذهباً في لَهبٍ . . . كلِّما أُخْمِدَ بالماء اشتَعَلْ
قد اقتَعدنا غاربَ الأُنْسِ ، وجرينا في مَيْدَانِ اللهو . عمدنا إلى أقْدَاحِ اللهو فأجَلْنَاها ، ولمراكبِ السرور فامتطَيْناها . قد امتطينا غوارِبَ السرور بالأقداح . مُدَامة تُورِد ريحَ الورْدِ ، وتَحْكِي نارَ إبراهيم في اللَون والبَرْدِ ، ولستُ أدري أشقيق أم عقيق ، أم رحيق أم حريق . راحٌ كأن الدُيوكَ صبت أحداقَها فيها . راح كأنما اشتقت من الروح والراحة .
قال ابن الرومي : الكامل :
والله ما نَدْرِي لأيةِ عِلَة . . . يَدْعُونَهَا في الرَاحِ باسْمِ الراحِ
ألِرِيحهَا أمْ روحها تحْتً الحَشَى . . . أمْ لارْتيَاحِ نَديمها المُرْتاحِ ؟راحٌ كالنار والنُورِ والنوْرِ ، أَصفَى من البَلور ، ومن دَمْع المهجور . روح نور لها من الكَأْس جسم ، كأنها شمس في غِلالة سَراب . شراب أكادُ أَقولُ : هو أَصْفَى من مودَتي لك ، ومِنْ نعم اللَهِ عنديً فيك ، وأَطْيَبُ من إسعافِ الزمان بلقائك . مُدَامة قد سبك الدهرُ تِبْرَها فصَفا . كأسٌ كأنها نورٌ ضميرهُ نَارٌ . راح كياقوتة في دُرة ، أَصْفَى من ماء السماء ، ودَمْعِ العاشقة المَرْهاء ، أحسن من الدنيا المُقْبِلة ، والنعم المكملة . أَحْسن من العافية في البَدَن ، وأَطْيَب من الحياة في السرور . أرقّ من نسيمِ الصبا ، وعَهْدِ الصَبا . أرق من دَفع محب ، وشَكْوَى صَبّ . أرقّ من دموع العشاق ، مَرَتها لَوْعَةُ الفراق . مُزِجَ نَارُ الرَاح بنُورِ الماء . راح كأنها معصورة من وَجْنَةِ الشمس ، في كَأسٍ كأنها مخروطة من فِلْقَة البَدْرِ . كأسها مِلْء اليدِ ، وريحها ملء البَلَد ، تصب على الليل ثَوْبَ النهار ، كأنها في الكأس معنى دقيق في ذِهْنٍ لطيف . كأنَّ الراح من خَدِّه معصورة ، وملاحَةُ الصورةِ عليها مقصورة . وهذا من قول الطائي كأنها من خَدِّهِ تُعْصَر وقال عبد السلام بن رَغْبان الملقب بديك الجن الشاعر المشهور : الطويل :
معتّقه مِنْ كَفَ ظَبْي كأنما . . . تَناوَلها من خَدَه فأَدَارَها
تمشَت الصهباءُ في عِظامهم ، وتَرَقَت إلى هامِهِمْ ، وماسَتْ في أعْطافِهم ، ومالَتْ بأَطْرَافهم . سارَتْ فيهم الكُؤُوس ، ونالَتْ عنهم سَوْرَةُ الخَندَريس . شربت عقولَهم ، وملكت قلوبَهم .
وقال أبو نُوَاس ، وهو أستاذ الناس في هذا الشأن : الكامل :
صِفَةُ الطلولِ بَلاَغَةُ الفَدْمِ . . . فاجعلْ صفاتك لابنَةِ الكَرْمِ
تصفُ الطلولَ على السماع بها . . . أَفَذُو العِيان كثابتِ العلْمِ ؟
وإذا وَصَفْتَ الشيءَ متّبعا . . . لم تَخْلُ من غَلَطٍ ومن وَهْمِوقال : الكامل : الكأس أهواها وإن رَزَأت . . . بُلَغَ المعاش وقلَّلَتْ فَضْلي
صفراءُ مَجَّدَها مَرَازِبُها . . . جَلَّتْ عن النظَراء والمِثْلِ
ذُخِرَتْ لآَدَم قبل خِلْقَتِهِ . . . فَتَقَدَّمَتْهُ بخطوةِ القَبْلِ
فاعذِرْ أخاك فإنه رجلٌ . . . مَرنَتْ مَسامِعُه على العَذْلِ
وقال : المديد :
فتسلَيْتُ بشُرْب عُقَارٍ . . . نشأتْ في حِجْرِ أُمّ الزمان
فتناساها الجديدان حتى . . . هي أنصافُ شطورِ الدَنَان
وافترعْنَا مُرة الطعْم بها . . . نزَقُ البِكْر ولينُ العَوَان
واحتسينا من رحيق عتيق . . . وشديد كامل في لِيان
لم يُجفْهَا مِبْزَلُ القوم حتى . . . نجمَتْ مثلَ نجومِ السّنان
أو كعِرْقِ السام تنشقّ منه . . . شُعَبٌ مثلَ انفراج البنان
وقال : الكامل :
وخَدِين لذَاتٍ مُعَلَلِ صاحبٍ . . . يَقْتاتُ منه فكاهةً ومُزَاحا
قال : ابغِني المصباح ، قلتُ له : ائتدْ . . . حَسْبي وحسبُك ضَوْءُها مصباحا
فسكبْتُ منها في الزجاجة شَرْبَةً . . . كانت له حتى الصباح صَبَاحَاوهذا كقوله : الوافر :
وخَمَّارٍ أنَختُ عليه ليلاً . . . قلائصَ قد تَعِبْن من السِّفار
فترجم والكَرَى في مُقْلَتيهِ . . . كمخمورٍ شكا ألم الخُمَارِ
أبِنْ لي كيف صِرْتَ إلى حريمي . . . وجَفْنُ الليلِ مكتحل بقَارِ
فقلت له : تَرفّق بي ، فإني . . . رأيتُ الصبحَ من خَلَلِ الديارِ
فكان جوابُه أنْ قال : كلاّ . . . وما صبح سوى ضوء العُقَار
وقام إلى الدِّنانِ فسدَ فَاها . . . فعاد الليلُ مسدولَ الأزارِ
وقال بعض المحدَثين : الكامل :
ما زال يَشْربُها وتُشْرِبُ عَقْلَهُ . . . خبلا ، وتُؤْذِنُ رُوحه بَرَوَاحِ
حتى انثنَى متوسَداً بيمينهِ . . . سَكَراً ، وأَسْلَمَ رُوحَه للرَاحِ
وقال الصنوبري وذكر شَرْباً : الكامل :
نازعتهمْ كأسا تخالُ نَسِيمَها . . . مِسْكاً تضوَعَ في الإناء عَتِيقَا
شقتْ قِناعَ الفَجْرِ لما غادرَتْ . . . كف النديم قناعَها مَشْقُوقا
صبغت سوادَ دُجَاهُ حمرةُ لونها . . . فكأنه سَبَجٌ أُعِيد عقيقا
وقال أبو الشَيص : الطويل :
وكأس كَسَا الساقي لنا بعد هَجْعةٍ . . . حَواشِيها ما مجَ من ريقة العِنَبْ
كأنَ اطرادَ الماءَ في جَنَباتها . . . تربع ماء الدرّ في سُبُك الذهَبْ
سقاني بها ، واللَيْلُ قد شابَ رَأسُهُ . . . غزالٌ بحنَاء الزجاجةِ مختَضِبْوقال أبو عدي الكاتب : الطويل :
وليس لها حدّ تُحِيطُ بوَصْفِهِ . . . لغاتٌ ، ولا جِسْم يباشره لَمْسُ
ولكنه كالبرقِ أَوْمَضَ ماضياً . . . فلم يَبْقَ منه غيرُ ما تَذكُرُ النفْسُ
وقال ابن المعتز : الطويل :
ألا فاسقِنِيهَا قد مشى الصبح في الدُجَى . . . عُقَاراً كمثل النارِ حمراءَ قَرْقَفا
فناولني كأساً أضاءت بَنَانهُ . . . تَدَفقُ ياقوتاً ودُرًا مُجوَفا
ولمّا أريناها المزاج تسعَرت . . . وخِلْت سَنَاهَا بارقا قد تكَشفا
يطوف بها ظَبْيٌ من الإنس شادِنٌ . . . يقلّب طَرْفاً فاسقَ اللَحْظِ مُدْنَفا
عليم بأسرار المحبين حاذق . . . بتسليم عينيهِ إذا ما تخوفا
فظل يُنَاجيني يُقَلّب طَرْفَهُ . . . بأطيَب من نَجْوَى الأماني وأَلطَفا
وقال : الطويل :
أَلا عُجْ على دار السرور فسلِّمِ . . . وقل : أينَ لذَّاتي وأين تكلمي ؟
وقل : ما حَلَتْ بالعين بعدك لذة . . . سواكِ ، وإنْ لم تعلمي ذاك فاعلمي
وصفراءَ من صبغ المِزَاج برأسها ، . . . إذا مُزِجت ، إكليلُ دُرّ منظم قطعتُ بها عُمْرَ الدُجى وشربْتُها . . . ظلامية الأحشاء نوريّة الدَم
من إنشاء بديع الزمان الهمذاني
كتب أبو الفضل بديع الزمان إلى أبي عدنان بن محمد الضبي يعزيه عن بعض أقاربه : الوافر :
إذا ما الدهرُ جر على أُناسٍ . . . حوادِثَه أناخَ بآخرينا
فقلْ للشامتين بنا أفِيقوا . . . سيَلْقَى الشامتون كما لقينا
أحْسَنُ ما في الدهر عمومُه بالنوائب ، وخصوصه بالرغائب ، فهو يَدْعو الجَفَلى إذا ساء ، ويخصُّ بالنعمة إذا شاء ، فليفكر الشامت ؛ فإن كان أفلت ، فله أنْ يَشْمت ، ولينظر الإنسانُ في الدهر وصُروفِه ، والموتِ وصنوفِه ، من فاتحةِ أمْرِه ، إلى خاتمة عُمْرِه ؛ هل يجدُ لنَفسه ، أثراً في نَفسِه ؟ أم لتدبيره ، عَوْناً على تَصْويره ، أم لعمله ، تقديماً لأمله ، أملِحيله ، تأخيراً لأجَلِه ؟ كلا ، بل هو العَبْدُ لم يكن شيئاً مذكوراً ، خُلق مَقْهوراً ، ورُزِق مقدوراً ، فهو يَحْيَا جَبْراً ، ويهلك صَبْراً ، وليتأمَل المرءُ كيف كان قَبلاً ، فإن كان العَدَمُ أصلاً ، والوجودُ فضلاً ، فليعلم الموت عَدْلاً ؛ فالعاقل من رَقَع من جوانب الدهر ما ساءَ بما سترّ ، ليذهب ما نَفَع بما ضر ؛ فإن أحب ألاَّ يحزن فلينظر يَمنة ، هَلْ يرى إلاّ مِحْنة ، ثم ليعطف يَسْرَة ، هل يرى إلاّ حَسْرَة ؟ ومثلُ الشيخ الرئيس - أطال الله بقاءه - من فَطن لهذه الأشرار ، وعَرف هذه الديار ، فأعدَّ لنعيمها صَدْراً لا يملؤه فرحاً ، ولبؤسها قَلْباً لا يطيره تَرَحاً ، وصحت البريَّة برأي من يعلم أنّ للمتعة حدَّا ، وللعارِية رَدًّا ، ولقد نُعِي إلي أبو قبيصة ، قدّس الله رُوحه ، وبرَّد ضريحه ، فعُرِضت عليَّ آمالي قُعوداً ، وأمانيَ سوداً ، وبكيت ، والسخيُ جودُه بما يملك ؛ وضحكت ، وشرُ الشدائد ما يُضْحِك ، وعضضت الأصبع حتى أدْمَيْتُه ، وذممت الموتَ حتى تمنيته ؛ والموتُ أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خَطْبٌ قد عظُم حتى هان ، وأمر قد خشن حتى لاَنَ ، ونكْرٌ قد عَمَ حتى عادَ عرْفا ؛ والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخفَّ خطوبها ، وقد خبثت حتى صار أقل عيوبِها ، ولعلّ هذا السهم قد صاب آخر ما في كِنَانتها ، وأنكأ ما في خزانتها ، ونحنُ معاشِرَ التبَع نتعلمُ الأدبَ من أخلاقه ، والجميلَ من أفعاله ، فلا نحثّه على الجميل وهو الصبر ، ولا نرغَبه في الجزيل وهو الأجر ؛ فَليَرَ فيهما رأيه إن شاء الله .
وله إلى بعض إخوانه جواباً عن كتاب كتبه يهنِّيه بمرض أبي بكر الخَوارزمي وكانت بينهما مُقارَعة ، ومنازعة ، ومنافَرة ، ومهاتَرة ؛ ولهما مجالس مستظرفة قهره البديعُ فيها وبَهَره ، وبكته حتى أسْكَتَه ، ليس هذا موضعها ، لكني أذْكُر بعد هذه الرسالة بعضَ مكاتبات جرَتْ بينهما ؛ إذ كان ما لهما من الابتداء ، والجواب آخذاً بوَصلِ الحكمة وفَصْلِ الخطاب : الحر أطال الله بقاءك - لا سيما إذا عرف الدهرَ معرفتي ، ووصف أحوالَه صفتي - إذا نظر علم أن نِعَمَ الدَهْرِ ما دامت معدومة فهي أماني ، وإن وُجِدت فهي عَوَاري ، وأن مِحَنَ الأيام وإن طالت فستنفد ، وإن لم تُصب فكأن قَد ، فكيف يشمت بالمِحْنَة مَن لا يأمنها في نَفْسِه ، ولا يَعْدَمها في جنْسِه ، والشامت إن أقلَتَ فليس يَفُوت ، وإن لم يَمُتْ فسيموت ؛ وما أقبَح الشماتة ، بمن أمِن الإماتة ، فكيف بمَنْ يتوقعها بعد كلّ لحظة ، وعَقِبَ كل لفظة ، والدَهرُ غًرثَان طُعمُه الخِيَار ، وظمآن شِرْبُه الأحرار ، فهل يشمت المرءُ بأنياب آكِلِه ، أميُسَرُ العاقل بسلاح قاتله ؟ وهذا الفاضل شفاه اللّه وإن ظاهرْناه بالعداوة قليلاً ، فقد باطَنَّاهُ وُداً جميلاً ، والحرُّ عند الحميةِ لا يصطادُ ، ولكنه عند الكرم يَنْفَادُ ، وعند الشدائد تَذْهَبُ الأحقاد ، فلا تتصور حالتي إلا بصورتها من التوجُّع لعلَته ، والتحزُّن لمرضته ، وقَاهُ واللَهُ المكروه ، ووقاني سماعَ المحذور فيه ، بمَنِّه وحَوْله ، ولُطْفِه وطَوْله .
قال البديع في سياقة أخباره مع أبي بكر الخوارزمي : أولها أنّا وطئنا خُرَاسان ، فما اختَرْنا إلاّ نيسابور داراً ، وإلاّ جوار السادة جَوَارا ، لا جرم أنا حَطَطْنا بها الرَّحْلَ ؛ ومدَدْنا عليها الطُنُبَ ، وقديماً كنّا نسْمَعُ بحديث هذا الفاضل فنتشوَقه ، وبخبرِه على الغَيْبِ فنتعشّقه ، ونقذّر أنا إذا وطئْنا أرْضَه ، وورَدنا بلدَه ، يخرج لنا في العِشرة عن القشْرَة ، وفي المودَّةِ عن الجلدة ، فقد كانت كلمةُ الغُرْبة جَمَعَتْنا ، ولُحْمَةُ الأدب نَظَمتْنَا ، وقد قال شاعر القوم غير مدافع : الطويل :
أجَارَتَنا إنّا غريبانِ ها هُنا . . . وكلُّ غريبٍ للغريبِ نَسِيبُ
فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف ، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف ، وكان قد اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق ، لم يوجبه استحقاق ، من بزّة بَزّوها ، وفِضَّة فضّوها ، وذهب ذهبوا به ، ووردنا نيسابور برَاحَةٍ ، أنْقَى من الراحة ، وكيس أخْلى من جَوْفِ حمار ، وزي أوْحَشَ من طلْعة المعلَم ، بل اطلاعة الرقيب ، فما حَلَلْنَا إلاّ قصبة جواره ، ولا وَطِئْنا إلا عتَبة دَارِه ؛ وهذا بعد رُقْعَةٍ قدَمْنَاها ، وأحوالِ أُنْسٍ نظمناها .
ونسخة الرقعة : أنا بقُرْب الأستاذ أطال اللَّهُ بقاه كما طَرِب النّشْوَان مالَتْ به الخمرُ ، ومن الارتياح للقائه كما انتفض العُصفور بلّله القَطْرُ ، ومن الامتزاج بولائه كما التقَت الصَهباءُ والبارد العَذْبُ ، ومن الإبتهاج لمَزَاره كما اهتزّ تحت البارح الغُصُنُ الرَطْبُ ، فكيف نَشَاطُ الأستاذ سيدي لصديق طرأ إليه ممَا بين قَصبتي العراق وخُرَاسان ، بل عتبتي نيسابور وجرجان ؟ وكيف اهتزازه لضيف : الكامل :
رثّ الشمائل مُخْلَق الأثْوَابِ . . . بَكَرَتْ عليه مُغيرَةُ الأعْرَابِ
وهو - أيّدَه الله - وليُ إنعامه ، بإنفاذ غُلاَمه ، إلى مستقري ، لأُفضي إليه بما عندي - إن شاء الله - .فلمّا أخذتنا عَيْنُه سقانا الدُّرْدِيّ من أوَلِ دَنّه ، وأجْنَانا سوءَ العِشرة من باكورة فنّه ، من طَرْفٍ نَظَر بشَطْرِه ، وقيام دَفَع في صَدْرِه ، وصديق استهان بقَدْرِه ، وضيف استخفّ بأمره ؛ لكنّا أقطعناه جانب أخلاقه ، وولَيناه خُطَة نفاقه ؛ فواصلناه إذ جَانَب ، وقارَبْنَاه إذ جاذب ، وشَرِبنَاه على كُدُورته ، ولَبسْناه على خُشُونته ، ورَدَدْنا الأمر في ذلك إلى زيّ استغثّه ، ولباس استرثّه ، وكاتبناه نستمدُّ وِداده ، ونستلِينُ قيادَه ، ونُقيمُ منْآدَه ، بما هذه نسخته .
الأستاذ أبو بكر ، واللَّهُ يطيل بقاءه ، أزْرَى بضيفه أن وجده يَضْرِب إليه آبَاط القلَّة ، في أطمار الغُرْبة ، فأعمل في رُتْبَتِه أعمالَ المصارفة ، وفي الاهتزاز إليه أصناف المضايقة ، من إيماء بنِصْفِ الطرْف ، وإشارة بشَطْرِ الكفّ ، ودَفْعٍ في صدر القيام عن التمام ، ومَضْغٍ للكلام ، وتكلُفٍ لردِّ السلام ؛ وقد قبلت ترتيبه صَعَراً ، واحتملته وزراً ، واحتضَنْته نكراً ، وتأبطته شرًّا ، ولم آلهُ عُذْراً ؛ فإن المرءَ بالمال وثياب الجمال ، ولستُ مع هذه الحال وفي الأسمال ، أتقزّز من صَفِّ النعال ، فلو صدَقتُه العتَاب ، وناقشته الحساب ، لقلت : إنَّ بوادِينا ثاغية صباح ، ورَاغية رَوَاح ، وناساً يجرّون المَطارِف ، ولا يمنعون المعارف : الطويل :
وفيهمْ مقاماتٌ حِسَان وجوهُهمْ . . . وأنْدِيَة يَنتابُها القَوْلُ والفِعْلُ
فلو طوّحت بأبي بكر - أيدَه اللَّهُ - إليهم مطارحُ الغُرَبة ، لوجد منزلَ البشْرِ رحيباً ، ومحطّ الرَحْل قريباً ، ووَجه المُضِيف خصيباً ؛ فرأي الأُستاذ أبي بكر ، أيّده اللّه ، في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه وُد ، والمرَ الذي يَتْلُوه شَهْد ، موفقٌ إن شاء الله . فأجاب بما نسخته : وصلتْ رُقْعَةُ سيدي ورئيسي أطال الله بقاه إلى آخر السكْبَاج ، وعَرَفت ما تضمّنه من خَشِنِ خطابه ، ومُؤْلم عِتَابه ، وصرفت ذلك منه إلى الضجْرةِ التي لا يخلو منها مَنْ مسَّه عُسر أو نَبَا به دهر ؛ والحمد لله الذي جعلني موضعَ أُنْسِه ، ومظنَّةَ مشتكى ما في نفسه ، أما ما شكاه سيدي ورئيسي مِنْ مضايقتي إياه في القيام ، فقد وفيته حقّه - أيدَه اللَّهُ - سلاماً وقياماً ، على قَدْرِ ما قدَرْت عليه ، ووصلت إليه ، ولم أرْفَعْ عليه إلاّ السيد أبا البركات العلوي أدام الله عزّه ، وما كنتُ لأرفع أحداً على مَنْ أبوه الرسول ، وأمهُ البَتُول ، وشاهداه التوراة والإنجيل ، وناصراه التأويل والتنزيل ، والبشير به جبريلوميكائيل ؛ فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصفَ : حسن عشرة ، وسداد طريقة ، جمال تفصيل وجملة ، ولقد جاوَرْتُهم فأحمدت المَراد ، ونلت المرَاد : الطويل :
فإن كنت قد فارقت نجداً وأهلَه . . . فما عهد نجدٍ عندنا بذميمِ
واللّه يعلم نيّتي للأحرار كافة ، ولسيدي من بينهم خاصة ؛ فإن أعانني الدهرُ على ما في نفسي بلغتُ له ما في النية ، وجاوزْتُ به مسافةَ القَدْر والأمنية ، وإن قطع علي طريقَ عزْمي بالمعارضة ، وسوء المناقضة ، صرفتُ عِنَاني عن طريق الاختيار ، بيد الاضطرار : الطويل :
فما النفسُ إلاّ نطفة بقَرارة . . . إذا لم تكدر كان صفواً غَدِيرُها
وبعد ، فحبذا عتابُ سيدي إذا استوجَبْنَا عَتبا ، واقْتَرفْنَا ذنْبا ؛ فأما أن يسلفنا العَربَدة فنحن نَصُونُهُ عن ذلك ، ونَصُونُ أنفسنا عن احتماله ، ولست أسومه أن يقول : ' أسْتَغْفِرْ لنا ذنُوبَنَا إنا كُنا خاطِئينَ ' ، ولكن أسأله أن يقول : ' لا تَثْرِيبَ عَلَيْكمُ اليومَ يَغْفِرُ اللَهُ لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الراحِمِينَ ' .
فحين وَرَدَ الجواب وعينُ العذْر رَمِدَة تركناه بِعُرَه ، وطوَينَاهُ عَلَى غَره ، وعمدنا إلى ذكره فسحَوْناه ، ومن صحيفتنا مَحَوْناه ، وصِرْنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه ، وتنكبْنَا خطته ، وتجنبنا حِطّته ، فلا طرنا إليه ، ولا صِرنا به ، ومضى على ذلك الأسبوع ، ودبَّت الأيام ، ودرَجت الليالي ، وتطاولَتِ المُدة ، وتصرم الشهرُ ، وصِرْنا لا نُعِيرُ الأسماعَ ذِكْرَهُ ، ولا نودعُ الصدورَ حَديثَه ؛ وجعل هذا الفاضل يستزيد ، ويستعيد ، بألفاظ تقطعها الأسماع من لسانه ، وتؤديها إليٌ ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه ، وتُعِيدها علي ؛ فكاتبناه بما هذه نسخته : أنا أرِدُ من الأستاذ سيدي - أطال اللّه بقاه - شِرعَة وُده وإن لم تَصفُ ، وألبَسُ خلعة بره وإن لم تَضْفُ ، وقَصارَاي أن أكيله صاعاً عن مد ؛ فإني وإنْ كنتُ في الأدب دَعِي النسب ، ضيق المضْطَرب ، سيئ المنقلَب ، أمتُ إلى عشرة أهله بنيِقَة ، وأنزع إلى خدمَة أصحابه بطريقة ، ولكن بقي أن يكون الخليطُ مُنصِفاً في الوداد ، إذا زرْت زَارَ ، وإنْ عُدْت عاد ، وسيدي - أبقاه الله - ناقشني في القبول أولاً ، وصارَمَني في الإقبال آخراً ؛ فأما حديثُ الاستقبال ، وأمرُ الإنزال والأنزال ، فنِطَاقُ الطمع ضيق عنه ، غيرُ متسع لتوقعه منه ،وبعد فكلفة الفَضلِ بينة ، وفروض الودِّ متعيّنة ، وأرْضُ العشرة ليِّنة ، وطرقها هينة ، فلمَ اختار قَعود التعالي مركباً ، وصعودَ التغالي مَذْهَبا ؛ وهلا ذاد الطير عن شجر العِشْرَة ، وذاق الحُلْوَ من ثمرها ؛ فقد علم اللّه أن شوقي إليه قد قدَّ الفؤادَ بَرْحاً إلى برح ، ونكَأَه قَرْحاً إلى قرح ، ولكنها مِرّة مُرة ، ونَفْسٌ حرّه ، لم تُقَد إلا بالإعظام ، ولم تُلْقَ إلاّ بالإجْلاَلِ والإكرام ، وإذا استعفاني من معاتبته ، فأعْفَى نفسه من كُلَفِ الفَضْلِ يتجشَّمها ، فليس إلاَ غصص الشوق أتجَرَعُها ، وحُلل الصبْر أتدرَعها ، ولم أعره من نفسي ، وأنا لو أُعِرْتُ جناحَيْ طائر لما طِرْت إلا إليه ، ولا وقعت إلاّ عليه : الطويل :
أحبك يا شَمْسَ النهار وبَدْرَهُ . . . وإنْ لامني فيك السها والفَرَاقِدُ
وذاك لأنّ الفضلَ عندك باهر . . . وليس لأنّ العيشَ عندك بارِدُ فلمّا وردت عليه الرُّقعة حشَد تلاميذَه وخَدَمه ، وجَشِم للإيجاب قدمه ، وطَلَع علينا مع الفجر طلوعُه ، ونظمتنا حاشيتا دار الأمير أبي الطيب ؛ فقلْنا : الآن تُشْرِق الحشمةُ وتنور ، وننجِدُ في العشرة ونُغَوَر ، وقصدناه شاكرين لمّا أتاه ، وانتظرْنا عادةَ بره ، وتوقعْنا مادَةَ فضله ؛ فكان خُلبا شمْنَاه ، وآلا ورَدْنَاه ، وصرفنا في تأخّره وتأخّرِنا عنه إلى ما قاله ابن المعتز : الرجز :
إنا على البعاد والتفرُقِ . . . لنلْتقِي بالذكْرِ إنْ لم نَلْتَقِ
وأنشدنا قول ابن عصرنا : الوافر :
أُحبك في البتول وفي أبيها . . . ولكني أُحِبّك من بعيدِ
وبقينا نَلْتَقي خيالاً ، ونقنع بالذكر وصالاً ، حتى جعلت عواصفه تهُب ، وعقاربه تَدِب .
والمجلس طويل جداً .
قلت : إن كنتُ خرجتُ لطولِ هذا الكلام عن ضبط الشرط ، فلعلي أسامَح فيه لفضله ، وعدم مثله ، وهو وإن كان في باب الاتصال ، فهو بتقدير الانفصال ، لقيامِ كل رسالةِ بذاتها ، وانفرادها بصفاتها .وكتب إلى رئيس هَرَاةَ عدنانَ بن محمد يصفُ ما جرى بينه وبين الخوارزمي : ما ألوم هذا الفاضل على بساط شَرٍّ طواه ، وموقد حَرْبٍ اجتواه ، ولكني ألُومُه على ما نواه ؛ ثم لم يتبع هواه ، ورامَه ، ثم لم يبلغ آثَامه ، وأقولُ : قد ضرب فأيْنَ الإيجَاع ؟ وأنْذَر فأين الإيقاع ؟ وهذه بَوارِقه ، فأيْنَ صواعقه ؟ وذلك وعيدُه ، فأين عديده ؟ وتلك بنودُه ، فأين جنودُه ؟ وأنشد : الكامل :
هذي معاهده فأين عهودُهُ ؟
وما أهْول رَعْدَه ، لو أمطر بعده اللهمَ لا كُفْرانَ ، ولعن اللَهُ الشيطان ، فإنه أشفق لغريب أن يُظْهِرَ عَوارَه ، وإن طارَ طَوارَه ، وإنْ كان قصد هذا القَصْدَ فقد أساء إلى نفسه من حيث أحْسَنَ إليَّ ، وأَجْحَفَ بفضله من حيث أبْقَى عليَ ، وأَوْهم الناس أنه هاب البَحْر أن يخوضه ، والأسَدَ أن يَرُوضَه ، وشجّعني على لقائه ، بعدما بَرَعني بإيمائه ، فبينما كنت أُنشد : الخفيف :
إنَ جنْبي على الفراش لناب
إذ أنشدت : الخفيف :
طاب لَيْلِي وطاب فيه شَرَابِي
وبينما أنا أقول : الخفيف :
ما لقلبي كأنه ليس مني
إذْ قلت : الخفيف :
أين مَنْ كان موعِداً لي بأني
فلو أن هذا الفاضلَ قضى حقنا بالزيارة عند قدومِنا أو الاستزارة ، لكان في الضرب أحسن ، وفي طريق المعاشرة أذهب ، لا ، ولكنه وعدَ بالمُباراة أولاً ، وهددنا بالمسائل ثانياً ، وأخلف بالتخلف ثالثاً ؛ فأبْلِغْ وَجْدِي إليه ، واعْرِض شوقي عليه ، وقلْ له إن كنت ندمت على النضال ، فلا تندَمْ على الإفضال ، فإن طَوَيتنا حيث الجهاد ، فانشُرْنا حيثُ الوداد ، وإن لم تلْقَنا في باب المكاشرة ، فأْتنا من بابِ المعاشرة .وله إلى الإمام أبي الطيب سهل بن محمد : قد كان الشيخُ يَعِدُني عن هذه الحضرة عِدَاتٍ أشمّ لها الأنف ، لا ذهاباً بتلك الفواضل عنها ، لكن استحالةً من هذا الزمان أن يجودَ بها ؛ فحين أسرفْتُ على الْحَضْرَة ماجَتْ إليّ أمواجُ الشرف منها ، وخلص إليّ نسيمُ الكَرَم عنها ، وأتْحَفني على رسم الإجلال بمركوب شامخ ، ومركب ذهبٍ سابغ ، وجنيبِ شرف زائد ؛ وسرتُ بحمد اللّه محفوفاً بأعيانِ الكتّاب ، وعيونِ الرجال ، حتى شافَهْتُ بِسَاطَ العز ، مستقبَلاَ مَلِكَ الشرق أدام الله عُلُوَه ، فجذب بضَبْعَيّ عن أرْضِ الخدمة ، إلى جوارِ وليّ النعمة ، حرس اللَّهُ مكانه ، فاهتزَّ اهتزازاً فات سِمَة الإكرام ، وتجاوز اسْمَ الإعظامِ إلى القيام ، فقبلتُ من يُمْناه مِفْتَاح الأرزاق ، وفتاح الآفاق ، ولحقت منه بقاب العُقاب ، وخاطبني بمخَاطبات نَشَدْتُ بها ضالَةَ الكِرام ، وهلمّ جرّا إلى ما تبعها من جميل الإنزال ، وسَنيّ الأجْزَال .
وطرأت من الشيخ العميد على شَخْصِ يسَعُه الخاتم ، ولا يَسعُه العالَم ، ويهتز عند المكارم كالغُصن ، ويثبت عند الشدائد كالرُكْن ، وسلطانٍ يحلم حِلْمَ السيفِ مُغْمداً ، ويغضب مجرداً ، فهو عند الكرم لَيِّنٌ كصَفْحَتِه ، وعند السياسةْ خشِنٌ كشَفْرته ، وملك يَأْتي الكرمَ نيّة ، والفضلَ سجيّة ، ويفعل الشرّ كُلْفَة أو خطيَّة ، فهو ضَرُور بآلاته ، نَفُوع بذاته ، عطارد قَلَمُه ودَوَاتُه ، والمرّيخ سَيْفُه وقَنَاتُه ، عيْبُه أنْ لا عَيْبَ فيه ، فيصرف عَيْن الكمال عن معاليه . وصادفت من الشيخ الموفق ، أيده الله ، مَلكاً يُشاهَدُ عِيَاناً ، وجبلاً قد سُمِّي إنساناً ، وحسناً قد مُلِئ إحساناً ، وأسداً قد لقَبَ سلطاناً ، وبَحْراً قد أمسكَ عِنانا ، وحطَطْتُ رَحْلِي بفناء الأمير الفاضل أبي جعفر أدام الله عِزَّه ، فوجدت حكمي في ماله أنْفَذَ من حكمه ، وقَسْمِي من غِنَاه أوْفَر من قَسْمه ، واسْمِي في ذات يده مقدَّماً على اسْمِه ، ويَدِي إلى خزانته أسْرَعَ من يَده ، وإن قصدت أنْ أُفْرِدَ لكل مدحاً ، وأعبر الجملة شرحاً ، أطَلْت ، فهلم جرّا إلى ما افتتحت الكتاب لأجله .
ورد للخوارزمي كتاب يتقلّب فيه على جَنْبِ الحردِ ، ويتقلّى على جَمْر الضجَر ، ويتأوه من خُمار الخجل ، ويتعثرُ في أَذْيالِ الكَلَل ، ويذكر أنَّ الخاصة قد علمت لأينا كانالفَلْج ، فقلت : است البائن أعلم ، والخوارزمي أعْرَف ، والأخبار المتظاهرة أعدل ، والآَثار الظاهرة ، أصْدَقُ ، وحَلْبة السباق أحْكَم ، وما مضى بيننا أشهد ، والعَوْدُ إن نَشِط أحْمَد ، ومتى استزاد زِدْنا ، وإن عادت العقرب عُدْنا ، وله عندي إذا ما شاءَ ، كل مَا شَاء وهي طويلة فيها هَنات صُنْتُ الكتابَ عنها ، وقد أعادَ البديع معنى قوله في صدر حكايته مع الخوارزمي ، فقال في رقعة كتبها إلى سعيد الإسماعيلي ، وقد وقفت به الضرورةُ على تلك الصورة من سلب العرب ماله : كتابي ، بل رُقْعتي ، أطال الله بقاءَ الشيخ ، وقد بكرت عليَ مُغِيرَةُ الأعراب ، كمهلهل ، وربيعة بن مُكدَم ، وعتيبة بن الحارث بن هشام ، وأنا أحمد الله ، إلى الشيخ الفاضل ، وأذمُ الدهر ؛ فما ترك لي من فِضَةٍ إلاَ فضها ، ولا ذهبِ إلا ذَهب به ، ولا عِلْق إلا عَلَقه ، ولا عَقَار إلاّ عَقَرَه ، ولا ضَيْعَة إلاّ أضاعها ، ولا مال إلاّ مال إليه ، ولا سَبَدٍ إلا استبدَّ به ، ولا لَبَد إلا لَبَد فيه ، ولا بِزّة إلاَ بَزَّها ، ولا عارية إلا ارتجعها ، ولا وَدِيعة إلاّ انتزعها ، ولا خِلْعة إلاّ خلعها ، وأنا داخل نيسابور ولا حِلْية إلا الجلدة ، ولا بُرْدَ إلا القشْرَة ، واللّه وليُّ الخلف يعجِّله ، والفرج يسهِّلة ، وهو حَسْبي ونعمْ الوكيل .
وليس البديع بأبي عذرة هذا الخطاب ، وسترى نظير هذا المعنى في هذا الكتاب .
ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح الإسكندري
قال : حدَّثني عيسى بن هشام قال : كنتُ في بعض بلاد بني فَزارة مرتحلاً نَجيبة ، وقائداً جَنِيبَة ، يَسْبحانِ سَبْحا ، وأنا أهيم بالوطن ، فلا الليل يَثْنيني بوعيده ، ولا البُعْد يُدْنيني بِبيدِه ، وظَلِلْتُ أخْبِط ورقَ النَّهار ، بعصا التسيار ، وأخوضُ بَطْنَ الليل ، بحوافر الخيلِ ، فبينما أنا في ليلةٍ يضلُّ بها الغَطَاط ، ولا يُبْصر بها الوَطْوَاط ، أسْبَحُ ولا سانح إلاّ السبع ، ولا بارح إلا الضَّبع ، إذ عنّ لي راكب تامّ الآلات ، يطوي منشور الفَلوات ، فأخذني منه ما يأخذُ الأعْزَلَ من شاكي السلاح ، لكني تجلَدت فقلت : أرضَكَ لا أُمّ لك فدونك شَرْطُ الحِداد ، وخَرْطُ القَتَاد ، وخَصْم ضخم ، وحمية أزْدِية ، وأنا سِلْم إن شئت ، وحَرْبٌ إنأردت ، من أنت ؟ قال : سلماً أصبت ، قلت : خيراً أجبت ، قلت : فمن أنت ؟ قال : نصيح إن شاورت ، فصيح إنْ حاوَرْت ، ودون اسمي لِثام ، لا تُمِيطه الأعلام . قلت : فما الطُعمة ؟ قال : أجُوت جُيوبَ البلاد ، حتى أقع على جَفْنَة جَوَاد ، ولي فؤاد يَخْدُمه لسان ، وبيان يَرْقمه بَنَان ، وقصارَايَ كريمٌ ينفض إليّ حقيبته ، ويخفف لي جَنِيبته ، كابن حُرّة طلع إلي بالأمس ، طُلوع الشمس ، وغرب عني بغُروبها ؛ لكنه غاب ولم يَغِبْ تذكارُه ، وودَّع وشيّعَتْني آثارُه ، ولا ينبئك عَنْها أقرَبُ منها ، وأومأ إلى ما كان يَلْبسه ، فقلت : شحاذ وربَ الكعبة أخاذ ، له في الصَنْعة نَفَاذ ، بل هو فيها أستاذ ، ولا بدّ أن تَرْشَح له وتَسِخَ عليه ، وقلت له : يا فتى ، قد أجليت عبارتك ، فأَين شعرُك من كلامك ؟ فقال : وأين كلامي من شعري ثم استمدّ غريزته ، ورفع عقيرته ، بصوت ملأ الوادي ، وأنشأ يقول : الطويل :
وأرَوَع أهداه ليَ الليلُ والفَلاَ . . . وخَمْسٌ تمسُ الأرْض لكن كلا وَلاَ
عَرَضْتُ على نارِ المكارمِ عُودَهُ . . . فكانَ مُعمًّا في السوابق مُخْولا
وخادَعْتُه عن ماله فخَدَعْتُه . . . وسَاهَلْتُه في بِرّه فتسهَلا ولما تجالينا وأحمدَ مَنْطِقي . . . بَلاَني في نَظْمِ القريضِ بما بَلاَ
فما هَزَ إلا صارماً حين هزَّني . . . ولم يَلْقني إلا إلى السَبْقِ أَوَلا
فلم أَرَه إلاّ أغَرَ محجّباً . . . وما تحتَه إلا أغَرَ محجلاَ
فقلت : على رِسْلك يا فتى ، ولك مما يصحبني حكمك . فقال : الجنيبة ، قلت : إن وما عليها . ثم قبضت بجُمعي عليه ، وقلت : لا والله الذي ألهمها لَمسا ، وشقّها من واحدة خَمْسا ، لا تُزايلنا أو نَعْلَم عِلْمك ، فحدَر لِثامه عن وَجهه ، فإذا واللّه شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، فما لبثت أن قلت : الهزج :
توشحتَ أبا الفتح . . . بهذا السيفِ مُخْتالا
وما تصنعُ بالسيف . . . إذا لم تَكُ قتالا ؟
فصُغْ ما أنت حليت . . . به سيفَك خلخَالا
وعلى ذكر قوله : إنَّ وما عليها ، قال أبو عبيدة : وَفَدَ عبدُ الله بن الزبير الأسديعلى عبد الله بن الزُّبَيْرِ بن العوام فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنَ بيني وبينك رَحِماً من قِبَل فلانة الكاهلية ؛ هي أُختنا ، وقد ولدتكم ، وأن ابنُ فلان ؛ فلانة عمّتي . فقال ابنُ الزبير : هذا كما ذكرت ، وإن فكّرت في هذا أصبت ، الناسُ كلّهم يرجعون إلى أبٍ واحدٍ ، وأم واحدة .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّ نَفَقتي قد ذَهَبَتْ . قال : ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أنْ تَرْجِع إليهم . قال : يا أمير المؤمنين ، إن ناقتي قد نَقِبت ودَبَرتِ . فقال له : أنْجِدْ بها يَبْرُدْ خفّها ، وارقَعْها بسِبْت ، واخْصِفْها بهُلْب ، وسِرْ عليها البريدين . قال : يا أمير المؤمنين ، إنما جئتك مستَحْمِلاً ، ولم آتِك مستوصفاً ، لعن اللَّهُ ناقةً حملتني إليك . قال ابنُ الزبير : إنَ وراكِبَها فخرج وهو يقول : الوافر :
أرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْب . . . نكِدْنَ ، ولا أُمَيةَ في البلادِ
من الأعياص أو مِنْ آل حَرْبٍ . . . أغرّ كغُرَّةِ الفرس الجوادِ
وما لي حين أقْطَع ذاتَ عِرْقٍ . . . إلى ابنِ الكاهلية من مَعاد
وقلت لصحبتي أدْنُوا ركابي . . . أفارِقْ بَطْنَ مكَّةَ في سَوَادِ
فبلغ شعره هذا عبد الله بن الزبير ، فقال : لو علم أنّ لي أُمًّا أخَسَ من عمّته الكاهلية لنسبني إليها ، وكان ابنُ الزبير يكنى أبا بكر وأبا خُبَيْب .
قال الصولي : أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرساً أشهب أحم ، كان عنده مَكِيناً ، وكان به ضَنيناً ، فقال يَرْثيه : الكامل :
قالوا : جزعت ، فقلتُ : إنّ مصيبةٌ . . . جلّت رزيَّتُها ، وضاق المذهبُ
قال أبو بكر : هكذا أنشدنيه ابنُ المعتز على أن إن بمعنى نعم ، وأنشد النحويون : الكامل :
قالوا : كبرتَ ، فقلتُ : إن ، وربما . . . ذَكَرَ الكبيرُ شبابَه فتَطرَّبا
الكامل :كيف العَزاء وقد مضى لسبيله . . . عنا فودّعنا الأحم الأشْهَبْ
دب الوُشاة فباعدوه ، وربما . . . بَعُدَ الفتى وهو الحبيبُ الأقْرَبُ
للّه يومَ غدوت فيه ظاعناً . . . وسُلِبْتُ قرْبَك ، أيَّ عِلْق أُسْلَب ؟
نفسي مقسّمة أقام فَرِيقُها . . . ومضى لطيَّته فريق يُجْنَبُ
الآن إذْ كَمُلَتْ أداتك كلّها . . . ودعا العيونَ إليك حُسْن مُعْجِبُ
وغدوت طَنان اللّجام كأنما . . . في كل عُضْو منك صنْجٌ يُضْرَبُ
وكأنّ سَرْجك ، إذْ عَلاَك ، غَمامةٌ . . . وكأنما تحت الغمامة كَوْكَبُ
أنْساك ؟ لا زَالتْ إذاٌ منسيةً . . . نفسي ، ولا بَرِحَتْ بمثلك تنكب
أضْمَرْتُ منك اليَأْس حين رأيتني . . . وقُوَى حبالي مِنْ حِبَالك تُقْضَب
يا صاحبيَ لمثل ذَا من أمرِه . . . صَحبَ الفتى فْي دَهْرِه من يَصْحَبُ
إنْ تُسْعِدا فصنيعةٌ مشكورةٌ . . . أو تَخْذُلا فصنيعةٌ لا تَذهبُ
عُوَجاَ فقولا : مرحبا ، وتزوَّدا . . . نظراً ، وقلّ لمن تُحِب المرحَبُ
منعَ الرقادَ جَوًى تضمَّنَه الحَشَا . . . ممّا أكابده وهَمٌ مُنْصِب
ما قيل في المزاح
قال الحجاج بن يوسف لابن القرِّية : ما زالت الحكماء تَكْرَه المُزَاح ، وتَنْهى عنه ، فقال : المُزاح من أدْنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب : المُزاح أوله فَرَح ، وآَخره تَرَح . المزاح نقائض السفهاء ، كالشعْرِ نقائض الشعراء . والمزاح يُوغِر صدْرَ الصديق ، وينفَر الرفيق . والمزاح يُبْدي السرائر ؛ لأنه يظهر المَعَاير . والمزاح يُسْقطُ المروءة ، ويُبْدِي الخنى . لم يجُرَ المزح خيراً ، وكثيراً ما جَرَ شرًا . الغالب بالمزاح وَاتِر ، والمغلوب به ثائر . والمزاح يجلب الشتمَ صغيرُه والحربَ كبيرُه ، وليس بعد الحرب إلاّ عفوٌ بعد قدرة .
فقال الحجاج : حسبك ، الموت خيرٌ من عَفْو معه قدرة .
وذُكِر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال : يُنْشِق أحدُكم أخاه مثل الخرْدَل ، ويُفْرغُ عليه مثل المِرْجل ، ويَرْميه بمثل الْجَندل . ثم يقول : إنما كنت أمزح أخذ هذا المعنى محمود بن الحسين الوراق فقال : الكامل :
تَلْقَى الفتى يَلْقَى أخاهُ وخِدْنَهُ . . . في لَحْن مَنْطِقه بما لا يُغْفَرُ
ويقول : كنت مِمازحاً ومُلاعباً . . . هيهات نارُك في الحشا تَتسعَرأو ما علمت وكان جهلك غالباً . . . أنَّ المُزَاحَ هو السبابُ الأصْغَر ؟
فقر في هذا النحو لأهل العصر وغيرهم
المَزَاحة تَذْهَبُ بالمهابة ، وتُورِثُ الضغينة . الإفراط في المُزاح مُجون ، والاقتصاد فيه ظَرْف ، والتقصير عنه نَدامة . أوكد أسباب القطيعة المِرَاء والمُزاح .
ابن المعتز - من كَثُر مُزاحُه لم يَخْلُ من استخفافٍ به أَو حِقْدٍ عليه .
قال أيوب بن القِرِّية : الناس ثلاثة : عاقل ، وأحمق ، وفاجر ؛ فالعاقل الدَينُ شريعته ، والحلم طبيعته ، والرأيُ الحسنُ سجيته ؛ إن سُئل أجاب ، وإن نطق أصاب ، وإن سَمِعَ العلم وَعَى ، وإن حدّث روى . وأمّا الأحمق فإنْ تكلم عجِل ، وإن حدّث وَهِل ، وإن استُنْزِل عن رأيه نزل ، فإن حُمِل على القبيح حَمل . وأمَا الفاجر فإن ائتمنته خانك ، وإن حدثته شَانَك ، وإن وثقتَ به لم يرعَك ، وإن استُكتِم لم يكتُم ، وإن عُلم لم يعلم ، وإن حُدّث لم يفهم ، وإن فقَه لم يَفْقَه .
الطيرة والزّجْر
قال أبو حية النميري : الطويل :
جَرَى يَوْمَ رُحْنا عامدين لأرضنا . . . سَنيح ، فقال القومُ : مَرَّ سَنيحُ
فهابَ رجال منهمُ فتغيفوا . . . فقلت لهم : جاري إلي ربيحُ
عُقَابٌ بأعقابٍ من الدار بعدما . . . نَأت نَأْية بالظاعنين طَرِيحُ
وقالوا : حمامات ، فحُمَّ لِقَاؤها . . . وطَلْح فنِيلَتْ والمطي طَلِيحُ
وقال صحابي : هُدْهُد فوق بَانةٍ ، . . . هُدَى وبيانٌ بالنجاح يَلُوحُ
وقالوا : دمٌ ، دَامَتْ مواثيقُ بيننا . . . ودام لنا حُلوُ الصفاء صَرِيحُ
لَعَيْناك يومَ البين أسْرَعُ واكفاً . . . من الفَنَنِ المَمطُور وهو مَرُوحُ
ونسوةِ شَحْشاح غَيُورٍ يَخَفْنَه . . . أخي ثقة يَلهُونَ وهو مُشيحُيقلْن ، وما يَدْرِين أنِّي سمعتُهُ . . . وهنَ بأبوابِ الخِيام جُنُوح :
أهذا الذي غنَّى بسمراء مَوْهِناً . . . أتاحَ له حُسْنَ الغِناء مُتِيحُ ؟
إذا ما تغنَى أنَ مِنْ بَعْد زَفْرَةٍ . . . كما أن من حَر السلاح جَرِيحُ
وقائلةٍ : يا دَهْمٌ وَيْحَكِ إنهُ . . . على ما به من عُنةٍ لمليحُ
فلو أن قولاً يجرحُ الجلدَ قد بدا . . . بجِلدِيَ من قول الوُشاة قروحُ
وهذا من غريب الزَّجْرِ مليحُ التفاؤل .
قال أبو العباس محمد بن يزيد : أنشدني أعرابيّ في قصيدة ذي الرمة التي أولها : الطويل :
ألا يا اسْلَمى يا دَارَميَّ عَلَى البِلَى . . . ولا زَالَ مُنْهَلاًّ بجَزعائِكِ الْقَطْرُ
بيتين لم يروهما الرواة في ديوانه ، وهما :
رأيتُ غراباً ساقطاً فوف قَضْبةٍ . . . من القَضْبِ لم يَنْبُتْ لها وَرَقٌ خُضْرُ
فقلت : غرابٌ لاغترابٍ ، وقَضْبَةٌ . . . لقضْبِ النوى هذي العيافةُ والزَّجْرُ
وقال آخر : الطويل : دعا صُرَدٌ يوماً على غُصْنِ بانةٍ . . . وصاح بذات البين منها غُرَابُها
فقلت : أتصْرِيدٌ وشَحْطٌ وغُرْبةٌ ؟ . . . فهذا لعمري نَأيُها واغْتِرابُها
وقد أكثرت العرب من ذكر الطَيرَة ، والزَّجْرِ ، وكانت تقتدي بذلك وتجري على حكمه ، حتى ورد النَّهْيُ في سنة رسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : لا عَدْوَى ولا طِيرَة ، وقد قال الأول : الطويل :
لعمرك ما تَدْرِي الضوَارِبُ بالحصى . . . ولا زَاجِراتُ الطيْرِ ما اللَهُ صانعُ
وقال ضابئ بن الحارث البرجمي : الطويل :
وما عاجلات الطير ، تُدْني مِنَ الفتى . . . نجاحاً ولا عن رَيْثهنَ يخيبُ
ولا خيرَ فيمن لا يوطَنُ نفسهُ . . . على نائباتِ الدَهْرِ حين تنوبُ
ورب أمورِ لا تَضِيرك ضَيْرةً . . . وللقلب من مَخْشاتِهنَ وَجِيبُوقال الكميت بن زيد الأسدي : الطويل :
ولا أنا ممن يَزْجُرُ الطيرَ همُّه . . . أصاح غرابٌ أم تَعَرَّضَ ثعلبُ
ولا السانحات البارحات عشية . . . أمرَّ سَليم القَرْن أم مرَ أعْضَبُ
وقال شاعر قديم : مجزوء الكامل :
لا يمنعنَّك من بُغا . . . ء الخير تَعْقادُ التَّمائمْ
ولا التشاؤم بالعُطَا . . . س ولا التَّيامُنُ بالمقاسِمْ
فلقد غَدَوت وكنت لا . . . أغدو على واقٍ وحاتم
فإذا الأشائمُ كالأيا . . . من والأيامنُ كالأشائمْ
وكذاك لا خيرٌ ولا . . . شرّ على أحدٍ بدائمْ
قد خطَّ ذلِكَ في الزَّبُو . . . ر الأوّليات القدائمْ
ولقد أحسن ابن كناسة في رثاء ولده يحيى ، أنشده أبو العباس ثعلب : الطويل :
تيمّمت فيه الفأل حتى رُزِئتهُ . . . ولم أدْرِ أنّ الفال فيه يَفِيلُ
فسمَّيْته يَحيَى ليَحيَا ؛ فلم يَكن . . . إلى ردَ أمرِ اللَهِ فيه سبيلُ
وروى المدائني قال : خرج كثير من الحجاز يريدُ مصر ، فلما قَرُبَ منها نزل بمنزل ، فإذا هو بغُرَاب على شجرة بَانٍ يَنْتِف ريشَه وَيَنْعَبُ ؛ فأسرع الرحيل ، ومضى لوجهه ؛ فلقيه رجلٌ من بني نَهْد ، فقال : يا أخا الحجاز ، ما لي أراكَ كاسِفَ اللون ؟ قال : ما علمت إلاّ خيراً ، قال : فهل رأيت في طريقك شيئاً أنكَرْته ؟ قال : لا والله إلا في منزلي هذا ، فإني رأيتُ غراباً يَنْتِف رِيشَه على بانة وَينْعَبُ . قال : أما إنك تطلب حاجةً لا تدركها .
فقدم مصر والناسُ منصرفون من جنازة عزة ، فقال : الطويل :
رأيتُ غراباً ساقطاً فَوْقَ بانةٍ . . . يُنْتِّفُ أعْلى رِيشه ويطايرُهْ
فقلت ولو أني أشاء زَجَرْتُهُبنفسيَ للنهديّ : هل أنت زاجره ؟
فقال : غراب لاغتراب من النوى . . . وفي البان بَيْنٌ من حبيب تجاورهْ
فما أعيفَ النهديَّ ، لا دَرَّ دَرّهُ . . . وأزجرَه للطير ، لا عَز ناصِرُهثم أتى قبر عزة فأناخ به ساعة ثم رحل ، وهو يقول : الطويل :
أقول ونِضْويَ واقف عند رأسها . . . عَلَيْكِ سلامُ اللَّهِ والعَيْنُ تَسفَحُ
فهذا فراق الحقّ لا أن تُزيرني . . . بلادَك فَتلاءُ الذراعين صَيْدحُ
وقد كنت أبكي من فراقِكِ حية . . . وأنت لعمري اليومَ أَنأَى وأنْزَحُ
وقال جرير : الكامل :
بَانَ الخليطُ برامَتَيْن فوَدَّعُوا . . . أوَ كُلَّما نعبوا لبَيْنٍ تَجْزَعُ
إن السَّوانح بالضُّحَى هَيجْنَني . . . في دارِ زَيْنَبَ والحمامُ الوُقّعُ
وقال عوف الراهب خلاف هذا : الكامل :
غلط الذين رأيتهمْ بجهالةٍ . . . يَلْحَوْنَ كلُهُمُ غراباً يَنْعَقُ
ما الذنبُ إلاَّ للأَباعر ؛ إنها . . . ممّا يُشِتّ جميعَهمْ ويفرّقُ
إنَّ الغرابَ بيُمْنهِ تَدْنُو النَوى . . . وتُشَتَتُ الشملَ الجميعَ الأيْنُق
وقد تبعه في هذا المذهب أبو الشيص فقال : مجزوء الرجز :
ما فرق الأحباب بَع . . . د اللَّهِ إلاّ الإبلُ
والناس يَلْحَوْن غُرا . . . بَ البينِ لَمَّا جهلوا وما على ظَهْر غُرا . . . ب البَيْن تُطوى الرُّحُلُ
ولا إذا صاح غُرا . . . بٌ في الديار احتملوا
وما غرابُ البين إلْ . . . لاَ ناقةٌ أو جَمَلُ
وما أملح ما قال القائل : الكامل :
زعموا بأنَّ مَطيَّهُمْ عَوْنُ النوى . . . والمؤْذِناتُ بفُرْقةِ الأحبابِ
وَلَوَ أنها حَتْفي لما أبْغَضتُها . . . ولها بهم سببٌ من الأسبابِوكان علي بن العباس الرومي مُفْرِطَ الطِّيرَة ، شديدَ الغلوّ فيها . قال علي بن عبد الله بن المسيب : وكان يحتجُ لها ، ويقول : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان يُحِبُّ الفأل ، ويَكْرهْ الطيرَة ؛ أفتراه كان يتفاءلُ بالشيء ، ولا يتطيَّر من ضدِّه ؟ ويقول : إن النبيّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، مرّ برجل وهو يَرْحَل ناقةً ويقول : يا ملعونة ، فقال : لا يَصْحَبُنا ملعون ، وإن علياً ، رضي اللّه عنه ، كان لا يَغْزُو غَزاة والقمرُ في العقرب ، ويزعم أن الطيرة موجودةٌ في الطباع قائمةٌ فيها ، وأن بعضَ الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض ، وأن الأكثرَ في الناس إذا لقي ما يكرهُه ، قال : على وَجْهِ من أصبحت اليوم ؟ فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين وقد أهدي إلي عدةٌ من جواري القيان ، وكانت فيهنّ صبيةٌ حَوْلاَء ، وعجوزٌ في إحدى عينيها نكتة ، فتطير من ذلك ، ولم يُظْهِرْ لي أمره ، وأقام باقي يومه ؛ فلمّا كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح ، وجفاه لقاسم بن عبيد اللّه ، فجعل سَبب ذلك المعنيين المغنيتين ، وكتب إليَّ : الخفيف :
أيها الْمُتْحِفِي بحُولٍ وعُورٍ . . . أين كانت عنك الوجوهُ الحسانُ ؟
قد لَعَمْري ركِبْتَ أمراً مهيناً . . . ساءني فيك أيها الخُلْصَانُ
فَتْحُكَ المهرجان بالحُول والعُو . . . رِ أرانا ما أعْقَب المهرجانُ
كان من ذاك فقدُك ابنتَك الْحُ . . . رة مصبوغةً بها الأكْفانُ
وتَجافي مؤمَّل لي جَليل . . . لج فيه الجفاءُ والهِجْرانُ
وعزيز عليَّ تقريع خل . . . لا يُدانيه عنديَ الخُلاَنُ
غير أني رأيت إذكارَهُ الحز . . . مَ وإشعارهُ شِعاراً يُصَانُ
لا تَهَاوَنْ بطيرة أيّها النظ . . . ار واعْلَمْ بأنها عُنْوانُ
قف إذا طيرة تلقّتك وانْظُرْ . . . واستمع ثمَ ما يقول الزَمانُ
قلما غاب من أمورك عنوا . . . ن مبين وللزَمانِ لِسَانُ
لا تكن بالهوى تكَذب بالأخ . . . بارِ حتى تهين ما لا يُهان
لا يَقُدْكَ الهوى إلى نصرة الأخ . . . بارِ حتى يقدَّم البرهانُ
إن عُقْبى الهوى هُوِيٌ ، وُعقْبى . . . طول تلك المهوَنات هَوان
لا تصدق عن النبيين إلا . . . بحديث يلوحُ فيه البيان
خبَّر اللَه أنَّ مشأمَةً كا . . . نت لقوم وخبَّر القرآن
أفَزُورَ الحديثِ تقبل أم ما . . . قاله ذُو الجلال والفُرْقانُ ؟
أترى من يرى البشيرُ بشيرا . . . يَمْتَري في النذير يا وَسْنانُفدع الهزل والتضاحك بالطي . . . رة والنصح مُثمن مجانُ
وقد فرَّق حُذاق أهل النظر في المقال ، بين الطيرة والفال ، فقالوا : الطيرة كانت العرب ترجعُ إلى ما تمضيها ، وتجري على تقضيها ، وكان الذي يهُمُ بهم إذا ما رأى ما يتطير منه رجع عنه ؛ وفي ذلك ما يصرف عن الإحالة على المقادير الجارية بيد مُمْضيها ، النازلة على حكم قاضيها ، والفَأْل لا يردّ المريد عمّا يريد إنما يُقَوَي مُنته ، ويَسُرُ مهجته ؛ وليس هذا موضع تطويل ، في إيراد الدليل .
وفي جفاء القاسم بن عبيد الله إياه يقول معاتباً : الطويل :
ألم ترني أقرضْتُك الودَ طائعاً . . . ولم تر قبلي مُعسِراً قط أقْرَضا
لعمري لقد صوّرت أبيض مشرقاً . . . فَلِمْ لا تُرِيني وَجْهَ نُعماك أبيضا ؟
فيا ويح مولاك استغاث بمشربٍ . . . فأشرق فاستشفى شفاء فأفرضا ولولا اعتقادي أنك الخيرُ كلهُ . . . لأزْمَعْتُ توديعاً ، قضى اللّه ما قَضَى
وإني وإن دارَتْ علي دوائرٌ . . . لأُعْرِض عمَّنْ صَدَ عني وأعْرَضا
وما زلت عَرَافاً إذا الزاد رانَني . . . بخبثٍ وعيّافاً إذا الماءُ عَرْمَضا
وهذا البيت كقول الآخر : الطويل :
وإنيَ للمَاء المخالط للقَذَى . . . إذا كثرت وُرَادُهُ لَعُيُوفُ
وفي ابنة المسيبي يقول ابن الرومي يعزّيه : الطويل :
أخا ثقتي أعْزِزْ عليَ بنكبةٍ . . . مَنَاك بها صَرْفُ القضاءِ المقدَرُ
صِبْتَ ، وما للمرء من حُكْمِ ربِّه . . . محيدٌ ، وأمرُ اللَهِ أعلى وأقهرُ
وقد مات من لا يخلف الدهر مثلَهُ . . . عليك من الأسلاف والحقُّ يَبْهَرُ
تعزيت عمّن أثمرتك حياتهُ . . . ووَشك التعزي عن ثمارك أجْدَرُ
لأن اختيال الدهر في ابنٍ وفي ابنةٍ . . . يسير وكرُ الدهر شيخيك أعسَرُ
تعذر أن نعتاض من أمهاتنا . . . وآبائنا ، والنسلُ لا يتعذّر
فلا تهلِكَنْ حُزْناً على ابنة جنةٍ . . . مضت وهي عند اللَّهِ تحيا وتُحْبَرُ
لعل الذي أعطاك ستر حياتها . . . كساها من اللحْدِ الذي هو اسْتَرُ
فكم من أخي حرية قد رأيتهُ . . . بنارِ ذوي الأصهار يكوى ويُصْهَرُفلا تتهم للَّه فيها ولايةً . . . ولا نظراً فاللَّه للعبد أنظر
وأنت وإن أبصرت رشدك مرةً . . . فذو النظر الأعلى برشدك أبصَر
ومن مليح تعازيه عن ابنَةٍ قوله لعلي بن يحيى : الكامل :
لا تبعدنَّ كريمة أودعتها . . . صِفراً من الأصهار لا يخزيكا
إني لأرجو أنْ يكونَ صَداقها . . . من جنّة الفردوس ما يرضيكا
لا تيأسنَّ لها فقد زوَّجتها . . . كفؤا وضمَّنتَ الصَّداقَ مليكا
في موت البنت
وقال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر : الطويل :
لكل أبي بنت يرجّي بقاؤها . . . ثلاثة أصهار إذا ذكر الصهر
فبيتٌ يغطيها ، وبَعْلٌ يَصونُها . . . وقبر يُوَارِيها ، وخيرهما القبرُ
وقال عقيل بن علفَةَ وكان أغير الرب : الرجز :
وإني وإن سِيق إليَّ المهرُ . . . ألفٌ وعُبدانٌ وذَود عشرُ
أحَبُ أصهاري إليَّ القبرُ
ومنه أخذ عبيد اللّه ، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد : دخل علينا ابن خلف البهراني فأنشدنا : البسيط :
لولا أُمَيْمَةُ لم أجْزَعْ من العدمِ . . . ولم أجُبْ في الليالي حِنْدِسَ الظلمِ
وزادني رغبةً في العيش معرفتي . . . أنَ اليتيمة يَحفُوها ذوو الرَّحمِ
أُحاذِرُ الفقر يوماً أن يُلمَّ بها . . . فيهتك الستر عن لَحْمٍ على وَضَمِ
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا . . . والموتُ أكرمُ نزَّال على الحُرَمِ
وكانت أميمة بنت أخته ، وكان قد تبنَّاها ، ثم غابت غيبة ، فسألناه عنها ، فأنشد : البسيط :
أمستْ أميمة مغموراً بها الرَّجَمُ . . . لدى صعيدٍ عليه التُربُ مُرْتكمُ
يا شِقّة النفس ، إن النفسَ والهةٌ . . . حرّى عليك ، ودَمْع العين مُنْسَجمقد كنت أخشى عليها أن يؤخّرها . . . عني الحِمام فيُبْدِي وجهَها العُدُم
فالآن نمت فلا همّ يُؤَرِّقُني . . . تَهْدَا العيونُ إذا ما أوْدَت الحُرَمُ
فالآن نمت ، فلا همٌ يُؤَرقُني . . . بعد الهدوء ، ولا وَجْد ولا حُلُم
للموت عندي أيادٍ لست أنكرها . . . أحيا سروراً وبي ممّا أتى ألم
من أخبار ابن الرومي
عادَ ذكر ابن الرومي - وكانَ أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شابّاً مترفاً ، ومليحاً مستظرَفاً ، وكان يعبث به ، فيأتيه بسَحَر ؛ فيقرع الباب ، فيقال له : مَن ؟ فيقول : قولوا لأبي الحسن مُرَّة بن حنظلة ، فيتطيّر لقوله ، ويقيم الأيام لا يخرجُ من داره ، وذلك كان سبب هجائه إياه ، فمن أول ما عاتبه به : المنسرح : قولوا لِنَحْوِيِّنا أبي حسن . . . إن حسامي متى ضَرَبْتُ مَضى
وإنَّ نبلي إذا هممتُ بأنْ . . . أرْمِيَ نَضَلْتُها بجَمْرِ غَضا
لا تحسبنَّ الهجاء يحفل بال . . . رفع ولا خَفْضَ خافضٍ خَفَضا
ولا تَخَل عودتي كباديتي . . . سَأُسْعِطُ السمّ مَن أسبى الحُضَضا
أعرف في الأشقياء بي رجلاً . . . لا يَنتهي أو يصير لي غَرَضا
يُليح لي صَفْحَةَ السلامة وال . . . سلم ويخفي في قلبه مَرَضا
أضحى مغيظاً عليّ أنْ غضب ال . . . لَّه عليه ، ونِلْتُ منه رضا
وليس تجْدِي عليه موعظتي . . . إن قدَّر اللَه حَيْنَهُ وقضى
كأنني بالشقيِّ معتذرا . . . إنّ القوافي أذَقْنَهُ المَضَضا
ينشدني العهد يوم ذلك والْ . . . عهدُ خضاب إذا له قبضا
لا يأمننَ السفيهُ بَادِرَتي . . . فإنني عارِضٌ لِمَنْ عَرَضا
عندي له السوط إن تلوّم في ال . . . سير وعندي اللّجام إن رَكَضا
أسمعتُ إنْبَاضتي أبا حسن . . . والصفحُ لا شكّ نصحُ من محضَاوهو معافى من السهاد فلا . . . يحمل فيمسي فراشه قَضَضَا
أقسمت باللّه لا غفرت لهُ . . . إنْ واحدٌ من عُروقِه نَبضَا
فاعتذر إليه ، وتشفّع عنده بجماعة من أهل بغداد - وكان الأخفش أكثر الناس إخواناً - فقبل عذره ، ومدحه بقصيدته التي يقول فيها : الخفيف :
ذُكِرَ الأخفش القديمُ فقلْنا : . . . إن للأخفش الحديثِ لفَضْلاَ
وإذا ما حكمت والرومُ قومي في كلام مُعرَّب كنتُ عَدْلا
أنا بين الخصوم فيه غريبٌ . . . لا أرى الزّور للمُحاباة أهْلا
ومتى قلت باطلاً لم ألقب . . . فيلسوفاً ولم أسمَ هِرَقلا
الأخفش القديم هو أبو الخطاب ، وكان أستاذ سيبويه ، وهو من المتقدمين في النحو ، ويُعْرَف بالأخفش الكبير ، وكان في عصر سيبويه أيضاً أبو الحسن سعيد بن مسعدة ، وهو الأخْفش الصغير ، وهو الذي قال : كان سيبويه يَعْرِض ما وَضَع من النحو عليَ ، ويَرى أني أعلَمُ منه ، وكان في وقته ذلك أعلم مني .
ثم عاد علي بن سليمان إلى أذاه ، واتصل به أنَّ رجلاً عرض عليه قصيدة من شعره فطعَن عليها ، فقال قصيدته التي يقولُ فيها : المنسرح :
أعتقتُ عبديَ في القريض معا . . . عبدةَ والفَحْل من بني عَبَدهْ
إن أنا لم أرم بالإساءة مَن . . . زَاغَ عن القَصْد أو أبى سددَهْ
قلت لمن قال لي عرضت على الْ . . . أخفش ما قلته فما حَمِدَهْ
قصرت بالشعر حين تعرضه . . . على مبين العمى إذا انتقدهْ
أنشدته مَنْطِقي ليشهدَه . . . فغاب عنه عمًى وما شَهِدَه
ما بلغتْ بي الخطوب رتبة منْ . . . تَفهَمُ عنه الكلابُ والقِرَدَهْ
ولا أنَا المفهم البهائم وال . . . طير سُليمانُ قاهرُ المَرَدهْ
فإن يقل إنني حفظت فكالد . . . فتر جَهْلاً بكلّ ما اعتْقَدَهْ
سأُسمع الناسَ ذَمَّهُ أبداً . . . ما سَمع اللَهُ حَمْدَ مَنْ حَمده
عَبْدة بن الطيب ، وعلقمة بن عبدة الفحل ، وكانا شاعرين مجيدين ، وقال علقمة ابنَ عبَدة لرجل ورأى آخر يعتذرُ إليه وهو معبس في وجهه : إذا اعتذر إليك المعتذر فتلقه بوجهمُشْرِق ، وبِشْر مطلَق ؛ لينبسط المتذلل ، ويؤمّن المتنصّل .
ولابن الرومي في الأخفش إفحاش صُنْتُ الكتابَ عنه .
قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي : كنت بداري جالساً فإذا حجارة سقطَتْ بالقرب مني ، فبادرتُ هارباً ، وأمرتُ الغلام بالصعود إلى السطْح ، والنظر إلى كل ناحية ؛ من أين تأتينا الحجارة ، فقال : امرأةٌ من دارِ ابن الرومي الشاعر قد تشوّفَتْ وقالت : اتّقوا الله فينا ، واسقونا جَرَة من ماء ، وإلاّ هَلَكْنا ، فقد مات مَنْ عندنا عطشاً . فتقدمتُ إلى امرأة عندنا ذات عَقْل ومعرفة أنْ تصعدَ إليها وتخاطبها ، ففعلَتْ وبادرتْ بالجرة ، وأتْبَعَتْها شيئاً من المأكول ؛ ثم عادت إليّ فقالت : ذكرت المرأةُ أنّ الباب عليها مُقْفَل من ثلاث بسببِ طِيَرة ابن الرومي ، وذلك أنه يَلْبَس ثيابَه كلَّ يوم ، ويتعوَّذُ ثم يصيرُ إلى الباب ، والمِفْتَاحُ معه ، فيضعُ عينَه على ثَقْبِ في خشب الباب ، فتقعُ عينه على جارٍ له كان نازلاً بازائه ، وكان أحْدَب يقُعد كل يوم على بابه ، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه ، وقال : لا يفتح أحدٌ البابَ .
فعجبتُ لحديثها ، وبعثتُ بخادم كان يعرفه ، فأمرْتُه بأن يجلس بازائه - وكانت العينُ تَمِيلُ إليه - وتقدّمت إلى بعض أعواني أن يَدْعُوَ الجار الأحدب ؛ فلّما حضر عندي أرسلتُ وراء غلامي ؛ لينهض إلى ابن الرومي ، ويستَدْعيه الحضور ؛ فإني لجالس ومعي الأحدب إذْ وافى أبو حذيفة الطرَسوسي ومعه بِرْذَعة الموسوس صاحبُ المعتضد ، ودخل ابن الرومي ، فلما تخطى عتبة باب الصَحْن عَثَر فانقطع شِسعُ نَعْله ، فدخل مذعوراً ؛ وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغيرِ حالٍ ؛ فدخل وهو لا يَرَى جارَه المتطير منه ، فقلت له : يا أبا الحسن ، أيكون شيءٌ في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ، ونظرك إلى وجهه الجميل ؟ فقال : وقد لحقني ما رَأيت من العَثْرَة ؛ لأني فكرت أنَّ به عاهة وهي قطع انثيَيْه ، قال بِرذَعَة : وشيخُنا يتطير ؟ قلت : نعم وُيفْرط ، قال : ومن هو ؟ قلت : علي بن العباس ، قال : الشاعر ؟ قلت : نعم ، فأقبل عليه وأنشده : الطويل :
ولما رأيت الدهرَ يُؤذنُ صَرفُه . . . بتَفْرِيق ما بيني وبين الحبائب
رجعتُ إلى نفسي فوطَّنتها على . . . ركوبِ جميلِ الصبْرِ عند النوائبِ
ومَنْ صَحِب الدنيا على جَور حُكْمِها . . . فأيامُه مَحفوفة بالمصائبِ
فخُذْ خُلْسَةً من كل يوم تعيشُه . . . وكُن حَذِراً من كامِنَاتِ العواقبودعْ عنك ذِكْرَ الفأل والزّجْرِ واطرح . . . تطيُّرَ جار أو تَفَاؤُل صَاحِبِ
فبقي ابن الرومي باهتاً ينظرُ إليه ولم أدْرِ أنه شَغَلَ قَلْبَه بحفظ ما أنشده ، ثم قام أبو حذيفْة وبرذعة معه ، فحلف ابنُ الرومي لا يتطير أبداً من هذا ولا مِنْ غيره ، وأومأ إلى جاره ، فقلت : وهذا الفكر أيضاً من التطيّر ، فأمسك ، وعجب من جودة الشعر ومعناه ، وحُسن مَأتاهُ ، فقلت له : ليتنا كتَبْنَاه ؟ قال : اكتبه فقد حفظته ، وأملاه علي .
ومن شدة حذره ، وعظيم تطيّره ، قوله لأبي العباس بن ثوابة ، وقد نَدَبَه إلى الخروج إليه وركوب دجلة : الطويل :
حضضْتَ على حَطْبي لِنَاري فَلاَ تَدَعْ . . . لك الْخَيْرُ ، تَحْذِيري شُرُورَ المَحاطِبِ
ومَنْ يَلْقَ ما لاقَيْتُ في كُلِّ مُجْتنى . . . من الشَوْكِ يَزْهَدْ في الثمار الأطَايبِ
أذاقَتْنِي الأسفَارُ مَا كَرَّهَ الغنَى . . . إليَّ ، وأغْرَاني بِرَفْضِ المَطَالِبِ
وَمِنْ نكْبَةٍ لاَقيتها يعد نكْبَةٍ . . . رَهِبْتُ اعتِسافَ الأرْضِ ذاتِ المناكِب
فَصَبْرِي على الإقْتَار أيْسَرُ مَطْلَباً . . . عليَّ من التّغْرِيرِ بعد التَّجَارِبِ
لقِيتُ من البرّ التبَارِيحَ بعدما . . . لَقيت منَ البَحْرِ ابْيضاضَ الذّوائِبِ
سُقيتُ على ري به ألْفَ مطَرةٍ . . . شُغِفْتُ لبغْضيها بحُبِّ المَجَادِبِ
ولم أبْغها ، بل ساقَها لمكيدَتي . . . تلاعُبُ دَهْرِ جَدَ بي كالمُلاعبِ
أبى أنْ يُغيثَ الأرضَ حتى إذا رمَتَ . . . برَحلْي أتاهَا بالغُيوثِ السواكبِ
سَقى الأرضَ من أجْلي فأَضْحَتْ مَزلَة . . . تمايَلَ صاحِيها تمايُلَ شارب
فملتُ إلى خَان مُرِثٍّ بنِاؤُهُ . . . مَمِيلَ غريقِ الثوبِ لَهْفَانَ لاغِبِ
فما زِلْتُ في جوعٍ وخَوْفٍ وَوَحْشَةٍ . . . وفي سهَرٍ يَسْتَغْرِقُ الليلَ وَاصِبِ
يُؤْرِّقني سَقْف كأنيِّ تحته . . . من الوَكْفِ تحْتَ المُدْجنَاتِ الهَوَاضِبِ يظل إذا ما الطيّنُ أثْقَلَ متنَهُ . . . تصرُّ نَواحيهِ صَرِيرَ الجنادِبِ
وكم خَانِ سَفْرِ خَانَ فانْقضَ فوقهمْ . . . كما انْقَضَّ صَقْرُ الدَّجْن فَوْقَ الأرانبِ
وما زالَ ضاحِي الْبَرّ يَضْرِبُ أهْلَهُ . . . بِسَوْطَيْ عذابِ جامِدٍ بعدُ ذائبٍ
فإنْ فاتهُ قَطْر وثلجٌ فإنه . . . رهِينٌ بسَافٍ تارةً وبحاصبِ
فذاكَ بلاءُ البَر عِنديَ شاتياً . . . وكم لِيَ من صَيْفٍ به ذي مَثَالِبِألا ربّ نارٍ بالفَضاء اصْطَليْتُها . . . من الضحَ يُودي لَفْحُها بالحواجِبِ
فَدَعْ عنكَ ذِكْرَ البَرَ إني رأيْتُهُ . . . لِمَنْ خاف هَوْلَ البحرِ شرَ المهارِب
وما زالَ يَبْغِيني الْحُتُوفَ مُوَارِباً . . . يَحُومُ على قَتْلِي وغيرَ مُوَارِبِ
فطَوْراً يُغادِيني بِلص مُصلَّتٍ . . . وطوراً يُمَسِّيني بِوِرْدِ الشَّوارِب
وَأَمَّا بَلاءُ البحرِ عندي فإنهَ . . . طَواني على رَوْعٍ مع الرّوحِ واقِبِ
ولو ثابَ عقلي لم أدَعْ ذِكْرَ بعضِهِ . . . ولكنّه من هَوْله غيرُ ثائِبِ
ولمْ لا ولو أُلقيتُ فيه وصخْرَةً . . . لَوَافَيْتُ منه القَعْرَ أوَلَ راسبِ
ولم أتعلّمْ قَطُ من ذي سِباحَةٍ . . . سِوَى الغوصِ والمضعُوفُ غير مُغالِبِ
وأيْسَرُ إشْفاقي من الماء أنني . . . أمُرُّ به في الكوزِ مَرَ المُجانِبِ
وأخْشَى الرّدَى منهُ على كل شارِبٍ . . . فكيف بأمْنِيهِ على نَفْسِ راكب ؟
أخذه من قول أبي نُواس وقد رأى التمساح بمصرَ أخذَ رجلاً : البسيط :
أضْمَرْتُ للنيل هِجراناً ومَقْلِيَةً . . . مُذْ قيلَ لي إنما التمساحُ في النيلِ
فمن رأى النيل رأي العينِ عن كَثَبٍ . . . فما أرى النيل إلاَّ في البراقيل
رجع
الطويل :
أظل إذا هَزَته ريحٌ وَلألأَتْ . . . لهُ الشمسُ أمْواجاً طوالَ الغَوارِب
كأني أرَى فيهنَّ فُرْسانَ بُهْمَةٍ . . . يُلِيحُونَ نحوي بالسيوفِ القَواضِبِ
فإنْ قلتَ لي قد يُرْكَبُ اليَمُ طامِياً . . . ودِجْلَةُ عند اليَمِّ بعضُ المَذَانِبِ
فلا عُذْرَ فيها لامْرِئً هَابَ مِثْلَها . . . وفي اللجةِ الخضْرَاء عُذْرٌ لِهَائِبِ
لدِجْلَةَ خِب لَيْسَ للَيمِّ ؛ إنهَا . . . تَرَاىء بِحلْيم تَحْتَهُ جَهْلُ وَاثِبِ
تَطَامَنُ حَتّى تَطْمَئِن قلوبُنا . . . وتَغضَبُ من مَزْحِ الرَياحِ اللَوَاعِبِوللْيَمِّ إنْذَارٌ بغَوْصِ مُتُونِه . . . وما فيه من آذيه المتراكِبِ
وهي طويلة ، وفيما مرّ كفاية تنبئ عنه وتدل عليه ، ولو مددت أطناب الاختيار لتَتبع هذا النحو من شعره لخرجتُ عن غَرَضِ الكتاب .
في العيافة والزجر
ومن مليح العيافة والزجر ما رواه الصُولي ، قال : كان لأبي نواس إخْوانٌ لا يفارِقُهم ، فاجتمعوا يوماً في موضع أخْفَوْه عنه ، ووجَّهوا إليه برسولٍ معه ظهرُ قرطاس أبيض ، لم يكتبوا فيه شيئاً ، فخزَمُوه بزير ، وختموه بقار ، وتقدموا إلى رسولهم ليرميَ كتاب من وراء الباب ؛ فلما رآه استعلم خبَرَهُم ، وعلم أنه مِنْ فِعْلِهِم ، فتعرَفَ موضِعَهم وآثَارَهم ، فأتاهم فأنشدهم : الوافر :
وجدتُ كتابَكمْ لمّا أتاني . . . يمرُ بسانح الطيرِ الجوَارِي
نظرتُ إليه مخزوماً بزيرٍ . . . على ظَهْرٍ ، ومختوماً بِقَارِ
فقلت : الزير مُلْهية وَلَهْو . . . وخِلْتُ القارَ من دَنَ العُقار
وخِلْت الظهْرَ أهْيَفَ قُرْطَقيًّاً . . . يحيل العقلَ منه باحْوِرَار
فهمْتُ إليكم طَرَباً وشَوْقاً . . . فما أخطأت دَارَكم بدار
فكيف ترونني وترون وَجْدِي . . . ألَسْتُ من الفلاسفة الكبَار ؟
وقال الطائي : الكامل : أتضعضعتْ عبراتُ عَيْنك أنْ دَعَتْ . . . ورْقَاءُ حين تضعضعَ الإظْلاَمُ ؟
لا تنشجنٌ لها ؛ فإن بكاءها . . . ضَحِك ، وإن بكاءَك استغرام
هنَ الْحَمامُ وإنْ كَسَرْتَ عِيَافةَ . . . مِنْ حَائهنَ فإنهنَّ حِمَامُ
وروى يموت ابن المزرع قال : كان أحمدُ بن المدبر إذا مدحه شاعرٌ فلم يَرْضَ شِعْرَه لغلامه : امْض به إلى المَسْجِد الجامع فلا تفارِقْه حتى يُصلي مائةَ ركعة ، ثم خَلَهِ ؛فتحاماه الشعراءُ ، إلاّ الأفرادَ المجيدين ؛ فجاءه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل ، فاستأذنه في النشيد ، فقال : قد عرفت الشَرْط ؟ قال : نعم ، وأنشده : الوافر :
أرَدْنا في أبي حسَن مديحاً . . . كما بالمَدْحِ يُنتجَعُ الوُلاةُ
فقلنا : أكَرمُ الثقَلَيْنِ طُرّاً . . . ومَنْ كفاه دجلةُ والفراتُ
فقالوا : يقبل المدحات لكِن . . . جوائزهُ عليهن الصَّلاةُ
فقلت لهم : وما تُغْني صَلاَتي . . . عيالي إنما الشأْنُ الزَكَاةُ
فأما إذْ أبى إلاّ صَلاَتي . . . وعاقتني الهموم الشاغلاتُ
فيأمر لي بكَسْرِ الصادِ منها . . . فتصبح لي الصَلاةُ هي الصلاتُ
فضحك واستظرفه ، وقال : من أين أخذت هذا ؟ قال : من قول أبي تمام الطائي : الكامل :
هُنَ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيَافةً . . . مِنْ حَائِهِن فإنهنَّ حِمَامُ
فأحسن صلته .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي لقوم من أهل مَرو انخلعوا عن طاعته : الكامل :
يا راكباً أضْحَى يَخُب بِعَنْسهِ . . . ليؤم مَروَ على الطريق المَهيَع
أبلِغْ بها قَوْماً أثارُوا فِتْنَةً . . . ظلت لها الأكبَادُ رَهْنَ تَقطعِ
إذ أقدموا ظُلْماً على سُلْطانهم . . . بالغَدرِ والخَلعِ الذميم المفظِع
وبحل عقْدِ لوائِهِ وإباحة . . . لجنَابه وحَرِيمِه المتمنع
أبلغهمُ أني اتخذت لفعلهم . . . فَأْلاً ، له في القوم أسوَأ مَوقِع
أما اللّوَاءُ وحلّه فمخبر . . . عن حَل عقدٍ بينهم مُستَجمِع
والخلعُ يخبر أن ستُخلَعُ عنهم ال . . . أرواحُ بالقَتل الأشد الأشْنَعِ
والغدر يُنبئ أن تُغَادَرَ في الوَغى . . . أشلاؤهم لنُسورِه والأضْبُعوالفرقتان فشاهدٌ معناهما . . . بتفرُقٍ لجميعهم وتَصَدُّعِ
فتسمَّعوا لمقالتي وتَأَهَبُوا . . . بذميم بَغيكُم لشرِّ المَصْرَعِ
فاللَهُ ليس بغافل عن أمرِكم . . . حتى تحلَّ بكم عقوبةُ مُوجِع
قال أبو عثمان الجاحظ : سمعت النظام ، وذكر عبد الوهاب الثَّقفي ، قال : هو أحْلى من أمْنٍ بعد خوف ، وبُرءً بعد سَقَم ، ومن خِصْب بعد جَدْب ، وغنًى بعد فَقْر ، ومن طاعة المحبوب ، وفرج المكروب ، ومن الوصال الدائم ، والشبابِ الناعِم .
من أخبار الجاحظ
وكان الجاحظ مائلاً عن ابن أبي دُواد إلى محمد بن عبد الملك الزيات ، فلّما نكِب محمد بن عبد الملك أُدْخِل الجاحظُ على ابنِ أبي دُواد مقيّداً ، فقال له أحمد : واللّه ما عْلَمُك إلاّ مُتناسِياً للنعمة ، كفوراً للصنَّيعة ، معدداً للمساوي ، وما فتني باسْتِصلاحي لك ، ولكنّ الأيام لا تُصْلِحُ منك ؛ لفسادِ طوّيتك ، ورداءة دَخِيلتك ، وسوء اختيارك ، وتَغَالُب طباعك .
فقال الجاحظ : خفّض عليك ، أصلحك اللّه ، فوالله لأنْ يكونَ لك الأمر عليّ خير من أن يكونَ لي عليك ، ولأنْ أُسِيء وتحسن أحسنُ في الأحْدُوثة من أن أحسنَ فتسيء ، ولأن تعفوَ عني على حالِ قدرتِك عليّ أجْمَلُ بك من الانتقام مني ، فعفَا عنه .
من أخبار عتبة بن أْبي سفْيان
قال سعد مولى عُتْبة بن أبي سفيان : خطب عُتْبة الناسَ في الموسم سنة إحدى وأربعين ، والناسُ إذ ذاك حديثو عَهْدٍ بالفتنة ؛ فقال : قد وَلينا هذا المقام الذي يُضاعَفُ فيه للمحسن الأجْرُ ، وللمُسِيء الوِزْر ؛ ونحن على سبيل قَصْد ، فلا تمدُّوا الأعناقَ إلى غيرنا ؛ فإنها تُقْطَع دوننا ؛ فربَّ مُتَمَن أمراً حَتْفُه في أمنيته ؛ فاقبلوا منّا العافية ما قبلْنَاها منكم ؛ وأنا أسأل الله أن يُعين كلا على كل .
فناداه أعرابي من ناحية المسجد : أيها الخليفة ، فقال : لسْتُ به ولم تُبْعِد ، قال : يا أخاه ، قال : سمعتُ فقلْ ، فقال : والله لأنْ تحسنوا وقد أسأْنا خيرٌ من أن تسيئوا وقد أحسنّا ، فإن كان الإحسان منكم فما أوْلاكم بإتمامه ، وإن كان منا فما أوْلاكم بمكافأتناعليه ، وأنا رجلٌ من بني عامر بن صعصعة يمتُّ بالعمومة ويختصُ بالخؤولة ، كَثُرَ عِيَاله ، ووَطِئه زمانُه ، وبه فقر وفيه أجر ، وعنده شُكْر .
فقال له عتبة : أستغفر اللّه منك ، وأستعين به عليك ، وقد أمَرْتُ لك بغناك ، فليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك
عود إلى الجاحظ
قال الجاحظ : تشاغلت مع الحسن بن وَهْب أخي سليمان بن وهب بشُرْبِ النبيذ أياماً ، فطلبني محمدُ بن عبد الملك لمؤانسته ، فأُخْبِر باتصالِ شغْلي مع الحسن ابن وهب ، فتنكَر لي ، وتلوَّن عليّ ؛ فكتبتُ إليه رقعة نسختها : أعاذك اللهّ من سُوء الغَضَب ، وعَصَمَك مِن سَرَفِ الهوى ، وصَرَف ما أعارَك من القوة إلى حث الإنصاف ، ورجح في قلبك إيثار الأناة ، فقد خِفْتُ - أيَّدك اللّه - أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزقِ السفهاء ، ومُجانبة سُبُلِ الحكماء ، وبعدُ ، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت : الطويل :
وإن أمرأً أمسى وأصبح سالماً . . . من الناس إلاَ ما جَنَى لَسَعيدُ
وقال الآخر : السريع :
ومن دعا الناس إلى ذَمَهِ . . . ذموهُ بالحقِّ وبالْباطِل
فإن كنتُ اجترأتُ عليك - أصلحك الله - فلم أجترئْ إلاّ لأنّ دوامَ تغافلك عني شبيه بالإهمال ، الذي يُورِثُ الإغفال ، والعفو المتتابع يؤمنُ مِنَ المكافأة ، ولذلك قال عُيَيْنة بن حِصْن بن حذيفة لعثمان رحمه الله : عمر كان خيراً لي منك ، أرْهَبني فأتْقاني ، وأعطاني فأغناني ، فإن كنت لا تَهَبُ عقابي - أيدّك الله - لخدْمَة فهبْه لأياديك عندي ؛ فإن النعمةَ تشفع في النقمة ، وإلاَّ تفعلْ ذلك لذلك فعُدْ إلى حُسْن العادة ، وإلاّ فافْعَلْ ذلك لحُسْن الأحدوثة ؛ وإلاّ فأتِ ما أنْتَ أهلُه من العفو دون ما أنا أهلُه من استحقاق العقوبة ، فسبحانَ مَن جعلك تَعْفُو عن المتعمِّد ، وتتجافى عن عقاب المُصر ، حتى إذا صرت إلى مَنْ هَفْوَته ذِكْر ، وذَنْبه نسيان ، ومن لا يعرف الشكرَ إلاِّ لك ، والإنعامَ إلاّ منك هجمتَ عليه بالعقوبة . وأعلمْ - أيدك الله - أنَّ شَيْنَ غَضبك علي كَزَيْنِ صَفْحِك عني ، وأنٌ موت ذِكْري مع انقطاع سببي منك كحياةِ ذكرك مع اتصال سببي بك ، واعلمْ أنّ لكَ فطنة عليم ، وغفلة كريم ، والسلام .من حكم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام
قال عليّ بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه : أعْجَبُ ما في الإنسان قَلْبُه ، وله مواد من الحكمة ، وأضْدَاد من خِلاَفها ؛ فإنْ سَنَح له الرجاءُ أذَلَه الطمع ، وإن هاجه الطمَعُ أهلكه الحِرص ، وإنْ مَلَكه اليَأْسُ قتَله الأسَف ، وإن عرض له الغضب اشتدَ به الغَيْظ ، وإنْ أُسعد بالرضا نِسِي التحفظ ، وإن أتاه الخوفُ شغلَه الحذَر ، وإن اتسَع له الأمن استلبته العِزة ، وإن أصابته مصيبة فَضَحه الجَزَع ، وإن استفاد مالاً أطْغاه الغِنَى ، وإن عضتْه فاقة بلغ به البلاء ، وإن جَهد به الجوعُ قعد به الضعْف ، وإن أفرط في الشبع كَظته البِطْنَة ، فكل تقصيرٍ مضِرّ ، وكلّ إفراطٍ له قَاتِل .
البيت الذي أنشده الجاحظ لعبد الرحمن بن حسان في أبيات يقول فيها : الطويل :
متى ما يَرَى الناس الغني وجاره . . . فقيرٌ يقولوا : عاجز وجَلِيدُ
وليس الغِنَى والفَقرُ من حيلة الفتى . . . ولكِن أحاظ قسمَتْ وجُدُودُ
وإن امرأ يمسي ويُصبحُ سالماً . . . من الناسِ إلا ما جَنَى لَسَعيدُ
والبيت الذي أنشده بعده لمحمد بن حازم الباهلي في أبياتٍ يقول فيها : السريع : إنْ كنتَ لا تَرْهَبُ ذَمَي لما . . . تعلم مِنْ صَفْحِي عن الجاهل
فاخْشَ سكوتي آذِناً مُنْصِتا . . . فيك لمسموع خَنَى الْقَائل
فسامعُ الشر شَرِيك له . . . وَمُطْعِم المأكُول كالآكل
مقالة السوء إلى أهلها . . . أسْرَعُ مِن مُنْحَدَرٍ سائل
ومَنْ دعا الناسَ إلى ذَمه . . . ذَمُوه بالحق وبالباطلِ
فلا تهِجْ ، إن كُنْتَ ذا إرْبَةٍ . . . حَربَ أخِي التجربةِ الغَافِل
فإن ذا العقل إذا هِجتَهُ . . . هِجتَ به ذا خبَل خابِل
تُبْصِرُ في عاجلِ شًدَّاتِه . . . عليك غِب الضَرَرِ الآجل
وفي ابن الزيات يقول الجاحظ : المتقارب :
بَدَا حين أثْرى لإخوانه . . . ففللَ منهم شَباةَ العَدَمْ
وأبصر كيف انتقالُ الزمانِ . . . فبادرَ بالعرفِ قبل الندَمْالجاحظ ورجل من البرامكة في مرضه
قال بعضُ البرامكة : كنتُ أتقلّد السندَ ، فاتصل بي أني صُرِفْتُ عنها ، وكنت كسبتُ ثلاثين ألف دينار ، فَخُفْت أن يَفْجأَني الصارف ، ويُسْعَى إليه بالمال ، فصُغْتُه عشرة آلاف إهْليلَجَة في كل إهليلَجَة ثلاثةُ مثاقيل ، وجعلتها في رَحْلي ، ولم أبعد أن جاء الصارف ؛ فركبْتُ البحرَ ، وانْحَدَرْتُ إلى البصرةِ ؛ فخبِّرْتُ أنّ بها الجاحظ ، وأنه عليل ؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته ، فصِرْتُ إليه ، فأفضيتُ إلى بابِ دار لطيف ، فَقَرَعْتُه ، فخرجَتْ إليَ خادمٌ صفراء ، فقالت : مَنْ أنت ؟ فقلت : رجل غريب أحَب أن يدخل إلى الشيخ فيُسَرّ بالنظر إليه ، فأَدت ما قلت ، وكانت المسافة قريبة لصغر الدهليز والحجرة ، فسمعته يقول : قولي له : وما تصنع بشق مائل ، ولعاب سائل ، ولون حائل ؟ فأخيرتني ، فقلت : لا بدَّ من الوصال إليه ، فقال : هذا رجل قد اجتاز بالبَصْرَة ، فسمع بي وبعِلّتي ، فقال : أراه قبل موته ؛ لأقول : قد رأيت الجاحظ .
فدخلت فسلمت فردَ ردًّا جميلاً واستَدْناني ، وقال : مَنْ تكون ؟ أعزك اللّه فانتَسَبتُ له ، فقال : رحم اللّه أباك وقومك الأسخياء الأجواد ، الكرام الأمجاد ، لقد كانت أيامُهم رَوْضَ الأزمنة ، ولقد انجبر بهم خلق ، فسقياً لهم ورعياً ؛ فدعوت له ، وقلت : أنا أسألُ الشيخ أن يُنْشِدَني شيئاً من الشعر أذكره به ، فأنشدني : الطويل :
لئن قُدّمَتْ قبلي رِجال فطالما . . . مَشَيْتُ على رِسْلي فكنت المقدَما
ولكنَ هذا الدهرَ تأتي صروفُه . . . فتُبْرِمُ منقوضاً ، وتنقضُ مُبْرما
ثم نهضتُ ، فلمّا قاربتُ الدهليز صاحَ بي فقال : يا فتى ، أرأيتَ مفلوجاً ينَفْعَه الإهليلج ؟ فقلت : لا ، قال : فأنا ينفعني الإهليلج الذي معك ، فأنْفذْ إليَّ منه ، فقلت : السمع والطاعة ، وخرجت مُفْرط التعجب من وقوعه على خَبَري ، حتى كأن بعضَ أحبابي كاتبَه بخبَرِي حين صُغْتُه ، فأنْفَذْتُ إليه مائة إهليلجة .
المقامة الجاحظية
مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ
قال : حدثنا عيسى بن هشام قال : جمعتني مع رِفْقَة وَليمةٌ ، وأجبْتُ إليها للحديثالمأثور فيها عن رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو دُعيت إلى كُرَاع لأجبْتُ ، ولو أُهْدِيَ إليَّ ذراع لقبلت ' ، فأفْضَى بنا المسيرُ إلى دار قد فُرش بساطُها ، وبُسِطت أنماطها ، ومُدَ سِماطُها ، وقوم قد أخذوا الوقت بين آسٍ مخضود ، ووَرْدٍ منضود ، ودَن مَفْصود ، ونَايَ وعود ؛ محصِرْنا إليهم وصاروا إلينا ، ثم عكفنا على خِوَان قد مُلِئَتْ حياضُه ، ونوَّرَت رِياضُه ، واصطفّت جِفَانُه ، واختلفت ألوانُه ؛ فمن حالِك بازائه نَاصع ، ومن قانٍ في تلقائه فاقعٌ ، معنا على الطعام رَجلٌ تُسَافرُ يَدُه على الخِوَان ، وتَسْفرُ بين الألوان ، وتأخذُ وجوهَ الرُغفان ، وتَفْقَأ عيونَ الجِفَان ، وتَرْعَى أَرْضَ الجيران ؛ يَزْحَم اللقْمَة باللقمة ، ويهزِمُ المَضْغَة بالمضغة ، وهو مع ذلك ساكتٌ لا يَنْبِس ، ونحن في الحديث نجري معه حتى وقف بنا على ذِكْرِ الجاحظ وخَطَابته ، ووَصف ابن المقفَّع وذَرابته ، ووافق أول الحديث آخِرَ الخِوَان ، وزُلنا عن ذَلِك المكان ، فقال الرجلُ : أين أنتم من الحديثِ الذي فيه كنتم ، فأخذنا في وصف الجاحظ ولَسَنِه ، وحُسْنِ سَنَنه في الفصاحة وسُنَنه فيما عرفناه ؛ فقال : يا قومُ ، لكلِّ عمل رجال ، ولكل مقام مَقالٌ ، ولكل دارٍ سُكَّان ، ولكل زمان جاحظ ، ولو انتقدتم ، لبطَلَ ما اعتقدتُمْ ، فكل كشرَ له عن ناب الإنكار ، وشمَ بأنْفِ الإكبار ، وضَحِكْتُ إليه ، لأجلبَ ما لدَيْه ، وقلت : أفِدْنا وزِدْنا ، فقال : إنَّ الجاحظَ في أحدِ شقي البلاغة يقطِف ، وفي الآخر يَقِف ، والبليغُ من لم يُقَصِّر نظمُه عن نثره ، ولم يُزْرِ كلامُه بشعرِه ، فهل تروُونَ للجاحظ شعراً رائعاً ؟ قلنا : لا ، قال : فهلمّوا إلى كلامه ؛ فهو بعيدُ الإشارات ، قريبُ العبارات ، قليل الاستعارات ، منقادٌ لعريان الكلام يستَعْمله ، نَفورٌ من مُعْتاصِهِ يهمله ، فهل سمعتم له بكلمةٍ غير مسموعة ، أو لفظة غير مصنوعة ؟ فقلت : لا ، فقال : هل تحبّ أن تَسْمَع من الكلام ما يخفِّف عن مَنْكَبَيْك ، وَينمُّ على ما في يَدَيك ؟ فقلت : إي والله ، قال : فأطلق لي عن خِنْصَرِك ما يعين على شكرك ، فأنلته ردائي ، فقال : الطويل :
لعَمْر الذي ألْقَى إليَ ثيابهُ . . . لقد كسبتْ تلك الثيابُ به مَجدا
وقد قَمَرَتهُ راحة الجود بِزّةً . . . فما ضربَتْ قِدْحاً ولا نصبتْ نَرْدَا
أعِدْ نظراً يا مَنْ كَسَاني ثِيابَهُ . . . ولا تَدَعِ الأيامَ تَهْدِمُني هَداً
وقل للأُلى إنْ أسْفَرُوا أَسْفَرُوا ضُحًى . . . وإن طلعوا في غُمة طلعوا ورْدَا
صِلُوا رَحِمَ العَلْيَا وبُلوا لهَاتَها . . . فَخَيْرُ الندَى ما سَحَ وابلُه نَقْدَاقال عيسى بن هشام : فارتاحت الجماعة إليه ، وانثالت الصِّلاتُ عليه ، وقلت لما تآنسنا : من أين مطلع هذا البدر ؟ فقال : المجتث :
إسكندريةُ دَارِي . . . لو قرَّ فيها قَرارِي
لَكِن ليلي بنَجْدٍ . . . وبالحجازِ نَهَارِي
ما قالته الملوك
تظلمت رعية أردشير بن بابك إليه في سنة مُجْدبة لعَجْزهم عن الخراجِ ، وسألته أن يخففه عنهم ؛ فكتب لهم ما نسخته : من أردشير المزيد بالبهاء ، ابن الملوك العظماء ، إلى الفقهاء الذين هم حَفَظةُ البيضة ، والكُتاب الذين هم سَاسة المملكة ، وذوي الحرث الذين هم عمرَة البلاد ، أما بَعْدُ ، فإنا نحمدُ الله تعالى حَمْدَ الصالحين ، وقد وضعنا عن رعيّتنا بفَضْل رأفتنا إتاوَتنا الموظَّفة عليهم سنتنا هذه ، ونحن كاتبون مع ذلك نُمليهم بوصية تنفعُ الكل : لا تستشعروا الحِقْدَ لئلاَ يَغْلِبَ عليكم العدوّ ، ولا تحتوا الاحتكار لئلاّ يشملكم القَحْط ، وكونوا للغرباء مُؤْوِين ، لتؤووا غداً في المعاد ، وتزوَجُوا في القرابة فإنه أحْسَنُ للرحم ، وأثبتُ للنَسَبِ ، ولا تعدُوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تُبْقي على أحد ، ولا تَرْفُضُوها مع ذلك ؛ فإن الآخرة لا تُنَالُ إلاَ بها .
وقيل لبزر جمهر : أيُّ الاكتساب أفضل ؟ قال : العلمُ والأدب كنْزَانِ لا يَنْفَدان ، وسِرَاجان لا يُطْفآن ، وحُفَتان لا تَبْلَيان ؛ مَنْ نالهما نَالَ أسبَاب الرشاد وعَرَفَ طريق المَعَاد ، وعاش رفيعاً بين العِبَاد . وقال أنوشروان لبزر جمهر لمّا ظفر به : الحمد لله الذي أظْفَرني بك ، قال له : فكافِئْه بما يحبُّ كما أعطاك ما تحب . قال : وبم أُكافِئه يا فاسق ؟ قال : بالعفو عمَنْ أظفرك به اليوم كما تحبّ أَنْ يعفوَ عنك غداً .
ونظيرُ هذا الكلام قد تقدم لعلي ، رضي الله عنه .
وقيل لكسرى ؛ أيُ الملوك أفضل ؟ قال : الذي إذا جاوَرْته وجَدْتَه عليماً ، وإذا خبرته وجدتَه حكيماً ، وإذا أغضب كان حليماً ، وإذا ظفر كان كريماً ، وإذا استمنح منح جسيماً ، وإذا وعدَ وفى ، وإن كان الوعد عظيماً ، وإذا شُكِي إليه وُجد رحيماً .
من إنشاء الميكالي
كتب الأمير أبو الفضل الميكالي إلى أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيلالثعالبي ؛ كتابي وأنا أشكو إليك شَوْقاً لو عالجه الأعرابي لما صَبَا إلى رَمْل عالج ، أو كابَده الخَليُ لانثنَى على كَبِدٍ ذاتِ حُرَقِ ولَوَاعِج ؛ وأذمُ زماناً يفرَقُ فلا يحسن جمعاً ، ويخْرق فلا ينوي رَقْعاً ، ويُوجِعُ القلب بتفريق شَمْلِ ذوي الْوِداد ، ثم يبخلُ عليهم بما يَشْفِي الصدور والأكْبَاد ؛ قاسِي القلبِ فلا يلينُ لاستعطاف ، جائر الحُكْمِ فلا يميلُ إلى إنصاف ، وكم أسْتَعْدِي على صَرْفِه وأستَنْجِد ، وأتلَظَّى غيظاً عليه وأُنشد : الطويل :
متى وعسى يَثْني الزمانُ عِنَانَه . . . بعَثْرَة حالٍ والزَمانُ عثُورُ
فتُدْرَك آمال وتُقْضَى مآرِبٌ . . . وتحدُث من بعد الأُمور أُمور
وكَلاً ، فما على الدهر عَتْب ، ولا له على أهْلِه ذَنْب ؛ وإنما هي أقدار تَجْري كما شاء مُجْرِيها ، وتَنْفُذ كالسهام إلى مَرَاميها ؛ فهي تدورُ بالمكروه والمحبوب ، على الحُكم المقدور والمكتوب ، لا على شهوات النفوس وإرادات القلوب ؛ وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب البعيد النازح ، وتسهيل الصَّعب الجامح ، فيعود الأُنسُ بلقائِك الإخوان كأتمّ ما لم يزل معهوداً ، ويجدّد للمذاكرة والمؤانسة رسوماً وعهوداً ، إنه الملبي به ، والقادِرُ عليه .
وله إلى أبيه : ولو مَلَكْتُ عِنان اختياري ، وأسعفني ببعض ما أقترحه القَدَرُ الجاري ، لما غِبْتُ عن حضرته - انسها الله - ساعةً من دهري ، كما لا أعد ساعاتِ بُعْدِي عنها وإخلائي لبابها من أيام عمري ؛ ولقنت أبداً ماثِلاً بها في زمرة الخدم والعبيد ، جامعاً بها بين حاشيتي العزّ المديد ، والشرف العتيد ؛ لا سيما في هذا الوقت وقد أشرقت البلاد بنور طلعته التي هي في ظلمة الدَهر صباح ، وعزّ مطالعته التي فيها لصدور ذوي الشَّنإ شجاً ولزَنْدِ الآمال اقتداح ، ومعاودة ظلَهِ التي أضْحَتِ الشمسُ من حساده ، والزمان من عدد ساكنيه وعتاده ، إلاَ أن الحريص - كما علمه مولانا - مُخلى عن أعذب موارده ، وممنوع بالعوائق عن أكرم مطالعه ومقاصده .
وله يستفتح مكاتبة بعض إخوانه : أنا وإن لم تتقدّم بيني وبينه المكاتبة ، وعادة المساجلة والمفاوضة ، من فرط حِرْصي على افتتاحها وتعاطيها ، واعتراض العوائق دون المرادِ والغرض فيها ، فإن قلبي بودِّه مَغْمُور ، وضميري على مُصَافاته مقصور ، فاعتداده لفضائله التي أصبح فيها أوْحَدِي العِنَان ، وزاحم فيها مَنكِب العَنَان ، واستأثر فيها بالغُرَر والأوضاح ، ما أوْفى بها على غُرَةَ الصباح ، حتى تشاهدَتْ بها ضمائرُ القلوب ، وتهادَتْ أنباءَها ألسِنَة البعيد والقريب ، اعتدادَمن يَجْمَعُ بالاعتداد لها بين شهادةِ قلبه ولسانه ، ومَنْ ينظم في إجلالِ قَدْرِها صفقة إسرارِه وإعلانه ، فهو يتنسمُ الريح إذا هبَّتْ من ناحيته شوقاً ونزاعاً ، ويَسْتَمْلي الوارد والصادِرَ خبرَ سلامته انصياعاً بالود إليه وانقطاعاً . شذور من كلامه في أثناء رسائل شتى : أياديه التي غمرتني سِجَالُها ، واتسَع عندي مَجالها ، وأعيَا شكري عَفْوها وانثِيالها ، تناولت فيها المُنَى دانيةَ القطوف ، واجتليت أنوار العيش مأمونة الكسوف ، ليس يكادُ يبرد غليلُ شوقي وحنيني ، أو ترجع نافرة أنسي وسكوني ، أو تَخْلو من الاهتمام والفكرة فيه خواطري وظنوني ، إلاّ بالتقاءً يدنو أمدُه ، ويَقْرُب مَوْعِدُه ، وتعلو على الفراق يَدُه ، فنعاوِد العيشَ طَلْقاً غزيراً ، ونجتني ثمرَ المُنَى غَضًّاً نضيراً ، ونَجْتَلي وجهَ الزمان مُشْرِقاً منيراً . فوائده لها عندي أثرُ الغَمام أو أنفع ، ومحلُّ السِّمَاكِ أو أرفع . حالي في مفارقة حَضْرَته حالُ بنات الماء قد نَضَب عنها الغَدير ، ونبات الأرض أخطأها النَوْءُ المِطيرُ . لهفي على دهر الحداثة إذ غُصْنُ شبابي غض وَرِيق ، ونَقْلُ شرابي عضٌ ورِيق . كلامٌ أحلى من ريق النّحل ، وأصْفى من رَيق الوبل . من تسود قبل وقته وآلته ، فقد تعرَّض لِمَقْتِه وإذالته . نظمُه له : مجزوء الرمل :
إن مَنْ يلتمس الصد . . . رَ بلا وَقْتِ وآلَهْ
لحقيق أنْ يُلَقى . . . كل مَقْتٍ وإذَالهْ
الشكلُ للكِتاب ، كالحلي للكِعاب . لو كان الشبابُ فِضة لكان الشيبُ له خبثاً . النعمة عروسٌ مهرُها الشكر ، وثوبٌ صَوْنُه النشر . الخضاب تذكرة الشباب . لا تقاسُ المَهاوي بالمَرَاقي ، ولا الأقدام بالتَراقي ، ولا البحورُ بالسواقي . كم أبلاني من عُرْفٍ جزيل لا يُبلِي الدهرُ جدةَ رِدائه ، وقضاني من دَيْن تأميل لا يَقْضي الشكرُ حقَ نعمائه . الشكر للنعمة نتاج ، والكُفْران لها رِتاج ، وكلما زدت النعمة شكراً ، زادت طيباً ونَشْراً .
قطعة من شعره في تجنيس القوافي
قال في أبيه : الخفيف :
مبدعاً في شمائل المجدِ خِيماً . . . ما اهتدَيْنَا لأخْذِهِ واقتباسِهْ
فهو فظ بالمال وقت نداه . . . وجواد بالعفو في وقت باسهوقال فيه : الوافر :
إذا ما جادَ بالأموال ثنى . . . ولم تدركه في الجود الندامه
وإن هَجَست خواطِرُه بجمع . . . لريب حوادث قال الندى مه
وقال فيه : المتقارب :
ولما تنازع صَرْفُ الزمان . . . فزِعْنا إلى سيدٍ نابِه
إذا كشَّرَ الدهرُ عنْ نابِهِ . . . كشفْنَا الحوادثَ عَنَّابِه
وقيل فيه : السريع :
إنْ نابنا خَطْبٌ فآراؤه . . . تغني عن الجيش وتَسريبه
وإن دَجَا ليلٌ بَدَا نورهُ . . . للرَّكْبِ نَجْماً فهو يسري بهِ
وقال يفتخر : المتقارب :
وكم حاسد لي انْبَرى فانْثَنَى . . . لِعَضَّة نَفْس شجاها شَجَاها
ومن أينَ يَسْمُو لنَيْلِ العُلاَ . . . وما بَثَّ مالاً ولا رَاشَ جَاها
ومنها قوله : الوافر :
وسائلةٍ تُسَائِلُ عن فعالي . . . وعمّا حازَ في الدنيا جَمَالي
فقلت : إلى المعالي حَن قلبي . . . وفي سُبُل المكارم لجَّ مَالي
وللعلياء نَهْجٌ مستقيمٌ . . . فما لي تاركاً ذَا النَّهْجَ مَا لي
إذا أسرجْتُ في فخرٍ سَما بي . . . فَعالي والنِّجَارُ فألْجَما لي
وقال في نوع من هذا الجنس : الطويل :
ومَنْ يَسْرِ فوقَ الأرض يطلبُ غايةً . . . من المجد يسري فوق جُمْجُمَةِ النَسْرِ
ومن يختلفْ في العالمين نِجارهُ . . . فإنّا من العلياء نَجْرِي على نَجْرِ
ومن يتجِرْ في المال يَكْسِب رُبْحَهُ . . . فبالمال نَشْري رابحَ الحمْدِ والنَّشْر
وعلى نحو هذا الحذو يقول أبو الفتح البستي : الوافر :
أبا العباس ، لا تحسب بأني . . . لشيء من حُلَى الأشْعَار عارولي طَبْع كسَلْسَالِ المجاري . . . زُلاَلٌ من ذُرَا الأحجارِ جَاري
إذا ما أكْبَتِ الأدوار زَنْداً . . . فلي زَنْدٌ على الأدْوَارِ وَارِي
وقال أبو الفتح البستي أيضاً : الوافر :
بسَيْفِ الدولة اتَّسَقَتْ أُمُورٌ . . . رأيناها مُبَدَدةَ النِّظَامِ
سَمَا وحمى بني سامٍ وحام . . . فليس كمثلِه سام وحامِ
ما قيل في الحاجب
قال بعضُ الملوكِ لحاجبه : إنك عيني التي أنْظُرُ بها ، وجُنتي التي أستنيم إليها ؛ وقد وليَّتك بأبي ، فما تراكَ صانعاً برعيَّتي ؟ قال : أنظر إليهم بعينك ، وأحملهم على قَدْرِ منازلهم عندك ، وأضَعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خِدْمتك مواضع استحقاقهم ، وأُرَتبهم حيث جعلهم ترتيبك ، وأُحْسِنُ إبلاغَكَ عنهم ، وإبلاغَهما عنك .
قال : قَد وَفَيْتَ بما عليك قولاً ، إن وَفَيْتَ به فعلاً ؛ واللّه وليّ كفايتك ومعونتك .
قال المهدي للفضل بن الربيع : إني قد وَلَيتُك سَتْرَ وجهي وكَشْفَه ، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصّي سبباً لضغنهم بِقُبْح ردِّكَ ، وعُبُوسِ وَجْهك ، وقدم أبناء الدعوة ، فإنهم أوْلَى بالتقديم ، وثَن بالأولياء ، واجعل للعامة وَقْتاً إذا دَخلوا أعجلَهُم ضِيقُه عن التلبّث ، وصرَفَهم عنِ التمكُّث .
وقال الحسنُ بن سهل : إذا كان الملك محتجِباً عن الرعيّة ، ولم ينزل الوزير نفسه منزلةً تكون وسائلُ الناس إليه أنفسَهم واستحقاقَهم دون الشفاعات والحرمات ، حتى يختصَّ الفاضلَ دون المفضول ، ويرتّب الناسَ على أقدارهم وأوزانهم ومعرفتهم ، امتزج التدبير ، واختلَت الأمور ، ولم يميّز بين الصدور والأعْجَاز ، والنواصي والأذناب ، وكان الناسُ فَوْضَى ، ووَهَتْ أسبابُ المُلْك ، وانتقَضَتْ مَرَائِرُهُ ، وشاعت سرائره ، وإنّ أَقْرَبَ ما أرجو به صلاحَ ما أتولاه استماعي من المتنسِّمين بأنفسهم ، المتوسّلين بأفهامهم ، المتوصّلين بكفايتهم ، وابتذالُ نفسي لهم ، وصبري عليهم ، وتصفحي ما توسلوا به وانتحَلوه من العقول والآَداب ، والحِماية والكفاية . فمَنْ ثبتت له دَعْواه أنزلْتُه تلك المَنْزِلة ، ولم أتَحيَّفْه حقه ، ولا نَقصْتُه حظه ، ومن قصَر عما ادَعى كانت منزلتُه منزلَة المقصّرين ، ولم أخيبِ أمَلَه من مقدار ما يستحِقّه .
وقاد بعضُ البلغاءِ : إذا أَسدَل الوالي على نفسه ستْر الحِجَاب ، وَهي عَمُودُ تدبيره ؛واسترخَت عليه حمائِلُ الْحَزم ، وازدلَفَتْ إليه وفودُ الذمّ ، وتولى عنه رشد الرَّاجِي ، ونال أمورَه خَلَلُ الانتشار ، وآفةُ الإهمال ، وتَسَرَّعَ إليه العائبون بلواذع ألسنتهم ودَبِيب قوارضهم .
وحُجب سعيد بن عبد الملك عن عبيد اللّه بن سليمان فكتب إليه : سِرْتُ إلى بابك - أعزك الله - عندما حدث من أمرك ، فلم يُقْضَ لقاؤك ، وعلمت أن ثِقَتك بما عندي ، قد مَثَّلَثْ لك حالي من السرور بنعمَةِ اللَهِ عندك ، وأرَتْكَ موضعي من الاعتداد بكل ما خَصَك ووصَل إليك ، فوكلت العُذْر إلى ذلك . ثم إنا نأتيك متيمَنين بطَلْعَتك ، مشتاقين إلى رؤيتك ، فيحجبنا عنك مُلاحظ . وهو كما علمت زَنيم الصنيعة ، لَئيم الطبيعة ، يحْجُبُ عنك الكِرام ، ويَأْذَنُ عليك لِلئام ، كلما نجَمتْ له يدٌ بيضاء ، أتْبَعها يداً سوداء ؛ فإن رأيت - أعزك الله - أن تصرِفَه عن باب مكارمك فعلت ، إن شاء الله .
وقال أبو السمط بن أبي حفصة : الطويل :
فتًى لا يُبَالي المدْلِجُونَ بنُورِه . . . إلى بابه أَلا تُضِيءَ الكواكبُ
له حاجب في كل خَيْرٍ يُعِينه . . . وليس له عن طالب العُرفِ حَاجِبُ
أخذْ البيت الأول من قول جده مَرْوان بن أبي حفصة الأكبر : الطويل :
إلى المصطفى المهديَّ خاضت ركابنا . . . دُجَى الليل يخبِطْنَ السَريح المُخدَمَا
يكون لها نور الإمامِ محمد . . . دليلاً به تَسْرِي إذا الليل أظلَما
وقال إدريس بن أبي حفصة ، وذكر إبلاً : البسيط :
لها أمامك نور تَسْتضِيء ُبه . . . ومِنَ رجَائك في أعْنَاقِها حَادي
لها أحاديث من ذِكْراك تَشغَلُها . . . عن الرُتوعِ وتلهيها عن الزَّادِ
وأصله قول عمرو بن شأس الأسدي : الطويل :
إذا نحنُ أدلَجْنا وأَنتَ أمَامنا . . . كفى لمطايَانا بوجهِكَ هَادِيا
أليس يَزيد العِيسَ خِفةَ أَذْرع . . . وإنْ كُن حَسْرَى ، أَن تكُونَ أمامياوقال بعض أهل العصر : الطويل :
وليل وَصَلْنَا بين قُطْرَيه بالسُرى . . . وقد جَدَّ شوق مُطمْعٌ في وصالِكِ
أَرَبَّتْ علينا من دُجَاهُ حَنَادِس . . . أَعَدْن الطريقَ النهْج وَعْرَ المَسالِكِ فناديتُ يا أسماء ، باسمك ، فانْجَلت . . . وأَسْفَر منها كل أسودَ حَالِكِ
بنا أنت من هادِ نَجَوْنا بذكره . . . وقد نَشِبَتْ فينا أكُف المهالكِ
منحتك إخلاصي وأَصْفَيْتك الهوى . . . وإن كنت لمّا تُخْطِريني بِبالِكِ
وقال القطامي : الطويل :
ذكرتُكُمُ لَيْلاً فنوَر ذِكْرُكُم . . . دُجَى الليل حتى انجابَ عَنْه دَياجِرُهْ
فو الله ما أدْرِي أَضَوْءٌ مُسَجَّر . . . لذِكْرَاكم أم يسْجُر الليلَ سَاجِره ؟
وقال القيني : الطويل :
وإني من القومِ الذين هُمُ هُم . . . إذا مات منهم سيدٌ قام صَاحِبُهْ
نجومُ سماءً كلّما انقضَّ كوكب . . . بَدا كَوْكَبٌ تأوي إليه كواكبُهْ
أضَاءَتْ لهمْ أحسابُهمْ ووجوهُهم . . . دُجَى الليل حتى نَظم الجَزْعَ ثَاقِبُهْ
وقال الحطيئة : البسيط :
نمشي على ضَوْءِ أحْسَابٍ أَضَأْنَ لنا . . . كما أَضاءت نجومُ اللَيْلِ للسارِي
وقد ردَده في موضع آخر فقال : الوافر :
هُمُ القومُ الذين إذا ألَمتْ . . . مِنَ الأيامِ مُظْلِمةٌ أضاءُوا
وكلام القاسم بن حنبل المَدَني من هذا ، حيث يقول : الوافر :
من البيض الوجوه بَنِي سِنان . . . لَو أنك تستضيءُ بهمْ أَضَاءُوا
فَلَو أنَّ السماءَ دَنَتْ لمَجْد . . . ومَكْرُمَةٍ دنَتْ لهمُ السماءُ
همُ حازُوا من الشَّرَفِ المعلى . . . ومن كَرَم العشيرة حَيْثُ شاءُوا
وقال بعض المتقدمين : الطويل :
إذا أشرقَتْ في جُنْحِ ليل وجوهُهُم . . . كَفَوْا خَابِطَ الظلماءِ فَقْدَ المَصَابحِ
وإنْ نابَ خَطْب أو ألمَتْ مُلمَة . . . فكم ثمَ مِنْ آسِي جِراح وجَارحوقال أبو بديل الوضاح بن محمد التيمي في المستعين : الطويل :
وقائلة والليلُ قد نَشَر الدُّجَى . . . فغطى بها ما بين سهلِ وقردَد
أرى بارقاً يَبْدُو من الجوْسَقِ الذي . . . بهِ حلّ مِيْرَاثُ النبيِّ محمدِ
أضاءت لهُ الآفاقُ حتى كأنما . . . رأَيْنَا بنصفِ الليلِ نُورَ ضحَى غدِ
فظلَّ عَذَارَى الحيِّ ينظمْنَ تَحته . . . سُلوكاً من الجَزع الذي لم يسَرَد
فقلت : هو البَدْرُ الذي تعرفونه . . . وإلاّ يَكُنْ فالنور من وجهِ أحمدِ
ما قيل في الاشتياق
وقال عُمَر بن عبد الله بن أبي ربيعة في معنى قول عمرو بن شأس في حثً الاشتياق : الطويل :
خليليَّ ، ما بالُ المطايا كأنما . . . تَراها على الأعْقَابِ بالْقَومِ تَنْكُصُ
فقد أتْعَب الحادي سُراهُنَّ ، وانحنىبهنَ فما بَالَوْا عجول مقلّصُ
وقد قُطِّعَت أعناقُهن صَبَابَةَ . . . فأعْيُنُهَا ممّا تكَلَّفُ تَشْخَصُ
يَزِدْنَ بنا قُرباً فيزدادُ شَوْقُنَا . . . إذا ازدادَ قُرْبُ الدارِ والبُعد يَنْقُصُ
وقال بعض الرجاز ، وذكر إبلاً : الرجز :
إن لها لسائقاً خَدَلجا . . . لم يُدْلج الليلةَ فيمَنْ أَدْلَجا
يريد امرأة يحبّها فيحثه ما يجدُه من الشوق على إجهاد مطاياه بالسوق . كما أنشد إسحاق الموصلي : البسيط :
صبّ يحث مطاياهُ بذكْرِكُم . . . وليس يَنْسَاكُمُ إنْ حَل أو سَارَالو يستطيعَ طوَىَ الأيام نحوكُمُ . . . حتى يبيعَ بعُمْرِ القُرْبِ أعمارا
يرجو النجاةَ من البلوىَ بقربكُم . . . والقربُ يُلْهِبُ في أحشائِه نَارَا
هذا البيت يناسب أبيات أبن أبي ربيعة . يقول : كلما دنا ازدادَ حِرْصاً على اللقاء .
وشخَصَ إسحاق الموصلي إلى الواثق بسُرَّ من رأى ، وأهُلُهُ ببغداد ، فتصيد الواثق وهو معه إلى نواحي عُكْبَراء ، فلما قرب من بغداد قال : الوافر :
طربتَ إلى الأصَيْبِيَة الصّغار . . . وهاجَكَ منهم قُرْبُ المَزَارِ
وكلّ مسافر يَزْداد شوقاً . . . إذَا دَنَتِ الديارُ من الدَيارِ ولحَّنه وغناه الواثق ، فاستحسنه وأطربه ، فصرفه إلى بغداد على ما أحَبّ وكان إسحاقُ قال أولاً : الوافر :
وكل مسافر يَشْتاقُ يوماً . . . إذا دَنتِ الديارُ من الديارِ
فعابوا قوله يوماً ، وقالوا : هي لفظة قَلِقة في هذا الموضع ، لم تحلّ بمركزها ، ولا لها هنا موقع . قال : فضَعُوا مكانها مِثْلَها لا خيراً منها . فما استطاعوا ذلك ، فغيّرها إلى ما أنشدت أولاً .
وقال أبو نواس : الكامل :
أما الدِّيار فقلما لَبِثُوا بها . . . بين اشتياق العِيسِ والرّكبان
وضعوا سِياطَ الشَوْقِ فوق رِقابها . . . حتى طلَعْنَ بها على الأوْطانِ
وقال مَخْلَد بن بكار الموصلي : الطويل :
أقُولُ لِنِضْوٍ أنْفَدَ السَير نيهَاً . . . ولم يبقِ منها غَيرَ عَظْمٍ مجلّدٍ
خدِي بي ابتلاك الله بالشَوْقِ والهوَى . . . وشَاقَك تَحْنَانُ الحَمامِ المغَردِفمرَت سريعاً خَوْفَ دَعْوَةِ عاشق . . . تَشُقّ بِيَ المَوْماةَ في كلِّ فَدْفَدِ
فلما وَنَتْ في السير ثنَيْتُ دَعْوَتي . . . فكانت لها سَوْطاً إلى ضحْوَةِ الْغَدِ
وكان مخلد حلو الطبع ، وهو القائل يمدحُ رجلاً : الرمل :
يَطْلُعُ النَجْمُ على صعْدَته . . . فإذا واجَه نحراً أفلا
مَعْشرٌ إن ظَمِئَتْ أرماحهُمْ . . . أَوْرَدُهنَّ مُجَاجَاتِ الطلى
تَحْسُنُ الألوانُ منهم في الوَغَى . . . حين تَسْتَنكر للرُّعْبِ الحُلَى
سُخط عبد اللّه يُدْني الأَجلا . . . ورِضَاهُ يَتَعَدى الأَملاَ
يُعشب الصَّلْدَ إذا سالمهُ . . . وإذا حارَب رَوْضاً أَمْحَلاَ
مَلِكٌ لو نُشّرت آلاؤه . . . وأياديه على الليل انجلى
حَل بالبَأْس ابنُ عَمرو منزلاً . . . طال حتى قَصُرَتْ فيه العُلاَ
حطَّ رَحْلي في ذَرَاه جُوده . . . وتَمشَى في ندَاهُ الْخَيْزلَى
في الخط
سئِل بعضُ الكتاب عن الخط : متى يستحق أن يوصفَ بالجودة ؟ فقال : إذا اعتدلَت أقسامُه ، وطالت ألِفُه ولاَمُه ، واستقامت سطورُه ، وضَاهَى صعودَه حُدُورُه ، وتفتَّحَتْ عيونُه ، ولم تشتبه رَاؤه ونونُه ، وأشْرَقَ قِرْطاسه ، وأظلمت أنْفاسه ، ولم تختلف أجْناسه ، وأسرع إلى العيون تصوُرُه ، وإلى العقول تَثَمُرُه ، وقُدِّرت فصوله ، وانْدَمَجَتْ وُصُوله ، وتناسب دقيقُه وجَلِيله ، وخرج من نَمَطِ الورّاقين ، وبَعُدَ عن تصنعِ المحررين ، وقام لصاحبه مقام النسبة والحليَة ، كان حينئذ كما قال صاحب هذا الوصف في صفة خط : المتقارب :
إذا ما تجلّل قِرْطَاسه . . . وساوَرَه القلمُ الأرْقَشُ
تَضمَّنَ منْ خَطِّهِ حُلّةً . . . كنَقْشِ الدنانير ، بَلْ أنْقَشُ
حروف تُعِيدُ لعين الكَليل . . . نشاطاً ويقرؤها الأخْفَش
قال أبو هفان : سألت ورَاقاً عن حاله فقال : عيشي أضيق من مِحْبَرة ، وجسمي أدقّ من مِسْطرة ، وجَاهي أرقُّ من الزجاج ، ووَجْهي عند الناس أشدِّ سواداً من الحبر بالزَّاج ، وحظي أخْفَى من شقّ القلم ، ويَدَاي أضْعَف من قَصَبَة ، وطعامي أمرّ من العَفْص ؛وشَرَابي أحرّ من الحبر ، وسوءُ الحال ألزمُ لي من الصَمْغ ؛ فقلت له : عبرتَ عن بلاء ببلاء .
وقال الحمدوني : البسيط :
ثِنتانِ من أدَوَاتِ العِلْمِ قد ثنتا . . . عِنَانَ شَأْوِي عما رمتُ مِنْ هِمَمي
أما الدَواةُ فأَدْمَى جرْمُها جَسَدي . . . وقلّم الحظّ تحريفٌ مِنَ القَلمِ
وحَبرَتْ لي صحْف الحرف مِحْبَرة . . . تَذودُ عَنِّي سَوَامَ المالِ والنعمِ
والعِلْمُ يَعْلَمُ أني حِينَ آخذُهُ . . . لعصمتي نَافِرٌ خِلْوّ من العِصَمِ
وللحمدوني في الحرفة أشعار مستظرفة ؛ وكان مليح الافتنان ، حلو التصرف ؛ وهو إسماعيل بن إبراهيم بن حَمْدَويه ، وحمدويه جدّه ، وهو صاحب الزنادقة في أيام الرشيد ، والحمدوني القائل : السريع :
مَنْ كان في الدنيا له شَارةٌ . . . فنَحْنُ من نَظّارةِ الدنيا نَرْمُقها مِن كَثَبٍ حسْرَة . . . كأننا لَفْظٌ بلا مَعْنَى
وقال : الكامل :
قد قُلْتُ إذْ خرجوا لكي يستَمْطِروا : . . . لا تَقْنَطوا واستمطِرُوا بثيابي
لو في حَزيرانٍ همَمْتُ بغَسْلِها . . . غَطّى ضياءَ الشمس جو سَحاب
فكأنها العباسُ يَسْتَسْقي به . . . عُمَرٌ فيرويهمْ دُعاءُ مُجَابِ
صنعة الأدب
وقال آخر في المعنى الأول : البسيط :
لما أجدْتُ حروفَ الخط حَرَّفَنِي . . . عن كل حظ وجاءت حِرْفَةُ الأدبِ
أقْوَت منازلُ مالي حين وطّنَها . . . مخيماً سَفَطُ الأقلامِ والكُتُبِ
وقال يعقوب الخريمي : البسيط :
ما ازْدَدْتُ في أدَبي حَرْفاً أُسَرُّ به . . . إلا تزيدْت حَرْفاً تحته شُومُ
كذاك من يَدَّعي حُذقاً بصنعَته . . . أنَّى توجهَ فيها فَهْوَ مَحْرُومُ
ولما قتل المقتدر أبا العباس بن المعتز ، وزعم أنه مات حَتْفَ أنفه ، قال عليّ بن محمد بن بسام : البسيط :
لله دركَ مِنْ مَيْتٍ بمَضْيَعَة . . . ناهيكَ في العلم والآَداب والحسَبِما فيه لَوّ ولا لَيْتٌ فينقصهُ . . . وإنما أدركَته حرفة الأدب
قال ابن الرومي : الكامل :
يا ليت أهل البيتِ إذْ حُرِموا . . . عُصِمُوا من الشهوات والفتن
لكنهم حُرِموا وما عُصِموا . . . فقلوبهم مَرضَى الحزنِ
وهُمُ أطَبُّ على بَلِيّتهمْ . . . من غيرهم بمَضَاضَة الشجَن
وقال جعفر بن محمد : إن الله وسَع أرزاقَ الحَمقَى ليعتبرَ العقلاء ، ويعلموا أن الدنيا لا يُنَالُ ما فيها بعَقْل ولا حيلة ، ألاَ إنَّ كسب المال بالحظّ ، وحِفظَه بالعقل .
قال إبراهيم بن سيّار النظام : الذهبُ لئيم ؛ لأنَ الشكلَ يصير إلى شَكلِه ، وهو عند اللئام أكْثَرُ منه عند الكرام . قال المتنبي - وأخذ هذا المعنى : الوافر :
وشِبْهُ الشيءِ مُنْجَذِب إليهِ . . . وأشبَهنَا بِدنيَانَا الطغَام
وكان النظام له نظر بوجوهِ التصرّف ، وكان السلطان يَصِفه بالكثير ، وكان محظوظاً ؛ فإذا اجتمع له مال حَبَسَ لنفسه بُلْغة ، وفرَّق الباقيَ في أبواب المعروف ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : مِنْ حقِّ المالِ عليَ أن أطلُبَه من مَعْدنه ، وأصيب به للفُرْصَةَ عند أهله ؛ ومن حقِّي عليه أنْ يَقِيني السوء بنفسه ، ويصونَ عِرْضي بابتذاله ، ولا يفعل ذلك إلاَ بأن أسمح به ؛ ألا ترى ذا الغنى ؛ ما أدْوَم نَصبه ، وأقلَّ راحته ، وأخرَّ من ماله حَظّه ، وأشد من الأيام حذَره ، وأغْرى الدهر بثَلْبِه ونَقْصِه ، ثم هو بين سلطان يَرْعاه ، وذوي حقوق يسبُّونه وأكفاء ينافسونه ، وولد يريدون فِرَاقَه ، قد بعث عليه الغِنَى من سلطانه العَناء ، ومن أكفائه الحَسَد ، ومن أعدائهِ البَغْي ، ومن ذوي الحقوقِ الذمّ ، ومن الولدِ المَلاَلَ ، وذو البلغة قِنعَ فدام له السرور ، ورفض الدنيا فسَلِمَ من المحذور ، ورَضِي بالكفاف فتنكّبَته الحقوق .
أدوات الورّاق
قال الصولي : أنشدني محمد بن أحمد بن إسحاق : السريع :
أدْمى البُكا جَفْنَيَّ والمآقي . . . فظَلْتُ ذَا هَمٍّ وذا احتِرَاقِما إن أرى في الأرض والآفاقِ . . . أدْنَى ولا أشقَى من الورَّاقِ
إذا أتى في القُمُصِ الأخْلاقِ . . . رأيته مطيرة العُشَّاقِ
يفرح بالأقلام والأوراق . . . كفرْحَةِ الجندي بالأرزاق
وقال بعض الوراقين : المتقارب :
إذا كنتَ بالليلِ لا أكْتُبُ . . . وطول النهار أنَا ألعبُ
فطوراً يبطّلني مَأكَلٌ . . . وطوراً يبطّلني مَشْرَبُ
فإنْ دامَ هذا على ما أرى . . . فبيتيَ أوَّل ما يَخْرب
وقيل لورّاق : ما تَشتَهي ؟ فقال : قلماً مَشَاقاً ، وحِبْراً بَرَاقاً ، وجلوداً رِقَاقاً . وكل امرئ فأمنيته على ما يطابِقُ غريزته ، ويوافِقُ نَحِيزته .
اللذات
قال عليّ بن جبلة العكوك : قال الأصمعي : سُئِل امرؤ القيس : ما أطيب لذّات الدنيا ؟ قال : بيضاء رغبوبة ، بالحسن مكبوبة ، وبالشَحْم مكروبة ، بالمِسْكِ مَشْبُوبة . وسئل الأعشى عن ذلك ، فقال : صَهْبَاء صافية ، تمزُجُها سَاقية ، من صَوْبِ غادية .
وسئل طرفة عن ذلك ، فقال : مركب وَطيّ ، وثَوْبٌ بَهِي ، ومطعم شهي .
قال العكوك : فحدَثت بهذا أبا دُلَف ، فقال : الخفيف :
أطيبُ الطيّبات قَتْلُ الأعادِي . . . واختيال على مُتُونِ الجِيَادِ
ورَسول يَأْبَى بوَعْد حبيبٍ . . . وحبيبٌ يَأْتي بلا ميعادِ
وحدَثت بذلك حُميداً الطوسي ، فقال : الطويل :
فلولا ثلاثٌ هنَّ مِنْ لَذَّةِ الفَتَى . . . وجدِّك ، لم أحْفلْ متى قام عُوَدِيفمنهن سَبْقُ العَاذلاتِ بِشَرْبةٍ . . . كُميْت ، متى ما تُعْل بالماء تزْبِدِ
وكَرَي إذا نادى المُضَافُ مُحنَباً . . . كَسِيد الغَضا ذي السَوْرة المتوَرَدِ
وتقصيرُ يَوْمِ الدَجْنُ مُعْجِبٌ . . . ببَهْكَنَةٍ تحت الخِبَاء المعَمَّدِ
الشعر لطرفة بن العبد .
وحدثت بذلك يزيد بن عبد الله ، فقال : ما أدري ما قالوا ، ولكني أقول : المنسرح :
فَاقْبَلْ من الدَّهْرِ ما أتاكَ بِهِ . . . مَنْ قَرَ عينا بِعَيْشِه نَفَعَهْ
فكان أسدَهم .
والبيت للأضبط بن قُرَيع ، أنشده أبو العباس ثعلب ، قال : وبلغني أن هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدَهْرٍ طويل : المنسرح :
لكل ضيق من الأُمور سَعَهْ . . . والصبحُ والمُسْيُ لا فلاحَ مَعهْ
ما بالُ مَنْ سره مصابُك لا . . . يَمْلِك شيئاً من أمْرِهِ وَزَعَهْ
أذُود عن حَوْضِه ويَدْفعُني . . . يا قوم ، مَن عاذِري من الخَدَعَهْ ؟
حتى إذا ما انجلتْ عَمايَتهُ . . . أقْبَل يَلْحَى وغَيه فَجَعه
قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلهِ . . . ويأكلُ المالَ غيرُ من جَمَعهْ
ويقطعُ الثوبَ غيرُ لابسهِ . . . ويلبسُ الثوبَ غيرُ مَن قَطَعه
فاقْبَلْ من الدَّهْرِ ما أتَاك بهِ . . . مَنْ قر عيناً بعيشه نَفَعَهْ
وصِلْ حبالَ البعيد إنْ وَصَلَ الْ . . . حَبْلَ ، وأقْصِ القريبَ إنْ قَطَعَهْ
ولا تُعَادِ الفقيرَ عَلكَ أنْ . . . تَرْكَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعهْ
هذا البيت شبيه بما روي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ،كثيراً ما يستنشدني قول اليهودي : الكامل :
ارفعْ ضعيفك لا يَحُرْ بكَ ضعفهُ . . . يوماً فتُدْرِكَه العواقب قد نما
يجْزِيك ، أو يُثْنى عليك ، وإن مَن . . . أثْنَى عليك بما فَعَلْتَ كمَنْ جَزَى
فأنشده ، فيقول : إني فطِن لها .
وكان الأضبط سيد بني سعد ، وكانوا يشتمونه ويؤذونه ، فانتقل إلى حي من العرب فوجدهم يؤذون سادتهم ، فقال : حيثما أوجّه ألق سعداً فذهبت مثلاً . قال الطائي : الطويل :
فلا تَحْسِبَنْ هنداً لها الغَدْرُ وحدها . . . سجيةُ نَفْسٍ ، كل غانِيةٍ هِندُ
وصف المحبرة والقلم
قال بعضُ الكتاب يصف محبرة : الكامل :
ولقد مضَيْتُ إلى المحدِّث آنفاً . . . وإذا بحضْرَته ظِباءٌ رُتَّعُ
وإذا ظِبَاءُ الإنْسِ تكتُبُ كل ما . . . يُمْلَى ، وتحفظ ما يقول وتَسْمَعُ
يتجاذبون الحِبْرَ من ملمومةٍ . . . بيضاءَ تحمِلُها عَلائِقُ أربعُ
من خالص البَلّورِ غُيِّر لَوْنها . . . فكأنها سبَجٌ يَلوحُ ويَلْمَعُ
إنْ نكَّسوها لم تَسِلْ ، ومليكها . . . فيما حوَتْهُ عاجلاً ، لا يَطْمَعُ
ومتى أمالوها لِرَشْفِ رُضابها . . . أداه فُوهَا وهي لا تتمنَعُ
وكأنها قَلْبي يَضِن بسِرَه . . . أبداً ، ويكَتمُ كل ما يُسْتودَعُ
يَمْتَاحُها ماضِي الشبَاة مُذَلق . . . يجري بميْدَانِ الطّرُوس فيُسْرعُ
رِجْلاَهُ رأسٌ عنده لكِنَّه . . . يلقاه برد حَفَاهُ ساعةَ يقطَعُوكأنَّه والحِبْرُ يَخْضِبُ رأسهُ . . . شيخٌ توَصْلِ خريدةٍ يتَصَنَّع
لِمَ لا أُلاحظه بعَيْنِ جلالةٍ . . . وبه إلى اللهِ الصحائفَ ترفع ؟ وقال أبو الفتح كشاجم : المنسرح :
مِحْبَرة جَادَ لي بها قَمَرٌ . . . مستَحسَنُ الخَلْقِ مرتضى الخلقِ
جوهرة خَصني بجوهرةٍ . . . ناطَتْ له المكرمات في عنقي
بيضاء والحِبرُ في قَرَارَاتِها . . . أسْوَدُ كالمِسْك جِد منفَتِقِ
مثل بياضِ العيون زَيّنَهُ . . . مُسْوَدُ ما شَابَه مِنَ الحَدَقِ
كأنما حِبرُهَا إذا نَثَرَتْ . . . أقلامُنَا ظِلَّه على الوَرَقِ
كحْلٌ مَرَته العُيُونُ مِنْ مُقَل . . . نُجْل فأَوْفَت بِهِ على يَقَقِ
خَرْسَاء لكنَّها تكون لنَا . . . عَونَاً على عِلم أفصح النُّطُقِ
وقال عبد الله بن أحمد : القلم أمْرَهُ ، ما لم يَكتَحِل بإثمِد الدَّوَاة .
وكتب إبراهيم بن العباس كتاباً فأراد مَحو حرف فلم يجد منديلاً ، فمحاه بكُمِّه فقيل له في ذلك ، فقال : المالُ فَرْعٌ ، والعلمُ أصل ، وإنما بلَغنَا هذه الحال ، واعتقدنا هذه الأموال بهذا القلم والمداد ، ثم قال : الوافر :
إذا ما الفكرُ أضْمَرَ حُسْنَ لَفظٍ . . . وأدَّاه الضميرُ إلى العِيانِ
ووَشّاهُ ونَمْنَمَه مسَدٍّ . . . فصيحٌ بالمَقَالِ وباللَسان
رأيت حُلَى البيانِ منوّراتٍ . . . تَضَاحَكُ بينها صوَر المعاني
ألفاظ لأهل العصر في أوصاف آلات الكتابة والدويِّ والأقلام .
الدواة من أنفع الأدوات ، وهي للكتابة عتَاد ، وللخاطر زنَاد ، غدير لا يرِدُه غَيْرُ الأفهام ، ولا يمتح بغير أَرشية الأقلام ، دواة أنيقة الصَّنْعَة ، رَشيقة الصبغة ، مسكيّة الجلد ، كافُورِية الحِلْية . غدير تفيض ينابيعُ الحِكْمَة من أقْطَاره ، وتنشأ سُحُبُ البلاغة مِنْقراره . دواة تداوي مرض عفاتك ، وتدوي قلوب عداتك ، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك ، وارتفاع النوائب عن ساحتك ، ومداد كسواد العَيْنِ ، وسُوَيْداءِ القلب ، وجناح الغُرَاب ، ولعابِ الليل ، وألوانِ دهمِ الخيل . وهذا من قول ابن الرومي : الرجز :
حبر أبي حَفصٍ لعَاب الليلِ . . . كأنه ألوانُ دُهْمِ الخيلِ
قال العاصر : مِدادٌ ناسب خافِية الغُرَاب ، واستعار لونَه من شَرْخِ الشباب ، وأقلام جَمَة المحاسن ، بعيدة من المَطَاعِن ، تعاصي الكاسي ، وتمانِع الغامِزَ الْقَاسِي . أنابيب ناسبت رِماح الخطِّ في أجْناسها ، وشاكلت الذهبَ في ألوانها ، وضاهَت الحديدَ في لمعانها ؛ كأنها الأميالُ استواءً ، والآجالُ مَضاءً ، بطيئة الحَفى ، قوية القُوَى ، لا يُشظيها القَطُ ، ولا يتشعَّبُ بها الخطُ . أقلام بحرية مَوْشِيَّةُ اللِّيط ، رائقة التخطيط . قلمٌ معتدل الكُعُوب ، طويل الأنبوب ، باسِقُ الفروع ، رَوِيً اليَنْبُوع ، هو أَوْلَى باليد من البَنَانِ ، وأَخْفَى للسرّ من اللِّسان . هو للأنامل مطيّة ، وعلى الكتابة معونة مَرْضِيّة . نعم العُدَة القلم : يقلم أظافِرَ الدَّهر ، ويملك الأقاليم بالنَّهْي والأمر ، إن أرَدْتَ كان مسجوناً لا يملّ الإسار ، وإن شئتَ كان جواداً جارياً لا يعرفُ العِثار ، لا ينْبُو إذا نَبَتِ الصِّفَاح ، ولا يُحْجِمُ إذا أحجمت الرِّمَاح .
قال أبو الفتح كشاجم ، يصف محبرة ومقلمة وأقلاماً وسكيناً : الرجز :
جسمي من اللَّهْو وآلاتِ الطرَبْ . . . ومن عَتَادٍ وثَرَاءً ونَشَبْ
ومن مُدَام ومَثَانٍ تَصْطَحِبْ . . . وهمّةٍ طمّاحةٍ إلى الرُتَبْ
مَجَالسٌ مَصُونَة مِنَ الرِّيَبْ . . . معمورةٌ من كلِّ عِلْمِ وأدَبْ
تكَادُ مِنْ حَرِّ الحديثِ تَلْتَهِبْ . . . شِعْراً وأخباراً ونحواً يقتضبْ
ولغةً تجمعُ ألْفَاظَ العربْ . . . وفقَراً كالوَعْدِ في قَلْبِ المُحِبْ
أو كتأتِّي الرزق مِنْ غيرِ طلبْ . . . أجَلْ ، وحَسْبِي من دُوِيٍّ تُنتخَبْ
محلَّيات بلُجَيْنٍ وذهَبْ . . . محْبَرَة يُزْهَى بِهَا الحِبْرُ الألَبّمثقوبة آذَانُها ، وفي الثقُب . . . مثل شُنُوفِ الخُرَدِ البيض العُرُب
تضمن قطراً للكَتْب عشُبْ . . . أَسْوَد يَجْري بمعانٍ كالشُهُبْ لا تَنْضُب الحكمةُ إلاَ إنْ نَضَبْ . . . نِيطَتْ إلى يُسْرَى يَدَيَّ بِسَبَبْ
كالقُرْطِ في الجيدِ تَدَلّى فاضْطَرَبْ . . . تصحبها ، والأخَواتُ تُصْطَحَبْ
كأنه يودع نَبْلاً من قَصَبْ . . . لم يَعْلُها رِيشٌ ولم تَحْمِلْ عَقَبْ
لا تَضْحَكُ الأوْرَاقُ حتى يَنتحِبْ . . . تَرْمي بها يمنايَ أعْراضَ الكُتُبْ
رمياً متى أقْصِدْ به السمْتَ أُصِب . . . ومُدْية كالعَضْبِ ما مَسَ القَصَبْ
غَضْبَى على الأقْلاَم من غير سبَبْ . . . تَسْطُو بها في كل حينٍ وتَثِبْ
وإنما ترْضيكَ في ذاك الغَضبْ . . . فتلك آلاتي ، وآلاتي تُحَبّ
والظّرْفُ في الآلاتِ ممّا يُسْتَحَبّ . . . لا سيما ما كان مِنْها للأدَبْ
من أخبار الخليفة المأمون
تظلم رجلٌ إلى المأمون من عامل له ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما ترك لي فِضة إلاَ فضَها ، ولا ذهباً إلاّ ذهب به ، ولا غلَّة إلا غَلّها ، ولا ضَيعَةً إلا أضاعها ، ولا عِلْقاً إلا عَلِقًه ، ولا عَرَضاً إلا عَرض له ، ولا ماشية إلا امْتشَّها ، ولا جليلاً إلاَ أجْلاَه ، ولا دقيقاً إلا أدَقَّه ، فعجب من فصاحته وقضى حاجَتَه .
قال عمرو بن سعد بن سلم : كانت علي نوبة أنوبها في حرس المأمون ، فكنتُ في نوبتي ليلةً فخرج متفقّداً مَنْ حَضَر ، فعرفته ولم يعرفني ، فقال : من أنت ؟ قلت : عَمْرو ، عمرك الله ، ابن سعيد ، أسْعَدك الله ، ابن سلم ، سلمك الله . فقال : تكلَؤُنا منذ الليلة . قلت : الله يَكْلَؤُك قَبْلي ، وهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
فقال المأمون : الرجز :
إن أخاك الحقّ من يَسْعَى مَعَكْ . . . ومَن يَضُرُ نَفسَه لينْفَعًك
ومَنْ إذا صَرفُ زمان صَدَعَك . . . بَدد شَملَ نَفْسِهِ ليجمَعَكْوصف الروض والزهور
وقال علي بن العباس الرومي : الكامل :
خَجِلتْ خُدودُ الوَرْدِ من تَفْضِيله . . . خجلاً تَوَرُدها عليه شَاهِدُ
لم يخجل الوردُ المورَدُ لونه . . . إلا وناحِلُه الفضيلةَ عَانِدُ
للنرجس الفَضْلُ المبين إذا بَدَا . . . بين الرياض طريفه والتَّالدُ
وكان ابنُ الرومي متعصباً للنرجس ، كثير الذمِّ للورد ، وكتب إلى أبي الحسن ابن المسيب : الكامل :
أدْرِك ثِقَاتكَ إنهم وَقعوا . . . في نَرْجِسِ معه ابْنَةُ العِنَبِ
فهُمُ بحالٍ لو بَصُرْتَ بها . . . سبحْتَ من عُجْبٍ ومن عَجَبِ
رَيْحَانُهُمْ ذَهبٌ على دُرَرٍ . . . وشرابُهُمْ دُرٌ على ذهَبِ
في رَوْضَةٍ شَتْوِية رَضعَتْ . . . دَرَ الحيا حَلَباً على حَلَب
واليومُ مَدْجُونٌ فَحُرَتُهُ . . . فيهِ بمُطَّلَعٍ ومُحْتَجب
ظلت تسامرنا وقد بَعَثَت . . . ضوءاً يلاحِظنا بلا لَهَبِ
وكان كِسْرى أنو شروان مُسْتَهْتراً بالنرجس ، وكان يقول : هو ياقوت أصفر ، بين در أبيض ، على زمرد أخضر ، نقله بعض المحدثين فقال : الطويل :
وياقوتة صفراء في رأسِ دُرَة . . . مركَبة في قائمٍ مِن زَبَرْجَدِ
كمثل بهي الدر عقد نظامها . . . نَثيرُ فِرندٍ قد أطاف بِعَسْجدِ
كأن بقايا الطلِّ في جَنَباتِها . . . بقيةُ دَمع فوق خَدً مورَدِ
رجع إلى ابن الرومي : الكامل :
فَضلُ القضيةِ أن هذا قائد . . . زَهَر الربيع وأنَ هذا طاردُ
شتانَ بين اثنين : هذا مُوعدٌ . . . بتَصرُمِ الدنيا ، وهذا وَاعدُ
فإذا احتفظتَ به فأمتَعُ صاحبٍ . . . بحياته ، لو أن حيا خالِدُ
ينهى النديمَ عن القبيح بلَحظِهِ . . . وعلى المُدَامَةِ والسَماعِ يُسَاعِدُاطلب بعَقْلك في الملاح سَميه . . . أبداً ؛ فإنك لا محالة واجِد
والوردُ إن فتَّشت فردٌ في اسمه . . . ما في الملاَح له سمي واحد
هذي النجوم هي التي ربَّينها . . . بحَيَا السحابِ كما يربي الوالد فانْظُرْ إلى الولدين ، مَنْ أدناهما . . . شبَهاً بوالده فذاك الماجد
أين الخدود من العيون نفاسةً . . . ورياسةً ، لولا القياس الفاسد ؟
وقد ناقضه جماعةَ من البغداديين وغيرهم في هذا المذهب ، وذهبوا إلى تفضيل الوردِ ؛ فما دانَوه وما استطاعوه .
قال أحمد بن يونس الكاتب راداً عليه : الكامل :
يا مَنْ يُشَبِّه نَرْجِساً بنواظرٍ . . . دُعِجِ ، تنبه إنَّ فهمَك راقد
إنّ القياسَ لمن يصحُّ قياسهُ ، . . . بين العيون وبينه متَباعد
والوردُ أصدقُ للخدودِ حكايةً . . . فعلامَ تَجحَد فَضلَه يا جاحد ؟
مَلك قصير عُمْرُه مُسْتَأهِل . . . تخليده ، لو أنّ حياً خالد
إنْ قلت إنَّ الوردَ فَرد في اسمه . . . ما في المِلاح له سميَّّ واحِد
فالشمسُ تُفْرَدُ باسمها والمشترَي . . . والبدر يُشرَك في اسمه وعطَارِد
أو قلت إنّ كواكبا ربينها . . . بحَيَا السَحَابِ كما يُربِّي الوالد
قلنا أحقّهما بِطَبْع أبيه في ال . . . جَدْوَى هو الزَّاكِي النجيبُ الرَّاشد
زُهْرُ النجومِ تَرُوقُنا بضِيائها . . . ولها منافعُ جمة وعَوَائِدُ
وكذلك الوَرْدُ الأنِيقُ يَرُوقُنَا . . . وله فضائلُ جَمَّةٌ وفَوَائِدُ
وخليفه إن غاب ناب بنَفْعِه . . . وبنفحه أبداً مقيم راكِدُ
إنْ كنْتَ تُنكِرُ ما ذَكَرْنا بعدما . . . وضَحَت عليه دلائل وشَواهِدُ
انْظُرْ إلى المصْفَرِّ لوناً منهما . . . وافطنْ فما يَصْفَرُ إلاّ الحاسِدَ
نبذ من النظم والنثر في صفات النَّور والزهر
قال عليّ بن الجهم : البسيط :
لم يضحَك الوردُ إلا حين أعْجَبَه . . . حُسنُ الرِّياضِ وصوت الطائرِ الغَرِدِ
بدا فأَبْدَتْ لنا الدنيا محاسِنَها . . . وراحَتِ الرَّاحُ في أثوابها الجُدُدِوقابلَته يد المُشتَاقِ تسْنِدهُ . . . إلى الترائب والأحشاءِ والْكَبدِ
كأن فيه شفاءً من صَبَابتِه . . . أو مانِعاً جَفْنَ عينيه مِنَ السُهُدِ
بين الندِيمين والخلَين مَصْرَعُه . . . وسَيرُه مِن يَدٍ موصولةٍ بِيَدِ
ما قابلت طَلعَة الرَّيحانِ طَلعته . . . إلا تبينتَ فيه ذِلَّة الحسدِ
قامَت بحجته ريح معَطَرَة . . . تَشفي القلوبَ من الأوْصابِ والكَمَدِ
لا عذبَ اللَه إلاّ من يعَذِّبه . . . بمسِمع باردٍ أو صَاحبَ نكِدِّ
وكان أردشير بن بابك يصف الورد ويقول : هو درّ أبيض ، وياقوتٌ أحمر ، على كراسي زَبرجَد أخضر ، توسطه شذورٌ من ذَهبٍ أصفر ، له رِقة الخمر ، ونفحات العِطر ، أخذه محمد بن عبد اللّه بن طاهر فقال : البسيط :
كأنهن يواقيتٌ يُطِيفُ بها . . . زُمُرُّد وسْطَه شَذرٌ مِنَ الذَّهَبِ
فَاشْرَبْ على مَنْظَرٍ مستظْرَفٍ حَسَن . . . من خَمْرَةٍ مَزة كالجَمْرِ في اللَّهَبِ
وقال يزيد المهلبي : أحَب المتوكل أن ينادمَه الحسين بن الضحاك ، الخليع البصري ، وأن يَرَى ما بَقيّ من ظَرْفِه وشهوته لما كان عليه ، فأحضره وقد كبر وضعُفَ ، فسقاه حتى سكر ، وقال لخادمه شفيع : اسْقِه ؛ فسقاه وحيّاه بوَردَة ، وكانت على شفيع أثوابٌ ، فمدّ الحسين يده إلى دِرْع شفيع ، فقال المتوكل : أتخمش غُلاَمي بحضرتي ؟ كيف لو خَلَوْتَ به ما أحوجَكَ يا حسينُ إلى أدب وكان المتوكل غمز شفيعاً على العبث به ، فقال حسين : سيدي ، أريد دواة وقرطاساً ؛ فأمر له بهما ، فكتب : الطويل :
وكالوردة البيضاء حَيا بأَحْمَرٍ . . . من الوَرْد يسعى قي قَرَاطِقَ كالوَرْدِ
له عَبَثَات عند كلِّ تحيةٍ . . . بِكفّيْهِ يستَدعي الخلِيَّ إلى الوَجْدِ
تمنّيت أنْ أُسْقى بكفّيه شَربةً . . . تذكرني ما قد نسيتُ من العَهدِ سَقَى اللَّه عيشاً لم أنَمْ فيه ليلةً . . . من الدهر إلاَّ من حبيب على وَعْدِ
ثم دفع الرقعةَ إلى شفيع ، وقال : ادْفَعْها إلى مولاك ؛ فلمّا قرأها استملحها ، وقال : لو كان شفيع ممن تَجُوز هِبَتُه لوهَبْتُه لك ، ولكن بحياتي يا شفيع إلاّ كنت ساقيهُ بقيَّة يومه وأمر له بمال كثير حمل معه لما انصرف .قال يزيد المهلبي : فصرتُ إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكل بأيام ، فقلت : ويحك أتدري ما صنعت ؟ قال : لا أدَعُ عادتي بشيء ، وقد قلت بعدك : مجزوء الخفيف :
لا رَأى عطفة الأحِبْ . . . بَةِ مَنْ لا يصرحُ
أصْغَرُ الساقيَيْن أَش . . . كَلُ عِنْدي وأمْلَحُ
لو تراه كالظبي يَسْ . . . نح طَوْراً ويَبْرَح
خِلْتَ غُصْناً على كثب . . . بٍ بنَوْرٍ يُوَشحُ
قال الصولي : وكأن الأول من أبيات الحسن من قول العباس بن الأحنف : الكامل :
بيضاء في حُمْرِ الثيابِ كوَرْدَةٍ . . . بيضاء بين شقائقِ النعمانِ
تهتزُّ في غَيَدِ الشباب إذا مَشَتْ . . . مثل اهتزازِ نَوَاعِمِ الأغْصَانِ
قال أبو بكر الصولي : كان عند الخصي الوزير ظبي داجن ربيب في داره ، فعمد إلى نيلوفر فأكله ، فاستملح الغزال وأنسه ، وقال : لو عمل في أُنْس هذا الغزال وفعله بالنيلوفر لاشتمل العمل على معنًى مليح فبلغ الخبر أبا عبد الله إبراهيم ابن محمد بن عرفة نفطويه ، فبادر لئلاّ يُسبق ، وعمل أبياتاً أولها : الطويل :
جرَتْ ظَبْيَة غنَّاء تَرْعَى برَوْضَةٍ . . . تَنُوشُ لدَى أفْنَانِها ورَقاً خُضْرا
في أبيات غير طائلة ، فاستبرد ما أتى ، قال الصولي : فقلت : الطويل :
ونَيلُوفرٍ يحكي لنا المِسْكَ طيبُهُ . . . تراه على اللذّاتِ أفْضَلَ مُسْعِدِ
قد اجتَنَ خوفَ الحادثات بجُنَةٍ . . . تروقُ كثوبِ الراهب المتعبِّدِ
تُرَكَب كالكاسَاتِ في ذَهبيَّةٍ . . . على قُضُبٍ مخضرَّةِ كالزَّبَرْجَدِ
وأُلْبس ثوباً يفضُلُ اللَحْظَ حُسْنُه . . . كما عبِثَتْ عينٌ بِخَد موَرَدِ
غَذتْهُ أهاضيبُ السماء بدَرِّها . . . تروحُ عليه كلَّ يوم وتَغْتَدي
تلبِّس للأنْوارِ ثوْب سمائه . . . ففضَلَ عنه الحسن في كل مَشهَدِ
وفي وسطه منه اصفرارٌ يَزينُه . . . كياقوتةٍ زرقاءَ في رَأسِ عَسْجَدِ
أطاف به أحْوَى المدامع شَادِنٌ . . . حَكى طَرْف من أهْوى وحُسن المُقَلَّدِ
كما أخذ الظمآنُ بالفم كاسه . . . ولم يستَعِنْ في أخذه الكاسَ باليَدِوقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع : الكامل :
يومٌ أتاك بوَجْهِه المتهلل . . . ناهيك من يومٍ أغرَ مُحجلِ
خلع الغمامُ على اخْضِرارِ سمائهِ . . . خِلَعاً فَبَيْنَ مُمَسك ومُصَنْدَلِ
وكسا الرُبى حُلَلا تخالَفَ شكلها . . . بموردٍ ومُعَصْفر ومُكَحل
وتمايلَتْ فيه قدودُ غصُونِهِ . . . من شُرْبِ كاساتِ العيونِ الهطلِ
وعَلا على الأشجار قَطْرُ سمائها . . . فهدَتْ لعينِ الناظر المتأملِ
يَحْكي قِبَاب زُمُردٍ قد كُللَتْ . . . بمنظمٍ من لؤلؤ ومُفَصَّلِ
وأتاك نَوْرُ البَاقِلاءِ كأنما . . . يَرْنو إليكَ بعين أكْحَل أقْبَلِ
الوَرْدُ يُخجلُ كل نورٍ طالع . . . وتراه مُنتقِباً بحُمْرَةِ مُخجلِ
وحكى بياضُ الطَّلْع في كافورهِ . . . وجْهَ الخريدة في الخمارِ الصَّنْدَلي
فكأنما الدنيا عَرُوسٌ أقْبلَتْ . . . في كل أنواع الملابس تجْتَلي
فاشرب مُعَصْفَرَة القميص سُلافةً . . . من صنعة البَردَان أو قُطْرَبلِ
وقال أبو الفتح البستي : الكامل :
يومٌ له فَضْلٌ على الأيام . . . مزَجَ السَحابُ ضياءَهُ بظلامِ
فالْبَرقُ يخفق مِثْلَ قَلْبٍ هائمٍ . . . والْغَيمُ يَبْكي مثل طَرْفٍ هَامِ وكأنَّ وَجْهَ الأرض خَدُ متيمٍ . . . وُصِلت سِجَامُ دموعِه بسِجَامِ
فاطلبْ ليومك أربعاً : هن المُنَى . . . وبهنَ تصفُو لذَّةُ الأيام
وَجْهَ الحبيب ، ومنظراً مستشرقا ، . . . ومغنيا غَرداً ، وكأسَ مُدامِ
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الكامل :
سَلَّ الربيعُ على الشَتاء صوارماً . . . تَرَكَتْه مجروحاً بلا إغْمَادِ
وبكَتْ له عَيْنُ السماء بأدمُع . . . ضَحِكَتْ لسَاجمها رُبَى الأنجاد
وَبَدَتْ شقائِقُها خِلال رياضها . . . تُزْهى بثوبَيْ حُمْرَةٍ وسَوادِ
فكأنها بِنْتُ الشتاء توجَعَتْ . . . لمُصَابه كشقيقة الأولادِ
فقَنُوءُ حُفرَتها خِضَابُ نجيعه . . . وسوادُ كُسْوَتِها لِبَاسُ حِدادِوقال : الطويل :
تصوغُ لنا كفُّ الربيعِ حدائقا . . . كعقد عَتِيقٍ بين سِمْطِ لآلي
وفيهن أنْوَار الشقائقِ قد حَكَت . . . خُدودَ عذارَى نقَطت بِغَوَالي
وقال : المتقارب
كأنَّ الشقائقَ إذ أبرَزَت . . . غِلاَلة دادٍ وثَوباً أحَمّ
قطاعٌ من الجَمرِ مشبوبة . . . فأطرافُها لُمَع مِن حَمَم
وقال في حديقة ريحان : الكامل :
أعدَدْت مُحتَفلاً ليوم فَرَاغي . . . روضاً غَدا إنسانَ عَيْنِ الباغي
روض يَرُوضُ هموم قلبي حُسنُهُ . . . فيه لكأس الأنسِ أيّ مَسَاغِ
فإذ بدَتْ قضْبانُ ريحانٍ به . . . حيت بمثلِ سلاسلِ الأصْداغِ
وقال في النرجس : المجتث :
أهْلاً بنرجس رَوْضٍ . . . يُزْهَى بحسْنٍ وطِيبِ
يَرْنُو بعَينَيْ غزال . . . على قَضِيبٍ رَطيبِ
وفيه مَغنًى خفيّ . . . يرِينُه للقلوبِ
تَصحِيفُه إنْ نَسَقْتَ ال . . . حُرُوفَ بِرُّ حَبِيبِ
وقال : الطويل :
وما ضمَ شملَ الأُنس يوماً كنرْجِسٍ . . . يقومُ بعُذْرِ اللَهْوِ عن خالِع العُذْرِ
فأحداقه أحداق تِبْرٍ ، وساقهُ . . . كقامة ساقٍ في غَلاَئلهِ الخُضْرِ
وقال البحتري : الطويل :
سَقَى الغيثُ أكنافَ اللِّوى من محلّةٍ . . . إلى الحِقْف من رَمْل اللوى المتقاودِولا زال مخضر من الروض يانع . . . عليه بِمْحْمَرٍّ من النوْرِ جاسِد
شقائق يَحمِلن الندَى فكأنه . . . دموع التصابي في خدودِ الخرائد
ومن لؤلؤ في الأقحوان منَظمٍ . . . ومن نكَتٍ مُصْفَرَة كالفَرَائِدِ
كأن جَنَى الحوذان في رَونَق الضحى . . . دنانيرُ تِبْرٍ من تُؤام وفارِدِ
إذا راوحتها مُزنَةّ بَكَرَت لها . . . شآبيبُ مجتاز عليها وقاصدِ
رِباع تردَّت بالرياض مَجُوْدَةً . . . بكل جديد الماء عَذْبِ الموارد
كأن يد الفتح بن خاقانَ أقبلتْ . . . تَليها بتلك البارقات الرَّواعِد
قال أبو محمد عبد اللّه بن جعفر بن دَرَسْتَويه : قال لي البحتري وقد اجتمعنا على حلوة عند المبرد وسَلَكْنَا مسلكاً من المذاكرة : أشعرت أني سبقت الناسَ كلّهم إلى قولي : الطويل :
شقائقُ يحمِلْنَ النَّدَى فكأنَّهُ . . . دموعُ التصابي في خُدودِ الخرائدِ
كأن يدَ الفَتْحِ بن خاقان أقبلَتْ . . . تليها بتلك البارقات الرَّواعِدِ
هكذا أنشد ، فاستحسن ذلك المبرد استحساناً أسرف فيه ، وقال : ما سمعت مثل هذه الألفاظ الرّطبة ، والعبارة العَذْبة ، لأحدٍ تقدَّمك ولا تأخَّر عنك . فاعتَرَتْهُ أَرْيَحِيةٌ جربها رِداء العُجب ؛ فكأنه أعجبني ما يُعْجب الناس من مراجعة القول ؛ فقلت : يا أبا عُبَادة ، لم تَسْبِق إلى هذا ، بل سبقك سعيد بن حميد الكاتب إلى البيت الأول بقوله : الكامل :
عَذُبَ الفراقُ لنا قُبَيل وَداعِنا . . . ثم اجترعناهُ كسمٍّ ناقعِ
وكأنما أثرُ الدموع بخدِّها . . . طَلّ تساقطَ فوق وَرْدٍ يانعِ وشركك فيه صديقُنا أبو العباس الناشئ بما أنشدنيه آنفاً : المتقارب :
بكَت للفراق وقد راعَني . . . بكاءُ الحبيب لبُعْدِ الديارْكأنَّ الدموعَ على خدِّها . . . بقية طَلً على جُلَنار
وما أساء علي بن جريج ، بل أحسن في زيادته عليك بقوله : المنسرح :
لو كنتً يوم الوداع شاهِدَنا . . . وهنَ يُطْفينَ غُلّةَ الوَجْدِ
لم تَرَ إلاّ دموعَ باكيةٍ . . . تَسْفَح من مُقْلةٍ على خدِّ
كأن تلك الدموع قَطْرُ نَدًى . . . يقطُر من نَرْجِس على وَردِ
وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معاً بقوله : الكامل :
من كل زاهرةٍ ترقرَق بالنَدَى . . . فكأنها عينٌ إليه تَحَدرُ
تبدو ويَحجبَها الجميمُ كأنها . . . عَذراء تبدو تارة وتخفرُ
خَلقٌ أطل من الربيع كأنهُ . . . خُلُقُ الإمامِ وهَدْيُهُ المتنشّرُ
في الأرض من عَدْلِ الإمام وجُودِهِ . . . ومن الربيع الغَض سَرح في يزهر
يُنسي الربيع وما يروض جودة . . . أبداً على مَرَ الليالي يُذكَر
قال : فشقَّ ذلك عليه ، وحلِّ حَبْوَتَه ونهض ، فكان آخر عهدي بمؤانسته وغَلُظ ذلك على محمد بن يزيد ، وقدح ذلك في حالي عنده .
وقال البحتري يمدح الهيثم بن عثمان الغنوي : الطويل :
ألست ترى مَدَّ الفُراتِ كأنهُ . . . جبال شَرَوْرَىَ جِئن في البحر عُوَما
وما ذاك من عاداته غير أنهُ . . . رَأَى شِيمَةً من جارِه فتعلمَاوقد نبه النَوْرُوزُ في غَبَش الدُّجى . . . أوائلَ وَرْد كُنَ بالأمس نُوَمَا
يُفَتحها بَرْدُ الندى فكأنهُ . . . يبث حديثاً بينهنَ مُكَتَّمَا
ومن شجرٍ رَدَّ الربيع لِبَاسهُ . . . عليه كما نَشَرْتَ بُرْداً مُنَمْنَمَا
أحَلَّ فأَبدى للعيونِ بَشَاشَةً . . . وكان قذًى للعين مذ كان محْرمَا
فما يمنع الراح التي أنت خِلُّها . . . وما يَمْنَعُ الأوتار أن تترنَّماَ
وما زلت خِلاً للندَامى إذا اغْتَدَوا . . . وراحُوا بُدوراً يستحِثّون أنْجُمَا
تكرّمْتَ مِنْ قَبْلِ الكؤوس عليهِمُ . . . فما اسْطَعْنَ أن يُحْدِثْنَ فيك تكرما
وقال آخر : البسيط :
حيَّتْك عنا شمال طافَ طائِفُهَا . . . بجنَّةٍ فجرتْ راحاً ورَيْحَانَا
هبتْ سُحَيراً فناجَى الغُصْنُ صاحبَه . . . سِرًّا بها وتداعَى الطيرُ إعلانا
وُرْقٌ تَغنّى على خُضرٍ مُهَدَّلةٍ . . . تَسْمُو بها وتَمسُ الأرضَ أحيانا
تخالُ طائرَها نَشوانَ من طَرَبٍ . . . والغُصْنَ من هزِّةِ عِطْفَيْهِ نَشْوانَا
ولابن المعتز في أرجوزته البستانية التي ذم فيها الصبّوح صفة جامعة ، إذا قال رجز :
أمَا ترى البُسْتان كيف نَوَّرا . . . ونَشَّر المنثور بُرْداً أصْفَرا
وضحَكَ الوردَ إلى الشقائق . . . واعتنَقَ الورد اعتناق الوامقِ
في رَوْضَةٍ كحلية العروسِ . . . وخُدَم كهامةِ الطاووسِ
وياسمين في ذُرَى الأغصان . . . منظم كقِطَع العِقْيَانِ
والسرْو مثل قَصبِ الزَّبَرْجد . . . قد استمد الماءَ من تُربٍ نَدِ
على رياضٍ وثرًى نَدِيَ . . . وجَدْوَلٍ كالبَرَد الحليَ
وفَرَّج الخشْخَاش جَيْبْاً وفَتَقْ . . . كأنَه مصاحِفٌ بيضُ الوَرَقْ
أو مثل أقداح مِن البلّورِ . . . تخَالها تجسمت مِن نورِوبَعْضه عُريانُ من أثوابه . . . قد خَجل اليابس من أصحابِه
تُبْصِره عند انتشار الوردِ . . . مثل الدبابيس بأيدي الجند
والسَّوْسَن الآزار مَنشور الحُلَل . . . كقطنٍ قد مسه بعض بَلل
نوَرَ في حاشيتي بُسَتانه . . . ودَخل الميدان في ضَمانه وقد بدت فيه ثمار الكنكرِ . . . كأنها جَماجِم من عنَبر
وحلَّق البهارُ بيْنَ الآسِ . . . جمجمَة كهامَةِ الشّمَّاسِ
خلال شيح مثل شيب النَّصفِ . . . وجوهرٍ مِن زهَرٍ مختَلفِ
وجُلَنار كاحْمِرارِ الوردِ . . . أو مثل أعراف ديوك الهند
والأقحوان كالثنايا الغُرِّ . . . قد صُقَلَت أنواره بالقطر
وقال أبو الفتح كشاجم : الوافر :
ورَوْضٍ عن صَنِيع الغيثِ رَاضٍ . . . كما رَضِيَ الصَّدِيقُ عن الصديقِ
إذا ما القَطْرُ أسْعَدَه صبُوحاً . . . أتمّ نه الصنيعةَ في الغَبوق
يُعِير الرِّيحَ بالنَفَحاتِ رِيحاً . . . كأنَّ ثَرَاه مِن مِسك فتِيقِ
كأنَّ الطَّلَّ مُنتشِراً عليه . . . بقايا الدَمع في خدّ مَشوق
كأنَّ غصونَه سُقيتْ رَحِيقا . . . فمالَت مِثْلً شُرَّاب الرَّحِيق
كأنَّ شقائقَ النعمانِ فيه . . . مُحَضَرة شقَائقُ مِن عَقِيق
يُذَكّرُني بَنَفْسَجُه بَقَايا . . . صنيعِ اللَّطمِ في الخدَ الرَقيقِ
وقال : الرجز :
غَيْثٌ أتَانا مُؤْذِناً بالْخَفْضِ . . . متصِل الوَبلِ سَرِيعَ الرَكضِ
دَنا فخِلْنَاه دُوَين الأرضِ . . . مُتَصِلاً بطوله والعَرْض
إلفاً إلى إلْف بِسِرٍّ يُفْضِي . . . ثم سَما كاللؤلؤ المرْفَضِ
فالأرضُ تُجْلَى بالنباتِ الغَضِّ . . . في حَلْيِهَا المُحْمَرِّ والمبيَضَ
مِنْ سَوْسَنٍ أحوَى وورَد غَض . . . مِثْلَ الخدودِ نُقِّشَت بالعَضِّ
وأقْحوانٍ كاللّجَيْنِ الْمَحْضِ . . . ونرَجِس ذاكي النسيمِ بض
مثل العيون رَنَّقَتْ للغَمْضِ . . . ترنُو فَيَغْشَاها الكَرَى فتُغضيجملة من هذا النوع لأهل العصر
قال أبو فراس الحمداني : مجزوء الرجز أو مجزوء السريع :
وجُلَّنارٍ مُشْرق . . . عَلَى أعالي شَجرهْ
كأنّ في رؤُوسِه . . . أحمَرَهُ وأصفَرهْ
قُرَاضة من ذَهب . . . في خرْقَةٍ مُعَصْفَرهْ
وقال : الطويل :
ويوم جلاَ فيه الربيعُ رياضَهُ . . . بأَنْواع حَلي فوق أثْوَابِه الْخُضْرِ
كأن ذُيولَ الجُلّنار مُطِلَةً . . . فضول ذيولِ الغانياتِ من الأُزْرِ
وقال أبو القاسم بن هانئ ، يصف زهرة رمان قطفت قبل عَقْدِها : الرجز :
وبنت أيْكٍ كالشباب النَّضْرِ . . . كأنها بين الغصُونِ الخُضْرِ
جَنانُ بازٍ أو جَنَان صَقْرِ . . . قد خفَّفَتْه لقْوة بوَكْر
كأنما سحَّت دَماً منْ نَحْرِ . . . أو نَبَتَتْ في ترْبةٍ من جمرِ
أو سُقيَتْ بجَذوَلٍ من خَمْر . . . لو كف عنها الدهرُ صرْفَ الدَّهْرِ
جاءت كمثل النَهد فوق الصدْرِ . . . تَفْتَرُّ عن مِثْلِ اللثاث الْحُمْرِ
في مثل طعْمِ الوصْلِ بعد الهَجْرِ
ولهم في هذا المعنى
روضة رفَتْ حَوَاشيها ، وتأنق واشيها . روضة كالعقود المنظّمة ، على البرود المنَمنَمَة . روضة قد رَاضتها كف المطر ، ودبجَتْهَا أيدي الندى . أخرجتِ الأرضُأسرارَها ، وأظهرَتْ يدُ الغيثِ آثارها ، وأبدت الرياضُ أزهارها . الرياض كالعرائس في حَليها وزَخَارِفها ، والقيان في وَشْيهِا ومَطَارِفها ، باسطة زَرابتها وأنماطها ، ناشرة حِبَراتها ورِيَاطَها ، زَاهية بحَمْرَائها وصفرائها ، تائهة بعيدانها وغُدْرانها ، كأنما احتفلت لوَفْد ، أو هي من حبيب على وَعْد . روضة قد تَضوَعَت بالأَرَج الطيبِ أرجاؤها ، وتبًرجَت في ظلَلِ الغمام صحراؤها ، وتنافَجَتْ بنوافَجِ المِسكِ أنوارُها ، وتعارضت بغرائب النطْقِ أطيارُها . بستان رقَّ نورُه النضيد ، وراق عودُه النضير . بستان عودُه خضر ، ونوره نَضِر ، ويُنْعه خَضِك ، وماؤه خَصِر . بستْانٌ أرْضُه للبقل والريحان ، وسماؤه للنخل والرمان . بستان أنهارُه مفروزة بالأزهار ، وأشجارُه مُوقَرَةٌ بالثمار . أشجارٌ كأن الحورَ أعارَتْها قُدُودَها ، وكسَتْها بُرودَها ، وحلّتها عقودها . الربيعُ شبابُ الزمانِ ، ومقدمة الورد والريحان . زمَنُ الوردِ مَرْموق ، كأنه من الجنَةِ مسروق . قد ورد كتاب الورد ، بإقباله إلى أهل الوُدّ ، إذا وَرَدَ الوَرْد ، صدَرَ البرد . مرحباً بإشراف الزهر ، في أطراف الدهر ، وأنشد : الطويل :
سقى اللَهُ وَرْداً صَار خَدَّ رَبِيعنا . . . فقد كان قبل اليوم ليس له خَدُ
كأن عَيْنَ النرجس عيْن ، ووَرَقه وَرِق ، النرجس نزهَة الطَرْف ، وظَرْفُ الظَّرف ، وغذاء الروح ، شقائقُ كتيجان العقيق على رؤوسِ الزنوج ، كأنها أصْداغُ المسك على الوجَنَاتِ المورّدة . شقائق كالزنوج تجارحت وسالت دِماؤُهَا ، وضَعُفَت فسال دَماؤُها . كأن الشقيقَ جامٌ من عقيق أحمر ، مُلِئَتْ قرارَتُه بمسك أذْفَر . الأرض زمردة ، والأشجار وشْي ، والماء سيوف ، والطيور قيَمانٌ . قد غردت خطباءُ الأطيار ، على منابر الأنوار والأزهار . إذا صدح الْحَمامُ ، صدع الحِمام قَلْبَ المسْتَهام . انظر إلى طَرَبِ الأشجارِ لغِنَاءِ الأطيار . ليس للبلابِل كغناء البلابل ، وَخَمْر بابل .
ولهم فيما يتعلّق بهذا النحو في وصف أيام الربيع
يوم سماؤُه فَاختيّة ، وأرضه طاوُسيّة . يومٌ جَلاَبِيبُ غيومِه رواق ، وأردِيَة نسيمهرِقَاق . يوم مُمَسكُ السماء ، مُعَصفَرُ الهواء ، مُعَنْبَر الرَّوْضِ ، مُصَنْدَل الماء . يوم زرَّ عليه جَيب الضَبَاب ، وانسحب فيه ذَيلُ السحاب . يوم سماؤه كالخز الأَدْكَن ، وأَرْضُه كالديباج الأَخْضَرِ : الخفيف :
شادنٌ يَرْتَعي القلوب ببغدا . . . دَ ولا يرْتَعي الكلا بالنباجِ
أقبَلت والربيعُ يختالُ في الرَّوْ . . . ض وفي المزن ذِي الحيَا الثًجَّاجِ
ذو سماءً كأدْكَنِ الخزِّ قد غي . . . مَتْ وأرضٍ كأخْضَرِ الديباجِ
فتجلَّى عن كلّ ما يتمنّى . . . موعد الكَدخداةِ والهيلاجِ
فظللنا في نُزهَتين وفي حُسْ . . . نين بين الأرْمَالِ والأهْزاج
بفَتَاةٍ تسرُّنا في المَثَاني . . . وعَجُوزٍ تَسُرُّنا في الزُجاج
أخذَت من رؤوسِ قومٍ كرامٍ . . . ثارَها عند أَرْجُل الأعلاج
يوم حَسَن الشمائل ، مُمتِع المخايل ، سَجسَجُ الهواء ، مونق الأرجاءِ . يوم تَبَسم عنه الربيعُ ، وتبرَّجَ عنه الروض المريع . يوم كأنَّ سماءَه مأتم تتباكى ، وأَرضه عَرُوس تتجلَّى . يوم مشهّر الأوْصاف ، أغرّ الأطراف . يوم يُغْفِي فيه النَّوْر ويَنتبِه ، وتُسفِر فيه الشمس وتَنْتَقِب ، وتَعْتَنِقُ الغصون وتَفْترق ، ويوشي الغيم وينسكب . يوم غاب نَحسُه وهَوَى ، وطلع سَعدُه واعتلى ، والزمان ساقطة جماره ، مُفْعَمَةٌ أنهاره ، مُونِقَة أشجارُه ، مغرّدة أطيارُه . نحن في غبِّ سماءً ، قد أقلعت بعد الارتِوَاء ، وأقشعت عند الاستغناء ، فالنبتُ خَضِلٌ ممطور ، والنَّقعُ ساكن محصور . يوم جوُه طَاروِنيّ ، وأَرْضه طاوسِيَ . يوم دَجْنُه عاكف ، وقَطْرُهُ وَاكِف . يومٌ من أعياد العُمر ، وأَعْيانِ الدَهْرِ .
ولهم في تشبيه محاسن الربيع بمحاسن الإخوان والسادة : غَيْث مشبِّه بكَفِّك ، واعتدالُه مُضَاهٍ لخُلقك ، وزَهْرُه مُوازٍ لنَشرِك ، كأنما استعار حلَله من شيمتك ، وحَلْيَه من سجيَّتِك ، واقتبس أنوارَه من محاسن أيامك ، وأمطارَه من جُودك وإنعامِك . قدم الربيع مُنتسِباً إلى خلقك ، مُكْتَسِياً محاسِنَه من طَبْعك ، متوشّحاً بأنوار لَفْظِك ، متوضَحاً بآثار لسانِك ويَدِك . أنا في بُستان أذْكَرَني وَرْدُه المفتح بخلقك ،وجَذوَله السابح بطَبعك ، وزَهرُه الجَنِيُ بقربك . أنا في بستان كأنَّه من شمائلك سرق ، ومن خُلُقك خلِق ، وقد قابلتني أشجارّ تَتَمايل فتذكرني تَبريح الأحباب ، إذا تداولتهم أيدِيَ الشراب ، وأنهار كأنَّها من يدك تَسيل ، ومن راحتيك تَفِيض . أنا على حافةِ حَوض أزرق كصفاء مودَتي لك ، ورِقَّة قولي في عَتَبِك .
وقال ابن عون الكاتب : الخفيف :
جاءنا الصومُ في الربيع فهَلا اخ . . . تار ربعا من سائر الأرباعِ
وكأن الربيعَ في الصوم عِقد . . . فوق نخر غطاه فَضل قناَع
وكتب أبو الفتح كشاجم إلى بعض إخوانه يستدعيه إلى زيارته في يوم شك : مجزوء الكامل :
هو يوم شَك يا عل . . . ي وبِشرة مذ كان يحذَر
والجوُّ خَلّته ممس . . . كة ومطرَفه معنبر
والماء فضَيّ القَمِي . . . يص وطَيلَسانُ الأرضِ أخضر
نَبتٌ يصَعد زَهرُة . . . في الروضِ قَطرَ ندى تَحَدَّر
ولنا فضَيلات تكو . . . ن ليومنا قوتاً مُقَدّر
ومدامةٌ صفراء أَد . . . ركَ عُمرَها كِسْرَى وقيصر
فانشَط لنا لِنَحث مِن . . . كاسَاتِنا ما كان أكبَرْ
أو لاَ فإنكَ جاهلٌ . . . إن قلت إنّك سوف تعْذَر
وكتب بديع الزمان إلى بعض أهل هَمَذان : كتابي - أطال اللّه بقاك - عن شهر رمضان ، عرَفنا اللَهُ بركةَ مَقْدَمِه ، ويمْنَ مُختَتَمِه ، وخصك بتقصير أيامِه ، وإتمامِ صيامِه وقيامِه ؛ فهو - وإن عَظمَتْ بركَتُه - ثقيلٌ حركته ، وإن جل قَدْرُه بعيد قَعره ، وإن عمت رأفته ، طويل مسافته ، وإن حسنت قّربته ، شديد صحبتُه ، وإن كبرت حرمته كثير حشمته . وإن سرّنا مُبْتداه فلن يسوءنا منتهاه فإن حَسن وجْهُه فليس يَقبَح قَفَاه ، وما أحْسَنَه في القَذَال ، وأشبَه إدبَارَه بالإقبال ، جعل اللَهُ قدومَه سببَ ترْحاله ، وبَدْرَه فِداءَ هلاله ، وأمدَّ فَلكه تحريكاً ، بتقضي مُدَّتِه وَشِيكاً ، وأظْهَر هلالَه نحيفاً ، ليزِفَ إلى اللذاتِ زفيفاً ، وعفا اللَهُ عن مَزح يكرهه ، ومُجونٍ يُسْخِطُه .عوّل البديع في هذا الكلام على قول أبي الفضل بن العميد في رسالة له في مثل ذلك : أسأَل الله أن يعَرِّفَني بركته ، ويلقيني الخيرَ في باقي أيامه وخاتمته ؛ وأًرغب إليه في أن يقربَ على الفَلَكِ دوره ، ويقصَره سَيرَه ، ويخَفَف حَرَكته ، ويعجل نَهضَته ، ويَنقص مسافةَ فلكَه ودَائِرتِه ، ويزيل بركةَ الطولِ عن ساعاته ، ويردً عليّ غُرًةَ شوال ، فهي أسنَى الغرَرِ عندي ، وأقرُها لعَيني ؛ ويطلِعَ بَدرَه ، ويريني الأيدِي متطلبة هِلاله ببشر ، ويسمعني النعيَ لشهر رمضان ، ويعرض عليّ هلاله أَخفَى من السحرِ ، وأَظلَم من الكُفر ، وأَنحَف من مجنونِ بني عامر ، وأَبلَى من أسير الهَجرِ ، وأستغفر الله جل وجهه مما قلت إن كَرِهه ، وأستَعفيه من توفيقي لما يذمُه ، وأسأله صفحاً يُفِيضه ، وعَفواً يوسِعه ، إنه يعلم خَائِنَةَ الأعين وما تخفِي الصدور .
من أخبار المأمون والأمين
قال المأمون لطاهر بن الحسين : صِف لي أخلاقَ المخلوع . قال : كان واسَع الصدرِ ، ضَيق الأدَب ، يبيح من نفسه ما تَأنَفه هِمم الأحرار ، ولا يُصْغِي إلى نصيحة ، ولا يقبل مَشورة ، يستبدُ برأيه ، ويبَصَر سوءَ عاقبتِه ، فلا يَردَعُه ذلك عما يَهمُ به . قال : فكيف كانت حروبُه ؟ قال : كان يجمعُ الكتائب بالتبذير ، ويفرَقُها بسوء التدبير . فقال المأمون : لذلك حلّ ما حل به ؛ أمَا والله لو ذاق لذاتِ النصائح ، واختار مَشُوراتِ الرجال ، وملَك نَفسَه عن شهواتها ، لما ظفرَ به .
ولما عقد الرشيدُ البيعةَ للأمين وهو أصغرُ من المأمون لأجل أمَه زُبَيْدة ، وكلامِ أخيها عيسى بن جعفر ، وقدمه على المأمون ، جعل يرى فَضلَ عقله فيندَم على ذلك ، فقال : الطويل : لقد بان وجهُ الرَّأي لي غَيْرَ أنَّني . . . غُلِبْتُ على الأَمْرِ الذي كان أحزَما
فكيف يُرَدّ الدرَ في الضَرعِ بعدما . . . تَوزَع حتى صار نَهْباً مقَسما
أخافُ الْتِوَاءَ الأمرِ بعد استوائهِ . . . وأنْ يُنْقَضَ الحبْلُ الذي كان أُبرِما
قال أسد بن يزيد بن مزيد : بعث إليَّ الفضلُ بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن الأنباري ، قال : فأتيتُه وهو في صَحْن داره ، وفي يده رُقْعة قد غضِب لما نظر فيها ، وهو يقول : ينامُ نَوْمَ الظَّرِبَان ، وينتبه انتباهَ الذئب ، هِمَتُه بَطنُه ، ولذته فَرْجُه ، لا يفكر فيزوال نعمة ، ولا يتروى في إمضاء رأي ولا مكيدة ، قد شمر له عبدُ اللَه عن ساقِه ، وفوَّق له أسد سهامِه ، يرميه على بعدِ الدار بالحَتفِ النافذ والموت القاصد ، قد عبى له المنايا على متونِ الخيل ، وناطَ له البَلاَءَ في أسِنة الرماح وشِفار السيوف ، ثم تمثّل بشعر البَعيث : الطويل :
يقَارع أتراك ابن خاقانَ ليله . . . إلى أن يرى الإصبَاح لا يتلعثمَ
فيصبح في طول الطراد وجِسمه . . . نحيل ، وأضحِي في النعيم أصمم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد . . . أمية في الرزق الذي الله يقسم
ثم قال : يا أبا الحارث ، أنا وأنت نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذمِمنا ، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا ، وإنما نحن شعبة من أصلِ ، إن قَوِي قوينا ، وإن ضَعُفَ ضعفنا ؛ إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاءَ الأمة الوَكفَاء : يشاور النساء ، ويعتمد على الرؤيا ، وقد أمكَن أهل اللهو والخسَارة مِن سَمعِه ؛ فهم يُمَنُّونه الظَّفَر ، ويَعِدُونَه عواقب الأيام ؛ والهلاك إليه أسرع من السيل إلى قِيعانِ الرملِ ؛ وقد خشِيتُ أن نَهْلِكَ بهلاكه ، ونعطَب بعَطَبِه ، وأنت فارس العرب وابنَ فارسها ، وقد فزع إليك في لقاءِ طاهر لأمرين ؛ أحددهما صِدْقُ طاعتك ، وفَضل نصيحتك ؛ والثاني يُمْن نَقِيبتك ، وشِدَة بأسك ؛ وقد أمرني أن أبسطَ يدك ، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ، ومفتاح البركة ؛ فبادِر ما تريد ، وعَجل النهضة ، فإني أرجو أن يولّيك اللَه شَرف هذا الفَتح ، ويلم بك شَعثَ الخلافة .
فقلت له : أنا لطاعتك وطاعة أمير المؤمنين مقدِم ، ولما وَهَن عدو كما مُؤثر ؛ غير أن المحارِب لا يفتَتِح أمره بتقصير ، وإنما مِلاَكُ أمرِه الجنود ، والجنود لا تكون بلا مال ، وقد رفع أمير المؤمنين الرغائبَ إلى قوم لم يجْدُوا عليه ، ومتى سمت مَن أقدر به الانتفاع له بالرضا بدون ما أخذ غيرُه ممن لم يكن عنده غناء ولا مَعونة ، لم ينتظم بذلك التدبير ، وأحتاج لأصحابي رِزق سنة قَبضاً ، وحملا إلى ألفِ فرس لحمل من لا أرتَضِي فرسه ، وإلى مال أستظهر به ، لا أُلاَم على وَضعِه حيث رَأَيت . فقال : شاوِر أمير المؤمنين ؛ فأدخلني عليه ، فلم تَدرْ بيني وبينه كلمتان حتى أمر بحبسِي .
ويروى أن الأمين لما أَعيَتْه مكايدُ طاهر قال : الوافر :
بُليت بأَشْجَعِ الثقلين نَفْساً . . . تَزُول الراسياتُ وما يزولُ
له مع كل ذي بدن رقيبٌ . . . يشاهده ويَعْلَمُ ما يقول
فليس بمغفِل أمراً عَنَاهُ . . . إذا ما الأمْرُ ضيًعَه الجهولُوفي الفضل بن الربيع يقول بعض الشعراء : البسيط :
كم مِن مقيمٍ ببغداد على طَمَعٍ . . . لولا رجاءَ أبي العباس لم يقم
البدر إن نفروا ، والبحر إن رَغِبوا . . . والحِصن إن رهبوا ، والسيف ذو النقم
وقال عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع : ما مدحنا شاعر بشعر أحب إلينا من قول أبي نواس : الكامل :
ساد الملوكَ ثلاثة ما منهمُ . . . إن حصَلوا إلا أعز قرِيع
ساد الربيع وسادَ فَضل بعده . . . وعلت بعبّاس الكريم فروع
عباس عباسٌ إذا احتدم الوَغَى . . . والفَضْل فضلٌ والربيع ربيع
وقيل للعتابي : أمدحت أحداً ؟ قال : لا ، وليس لي على ذلك قدرة ، فقيل له : فقد مدحتَ الربيع ، فقال : ذلك ليوم يستحقّ فيه المدح ، فقلت : الطويل :
ومعضلةٍ قام الربيع إزاءَها . . . ليَعْمِد ركن الدين لما تَهدَّما
بمكَة والمنصور رهن كما أتى . . . أخا الوحي داعي رَبّه فتقدَمَا غداةَ عداةُ الدين شاحذةُ المدى . . . إليه وغُولُ الحربِ فاغرةٌ فَمَا
مبايعة المهدي
وكان المنصور قد توفَي بمكة وهو حاجٌ في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة ، فأخذ الربيع للمهدي البيعة على الناس ، وأخذ بتجديدها عن المنصور على أنه حي ، وأدخل إليه قوماً فرأوْه من بعيد وقد جلّله بثوب ، وأقعد إلى جنبه من يحرك يده وكأنه يومئ بها إليهم ، فلم يشكوا في حياته ؛ فما خالف أحد ؛ فشكره المهدي لذلك ، وفي ذلك يقول أبو نواس في مدحه الفضل بن الربيع : مجزوء الرجز :
أبوك جلى عَن مضَر . . . يوم الرواقِ المحتضرْ
والحرب تَفرِي وتَذَر . . . لمّا رأى الأمر اقمَطَر
قامَ كريما فانتَصرْ . . . كَهِزةِ العَضْب الذكَرْما مس من شيء هَبَر . . . وأنت تَقتاف الأثر
من ذي خجولٍ وغرر
وقال أيضاً : مجزوء الكامل :
آلَ الربيع فَضلتم . . . فضل الخميس على العشرِ
من قاس غيركم بكمْ . . . قاس الثًماد إلى البحور
أين القليل بنو القلي . . . ل من الكثير بني الكَثير
أين النجوم التاليا . . . ت من الأهلَةِ والبدورِ
قوم كَفَوا أيام مك . . . ة نازلَ الخَطبِ الكبير
وتدارَكُوا نَصر الخلاَ . . . فة وهيَ شاسعه النّصير
لولا مقامهم بها . . . هوَتِ الرواسي من ثبِيرِ
ومن قول أبي نواس : من قاصر غيركم بكم . . . البيت ، أخذ أبو الطيب المتنبي : الطويل :
قواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غيرهِ . . . ومَن قَصَدَ البحرَ استقل السواقِيَا
فتَى ما سَرَينَا في ظهورِ خدودِنَا . . . إلى عَصْرِه إلا نُرَجِّي التَّلاقيَا
أفضل الأوقات لمخاطبة الملوك
وقال الفضل بن الربيع : من كلَمَ الملوكَ في الحاجاتَ فيِ غير وَقتِ الكلام لم يَظفر بحاجته ، وضاع كلامُه ، وما أشبههم في ذلك إلا بأوقات الصلوات لا تُقبَل الصلاة إلاّ فيها ، ومن أراد خطابَ الملوك في شيء فلْيَرْصد الوقت الذي يصلح في مثله ذِكرُ ما أراد ، ويسبّب له شيئاً من الأحاديث يحسن ذِكْرُه بعَقِبه .
وقال المأمون للفضل بن الربيع لما ظَفِر به : يا فضل ، أكان في حقي عليك ، وحقآبائي ونعمهم عند أبيك وعندك ، أن تَثلِبَني وتسبني ، وتحَرَضَ على دمي ؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلتَه بي ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن عذرِي يحقِدك إذا كان واضحاً جميلاً ، فكيف إذا حفَته العيوب ، وقبَّحَته الذنوب ؛ فلا يَضِيق عني من عَفوِك ما وسع غيري منك ، فأنت كما قال الشاعر فيك : الطويل :
صفوح عن الأجرام حتى كأنه . . . من العافر لم يعرِف من الناس مجرِما
وليس يَبالي أن يكَون به الأذَى . . . إذا ما الأذى لم يَغْش بالكُرهِ مُسلِمَا
والشعر للحسن بن رجاء بن أبي الضحاك .
من أخبار المنصور
قال سعيد بن مسلم بن قتيبة : دعا المنصور بالربيع ، فقال : سلني ما ترِيد ، فقد سكَتَ حتى نطقت ، وخفّفت حتى ثقلت ، وأقلَلتَ حتى أكْثَرْت .
فقال : والله - أمير المؤمنين ما أرهب بخلَكَ ؛ ولا أَسْتَقصِر عُمرك ، ولا أستصغر فضلك ، ولا أَغتَنِم مالك ؛ وإن يومي بفضلك عَلَيَ أحْسن من أمسي ، وغَدك في تأميلي أحسن من يومي ؛ ولو جاز أن يَشْكرَك مثلي بغير الخِدْمَةِ والمُنَاصَحَة لما سَبَقَني لذلك أحَد .
قال : صدقت ، عِلمي بهذا منك أحَلَّكَ هذا المحلّ ؛ فَسْلني ما شِئت ، قال : أسألُك أن تقرِّب عبدك الفَضل ، وتُؤثره وتحبّه .
قال : يا ربيع ، إنَّ الحب ليس بمال يُوهَب ، ولا رُتْبَة تُبْذَل ، وإنما تؤكّدُه الأسباب .
فال : فاجعل لي طريقاً إليه ، بالتفضل عليه .
قال : صدقت ، وقد وصَلْتُه بألف ألف درهم ، ولم أصل بها أحَداً غير عمومتي ، لتعلم مَالَه عنديَ ، فيكون منه ما يَسْتَدْعِي به محبتي ، ثم قال : فبكيف سألت له المحبة يا ربيع ؟ قال : لأنها مفتاحُ كل خير ، ومِغْلاَق كلّ شرّ ، تُسْتَر بها عندك عيوبُهُ ، وتَصِير حَسناتٍ ذنوبه .قال : صدقت وأتيت بما أردت في بابه .
أخذ قوله : خففت حتى ثقلت أبو تمام فقال لمحمد بن عبد الملك الزيات : الطويل : على أن إفراطَ الحياء استمالني . . . إليكَ ، ولم أعْدِل بعرضيَ مَعْدِلا
فثقّلت بالتخفيف عنك ، وبعضهم . . . يخففُ في الحاجات حتى يُثَقِّلاَ
من أخبار الرشيد
ودخل سهل بن هارون على الرشيد ، وهو يُضَاحِكُ المأمون ، فقال : اللهمّ زِدْهُ من الخيرات ، وابسُط له من البركاتِ ، حتى يكونَ في كل يوم من أيامه مُرْبِيا على أمْسِه ، مقَصَراً عن غده .
فقال له الرشيد : يا سَهْلُ ، من رَوَى من الشعر أحسَنه وأرصنه ، ومن الحديث أفصحَه وأوضَحه ، إذا رام آن يقولَ لم يُعْجزه القول .
فقال سهل بن هارون : يا أمير المؤمنين ، ما ظننت أن أحداً تقدّمني إلى هذا المعنى .
قال : بل أعْشى هَمْدَانَ حيث يقول : الوافر :
رأيتك أمْسِ خَيْرَ بني لؤيّ . . . وأنْتَ اليوم خيرٌ منك أمسِ
وأنْتَ غداً تزيد الخَيْرَ ضعْفاً . . . كذاك تزيد سادة عَبْدِ شمسِ
من نظم الفضل بن الربيع
ومن شعر الفضل بن الربيع ما أنشده الصولي : مجزوء الكامل :
إنّي امرؤٌ من هاشمٍ . . . بفنَاءً معْمُور النَوَاحِي
أهل الهدى وذَوِي التقَى . . . وأولي البَسَالة والسَّماحِ
أهل المعالم والمكا . . . رِم في المَسَاء وفي الصَّبَاحِ
أهل النبوةِ والخِلاَ . . . فَة والكمالِ برَغْم لاحِي
يتألّمُون من الصدُو . . . دِ ويَصْبِرُون على الجِرَاحمن أخبار أبي العيناء
حَمَلَ محمد بن عبيد الله بن خاقان أبا العيناء على دَابة زَعم أنها غَيْرُ فَارِه ، فكتب إليه : أعلم الوزير ، أعزه اللّه ، أن أبا علي محمداً أراد أن يَبَرَنِي فعقني ، وأن يُرْكِبني فأَرْجَلَني ، أمر لي بدابَّة تَقِفُ للنَّبْرَة ، وتَعْثُر بالبَعْرَة ، كالقضيب اليابس عَجَفاً ؛ وكالعاشق المهجور دَنَفاً ، قد أَذْكَرَتِ الرواة عذرة العذريِّ ، والمجنون العامري ، مساعد أعلاه لأسفله ، حُباقه مقرون بسُعَاله ، فلو أَمسَك لترجيت ، ولو أَفْرد لتعزَّيْت ، ولكنه يَجْمَعُهما في الطريق المعمور ، والمَجْلِس المشهور ، كأنه خطيبٌ مُرْشِد ، أو شاعر مُنشِد ، تَضْحَكُ من فِعْلِه النسوَان ، وتتناغى من أجله الصِّبيان ؛ فمن صائح يَصيحُ : دَاوِه بالطباشير ، ومن قائل يقول : نوّلْه الشعير ، قد حفِظَ الأشعار ، ورَوَى الأخبار ، ولحق العلماءَ في الأمْصار ، فلو أعِينَ بنطق ؛ لروى بحقّ وصدق ، عن جابر الجُعْفيّ ، وعامر الشّعبي ؛ وإنما أتيت من كاتبه الأعور ، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر ، وإن اختار لغيره أخْبَث وأنزر ؛ فإن رأى الوزير أن يُبدلَني به ، ويُرِيحني منه بمركوب يُضْحِكني كما ضحَّك مني ، يَمْحُو بحُسْنه وفَرَاهته ، ما سطَرَه العَيْبُ بقُبحه ودمامته ؛ ولست أذكرُ أمْرَ سَرْجِهِ ولجامه ؛ فإن الوزير أكرمُ من أن يَسْلب ما يهديه ، أو يَنْقُضَ ما يُمْضِيه .
فوجّه عبيد اللّه إليه برذونا من براذينه بِسَرْجه ولجامه ، ثم اجتمع مع محمد ابن عبيد الله عند أبيه ، فقال عبيد الله : شكوت دابة محمد ، وقد أخبرني الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار ، وما هذا ثمنه لا يُشتكى .
فقال : أعز الله الوزير ، لو لم كذب مستزيداً ، لم انصرف مستفيداً ، وإني وإيّاه لكما قالت امرأة العزيز . ' الآن حَصحَصَ الحق ، أنَا رَاوَدْتُه عن نَفْسِهِ وإنه لَمِنَ الصادقين ' . فضحك عبيدُ الله ، وقال : حجتك الداحضة بمَلاَحتك وظَرفك أبلغُ من حجة غيرك البالغة .قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابي عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صَبرة عن رقعة وردت منه في صفة حًمَل أهْدَاه
وصلت رُقْعَتك ، فَفَضَضْتها عن خَط مُشْرق ، ولفظ مُونق ، وعبارةٍ مُصيبة ، ومعاني غريبة ، واتساع في البلاغة يَعْجِزُ عنه عبدُ الحميد في كتابته ، وقُس وسَحْبَان في خطابته ؛ وتصرف بين جد أمْضى من القَدر ، وهَزْلٍ أرق من نسيم السحَر ، وتقلب في وجوه الخِطاب ، الجامع للصَّواب ؛ إلاَ أن الفعل قَصًرَ عن القول ، لأنك ذكرت حَملاً ، جعلته بصفتك جَمَلاً ، فكانَ المُعَيدِيَّ الذي تسمعُ به ولا أنْ تراه . وحضر فرأيت كَبْشاً مُتَقَادِمَ الميلاد ، من نِتَاج قَوْمِ عاد ، قد أَفْنتهُ الدهور ، وتَعاقَبَتْ عليه العصور ، فظننته أحَد الزَّوْجين اللذين جعلهما نوع في سفينته ، وحفظَ بهما جِنْسَ الغنم لذرِّيته ؛ صَغر عن الكبر ، ولَطُف عن القدم ، فبانَتْ دَمامتُه ، وتقاصرت قَامَتُه ، وعاد ناحلاً ضئيلاً ، بالياً هزيلاً ، باديَ السقام ، عاري العِظام ، جامعاً للمعايب ، مشتملاً على المثَالِب ، يَعْجَبُ العاقلُ من حلول الحياةِ به ، وتأتي الحركةِ فيه ؛ لأنه عَظْم مجلد ، وصوف مُلبد ، لا تجد فوق عظامه سلَبا ، ولا تَلْقَى يدك منه إلا خَشَبا ، لو ألقِيَ إلى السَّبع لأَباه ، ولو طرح للذئب لعافَه وقَلاه ، قد طال للكلإ فَقْدُه ، وبَعُدَ بالمَرعَى عَهْدُه ، لم ير الْقَت إلاَ نائماً ، ولا عرف الشعيرَ إلا حالماً ، وقد خيّرتني بين أن أَقْتَنيه فيكون فيه غِنَى الدهر ، أو أَذبحه فيكون فيه خصْب الرَحل ؛ فمِلتُ إلى استبقائه لما تعرف من محبتي من التوفير ، ورغبتي للتَّثْمير ، وجَمْعي للولد ، وادٌخاري لغًد ، فلم أجِد فيه مستمتعاً للبقاء ، ولا مَدْفعاً للفناء ؛ لأنه ليس بأنثى فتًحْمِل ، ولا بفتى فَينْسُل ، ولا بصحيح فَيرَعى ، ولا بسليم فيَبْقَى ؛ فملتُ إلى الثاني من رأييك ، وعولت على الآخر من قَوْلَيك ، وقلت : أذبحه فيكون وظيفة للعيال ، وأقيمه رطباً مقام قَديدِ الغَزال ، فأنشدني وقد أضرِمت النار ، وحُدت الشفار ، وشمَّر الجزّار : البسيط :
أعيذهَا نظراتِ مِنك صادِقَةً . . . أنْ تحْسِب الشحم فيمَن شَحمُه وَرَمُوقال : ما الفائدة لك في ذبحي ؟ وأنا لم يَبْقَ مني إلا نَفَس خافِتٌ ، ومُقْلةِّ إنسانها باهت : لستُ بذي لَحْم ، فأَصلح للأكل ؛ لأن الدهرَ قد أكل لحمي ، ولا جِلدي يصلح للدّباغ ، لأن الأيام قد مزقَتْ أديمي ، ولا لي صوف يصلُح للغزل ؛ لأن الحوادث قد حَصَّت وبَرِي ، فإن أردتني للوَقُود فكفُّ بعْرٍ أبقى من ناري ، ولن تَفي حرارةُ جمري بريح قتاري ، فلم يبق إلا أن تطلبني بذَحْل أو بيني وبينك دَم ، فوجدته صادقاً في مقالته ، ناصحاً في مَشُورته ، ولم أعلم من أي أمْرَيه أعجب ؛ أمِن مماطَلَته للدهر بالبقاء ، أم من صبره على الضّرِّ واللأواء ، أم من قدرتك عليه جمع إعواز مثله ، أم من تأهيلك الصديق به مع خَسَاسة قَدْره ؟ ويا ليت شعري إذ كنت - وإليك سوق الغنم ، وأمْرك يَنْفُذ في الضأن والمَعز ، وكلُّ كبش سمين وحَمل بطين مجلوب إليك ، مقصورٌ عليك - تقول فيه قولاً فله تُرَدّ ، وتريده فلا تُصد ، وكانت هديتك هذا الذي كأنه نَاشر من القبور ، أو قائم عند النفخ في الصور ، فما كنتً مُهْدِياً لو أنك رجل من عُرْض الكُتَّاب ، كأبي وأبي الخطّاب ، ما كنت تهدي إلاَّ كلْباً أجرب ، أو قرداً أحدَب .
من نظم الحمدوني
وقال الحمدوني في شاة سعيد بن أحمد بن خوسنداذ : الكامل :
أسعيدُ ، قد أعطيتني أُضحيةً . . . مكثَتْ زماناً عندكمْ ما تطعَم
نِضْواً تعاقرت الكِلابُ بها وقد . . . شدوا عليها كي تموت فيؤلمُوا
فإذا الملا ضَحِكوا بها قالت لهم : . . . لا تهزؤوا بي وارحموني ترْحَموا
مرت على عَلَف فقامت لم تَرِمْ . . . عنه ، وغنت والمدامعُ تسجم
وقف الهوى بي حيث أنْتِ فليس لي . . . متأخَّر عنه ولا مُتقَدموقال أيضاً : البسيط :
أبا سعيدٍ ، لنا في شاتِكَ العِبَرُ . . . جاءت وما إن لها بَوْل ولا بَعَرُ
وكيف تَبْعَرُ شاة عندكم مكَثَتْ . . . طَعامُها الأبيضانِ الشمسُ والقَمَر
لو أنها أبْصَرَتْ في نومها عَلَفاً . . . غَنَت له ودموعُ العين تَنْحَدرُ :
يا مَانعي لذةَ الدنيا بأجمعها . . . إني ليفتنني من وَجْهِك النظرُ
وقال أيضاً : المنسرح : شاةُ سعيدٍ في أمْرِها عِبَرُ . . . لمّا أتتنا قد مسًها الضررُ
وَهْيَ تغني من سوء حالتها . . . حَسْبي بما قد لقيت يا عمَرُ
مرت بقطف خضر ينشرها . . . قومٌ فظنَّتْ بأنها خُضُر
فأقبلَتْ نحوها لتأكْلها . . . حتى إذا ما تبينَ الخَبَرُ
وأبدلتها الظنونُ من طَمَعِ . . . يَأْسا تغنَّت والدَمْعُ مُنْحَدِرُ
كانوا بعيداً وكنت آمُلُهم . . . حتى إذا ما تقربوا هجروا
وقال : مجزوء الخفيف :
لسعيدٍ شُوَيْهَةٌ . . . سَلها الضُّر والعَجَفْ
قد تغنَتْ وأبصرتْ . . . رجلاً حاملاً عَلَفْ :
بأبي مَنْ بكَفِّه . . . بُرْءُ ما بي من الدَنَفْ
فأَتاها مطمِّعاً . . . وأتتْه لتَعْتَلِفْ
فتولَى فأقبلتْ . . . تتغنى من الأسَفْ :
ليتَه لم يكن وَقَفْ . . . عذب القلب وانْصَرفْ
قال : وإذ قد جَرَتْ بعضُ تضمينات الحمدوني في هذا الموضع فأَنا أَذكر هنا قطعةً من شعره في الطيلسان ، وأَنْعطف في غير هذا المرضع إليها وأكرٌ عليها ؛ وكان أحمد بنحَرْب المهلّبي من المُنْعِمين عليه ، والمحسنين إليه ، وله فيه مدائح كثيرة ، فوهب له طيلساناً أخْضَر لم يَرْضَه ، قال أبو العباس المبرد : فأنشدنا فيه عشر مقطعات ، فاستَحْلَينا مَذْهَبه فيها ، فجعلها فوق الخمسين ؛ فطارت كل مَطَار ، وسارت كل مَسَار ، فمنها : الخفيف :
يا ابْنَ حرب كَسَوْتَني طَيْلَساناً . . . مَلَّ من صُحبَة الزمان وصَدَا
فحسْبنا نَسْج العناكب قد حَا . . . لَ إلى ضعف طَيْلَسانِك سدَا
طال تَرْدادُه إلى الرَفْوِ حتى . . . لو بَعَثْنَاه وَحْدَه لَتَهَدَّى
وقال فيه أيضاً : البسيط :
يا طيلسانَ ابن حربٍ قد هَمَمْتَ بأنْ . . . تُودي بجسمي كما أَوْلَى بِكَ الزَّمَنُ
ما فيك مِنْ ملبس يغني ولا ثمن . . . قد أوْهَنَت حيلتي أركانُكَ الوُهنُ
فلو تَرَاني لَدَى الرَفَّاء مُرْتَبِطاً . . . كأنني في يَدَيْهِ الدهرَ مُرْتَهنُ
أقولُ حين رآني الناسُ أَلْزَمُهُ . . . كأنما ليَ في حانوته وَطَنُ
مَنْ كان يسأل عنّا أيْنَ منزلُنا . . . فالأقحوانة مِنَا منْزِلٌ قَمِنُ
وقال : مجزوء الكامل :
قل لابْنِ حَرْبٍ طيلسا . . . نُكَ قومُ نوع منه أحْدَثْ
أفْنَى القرونَ ولم يَزَلْ . . . عمَنْ مضى من قبلُ يُورَثْ
وإذا العيونُ لَحَظْنَهَ . . . فكأنه باللحْظِ يُحرَثْ
يُودِي إذا لم أرْفُهُ . . . فإذا رَفَوْتُ فليس يَلبَثْ
كالكلبِ إن تَحْمِل علي . . . ه الدَهْرَ أو تترُكْه يَلْهَثْوقال : الكامل :
قل لابن حرب طيلسانُكَ قد . . . أرْهَى قِوَايَ بكثرةِ الغُرمِ
مُتبين فيه لمُبصِرِه . . . آثارُ رَفْوِ أوائل الأُمم
وكأنه الخمرُ التي وصفَتْ . . . في يا شقيق الروح مِن حَكَمِ
فإذا رَمَمْناه فقيل لنا : . . . قد صَح ، قال له البلى : انْهَدِم
مثل السّقيم بَرَا فراجَعهُ . . . نكس فأسلَمه إلى سَقَم
أنشدت حين طَغى فأَعْجَزني . . . ومن العناء رِياضةُ الهرم
الخمر التي وُصفت من قول أبي نواس : المديد :
يا شقيقَ النفسِ من حَكَمِ . . . نِمْتَ عن لَيْلى ولم أَنم
فاسْقني البِحرَ التي اعْتَجَرت . . . بِخِمار الشيْبِ فيْ الرَّحمِ
ثُمَّتَ انْصَاتَ الشباب لها . . . بعد أن جازتْ مدى الهَرَمِ
فَهْي لليوم الذي بُزِلَتْ . . . وهي تِلْو الدَّهْر في القِدَم
عُتِّقَتْ حتى لو اتّصلتْ . . . بسلانٍ ناطق وفَم
لاحْتبتْ في القوم مًاثلةَ . . . ثم قصتْ قِصَةَ الأمَمِ فَرَعَتْها بالمزاج يَد . . . خُلِقت للكاس والقَلَمِ
وقال الحمدوني : الرمل :
طيلْسان لابن حرب جاءني . . . خلْعَةً في يوم نَحس مستمرفإذا ما صِحْتُ فيه صَيْحَةً . . . تركته كهشيم المحتظر
وإذا ما الريح هبتْ نحوهُ . . . طيَرَتْه كالجرادِ المنتشِرْ
مُهْطِعُ الدَاعي إلى الرّافي إذا . . . ما رآه قال : ذا شيء نكرْ
وإذا رفَاؤه حاوَلَ أن . . . يتلافاه تَعَاطى فعَقَرْ
وقال : المتقارب :
أيا طيلسانيَ أعْيَيْتَ طبّي . . . أسُل بجسْمِكَ أم داءُ حبِّ ؟
ويا ريحُ صَيرْتني أتقيكِ . . . وقد كنتُ لا أتقي أن تَهبّي
ومستخبرٍ خَبَر الطيلسان . . . فقلت له الروح من أمْرِ ربي
وقال فيه : الرمل :
طَيْلَسانٌ لابن حربٍ جاءني . . . قد قَضَى التمزيقُ منه وَطَرَهْ
أنا من خوفٍ عليه أبداً . . . سامِري ليس يَأْلُوه حَذَرَهْ
يا ابنَ حرب خذه أو فابعَث بما . . . نشتري عِجْلاً بصفرٍ عشرَهْ
فلعل اللهَ يُحْييه لنا . . . إن ضربناه ببعض البَقَرَهْ
فهو قد أدرك نوحاً ، فعسى . . . عنده من عِلم نوح خَبَرَهْ
أبداً يَقْرَأ من أَبصَرَهُ . . . أإذا كنا عِظاماً نَخِرَه
وقال فيه : الخفيف :
يا ابنَ حرب أطَلتَ فَقرِي برَفوي . . . طيلساناً قد كنتُ عنه غَنِيّا
فَهوَ في الرفو آل فرْعَوْنَ في العَر . . . ضِ على النار غُدْرةً وعَشِيا
زُرْت فيه معاشراً فازدَرَوني . . . فتغنيتُ إذا رأوني زَرِيا :
جِئتُ في زِي سائل كي أراكم . . . وعلى الباب قد وَقَفْتُ مَلِيِّاوقال فيه : الوافر :
وهبتَ لنا ابنَ حربِ طَيْلساناً . . . يَزيدُ المرءَ ذا الضعَةِ اتِّضَاعَا
يُسَلمُ صاحبي فيعيد شَتْمِي . . . لأن الروحَ يَكْسِبُه انصداعا
أُجِيل الطَرْفَ في طَرَفَيْهِ طُولاً . . . وعَرضاً ما أَرى إلا رِقَاعا
فلستُ أشكّ أَنْ قد كان قِدْماً . . . لنُوح في سفينته شِرَاعا
فقد غنَيتُ إذ أبصرْتُ منهُ . . . جوانبه على بَدني تَدَاعَى :
قِفي قَبلَ التفَرُّقِ يا ضُبَاعَا . . . ولا يَكُ مَوقِف مِنكِ الوَداعَا
من أخبار المأمون
دخل المأمون بعضَ الدواوين ، فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم ، فقال : من أنت يا غلام ؟ فقال : أنا يا أمير المؤمنين الناشئُ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمل لخدمتك ، خادِمكَ وابنُ خادمِك الحسنُ بن رجاء . فقال : أحسنت يا غلام ، وبالإحسان في البديهة تَفَاضَلت العقُول . فأمر أن يرفع عن مرتبة الديوان .
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج : قال لي أبو العباس المبرد : ما رأيتُ في أصحاب السلطان مثل إسماعيل والحسن ؛ كنت إذا رأيته رأيت رجلاً كأنما خُلق لذروَة مِنُبر ، أو صَدرٍ مجلس ، يتكلم وكأنه يتنفس ، يُسهِبُ ويُطْنِب ، ويعرِبُ ويغرِب ، ولا يعجب ويعجِب .
أراد القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد ، والحسن ابن رجاء بن أبي الضحاك .
من أخبار المبرد
وكان أبو العباس يُعَد في البلغاء ، وقال : لما دخلت على المتوكل اختار لي الفَتحُ بن خاقان وقْتَ شربه ، وكافي الشراب قد أخذ منه ، فسألني وقال : يا بصري ، أرأيت أحسنَوجهاً مني ؟ فقلت : لا والله ولا أسْمَح راحةَ ، ثم تجاسرت فقلت : الوافر :
جَهَرْتُ بحَلْفَة لا أتَّقيها . . . بشكٍ في اليمين ولا ارتياب
بأنك أحسنُ الخلفاء وَجْهاً . . . وأَسْمَحُ راحتين ، ولا أحابي
وأنَ مُطِيعك الأعلى مَحَلاَ . . . ومَنْ عاصاك يهوى في تبَابِ
فقال : أحسنت وأجملت في حُسن طبعك وبديهتك ، فقلت : ما ظننتُني أبلغُ هذا الشرف ، ولا أنال هذه الرتبة ؛ فلا زال أميرُ المؤمنين يسمو بخَدمه إلى أعْلى المراتب ، ويُصَرفهم في المذاهب . وكان ابنُ المعتز قد غضبَ على بعض وكلائه ، فصار إلى أبي العباس المبرد يسأله أن يكلمه له ؛ فكتب إليه المبرد : أَنْتَ والله كما قال مسلم بن الوليد في جدك الرشيد : الكامل :
بأبي وأُمي أنْتَ ما أنْدَى يَداً . . . وأبر ميثاقاً ، وما أَزْكاكا
يَغْدُو عدوُك خائفاً ، فإذا رأى . . . أن قد قدرت على العِقَاب رَجَاكا
وهذا معنًى كثير .
في المدح
أنشد أحمد بن يحيى ثعلب الأعرابي : الطويل :
كريم يغض الطرْفَ فَضلَ حَيائه . . . ويدْنُو وأطرافُ الرماحِ دَوَاني
وكالسيفِ إن لم يَنْته لاَنَ متْنه . . . وحَدَّاه إنْ خاشَنتهُ خَشِنَان
وهذا يناسب قول ابن المعتز في بعض جهاته :
وَيجْرَحُ أحشائي بعَيْنٍ مريضة . . . كما لان مَتن السيفِ والحدُّ قاطِعُ
وقال الأخطل في بني مروان : البسيط :
صُمٌ عن الجَهل ، عن قيل الخنا أنف . . . إذا ألمَّتْ بهم مكروهة صَبَرُواشُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتَقَادَ لهمْ . . . وأعْظَمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا
وفال إبراهيم بن عليّ بن هَرْمَة يمدح أبا جعفر المنصور : الطويل :
كريم له وَجْهَان ، وَجْهٌ لدى الرضا . . . طليقٌ ، وَوَجْهٌ في الكريهة باسِل
وليس بمُعْطي الحقّ من غَيْرِ قدرَةٍ . . . ويَعْفو إذا ما أمْكَنتهُ المَقَاتِلُ
له لحظات من حِفافي سريره . . . إذا كرَها فيها عِقَاب ونَائِلُ
فأمّ الذي أمنْتَ آمِنَةُ الرَدى . . . وأم الذي حاولت بالثكْل ثَاكِلُ
وقال الطائي في أبي سعيد محمد بن يوسف : الطويل :
هو السيلُ إن واجَهْتَه انْقَدْتَ طَوْعَهُ . . . وتقتادُهُ من جَانِبَيْهِ فيتبعُ
وكان عصابة الجرجاني ، واسمه إسماعيل بن محمد ، منقطعاً إلى الحسن بن رجاء متصلاً به ، وهو القائل فيه : الكامل :
ومحجَّبٍ بالنور ليس بمدرَكٍ . . . إلا بما تَأتِي به الأنْبَاءُ
ملك يُحِب الله فهو يحِبُّهُ . . . ويُطيعُه فتطيعُه الأشْيَاءُ
يمشي الهُوَيْنَا للصلاةِ يُقِيمُها . . . وإذا مشى للحَرْب فالُخَيلاءُ
لله درك أيما ابنِ عزيمةٍ . . . يشوي الزمان وما لَهُ إشْوَاءُ
ثم عتب عليه في بَغضِ الأمر ، فهجاه هجاءً قبيحاً ؛ فهرب إلى عمان ، ثم اعتذر إليه بقصيدته التي أولها : الكامل :
لا تخضبَن عَوَالي المُرانِ . . . إلا من العَلَق النجِيع الآنِ
وهي أجود شعر قيل في معناه ، وهي التي يقول فيها :
اِقْرِ السلام على الأمير ، وقل له : . . . إنّ المنادمةَ الرضاعُ الثَّاني
ما إنْ أتى حَشَمِي بأنك سَاخط . . . حتى استخف بمَوضِعي غِلمَاني
وغَدت علي مطاعمي ومَشَاربي . . . وملابسي من أعوَنِ الأعْوَانِفكتب إليه الحسن : الكامل :
أبْلغْ أبا إسحاقَ أنّ محلّه . . . مني بحيث الرأسُ والعينانِ
لا تبعدن بك الديارُ لِنَزْغةٍ . . . ولتبْعِدَنَ نَوازغَ الشيطانِ
فَلْيَفرخ الرَّوْع الذي رُوِّعْتَه . . . إن المحل محلُّ كلِّ أمانِ
بين جميل وعمر بن أبي ربيعة
اجتمع جميل بن معمر العذري بعُمَر بن أبي ربيعة المخزومي ، فأنشده جميل قصيدته التي أولها : الطويل :
لَقَدْ فَرِحَ الوَاشُونَ أنْ صَرَمَتْ حَبْلي . . . بُثَيْنَةُ أو أبْدَتْ لنا جانِبَ البُخْل
يَقُولونَ : مَهْلاً يا جميلُ ، وإنَّني . . . لأُقْسِم ما لي عن بُثَيْنَة مِنْ مَهْلِ
خَلِيليَّ فيما عِشْتُما هَلْ رأيتُما . . . قَتيلاً بَكَى مِنْ حُب قَاتِلِهِ قَبْلي ؟
نقله أبو العتاهية ، فقال : السريع :
يا مَنْ رأى قبلي قتيلاً . . . بكى من شِدَة الوَجْدِ على القاتلِ
فلمّا أتمها قال لعمر : يا أبا الخطاب ، هل قلت في هذا الرويّ شيئاً ؟ قال : نعم ، ثم أنشده : الطويل :
جرى ناصح بالودَ بيني وبينها . . . فعرضني يومَ الحِصَابِ إلى قتلي فما أنْسَ م الأْشياء لا أنْسَ قولَها . . . ومَوْقِفها يوماً بقارِعة النخل
فلمّا تواقَفْنَا عَرَفْتُ الذي بها . . . كمثل الذي بي حَذوَك النَّعْلَ بالنعلِ
فسلَمْتُ واستأنستُ خِيفَة أنْ يَرَى . . . عدو مكاني أو يرى حاسد فِعلي
وأقبلَ أمثالُ الدُمى يكتنِفْنَها . . . وكل يُفدي بالمودَةِ والأهل
فقالت وأرْخَتْ جانب الستْرِ : إنما . . . معي فتكلم غَيْرَ ذِي رِقْبَة أهليفقلتُ لها : ما بي لهم من ترقُبٍ . . . ولكنّ سرِّي ليس يحمِلُه مِثْلي
فاستخذى ، جميل وصاح : هذا والله الذي طلبَت الشعراء فأخطأته ، فتعلَلُوا بوصف الديار ، ونعت الأطلال .
ولما مات عمر بن أبي ربيعة نُعي لامرأة من مولدات مكة ، وكانت بالشام ، فبكت وقالت : مَنْ لأباطح مكة ؟ ومن يَمْدحُ نساءَها ، ويصفُ محاسنهن ، ويبكي طاعتهن ؟ فقيل لها : قد نشأ فتًى من ولد عثمان بن عفان على طريقته ، فقالت : أنشدوني له ، فأنشدوها : الطويل :
وقد أرسلَت في السر لَيْلَى بأَنْ أقِم . . . ولا تَقْرَبَنَا فالتجنُّبُ أجْمَلُ
لعلّ العيون الرامقات لوَصْلِنا . . . تكذب عَنَّا أو تَنَامُ فتغفلُ
أُناس أمنّاهمْ فبثّوا حَديثنا . . . فلما كتَمنَا السرَّ عنهمْ تقوَلُوا
فما حفظوا العَهْدَ الذي كان بيننا . . . ولا حين هَمُوا بالقطيعة أَجْمَلُوا
فتسلَّت وقالت : هذا أجل عِوَضٍ ، وأفضل خَلَف ، فالحمدُ لله الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا .
وقال عروة بن أذينة : أنشدت ابن أبي عتيق للعَرْجي : الطويل :
فما ليلةٌ عندي وإنْ قيلَ لَيلةٌ . . . ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفِطر
بعادلةِ الاثنين ، عندي وبالحَرَا . . . يكونُ سواء مثلها ليلة القَدر
وما أَنْسَ م الأَشياء لا أنس قولَها . . . لجارتها : قُومِي سَلِي لي عن الوِتْرِ
فجاءت تقول الناس في ست عشرة . . . ولا تَعْجَلي عنه فإنك في أجْرِ
فقال ابن أبي عتيق : هذه أفْقَه من ابنِ أبي شهاب ؛ أشهدكم أنها حرَة من مالي إن أجاز أهلها ذلك .
والعَرْجِيُ هو عبد الله بن عمرَ بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وكان ينزل بعَرْج الطائف فنسِب إليه ، وهو القائل : المنسرح :
هل في ادكاري الحبيبَ مِنْ حَرَجِ . . . أمْ هل لِهَم الفؤادِ من فَرجٍأمْ كيف أنْسَى مسيرنا حرما . . . يوْم حَلَلْنا بالنَّخْل مِنْ أمَج
يوم يقولُ الرسولُ قد أذنت . . . فأْتِ على غير رِقْبةٍ فَلِج
أقْبَلْتُ أهْوي إلى رِحالِهمُ . . . أُهْدَى إليها بريحها الأَرجِ
وكان محمد بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم والياً على مكة - وهو خال هشام بن عبد الملك - بلغه أن العرجيِّ هجاه ، فضربه ضرباً مبرحاً ، وأقامه على أعين الناس ، فجعل يقول : الوافر :
سيغضب لي الخليفة بعد رقّي . . . ويَسْأل أهل مكةَ عن مَساقي
علي عباءَةٌ بَرْقاء ليست . . . من البَلْوى تُجَاوزُ نِصْفَ ساقي
وتَغْضَب لي بأُسْرَتِها قُصَيٌ . . . ولاةُ الشعبِ والطُرُقِ العماقِ
فحلف محمد بن هشام ألا يخرجه ما دامت له ولاية ؛ فأقام في السجن سبع سنين حتى مات ، وهو القائل في سجنه : الوافر :
أضاعوني وأي فتًى أضاعوا . . . ليوم كريهة وسِدَادِ ثَغْرِ
وخَلَوني ومعترك المنايا . . . وقد شُرِعتْ أسنَتهم لنَحْرِي
كأني لم أكن فيهم وَسِيطاً . . . ولم تك نسبتي في آل عَمْرو
أُجَرَرُ في الْجَوامِع كل يوم . . . ألاَ لله مَظْلِمَتي وهَصْرِي
عسى المِلكُ المجيبُ لمن دعاهُ . . . سيُنْجِيني فيعلم كَيْف شُكْرِي
فَأَنجزِي بالكرامة أهْلَ وُدي . . . وأنجزِي بالضغائن أفلَ ضُرَي
جملة من الفصول القصار لابن المعتز
البشر دال على السخاء كما يدلُ النَور على الثمر . إذا اضطررت إلى الكذاب فلا تصدقه ، ولا تُعلِمْه أنك تكذبُه ، فينتقل عن وُدهِ ، ولا ينتقل عن طَبْعِه . كما أن الشمس لا يَخْفَى ضوءُها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبيُ لا تخفى غريزة عَقْلِه وإن كان مغموراً بأَخْلاَقِ الحداثة . كَرَمُ الله ، عزّ وجل ، لا يَنْقُضُ حِكمته ، ولذلك لا يجعل الإجابة في كل دعوة . كما أن جلاءَ السيف أهوَنُ من صُنْعه ، كذلك استصلاح الصديق أهونُ من اكتساب غَيْرِه . إذا استرجع الله مواهبَ الدنيا كانت مواهب الآَخرة . لولا ظلمةُ الخطا ماأشرق نورُ الصواب . الحوادث المُمِضة مُكْسِبةٌ لحظوظ جزيلة ؛ من صوابٍ مدَّخر ، وتطهيرٍ من ذَنْبٍ ، وتَنبيه من غَفْلة ، وتعريفٍ بقَدْرِ النعمة ، ومُرُوان على مُقَارَعَةِ الدهر . ومثل هذا الفصل محفوظ عن ذي الرياستين ، قاله بعقب عِلَّةٍ فأغار عليه ابن المعتز .
وكتب إلى أحمد بن محمد جواباً عن كتاب استزاده فيه ، : قَيِّدْ نِعْمَتي عندك بما كنت استَدْعيتها به ، وذُلت عنها أسْبَاب سوءَ الظن ، واسْتَدِمْ ما تُحبُ مني بما أُحِب منك .
وكتب إليه : واللَّهِ لا قَابَلَ إحسانَكَ مني كفرٌ ، ولا تَبعَ إحساني إليك مَنّ ، ولك عندي يدٌ لا أَقْبِضُها عن نفعك ، وأُخْرَى لا أَبْسطُها إلى ظُلْمِكَ ، فتجنبْ ما يُسْخِطني ، فإني أصون وجهك عن ذُلّ الاعَتذر .
وكان أحمد بن سعيد يؤدبه فتحمل البلاذري على قبيحَةَ أم ابن المعتز بقوم سألوا أن تأذن له أن يدخلَ إلى ابن المعتز وقتاً من النهار ، فأجابت أو كادَتْ تجيب ، قال ابنُ سعيد : فلما اتصل الخبرُ بي جلستُ في منزلي غَضْبَانَ لما بلغني عنها ، فكتب إليَ ابن المعتز وله ثَلاثَ عشرة سنة : البسيط :
أَصبحتَ يا ابن سعيد خِدْنَ مَكْرُمَة . . . عنها يقصّر مَنْ يَخْفَى ويَنتعِلُ
سَرْبَلْتني حِكْمةً قد هدِّبَتْ شِيَمي . . . وأَججَتْ نارَ ذِهْنِي فهي تَشْتَعِلُ
أكونُ إنْ شِئْتَ قُسًّا في خَطَابته . . . أو حارثاً وهو يوم الْحَفْلِ مُرْتجلُ
وإنْ أشَأْ فِكْرَ زَيْدٍ في فرائِضِهِ . . . أو مِثْلَ نعمانَ لما ضاقَتِ الحِيَلُ
أو الخليل عَرُوضيّاً أخَا فِطَن . . . أو الكِسائي نَحْويًّا لَه عِلَلُ
تَعْلُو بَدَاهةُ ذِهْنِي في مراكبها . . . كمِثْلِ ما عَرَفَتْ آبائيَ الأوَلُ
وفي فمي صارم ما سلَّهُ أحد . . . من غِمْدِه فدرى ما العيشُ والْجَذَلُ
عُقباكَ شُكْر طويل لا نفادَ له . . . يَبْقَى بجِدّتِهِ ما أَطتِ الإبِلُ
وقس الذي ذكر : هو قس بن ساعدة الإيادي ، وقد سَمع النبيُ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، شِعْرَه ، وعجب منه .
وحارث : هو الحارث بن حِلزة اليشكري ، وصف ارتجاله يوم فَخْرِه بقصيدته التي أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أولها : الخفيف :
آذَنتنَا ببينها أسْماءُ . . . رُب ثاوِ يمَل منه الثَّوَاءُوزيد : هو زيد بن ثابت الأنصاري ، وإليه انتهى علم الفرائض . ونعمان : هو أبو حنيفة النعمان - رضي الله عنه - بن ثابت ، سبق أهْلَ العراق في الفقْه . والخليل بن أحمد الفُرْهُودي ، ويقال : الفَرَاهِيدي ، منسوب إلى حيّ في الأزد ، اليحمري . والكسائي : علي بن حمزة الكوفي .
من إنشاء ابن العميد
وكتب أبو الفضل محمد بن العميد إلى بعض إخوانِه : أنا أشكُو إليك - جعلني اللَّهُ فِداك - دهراً خؤوناً غَدُوراً ، وزماناً خَدُوعاً غَرُوراً ، لا يمنحُ ما يمنح إلاّ رَيْثَ ما ينتزع ، ولا يبقى فيما يهب إلاَّ رَيْث ما يَرْتَجع ، يبدو خَيْرُه لُمَعاً ثم ينقطع ، ويحلُو ماؤه جُرعاً ثم يَمتَنِعُ . وكانت منه شيمَةٌ مألوفة ، وسجيَّةٌ معروفة ، أن يشفع ما يُبْرِمُه بقُرْبِ انتقاض ، ويهْدي لما يبسطه وَشْكَ انقباض ، وكنّا نَلْبَسُه على ما شرط ، وإن خان وقَسَط ؛ ونَرْضى على الرغم بحكمه ، ونَسْتَئِمّ بقَصْدِه وظلمه ، ونعتدّ من أسباب المسرّة ألاَّ يجيء محذورُه مصمتاً بلا انفِراج ، ولا يَأْتي مكروهُه صِرْفاً بلا مِزَاجٍ ، ونتعلّل بما نختلِسه من غَفَلاته ، ونستَرِقُه من ساعاته . وقد استحدث غيرَ ما عرفناه سُنِّة مبتدعة ، وشريعةً متَّبعة ، وأعدَّ لكل صالحةٍ من الفساد حالاً ، وقَرَن بكلّ خَلَّة من المكروه خِلاَلا . وبيان ذلك - جعلني اللّه فِدَاكَ - أنه كان يَقْنَعُ من معارضته الإلفين ، بتفريق ذاتِ البَيْن ، فقد أثني مَمْنُوًّا فيك بجميع ما أوغَرَه ، وما أطْويه من البَلْوَى منك أكَثْرُ مما أنشُرُه ، وأحسبني قد ظَلَمْتُ الدهرَ بسوء الثناء عليه ، وألزمته جُرماً لم يكن قدره بما يحيط به ، وقدرته تَرْتَقِي إليه ، ولو أنك أعَنته وظاهَرْتَه ، وقصدت صرفه وآَزَرْتَه ، وبِعْتَني بيع الخَلقِ وليس فيمن زَادَ ولكن فيمن نقص ، ثم أعرضت عني إعراضَ غير مراجع ، واطَّرحتني اطّراح غير مُجامل ؛ فهلاَّ وجدت نفسك أهلاً للجميل حين لم تجِدْني هناك ، وأنْفَذْتَ من جلّ ما عقدت من غير جريمة ، ونكثت ما عهدت من غير جريرة ، فأجِبْني عن واحدة منهما ؛ ما هذا التغَالي بنفسك ، والتّعالي على صديقك ؟ ولمَ نَبَذْتَني نَبْذَ النواة ، وطرَحْتَني طَرْحَ القَذَاة ؟ ولم تَلْفظني من فِيك ، وتمجُّني من حلقكِ ؟ وأنا الحلال الحُلْو ، والبارد العذب ، كيف لا تُخْطرني ببالك خَطْرة ، وتُصيرني من أشغالك مرة ؛ فترسل سلاماً إن لم تتجشّم مكَاتبة ، وتذكرني فيمَنْ تَذْكُر إن لم تكن مخاطبة ؟ وأحسب كتابي سيَرِدُ عليك فتنكره حتى تتثبّت ، ولا تجمع بين اسم كاتبه وتَصَوّر شخصه حتى تتذكّر ؛ فقد صرت عندك ممن مَحَا النسيانُصورتَه من صدرك ، واسمَه من صحيفةِ حِفْظك ، ولعلّك أيضاً تتعجب من طمعي فيك وقد توليت ، واستمالتي لك وقد أبيت ، ولا عجب فقد يتفجر الصَخْرُ بالماء الزلال ، ويَلين مَنْ هو أقسى منك قلباً فيعود إلى الوصال ، وآخر ما أقوله أن ودي وقْف عليك ، وحَبْسٌ في سبيلك ، ومتى عدت إليه وجدته غضاً طرياً ، فجرِّبه في المعاودة فإنه في العود أَحْمَدُ .
اجتليت هذا الكلام على اختيار الاختصار .
حلّ قوله فقد يتفجر الصخْرُ بالماء الزلال من قول ابن الرومي : مجزوء الرمل :
يا شبيه البدر في الحس . . . ن وفي بُعْدِ المَنَالِ
جُدْ فقد تتفجر الصَّخ . . . رة بالماء الزُلالِ
وفي هذه الرسالة في ذكر فَتْح وإن لم يستبق منه المعنى : وقد خصّنا اللَهُ تعالى معاشرَ عُبُدِ الأمير عضد الدولة بنعمة يَعْلُو مراتبَ النعم مَوْقعُها ، ويفوتُ مقدار المواهب موضعها ، فباسْمِه - أبقاه اللّه - فُتح الفَتْح ، وبشعاره استُنزل النجْع ، وبيُمْن نقيبته فُرج الكَرْب ، وبسعادة جدّه كُشِف الخَطْب ، وباهتزازه للدولة وحمايته عاد إليها ماؤها ، وراجعها بهاؤُها ، فعز الملك ونُصِر ، وذلّ العدو وقُهر ، وحُمِيت أطرافُ الدولة ، وحُفِظت أكنافُ الملةِ ، واستجد نظام النعمة ، وسُدِلَتْ ستورُ الصيانة دون الحرمة ؛ ولو جعل المولى - تقدس اسمه - لنعمته إذا تناهت على عبيده جزاءً غَيْرَ الإخلاص في شكره ، وقَبل ما في مقابلة المَوْهبة التي يستجدها عند خَلقه غيرَ الإغراق في حَمْده ، لرأيت ألا أقتصر في قضاء حقّه على بعض الملك دون بعض ، ولجعلت في صَدْرِ ما أبذل عن هذه النعمة الأعزيْن ؛ الأهل والولد ، والأنصَرين ؛ الساعد والعَضُد ، بل العميدين ؛ القلب والكبد ؛ بل النفس كلها ، والمُهجَة بأسرها .
ما قيل في العتاب
وقال سعيد بن حميد يعاتِبُ بعض إخوانه : الكامل :
أقللْ عتابك فالبقاءُ قليل . . . والدهر يَعدِلُ تارةً ويميلُ
لم أبْكِ من زمن ذَمَمتُ صُروفه . . . إلا بكَيتُ عليه حين يَزُولُ ولكُلّ نائبةٍ ألمت مُدة . . . ولكل حالٍ أقبَلت تَخويلُ
والمنتمون إلى الإخاء جماعة . . . إنْ حُصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحدَاثَ المنيةِ والردى . . . يوماً ستَصدعُ بيننا وتَحول
فلئن سبَقتُ لتبكين بحسرة . . . وليكثرن علي منك عَوِيلولتفجَعَنَّ بمُخْلِصٍ لك وامق . . . حَبْلُ الوفاء بحَبْلِه موصول
ولئن سَبَقْتَ ولا سبقت ليمضيَنْمَنْ لا يُشَكاِلُه لديَ خليل
وليذهبنَّ بهاءُ كل مروءةٍ . . . وليُفْقَدنَّ جمالُها المَأْهول
وأراك تكْلَفُ بالعتاب ووُدُنا . . . ضافٍ عليه من الوفاء دليل
ودّ بدا لذَوِي الإخاء جمالُه . . . وبَدَتْ عليه بَهْجَة وقَبول
ولعلّ أيامَ الحياة قليلةٌ . . . فعَلامَ يكثر عَتْبُنَا ويَطُولُ ؟
وقال أيضاً : الطويل :
لقد ساءني أنْ ليس لي عنك مَذْهَبُ . . . ولا لك عن سوء الخليقة مَرْغَبُ
أفكر في ود تقادم بيننا . . . وفي دونه قُرْبَى لمن يتقرَبُ
وأنت سقيمُ الودَ رَثّ حِبالُه . . . وخيرٌ من الودَ السقيمِ التجنبُ
تُسِيءُ وتَأبَى أنْ تعقَب بَعْدَهُ . . . بحسُنْي ، وتَلقاني كأني مُذْنِبُ
وأَحْذَرُ إن جازيت بالسوء والقِلَى . . . مقالةَ أقوام هُمُ منك أنْجَبُ
أساء اختياراً أو عَرَتْه مَلاَلةٌ . . . فعاد يُسيء الظنَ أو يتعتَبُ
فخِبْتُ من الود الذي كان بيننا . . . كما خاب رَاجي البرق والبَرْقُ خُلَبُ
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : الطويل :
إلى كم يكونُ الصدُ في كلّ ساعةٍ . . . وَلمْ لا تملَنَ القطيعةَ والهجْرَا ؟
رويدك إنَ الدهرَ فيه بقيَّةٌ . . . لتفريقِ ذاتِ البين فانتظر الدَهْرَا
آخر : الكامل :
ولقد علمْت فلا تكن متجنباً . . . أن الصدُودَ هو الفِرَاقُ الأوَلُ
حَسْب الأحِبَّة أن يفرَقَ بينهم . . . صَرْف الزمان ، فما لنا نَسْتَعْجِلُ ؟
آخر : الطويل :
ذَرِ النفسَ تأخذ وُسْعَها قبل بينها . . . فمفترق جَاران دارهما العمرُ
ويقرب من المعنى قول المتنبي أيضاً : الخفيف :
زَوَدِينا من حُسْن وجهِك ما دَا . . . مَ فحسْنُ الوجوه حالٌ يَحُولُوَصِلِينَا نَصِلْكِ في هذه الدّن . . . يا فإنَّ المُقَامَ فيها قَلِيلُ
ما يتعلق بالأعراب
وقف أعرابي يسألُ ، فعَبِث به فتى ، فقال : ممن أنت ؟ فقال : من بني عامر ابن صعصعة ، فقال : من أيّهم ؟ فقال : إن كنت أردت عاطفة القرابة فليكفك هذا المقدار من المعرفة ، فليس مقامي بمقام مُجادَلة ولا مفاخرة ، وأنا أقولُ : فإن لم أكن من هاماتهم فلستُ من أعجازهم . فقال الفتى : ما رويتَ عن فضيلتك إلاّ النقص في حسبك ، فامتعض الأعرابي لذلك ؛ فجعل الفتى يَعْتَذِر ، ويخلط الهَزْل والدعابة باعتذاره ، وأطَال الكلام ، فقال له الأعرابي : يا هذا ، إنك منذ اليوم آذيتني بمَزْحِك ، وقطعتني عن مسألتي بكلامك واعتذارك ، وإنك لتكشف عن جَهلِك بكلامك ما كان السكوت يَسْتُره من أمرك ، وَيْحك إنَّ الجاهل إن مَزَح أسْخَط ، وإن اعتذر أفرط ، وإن حدث أسقط ، وإن قدَر تسلّط ، وإن عزم على أمرٍ تورَّط ، وإن جلس مجلس الوقار تبسط ، أعوذُ منك ومن حالٍ اضطرتنيِ إلى احتمال مثلك وقال إسحاق الموصلي : قال أعرابي لرجل كان يعتمده بالعطية : اسأل الذي رحمني بك أن يرحمَك بي .
وسأل أعرابي رجلاً ، فأعطاه ، فقال : الحمد للّه الذي ساقني إلى الرزق وساقَك إلى الأجر .
من إنشاء بديع الزمان الهمذاني
ومن إنشاء البديع من مقامات الإسكندري : قال : حدّثنا عيسى بن هشام قال : أفْضَتْ بي إلى بَلْخ تجارة البَزّ ، فوردتها وأنا بِفَرْوَةِ الشباب وبَالِ الفراغ ، وحِلْية الثروة ، لا يهمني إلاّ نزهة فكر أستفيدها ، وشَريدة من الكلام أصيدها ، فما استأذن على سَمْعِي مسافةَ مُقامي ، أفصحُ من كلامي . ولمَا حنى التفرقُ بنا قوْسَه أو كاد ، دخل إليً شابّ في زي مِلْء العَيْن ، ولحية تَشُوكُ الأخْدَعَيْنِ ، وطَرْف قد شرب بماء الرَّافدين ، ولَقِيَني من البرِّ في السناء ، بما زِدْتُه من الشكر والثناء ؛ ثم قال : أظَعْنا تُرِيد ؟ قلت : إي واللّه ، فقال : أخصَبَ الله رَائِدَك ، ولا أضلّ قائِدَك ،فمتى عزَمْتَ ؟ فقلت : غداةَ غد ، فقال : الوافر :
صباح الله لا صبْحُ انطلاقِ . . . وطَيْر الوَصْلِ لا طَيْرُ الفِراقِ
قال : أين تريد ؟ قلت : الوطن ، قال : بُلِّغْتَ الوَطن ، وقضَيْتَ الوَطَر ، فمتى العَود ؟ قلت : القابل ؟ قال : طَوَيْتَ الرَّيط ، وثنَيْتَ الخيط ، فأين أنت من الكرم ؟ قلت : بحيث أردت ؟ قال : إذا رجعك الله من هذه الطريق ، فاستَصحِب لي عدُواً في بُردَةِ صديق ، من نِجَار الصُّفر ، يدعو إلى الكفر ، ويرقُص على الظفْر ، كدَارة العين ، يحطُ ثِقَلَ الذين ، وينافِقُ بوَجهين فعلمت أنه يلتمس ديناراً ، قلت : لك ذلك نقداً ، ومثله وَغداً ، فأنشأ يقول : مخلع البسيط :
رَأْيُك مِمَّا خَطَبتُ أعلى . . . لا زلت للمَكرُمات أهْلا
صَلُبْتَ عُوداً وفُقْتَ جُوداً . . . وطِئتَ فرعاً وطِبْتَ أصلا
لا أستطيع العَطاء حَمْلا . . . ولا أطيق السؤال ثِقْلاَ
قصُرْتُ عَنْ مُنتهاك ظَنّا . . . وطُلْتُ عما ظَنَنْتَ فِعلاً
يا رحمة اللَّه والمعالي . . . لا لَقَيَ الدَّهْرُ مِنْكَ ثُكْلاَ
قال عيسى بن هشام : فُنُلتُه الدينار ، وقلت : من أين نبتَ هذا الفَضل ؟ قال : نَمَتني قريش ، ومُهِّد لي الشرفُ في بَطْحائها . فقال بعض من حضر : ألَسْت أبا الفتح السكندري ؟ ألم أرك بالعِراق ، تطوف بالأسواق ، مُكَدِّياً بالأوراق ؟ فأنشأ يقول : مجزوء الرمل :
إنَّ للَهِ عبيداً . . . أخذوا العُمْرَ خَلِيطا
فهمُ يُمْسُون أعرا . . . با ويُضْحُون نَبيطا
وله إلى أبي نصر الميكالي يشكو إليه خليفته بهَرَاة : كتابي ، أطال اللَهُ بقاءَ الشيخ الجليل ، والماءُ إذا طال مُكْثُه ، ظَهَرَ خُبْثه ، وإذا سكن مَتْنُه ، تحرَك نتنُه ، كذلك الضيفُ يَسْمُج لقاؤه ، إذا طال ثَوَاؤه ، ويثقل ظِلّه ، إذا انتهى مَحَلّه ، وقد حلَبْت أشطر خمسة أشهر بهَرَاة وإن لم تكن دار مثلي لولا مُقامهُ ، وما كانتتسعني لولا ذِمَامُه ، ولي في بَيْتيْ قيسٍ مَثَلُ صدق ، وإن صَدَرَا مَصْدَر عِشْق : الطويل :
وأَدْنَيْتني حتى إذا ما سبَيْتني . . . بقول يُحِل العُصمَ سَهلَ الأباطحِ
تجافَيْتِ عني حيث لا ليَ حيلةّ . . . وخلَفْتِ ما خلًفْتِ بين الجوانِحِ
نعم . قنصتني نِعَمُ الشيخ الجليل ، فلما عَلِقَ الجناح ، وقَلِقَ البَرَاح ، طرت مطارَ الريح ، بل مطارَ الرّوح ، وتركتني بين قوم ينقض مَسُّهم الطهارَة ، وتُوهِن أكفّهم الحجارة ، وحدثت عن هذا الخليفة ، بل الجِيفة ، أنه قال : قضيت لفلان خمسين حاجةَ منذ ورد هذا البلد ، وليس يَقْنع ، فما أصنع ؟ فقلت : يا أحمق ، إن استطعت أن تراني محتاجاً ، فاستطع أن أراك محتاجاً إليك . أفً لقولك ولفعلك ، ولدهر أحْوَج إلى مثلك وأنا أسأل الشيخ الجليل أن يبيضَ وجهي بكتاب يُسَوِّد وجهه ، ويعرّفه قَدْره ، ويملأ رعباً صدره ، إلى أن تَبِين على صفحات جَنْبِه ، آثارُ ذنبه .
وله إليه يعاتبه : قد عرف الشيخ الجليل اتّسامي بعبوديته ، ولو عرفْتُ وراءَ العبودية مكاناً لبلغته معه ، وأراني كلما قدمت صُحْبة ، رجعت رُتْبة ، وكلّما طالت خِدْمة ، قصُرت حِشمة ، ولست ممن يذهب عليه أن للسلطان أنْ يرفع عَبْداً حبشياً ، ويَضَع قُرَشِياً ، ولكن أحب أن أقف من مكاني على رُتْبةِ كوكبها لا يغور ، ومنزلةٍ لَوْلَبُها لا يَدُور ، فإذا عرفت قَدْري وخطه ، لم أتخطَه ، ثم إن رأيت محلي وحده ، لم أتعدَه ، إن قدَّمني يوماً عليها علمت أن عنايةً قدمتني ، وإن أخرني عنها علمت أن جناية أخرتني . رُفع عليّ اليوم فلانٌ ولستُ أنكِر سِنه وفَضْلَه ، ولا أجحد بيته وأصله ، ولكن لم تجْرِ العادة بتقدّمه ، لا في الأيام الخالية ، ولا في هذه الأيام العالية ؛ وشديدٌ على الإنسان ما لم يُعود ؛ فإن كان حاسدٌ قد هم ، أو كاشح قد نمَ ، أو خَطْبٌ قد ألمّ ، أو أمرٌ قد رقع وتم ، فالشيخُ الجليلُ أولى من يعرفه ويعرّفنيه ، وإلا فما الرأي الذي أوْجَب اصطناعي ، ثم ضياعي ، والسبب الذي اقتضى بَيْعِي بعد ابتياعي ؟
عود إلى المأمون
ولما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي أمر به فأدْخِل عليه ، فلما وقف بين يديه قال : وَليُ الثأر محكّم في القصاص ، ومَنْ تَناوَله الاغترار بما مُدَ له من أسباب الرجاء أمِن عادية الدهر من نفسه ، وقد جعلك اللَّهُ تعالى فوق كل ذي ذنب ، كما جعل كل ذي ذَنْب دونك ، فإن أخذتَ فبحقَك ، وإن عفوت فبفضلك . ثم قال : المجتث :
ذَنْبي إليك عظيم . . . وأنت أعظم منهُفخُذْ بحقِّك ، أوْ لا . . . فاصفحْ بفَضلِك عنه
إن لم أكن في فعالي . . . مِنَ الكرام فكنْهُ
فقال لي : إني شاورت أبا إسحاقَ والعباس في قَتْلك ، فأشارا به ، قال : فما قلتَ لهما يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت لهما : بدأناه بإحسان ، ونحن نستَأمِره فيه ، فإن غير فالله يغير ما به ، قال : أما أن يكونا قد نصحا في عظيم ما جَرَت عليه السياسة فقد فعلا وبلغا ما يبلغك ، وهو الرأيُ السديد ، ولكنك أبيت ألا تستجلب النصر إلاَ من حيث عوَّدك الله . ثم استَعْبَر باكياً ، فقال له المأمون : ما يبكيك ؟ قال : جَذَلا إذ كان ذَنْبي إلى مَن هذه صفته في الإنعام ، ثم قال : إنه وإن كان قد بلغ جُرْميَ استحلال دمي ، فعِلْمُ أمير المؤمنين وفَضلُه بلغاني عفوه ، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب ، وحق الأبوّة بعد الأب . فقال : يا إبراهيم ، لقد حُبِّب إليّ العفو حتى خِفْتُ ألاَ أُوجَر عليه ، أما لو علم الناسُ ما لنا في العفو من اللذّة لتقرّبوا إلينا بالجنايات ، لا تَثْرِيب عليك يغفر الله لك ، ولو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلَغك ما أملت حسنُ تنصّلك ولطف توصلك ، ثم أمر برد ضياعه وأمواله ، فقال : البسيط :
رددت مالي ولم تَبْخَل عليّ به . . . وقبل رَدِّك مالي قد حَقَنْتَ دمي
وقام علمُك بي فاحتجّ عندك لي . . . مقام شاهدِ عدل غَيْرِ متهَمِ
فلو بذلتُ دمي أبغي رضاكَ به . . . والمال حتى أسلّ النَّعْلَ من قَدَمي
ما كان ذاك سِوَى عاريّة سَلَفَتْ . . . لو لم تهبْها لكنت اليوم لم تُلَم
أخذ معنى قول المأمون : لقد حُبّب إليّ العفو حتى خفت ألاّ أوجَرَ عليه أبو تمام الطائي فقال : الكامل :
لو يعلمُ العافون كم لكَ في الندى . . . من لذة وقريحةٍ لم تَخْمُدِ
فكان أبو تمام في هذا كما قال أبو العباس المعتز في القاسم بن عبيد اللّه :
إذا ما مدحناه استعنَا بفِعْله . . . فنأخذ معنى قَوْلنا مِنْ فعالِه
وكان تصويبُ إبراهيم لرأي أبي إسحاق المعتصم والعباس بن المأمون ألطفَ في طلب الرضا ودَفْع المكروه واستمالتهما إلى العاطفة عليه من الإزراء عليهما في رأيهما ،وكان إبراهيم يقول : والله ما عفا عني لرَحمٍ ولا لمحبةٍ ؛ ولكن قامت له سوقٌ في العفو كَرِه أن يفسدها بي .
وكان المأمون شاور في قتل إبراهيم أحمدَ بن أبي خالد الأحول ، فقال : إن قتلتَه فلك نظير ؛ وإن عفوتَ عنه فلا نَظير لك ؛ َ فأختار لك العفو .
بين المأمون وإسحاق بن العباس
وقال المأمون لإسحاق بن العباس : لا تحسبني أغفلت أمر ابن المهدي وتأييدك له ، وإيقادَك لِناره . قال : واللّه يا أمير المؤمنين لأَجرام قريش إلى رسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعظمُ من جُرْمي إليك ؛ ولرَحمي أمسّ بك من أرحامهم ؛ وقد قال لهم كما قال يوسف ؛ على نبّينا وعليه الصلاة والسلام لأخْوته : ' لا تَثرِيبَ عليكم اليومَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أرْحَمُ الراحِمِينَ ' . وأنت يا أمير المؤمنين ، أحَقُّ وارثٍ لهذه الأمة في الطَّوْل ، وممتثل لخلال العَفْو والفَضل .
قال : هيهات تلك أجرامَّ جاهلية عَفَا عنها الإسلام ، وجُرْمُك جُرمٌ في إسلامك ، وفي دار خلافتك .
قال : يا أمير المؤمنين ، فواللّه للمسلم أحق بإقالة العَثْرَة وغُفْرَان الذنب من الكافر . وهذا كتاب الله بيني وبينك إذ يقول : ' وسارِعُوا إلى مَغْفرةِ من ربِّكُمْ وجَنةٍ عَرْضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للُمتَّقِين ، الذين يُنْفقُونَ في السَرّاء والضرَّاء والكاظِمينَ الغَيْظَ والعافِينَ عن الناسِ واللَّهُ يُحِب المُحْسِنينَ ' . والناسُ يا أميرَ المؤمنين ، نسبةٌ دخل فيها المسلم والكافر ، والشريف والمشروف .
قال : صدقت ، وَرِيَتْ بك زنادي ، ولا بَرِحْتُ أرى من أهلك أمثالك .
في الاستعطاف
وقال رجل لبعض الملوك وقد وقف بين يديه : أسألك بالذي أنت بين يديه غداً أذَل مني بين يديك اليوم ، وهو على عقابك أقْدَرُ منك على عقابي ، إلاَ ما نظرتَ في أمري نَظَرَ من بُرْئي أحبُّ إليه من سُقْمِي ، وبراءتي أحبُّ إليه من بليّتي .
وأراد معاوية عقوبة روح بن زنباع فقال : يا أمير المؤمنين ، أنشدك اللّه تعالى ألاَتضع مني خَسيسة أنتَ رفعتها ، أو تنقض مني مَرِيرة أنتَ أبرمتها ، أو تشمت بي عدوًّاً أنت كبته ، وحاسداً بك وقَمْتُه ؛ وأَسألك باللّه إلاَّ أرْبى حِلْمُك على خطئي وصفحك على جهلي .
فقال معاوية رضي اللّه عنه : إذا اللّه ثنى عقد شيء تيسرا .
أشار إلى هذا أبو الطيب المتنبي إذ قال : الطويل :
أزِلْ حَسَدَ الحُسَّادِ عني بكَبْتِهِمْ . . . فأنتَ الذي صَيرْتَهُمْ لي حُسدا
إذا شَدَّ زَندي حُسْنُ رَأيِك في يَدي . . . ضَرَبْتُ بسَيْفٍ يَقْطَعُ الْهَامَ مُغْمَدَا
عفو الملوك
وعَتَب المأمون على بعض خاصّته ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قديم الحرمة وحديث التوبة يَمْحُوَان ما بينهما من الإساءة . قال : صدقت ، وعفا عنه .
وكان في ملوك فارس ملك عظيم المملكة ، شديدُ النقمة ، فقرب له صاحب المطبخ طعامه ، فنقطت نُقْطةٌ من الطعام على المائدة ، فَزَوى له الملك وَجْهَه ، وعلم صاحبُ المطبخ أنّه قاتله ، فعمد إلى الصَّحْفَة فكفأَها على المائدة ثم ولّى ، فقال له الملك : ما حَملك على ما فعلت ، وقد علمتُ أن سقوطَ النقطة أخطأَتْ بها يدك ولم يَجْرِ بها تعمُّدك ، فما عندك في الثانية ؟ قال : استحيتُ للملك أنْ يُوجب قتلي ، ويُبيح دَمَ مثلي ، في سنَي وحُرْمتي ، وقديم اختصاصي وخِدْمتي ، في نُقْطة أَخْطأَتْ بها يَدي ، فأَرَدْتُ أن يَعْظُم ذَنبي ليَحسُنَ بالملك قَتْلي .
قال : لئن كان اعتذارك يُنجِيك من القتل ، فليس يُنْجِيك من التأديب ، اجِلدوه مائةَ جَلدة ، واخلعوا عليه خلع الرضَا .
وخرج بهرام جور متصيّداً فعنّ له حمار وَحْشٍ ، فأتبعه حتى صَرعه ، وقد انقطع عن أصحابه ، فنزل عن فَرسه يريدُ ذَبْحه ، وبَصُرَ براعٍ فقال : أمْسك عليّ فَرسي ، وتشاغل بذبح الحمار ، وحانَتْ منه التفاتة ، فنظر إلى الراعي يقطع جَوْهَر عِذار فرسه ، فحوَل بهرام جوروَجْهَهُ وقال : تأمُلُ العيبِ عَيْب ، وعقوبةُ من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سَفَه ، والعفوُ من أفعال الملوك ، وسُرْعَة العقوبة من أفعال العامة .
ثم قال : يا غلام ، ما بال شِرْيَانِك يضطربُ لعقك آذاك تكسيرُنا أرْضك بحوافر خَيْلنا ، فقال : نعم ، وقد عزمتُ على أن أنقلع مائةَ فرسخ ، فقال بهرام : لا تُرَع ؛ فهذا الموضع وما فيه لك ، وكان الراعي خبيثاً ، فقال : إن الملوك إذا قالت قولاً تَمَتْ على قولها ، فرجع بهرام إلى عسكره وقال : اتبعني لأُوثَقَ لك من هذه الأرض ، فاتَّبعه ، فلما بَصُر به الوزير قال : أيها الملك السعيد ، إني لأرى جَوْهَر عِذار فرسك مُقَلّعاً ، فتبسّم وقال : أخذه من لا يردّه ، ورآه من لا ينمّ به ، فمَنْ أخذه صاحبُنا ولا نُطالبه به .
نقل ابن الرومي قول بهرام : تأمل العيب عَيْبٌ كما اتّفق موزوناً فقال : المجتث : تأمُلُ الْعَيْبِ عَيْبُ . . . مَا في الذي قُلتُ رَيْبُ
وكلُّ خَيْرٍ وشَر . . . دُونَ العَوَاقِبِ غَيْبُ
وربّ جلْبَابِ هَم . . . فيه مِنَ الصنْعِ جَيْبُ
لا تحْقِرنَّ سُيَيْباً . . . كم قاد خيراً سيَيبُ
أخذ البيت الأخير من قول الطائي : مخلع البسيط :
رب قَليل غدا كثيراً . . . كَمْ مَطَرٍ بَدْؤُهُ مُطَيْرُ
وقوله : الخفيف :
لا تَزِيلَنْ صَغِيرَ هَمّكَ وانْظُر . . . كم بذي الأثْلِ دوحةً مِنْ قضيبِ
وقد أعاد ابن الرومي قوله : المجتث :
وكلُّ خَيْرٍ وَشَر . . . دُون الْعَواقِبِ غَيْبُ
في قصيدته التي مدح بها أحمد بن محمد بن ثوابة حين ساوره ، وقال : لو أتى لبيد لتعجب منه ، فاستجزله وقال : الطويل :
ولما دَعَاني للَمُثوبَةِ سَيد . . . يَرَى الْمَدْحَ عَاراً قَبْلَ بَذْلِ المَثَاوِبِ
تَنَازَعني رَغْبٌ ورَهبٌ كِلاهُما . . . قَوِي ، وَأعْياني طُلُوع الْمَعايِبِفقدَمتُ رِجْلاً رَغْبَةً في رَغِيبَة . . . وأخرتُ رِجْلاً رَهْبَةً لِلْمَعاطِبِ
أخاف عَلَى نَفْسِي وأَرْجُو مفازَهَا . . . وأَسْتَارُ غَيْبِ اللَّهِ دُونَ الْعَواقِبِ
ألاَ مَنْ يُريني غَايَتي قبل مَذهبي . . . وَمِنْ أَيْنَ وَالغايَاتُ بَعْدَ المَذَاهِبِ
رجع إلى إنشاء بديع الزمان
نسخْة رقعة كتبها بديع الزمان إلى أبي علي إسماعيل يعتذرُ إليه : سوءُ الأدب من سكر النَّدْب ، وسكر الغضب من الكبائر التي تنالُها المَغْفِرة ، وتَسَعُها المَعْذِرة ، وقد جرى بحَضْرةِ الشيخ ما جَرَى ، وقد أفْنَيْت يدي عضًّاً ، وأسناني رَضاً ، وإن لم أوف ما جَرَى فالعُذْرَ أمُدّ خطاً ، فإنْ كان بِساطاً يطوى ، وحديثاً لا يُرْوَى ، فأوْلى مَن عذَرَ اللاعب ، وأحْرَى من غَفَر الصاحب ؛ وإن كان ميتاً يُنْشَر ، وسبباً يُذْكَر ، فلْيَكن العقابُ ما كان ، إن لم يكن الهجران ، على أني قد أخذت قِسْطِي من العقاب ، واستَفَدْت من ردَ الجواب ، ما كفى وأَوْجَعَ القَفَا ؛ فكان من مُوجب أدب الخِدْمَة ، إبقاءُ الحِشمة لولي النعمة ، باحتمال الشَتْم ، والإغضاء عن الخصْم ، لكني أحْدَقَتْ بي ثلاثة أحوال لا يَسْلَمُ صاحبها ؛ اللعب وسكره ، والخصم وهُجره ، والإدلال والثقة ، وهُنَ اللواتي حملنني على ماء الوَجْهِ فهَرَقْتُه ، وحجابِ الحشمة فخَرَقتُه ، وقد منعني الآَن فَرْطُ الحياء من وَشْكِ اللقاء ، وعَهْدِي بوجهي وهو أصْفَقُ من العُدم الذي حملني على جَهْلِه ، وأَوْقَحُ من الدهر الذي أحوجني إلى أهله ؛ لكن النعم إذا توالَتْ على وَجْهٍ رفَقت قِشْرَته ، وألاَنت بَشَرته ؛ وأنا منتظر من الجواب ما يريش جَنَاحي إلى خِدْمَته ، فإنْ رأى أن يكتب فَعل ، إن شاء الله .
وله رقعة إلى أبي علي بن مشكويه أولها : الطويل :
ويا عزّ إن وَاشٍ وَشى بي عندكم . . . فلا تُمْهِليهِ أن تَقُولي له : مَهْلا
كما لو وَشَى واشٍ بعزةَ عندنا . . . لقلنا : تَزَحْزَح لا قريباً ولا أهلا بلغني ، أطال اللهُ بقاءَ الشيخ أن قيضة كلب وافَتْه بأحاديث لم يُعِرْها الحقُّ نورَه ، ولا الصدقُ ظهورَه ، وأنه - أدام الله عزه - أذن لها على مَجال أذنه ، وفسح لها فِناء ظنه ، ومعاذ الله أن أقولها ، وأستجيز معقولها ؛ بل قد كان بيني وبين الشيخ عِتَابٌ لا ينزل كنَفه ولا يجدف ، وحديث لا يتعدَى النفسَ وضميرها ، ولا يعرف الشفة وسَميرها ، وعَرْبَدة كَعَربدَة أهل الفضل ، لا تتجاوزُ الذلال والإدلال ، ووحشة لا يكشفها عتابُ لحظة ، كعتابجَحْظة ، فسبحان مَنْ ربّي هذا الأمرَ حتى صار أمراً ، وتأبط شراً ، وأوْجَب عُذْراً ، وأوحش حُراً . وسبحان مَنْ جعلني في حَيّزِ العدو أشِيم بَارِقَته ، وأتخوّف صَاعِقَته ، وأنَا المسَاء إليه ، والمجنيُّ عليه ، ولكن من بُلي من الأعداء بمثل ما بُليت ، ورُمي من الحسد بما رُمِيت ، ووقف من التوحّد والوحدة حيث وقَفْت ، واجتمع عليه من المكارِهِ ما وصَفْت ، اعتذر مظلوماً ، وضَحك مشتوماً ، ولو علم الشيخُ عددَ أولاد الجدد ، وأبناء العدد ، بهذا البلد ، ممن ليس له همّ إلاَّ في سعاية أو شكاية أو حكاية أو نكاية ، لضنَّ ، بعِشْرَة غريب إذا بدر ، وبعيد إذا حضر ، ولصانَ مجلسه عمن لا يَصُونُه عما رقى إليه ، وهَبْني قد قلت ما حكى ، أليس الشَّاتِمُ مَنْ أسْمع ، والجاني منْ أبلغ ؟ فقد بلغ مِنْ كيد هؤلاء القوم أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفساً لا تُستفز ، وجبلاً لا يهزّ ، وشَوْا إلى خدمه بما أرّثوا نارهم ، وورد عليّ ما قالوه فما لبثت أن قلت : الطويل :
فإن تَكُ حرب بين قومي وقومها . . . فإني لها في كلِّ نائبة سلمُ
وليعلم الأستاذ أنَ في كبد الأعْداء مني جَمْرة ، وأنَّ في أولاد الزنا عندنا كَثْرة ، وقُصاراه نارٌ يَشُبونها ، وعقرب يُدَبِّبُونها ، ومَكِيدة يَطْلُبونها ، ولولا أن العذْرَ إقرار بما قيل ، وأكره أن أستقيل ، لبسطتُ في الاعتذار شَاذَرْواناً ، ودخلت في الاستقالة مَيْداناً ، لكنه أمرٌ لم أضعْ أوله ، فلم أتَدارَكْ آَخره .
وقد أبى الشيخ أبو محمد - أيّده اللّه - إلاّ أن يوصَلَ هذا النثر الفاتر بنظم مثله فهاكه يَلْعَنُ بعضه بعضاً : السريع :
مولاي إن عدتُ ولم ترضَ لي . . . أنْ أشرب البارد لم أشْرَبِ
اِمْتَطِ خدي وانتعِل ناظري . . . وصِدْ بكفِّي حُمةَ العَقْربِ
تاللّه ما أنْطِقُ عن كاذبٍ . . . فيك ، ولا أُبْرِقُ عن خُلَبِ
فالصفوُ بعد الكذب المفترَى . . . كالصّحو عقْب المَطَرِ الصَّيَبِ
إن أجْتَنِ الغلظة من سيدي . . . فالشوكُ عِند الثمر الطيب
أو يفسد الزورُ على نَاقد . . . فالخمر قد يعصب بالثيّب
ولعلّ الشيخ أبا محمد - أيده الله - يقوم من الاعتذار بما قعد عنه القلمُ واللسان ؛ فنعم رائد الفضل هو ، والسلام .فِقَرٌ من كلام سهل بن هرون للمأمون
كان المأمون استَثقل سَهْل بن هرون ، فدخل عليه يوماً ، والناسُ على مَراتبهم ، فتكلّم المأمون بكلام ذَهَب فيه كل مذهب ؛ فلما فرغ من كلامه أقبل سهلُ بن هرون على الجَمع فقال : ما لكم تسمعون ولا تعون ، وتشاهدون ولا تَفْقَهُون ، وتفهمون ولا تتعجَّبون ، وتتعجّبون ولا تُنصفون ؟ واللّه إنه ليقول ويفعلُ في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل ، عَرَبُكم كعجمكم ، وعَجَمُكم كعبيدكم ، ولكن كيف يَعْرِف الدواء من لا يشعر بالداء ؟ فرجع المأمونُ فيه إلى الرأي الأول .
من ترجمة سهل بن هرون ، وأخباره
وكان أبو عمرو سهل بن هرون من أهل مَيسان ، نزل البصرة فنُسِب إليها ، وهو القائل : الكامل :
يا أهل مَيْسان السلام عليكم . . . الطيبون الفرعُ والْجِذْمُ
أمّا الوجوهُ ففِضَّة مُزِجت . . . ذهباً وأيدٍ سَحَةٌ هُضْمُ
أتُريدُ كلْب أن أُناسبها . . . قد قلّ من كلْب بيَ العِلْمُ
أجعلت بيتاً فوق رابية . . . فرعُ النجوم كأنه نَجْمُ
كَبَيَتِ شَعير وسط مجهلة . . . بفنائه الْجِعْلاَنُ والبهْمُ
وكان سهل شعوبياً ، والشعوبية فِرْقَةٌ تتعصّب على العرب وتنتقصُها ، وكان أبو عبيدة يُرمى بذلك . وسهل ظريفٌ عالم حسَنُ البيان ، وله كتب ظريفة صنَفها معارضاً للأوائل في كتبهم بما لا يستَصْوبه منهم ، حتى قيل له : بزر جمهر الإسلام وقال يمدح رجلاً : الطويل :
عدوُّ تِلادِ المال فيما يَنُوبُهُ . . . مَنُوعٌ إذا ما مَنْعُه كان أحْزَما
مذلّل نفس قد أبتْ غير أنْ تَرَى . . . مكارِهَ ما تأْتي من العيش مَغْنَما
وهذا نظير قوله في كتاب ثَعْلَة وعُفرة الذي عارض به كليلة ودمنة : اجعلوا أداءَ ما يَجِبُ عليكم من الحقوق مقدماً قبل الذي تجودون به من تفضلكم ؛ فإن تَقْديم النافلة مع الإبطاء عن الفريضة مُظاهر على وَهَنِ العقيدة ، وتقصير الروية ، ومُضِرٌ بالتدبير ، مخلبالاختيار ، وليس في نفع محمدتِه عِوَض من فساد المروءة ولروم النقيصة . وكتابه هذا مملوء حكماً وعلماً . وسهل القائلُ : الطويل :
تقسمني هَمَانِ قد كَسَفا بالي . . . وقد تركا قَلْبي محلَةَ بَلْبَالِ
هما أذرَيا دَمْعي ، ولم تذر عَبْرتي . . . رهينةُ خِدْر ذات سِمْطٍ وخلخَالِ
ولا قهوة لم يَبْقَ منها على المدى . . . سوى أن تحاكي النور في رَأس ذيال
تحللَ منها جِرمها وتماسكت . . . لها نَفْسُ معدوم على الزمن الخالي
ولكما أبكي بعَيْنِ سخينة . . . على حَدَث تبكي له عَينُ أمثالي
فراق خليل لا يقوم به الأسى . . . وخَفَة حُرً لا يَقُوم لها مالي
فواحسرتي حَتّى متى القلب مُوجَع . . . لفَقْد خليل أو تَعَذرِ إفضال ؟
وما الفَضْلُ إلاّ أنْ تجودَ بنائل . . . وإلاّ لقاء الخل ذي الخُلُقِ العالي
وهو القائل : البسيط :
إذا امرؤ ضاق عني لم يَضِق خُلُقي . . . من أنْ يراني غنيًّا عنه بالْيَاس
لا أطلبُ المال كي أغْنَى بفضلته . . . ما كان مَطْلَبُه فَقْراً إلى الناس
وأنشد له الجاحظُ يهجو رجلاً : البسيط :
من كان يَعْمُرُ ما شادَتْ أوائلهُ . . . فأنتَ تَعْمُرُ ما شادُوا وما سَمَكُوا
ما كان في الحق أن تحوي فعالهمُ . . . وأنت تَحْوي من الميراث ما تركوا
وقال محمد بن زياد الزيادي : وجَدْتُ على سهل بن هرون في بعض الأمر ، فهجوته ، فكتب إلي ؛ أما بعد ، فالسلامُ على عهدك وداعَ ذي ضَنّ بك ، في غير مَقْلِيَة لك ، ولا سَلْوَة عنك ، بل استسلام للبَلْوى في أمرك ، وإقْرَار بالمعجزة في استعطافك ، إلى أوان فيئك ، أو يجعل اللّه لنا دَولة من رجعتك ، والسلام .
وكتب في أسفل الكتاب : المنسرح :
إن تَعْفُ عن عبدك المسيء ففي . . . عفوك مَأْوًى للفضل والمِنَنِ
أتيتُ ما استحقّ من خَطإ . . . فجُد بما تستحق من حسنِمن عِظات الحسن البصري
وقال الحسن البصري ، رحمه اللّه في يوم فطر وقد رأى الناسَ وهيآتِهم : إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضماراً لخلْقِه ، يستَبِقُون فيه بطاعته إلى مَرْضاته ، فسبَقَ قوم ففازوا ، وتخلف آخرون فخابُوا ، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ، ويخَسْرَ فيه المبطلون ، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومُسِيء بإساءته .
ونظر إلى قوم منصرفين من صلاة الفِطْر يتدافعون ويتضاحكون ، فقال : الله المستعان إن كان هؤلاء قد تقرر عندهم أنّ صومهم قد تُقُبل فما هذا محل الشاكرين ، وإن علموا أنه لم يتقبّل فما هذا محل الخائبين .
وكان الحسن من الخطباء النّساك الفقهاء الأجواد ، ويقال : إنه لم يكن تابعيّ أفضل منه .
هذا قول أهل العراق جميعاً ، وأهل الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه ، وكان سعيدٌ أحْسَنَ من الحسن وَرَعاً ، وأشدّ الناس حَذَراً ، وأقلّهم كلاماً . وكان الحسن لا يدع أن يتكلّم بما هَجَس في نفسه ، وجَاش في صدره .
وعلى ذكر الحسن شهرَ رمضان نقول :
ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بإقبال شهر رمضان مع ما يتّصل بها من الأدعية
ساق اللَّهُ تعالى إليكَ سعادةَ إهلاله ، وعَرَّفك بركة كماله . قسم اللَّهُ لك من فَضْلِه ، ووفَّقك لفَرْضِه وَنَقلِه . لقّاك اللّه ما ترجو ، ورقاك إلى ما تحته فيما تَتْلوه . جعل اللَهُ ما أظَلك من هذا الصوم مقروناً بأفضَلِ القبول ، مُؤْذِناً بدَرْكِ البُغْيَة ونُجْحِ المأمول ، ولا أخْلاَك من برِّ مرفوع ، ودعاءً مسموع . قابَلَ اللّه تعالى بالقبول صيامَك ، وبعظيم المَثُوبة تهجدك وقيامك . عرَفك الله من بركاته ما يُرْبي على عدد الصائمين والقائمين ، ووفقك اللَهُ لتحصيل أجْرِ المتهجدين . أَسأل الْلّه تعالى أن يضاعِفَه بمنه لك ، ويجعله وسيلة بقبوله إلى مَرضاته عنك . أعاد اللَهُ إلى مولاي أمثاله ، وتقبل فيه أعماله ، وأصلح في الدين والدنيا أحواله ، وبلّغه منها آماله . أسعده اللّه بهذا الشهر ، ووفاه فيه أجزل المَثُوبة والأجر ، ووفر حظه من كل ما يرتفع من دُعاء الدَاعِين ، وينزل من ثواب العاملين ، وقبل مساعيه وزَكاها ، ورفع درجاته وأعلاها ، وبلَغَه من الآمال مُنْتهاها ، وظَفِر بأبعدها وأقصاها .وقال الحسن : من أخلاق المؤمن قوةٌ في دين ، وحَزمٌ في لين ، وحِرص على العلم ، وقناعة في فَقْر ، ورحمة للمَجهود ، وإعطاء في حق ، وبرٌ في استقامة ، وفقه في يقين ، وكسب في حلال .
وقال محمد بن سليمان لأبي السماك : بلغني عنك شيء ، قال : لا أُباليه ، قال : ولمَ ؟ قال : لأنه إن كان حقًّاً غفرته ، وإن كان باطلاً كذبته .
وقال محمد بن صُبَيْح المعروف بابن السماك ، خيْرُ الإخوان أقلّهم مصانعة في النصيحة ، وخيرُ الأعمال أحلاها عاقبة ، وخيرُ الثناء ما كان على أفواه الأخيار ، وأشرف السلطان ما لم يخالطه البَطَر ، وأَغْنى الأغنياء من لم يكن للحِرْص أسيراً ، وخير الإخوان من لم يخاصم ، وخيرُ الأخلاق أعونها على الورع ، وإنما يختبر وُدُّ الرجال عند الفاقة والحاجة .
ووصف بعضُ البلغاء رجلاً فقال : إنه بسيط الكف ، رَحْب الصدْرِ ، موطَّأ الأكناف ، سَهْل الخلق ، كريم الطِباع ، غَيْثٌ مُغِيثٌ ، وبَحْرٌ زَخُور ، ضَحُوك السنّ ، بشير الوَجْهِ ، بادي القبول ، غير عَبُوس ، يستقبلك بطَلاَقةٍ ، ويحييِّك ببشْر ، ويَسْتَدْبِرُكَ بكرمِ غَيْب ، وجميل سر ، تبهجك طَلاَقتهُ ، ويرضيك بِشْرُه ، ضَحَّاكٌ على مائدته ، عَبْدٌ لضِيفانه ، غير ملاحظ لأكِيله ، بَطِينٌ من العقل ، خَميص من الجهل ، راجح الْحِلْم ، ثاقب الرَّأي ، طيِّب الخلق ، محصّن الضريبة ، مِعْطاء غير سائل ، كاسٍ من كل مَكْرُمة ، عارٍ من كلِّ ملامة ، إن سُئِلَ بَذَل ، وإن قال فَعلَ .
قال أبو الفتح كشاجم : الطويل :
مزاجك لِلْمَثْنى من العودِ والصَّبا . . . من الرِّيح والصافي الرقيق من الخَمْرِ
فلو كنت وَرْداً كنت وَرْداً مُضاعَفا . . . ولو كنت طِيباً كنت من عَنْبَر الشَحْر
ولو كنت لَحْناً كنت تأْليف مَعْبَدٍ . . . ولو كنت عوداً ما افتقَرتَ إلى زَمْرٍ
وقال أعرابي : الطويل :
ألا حَبذا البُرْدُ الذي تَلْبَسِينهُ . . . ويا حَبّذا مَنْ باعكِ البُرْدَ من تَجْرِ
فلو كنت ماءً كنت ماءَ غمامةٍ . . . ولو كنت درًّا كنت من دُرَّةٍ بِكْرِ
ولو كنت لَهْواً كنت تَعْلِيلَ ساعةٍ . . . ولو كنت نَوْماً كنت إغفاءةَ الفَجْرِ
ولو كنت لَيْلاً كنت قَمْرَاء جُنبت . . . نُحُوس لَيَالي الشَهْرِ أو ليلةَ القَدْرِ
الجزء الثانيالجزء الثانىبِسم اللهِ الرحَمّنِ لرَّحيم
نبذ من ألفاظ بلغاء أهل العصر
تجري في المدح مجرى الأمثال ، لحسن استعارتها ، وبراعة تشبيهاتها : فلان مسترضَعٌ ثَدْيَ المجد ، مُفْتَرِشٌ حِجْرَ الفضل ، له صَدْر تَضِيق به الدَهْنَاء ، وتَفْزَع إليه الدَهْمَاء ، له في كل مكرمة غُزَه الإصباح ، وفي كل فضيلة قادِمَةُ الْجَنَاح ، له صورة تستنطق الأَفْوَاهَ بالتسبيح ، ويتَرقْرَقُ فيها ماءُ الكرم ، وتقرأُ فيها صحيفةَ حُسْن البشر ، تحيا القلوب بلقائه ، قبل أن يُمِيتَ الفَقْرَ بعطائه ، له خُلقٌ لو مُزِج به البحرُ لنفى مُلُوحَتَه ، وكفى كدورته . هو غذاءُ الحياة ، ونسيم العشق ، ومادَّة الفَضْل ، آراؤُه سكاكين في مفاصل الْخُطوب ، له هِمَةٌ تعزل السماكَ الأعْزَل ، وتجرّ ذَيْلها على المجرَّةِ ، هو راجحٌ في موازين العَقْل ، سابقٌ في ميادين الفَضْلِ ، يَفْتَرع أبكارَ المكارم ، ويَرْفَع مَنَارَ المحاسن ، ينابيع الجود تتفجر من أنامله ، وربيعُ السماء يَضْحَك من فَوَاضلِه . هو بيتُ القصيدة ، وأول الْجَرِيدة ، وعَيْن الكتيبة ، وواسطة القِلاَدة ، وإنسانُ الحدَقة ، ودُرَّة التاج ، ونقش الفصّ وهو مِلح الأرض ، ودِرْع المِلّة ، ولسان الشريعة ، وحِصْنُ الأمة . هو غُرّة الدّهر والزمان ، وناظر الإيمان . له أخلاقٌ خُلِقْنَ من الفَضْلِ ، وشِيَمٌ تُشَام منها بَوَارِقُ المَجْد ، أرج الزمانُ بفَضْلِه ، وعَقمَ النساءُ عن الإتيان بمثلِه . الجميلُ لديه مُعْتَاد ، والفضْلُ منه مبدوءٌ ومُعَاد ، مَالُهُ للعُفَاة ، مُبَاح ، وفعالُه في ظلمة الدهر مِصْبَاح ، كأنَ قلبَه عَيْن ، وكأنَ جسمهسَمْع ، يرى بأول رَأْيه آخر الأمر ، جوهر من جواهر الشرف لا من جواهر الصَّدَف ، وياقوتة من يواقيت الأحرار ، لا يواقيت الأحجار ، طلعتُه للبشاشة عليها ديباجة خُسْرَوَانيّة ، وفيها للطلاقة روضة رَبيعية . وَجْهٌ كأنَّ بَشَرته نشر البِشْر ، ومواجهته أمانٌ من الدَّهر . يصل ببشره ، قبل أنْ يَصِل ببرّه ، قد لحظت من وجهه الأنوار ، ومن بَنَانِه النوّار . أنا من كرم عشرته ، وطلاقَة أسِرَّته ، في روضة وغدير ، وجنةٍ وحرير ، وهو بَحْرٌ من العلم ممدود بسبعة أبحر ، ويومُه من يوم الأدب كعمر سبعة أنْسُر . العلم حَشْوُ ثيابه ، والأدب مِلْء إهَابه . هو شَخْصُ الأدب مائلاً ، ولسانُ العلم قائلاً . شَجَرة فَضل عودها أدب ، وأغصانها عِلْم ، وثمرتها عَقْل ، وعروقها سَرْوٌ ، تسقيها سماءُ الحريَّةِ ، وتغذِّيها أرضُ المروءة . هم ملح الأرض إذا فسدت ، وعمارةُ الأرض إذا خَرِبت ، ومعرض الأيام إذا احتشدَتْ ؛ وهم جمالُ الأيام ، وخواصُّ الأنام ، وفرسان الكلام ، وفلاسفة الإسلام . فلان غُصْنُ طَبْعِهِ نَضير ، ليس له في مَجْدِه نظير ، قد جمع الْحِفظَ الغزير ، والفَهْمَ الصحيح ، والأدب القويّ القويم ، وما يُؤْنِسُه من الوَحْشَةِ إلا الدفاتر ، ولا يَصْحَبه في الوَحْدَةِ إلا المحابر . فلان يحل دقائقَ الأشكال ، ويُزِيل معترض الإشكال . له خلْق كنسيم الأسْحَار ، على صفحات الأنوار . كالماء صَفَاءً ، والمسك ذكاءً . أخلاق قد جمعت المروءةُ أطرافَهَا ، وحرست الحرية أكْنافَها . أخلاق تجمع الأهواءَ المتفرقة على محبته ، وتؤلّف الآراء المتشتّتة على مودتِه . أخلاق أعذبُ من ماء الغَمام ، وأحلى من رِيق النّحل ، وأطيب من زمان الوَرْد . أخلاق أحسن من الدرّ والعِقْيَان ، في نحور الْحِسَان ، وأَذْكى من حركات الروحِ والرَيحان . فلانٌ يستحطّ القمر بطَرْفِه ، ويستنزل النّجم بلُطْفه . هو حُلْوُ المَذَاق ، سهل المَسَاغ . أجمل الناس في جدّ ، وأَحلاهم في هَزْل . يتصرَفُ مع القلوب ، كتصرُفِ السحاب مع الجَنُوب . ذو جِذ كعُلوّ الجَدّ ، وهَزْل كحديقة الوَرْدِ . له عِشْرَة ماؤها يقطر ، وصَحْوُها من الغَضَارة يمطر . هو رَيْحَانة على القَدَح ، وذريعة إلى الفَرَح . عشرته ألطَفُ من نسيم الشمال ، على أديم الزلال ، وألصقُ بالقلب ، من علائق الحب . إذا أردت فهو سُبْحَة ناسك ، أو أحببت فهو تُفَاحة فاتك ، أو اقترحتَ فهو مدرعة راهب ، أو آثرت فهو نخبة شارب . أخباره زكية ، وآثاره ذَكية . أخباره تأتينا كما وَشَى بالمسك رَيَّاه ، ونَمَّ على الصباح مُحَيَّاه . قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفَتِيق ، وأَوْفَى على الزَّهْر الأنِيق . مناقب تَشْدَخ في جبينها غُزَة الصباح ، وتتهادى أنباءها وُفُودُ الرياح . فلان أخبارُه آثاره ، وعينه فراره ، قد حصلله من حَميد الذكر ، وجميل النَّشْرِ ، ما لا تزال الرواةُ تدرسه ، والتواريخ تحرسه . سألت عن أخباره فكأني حرّكت المسك فتيقاً ، أو صبّحت الروض أنيقاً . أخباره متضوعة كتضوّع المسك الأذقر ، ومُشرقة إشراقَ الفجر الأنور . أحبَبْتُه بالخَبَر ، قبل الأثر ، وبالوصف قبل الكَشْف . هو ممن يثقل ميزانُ ودّه ، ويُحْصف ميثاق عَهْدِه . هو كريم العهد ، صحيح العَقْد ، سليم الصَّدر في الود ، حميد الورد فيه والصَدَر . هو لإخوانه عُدَّة تشدّهم وتقويهم ، ونورٌ يسعى بين أيديهم . هو ركن الإخاء ، صَافي شِرْب الوَفاء ، حافظٌ على الغيب ما يحفظه على اللقاء . هو ممن لا تدومُ المُدَاهنة في عَرَصاتِ قَلْبه ، ولا تحوم المُوَاربة على جنبات صدره . هو يَسْري إلى كرم العهد ، في ضياء من الرّشد . عهده نَقْش في صخْر ، وودّه نَسَب ملآن من فخر . يقبلُ من إخوانه العَفْوَ ، كما يوليهم من إحسانه الصَّفْو . في وُدِّه غِنى للطالب ، وكفاية للراغب ، ومَرَادٌ للصَحْب ، وَزَادٌ للركب . هو في حَيلِ الوفاء حَاطِب ، وعلى فرض الإخاء مواظب . النجْحُ معقودٌ في نواصي آرائه ، واليُمْنُ معتاد في مذاهب أنحائه . له الرَّأْيُ الثاقب الذي تَخْفَى مَكايده ، وتَظْهَر عوائده ، والتدبيرُ النافذ الذي تَنْجَعُ مَبَاديه ، وتبهج تَوَاليه . رَأْيٌ كالسَّهْم أصاب غِرَّة الهَدَفِ ، ودهاء كالبحر في بُعْد الغَوْر وقرْب المغترف ، لا يضعُ رَأيه إلا مواضع الأصالة ، ولا يصرف تدبيره إلا على مواقع السداد والإصابة . يعرفُ من مبادئ الأقوالِ خواتِمَ الأفعال ، ومن صدور الأمور أعجاز ما في الصدور . رُؤْيته رَأْي صَلِيت ، وبديهته قدرٌ مصيب . يسافرُ رَأْيه وهو دَانٍ لم يبرح ، ويسير تدبيره وهو ثَاوٍ لم ينزح . له رأيٌ لا يخطئ شاكِلَةَ الصوابِ ، ولا يخشى بادرة العِثَار . فلان يخمّر الرأْيَ ويُحيله ، ويجيد الفكر ويجيله ، حتى يحصل على لب الصواب ، ومحض الرأي . إذا أذكى سراج الفكر ، أضاء ظلامَ الأمر ، هو قطب صَواب تَدورُ به الأمور ، ومستنبط صلاح يردُ إليه التدبير . يرى العواقبَ في مِرْآة عقله ، وبصيرةِ ذكائه وفَضْله . وله رَأْيٌ يردُ الْخَطْبَ مُصَلّماً ، والرمح مُقَلَّماً . آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب ، كأنه ينظرُ إلى الغيب من وراء سِتْرٍ رقيق ، ويطالعه بعَيْن السَّداد والتوفيق . يستنبطُ حقائقَ القلوب ، ويستخرج ودائع الغيوب . قد سَرَيْنَا من مشورته في ضياءٍ ساطع ، ومن رأيه الصائب في حُكم قاطع . مسك فتيقاً ، أو صبّحت الروض أنيقاً . أخباره متضوعة كتضوّع المسك الأذقر ، ومُشرقة إشراقَ الفجر الأنور . أحبَبْتُه بالخَبَر ، قبل الأثر ، وبالوصف قبل الكَشْف . هو ممن يثقل ميزانُ ودّه ، ويُحْصف ميثاق عَهْدِه . هو كريم العهد ، صحيح العَقْد ، سليم الصَّدر في الود ، حميد الورد فيه والصَدَر . هو لإخوانه عُدَّة تشدّهم وتقويهم ، ونورٌ يسعى بين أيديهم . هو ركن الإخاء ، صَافي شِرْب الوَفاء ، حافظٌ على الغيب ما يحفظه على اللقاء . هو ممن لا تدومُ المُدَاهنة في عَرَصاتِ قَلْبه ، ولا تحوم المُوَاربة على جنبات صدره . هو يَسْري إلى كرم العهد ، في ضياء من الرّشد . عهده نَقْش في صخْر ، وودّه نَسَب ملآن من فخر . يقبلُ من إخوانه العَفْوَ ، كما يوليهم من إحسانه الصَّفْو . في وُدِّه غِنى للطالب ، وكفاية للراغب ، ومَرَادٌ للصَحْب ، وَزَادٌ للركب . هو في حَيلِ الوفاء حَاطِب ، وعلى فرض الإخاء مواظب . النجْحُ معقودٌ في نواصي آرائه ، واليُمْنُ معتاد في مذاهب أنحائه . له الرَّأْيُ الثاقب الذي تَخْفَى مَكايده ، وتَظْهَر عوائده ، والتدبيرُ النافذ الذي تَنْجَعُ مَبَاديه ، وتبهج تَوَاليه . رَأْيٌ كالسَّهْم أصاب غِرَّة الهَدَفِ ، ودهاء كالبحر في بُعْد الغَوْر وقرْب المغترف ، لا يضعُ رَأيه إلا مواضع الأصالة ، ولا يصرف تدبيره إلا على مواقع السداد والإصابة . يعرفُ من مبادئ الأقوالِ خواتِمَ الأفعال ، ومن صدور الأمور أعجاز ما في الصدور . رُؤْيته رَأْي صَلِيت ، وبديهته قدرٌ مصيب . يسافرُ رَأْيه وهو دَانٍ لم يبرح ، ويسير تدبيره وهو ثَاوٍ لم ينزح . له رأيٌ لا يخطئ شاكِلَةَ الصوابِ ، ولا يخشى بادرة العِثَار . فلان يخمّر الرأْيَ ويُحيله ، ويجيد الفكر ويجيله ، حتى يحصل على لب الصواب ، ومحض الرأي . إذا أذكى سراج الفكر ، أضاء ظلامَ الأمر ، هو قطب صَواب تَدورُ به الأمور ، ومستنبط صلاح يردُ إليه التدبير . يرى العواقبَ في مِرْآة عقله ، وبصيرةِ ذكائه وفَضْله . وله رَأْيٌ يردُ الْخَطْبَ مُصَلّماً ، والرمح مُقَلَّماً . آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب ، كأنه ينظرُ إلى الغيب من وراء سِتْرٍ رقيق ، ويطالعه بعَيْن السَّداد والتوفيق . يستنبطُ حقائقَ القلوب ، ويستخرج ودائع الغيوب . قد سَرَيْنَا من مشورته في ضياءٍ ساطع ، ومن رأيه الصائب في حُكم قاطع .
نبذ من مفردات الأبيات في فرائد المدح
أبو نواس : البسيط :وكَلْتَ بالدهر عيناً غَيْرَ نائمةِ . . . من جُودِ كفيك تَأْسُو كلَّما جَرَحَا
الطائي : الوافر :
فلو صوَّرتَ نَفْسَكَ لم تَزِدْها . . . على ما فيك من كَرَمِ الطباعِ
البحتري : الطويل :
ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسهِ . . . لَجادَ بها فَلْيَتقِ اللهَ سائلُهْ
وله : الطويل :
ولم أَرَ أمثالَ الرجالِ تفاوتوا . . . لدى المجد حتى عُدَ أَلْفٌ بواحدِ
كشاجم : الخفيف :
عرف الفاضلون فضلك بالعل . . . م وقال الجُهَّال بالتقليدِ
المتنبي : الكامل :
شَخَصَ الأنامُ إلى كمالك فاستَعِذ . . . من شرِّ أعينهمْ بعَيْبٍ واحدِ
وله : الطويل :
ولمَّا رأيتُ الناسَ دون مَحَلَّهِ . . . تَيَقنْتُ أَنّ الدهرَ للناسِ ناقِدُ
وله أيضاً : البسيط :
إن خوطبوا أَو لُقُوا أو كوتبوا وُجِدُوا . . . في اللفظ والخط والهيجاءِ فُرْسانا
وله أيضاً : الكامل :
ذُكِرَ الأنامُ لنا فكان قصيدةً . . . كنتَ البديعَ الفَرْدَ في أبياتِهاأبو العباس الناشئ : الوافر :
خلِقْت كما أرادَتْك المعالي . . . فأنتَ لِمَنْ رجاك كما يُريدُ
المأموني : الكامل :
وخلائقٌ كالخمر دُونَ فعالِه . . . حَبَبٌ لهنَّ وما لهنّ خُمارُ
مجالس أهل الحكم
وقال إبراهيم الموصلي لموسَى الهادي ، وهو نديمُه ، وقد غنَّاه صوتاً فأعجبه : إنَّ مَنْ كان محلّه من أمير المؤمنين مَحَلّي في الانبساط وتَقَدُم النِّدَام جرأه البسطُ على الطلب ، وبعثَتْه المنادمةُ على الرجاء ، وقد نصَب لي أميرُ المؤمنين بقُرْبي منه مَشَارعَ الرغبة إليه ، وحثني محلّي عنده على الكُرُوع في المَنْهَلِ بين يديه . فقال : سَلْ شِفَاها ، فإني جاعِل فِعْلي عن إجابتك إليه حاضراً ؛ فسأله ما قيمته خمسون ألف درهم ؛ فأمر له بمائة ألف درهم .
ولما ظَفِر الإسكندرُ بدارا بن دارا قال له : بمَ اجترأ عليك صاحبُ شُرطتك ؟ قال : بتَرْكِي ترهيبَهُ وَقْتَ إساءتِه وتفريطِه ، وإعطائه وَقْتَ الإحسانِ اليسيرِ من فعله نهايةَ رغبته . فقال الإسكندر : نِعْمَ العون على استصلاح القلوب الموغَرَةِ الترغيبُ بالأموال ، وأصلح منه عاجلاً الترهيبُ وقت الحاجة إليه .
وقال الحسنُ بن سهل : خرج بعضُ ملوكِ الفرس متنزهاً ، فلقي بعضَ الحكماء ، فسأله عن أَحزم الملوك ، فقال : من ملك جدُّه هَزْله ، وقهر لبه هَوَاه ، وأَعرب لسانُه عن ضميره ، ولم يَخْدَعْه رِضاه عن سخطه ، ولا غضبُه عن صدقه . فقال الملك : لا ، بل أَحزمُ الملوكِ من إذا جاع أكل ، وإذا عطش شرِب ، وإذا تعب استراح . فقال الحكيم : أَيها الملك ، قد أَجَدْتَ الفطْنَة . هذا العلم مستفاد أَم غريزي ؟ قال : كان عندنا معلِّم من حكماء الهند ، وكان هذا نقشَ خاتمه . قال : فهل علَمك غير هذا ؟ قال : ومِنْ أين يؤخَذُ مثل هذا عند رجل واحدٍ ؟ ثم قال له الملكُ : علّمني من حكمتك أيها الحكيم . قال : نعم ، اِحفَظْ عني ثلاثَ كلمات . قال : ما هن ؟ قال : صَقلُك السيفَ ليس له جوهرٌ من سِنْخِه خَطأ ، وصبّك الحَبَّ في الأرضِ السَبِخَة ترخو نباته جَهْلٌ ، وحَمْلك المسِن على الرياضة عناء .
قال أبو تمّام الطائي : الكامل :والسيفَ ما لم يلفَ فيهِ صَيْقل . . . مِنْ سِنْخه لم ينتفعْ بصِقالِ
وقيل لبعض الحكماء : ما الدليل الناصح ؟ قال : غريزة الطبع . قيل : ما القائدُ المشفق ؟ قال : حسن المنطق . قيل : فما العناء المُعَنِّى ؟ قال : تطبيعك ما لا طبعَ له .
وكان أنوشروان يقول : الناس ثلاث طبقات تسوسهم ثلاث سياسات : طبقة من خاصة الأحرارِ تسوسهم بالعَطفِ واللّين والإحسان ، وطبقة من خاصة الأشرار تسوسُهم بالغِلظَة والعُنْف والشدة ، وطبقة من العامة تسوسهم باللين والشّدة ، لئلاّ تُحْرِجهم الشدّة ، ولا يبطِرَهم اللّين .
وقال واصل بن عَطاء : ألا قاتلَ الله هذه السفلة تُوَادُّ مَنْ حَادَّ الله ونبيَّه ، وتحاذُّ من وَادَّ الله ونبيه ؟ وتذمّ من مدحه الله ، وتمدح من ذمّه الله ؛ على أنه بهم عُلم الفضلُ لأهل الطبقة العالية ، وبهم أعطِيت الأوساط حظَّاً من النّبل . وقيل لبعض الملوك ، وقد بلغ في القدر ما لم يبلغه أحد من ملوكِ زمانه : ما الذي بلغ بكَ هذه المنزلة ؟ قال : عَفْوي عند قدرتي ، وليني عند شِدَتي ، وبَذْلي الإنصاف ولو من نفسي ، وإبقائي في الحب والبغض مكاناً لموضع الاستبدال .
وقال الإسكندر لأحد الحكماء ، وأراد سفراً : أَرشِدْنِي لأَحزم أَمري . قال : لا تملأنَّ قلبك من محبَّةِ الشيء ، ولا يَسْتَوْلينَ عليك بغضه ، واجعلهما قَصْداً ؛ فإن القلبَ كاسْمِه ينزع ويرجع ، واجعل وزِيرَك التثبت ، وسَمِيرَك التيقّظ ، ولا تُقْدِم إلا بعد المشورة ؛ فإنها نِعْمَ الدليل ، فإذا فعلتَ ذلك ملكت قلوب رعيتِك .
وقيل لبعض الحكماء : ما الحزم ؟ قال : سوء الظن . قيل : فما الصواب ؟ قال : المشورة . قيل : فما الرأْيُ الذي يجمعُ القلوبَ على المودّة ؟ قال : كفٌ بَذُول ، وبشر جميل . قيل : فما الاحتياط ؟ قال : الاقتصاد في الحبّ والبغض .
وسُئل بزرجمهر : ما المروءةُ ؟ قال : تَرْكُ ما لا يعني . قيل : فما الحَزْم ؟ قال : انتهازُ الفُرْصَة . قيل : فما الحلمُ ؟ قال : العفوُ عند المقدرة . قيل : فما الشدة ؟ قال : ملك الغضب . قيل : فما الخُرْق ؟ قال : حب مُغْرِق ؛ وبغض مُفْرِط .
قال معاوية ، رضي الله عنه ، لزياد حين ولاّه العراق : يا زياد ، ليكن حبُّك وبغضك قَصْداً ؛ فإن العَثْرة فيهما كامنة ، واجعل للنزوع والرجوع بقيّة من قلبك ، واحذَرْ صَوْلَةالانهماك ، فإنها تؤدي إلى الهلاك .
ومن كلام بلغاء أهل العصر في ذكر السلطان
أبو القاسم الصاحب : مَرْضاة السلطان ، لا تغلو بشيء من الأثمان ، ولا بِبَذْلِ الروح والجَنَان . تهب السلطانِ فَرضٌ وَكِيد ، وحَتْمٌ على منْ ألقَى السمعَ وهو شهيد .
أبو إسحاق الصابِي : المَلِك أحقّ باصطفاءِ رجاله منه باصطفاء أمواله ؛ لأنه مع اتساع الأمر وجَلالة القَدر لا يكتَفِي بالوَحْدَة ، ولا يستغني عن الكَثْرَة ؛ ومثله في ذلك مثل المسافرِ في الطريق البعيد الذي يجب أن تكونَ عنايته بفرسه المَجْنُوبِ ، كعنايته بفرسِه المركوب .
فصل للصابي : الملك بمن غلط من أتْبَاعِه فاتَّعظ أشدّ انتفاعاً منه بمن لم يغلط ولم يتّعظ ؛ فالأول كالقارح الذي أدَّبَتْه الغُرَّة ، وأصلحَتْه الفَدَامَة ، والثاني كالجَذَع المُتَهَوّكِ الذي هو راكب للغِرَّة وراكن إلى السلامة .
وقيل : إن العظم إذا جبر من كَسره عاد صاحبُه أشدّ بطشاً وأقوى أيداً .
أبو بكر الخوارزمي : لا صغيرَ مع الولاية والعِمالة ، كما لا كبيرَ مع العُطلة والبَطَالة ؛ وإنما الولايةُ أنثى تصغر وتكبر بواليها ، ومطيَّة تحسن وتقبح بمُمْتَطيها ، والصَّدْر لمن يليه ، والدَّست لمن جلس فيه ، والأعمال بالعمّال ، كما أنّ النساء بالرجال .
فصل له : إنّ ولايةَ المرء ثوبُه ؛ فإن قصُر عَرِي منه ، وإنْ طَالَ عثَرَ فيه . قليلُ السلطان كثير ، ومُدَارَاتُه حَزْمٌ وتدبير ، ومكاشفته غُرور وتَغْرير .
أبو الفتح البستي : أجهلُ الناس مَنْ كان على السلطان مُدِلاًّ ، وللأخوان مُذِلاًّ .
أبو الفضل ابن العميد : الإبقاءُ على حَشَم السلطان وعُمّاله عَدْلُ الإبقاء على ماله ، والإشفاقُ على حاشيته وحشمه مثل الإشفاق على ديناره ودرهمه .
وله من رسالة طويلة ، جواب لأبي شجاع عضد الدولة عن كتاب اقتضاه فيه صدْرَ كتاب الله أبو الحسن الصوفي في نوع من علوم الهيئة :أنا أقدم الإجابة بحمد الله تعالى جَدُّه ، على ما وهب لنا معاشرَ عبيدِه وخدمه خاصة ، بل لرعاياه عامّة ، بل لأهل الأرض كافة ، من عظيم النعمة بمكانِه ، وجسيم الموهبة بإنفاق أعمارِنا في زمانه ، حتى شاركْنَاهُ في أَسباب السعادة التي لم تَزلْ مَذْخُورة عليه ، حتى صارت إليه ، وساهمناه في مواد الفضيلةِ التي لم تَزَلْ محفوظةً له حتى اتَصَلَت به ؛ فإنّ المرءَ أَشْبَه شيءٍ بزمانه ، وصفات كل زمانٍ منتَسخة من سجايا سُلْطَانه ؛ فإن فَضَلَ شاعَ الفضلُ في الزمان وأهله ، وتحلَى الدَهرُ بأفضلِ حِلْيته ، وتجلى للعيونِ والقلوبِ بأحسن زينته ، وكسا بَنِيه والناشئين فيه بشرفِ جَوْهرَهِ ، وأَورثهم نَيْلَ فضله ، وعزَ العِلم وأهله ، وعرف لمقتبسه قَدْرَه ، وتوجَّهت الأذهانُ نحوه ، وتعلَقت الخواطرُ به ، وصرفت الفكر فيه ، ونشدت ضَوَالّه ، ونظم أَشْتَاته ، وجمعت أَفْرَادهُ ، ووثِقَتْ نفوسُ الساعين في استفادته بحُسْنِ عائدته ، فحرصت عليه ، وصرفَتْ نظرَها إليه ، وأيقنت في بضاعتها بالنَفاق ، وفي تجارتها بالإِرْفَاق ، فصار ذلك إلى نَمَاء العلوم وزيادتها داعية ، ولتكثير قليلها وإيضاح مجهولها سبباً وعلَّةً ، وإلى انخراط جواهرها المتفرقة في سلوك التصنيف سبيلاً ، وإلى تقييد شواردِها بعُقُل التأليف طريقاً . وإن رَذل السلطان اتُّبِعَت الرذيلةُ اتباعاً ، وذَهبتِ الفضائلُ ضَيَاعاً ، وبطلت الأقدارُ والقيم ، وسلِبَت الأخطار والهِمم ، وزال العلم والتعلم ، ودَرَس الفهْمُ والتفهم ، وضرَبَ الجهلُ بِجِرَانِه ، ووطئ بمنسمه ، واستَعْلَى الخمولُ على النباهة ، واستولى الباطلُ على الحقّ ، وصارَ الأدبُ وبالاً على صاحبه ، والعلمُ نكَالاً على حامله . وبحسب عظيم المحنة بمن هذه صِفَتُه ، والبلوى معَ مَنْ هذه صورتُه ، تَعْظُمُ النعمة بمُلْكِ سلطانٍ عالمٍ ، كالأمير الجليل عضد الدولة ، أَطال اللهُ تعالى بقاءه ، وأدام قُدْرَته ، الذي أَحله الله عزَ وجل من الفضائل بملتقى طُرُقها ومجتَمَع فرقها ، فهي نَوَادُ ممن لاقت حتى تَصيرَ إليه ، وشوارِدُ نوازعُ حيث حلَت حتى تقعَ عليه ، تتلفت تلفتَ الرامِقِ ، وتتشوَّفُ إليه تشوفَ الصب العاشقِ ، قد ملكها أنَّى توجهت وحشة المضاع وحَيرة المرتاع : الطويل :
فإن تَغشَ قوماً غيره أَوْ تَزُرْهُمُ . . . فكالوحش يُدْنِيها من الأَنَسِ المَحلُ
حتى إذا قابلته أسرعت إليه إسراعَ السيل ينصَب في الحدور ، والطير يَنْقَضُ إلى الوكور .وقال أبو الطيب المتنبي : المنسرح :
أَحَقُّ عافٍ بدَمْعكَ الهِمَمُ . . . أَحْدَثُ شيءٍ عَهْداً بها القدَمُ
وإنما الناسُ بالملوكِ ، وَما . . . تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُهَا عَجَمُ
لا أدبٌ عندهُمْ ولا حَسَبٌ . . . ولا عُهُودٌ لَهُم ولا ذِمَم
بكل أرضٍ وطِئْتُها أُمَمٌ . . . تُرْعَى بعَبْدٍ كأنها غَنَمُ
يستَخْشِنُ الخَزَ حين يَلْمُسُهُ . . . وكان يُبْرَى بظُفْرِه القَلَمُ
وقال الزبير بن بكار : قَدِم ابنُ ميادة ، واسمه الرََّمَّاحُ بن أبرد ، زائراً لعبد الواحد بن سليمان ، وهو أميرُ المدينة ، فكان عنده ليلةً في سُماره ؛ فقال عبدُ الواحد لأصحابه : إني لأهم أن أتزوج فابْغُوني أيماً ، قال ابن ميادة : أنا - أصلحك الله - أدلُك ، قال : على مَن ، يا أبا بشر ، نَميل ؟ قال : قدمت عليك أيها الأمير ، فلما قدمت ألفيتُ المسجد وإذا أشبه شيءٍ به وبمن فيه الجنة ومَنْ فيها ، فبينا أنا أمشي إذ قادتني رائحةُ رجلٍ عطِرٍ حتى وقفت عليه ، فلما وقع بصري عليه استَلهَى حُسْنه ناظري ، فما أقلعت ناظري حتى تكلَم فما زال يتكلَم كأنما يَنثر دُرًا ، ويتلو زَبوراً ، ويدرس إنجيلاً ، ويقرأ فُرْقاناً ، حتى سكت ، فلولا معرفتي بالأمير ما شككت أنه هو ، ثم خرج من مُصَلاَّه إلى داره ، فسألت عنه ، فأُخْبِرْتُ أنه من الحسن بمكانةٍ ، وأنه للخليفتين ، وأنه قد نالَتْه ولادَةٌ من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لها ساطع من غُرَّتِه ؛ فإن اجتمعتَ أنْتَ وهو على ولدٍ ساد العبادَ ، وجابَ ذِكْرُه البلاد .
فلما قضى ابنُ ميادة كلامه قال عبد الواحد ومَن حضر : ذلك محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، رضي الله تعالى عنه ، لفاطمة بنت الحسين بن علي ، رضي الله عنهم .
وقال ابن ميادة : الطويل : لهم سيرة لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم . . . وكل قضاء اللهِ فهو مُقَسَمُ
هذا في تقابل نسبه ، وكمال منصبه ، كقول عُوَيْفِ القوافي في طلحة بن عبد الله الزهري : الطويل :
يُصَمُ رِجالٌ حين يُدعَون للندى . . . ويُدعى ابن عوفٍ للندى فيجيبُ
وذاك امرؤ من أي عِطفَيه يَلتفِتْ . . . إلى المجد يحْوي المجدَ وَهوَ قَرِيبُ
وعبد الواحد بن سليمان هذا هو الذي يقول فيه القطامي : البسيط :أقولَ للحَرْفِ لَمَّا أنْ شكَتْ أصلاً . . . طولَ السِّفار وأفْنَى نِيَّها الرّحلُ
إن ترجعي من أبي عثمان منجِحَةً . . . فقد يَهُونُ على المستنجح العملُ
أهل المدينة لا يحزنك شأنهمُ . . . إذا تخطأ عَبْدَ الواحد الأجَل
ومن قول القطامي : إن ترجعي من أبي عثمان منجحة أخذ الآخر قوله : الطويل :
إذا ما تَعَنَّى المرءُ في إثر حاجةٍ . . . فأنجح لم يثقلْ عليه عناؤهُ
وهو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان ، قال الكلبي : هو عبد الواحد ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، والأول قول ابن السكيت .
والقصيدة التي منها هذه الأبيات من أجْوَدِ قوله ، وفيها يقول ممّا يتمثّل به : البسيط :
والعيشُ لا عَيْشَ إلا ما تَقَرُّ به . . . عَيْنٌ ولا حال إلا سوف يَنتقلُ
والناسُ مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون لهُ . . . ما يَشْتَهِي ولأُمِّ المخطئ الهَبَلُ
قد يُدْرِكُ المتأني بعضَ حاجتِه . . . وقد يكونُ مع المستعجل الزَّلَلُ
قوله : والناس مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون له مأخوذٌ من قول المرقش : الطويل :
ومَنْ يَلْقَ خيراً يحمدُ الناسُ أمْرَهُ . . . ومَنْ يَغْوَ لا يعدَمْ على الغيِّ لائما
وقال عمرو بن سعيد للأخطل : أيسرُكَ أن لك بشعرك شعراً ؟ قال : لا ، ما يسرُني أن لي بقولي مقوَلاً من مَقَاوِيل العرب ، غير أنّ رجلاً من قومي قال أبياتاً حسَدْتُه عليها ، وايم الله ، إنه لمُغْدِف القناع ، ضيِّق الذراع ، قليل السماع ، قال : ومَنْ هُو ؟ قال : القُطامي ، قال : وما هذه الأبيات ؟ فأنشد له يَصِفُ إبلاً من هذه القصيدة : البسيط :
يمشين رَهْواً فلا الأعْجَازُ خاذِلة . . . ولا الصدورُ عَلَى الأَعْجَازِ تثكِلُ
فهن معترِضات وَالْحَصا رَمِضٌ . . . وَالرّيحُ سَاكِنَة والظلُّ معتدلُ
يتبعن سَاميةَ العَيْنَيْنِ تحسبها . . . مجنُونة أو تَرَى ما لا تَرَى الإبلُ
بين اللفظ واللحن
قال أبو العتاهية لمخارق : أنت بنغمِ ألفاظك دون نَغَمِ ألحانك ، تُطْرِبُ إذا تكلمت ، فكيف إذا ترنّمت .وقال له يوماً : يا حكيم هذه الأقاليم ، اصبُبْ في هذه الآذان من جيدِ تلك الألحان ، فأُقْسِمُ لو كانَ الكلامُ طعاماً ، لكان غناؤك له إداما .
قال إسحاقُ بن إبراهيم الموصلي : دخلتُ على المعتصم يوماً وقد خلاَ ، وعنده جاريةٌ تُغَنِّيه ، وكان معجَباً بها ، فلما جلست قال لي : يا أبا إسحاق ، كيف تَراها ؟ فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، أراها تقهره بحِذْق ، وتختله برِفق ، ولا تخرج من حَسَن إلا إلى أحسن منه ، وفي حلقها شذورُ نَغَم أحسنُ من دوام النعم ، قال : يا إسحاق ، هي غاياتُ الأمل ، ومُنْسِيات الأجل ، والسقم الداخل ، والشغْل الشاغل ، وإن صِفَتَك هذه لو سمعها مَنْ لم يَرَها لفقد لُبَّه ، وقَضَى نَحْبَه .
وسُئِل إسحاق عن المُجِيد من المغنين ، فقال : مَنْ لَطُفَ في اختلاسه ، وتمكَّن من أنفاسه ، وتفرَّع في أجناسه ، يكادُ يَعْرِفُ ضمائرَ مُجَالِسِيه ، وشهواتِ مُعَاشِرِيه ، يَقْرَعُ مسمع كلِّ واحد منهم بالنحو الذي يُوافِقُ هواه ، ويُطَابِقُ معناه .
وكان إسحاقُ بن إبراهيم قد جمع إلى حِذْقِه بصناعَتِه حُسْنَ التصرف في العلوم ، وجَوْدَةَ الصنعة للشعر ، وحَدَّث عن نفسه فقال : كنت أيام الرشيد أُبكِّر إلى هُشَيم ووكيع فأسمعُ منهما ، ثم أنصرف إلى عاتكة بنت شُهَيد ؛ فتُطَارِحُني صوتين ، ثم أَصِير إلى زلزل الضارب فآخذُ منه طريقين ، ثم أسير إلى منزلي فأبعث إلى أبي عبيدة والأصمعي ، فلا يَزَالانِ عندي إلى الظهر ، ثم أذهبُ إلى الخليفة . ونزل أبوه بالموصل وليس من أهلها فنُسِب إليها ، وهو مولى خزيمة بن خازم التميمي ، وفي ذلك يقول إسحاق : الطويل :
إذا مضرُ الحمراء كانت أَرُومَتِي . . . وقام بِنَصْرِي خَازِمٌ وابنُ خَازِمِ
عَطَسْتُ بأَنْفِي شامخاً وتَنَاوَلَتْ . . . بَنَانِي الثريّا قاعداً غَيْرَ قَائِمِ
وفيه يقول محمد بن عامر الجرجاني يرثيه : الطويل :
على الجدَثِ الشرقيَّ عُوجَا فسلما . . . ببغدادَ لما صدّ عَنْه عوائدُهْ
أإسحاق ، لا تبعد ، وإن كان قَدْ رَمَى . . . بكَ الموتُ مرمًى ليس يصدر وارِدُهْ
متى تأتِهِ يوماً تحاولُ مُنْفساً . . . مِن الدين والدنيا فإنك وَاجِدُهْ
إذا هزل اخضرَّتْ فروعُ حَدِيثه . . . ورفَّتْ حَوَاشِيه وطابَتْ مشاهِدُه
وإنْ جَدَّ كان القولُ جِداً وأقسمت . . . مخارجه ألاَّ تلينَ شَدائِدُه
ومن جيد شعر إسحاق قصيدته في إسحاق بن إبراهيم المصعَبيّ بعد إيقاعه بالخرميّة : الطويل :تَقَضَّتْ لباناتٌ وَجَدَّ رَحِيل . . . ولم يُشْفَ مِنْ أَهْلٍ الصفاء غليلَ
ومُدَّت أكفٌّ للوداع فصافَحَتْ . . . وفاضت عيونٌ للفراقِ تَسِيلُ
ولا بدّ للأُلاَّف مِن فَيْضِ عَبْرَةٍ . . . إذا ما خَلِيلٌ بَانَ عنه خَلِيلُ
فكم مِن دمٍ طُل يوم تحمّلَت . . . أوَانِسُ لا يُودَى لهن قَتيلُ
غداة جَعَلْتُ الصبرَ شيئاً نسيْتُهُ . . . وأعولْتُ لو أَجْدَى عَلَي عَوِيلُ
ولم أنسَ مِنْهَا نظرةً هَاجَ لي بها . . . هَوًى مِنْهُ بادٍ ظاهرٌ ودَخِيل
كما نظَرَتْ حَوْرَاءُ في ظلِّ سِدرةٍ . . . دَعَاهَا إلى ظلِّ الكِنَاس مَقِيلُ
فلا وَصْلَ إلا أن تلافاه أَينُقٌ . . . عِتَاق نَمَاهَا شدقَمٌ وجَدِيلُ
إذا قلبت أجفانها بتَنُوفةٍ . . . طوى البعدَ منها هزةٌ وذَمِيلُ
تفرَد إسحاقٌ بنُصْح أميرِه . . . فليس له عند الإمام عَدِيلُ
يفرج عنه الشك صدْقُ عَزِيمةٍ . . . وَلُبٌ به يَعْلُو الرجالَ أَصِيلُ
أغرّ نجيبُ الوالدين كأنهُ . . . حسامٌ جَلَتْ عنه العيون صقيلُ
بني مُصْعَبٍ ، للمَجْدِ فيكم إذا بدتْ . . . وجوهكُم للناظرين دَلِيلُ
كرُمتم فما فيكم جَبَانٌ لَدى الوغى . . . ولا منكُم عند العطاءِ بَخيلُ
غَلبتم على حُسْنِ الثناء فَرَاقكم . . . ثناءٌ بأَفواهِ الرجالِ جَمِيلُ
إذا استكثر الأعداء ما قلتُ فيكُم . . . فإن الذي يستكثرون قَلِيلُ
وهذا نمط الحذاق الفحول ، وقال : الطويل :
ومَدرَجةٍ للريح غَبْرَاء لم يكن . . . لِيَجْشَمها زمَّيْلةٌ غَير صَارِمِ
يَضِلُّ بها الساري وإنْ كان هادياً . . . وتقطَعُ أنفاسَ الرياحِ النَّواسِمتعسَفْتُ أبْرِي جَوْزَها بشَمِلّةٍ . . . بعيدةِ ما بين العرى والمَحازِم
كأن شَرَار المَرْوِ من نَبْذِها بِهِ . . . نجومٌ هوَتْ إحدى الليالي العواتِم
إذا ضَمّها والسفْرَ ليلٌ فغيبتْ . . . دياجِيره عنهم رؤوس المعالمِ
تنادَوْا فصاروا تحت أكنافِ رَحْلِها . . . ليهديَهم قَدْحُ الحَصَى بالمَناسِمِ
وقال : الطويل :
ولما رأَيْنَ البَيْنَ قد جدّ جِدّهُ . . . ولم يبقَ إلا أنْ تَبِين الركائبُ
دنَوْنَا فسلمنا سلاماً مُخالساً . . . فردَّتْ علينا أعينٌ وحواجبُ
تصدُّ بلا بُغْضٍ ونخلس لمحةً . . . إذا غفلت عنا العيونُ الرواقبُ
نذَاد إذا حُمنا لنشفيَ غلةً . . . كما ذِيدَ عن وِردِ الحِياض الغَرَائبُ
وما أحسن ما قال أبو العباس الناشئ في هذا المعنى : الطويل : ولما رأين البين زُمَّت رِكابهُ . . . وأيقَنَّ منّا بانقطاع المطالبِ
طلبن على الرَّكبِ المجدين عِلَةَ . . . فعُجْنَ علينا من صدور الركائبٍ
فلما تلاقَيْنا كتبْنَ بأَعْيُنٍ . . . لنا كتُباٌ أعْجَمْنَها بالحواجبِ
فلمّا قرأناهُنَّ سِرًّا طويْنَها . . . حِذار الأعادي بازْوِرَارِ المناكبِ
وقال إسحاق : الطويل :
ألا مَنْ لقلبٍ لا يزالُ رَمِيّةً . . . لِلَمْحَةِ طَرْفٍ أو لِكسرَةِ حَاجِب
وللخُمُر اللاتي تساقط لوثها . . . فتُور الخطا عن وَارِدَات الذوَائبِ
وصف الذوائب
وعلى ذكر الذوائب قال ابن المعتز : الطويل :
سقَتْنِيَ في ليل شبيه بشعرها . . . شَبيهَةَ خدَّيْهَا بغيرِ رقيبِ
فأمسيت في ليلين بالشَعْرِ والدّجَى . . . وَخَمْرَيْنِ من راحٍ وخَدّ ِحبيبِ
وقال بكر بن النطاح : الكامل :
بيضاءُ تسحب من قيام شعرَها . . . وتغيبُ فيه وَهْوَ جَثْلٌ أَسْحَمُ
فكأنها فيه نهارٌ مبصرٌ . . . وكأنه ليلٌ عليها مظلِمُوقال المتنبي : الكامل :
نَشَرَتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعْرِها . . . في ليلةً فَأَرَتْ لياليَ أَرْبَعا
واستقبلَتْ قَمَرَ السماءِ بوجهها . . . فأَرَتْنِيَ القَمَرَيْنِ في وقتٍ مَعَا
وقال ابن الرومي : المنسرح :
وفاحمٍ واردٍ يُقَبّل مَمْ . . . شاه إذا اختال مُسْبلاً غُدُرَهْ
أقْبَلَ كالليلِ في مفارقهِ . . . منحَدِراً لا يُرَام مُنْحَدَرَهْ
حتى تناهَى إلى مواطئِه . . . يَلْثَم من كلِّ مَوْطئ عَفَرَهْ
كأنهُ عاشِقٌ دَنَا شغفاً . . . حتى قضى مِنْ حبيبه وَطَرَهْ
يُغْشي غَوَاشِي قرونهِ قَدَماً . . . بيضاءَ للناظرين مُقْتَدِرَهْ
مثل الثريّا إذا بَدَتْ سحَراً . . . بعد غَمَام وحاسرٍ حَسَرَهْ
أخذه بعض أهل العصر - وهو محمد بن مطران - فقال : الطويل :
ظِبَاءٌ أَعارتها الظّبَا حُسنَ مَشيها . . . كما قد أعارَتهَا العيونَ الجآذِرُ
فمِنْ حُسْنِ ذاك المشي قامت فقبَّلت . . . مواطئ من أقدامهن الغدائرُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
أجدّكِ هل تدرينَ أنْ رُبَّ ليلةٍ . . . كأنَّ دُجَاهَا من قرونك يُنْشَرُ
نَصَبْت لها حتى تجلَتْ بِغُرَّةٍ . . . كغُرَّةِ يَحيى حين يُذْكر جَعْفَر
القصيدة والإنسان
قال الحاتمي : مثلُ القصيدةِ مثلُ الإنسان في اتِّصَالِ بعضِ أعضائه ببعض ؛ فمتى أنفصلَ واحدٌ عن الآخر وبَايَنَهُ في صحَّة التركيب ، غادر الجسمَ ذا عاهَةٍ تتخوَّنُ محاسنَه ، وتُعَفي معالِمَه ؟ وقد وجدت حُذَّاقَ المتقدّمين وأربابَ الصناعةِ من المحدَثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراساً يجنّبهم شوائبَ النقصان ، ويقفُ بهم على محَجَّةِ الإحسان ، حتى يقعَ الاتّصَالُ ، ويُؤْمَن الانفصال ، وتأْتِي القصيدةُ في تَنَاسُب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة ، والخُطْبَة الموجَزَة ، لا ينفصلُ جزءٌ منها عن جزء ، وهذا مذهبٌ اختصَّ به المحدَثون ؛ لتوقّدِ خواطرهم ، ولُطْفِ أفكارِهم ،واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم ، وكأنه مذهبٌ سهّلَوا حَزْنَهُ ، ونهجوا رَسْمَهُ ؛ فأمَّا الفحول الأوائل ، ومَنْ تَلاَهُمْ منَ المخضرمين والإسلاميين فمذهبُهم المتَعالم عدذ عن كذا إلى كذا وقُصَارَه كلِّ واحدٍ منهم وَصْفُ ناقتِه بالعِتق ، والنَّجَابة والنجاء ، وأنه امتَطاها ؛ فادّرع عليها جِلْبَابَ اللّيل ؛ وربما اتَّفق لأحدِهم معنى لطيف يتخلّص به إلى غرضٍ لم يتعمّده إلا أن طبعه السليم ، وصِراطه في الشعر المستقيم ، نصبا مَنَارَه وأوقدا باليفاع نارَه ؛ فمن أحسن تخلّص شاعر إلى معتمده قولُ النابغة الذبياني : الطويل :
فكَفْكَفْتُ منّي عَبرَةً فَرَدَدْتُها . . . على النَّحْرِ ، منها مستهلّ ودامعُ
على حينَ عاتبْتُ المشيبَ على الصِّبَا . . . وقلتُ : أَلمَّا أَصْحُ والشيبُ وَازعُ وقد حالَ هَم ، دونَ ذلِكَ ، شاغِلٌ . . . مكان الشِّغافِ ، تَبْتَغِيه الأَصابعُ
وعيدُ أبي قابوسَ في غير كُنْهِه . . . أتاني ودوني راكِسٌ فالضَّواجعُ
وهذا كلام متناسخ ، تقضي أوائلُه أَواخره ، ولا يتميّز منه شيء عن شيء : الطويل :
أتاني ، أبيتَ اللعن ، أنك لُمْتَني . . . وتِلك التي تَسْتَكُّ منها المسامِع
مقالة أن قد قلتَ سوف أناله . . . وذلك من تِلْقَاءِ مثلك رائعُ
ولو توصَل إلى ذلك بعضُ الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني ، وفتحوا أبواب البديع ، واجتنوْا ثمرَ الآداب ، وفتَحُوا زَهْرَ الكلام لكان معجزاً عجباً ، فكيف بجاهلٍ بَدَوِي إنما يغترفُ من قليب قَلْبِه ، ويستمدُّ عفوَ هاجسه .
وقال عليّ بن هارون المنجم عن أبيه : لم يتوصل أحدٌ إلى مدح بمثل قول ابن وهيب : الكامل :
ما زال يُلْثِمُنِي مراشفهُ . . . ويُعِلُني الإبريقُ والقَدَحُحتى استرد الليل خلعَتَهُ . . . وبَدَا خِلاَلَ سوادِهِ وَضَحُ
وبَدا الصباحُ كأن غُرَّتهُ . . . وَجهُ الخليفة حينَ يُمْتَدحُ
وقال علي بن الجهم : البسيط :
وليلةٍ كحّلتْ بالنِّقْس مُقلتَها . . . ألقَتْ قِنَاعَ الدُجى في كلّ أُخدودِ
قد كاد يُغْرِقُني أمواجُ ظُلْمَتها . . . لولا اقتباس سَنَا وَجْهِ ابنِ دَاوُد
قوله : كحلَتْ بالنفْس مقلتها مأخوذ من قول أعرابي : والليل . قد صَبَغ الحصَى بمِدَادِ .
وقد أخذ هذا أبو نواس فقال : الوافر :
أَبِنْ لي كيف صِرْتَ إلى حَرِيمي . . . وجَفْنُ الليلِ مُكْتَحِلٌ بقَارِ
وقد أخذ هذا أبو تمام فقال : الطويل :
إليك هَتَكنَا جُنْحَ ليل كأنهُ . . . قد اكتحلَتْ منهُ البلادُ بإثِمِدِِ
وقد أَخذ لفظَ الأَعرابي المتقدم أبو نواس فقال : الرجز :
وقد أَغتدي والليلُ كالمِدَادِ . . . والصُبْحُ ينفيه عن البلادِ
طرد المشيبِ حالِكَ السَّوادِ
وإنما نظرَ في هذا إلى قول الأعرابي : البسيط :
أقول والليلُ قد مالَتْ أواخِرُه . . . إلى الغروب : تأمَل نظرةً حارِ
ألمحه من سنَا بَرْقٍ رأَى بصري . . . أم وجْه نُعْمِ بَدا لي أم سَنا نَارِ ؟
بل وجْهُ نُعْمٍ بَدا والليلُ مُعْتَكِر . . . فلاحَ ما بين حُجَّابٍ وأَسْتَارِ
ومن بديع الخروج قول علي بن الجهم وذكر سحابةَ : الطويل :
وساريةٍ تَزْدَارُ أرضاً بِجَوْدِها . . . شغَلْت بها عيناً طويلاً هجوهُا
أتتْنا بها ريحُ الصَّبَا فكأنها . . . فتاةٌ تُرجِّيها عجوزٌ تقودها
فما بَرِحَتْ بغدادَ حتى تفجرتْ . . . بأودية ما تستفيق مُدُودُها =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

باقي مؤلفات الشيخ الالباني

  ...