Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 27 فبراير 2023

ج1وج2.كتاب تصحيح التصحيف وتحرير التحريف الصفدي

 

ج1وج2.كتاب تصحيح التصحيف وتحرير التحريف الصفدي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

عفوك اللهم الحمد لله الذي لا يُغلِّظه اختلافُ المسائل، ولا يُثبّطُه عن الجُوْد الدّائم إلحافُ السّائل، ولا يُسخِطُه كثْرة الذنوب إذا كانَ الاستغفارُ لها منَ الوسائِل، نحْمَده على نعَمِه التي وسّع الحمْدُ مجالسَها، ووشّعَ الشُكْر ملابِسَها، وضوّع الاعترافُ بها مغارسَها، وضوّأ حنادِسَها، ونشْهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، شهادةً لا يدخُلُ تحريرَها تحريفٌ، ولا يُخِلّ بتصحيحها تصحيفٌ، ولا يدفَعُ تسويغَ أدلّتها تسْويف، ونشهَد أنّ سيّدَنا محمداً عبدُه ورسولُه أفصحُ مضنْ نطَقَ، وأبلغُ منْ قرَع الأسماعَ لفظه وطرَق، وأعرفُ من أوتيَ جوامَ الكلِم فاندفع سيْلُ بلاغتِه في البطحاءِ واندفقَ، صلّى الله عليه وعلى آلهِ الذينَ كانوا للهُدى مَصابيح وللجَدى مجاديح وللنّدى إذا أغلقتْ أبوابُه مفاتِيح، صلاةً تتوثّقُ أمراسُ رِضْوانِها، وتعبَقُ أنفاسُ غُفرانها ما دَعا الحقُ لبيباً فلبّاه، ورَعى الصدقَ أريبٌ فربّاه، وشرّفَ ومجّدَ وكرّم وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدّين.
وبعد فإنّ التصحيفَ والتّحريفَ قلّما سلِم منهما كبير، أو نَجا منهما ذو إتقانٍ ولو رسَخَ في العِلم رسوخَ ثَبير، أو خلَصَ منمعرَّتِهما فاضلٌ ولو أنّه في الشجاعة عبدُ اللهِ بن الزُبَيْر، أو في البراعة عبدُ الله بن الزَّبير، خصوصاً ما أصبح النقلُ سبيلَه أو التقليدُ دَليلَه، فقد صحّفَ جماعةٌ هم أئمةُ هذه الأمّة، وحرّفَ كِبارٌ بيدهم من اللُغةِ تصْريفُ الأزِمّة، منهم من البَصْرة أعيان كالخليل بن أحمد، وأبي عمْرو بن العَلاء وعيسى بن عُمر، وأبي عبيدَة مَعْمَر بن المُثنّى وأبي الحسن الأخفش وأبي عثمان الجاحِظ، والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأبي عُمر الجَرْمي، وأبي حاتم السجستاني وأبي العباس المُبَرَّد.
ومن أئمة الكوفة أكابر: كالكسائي والفرّاء والمفَضَّل الضّبي وحمّاد الرّاوية وخالد بن كُلثوم وابن الأعرابي وعلي الأحمر ومحمد بن حبيب، وابن السِّكيت وأبي عُبيد القاسم بن سلاّم وعلي اللِّحياني والطوال وأبي الحسن الطوسي وابن قادِم وأبي العباس ثعلب.
وحسبك هؤلاء السادة الأعلام، والقادة لأرباب المَحابر والأقلام، وكل منهم:
إذا تغلْغَلَ فِكْر المرءِ في طرَفٍ ... منْ عِلمِه غرِقَتْ فيه أواخِرُهُ
وإذا كان مثل هؤلاء قد صحّ أنهم صحّفوا، وحرّر النقلُ أنهم حرّفوا، فما عسى أن تكون الحُثالة من بعدِهم، والرذالةُ الذين يتبهرجونَ في نقدِهم، ولكن الأوائل صحّفوا ما قَلّ، وحرّفوا ما هو معْدود في الرّذاذ والطّل، فأما من تأخّر، وبَخّ قطْرُ جهلِه على سِباخ عقلِه وبخّرَ، وزادتْ سقطاتُه على البَرْق المتألّق في السحاب المُسَخّر فإنّهم يُصحّفون أضعافَ ما يُصحّحون ويحرّفون زياداتٍ على ما يحرّرون، ولقد كان غلَط الأوائل قليلاً معدوداً وسبيلاً بابُ اقتحامِه لا يزالُ مرْدوماً مردوداً، تجيءُ منه الواحدةُ النّادرةُ الفَذّة، وقلّ أنْ تتْلوَها أختٌ لها في اللّحاق بها مُغِذّة، فأما بعد أولئك الفُحول، والسُحب الهَوامِع التي أقْلعتْ، وعَمَتْ رياضَ الأدَب بعدهم نوازلُ المحول، فقد أتى الوادي فطَمّ على القَريّ، وتقدّم السقيمُ على البَري:
فليْتَ أنّ زَماناً مرّ دامَ لنا ... وليْتَ أنّ زَماناً دامَ لمْ يَدُمِ
قال صاحبُ الأغاني: حدثني محمد بن جرير الطّبري أنا أبو السّائِب ثنا وَكيع عن هِشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تُنشِدُ بيتَ لَبيد:
ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافِهمْ ... وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجْرَبِ
فتقول: رحِم الله لَبيداً، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيْهم؟ فقال عروة: رحِم الله عائشة، فكيف لو أدركتْ مَن نحن بين ظهرانَيْهم؟ وقال هشام: رحِم اللهُ عُروةَ، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟ فقال وَكيع: رحِم الله هِشاماً، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟ فقال أبو السائب: رحِم اللهُ وكيعاً، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟ فقال أبو جعفر: رحِم الله أبا السائب، فكيف لو أدرك مَن نحن بين ظَهرانَيهمْ؟

ونقول نحن: والله المستعان، فالقضيةُ أعظم منْ أنْ توصَف بحال، انتهى. وقد عمّت المُصيبة ورشقَتْ سِهامُها المُصيبة، ولبِس الناسُ أرديتَها المَعيبة، وفَشا ذلك في المحدّثين وفي الفقهاء، وفي النحاة، وفي أهل اللغة، وفي رُواةِ الأخبار، وفي نقَلَة الأشعار، ولم يسْلَمْ من ذلك غيرُ القُرّاء؛ لأنهم يأخذونَ القُرآنَ من أفواه الرّجال.
وأما في الزّمن القديم فقد وقَع لبعض القرّاء عجائبُ ذكر منها الدّارقطني، رحمه الله تعالى، جملة في كتاب التصحيف له، ولهذا كان يُقال قديماً: لا تأخذوا القرآن من مُصْحَفيّ ولا الحَديثَ من صُحُفيّ إذ التصحيف متطرِّق الى الحروف فيُقرأ المُهمَل معْجَماً، والمُعجم مُهمَلاً. على أنّه قد وقعَتْ في القرآن العظيم أحرفٌ واحتمل هجاؤها لفظين، وهو قِراءتان، ومن ذلك قوله تعالى: (هُنالِكَ تبْلو كلّ نفْسٍ ما أسلَفَتْ) و(تتْلو)، وقوله تعالى: (... إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بنبأٍ فتبيّنوا...) و(تثبّتوا).
وقوله تعالى: (... الذين يُنفِقون أموالَهُم ابتِغاءَ مَرْضاةِ اللهِ وتَثبيتاً من أنفُسِهم) و(تَبْييناً)، وقوله تعالى: (أفَلَمْ ييْأسِ الذينَ أمَنوا) و(يتَبيّن)، وقوله تعالى: (وإذ يمكُر بِك الذين كفَروا ليُثْبِتوك) و(ليُبيّتوك)، وقوله تعالى: (تقاسَموا باللهِ لَنُبَيّتَنّه) و(لُنَبيّنَنّه)، وقوله تعالى: (لَنبوّئنّهُم) و(لنُثوِينّهم منَ الجنّة غُرَفاً)، وقوله تعالى: (وإذْ جعلْنا البيْتَ مَثابةً) و(مَتابَة)، و(الْعَنْهُم لعْناً كبيراً) و(كثيراً).
و(قُلْ فيهِما إثْمٌ كبير) و(كثير)، و(ابتَغوا ما كتبَ اللهُ لكُمْ) و(اتّبعوا)، (وجَعَلوا الملائكَةَالذينَ هُمْ عِبادُ الرّحْمن) و(عِندَ الرّحْمن) ،(وهو الذي يُرسِلُ الرِياحَ نُشُراً) و(بُشْرى)، (وانظُرْ الى العِظامِ كيفَ ننشُرُها) و(نُنْشِزُها)، (فأغْشَيْناهُم فهُم لا يُبصِرون) و(أعشيْناهُم) و(قد شغَفَها حُبّاً) و(قدْ شغَفَها)، (ولا تجسّسُوا) و(لا تحسّسوا) و(فمَنْ خافَ من مّوصٍ جَنَفاً) و(حَيْفاً) و(إنّ لكَ في النّهارِ سَبحاً طَويلاً) و(سبْخاً) أي حقاً. و(هوَ الذي يُسيّرُكُم في البرّ والبحْر) و(ينشُرُكُم) و(إنّما المؤمِنون إخوَةٌ فأصْلِحوا بينَ أَخويْكُمْ) و(إخْوَتِكُم)، و(حتّى إذا فُزِّع عن قُلوبِهم) و(فُرِّغ)، (وأصْبَح فؤادُ أمِّ موسى فارِغاً) و(فزِعاً)، و(أئذا ضَلَلْنا في الأرض) و(صَلَلْنا) أي تغيّرنا، و(فقَبَضْتُ قَبْضَةً من أثَر الرّسول) و(قَبَصْتُ قبْصَةً)، (وتاللّه لأكيدَنّ أصْنامَكُم) و(بالله)، و(إنْ كان مَكرُهُم لَتَزول) و(لِتَزول) و(فاذكُروا اسْمَ الله عليْها صَوافَّ) و(صَوافِيَ) أي خالِصة و(صَوافِن) في قراءة عباس.
و(حتى يلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ) و(الحمل) في قراءة ابن عباس، وهو قلس من قلوس السفن. (وقضَى ربُّكَ ألاّ تعبُدوا إلاّ إيّاهُ) و(وصّى ربُّك)، في قراءة ابن عباس، وقال: لو قضى ربك ذلك ما عبدوا سواه. و(إن يَدْعونَ من دونِه إلاّ إناثاً) و(إلاّ أوْثاناً)، في قراءة عائشة، وقد قُرئ أيضاً (أُتْناً) و(آتُناً).
وقد رُويَ أنّ السبب في نقط المصاحف أن الناس غبروا دهراً يقرءون في مصاحف عثمان، رضي الله عنه، إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيفُ وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج الى كُتّابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علاماتٍ، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفراداً وأزواجاً، وخالف بين أماكنها بإيقاع بعضها فوق بعض الحروف وبعضها تحت الحروف، وغبرَ الناسُ بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، وكانوا أيضاً مع النقط يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام، فإذا أُغفِل الاستقصاءُ على الكلمة ولم تُوَفَّ حقوقها اعترى هذا التصحيف؛ فالتمسوا حيلة فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال.
وقد ذكرتُ في كتابي فَضّ الخِتام عن التّورية والاستخدام الأماكن التي صحّفها حمادٌ الراوية في القرآن العظيم لما قرأ في المصحيف وهي ما يَنيفُ على الثلاثين موضعاً.

وأما تصحيف المحدّثين فقد دوّن الناسُ في ذلك جملةً، وعقد المصنفونَ لذلك أبواباً في كتبهم وهي مشهورة، من ذلك ما حكاه أبو أحمد الحسن العسكري قال: حكى القاضي أحمد بن كامل قال: حضرت بعض مشايخ الحديث من المُغفَّلين فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عن رجل، قال: فنظرتُ فقلتُ مَن هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فإذا هو قد صحّفه، وإذا هو: عزَّ وجلّ.
قال العسكري: وأخبرني أبو عليّ الرّازي قال: كان عندنا شيخ يَروي الحديثَ من المغفّلين، فروى يوما: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم احتجَم يوماً وأعطى الحَجّام آجُرّةً.
وروى بعضهم أنّ بعضَ المغفّلين روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يغسِل خُصى حِماره، وإنما هو يغسِل حصَى جِمارِه، بالحاء المهملة أولاً والجيم ثانياً.
وروى بعضهم: الجَارُ أحقّ بصُفَّتِه؛ بالفاء المشددة والتاء ثالثة الحروف، وإنما هو بصَقَبِه، بالقاف والباء الموحدة.
وقد صنف الإمام الدارقطني مجلّداً في تصحيف المحدّثين وكذلك العسكري أيضاً.
وأما تصحيف الفقهاء فهو كثير أيضاً، قال يوماً بعض المدرسين: ولا يكون النَّذْر إلا في قرْيَة، قاله بالياء آخر الحروف، وهو بالباء الموحدة مضمومة القاف، وقال بعضهم في التنبيه: ويُكْرَه القَرْع ويُحِبُّ الخِيار، وإنما هو ويُكره القَزَع بالزاي، ويجِبُ، بالجيم، الخِتان بالتاء ثالثة الحروف وبعد الألف نون.
وقال بعضهم يوماً: وقال الشافعي: ويُستَحَبّ في المؤذّن أن يكون صَبياً، بالباء الموحدة والياء آخر الحروف، فقيل له: ما العلة في ذلك؟ قال: ليكونَ قادراً على الصعودِ في درَج المئذنة، وإنما هو صِيّيتاً، من الصوت.
وأما الكُتّاب فإن المتقدّمين صحَّف منهم جماعة بحضرة الخلفاء والملوك، قرأ يوماً بعضهم: أبو مُعسر المُتخم، بالسين المهملة من الإعسار وبالتاء ثالثة الحروف المشددة وبالخاء المعجمة، وإنما هو: أبو مَعشَر المنَجِّم.
وقرأ يوماً بعض كُتّاب المأمون قصة فقال: أبو ثريد بالثاء رابعة الحروف، فقال: كاتبنا اليوم جوعان، أحضروا له ثريداً، فأكل، فقرأ بعد ذلك: فلان الخبيصيّ فقال: هو معذور، ليس بعد الثريد إلا الخبيص، أحضروا له خبيصَة، وكانت الحِمَّصي والميم مفتوحة.
وكتب سليمان بن عبد الملك الى ابن حزم أمير المدينة: أن أحصِ مَنْ قِبَلَك من المُخنّثين. فصحف كاتبه وقرأ: اخصِ، بالخاء المعجمة، فدعاهم الأمير وخَصاهم أجمعين.
وحكى لي بعض الأصحاب أن الأمير علاء الدين الطنبغا، نائب حلب، جاءتْ مطالعةُ بعض الوُلاة يذكرُ فيها أنه وُجِد في بعض الأماكن شخص وهو مقتول وخُرْجُه تحت إبطه، فقال: اكتب أنكر عليه وقل: لأي شيء ما جهزتَ الخُرْجَ الذي كان معه تحت إبطه؟ فعاد جواب الوالي يقول: إنما قلتُ: وجُرْحُه تحت إبطه.
وقرأ يوماً بعض الأكابر على السلطان الملك الناصر محمد قصة فيها: والمملوك من حَمَلةِ الكِتاب، فقرأها: جُملة الكتان، فقال السلطان: مِن حَمَلةِ الكِتاب العزيز.
وأما الشعراء فتصحيفهم كثير، وسيمر بك في أثناء هذا الكتاب نوادر من هذا الباب.
قرأ يوماً بعض الطلبة على أبي عبد الله المُفجَّع:
ولمّا نزلْنا منزِلاً طَلّه النّدى ... أنيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ خاليا
بالخاء المعجمة، فحرك المفجَّع كتفيه وقال: يا سيد أمه! فعلى أي شيء كانوا يشربون؟ على الخسف؟.
وقرأ بعضهم على أبي عبيدة قول كُثيِّر:
ذهَبَ الذين فراقهم أتوقَّعُ ... وخرى ببيتهم الغرابُ الأنفعُ
فقال أبو عبيدة: وحيك، إن عذرتُكَ في الأولى لم أعذرك في الثانية، أما سمِعتَ بالغراب الأبقع؟ وجرى ذكر المعرّي أبي العلاء في بعض المجالس فقال بعض من حضر: كان كافراً، فقيل له: بماذا؟ قال: بقوله:
نَبيّ من العُربان ليسَ بذِي شَرْع ... .....
وقرأ القطربليّ على أبي العباس ثعلب قول الأعشى:
فلَو كنت في جُبٍّ ثمانينَ قامةً ... ورُقّيتَ أسبابَ السّماءِ بسُلّمِ
فقرأه بالحاء بدل الجيم، فقال ثعلب: خَرِب بيتُك! أرأيت حبا قط ثمانين قامة؟ إنما هو جُبّ.

وقد جنى التصحيف على ابن الرومي فقتله، قال أبو أحمد العسكري: حدثني محمد بن فضلان الوراق قال: كان جلساء القاسم بن عبيد الله يقصدون أذى ابن الرومي وخاصة المعروف بابن فراس، وكان القاسم بن عبيد الله يغريهم به، الى أن سأله يوماً أحدهم عن الجرامض، على سبيل التصحيف والتهكم، فقال ابن الرومي:
وسألتَ عن خبرِ الجرامض طالباً عِلمَ الجرامضْ
فهو الجرامض حين يُقْلَبُ ضارج فيقال جارض
وهو الجراسم والقَمَجّر والجرافس والجرراغض
وهو الخَراكل، والغوامض قد يُفسَّر بالغوامض
وهو السلحكل، إن فهمتَ وإنْ ركَنْتَ الى المعارض
واصبرْ وإنْ حمض الجواب، فرُبّ حُلو جرّ حامض
والصفح محتاج الى قرع له مقابض
ومن اللِّحى ما فيه فعل للمواسى والمقارض
وهجا الجماعة وأكثر من هجائهم، فشكاه الجلساء الى القاسم بن عبيد الله، فتقدم الى ابن فراس فسمَّه في خشكنانجة كانت منيته فيها.
ومما يكثر فيه تصحيف صورته مثل: يحيى وزينب وبثينة ويونس وجبل وعيسى وخليل وحمزة.
ومما ركب الناس في صورتين من صورة واحدة ما كتب به بعض البلغاء توقيعاً والناس لفصاحته وبراعته ينسبونه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو: غرّكَ عِزُّك، فصار قُصارَ ذلك ذُلَّك، فاخْش فاحِشَ فِعلِك، فعلّك بهذا تُهْدى، والسلام.
وكتب بعضُ البلغاء، وهو الرّشيد الكاتِب: رُبّ ربِّ غِنىً، سرّتْه شِرّتُه، فجاءَه فجاءَةً بعْد بُعد عِشرته عُسرَتُه.
وما جاء للحريريّ في بعض مقاماته وهو:
زُيّنَتْ زَينبٌ بقَدٍّ يَقُدُّ ... وتلاهُ ويْلاهُ نهْدٌ يَهُدُّ
... الأبيات.
وللشيخ صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي، رحمه الله، رسالة رويتُها عنه بالإجازة عدتها أربعمائة كلمة نظماً ونثراً أبدع فيهالفصاحتها وانسجامها وعدم ظهور الكلفة عليها، أولها: قبَّل قَبْلَ يراك ثَراك، عبدٌ عِندَ رَخاك رَجاك، فألفَى فألقى جِدَّة خَدِّه بأعتابك باغياً بكَ شَرَفاً سَرَفاً لاذَ بكَ لأدَبِك، مُقْدِماً مُقَدِّماً أمَلَ آمِل، يُزجيه تَرجّيه، يُبشِّره بيُسْرِه وُجودك وَجودُك، فاشتاقَ فاستافَ عرْفَ عُرْفٍ منك مثل عبير عنبر، وقدِم وقدَّم صدَقَة صِدْقِه، مُتجمِّلاً متَحمِّلاً بصاعِه بضاعةَ تبر نَثْر....
ومن نظمها:
سَنَدٌ سيّدٌ حليم حكيم فاضِلٌ فاصِلٌ مجيدٌ مُجيدُ
حازم جازم بصير زانَهُ رأيُه السديدُ الشديدُ أمَّهُ أمةٌ رجاءَ رَخاءٍ أُدركْت إذْ زكت بقَوْدٍ تقودُ مَكْرُمات مُكرَّماتٌ بنَتْ بيْتَ علاءٍ عَلا بجودٍ يَجودُ...
وهي كلها من هذا النمط الذي هذا نموذجه، وهي من الرسائل العقم الطنانة.
وقد كَلِفْت أنا في بعض الأوقات الى شيء من هذا النوع الذي توعّرَ وأعرض بخده عن الناظر إليه وصعَّر، فصنعتُ أنا هذه الرسالة، وهي جامعة للتصحيف والتحريف وقلب البعض، أولها: خبَّرنا حَبْرُنا المُوثَّق المُوفَّق المُسْنِدُ المُفيد المُقيِّد المُخْبِرُ المُحبِّر حَديثاً، جَدَّ بِنا هَزْلُه، هزَّله قلوبَنا فلَوْينا لِيْتَ العُنُقِ، لِبَثّ العبَق، حدَث حدَثٌ، مرّ بِنا مُرِينا تَخوّلَه نُحولُه يئِنُّ بين أهِلّة أهْلِه، لَطيفُ المجاذبة، لطَيْفِ المحادَثة إن نطَق انتطقَ بدُرٍّ ندَر، وردَ البناءَ فقالَ، وردّ إلينا فقالَ: أوعوا صِدْقي وَعوا قصدي، ثمّ نَمّ بما نَما، ونشرَ الحَبْرَ ويسر الخَبَر، ورجع قابلاً ورجّعَ قائِلاً: رَماني زَماني بداهية بُداهِته، حَتْله وحِيَله في فَيءِ المُتيَّمين المنتمين لآلِ عُذْرَة لا لغَدْرِه، السالينَ الشاكِينَ، وتَجْزيني وتَحْزيني تحكم بحكم، وهْيَ وهْيُ العاني العاتي الشِقِّ الشَقيّ التَّيِّق التقيّ، وإذا تعرّض وإذاً بغَرَض وِصالٍ قلّما سلِم فلمّا سلّم أغْيَدُ، أعتدُّ قُرْبَه قُربةً، بتجمُّل بتحمُّل كُلِّ كَلِّ، ترميه برُمَّته، عليه غَلَبَةُ صَبٍّ صَبَّ عَبراتِه، غير أنّه جرّب حرْبَ نفسِه بفتنتهِ وقاسَى وفاءً يَثني طُلْيَةَ طلَبِه عمّا عمّى توحُّده بوَجْدِه أسرَّ أسْرَ قلبي فلبّى داعي حُسنِه ذاعِيّ خَشْيَةَ جَفْنِ جَفْنِ مهنّدٍ مُهتَدٍ، لمحاربةٍ لمحَ أرَبَه، غِبُّ دَهاءٍ عندَها:
ظبيٌ ظنّي بملازمتي يملا زمني وَفْراً وقِرَى
فثنى فِتَني تُطْري نظري يكفي تَلَفي يَطْرا بطَرا

حِبٌّ خِبٌ وارَى نَصْرِي، وأرى بصَري بدْراً بدَرا،
بوجْهٍ توجّه، نور توزّ جُلّناره جُلّ نارِه، وجَنّته وجْنَتُه، بمحاسِنه تُمْحى سُنّة البيْنِ البيّن بقَرينة تقريبه وصِلَةِ وصْلِه، إذ لهُ أدلّة وضحَتْ وصحّت حدائقُ خَذٍّ آنقُ من مَنِّ يُبشّر بيُسْرٍ يزْهو بزَهْرٍ بسَقَ نَوْراً يشُقُّ نُوراً:
خَدٌ نقّتْه حديقتهُ حُفَّتْ تُحَفاً حفّتْ بجَفا
وضَفا بِشْراً وصَفا بشَراً يُبْدي بَرقاً ينْدى ترَفا
وعيْنِ جُفونها، وعَيْنَ جَفوتها، الدِماءُ ألذّ ما أراقتْ، أراقِبُ فتْكَها قبلَها، نصّ لَها نصْلُها نصْرَها المبين بضُرِّها المتين، سحّارة، قتّالة فتّاكة، تغرُّك بغزَلٍ يسلُبُك تسَلّيك، ظرْفُ ظرْفٍ، جفْنُه حفَّ به فيه سِحْر فَبه تنتحر، مَبْسم متّسِم ربّ قِهِ، ريقُه في فيَّ سُكْر سُكّر، الى ثغْر آلي بِعزّ، برٌّ شفّه ترَشُّفُه أنّه آية، ولّد دُراً ولذّ دَراً، ودلّ رداً وردّ دَلاً، وبسَم ثُريّا، ونسَم برِيّا، شفَتُه حمْراء، سقَتْه خَمْراً، نشوتُها يشوبُها مِسْك، متَبَتِّل، صرّفَهاصِرفُها، حيّا بها حَبابُها الدُرّي الدِّرّيءُ.
ولّى وليُّ لِثامِه لثّامُه ثغْرٌ بلألاءٍ يغُرُّ تَلالا
حَرَباً لهُ لم يشَفْني، جِريالَه لم يسْقِني، إنْ آنَ إلا آلا
وقدٍّ وفَد عِناقُه يشْفي غِبَّ آفةٍ تُشْقي يَتهادى تيهاً ذي ترَفٍ، يرِفُّ لينُه لنيّة فتْكٍ قبْلَ وصْلٍ وضلّ القلبُ القُلَّبُ بغدائره بعد آثِره، لا يجِدُ سلْوى، لا يحُدُّ شكْوى، لذّ لهُ لدَلِّه قتْلي، فبكى العائِد العائِذ، راقَتْه رأفتْه، فرَقاً فرْقاً، وتولّى وتلوّى، وكَبا وبكى لمُتيّم لم يتمَّ سُؤلَه، سوّلَه وهمٌ وهمٌ، وجلّ وجَلُ الشّجيّ السّخيّ بقَلْبِه تقلِّبُه يدا بُرَحائِه، بِداءِ تَرْحاتِه، حتى جنى بكفّه تلَفَه، دمعَتُه عُمدَتُه، وذخيرتُه وُدٌ خبَرْتفه، النصيحة الحصينة، ما ردَّ أحزابُه مارِدَ أحْزانِه، وليتني ولِيتْني خَسارةُ خلَدٍ على جسارة جلَدٍ، علّي يرُدُّ برْدَ أنفاسي اتقاءُ شيءٍ، فأسُدَّ فاسِدَ الحادِثِ الجلَل الجاذب الخَلَل، قادَني فآدَني جُمْلَةُ حِمْلِه، لأنّني لايني تكرُّبي يكُرّ بي، وطرْفي فلّه وطَرٌ في قِلّة نوْمٍ يؤمّ سُكوناً ثبّت كوْناً بصرَهُ، تضُرُّه شهادةُ سُهادِه متى أدّها منَّى أذاها، فعدتُ قعدتُ مَحزوناً محْروباً، فما فتحْتُ فَماً فبُحْتُ، ولا أنسى ولاءَ أنْسي وإنصافي واتّصافي بذُلٍّ بدّل حُبّي حتى تَلافى تلافي سُوْرة سَوْرة غضَبٍ غصّتْ لهَواتي لِهواني، فتولّى قَبولي مُدْبِراً مُذ برى جسَدي حُسَّدي بتشفّيهم بِتُّ شقيّهم، فَيا عِشْقاً فيّأ عسْفاً مدّ له مذلّةَ والِه، وإلهِ السّماءِ الشّمّاء، كُلْفَة كلَفِه، هَينةَ هَنيئة، لِكِنّي لَكنّي أذهَبَ حَدّي إذْ هَبّ جَدّي وتعقُّلي وتعلُّقي، رَشَأ فيه رَشاقتُه تحتلّ بحبل قسْوَةٍ فشوّه خَلْقَه الحسَن خُلُقُه، الخشن، وتصبّرتُ وتربّصْت، وعالَجْت وغًى لجّت، فجّر سِرَّها، فجرّ شرّها رَقيبٌ قريبٌ ملازم مُزامِل، حريصُ العدوى صريح الدّعْوى، والبلية المُزْرِية والنَّكْبَة المُزرِية لمّا يُطيعُ لِما يطبع الحاسِدُ الحاشِد ويغُرّ به ويُغريه بِعادَةِ بُعادِه ويدَعُه وبدِعَة التَجا في التّجافي إليها ألّبَها بَغيُه بَغتةً:
بُعْداً لهُ تَعْذالُه غَيّاً رَوى عنّا ... زَوى تَرْشاف بُرْءٍ شافِ
فَليتَ مِحنَتي قلبَتْ محبّتي لفتًى لفّني بُرْدُ غرامِه برد غرامه نَفْسي، يفشى وينفي الضِدَّ، يرحم شاكيَهُ ويرجم سالِيَه، جوْرُه حوَرُه، وسِنانُه وسْنانُه، أهيَفُ أهتِف باسمِه باسِمةً جواهِرُ فيه جواهرَ فِيهِ، فدَيْجورُه قدْ تجوّزَه، بظُلْمٍ يظلِمُ بَهارَه نهاره مُعاينَةُ مَعانيه لذّاتٌ لِذاتِ المُعنّى المُعْيي:
عانِسٌ ناعِسٌ رشيق شَريق ساكِن كانِس حليم مليحُ
وادِعٌ واعِدٌ مُنيب مُبين لائِق قائِل حَصيف فَصيحُ
قال فآل تعجبنا يعُجُّ بنا وتعوّدنا وتقودنا من آفات منى فات وهوًى يكُدّ، وهو أنْكَدُ وطلّبنا وطلَبنا مَنّ الصّيانة من الصّبابة.
وقد ركبْت أنا مما يحرَّف ويُصحَّف من الكلمات الثنائية فما فوقها الى العشرات جملةً، ولكن فيها بعض تكلّفٍ، والعذرُ واضح لضيق المقام وزلَقِه: الاثنتان:

جابر حائر، جاء بَرٌ جابر، فسَّره فسَرَّه جُودُه جوّده، زِينَةُ رُتَبِه، يَغيبُ ويَعتِبُ، وعْدُ وغْدٍ، جَفّ فخَفّ، نَصيب يُصيب، برْقُه تَرَّفه، رَيْبٌ رُتِّبَ، راحُ راجٍ، تمنّى بمِنَى، نوبة توبة، راحَ راحٌ، راجٍ راجَ، بُروقٌ تَروقُ، عُباب عِتاب، ظِلٌ ضافٍ، جِيد جَيِّد، جمرة خمرة، خبايا حنايا، روايا زوايا، أُبادِر أبا ذَرٍّ، ما يتصوّرُ شيئاً ويتضور سباً، وحْلٌ وجَلٌ، أحمال أجمال، جمال خمّال، نجار بضحار، يحور ويخور، بُخاريّ يُجاري، براغيثُ براً غِيْثَ، بَزّني بزّتي، ذؤابة ذوّابة مَحانيّة مُجانِبِه، حبّذا جيدا، بازٍ نازٍ، نارُ ثأر، فرّ عَوْنُ فِرْعَون، حالُك حالِك، حبْل خَتْل، وجبل حيل، مُهازِقُ مَهارِق فجْر فخْر، صحْوة صحْوِه، شُقَق شفَق، دَنا خيْر دَياجِيرُ، بَهار نَهار، عَلامة علاّمَة، قصّر فضَرّ، دَرُّ دُرٍّ لا ذَرُّذَرِّ، ظرْف ظرْف، غابُ عابٍ، عيْبةُ غِيْبة، غيْث عيَثْ، غمامة عمامة، جَناح جُناح، جَوْر حُور، ترَفٌ يرِفُّ ندّ مِنْه بذِمَّتِه، تِرْبي برَّ بي.
الثلاث: نُمَيرٌ تميّز بِمَيْر، يَغيبُ ويعتِبُ ويعبَثُ، جِدّةُ خَدِّه حَدَّه، ربَّتُه ريبة رُتَبِه، سَفَهُ شَفَةٍ شفّهُ، برْقِيّ ترَقّى بِرُقى، يؤمُّ نوْمُ يومٍ، نُزَحَ بُرْجُ ترَجٍ، عق ربَّ عقرب عقَرتْ، عنْز عثُرَ غبّرَ، منصور مِنْ صُور متَضوّرٌ، نجوم تخوم تَحوم، جُرح خرَج كأنّه خُرْج، بُلبل بِلَيْل بَلبَل، بذِمّة ندَمِه يَذُمّه، تِرْبِي تربّى يزْني، جاريتُه حارثيّة حارَبَتْه، سُمّانُ سمّانٍ سِمانٌ، تعبّداتٌ بَعيداتٌ بِعَيْذاب، أسَدٌ أسَدُّ أشدّ، يفترِشُ ما يفترِسُ بقُبْرس، وردَ ورْد ورَدّ، يفريدُ يَزيدُ يرتدّ، خبر حِتْر حيّر.
الأربع: قلْبٌ قلَب قلْبَ قُلَّب، تجمّل نجْمُك بحمل تحمّل، ثبتَ بيْتُ بيت ثَيّب، فنُّه فيه قُبّة فِيه، بُخْله يُحِلّه يُخِلّه وما يُجِلّه، علَتْ عُلَبُ غلَثٍ غلَبَ، بقَرُ نُقَرٍ تفرّ بقُرِّ، كرّ بِك كرْبُك لرَبِّك بَلْ كرّبِك، سِرْبُ سَربٍ بيثربَ شرِب، خلَف خلفٌ خلْف خِلْف، فضلُك يمٌ تمّ ثمّ نمّ، خَيال خَبال حِيال جبال، تناوَلي بتأوّلي ثناءَ ولي بباولِي، غبيٌ غنيٌ عنّى وعثّى، نُذور تدور بِدور بُدور، قُتِل قبْل فيك فيل، تأبّى ثاني باني يأتي، شبِث سبّبَ شَيْبَ شيث.
الخمس: خبرٌ جبَر خير حبْر حبّر، جرَبٌ حرّبَ حرْبَ حرْثَ خرّب، تُحارِبُه تَجارِبه بِجارية بُخاريّة تُجاريه.
الست: بشير تُستَر يُشير بسَيْر يَسير نسير، بِشْرٌ نشَرَ نشْرَ بشرٍ بسرٍّ يسُرُّ.
السبع: تَبْنيه بثَثْتُه تُثبّتُه بُثَينَة ببَيِّنَة يَثْبُتُ بِه تبيُّنُه، نُورٌ توزّ بُوز ثوْر ثوّر بُور نَوْر.
الثماني: نجيبف نُجيب تَحبّبَ بحَيْثُ يُجيْبُ نَحيْبَ تحنَّث يُجْتَثُ.
وأما تصحيف خليل فكنتُ أنا قد كتبتُ الى القاضي جمال الدين عبد الله ابن الشيخ علاء الدين بن غانم، رحمهما الله تعالى، وقد توجه من دمشق الى بعلبك وطالتْ غيبته، وصحفتُ اسمي في عدة مواضع من أبيات أولها:
قرّ بِكَ القلبُ الذي ... أبعدته وقرّبَكْ
يا نازِحاً عن جِلَّقٍ ... ونازِلاً في بعْلَبَكْ
ومنها:
أنا خَليلُ صحبةٍ ... وِدادُها قد جلَبَكْ
حَليُكَ فيه فاخِرٌ ... وسِحْرُه قد خلَبَكْ
جلَتْكَ أنوار المنى ... في خاطرٍ تطلّبَكْ
خُلّتُكَ الحُسنى جلَتْ ... لي في المعالي شُهُبَكْ
حلَتْكَ بالفضل الذي ... به علَوْت رُتَبَكْ
أبو جلَنْك لو رأى ... كما رأيتُ أدَبَكْ
حلّ بِك المعنى الذي ... حلّ، بل الحقّ التَبَكْ
فكتب هو في الجواب إليّ من قصيدة أولها:
أمِنْ عُقارٍ انسَبَى ... أم من نُضارٍ انسبَكْ
مِنْ لآلٍ نُظِمَتْ ... على عَذارى كالشَبَكْ
ومنها:
حَلا بذوقِ عِلْمِه ... نُهاكَ لمّا جلَبَكْ
أنتَ جَليلُ فِطْنَةٍ ... يعرفُ ذا مَنْ طلبَكْ
حلّتْكَ فارتضتْ ... ومَنْ يرتَضي إلا أدَبَكْ
خلّتْك معدومَ النّظي ... رِ فرْدَ أفرادِ النّبَكْ

أنت حليلٌ للعُلا ... وليُّها قد قرّبَكْ
حلّ بك النائِل بالنّ ... حْلَةِ منها أرَبَكْ
حكَتْك في الذَّكا ذُكا ... ولم تُحاكِ نُخَبَكْ
حلَّ بكَ الفضلُ فح ... لّى البرايا كُتَبَكْ
حُلّتُك الفضلُ حَبا ... كَهَا نُهاكَ إذْ حبَكْ
شدوتُ من تصحيف ذا ... الاسمِ الذي قدْ صحِبَكْ
ومن التصحيف اللطيف ما أنشدنيه لنفسه إجازة الشيخ الإمام صفيّ الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي، رحمه الله تعالى: سألتُ الحِبّ: ما اسمُك، وهو ظبي من العرب الكرام، فقال: عيسى، الاسم العلَم فقلتُ له: انتسِبْ من أيّ قومٍ تكون من الأنام؟ فقال: عيسى، عَبسيّ من بني عبْس فقلتُ: وما صَنيعُك في البوادي لتحصيل الحِطام؟ فقال: عيسى، يعني عشّاباً فقلتُ: ومَنْ أنيسك في البوادي إذا جنّ الظلامُ؟ فقال: عيسى، عَنْسى يعني نوقَه فقلتُ: وعمّ تسألُ كلَّ غادٍ يمر على الدوامِ؟ فقال: عيسى، عن شيء فقلتُ: وأي عيش في البوادي يلَذّ لذي الغرام؟ فقال: عيسى، عيشي فقلت: ولمْ عصيْتَ نُصحَ حُبٍّ دعاك الى المقامِ؟ فقال: عيسى، غشني فقلت: لقد سلبتَ القلبَ منّي بلحظِك والقوام، فقال: عيسى، عبثتَ بي فقلتُ: عساكَ تسمحُ لي بوصلٍ أيا بَدرَ التّمام، فقال: عيسى، عنّيتَني فقلتُ: وما الذي يدعوكَ حتى تَجافى بالكلام، فقال: عيسى، غَبَنْتَني فقلتُ له: صدَقْتَ وكلّ شيء تقولُ على النِّظام، فقال: عيسى، عُنيتَ بي فقلت: بمَن أعيش وأنت سُؤْلي وتبخل بالمرام، فقال: عيسى، عِشْ لي وأنشدني من لفظه لنفسه الإمام الفاضل عز الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ بهاء الدين الحسين الموصلي الحنبلي زيادةً على ذلك: أتى عيسى وناداني: تُرى مَن تُحب من الأنام؟ فقلت: عيسى، عَنَيتَني فقال: نعم رأيتُ إليك قلبي يحنّ من الهيام فقلت: عيسى، عَيْنُ بَثيّ فقال: وما حَلالي قط شيءٌ سِوى هذا المقام فقلت: عيسى، غيّبتَني فقال: ونيّتي واللهِ وصلٌ به يُمْحى الملامُ فقلت: عيسى، عينُ نيّتي فقال: عليك لي عتبٌ إذا ما تطارَحْنا الغرامَ فقلت: عيسى، عَتبْتَني فقال: بشرطِ أنْ أشدو بلَحْنٍ على شُرب المدامِ فقلت: عيسى، غنّ شيء فقال: أما شدوتُ بطيبِ نغم يحنّ له الحَمام؟ فقلت: عيسى، غنّيتَني فقال: وقد أتَتْ ليلى: سلامٌ، وأسرع في القيام فقلت: عيسى، عنّ بَيني فقال: وما حَداك على فراقي بلا رَدِّ السلام؟ فقلت: عيسى، عيّبتَني فقال: انظر وقد حنقتْ عليه وتعبس في الكلام فقلت: عيسى، عبّسي فقال: حملتَ عِبءَ العشقِ منها وصبرك في انهزامِ فقلت: عيسى، عبءٌ سيئ فقال: وما ترى فعل اللواتي رَعَيْن لك الزمام؟ فقلت: عيسى، غيّبْنَني قال: فقال لي بعض الناس: ألا إنك جعلت عوض فقلت: فقال، وعوض فقال: فقلت. قال: فغيرتها الى الصورة التي قالها، وقلت: أتى عيسى فقلت له: الى من تميل من الأنام؟ فقال: عيسى، عَنَيْتَني فقلت: نعم رأيت إليك قلبي يحن من الهيامِ، فقال عيسى، عيْن بَثّي فقلت: وما حَلالي قط شيء سوى هذا المقامِ فقال: عيسى، غيّبْتَني فقلت: ونيّتي يا بدر وصلٌ به يشفى الأُوامُ فقال: عيسى، عينُ نيتي فقلت: عليك لي عتب إذا ما تطارحنا الغرام فقال: عيسى، عتَبْتَني فقلت: بشرط أن أشدو بلحن على شرب المدام فقال: عيسى، غنّ شيء فقلت: أما شدوتَ بطيب نغم يحن له الحمام فقال: عيسى، غنيتني فقلت: اجلس فقد جاءتك ليلى تحيي بالسلام فقال: عيسى، عنَّ بيني فقلت: وما حداك على فراق وإسراع القيام فقال: عيسى، عيّبْتَني فقلت: أقم، فقامتْ وهي غضبى تعبس في الكلام، فقال: عيسى، عبسيّ فقلت له: حملت العبء منها وصبري في انهزام، فقال: عيسى، عبء سيئ فقلت: فما فعل اللواتي رعَيْنَ لك الزمام، فقال: عيسى، غيّبنني وقلتُ أنا: وقد بقيتْ على ذلك زيادة ليس فيها زبدة، ولا يقدح البديع فيها زنده، فأحببتُ نظمها، وأردتُ رقمها، فقلت، وإنْ كان في ذلك قلَق، ولم ينشق دجاه عن فلَق، فإن المُتقدّمين الفاضِلين أخذا ما رقّ وراقَ، وفلَذا ما راع ونزل وما هو في درَج الفصاحة بِراقٍ ولا برّاق، فليعذرْ صاحبُ الذّوق مَنْ شبّ عمره في هذا المقام عن الطوق، وذلك:

غدا عيسى يفرُّ من الغواني فقلتُ له: عَلامَ؟ فقال: عيسى، عبثنَ بي فقلتُ: اغفرْ وعُدْ، فالعود أولى، فما في ذاك ذام فقال: عيسى، غبنٌ ثُنّيَ فقلت: احملْ أذى مَن بتّ تهوى ولا تخشَ الملام فقال: عيسى، عيبٌ بُني فقلتُ: وما يَسوءُك بثُّ سرّ تنالُ منه المرام فقال: عيسى، عِبتُ بثّي فقلت: فراستي حكمت بهذا عليك فما ألام فقال: عيسى، عيبٌ نُبي فقلت: رأيتك مع فتاةٍ حكَتْ بدْرَ التمام فقال: عيسى، غيّبَتْني فقلت: فما لقدك وهو غُصنٌ يميلُ من المدام فقال: عيسى، عن نثنّي فقلت: فما ترى من بعد هذا فقل جاء المنام فقال: عيسى، غشِّني فقلت: وما ركابك إن قطعنا الفلا تحت الظلام فقال: عيسى، عِيسى فقلت: أريد أن ألقاءك خِلْواً تفرّ من الآثام فقال: عيسى، غَثَيتني وقلت أنا في تصحيف يحيى: ومليح قلتُ: ما الاسمُ حبيبي؟ قال: يحيى، العلَم المشهور قلتُ: خاطبني بتصحيفٍ تعِشْ لي قال: يحيى، يحيا من الحياة قلت: حيّاك إلهي، قال لي: بل أنت يحيى، تُحيَّ من التحية قلت: في قدّيْكَ ورْدٌ وهو غضّ قال: يحيى، يُجْنى من الجَنَى فتَوقَّ الجفْنَ مني فهو سيفٌ، قلت: يحيى، يجْني بالجيم من الجناية قلتُ: أصبحتَ مليكَ الحُسْن فرداً، قال: يحيى، بختي من البخت والَى عندي خَراجُ الحُسنِ في الآفاق يحيى، يجبَى من الجباية وإذا الغُصن تثنّى فلقَدّي بات يحيى، يُحنَي من الانحناء وإذا قام بقدٍ فنسيم الريح يحيى، يُجثى من جثا على ركبتيه أنا لو شِئْتُ لحُسني كان فوق البدر يحيى، تختي من التخت الذي يجلس فوقه فهو في الصورة من فوقٍ وفي معناه يحيى، تَحتي نقيض فوْقي فقلت: هل أُحْبَى وِصالاً منك حلواً قال يحيى، تُحْبى من الحِباء قلت: لو بُحتُ بسري خفَّ ما بي قال يحيى، بُحْ بي من البَوْح وإذا ما ناحت الوُرْقُ على الأغصان يحيى، نُحْ بي من النَّوْح قلت: ما يقطع خصمي عندَ عذْلي؟ قال: يحيى، بحْثي من البحْث قلت: لكن اشتهى لو قطّعوه، قال: يحيى، بجَبّي من الجَبّ وهو القطع قلت: ما لي من شفيع يعتني بي، قال: يحيى، بحُبّي من الحُبّ قلت: ما تنجو سريعاً من وصالي، قال يحيى، نجِّني من النّجاج قلت: نحّيت غرامي، قال: من قلبك يحيى، نحّني من التنحية قلت: نحتُ الصخر دأبي وقد أعيا فيكِ يحيى، نحْتي من النحت وكذاك الدهرُ ما زال على الأحرار يحيى، يُخني أي يُهلِك قلت: خذني لك عبداً، قال: من يألف يحيى، بجِنّي من الجِنّ قلت: جفن قد حَثا الدمع بخدّي، قال: يحيى، يُحثى من الحُثوة قلت: قد سال دماً من جفن عيني، قال: يحيى، ثجَّ بي من الثّجّ قلت: في جفني قرحٌ من بكائي، قال: يحيى، نجَّ بي من نَجَّت القرحة قلت: ذُخري دمع عيني، قال: للشدة يحيى، يُخبا من الخبيئة قلت: ما لي قط ذنبٌ، كيف تجفو؟ قال: يحيى، تجنّى من التّجنّي ثم لانَ القلبُ منه إذ رأى في اللفظ يحيى، نُخَبي جمع نُخبة قلت: قُمْ وانشطْ ولا تكسَلْ وسافر، قال يحيى، نَخّني من النخوة قلت: ما تركب إن سرنا جميعاً؟ قال: يحيى، نُجبي جمع نجيب قلت: فاخترْ لي مركوباً غليظاً، قال: يحيى، بُختي بالخاء المعجمة قلت: ما الزاد الذي تعتدّه لي؟ قال: يحيى، يخني يعني مصْلوقاً قلت: وما الماء الذي نلقاه وِرْداً؟ قال: يحيى، بجُبّي يعني الجُبَّ قلت: إنْ كَلّ بعيري بمَ يُزْجى؟ قال: يحيى، بخَثّي من الحثّ فهُو لو لم يقضِ قَصْدي كُنتُ أقضي فيهِ يحيى، نَحْبي من قضى نحبه وأنشدني لنفسه ونقلته من خطّه الأديبُ علاء الدين علي بن مقاتل الحمويّ بيتين ثانيهما تصحيف الأوّل:
شِفائي وجنّاتي حبيبٌ بِسرْبِه ... لَغوبٌ بمزجٍ يَفْرُجُ البأسَ شيمتُهْ
سَقاني وحيّاني حَييتُ بشَرْبَةٍ ... لَغوتُ بمزجٍ تُفرِحُ الناسَ سيمتُهْ
ومما وجدته من التصحيف والتحريف في المجون قول ناصر الدين بن شاور الفقيسي الكناني، ونقلته من خطه مما كتب به الى السراج الوراق رحمه الله تعالى:
مازلتُ مُذْ غبتُ عنك في بلدي ... حتى إذا ما أزحتُ عِلّتَها
أقمتُ أجرانَها على عجلٍ ... وبعد هذا خزنتُ غَلَّتَها
ونقلت منه له:
لقدْ كانَ فيما مضَى دايةٌ ... تحِنُّ علَينا وتَبْغي رِضانا

فماتتْ فآلمَنا فقْدُها ... فنحنُ جميعاً عليها حَزانى
ونقلت من خط السراج عُمر بن محمد الورّاق، رحمه الله تعالى، مما نظمه في التصحيف:
أتيتُ أرجيهِ في حاجةٍ ... فلم تنبعثْ نفسُه الجامدهْ
ففتّل لحيتَه والوَرى ... تعافُ المفتّلةَ الباردهْ
فقلت له: خَلّ تفتيلَها ... وصحِّفْ عسى خلفها فائده
وأنشدني إجازةً لنفسِه الشيخُ صفيّ الدين عبد العزيز الحلي:
وظبي من التّرْكِ مادم ... تُه وبالغتُ في حُسْن تاليفهِ
تمتّعْتُ منْهُ ومن كاسهِ ... بتَرجيحها وبتشفيفِهِ
وقلتُ: خدَمْنا وتصحيفُها، ... فجاد بنُوشٍ وتصحيفهِ
وأنشدني لنفسه إجازةً أيضاً:
يا مانحي محْضَ الوعودِ وما بغى ... حفظ العهود ومُجتَنى معروفِه
لي كل يومٍ منكَ عُذْرٌ حاضرٌ ... وأخافُ أنْ يُفْضي الى تصحيفِه
وأنشدني لنفسه إجازة أيضاً:
أعْوزني الحِبْرُ ولا طاقةٌ ... بطبخه لي وبتكليفهِ
فجُدْ بهِ عفْواً فلا زِلْتَ في ... معكوسِهِ الدهرَ وتصحيفِهِ
ومما اتفق لي نظمه في التصحيف مما قلتُ:
أبْكمٌ لا يعي فَفيهمُ شيئاً ... ولِسترِ التصحيفِ أصبحَ يُسْبِلْ
قال لي: هذه حرافيش مصرٍ ... قلت: لا بل أرى حرافيش إربلْ
ومنه قولي أيضاً:
وصاحبٍ قال: صحِّفْ لي مَنْ تعذِّبُ قلبَكْ
فقلت: إن كان شيء فسِتُّنا بنتُ أزبك
فقال: قدِّمْ سواها، فقلتُ: أخِّرْ أغُلْبَك
ومنه قولي أيضاً:
ألا قُلْ لمن قد راحَ فينا مصحِّفاً وليس لهُ في مثل ذلك عائِبُ
بمصرَ وَباً والقمحُ غضٌ كما ترى كذا الخَسُّ نبتُ الماءِ والنّخّ سائبُ
وتصحيف ذلك: تمصُّ روْثاً، والقُم جعْص، الحس بيت الماء والنحس أنت. ومنه قولي أيضاً:
وعاذلي ذاله استقرْ ولم تُصحَّفْ من شؤم بختي
إن قال: ماذا سباك منها؟ أقلْ سِوارٌ بكفِّ سِتي
ومن ذلك قصيدة وجدتُها لنور الدين أبي بكر محمد بن رستم الأسعردي، رحمه الله تعالى:
إني أقصُّ عليك أعجب ما يُرى ... منْ صُنع ربّي جلّ مَنْ قدْ قدّرا
فاسمعْ وعاينْ سَقْفَ بيتِك ساعةً ... تَرَ تحته ثوراً سميعاً مُبصِرا
وانظرْ الى الماء الزلالِ تجدْ بهِ ... كلباً وليس تراه أن يتكدَّرا
إن شئت أن تلقى حماراً ناطِقاً ... فانظرْ بمرآةٍ تجدْهُ مصوَّرا
طالعْ كِتاباً إنْ خلوْتَ بمجلسٍ ... ترَ ثَمَّ شيطاناً يطالِعُ أسطرا
واصعَدْ الى سطحٍ وغمّضْ ناظراً ... لك إنّ فوق السطح تيساً أعورا
والبس ثيابكَ واقر آياتٍ تجدْ ... من تحتها تيساً هنالك قد قَرا
وإذا حضرتَ الحربَ وَلِّ عنِ العِدى ... تَرَ ثَمّ صفعاناً يولّي مُدْبِرا
ومتى شرِبَْ مدامةً بين الورى ... ترَ جاهلاً في الناسِ يشربُ مُسْكِرا
وإذا لُعنْتَ وأنت تحسبُه دعا ... ترَ أحمقاً لعنوه ثَمّ وما دَرى
يا غادياً ينوي التزهّد بعدما ... أفنى الزمان من الشباب الأكبرا
لا تخرِبَنّ الوجه منك بذلةٍ ... فخراب وجهك في الورى أن يُعْمَرا
لو كان رزقك يا كثير الحرص في ... جُحْر أكلتَ ولن يكون مُقَتَّرا
كُنْ مثلَ مَنْ في الناسِ قوّى دينَهُ ... وغدا حِمَى راجيهِ إن سُئِلَ القِرى
وينافِرونَك معْشرٌ من جهلهم ... ولأنت أجهل إن سمعت المنكرا
هوّنْ إذا ضحك الأنام عليك في ... الدنيا سيبكيك الذي فيها جرى
إن كُنتَ للصلواتِ في أوقاتها ... تَنْسى كثيراً فاجتهدْ أن تَذكُرا
يا بئس ما صنعتْ يداك وما سعتْ ... رجلاك في قطع المفاوز تذْكُرا

ما هذه الدنيا بدارِ سلامةٍ ... لابدّ يوماً أنْ تبيتَ مُكَسَّرا
يقسو عليها عالم بصروفها ... وتروق مَنْ أعمته عن أن يُبْصِرا
لابدّ من بعثٍ فكن متيقظاً ... واصنعْ له عملاً، ومن أن تُنْشَرا
وترى جهنمَ والصراطَ مُهيّأ ... في وسطها وترى عليها مُعْسِرا
ويدُسّ رأس كبيرِهم وصغيرِهم ... في قعرها حتى استفكَّكَ شافِعٌ لن ينكرا
يجري على خديك دمْعُك عند ذكر ... الحش لا أُنسيتَ ذاك المحشرا
بِتْ نائماً متيقّظاً واذْكُرْ إذا ... ما قُمتَ منتفضاً هناك من الثّرى
كُنْ خاسِئاً متواضعاً واحذرْ بأنْ ... يوماً تُرى متفرِّغاً مُتجبِّرا
لا تفخرنّ بجلدِ كلبٍ إن غدا ... تاجاً لراسِك فالمدَى سامي الذُرَى
لو كنتَ ذا القرنينِ في سلطانه ... لم يُجد ملكُكَ وانصرفتَ منكَّرا
قد كَلّ جيشٌ للعِدى أولا تَقُدْ ... لابدّ أن يُفني الرّدى كلَّ الوَرى
هيهات ما الدنيا بدارٍ يُرتَجى ... فيها الجَزا، فاحمَدْ لمقصِدكَ السُرى
كم نال فيها عاجِزٌ ما يَرتجي ... وحوى على رغم الأعادي مَفْخرا
يا قاعداً رضي الخمولَ لنفسِه ... قد كان حقك في الوَرى أن تُشْهَرا
ما بالُ رأسِكَ لا يزالُ مُنَكَّساً ... من ركْوةٍ فيه وصار مفَتَّرا
لا تحزننّ لشيبِ رأسِكَ واتّئدْ ... سيصير كُلٌ في الخراب فلا يُرى
يا لِحيةً خُلقتْ فأفحش خلقها ... كالروض تُزهى بهجةً إذْ نوّرا
إنْ ضرّ طولك في الأنام فطالما ... استنفعت من شعَر يكون مُقَصّرا
يا ساجداً في كل أرض راغباً ... في ذكر كلّ فتى يراه كبرا
أخبار أهل الزهد عندي كلها ... إن كُنتَ فيها للسعادةِ مُؤثِرا
يا آكِلا جزء الغِذا من خوفهِ ... ستنال من ذاكَ النعيم الأكبرا
فالقطْ نَوًى من كل أرضٍ ثم كُلْ ... منها الخرادلَ تَحْوِ أجراً أوفرا
لابدّ يوماً أن تصير ببطنها ... ولك الجزا فيها على هذا المِرا
ومن ذلك قصيدة للحكيم شمس الدين محمد بن دانيال، رحمه الله تعالى:
إنّ البلادَ التي أصبحتَ واليهَا ... أضحت ولا جنة المأوى ضواحِيها
وعُمّرتْ منك بالعدل المبين الى أن با ... ت حاضرُها سُكنى وباديها
وبعدما أصبح الطيرُ الخراب بها ... على أسافلها تبكي أعاليها
كأنّها لم تبِضْ فيها ولا فقسَتْ ... بها ولا نبتتْ فيها خوافيها
فأقفرَتْ بعدما كانتْ مساكنُها ... فيها خرائدَ قد لذّ الأسى فيها
فلنْ يهِرَّ بها كلبٌ ولو ظهرتْ ... رسومُها لَعوى فيها عوافيها
هبّتْ رياحُ دَبور في جوانبِها ... فكان سقط لواها إلف سافيها
وا لَهْف نفسي عليها عند ذاك ويا ... خرابَها بمعانٍ في معانيها
منْ بعدِها لم أجِد أرضاً أفُشّ بها ... صَبابةً في ضميري كنتُ أخفيها
أنتَ الشجاع الذي ذاق البَرازَ ولم ... يجْبُن إذا بطلٌ جرّ القَنا فيها
كم نار حرب لدى الهيجاءِ ما وقدَتْ ... إلا أتيت ببأس منك يُطفيها
للهِ رمْيُك واستيفاكَ من بطلٍ ... سهامَ أي قِسيّ بتَّ تحْنيها
كم قد خرقتَ بطونَ الدارعينَ بها ... حتى تراقتْ نفاذاً من تراقيها
وعصبةٍ تشربُ الأبوالَ من ظمأٍ ... وتأكل الروثَ جوعاً أنت مُغنيها

كم استنابك فيها حاكم فغدا ... بحفظها منك إقبالٌ لرائيها
ومُذْ رآك الورى فرْدَ الزمانِ بها ... خرّتْ لوجهِكَ، أعنى سُجّداً تِيها
لو أنّ دجلةَ فيها القاع ذو يبسٍ ... لوارديها لكنتَ الدهرَ تسقيها
سلْ أرض حرّان إذْ أمسيتَ ساكنَها ... هل جاع صُعلوكُها أو جاع صوفيها
وفاخَرَتْك جماعاتٌ وربَّتَما ... قالوا قصير فرُدَّ القولُ تسفيها
إنْ قلّ طولك فيه للعيان فما ... قد قلّ طولك فيها حين تعطيها
يا والياً بيّتَ الأكفاءَ في نفق ... يحمي حماها كما قد بات يحميها
لا تعجلنّ وكُن مسترفقاً وخذ ال ... مياه بالحكم عدلاً من مجاريها
وإن ركبتَ الى حمل الغلال ولم ... تُحْصَدْ جميعاً لتجني حصْدَ باقيها
عليك بالدّرةِ الخرْزاءِ إن سمعتْ ... أُذناكَ مستخدماً ألغى خراجيها
فالنحسُ أنتَ تراهُ غيرَ مكترثٍ ... إلا بصَفْعِكَه إن رُمْتَ تنبيها
خُذْها مدائح مَنْ تلقاه مُبتَسِماً ... يَهذي بذكرك بين الناس تنويها
واهزُزْ لها عِطفَك الميّاسَ من طرَبٍ ... ليُصبح الحاسد الغضبان يُطْريها
فأنتَ كالبانِ أعطافاً مرنَّحَة ... لمَنْ يشبّهُ أنّى رامَ تشبيها
فإنها كالتي إنْ أُنشِدَتْ طرَباً ... صُدورها قامتْ منها قوافيها
ومن التحريف الظريف ما هو مشهور:
إنْ آنَ أنْ تلتَقي علِمْنا مَنْ منّ مِن أهلنا علينا
لوْ لؤلُؤاً صُبَّ في يديهم لوَلْوَلوا بالبُكا لدَيْنا
ومن ذلك ما أنشدنيه لنفسه إجازة الشيخ صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي، رحمه الله تعالى:
سلْ سلسلَ الريقِ إن لم يرْوِ حرَّ ظَما بَلْ بلبلَ القلبَ لمّا زاده ألَما
قدْ قدَّ قَدُّ حبيبي حبلَ مصطَبري إنْ آنَ أنْ أجتني جُرماً فلا جرَما
مُذ ملّ ململَ قلبي في تعنُّتِه لو كفَّ كفكفَ دمعاً صار فيه دَما
بلْ رُبّ ربربِ سِرْبٍ ثغره شَنِبٌ لوْ لؤْلُؤٌ رام تشبيهاً به ظلَما
لو قابلَ الشمسَ لألاؤها كسفتْ فإن تقُلْ للدجى زح زحزحَ الظلما
كم هدّ هُدْهُدُ واشينا بناءَ وفاً غداةَ عنعنَ عن أعدائنا الكلِما
مُذ نَمّ نمْنَمَ أقوالاً شقيتُ بها إذْ زلّ زلزلَ طوْدَ الصبرِ فانهدما
لِمْ لملَم الوجدَ عندي بعد مصرفه عني وجمجمَ جَمّ الغيثِ فالتأما
مُذ لجّ لجلجَ نُطقي عن إجابتهِ لوْ رقّ رقرقَ دمعاً ظلّ منسجِما
إنْ كانَ دعْدعَ دَعْ كأسَ العتابِ وقُلْ مَهْ مَهْمِه العِشقَ لا يطويه مَنْ سئما
إن قيل ضعضعَ ضعْ خدّيك معتذراً أو قيل قلقلَ قُلْ أرضى بما حكما
أو قيل طحطحَ طح بالحُبّ ملتجئاً أو قيل دمدمَ دُمْ بالوُدِّ ملتزما
سب سَبْسَبَ الحُبّ واشكرْ من أحبتنا لكل مَنْ منّ من أهل الوَفا كرَما
هُم همُّهم حفظُهُم للخلّ حقَّ وفاً بحيث حصحصَ حصَّ الهمَّ منتقما
إن قيل أجَّ أجاج الغَدْر فارضَ بهِم إلاّ فنفسَك لُمْ لِمْ لَمْ تُفِضْ ندما
وما رأيت أعجبَ من بيت للأعشى ميمون بن قيس، فإنّه صحّف فيه العلماءُ الأعلام مواضع عدةً، وهو قوله:
إنّي لعَمْرو الذي حطّتْ مناسمها ... تَحذي وسيقَ إليها الباقر الغُيُلُ
وهذا البيت من جملة قصيدته المشهورة التي أولها:
ودِّع هُريرةَ إنّ الركبَ مُرتَحِلُ ... وهل تُطيق وداعاً أيّها الرجُلُ
والمغاربة يعدون هذه القصيدة من المعلقات السبع.
أما الأصمعي فإنه روى البيتَ الذي أشرتُ إليه:
إني لعَمرو الذي خطّتْ مناسمها ... ............
فأورده بالخاء المعجمة، وقال: خطّتْ يعني أنها تشق التراب، وقال: ومثله قول النابغة:
أعلِمتَ يوم عُكاظَ حينَ لَقيتَني ... تحْتَ العَجاج فما خطَطْتَ غُباري
قال: ولا تكون حطت، يعني بالحاء المهملة، لأن الحطاط: الاعتماد في الزام وقال:
بسلجَم يحُطُّ في السفارِ

وأما أبو عمرو الشيباني فإنه رواه: حطت بالحاء المهملة، وقال: هو أن يعتمد في أحد شقيه، وقال: فيه: تخدى بالخاء المعجمة، يعني: تسير سيراً شديداً، وقال فيه: الباقر الغيل بالغين المعجمة والياء آخر الحروف، وروى الزيادي عن الأصمعي: الباقر العَثَل بالعين المهملة والثاء مثلثة، وقال: العثلُ والعثجُ واحدٌ، وهو الجماعة من الناس في سفر وغير سفر.
وأما عسل فإنه رواه عن الأصمعي: حطت، بالحاء المهملة، وقال معناه أسرعت، والعثَل: الكثير الثقيل، ويقال: انكسرت يده ثم عثِلَتْ تَعْثَل أي ثَقُلَتْ عليه، فهذه رواية الأصمعي.
ورواه بعضهم: حِضْناً بالحاء المهملة والضاد المعجمة، ولم أدر ما معناه.
ومن قول الأعشى:
نفى الذّمَّ عنْ آلِ المحلَّقِ جَفنةٌ ... كَجابيةِ الشّيخ العراقيّ تفْهَقُ
الجابية، بالجيم، الحَوض بلا ماء، ومعناه: أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ حوضه لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محالّه.
وقال المبرد: سمعت أعرابية تنشده كجابية السَّيْح، يريد النهر الذي يجري على جانبيه فماؤها لا ينقطع، لأن قول المبرد بالسين والحاء المهملتين وبينهما ياء آخر الحروف، والسَّيْحُ، بفتح السين، الماءُ الجاري.
وبعضهم صحفه فقال: كخابية، بالخاء المعجمة.
ومن غرائب التصحيف ما حُكي أن بعض المؤدبينَ صحّف بيتاً لزياد النابغة وهو قوله:
أسقينَني رثيّي وغنّيَني بحبّ يحيى ختنِ بن الجُرَذْ
وإنما هو:
أشقيتَني ربّي وعنَّيتَني بُحتُ بحبّي حينَ بِنَّ الخُرُدْ
فلم يدع فيه كلمة واحدة حتى صحّفها، كما تراه جعل أشقيتني من الشقاء أسقينني من السقي لجماعة الإناث، وجعل ربّي من الرّب المضافِ الريَّ المضاف ضد العطش، وجعل عنيتني من العناء وهو الأسر والذل غنينني من الغناء لجماعة الإناث المطربات، وجعل بحت من البوح وهو إظهار السر، بحب؛ حرف جرّ دخلَ على حب وهو هوى النفس، وجعل بحبي يحيى اسم يحيى بن زكرياء، وجعل حين وهو الوقت ختن وهو زوج البنت، وجعل بِنّ وهو من البين للإناث ابناً وتفقه فيه لأنه قال: ابن بعد علم فلم يثبت ألفهو جعل الخرد جمع خريدة الجرذ بالجيم والذال ذكر الفأر.
ومن ذلك، ما كتبه الإمام الناصر، رحمه الله تعالى، وقد غضب على خادمه يُمْن: بِمَنْ يَمُنُّ يُمْن، ثمَنُ يُمْنٍ ثُمْنُ ثُمْنِ فكتب الخادم إليه: يَمُنّ يُمْن بمَنْ ثمّنَ يُمْنَ ثُمْنَ ثُمْنِ فأعجبه ذلك منه وعفا عنه.
ومن غرائبه أن أهل البصرة كانوا يروون عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ألا إنّ خَرابَ بَصرتِكم هذه يكون بالرّيح.
يروونه بالراء والياء آخر الحروف، وما أقلعوا عن هذا التصحيف إلا بعد مائتي سنة عند خرابها بالزنج لما دخلها الخبيث الزنجي.
ومما كثر تصحيفه قول امرئ القيس:
كأنّ سراتَهُ لدَى البيتِ قائماً ... مَداكُ عُروسٍ أو صَرايةُ حنْظَلِ
رواه الأصمعي: صَراية بفتح الصاد مهملة وياء آخر الحروف، والصَرايَة الحنظلة الخضراء، وقيل هي التي اصفرت.
ورواه أبو عبيدة: صِراية بكسر الصاد، وقال: هو الماء المُستَنقَع الذي يُنتقَع فيه الحنظل يقال: صَرِيَ يَصْرى صَرْياً وصراية، وهو أخضر صاف.
ورواه بعضهم: صَرابة، بباء تحتها نقطة، يريد الملوسة والصفاء، يقال: اصرأبّ الشيءُ، إذا املأسّ.
وبعض الناس يقال فيه: صلاية باللام عوض الراء.
ومما كثر تصحيفه قول أبي الطيب:
بَليتُ بِلَى الأطلالِ إنْ لمْ أقِفْ بِها ... وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّربِ خاتمُه
قال بعضهم: إن المتنبي أخذ هذا العجز من مكان وصحفه جميعه، وهو:
وقوفَ شَجيجٍ ساخَ في الترب جاثِمُه
يعني بذلك الوَتِد الذي شج رأسه بالدق حتى ساخ جاثمه في التراب، شجيج بالشين والجيم المعجمتين، وجاثمه بالجيم والثاء المثلثة، وهذا بلا شك أبلغ في الوقوف على الأطلال من وقوف شحيح ضاع خاتمه في التراب لأنه يقف ساعة يفتش التراب عليه فإن لم يجده تركه وانصرف.
وقوله أيضاً:
وريعَ له جيشُ العدوِّ وما مشى ... وجاشتْ له الحربُ الضروسُ وما يغْلي

منهم من رواه: ما تَغلي بالتاء ثالثة الحروف مع الغين المعجمة، أراد أن الحرب قامت على أعدائه معنىً لا صورةً، لخوفهم منه، ومنهم من رواه بالياء آخر الحروف، أراد لم يبلغ الى أن يخنق صدره غضباً.
ومنهم من رواه بالفاء بدل الغين، أراد: لم يبلغ الى أن يَفْليَ رءوسهم بسيفه، ومنهم من رواه بالقاف من القِلَى والبُغْض.
وقوله أيضاً:
كم وقفة سجَرْتَك شوقاً بعدما ... غَرِيَ الرقيبُ بنا ولَجّ العاذِلُ
منهم من رواه: سجرتك بالسين المهملة والجيم أي ملأتك. ومنهم من رواه بالسين والحاء المهملتين من السحر. ومنهم من رواه: شجرتك بالشين والجيم المعجمتين من قولهم: شجرتُ الدابة إذا كبحتها باللجام لتردها.
وقوله أيضاً:
بِصارمي مُرتَدٍ بمَخْبُرَتي مُجتَزِئٌ بالظلامِ مُشتَمِلُ
قال بعضهم: مُجتَزئ بالزاي وقال بعضهم: مجتَرِئ بالراء من الجُرأة وبعضهم رواه: ملتحف، وكل صحيح المعنى.
وقوله أيضاً:
إذا وطِئَتْ بأيديها صخوراً ... بَقينَ لوَطْءِ أرجلها رمالا
رواه ابن جني بالباء الموحدة والقاف. ورواه غيره يفين بالياء آخر الحروف والفاء من فاء يفيئ إذا رجع. والأول صحيح أيضاً.
وقوله أيضاً:
وأبَهْرُ آياتِ التِهاميّ أنّه ... أبوكَ وإحدى ما لكم من مناقِبِ
رواه بعضهم: التهامي آية بدل أنّه، من أنّ واسمها وأجدى بفتح الهمزة وبعدها جيم بدل وإحدى بكسر الهمزة وبعدها حاء مهملة.
وقوله أيضاً:
فالموتُ آتٍ والنفوسُ نفائس ... والمستَغِرُّ بما لديه الأحمقُ
بعضهم رواه: المستغر بالغين المعجمة والراء، وبعضهم رواه: والمستعز بالعين المهملة والزاي. وكلاهما معنى صحيح.
وقوله أيضاً:
وإنّ القيامَ التي حوْلَه ... لتحسد أقدامَها الأرْؤسُ
روى ابن جِني وغيره: القيام بالقاف. ورواه المعري: الفئام بالفاء وهمز الياء، وهو اختيار أبي الطيب، لأن الفئام بالفاء لا يقع إلا على الجماعة الكثيرة، بخلاف القيام بالقاف.
ومما كثر التحريف فيه بين المحدِّثين وهو ثلاثة أحرف: جبل حراء، حرّف المحدّثون في حِرَا الحاء والراء والألف فيفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة، فيقولون فيه: حَري على وزن دَنِي، وألفه ممدودة فبعضهم يقول فيه: جبل حَرَا، مقصور الألف.
وما أحسن ما أنشدنيه من لفظه لنفسه الشيخ الإمام المحدِّث الأديب جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد السُرَّمَريّ الحنبلي:
سألتَ عن اسم من ثلاثة أحرفٍ ... وقد غلطوا فيه بأحرفه طُرّا
فذاك حراء فاكسر الحاء وافتحن ... راءه ومد الهمز واجتنب القَصْرا
فهم فتحوا المكسورَ والعكس ثمّ أنّ ... هُم قصَروا الممدودَ واستوجبوا الهجرا
ولو لم يكن ذا القولُ ف جبَلٍ لما ... تصبّرَ هذا الصّبْرَ واحتمل الضُرّا
ومما حُرِّف فانفسد به المعنى قول أبي الطيب:
قُلْ للدمستق إن المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا
أكثر الناس يقولون: المُسلِمين بكسر اللام، يريدون جمع مسلِم، وليس كذلك. وإنما هو بفتح اللام، يريد بذلك الذين أُسلِموا لهم، وإلا فما فائدة قوله: لكم.
ومما كثر فيه التحريف والتصحيف قول جرير، وهو:
يمشون قد نفخ الخزيرُ بطونَهم ... وغَدَوا وضيف بني عقال يُخْفَعُ
روي في وغدوا عدة روايات: فقيل فيه: رَعَدَى، وقيل: رغداً بالراء، وقيل: زَغَداً بالزاي والغين، الزغد بالزاي: الكثير، والرَّغْد: الضِّرْط، ورواه ابن قتيبة: شِبعاً. وقيل: يَخْفَع بفتح الياء، وقيل بضمها.
وقد نفَعَ التصحيفُ كما قد ضرّ، فمن نفعه أنه لما حضرَ محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، الى العراق اجتمع الناس عليه يسألونه ويسمعون كلامه، فرفع خبره الحسدة الى الرشيد وقيل: إنّ هذا يفتي بعدم وقوع الأيمان وعدم الحنث وربما يفسد عقول جندك الذين حلفوا لك، فبعث بمن كبس مكانه وحمل كتبه معه، فحضر إليه من فتش كتبه، قال محمد: فخشيت على نفسي من كتب الحِيَل، وقلتُ بهذا تروح روحي، فأخذت القلم ونقطتُ نقطةً، فلما وصل إليه قال: ما هذا؟ قلت: كتاب الخَيْلُ يُذْكَرُ فيه شياتُها وأعضاؤها، فرمى به ولم ينظر إليه.

قلت: فتخلّص بنقطة صحفت الحاء المهملة بالخاء المعجمة.
ومن نفْعِه: كان محمّد بن نفيس غيوراً فأُخبرَ أنّ جارية له كتبتْ على خاتمها مَنْ ثبَتَ نبَتَ حُبُّه، فدعاها ووقفها علي ذلك، فقالت: لا والله، أصلحك الله، ما هو ما قيل لك وإنما هو مكتوب مَنْ يَتُب يُثَبْ جنّةً.
قلت: الأول بالثاد المثلثة مفتوحة وبعدها باء موحدة وتاء ثالثة الحروف، ونون وباء موحدة وتاء ثالثة الحروب، وحاء مهملة وباء موحدة مشددة.
والثاني: بالياء آخر الحروب والتاء ثالثة الحروف والباء الموحدة، والياء آخر الحروف مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة وباء ثانية الحروف، وجيم ونون مشددة.
ومن نفْعه ما حكاه لي بعضُ الفضلاء، قال: كان القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله، يوماً بين يدي الملك الظاهر بيبرس وهو يكتب كتاباً الى نائب الشام فمرّ به ذكر عكا، وكان الساحل يومئذ بأيدي الفرنج، فحصل له سهو وكتب: عكّا المحروسة، وعلّق السين، وكان بعض مَنْ يكرهه حاضراً فقال: يا مولانا نقول عن عكا: المحروسة؟! فقال محيي الدين على الفور: إذا كان واحد ما يقرأ إلا ما ينقط ما لنا فيه حيلة! المخروبة، بسم الله. ثم إنه نقط الخاء وجعل تحت السين المعلقة نقطة، فسكن غضب السلطان ونجا ابن عبد الظاهر، رحم الله كلاً.
وقد هجا خَلَفُ الأحمر العُتْبيَّ فقال:
لنا صاحبٌ مولَعٌ بالخلافِ ... كثير الخطاءِ قليل الصوابِ
ألَجُّ لجاجاً من الخنفساءِ ... وأزهى إذا ما مشى مِنْ غُرابِ
وليس من العلم في كفّهِ ... إذا ذُكِرَ العِلْمُ غير الترابِ
أحاديثُ ألّفَها شَوْكَرٌ ... وأخرى مؤلّفة لابنِ دابِ
فلو كان ما قد روى عنهما ... سماعاً، ولكنه من كتابِ
رأى أحرفاً شُبِّهَتْ في الكتابِ ... سواء إذا عدّها في الحسابِ
فقال: أبي الضيم يُكنى بِها ... وليست أبي إنما هي آبي
وفي يوم صِفّين تصحيفةٌ ... وأخرى له في حديث الكُلابِ
قال أبو أحمد العسكري، رحمه الله تعالى: آبِي الضّيْم ليست كنيته، وإنما هو فاعل من الإباء، ومثله آبي اللحم ليست كنية، وإنما كان يأبى أن يأكل اللحم الذي ذبح لغير الله تعالى، وكان حيان بن بشر قد ولي قضاء بغداد وقضاء أصبهان أيضاً، وكان من جلة أصحاب الحديث، فروى يوماً أن عرفجة قُطِعَ أنفُه يوم الكِلاب، وكان يستمليه رجل يقال له كِجّة، فقال: إنما هو بالكُلاب. فأمر بحبسه، فدخل الناس إليه وقالوا: ما دهاك؟ فقال: قُطِعَ أنفُ عرفجة يوم الكُلاب في الجاهلية وامتحنت به أنا في الإسلام.
ومن التحريف الذي نفَع ونجّى من الهلاك قولُ أبي نُواس وقد استطرد يهجو خالصة حظية الرشيد، فإنه قال:
لقد ضاعَ شِعْري على بابِكُمْ ... كما ضاعَ حَلْيٌ على خالِصَهْ
فيقال إنهالمّا بلغها ذلك غضبتْ وشكته الى الرشيد، فأمر بإحضاره، وقال له: يا ابن الزانية تعرِّض بحظيتي، فقال: وما هو يا أمير المؤمنين، قال: قولك: لقد ضاع شعري... البيت، فاستدرك الفارطُ أبو نواس وقال: يا أمير المؤمنين لم أقلْ هذا وإنما قلت:
لقد ضاءَ شِعري على بابِكُمْ ... كما ضاءَ حَليٌ على خالصَه
فسكن غضب الرشيد ووصله، ويقال: إن هذه الواقعة ذكرت بحضرة القاضي الفاضل، رحمه الله تعالى، فقال: بيتٌ قُلِعَتْ عيناه فأبصرَ.
ومنه ما حكاه الرواة من أنه لما غرِقَ شبيبٌ الخارجيّ في نهر دجلة، أُحضِر الى عبد الملك بن مروان بعد غرَقِه عتبانُ بن وُصَيْلة، وقيل أُصيلة، الحروري، وكان من شُراة الجزيرة، فقال له عبد الملك: ألستَ القائل:
فإنْ كان منكُم كان مَروانُ وابنُهُ ... فمنّا أميرُ المؤمنين شَبيبُ
فقال: يا أمير المؤمنين لم أقلْ هكذا، وإنما قلت:
فمنا حُصَيْنٌ والبَطينُ وقَعْنَبٌ ... ومنا أميرَ المؤمنينَ شبيبُ
وفتَح الرّاء من أميرَ المؤمنين، فاستحسن ذلك منه وخلّى سبيله، فخلص من الموت بتغيير حركة.

ومن طريف التصحيف ما حكاه صاحب كتاب الرّيْحان والرّيعان قال: حضَر شابٌ ذكيّ بعضَ مجالس الأدب، فقال بعضُهم: ما تصحيف نصَحْتُ فخنتني؟ فقال: تصحيفٌ حسَن، فاستغرب إسراعه، وكان في المجلس شاعر من أهل بلنسية فاتهم الشاب وقال مختبراً: ما تصحيف بلنسية؟ فأطرق ساعة ثم قال: أربعة أشهر فجعل البلنسي يقول: صدق ظني فيك، إنك تدعي وتنتحل ما تقول، ويحك، والفتى يضحك، ثم قال له: اشعُرْ فأنتَ شاعر، فقال له: أي نسبة بين بلنسية وبين أربعة أشهر؟ فقال: إن لم يكن في اللفظ فهو في المعنى، ثم قام وهو يقول: هو ذاك، فتنبه بعض الحاضرين بعد حين ونظر فإذا أربعة أشهر ثلث سنة، وهو تصحيف بلنسية، فخجل المنازعُ ومضى الى الشاب معترِفاً ومعتذراً، انتهى.
وقال آخر لآخر: ما تصحيف: نصحتُ فضعتُ، فجعل لا يهتدي الى تصحيفه، فلما أعياه الأمر قال له: بالله ما تصحيفه؟ قال: تصحيفٌ صعبٌ قال له: بالله قل لي ما تصحيفه؟ قال: تصحيفٌ صعبٌ، ولم يزالا كذلك وهو يسأله وذاك لا يغيّر جوابَه ولم يهتدِ الى أنّ ذلك هو الجواب.
وقال آخر لآخر: ما تصحيف: استنصِحْ ثقةً، ففكر فيه زماناً، فلما أعياه قال: لم يظهر أيش تصحيفه، فقال له: قد أجبت ولم تعلم أنك أجبت.
وحكي أن الإمام الناصر قال لابن الدباهي وقد اشترى مملوكاً اسمه بُلَيّة: يا ابن الدباهي: ثَلَثة ثَلَثة، فقال: يا أمير المؤمنين لا تَعُدّ.
وحكي أن المتوكل قال لابن ماسويه الطبيب: بِعْتُ بيت بقصرين، فقال الطبيب: يُطَيّنُ أجُرّاً غَداً كُلّه، قال الخليفة: تعشّيتُ فضرّني، قال الطبيب: بَطّي أخِّر غِذاك له.
وقال المستنجد بالله يوماً لسعد الدين الحسين بن شبيب صاحب المخزن وقد رآه مُقبِلاً: أين شتّيْتَ؟ فقال مجيباً على الفور: ذاك عندك، يريد المستنجد ابن شبيب فقال له: عبدك.
وقيل إن ابن مُنقذ قال لابن الساعاتي الشاعر يوماً، وكان مليح الصورة: أجيء وأحدثكم، فقال ابن الساعاتي سريعاً: مُرْ وَيْكَ، أراد ابن منقذ: أخي واحد بكم، وأراد ابن الساعاتي مروءتك.
وحُكي أنّ الناصر صاحبَ حلَب وجد يوماً بعض الفلاحين مُقبِلاً فقال له: من أين أتيت يا كَيّس؟ فقال له: من ضَيعتِك يا بنش، فنقب عن أمره، إن كان يعرفُ يكتبُ أو يقرأ، فوجده أمياً، فقال: البَغْيُ مصْرعٌ.
وكان يوماً الى جانبي في بعض الأيام مَليح، فقال بعض أصحابي الفضلاء: يا مولانا سلسلة، فقلت أنا على الفور: بقناديل، فأعجبه ذلك بعدما خجل، ثم قال لي: مغفورة لسرعة جوابها وحسنها الزائد.

ولمّا وقفتُ على كتبِ أهلِ العِلم ممّنْ تصدّى لرفع التصحيف ودفع التحريف - مثل الشيخ أبي محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري صاحب المقامات، رحمه الله تعالى، فقد وضع كتاباً سمّاه درّة الغوّاص في أوهام الخَواص، وهو كتاب جيد، وذيّل عليه الشيخ الإمام اللغوي النّحوي أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، رحمه الله، وسمّاه التكملة، وقيل إنّ ابن بري أو ابن الخشاب، رحمهما الله تعالى، وضعَ على كتاب الحريري ردّاً، ولم أقِفْ عليه الى الآن، ومثل الشيخ الجليل القاضي أبي حفص عمر بن خلف بن مكي الصقلي النحوي، وضع كتاباً سمّاه تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، وكان رحمه الله محدّثاً فقيهاً لغوياً نحْوياً. ومثل الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن حسن الزبيدي، رحمه الله تعالى وضع كتاباً سمّاه ما تلحن فيه العامة، ومثل الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ الجوزي، رحمه الله، وضع كتاباً سماه تقويم اللسان، ومثل الإمام محمد بن يحيى الصّولي، رحمه الله تعالى، وضع فيما صحّف فيه الكوفيون مصنفاً صغيراً، ومثل الإمام أبي عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني، رحمه الله تعالى، وضع كتابا سماه التنبيه على حدوث التصحيف، ومثل العلامة أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، رحمه الله تعالى، فإنه وضع في التصحيف مصنفاً وقد وقفتُ على قِطعة من شرْحِه له، ومثل الضياء موسى الناسخ الأشرفي، رحمه الله تعالى، جمع أوراقاً في هذا الباب. ومثل الإمام الحافظ العلامة الناقد الحجة أبي الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، رحمه الله تعالى، وضع كتاباً في التصحيف، والنّفْع به للمحدِّث أكثر - أردت أن أنتقي من ذلك كلّه مجموعاً يُغني كلّه عن أجزاء هذه المصنّفات المذكورة والأسماء المسطورة، وأرتبَ ذلك على حروف المعجَم؛ ليكون أسهل حالة الكَشْفِ، وأسوغَ حالة الرّشْف، فهو فرْدٌ تناول ذلك المجموع، ومبتدأٌ اقتضى تلك الأخبار؛ فكان أوْلى بقول أبي الطّيّب:
ذُكِر الأنامُ لَنا فكانَ قصيدةً ... أنتَ البديعُ الفرْدُ من أبياتِها
وأحقَّ بقولِ البُحتري:
ولمْ أرَ أمثالَ الرّجالِ تفاوَتَتْ ... الى المجد حتّى عُدّ ألفٌ بواحِدِ
ولم يكن لي في هذا غير التهذيب وحُسن الرّصْفِ والتّبويب، اللهمّ إلا ما يتخللُ أثناء ذلك من تفسيرٍ وتقييد، وتقريرٍ وتمهيد، وأمّا ما عثرت عليه من التصحيف في كتاب الصحاح للجوهري فقد ذكرت ذلك مستوْعَباً في كتابي نُفوذ السّهم فيما وقعَ للجوهري من الوهْم.
وقد جعلْتُ لكلّ مصنّفٍ نقلْتُ عنه رمزاً يخصّه، وإشارة من حروف المُعجَم تنبِّه على فصِّه وتقُصّه: فعلامة كتاب درّة الغوّاص للحريري وعلامة التّكملة للجواليقي (ق) وعلامة تثقيف اللسان للصقلي (ص) وعلامة ما تلحَنُ فيه الامّة للزبيدي (ز) وعلامة تقويم اللسان لابن الجوزي (و) وعلامة كتاب ما صحّفَ فيه الكوفيون (ك) وعلامة كتاب حُدوث التصحيف (ث) وعلامة كتاب تصحيف العسكري، رحمه الله تعالى (س) وعلامة الضياء موسى الناسخ (م) فإنه جمَع في هذا الباب أوراقاً فعلتُ ذلك خوفاً من التطويل، وقد يجتمع المصنِّفُ وغيرُه على نقلِ الشيءِ الواحد فأذكر العلامتين أو الثلاث أو الأربع، ويكون المتأخّر هو صاحب العبارة.
وبالله الاستعاذة والاستعانة، وإليه الإنابةُ في الإبانة، لا إله إلاّ هو سُبحانه.

الهمزة والألف بعدها

(ص) يقولون: الآذَرَيّ. والصواب أذَريّ بالقصر، وأذْرَبيّ، على غير قياس، لأنه منسوب الى أذَرْبيجان، بفتح الذال وسكون الراء.
قلت...
(ز) ويقولون: أعطاه السلطانُ آماناً، فيمدون. والصواب أمانٌ على وزن فَعالٍ.
(ص) ويقولون في جمع صاعٍ: آصُعٌ.
والصواب: أصْوُع مثل دار وأدْؤُر، ونار وأنْوُر.
(ص) ويقولون: ومن لحوم الحمر الآنسية، بالمد. والصواب: الإنسية والأَنَسية بالقصر وفتح النون، لُغَتان.
قلت: ولهذا قال أبو الطيب:
أظبية الوَحْشِ لولا ظبيةُ الأنَسِ ... لما غدوتُ بجدٍ في الهَوَى تَعِسِ
(ص) لا يفرقون بين الآبِق والهارِبِ، ولا يسمى آبقاً إلا إذا كان ذَهابهُ في غيْر خوف ولا إتعابِ عمَل، وإلا فهو هارب.
قلت: قوله تعالى في حق يونس عليه السلام: إذْ أبَقَ الى الفُلْكِ المَشْحونِ.

(ز) ويقولون: آريٌّ لمعْلَف الدابّة. والآريّ الحبل الذي تُشدُّ به الدابة، وجمعه أوارِيّ.
(ص) ويقولون آرَنج ولارَنج. والصواب نارَنج، ولا يجوز لارَنج ولا آرَنج.
قلت: وسمعت أنا مَنْ يقول يارَنج بالياء آخر الحروف.
(ز) ويقولون اللهمَّ صلِّ علَى محمَّدٍ وآلِه، وقد ردّ ذلك أبو جعفر بن النحاس وزعم أن العرب لا تستعمل إضافة آل إلا الى المُظْهَر خاصّة، وأنها لا تضاف الى مُضمَر، قال: والصواب: اللهُمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ، وفي الحديث أن بَشيرَ بن سعد قال: يا رَسول اللهِ إنّ الله أمرنا أنْ نُصلّيَ عليكَ فكيف نصلي عليك؟ فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتّى تمنّوا أنّه لمْ يسألْه، ثم قال: قولوا اللّهُمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آلِ محمّدٍ كَما صلّيْتَ على آلِ إبراهيم، وباركْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما باركتَ على آل إبراهيم، إنّكَ حَميدٌ مَجيد.

الهمزة والباء الموحدة

(ص) ويقولون: الأبُّ والأخُّ، يشددونهما. والصواب بالتخفيف، وذكر ابن دريد أن الكَلْبيَّ قال: يقال: أخٌّ، مثقل، وأخَّة، قال ابن دريد: وما أدري ما صحته.
قلت: الأبُ، مخففاً، أصله أبَوٌ على فَعَلٍ، مُحَرَّك العين لأنّ جمعه آباء، مثل قَفاً وأقفاء ورَحىً وأرحاء، والذاهب منه الواو، لأنك إذا ثنيته قُلتَ فيه: أبَوانِ، والجمع والتثنية يردانِ الأشياءَ الى أصولها، وبعض العرب يقول: أبانِ على النقص، وفي الإضافة أبَيْكَ، وعلى هذا قرأ بعضهم: (... إلهَ أبِيكَ إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاقَ...). وقال بعضهم يوماً لشهاب الدين القُوصي: أنتَ عندنا مثل الأبِّ، وشدّد باءَها، فقال: لا جَرَمَ أنّكم تأكلونني! يعني أنهم بهائم لكونهم شدّدوا الباء، والأبُّ هو التِّبن.
يقولون: ابتعتُ عَبْداً وجاريةً أخْرَى، فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظتي آخر وأخرى وجمعها إلا بما يجانس المذكور قبله كما قال سبحانه وتعالى: (أفرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى. ومَناةَ الثّالثةَ الأخرَى)، وكما قال تعالى: (ومَنْ كانَ مَريضاً أو على سفَرٍ فعِدّةٌ منْ أيّامٍ أُخَر...)، فوصف مناة بالأخْرى لمّا جانَسَتِ العُزّى واللاتَ، ووصف الأيام بالأُخَر لكونها من جنس الشهر. والأَمَةُ ليست من جنس العَبْد لأنها مؤنثة وهو مذكر، كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر.
والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفْعَل الذي تصحبه مِنْ ويجانس المذكور بعده، ويدل على ذلك إذا قلت: قال الفِنْدُ الزِّمّانيّ وقال آخرُ، وكان تقدير الكلام: وقال آخر من الشعراء. وإنما حذفت لفظة مِنْ لدلالة الكلام عليها وكثرة استعمال آخر في النطق. وأما قول الشاعر:
صَلّى على عَزّةَ الرحمنُ وابنتها ... ليلى وصلّى علَى جاراتِها الأُخَرِ
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة ليكون الأُخَر مِنْ جنسها.
(ز) ويقولون: أُبِيع الثوبُ. والصواب: بِيعَ، بإسقاط الألف.
ومن ذلك أنهم يحذفون الألف من ابن في كل موضع يقع بعد اسم أو كنية أو لقب، وليس ذلك بمطَّرد، وإنما يحذف الألف من ابن إذا وقع صفة بين علَمين من أعلام الأسماء والكُنَى والألقاب لِيُؤذن بتَنَزُّله مع الاسم قَبْلَه بمنزلة الاسم الواحد لشدة اتصاف الصفة بالموصوف وحلوله محل الجزء منه، ولهذه العلة حذف التنوين من الاسم قبله فقيل عليُّ بن محمد، كما يحذف من الأسماء المركبة في رامهرمز وبعلبك، فما عدا هذا الموطن وجَبَ إثبات الألف فيه، وذلك في خمسة مواطن: أحدها: إذا أُضيفَ ابنٌ الى مُضمَر كقولك: هذا زيدٌ ابنُك.
والثاني: إذا أُضيفَ الى غير أبيه كقولك: المعتضد بالله ابن أخي المعتمد على الله.
والثالث: إذا نسَبتَ الى الأب الأعلى كقولك: الحسن ابن المهتدي بالله.
الرابع: إذا عُدِلَ به عن الصفة الى الخبر كقولك: إن كَعباً ابنُ لُؤَي.
والخامس: إذا عُدِل به عن الصفة الى الاستفهام كقولك: هل تميم ابنُ مُرّ؟ وذلك أنّ ابناً في الخبر والاستفهام بمنزلة المنفصل عن الاسم الأوّل.
قلت: والسادس: أن يقع ابن أوّل السطر على كل حال.
والسابع: أن يقع ابن بين وصفينِ دون عَلَمين كقول أبي الطيب:
العارِضُ الهَتِنُ ابنُ العارِضِ الهَتِنِ ابن العارِض الهَتِنِ ابن العارضِ الهَتِنِ
وكقولك: هو الأمير ابنُ الأمير، أو الفاضل ابن الفاضل.

(ص) ويقولون للمسترخي الأذنين من الخيل: أَبَدُّ، وليس هو كذلك، إنما الأبَدّ: المتباعد ما بين اليدين، وهو عيب، فأما استرخاء الأذنين فهو الخَذا.
(ز) ويقولون للطويل اللسان خِلْقَةً: أبْظَرُ. والأبظر الذي في شفته العليا نُتوءٌ وطول وسطها، وفي حديث عليّ عليه السلام لشريح: فما تقول أنت أيها العبْدُ الأبظر؟ ويقولون: ابِنه بكسر الباء مع همزة الوصل، وهو من أقبح أوهامهم وأفحش لحن، لأن همزة الوصل لا تدخل على متحرك، وإنما اجْتُلِبَتْ للساكن ليُتَوصّلَ بإدخالها عليه الى الافتتاح بنطق الساكن. والصواب فيها أن يقال ابْنة أو بنت لأن العرب نطقت فيها بهاتين الصيغتين، فمن قال ابنة صاغها على لفظة ابن ثم ألحق بها هاء التأنيث التي تسمى الهاء الفارقة، وتصير في الوصل تاء، ومن قال فيها بنت أنشأها نشأة مؤْتَنَفة.
ويقولون: أبْصَرتُ هذا الأمر قبل حدوثه. والصواب أن يقال: بصُرْتُ بهذا الأمر، لأن العرب تقول: أبصرتُ بالعين، وبَصُرت من البصيرة، ومنه قوله تعالى: (... بَصُرْتُ بما لمْ تَبْصُروا بِهِ...)، وعليه فُسِّر قوله تعالى: (فبصَرُك اليومَ حَديد)، أي: علمك نافذ، ومنه: بصير بالعلم.
(و ق) ويقول بعض المتحذلقين: الإبِط بكسر الباء. والصواب: الإبْط، بسكون الباء. ولم يأت في الكلام على فِعِل إلا: إبِل، وإطِل حِبِر، وهي صفرة الأسنان، وفي الصفات: امرأة بِلِز: وهي السمينة، وأتانٌ إبِد، تلد كل عام، وقيل التي أتى عليها الدهر.
قلت: قرأ بعض الطلبة على بعض الأشياخ إبط وحرّك الباء، فقال له: لا تحرِّك الإبْط يفح صُنانُه.
(و) ويقول العامة: أبْهَرني الشيءُ يبهُرُني. والصواب: بهَرني يبْهَرُني، بفتح الباء.
ويقولون عند نِداء الأبوين: يا أبَتي ويا أمّتي، فيثبتون ياء الإضافة فيهما مع إدخال تاء التأنيث عليهما قياساً على قولهم: يا عمّتي، وهو وهْمٌ. ووجه الكلام أن يقال: يا أبَتِ ويا أمَّتِ، بحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة، كما قال الله تعالى: (يا أبَتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ)، ويقال: يا أبَتا، ويا أمّتا، بإثبات الألف، والاختيار أن يوقف عليها بالهاء فيقال: يا أبَهْ ويا أمَّهْ.
(و) ويقولون: الأبْرَيْسَم، بفتح الهمزة والهاء، ويجوز بكسر الهمزة وفتح الراء، قال: كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور، والعامة تفتح الهمزة وتكسر الراء.
قلت: والإبريسم معرب، وفيه ثلاث لغات، والعرب تخلط فيهما ليس من كلامها، فقالوا في جَبْرائيل: جِبريل، وجَبْريل، جَبْرين بالنون، وجَبْرال. قال يعقوب بن السكيت: هو الإبرَيْسَم بكسر الهمزة وفتح الراء. وقال غيره: هو الأَبْرِيسم بفتح الهمزة وكسر الراء، وقال ابن الأعرابي: هو الإبرِيسَم بكسر الهمزة وفتح السين، وقال: ليس في الكلام افْعِيلِل بالكسر ولكن افعِيلَل مثل اهليلَج وإبريسَم.
(ص) ويقولون: أبْطَيْتَ علَيّ واستبطيْتُك. والصواب: أبطأتَ واستبطأتُك.
قلت: ويقال ما أبطأ بِك، وما بطّأ بِك، بمعنى، وبَطْآنَ ذا خُروجاً وبُطْآنَ ذا خُروجاً، أي بَطُؤَ ذا خُروجاً، فجعلت الفتحة التي في بَطوءَ على نون بُطْآن حين أدت عنه ليكون علماً لها، ونقلت ضمة الطاء الى الباء، وإنما صح فيه النقلُ لأن معناه التعجب، أي ما أبطأه.
(ص) ويقولون: أُبكِمَ الرجلُ، إذا أُرتِجَ عليه في كلامه، الصواب بَكِمَ.
(ص) ويقولون: قِدْرٌ إبرام. والصواب بِرام.
قلت: البِرام بالكسر، جمع بُرْمَة، وهي القدر.
(ق) يعنون بالبرام الحجارة، وذلك خطأ، وإنما البرام جمع برمة وهي القدر من الحجارة، كما تقول: حُلّة وحِلال، وعُلْبَة وعِلاب.
(زص) ويقولون: أُبيعَ الثوبُ، وأُزيدَ في ثمنه. والصواب: بِيعَ الثوبُ، وزِيدَ عليك.
قلت: بِعتُ الشيء: أبيعُه بَيْعاً ومَبيعاً، وهو شاذ، وقياسه مَباعاً، وبِعتُه أيضاً: اشتريته، وهو من الأضداد. قال الفرزدق:
إنّ الشبابَ لَرابِحٌ مَنْ باعَهُ ... والشيبُ ليس لبائعيه تِجارُ
ويقولون: ابْدَأْ بِه أوّلاً. والصواب أن يقال: ابْدَأ بهِ أوّلُ بالضم، كما قال معن بن أوس:
لعَمْرُك ما أدْري وإنّي لأوْجَلُ ... على أيِّنا تغْدو المَنيةُ أوّلُ

وإنما بُنِيَ هنا أوّلُ لأن الإضافة مُرادَة فيه، إذ تقدير الكلام: ابْدأ أوَّل الناسِ، فلما قُطِع عن الإضافة بُنِي كما بُنيتْ أسماء الغايات، التي هي قبل وبعد.
(زوح) ويقولون في التعجب من الألوان والعاهات: ما أبيضَ هذا الثوبَ وأعورَ هذا الفرس.
وذلك غلَطٌ، لأن العرب لم تَبْنِ فعل التعجب إلاّ من الفعل الثلاثي الذي خصّتْه بذلك لخفته. والغالب على أفعل الألوانُ والعيوبُ التي يدركها العِيانُ، فإن أردتَ التعجب من بياض الثوب قلت: ما أحسنَ بياضَ هذا الثوب وما أقبحَ عَوَرَ هذا الفرس.
قلت: يجوز أن تقول: ما أبيضَ هذا الطائر، إذا تعجبتَ من كثرة بَيْضِه، لا من بَياضِه.
(ص) ويقولون في جمع بِئْر: أبيار. والصواب في ذلك أبآر وآبار أيضاً على القلب، ومثل ذلك: أرآء وآراء، وأرآم وآرام، وأمآق وآماق.
قال الشاعر:
ورَدتُ بِئاراً مِلحَة فكَرِهْتُها ... بنَفْسيَ أهْلي الأوّلونَ ومالِيا

الهمزة والتاء المثناة من فوق

(ص) ومن ذلك الأتْراب يكون عندهم الذكور والإناث. وليس كذلك، وإنما الأتراب الإناث خاصة، لا يقال: زيد تِرْبُ عمرو، وإنما يقال: زيد قِرْن عمرو، وهند تِرْب دعد. وقال بعضهم: أكثر ما يستعمل في الإناث وقد يكون للذكور. والقول الأول أشهر.
قلت: قال الجوهري: قولهم: هذه تِرْبُ هذه، أي لِدَتُها، وهنّ أتراب. انتهى.
قلت: وقوله تعالى: (قاصِراتُ الطّرْفِ أتْرابٌ) يؤيد القول الذي رجحه الصقلي.
(ز) ويقولون أتيتُ هي الأيام، وقعدت في هو المكان. والصواب: أتيتُ تلك الأيام، وقعدت في ذلك المكان. وليست هذه المواضع من مواضع هو ولا هي، لأنهما من ضمائر الرفع، ولا تفارقه إلا إذا أكدت بهن فإنهن يقعن للمجرور والمنصوب، تقول: رأيته هو، ومررت بك أنت.
(ص) ويقولون: اتّخَم الرجل، إذا أضرّ به الشِّبَع، والصواب أُتْخِم، فهو مُتْخَم، على ما لم يسمّ فاعله.
قلت: يريد أنهم يشددون التاء ويفتحونها، والصواب أن تخفف وتسكن.
(ص) ويقولون:
يا بيتَ عائكة التي أتعَزَّلُ ... ............
والصواب: الذي اتعزَّلُ قلت: هذا البيت لمحمد الأحوص الأنصاري وتمامه:
حذَرَ العِدى وبه الفؤادُ موَكَّلُ
والتقدير فيه: الذي أتعزله أنا، ولقد رأيت جماعة من أهل عصري الفضلاء ينشدونه: التي أتغزل، بالغين المعجمة، وهو بالعين من العُزْلَة والاعتزال، فيغلطون فيه في موضعين.
(ز) ويقولون للولدين في بطن واحد: أتْوام، والصواب: توْأمان، الواحد توأم، وأتأمت المرأةُ إذا ولدتْ توأمين.

الهمزة والثاء المثلثة

ومن جملة أوهامهم أن يسكّنوا لام التعريف في مثل الاثنَين، وقطعوا ألف الوصل احتجاجاً بقول قَيْس بن الخَطيم:
إذا جاوزَ الإثنين سِرٌ فإنه ... بِنَثٍّ وتكثير الوُشاةِ قمينُ
والصواب في ذلك أن تُسْقَطَ همزة الوصل وتُكْسَر لام التعريف، والعلة في ذلك أنه لما دخلت لام التعريف على هذه الأسماء صارت همزة الوصل حشواً، والتقى من الكلمة ساكنان: لام التعريف والحرف الساكن الذي بعد همزة الوصل، فلهذا وجب كسر لام التعريف، وأما البيت فمحمول على الضرورة، على أن أبا العباس المبرد ذكر أن الرواية فيه:
إذا جاوزَ الخِلَّيْنِ ...
قلت: وقد أحسن، وبالغ في الأمر بحفظه السرّ وألاّ يخرج من فم صاحبه، مَنْ فسّر الاثنينِ في بيت قيس بن الخطيم، أن المراد بذلك الشفتان.
(وق) ويقولون: رجل أثَطّ. وإنما هو ثَطّ، قال الشاعر:
كلِحيةِ الشّيْخِ اليَماني الثّطِّ
(ص) وقولهم: أثَرٌمّا أصله عند العرب: افعَلْ ذلك آثِراًمّا، أي أوّل شيء، فغيروه.
يقولون: لقيتهما اثْنَيْهما، مقايسة على قولهم: لقيتهم ثلاثتهم، فيوهمون في الكلام والمقايسة وهمين، لأن العرب تقول في الاثنين لقيتهما، من غير أن تفسّر الضمير، وتقول رأيتهم ثلاثتهم، فتفسر الضمير، فإن أرادت أن تخبر عن أفرادهما باللقاء قالت: لقيتهما وحدهما، والفرق بين الموضعين أن الضمير في لقيتهما مثنى، وهو لا تختلف عدّتُه، وفي ثلاثتهم وخمستهم مبهم غير محصور، فاحتيج الى تفسيره.
(ك) حدثنا عبد الله بن المُعتزّ، قال: حدثني محمد بن هُبَيْرَة، صَعوداء قال حضرت أنا وأبو مُضَر مجلس محمد بن حبيب وهو يملي:

إني إذا ما الليلُ كان ليلين
ولجلج الحادي لسانا اثنين
لم تُلفِني الثالث بين العِدْلَين
فقال لي: أبو مضر: غيّره والله، فسئل عن تفسير لسانا اثنين فلم يأتِ بشيء، فقال أبو مضر: أنشدنيه الناس:
ولجلج الحادي لسانا ثنيين
أي ثنى لسانه من شدة النعاس ولجلج.
قال صعوداء: وصدق أبو مضر، وقد قال ذو الرمة:
والنوم يسْتَلِبُ العَصا من رَبِّها ... ويلوكُ ثِنْيَ لِسانِه المِنْطيقُ

الهمزة والجيم

(ص) ويقولون: أجبنُ مِن صافِرة. والصواب مِن صافِر.
(ص) ويقولون: أُجْبِلَ الشاعر، إذا انقطع.
والصواب: أجْبَلَ، وأصله من: أجْبَلَ حافِرُ البئر، إذا وصل الى الجبل فلم يستطع الحَفْرَ، وكذلك أكْدى، إذا وصل الى الكُدْيَة.
قلت: يريد أنهم يقولون أُجْبِل بضم الهمزة وكسر الباء، على ما لم يُسَمَّ فاعله، والصواب فتح الهمزة والباء، على وزن أفْعَلَ.
(وح) يقولون للقائم اجلِسْ والاختيار، على ما حكاه الخليل بن أحمد، أن يقال لمن كان قائماً: اقعُدْ، ولمن كان نائماً أو ساجداً اجلسْ، وعلل بعضهم لهذا الاختيار بأنّ القعود هو الانتقال من عُلْو الى سُفْل، ولهذا قيل لمَن أصيب برجليه: مُقْعَد، والجلوس هو الانتقال من سُفْل الى عُلْو، ومنه سميت نَجْد جَلْساً لارتفاعها، وقيل لمَنْ أتاها جالِسٌ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز للفرزدق:
قُلْ للفرزدقِ، والسفاهةُ كاسمِها ... إنْ كنتَ تارِكَ ما أمرتُكَ فاجْلِسِ
أي: اقصد نجْداً، ومعناه: أنه لما تولى المدينة قال له: إن تلزم العفاف وإلا فاخرج الى نجد.
(وص ز) ويقولون للكُمّثرى إجّاص. والإجاص ضرب من المشمش، وأنشدنا أبو علي عن الأصمعي:
أكُمّثرَى تَزيدُ الحلقَ ضِيقاً ... أحَبُّ إليك أم تينٌ نَضيجُ
(ز) ويقولون: رجل أجعد. والصواب: جَعْدٌ وأنشد سيبويه:
قالت سُلَيْمى لا أحبُّ الجَعْدينْ
ولا السِّباطَ، إنّهم مَناتِينْ
ويقولون: اجتمعَ فلانٌ مع فلانٍ، فيوهمون فيه. والصواب: اجتمع فلانٌ وفلان، لأن اجتمع على وزن افْتَعَل. وافْتَعَل مثل اختصم واقتتل، وما كان أيضاً مثل تَفاعَلَ - مثل تخاصم وتقاتل - يقتضي وقوعَ الفعل من أكثر من واحدٍ، ومتى أسند الفعلُ منه الى أحد الفاعلين لزم أن يُعطَف عليه الأخرُ بالواو لا غير.
ويقولون: جاء القومُ بأجمَعِهم، لتوهم أنه أجمَع الذي يؤكَّدُ به في مثل قولهم: هوَ لكَ أجمَع، والاختيار أن يقال بأجمُعِهم، بضم الميم لأنه مجموعٌ جُمِع فكان على أفْعُل، كما يقال فرْخ وأفْرُخ، وعبْد وأعْبُد، ويدل على ذلك أيضاً إضافته الى الضمير وإدخالُ حرف الجرّ عليه.
وأجمع الموضوع للتوكيد لا يضاف ولا يدخل عليه الجارّ بحالٍ، ونظير أجمُع قولهم في المثل المضروب لمَنْ كان في خصب ثم صار الى أمرعَ منه: وقع الرَّبْع على أرْبُع، يعنون بأرْبُع جمعَ رَبيع.
(ز) ويقولون: أُجِيرَ. والصواب جِيرَ بحذف الألف.

الهمزة والحاء المهملة

(ص) ويقولون للذّكَر من المَعْز، إذا كان أحمرَ الى السواد: أحَوٌّ، والصواب: أحْوَى، والأنثى حَوّاء بالمدّ، يقال: فرس أحوى، وهو الوَرْد الأحَمُّ، والحُمَّة، والحُوّة سَواءٌ.
قلت: يريد أنهم يحركون الحاء بالفتح، والصواب سكونها وفتح الواو مخففة على وزن أحْلى.
(و) ويقولون: أنا أحُسُّ بكذا، بفتح الألف وضم الحاء. والصواب: أُحِسُّ، بضم الألف وكسر الحاء.
قلت: لأن أصله أحسَسْت بالشيء، فأنا أُحِس به، وليس هو من حَسَسْتُ أَحُسُّ.
(ز) ويقولون لجمع الحِدأةِ: أحدِيَة. والصواب: حِداء وثلاث حِدْآت، قال: قرأت في كتاب الأدب في جماعة الحِدَأة: حِدْآنٌ، فردّ عليّ أبو عليّ: حِدّان، بتشديد الدال، فراجعته وقلت: إنّ التشديد لا أصلَ له، فقال: هو من الجمع الشاذّ. ولا أحسِبُ الذي ذكَرَهُ إلا غلَطاً.
ويقولون: فعلته لإحازَةِ الأجْر. والصواب أن يقال: حِيازة، لأن الفعل المشتقّ منه حازَ، ولو كانت الهمزة أصلاً في المصدر لالْتَحقتْ بالفعل المشتق منه كما تلحق بالإرادة من أرادَ.
ويقولون: أحْدَرْتُ السفينةَ. ووجه الكلام أن يقال: حدَرْتُها، فهي محْدورة وقد آنَ حَدْرُها.

الهمزة والخاء

(ص) ويقولون في جمع خَبيث: أخْباث. والوصاب: خُبَثاء، مثل ظريف وظرفاء.
(ص) ويقولون: أخْلَعَ السلطانُ على فلانٍ وأكْساهُ. والصواب: خلَعَ عليه وكَساه.
(ص) ويقولون: أُخِيرَ لك في كذا. والصواب: خِيرَ لك، ويقال أيضاً: وكذلك يقول أحدُهم: أُخِفْتُ، والصواب: خِفْتُ.
ويقولون لمَنْ أتى الذنبَ مُتعَمِّداً: أخطأ، فيُحَرِّفون اللفظَ والمعنى، لأنه لا يقال أخطأ إلا لمَنْ لم يتعمد الفعلَ، أو لمَن اجتهد فلم يُوافِق الصوابَ، وإياه عَنى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا اجتهدَ الحاكمُ وأخطأ فلَه أجْر). وإنما أوجبَ له الأجرَ عن اجتهاده في إصابة الحقّ الذي هو نوع من أنواع العبادة، فأما المُتَعَمِّدُ الشيء فيقال له: خَطِئَ فهو خاطِئٌ والمصدر الخِطْء بكسر الخاء وإسكان الطاء، كما قال تعالى: (إنّ قَتْلَهُم كان خِطْئاً كَبيراً)، وقال الحريريّ رحمه الله تعالى:
لا تخطُوَنّ الى خِطْءٍ ولا خَطأٍ ... مِن بعدِ ما الشّيبُ في فَوْدَيْكَ قد وَخَطا
وأيُّ عُذْرٍ لمَنْ شابتْ مَفارِقُهُ ... إذا جرى في مَيادينِ الهَوى وَخَطا
(وح) ويقولون عند الحُرْقَة ولَذْعِ الحَرارة المُمِضّة: أخّ، بالخاء المعجمة من فوق، والعرب تنطق بهذه اللفظة بالحاء المهملة، وعليه قول عبد الشارق:
فَباتُوا بالصّعيدِ لهُم أُحاحٌ ... ولو خفتْ لنا الظَّلْما سَرَيْنا
وحكي أن الحجاج لما نازله شبيبٌ الخارجيّ أبرزَ إليه غُلاماً وألبسه سلاحَه المعروفَ به وأركبه فرسه الذي لم يقاتل إلا عليه، فلما رآه شبيبٌ غمس نفسه في الحرب الى أن خلَصَ إليه، فلما قاربه ضربه بعمود كان في يده وهو يظن أنه الحجاج فلما أحسّ الغلامُ حرارةَ الضربة قال: أخّ، بالخاء المعجمة، فعلم شبيب بهذه اللفظة أنه عبْد، فانثنى عنه وقال: قبحك الله يا بن أمِّ الحجاج، أتتقي الموت بالعبيد؟! (ص ح) ويقولون: كلّمتُ فلاناً فاخْتلَطَ، أي اختلّ رأيُه وثار غضبه، فيحرفون فيه، لأن وجه الكلام فاحتلَطَ، بالحاء المغفلة لاشتقاقه من الاحتلاط وهو الغضب، ومنه المثل: أوّلُ العِيّ الاحتلاط، وأسوأ القول الإفراط.
(ز) ويقولون: نحْوٌ أخْفَشُ وشِعرٌ أخْطَلُ. والصواب نحْوُ الأخفشِ وشِعْرُ الأخطل، لا يجوز حذف الألف واللام.
(ص) ويقولون: فلان اختفى، بمعنى استتر، وليس كذلك، إنما اختفى بمعنى ظهَرَ، فأما المُسْتَتِر فهو المُسْتَخْفِي، يقال: استخفى إذا استتر، واختفى إذا ظهر، ومنه قيل للنّبّاش مُخْتَفٍ.
قلت: خفيت الشيء أخفيه: كتمته، وخفيته: أظهرته، وهو من الأضداد، كذا قال الأصمعي وأبو عبيدة، ويقال: خَفا المطرُ الفأرَ، إذا أخرجهن من أنفاقهنَ، وبَرِحَ الخَفاءُ، أي وضح الأمر، وخَفا البرقُ يخْفو خَفْواً ويخْفي خَفْياً: إذا لمع ضعيفاً في نواحي الغَيْم.
(ز) ويقولون: أُخيفَ. والصواب: خِيْفَ، بإسقاط الألف.
(و) والعامة تقول: اختفيتُ منه. والصواب: استخفيتُ، وإنما الاختفاء الاستخراج، ومنه قيل للنباش مخْتَفٍ.

الهمزة والدال المهملة

(ص) ويقولون: أدانَ اللهُ لَنا على العَدوّ. والصواب: أدالَ باللام.
قلت: يريد أنهم يقولونه بالنون بدل اللام.
(و) ويقولون: أدْلَجَ الرجل، خفيفة، إذا سار أولَ الليل، وادّلجَ بتشديد الدال، إذا سار من آخرِه، والعامة لا تفرق بين ذلك.
(ز) ويقولون: جاءَ على إدْراجِه. والصواب: على أدْراجِه، واحدها دَرَجٌ، وهو المشي، وأنشد سيبويه:
أنَصْبٌ للمنيةِ يعْتَريهمْ ... أناسٌ أم هُمُ درَجُ السّيولِ
قلت: يريد أنهم يكسرون الهمزة من أدراجه، والصواب فتحها، وعلى أدراجه، أي على بَدْئِه.
(خ) ويقولون: أُدْخِل باللصّ السجن. والصواب أن يقولوا: أُدخِلَ اللصُّ السجنَ، لأن الفعل يُعدّى تارة بهمزة النقل كقولك: خرج وأخرجته، وتارة بالباء كقولك: خرج وخرجت به، فأما الجمع بينهما فممتنع. وقد اختلف النحاة هل بين حَرْفَي التعدية فرق أو لا؟ فقال الأكثرون: هما بمعنى حملته على الخروج، وإن قلت: خرجت به، فمعناه أنك استصحبته، والقول الأول أصح، بدلالة قوله تعالى: (ذهبَ اللهُ بنُورِهم).
(ز) ويقولون: أُديرَ به. والصواب: دِيرَ بِهِ، بإسقاط الألف.

(و) والعامة تقول: أدْفَقْتُ الإناء، بزيادة الألف. والصواب: دَفَقْتُه أدْفِقُه بكسر الفاء.

الهمزة والذال المعجمة

(ص) يقولون: اذْرَءُوا الحُدودَ بالشبهات. والصواب: ادْرَءُوا بالدال غير المعجمة، قال الله عز وجل: (ويَدْرأُ عنها العَذابَ...).
قلت: وقوله (فادّارَأتُمْ فيها)، فتدافعتم فيها.
(م ز) يقولون: سمعنا الآذان، وقد أذّنَ الأولى، وأذن العصر.
قال: وذلك كله خطأ، والصواب: الأذان على وزن فضعال، وقد أُذِّن بالأولى وبالعصر، وفيه لغة أخرى، يقال: الأَذين وأنشدنا أحمد بن سعيد، قال: أنشدنا الشَّيْرَزي لجرير يهجو الأخطل:
هلْ تَشهدونَ من المشاعِر مَشْعراً ... أو تَسمَعون لدى الصلاةِ أذينا
(ص) ويقولون: أذَاني زيدٌ وما يأذيك غيرُ نفسِك.
والصواب: آذاني بالمدّ، وما يُؤذيك غيرُ نفْسِك.
(ص) ويقولون: فأذاهُ القمل، بالقصر. والصواب: فآذاه بالمدّ، قال الله تعالى: (لا تكونُوا كالذينَ آذَوْا مُوسى...).
(س) ادّعى الأصمعيّ على المفضل تصحيف أبياتٍ منها قول أوس:
تركتُ الخَبيثَ لم أشارك ولم أذُقْ ... ولكن أعفَّ اللهُ كسبي ومَطْعمي
رواه بالذال المعجمة، وإنما هو بدال مهملة مكسورة، من وَدَقَ يَدِقُ، أي لم أدْنُ منه.

الهمزة والراء

(ص) الأرامل لا يعرفونها إلا النساء اللاتي كان لهن أزواج ففارقوهن بموت أو حياة، وليس كذلك، بل الأرامل، المساكين، وإن كان لهن أزواج، ويقال لجماعة المساكين من الرجال أيضاً أرامل.
قال الشاعر:
هذي الأراملُ قدْ قَضيتَ حَاجَتَها ... فمَنْ لحاجةِ هذا الأرْمَلِ الذّكَرِ
(ص) وكذلك لا يقال: أرْجَعَ، في شيء، إلا في قولهم: أرْجَعَ يده في كُمِّه وما سوى ذلك فإنما يقال فيه: رَجَعَه يرْجِعُه، قال تعالى: (يرْجِعُ بعضُهُمْ الى بعضٍ القوْلَ...).
قل: هذيل وحده تقول: أرجعه غيره، وقوله تعالى: (يرجِعُ بعضُهُم الى بعضٍ)، أي يتلاومون.
(ص) ويقولون: أرشَيتُ السلطان. والصواب: رَشَوْته بغير همز.
ويقولون في جمع أرض: أراضٍ، فيخطئون فيه، لأن الأرض ثلاثية، والثلاثي لا يجمع على أفاعل. والصواب أن يقال في جمعها أرَضُون.
(و) ويقولون: أرْضون بسكون الراء. والصواب فتحها.
(زح) ويقولون: هبّت الأرياحُ، مقايسةً على قولهم رِياح. وهو خطأ بيّنٌ، والصواب أن يقال: هبّت الأرواح، كما قال ذو الرّمة:
إذا هبّت الأرواحُ من نحو جانبٍ ... به أهل مَيّ هاج قلبي هبوبُها
والعلة في ذلك أن أصل رِيح: رِوْح، لاشتقاقها من الرّوح، وإنما أبدلت الواو ياء في ريح ورياح للكسرة التي قبلها، فإذا جُمعت على أرواح فقد سكن ما قبل الواو وزالت العلة. ومثله ثَوْب وحَوْض، يقال في جمعه: ثِياب وحِياض، وإذا جمعوها على أفعال قالوا: أثواب وأحواض.
(ص) ويقولون: أرْخَةٌ، ويجمعونها على أراخ. والصواب: أرْخٌ، والجمع إراخ كقولك: بحْر وبحار، وكلب وكلاب.
قلت: الإراخ بقر الوحش، والواحدة أرْخٌ بفتح الهمزة وسكون الراء، والصقلي فسّرها في كتابه تثقيف اللسان أنها البقرة الوحشية.
(ص) ويقولون: الأُرْجُوَان، ولا يعرفونه إلا الصّوف الأحمر، وليس كذلك، بل هو كل أُرْجُوان أحمر، صوفاً كان أو غيره.
(ص) ويقولون: هذه الدار لها حُدودٌ أرْبعٌ. والصواب: أربعة، لأن الحَدَّ مذكّر.
(ز) ويقولون لضرب من الحَلْي يُتخَذ في المعاصم: أرَاق، قال: والصواب: يارَق ويارَقان ويقال إن أصله بالفارسية يارجان.
ويقولون: أرْحِيَة في جمع رَحَى. والصواب: أرْحاء، لأن الثلاثي عي اختلاف صيغته يجمع على أفْعال، لا على أفعِلَة.
ويقولون: ارتضع بلَبنه في رضيع الإنسان. والصواب: ارتضع بِلبانِه، لأن اللّبَن هو المشروب، واللِّبان هو مصدر لابَنَهُ، أي شاركه في شُرب لبنه قال الأعشى:
رَضيعَيْ لِبانِ ثَدْيِ أمٍ تَحالَفا ... بأَسْحَمَ داجٍ عوْضُ لا نَتفرَّقُ
(و) ويقولون: قد ارْتُجّ على فلان الكلامُ والصحيح أُرْتِجَ.
قلت: يريد أنهم يشددون الجيم، والصواب تخفيفها.
(و) ويقولون: الأرْبِعون، بكسر الباء. والصواب فتحها.
قلت: الباء في الأربِعاء، من اليوم المعروف، بكسرها وضمها وفتحها.

ويقولون للاثنينِ: ارْدُدا، وهو من مفاحش اللحن، ووجه الكلام أن يقال لهما: رُدّا، كما يقال للجميع: رُدّوا، والعلة فيه أن الألف التي هي ضمير المثنى والواو التي هي ضمير الجمع يقتضيان لسكونهما تحريك آخر ما قبلهما، ومتى تحرك آخر الفعل حركة صحيحة وجب الإدغام، وهذه العلة مرتفعة في قولك ذلك للواحد ارْدُدْ، فلهذا امتنع القياس عليه.
(ز) ويقولون: أرْدَفْتُ الرّجُلَ، إذا جعله خَلْفَه راكباً، والصواب: ارتَدَفْتُه، أي جعلته رِدْفي، فإذا ركب الرجل خلف الرجل قلت: ردفته وأردفته، أي صرتُ رِدْفاً له، قال الشاعر:
إذا الجوزاءُ أردفت الثريا ... ظننت بآلِ فاطمةَ الظنونا
ودابة لا ترادف، أي لا تحمل الرديف، وقولهم لا تُردف خطأ.
لا تُرادفُ. مَبْنَى المفاعلة على الاشتراك في الفعل، فهو بهذا ألْيَقُ، والعرب تقول: ترادَفَتِ الأشياءُ، إذا تتابعتْ، وأهل القوافي يسمون الشِّعر الذي تتوالَى الحركةُ في قافيته المترادف. وإنما سُمّي الرِّدْف رِدْفاً لمجاورته الرِّدف، وهو العجُز، ويقال: جمل مُرادِف أي عليه رديف، وقُرئ: (بألْفٍ منَ المَلائِكَةِ مُرْدَِفينَ)، بكسر الدال وفتحها، فمن كسرها أراد: متتالينَ في العدد، ومن فتح أراد: أُردِفوا بغيرهم.
(و) والعامة تقول أرْدَفته. والصواب ردَفْتُه.
(و) والعامة تقول: أرفدته. والصواب رَفَدْتُه، بغير ألف.
(و) والعامة تقول: أرسنتُ دابّتي. والصواب: رسَنتُها، بغير ألف.
(و) والعامة تقول: أرْدَمْتُ البابَ، فهو مُرْدَم. والصواب: ردَمْتُه فهو مرْدوم.
(و) والعامة تقول: أُرمينَية، بضم الهمزة، والصواب كسرها.
(م) ويقولون امرأة أرملة، للتي لا زوج لها، وأصلها من قول العرب: عامٌ أرْمل وسنة رَمْلاء: إذا كانت قليلة المطر.
(س) سمعتُ مَنْ يَحْكي عن عبد الله بن مُسلِم بن قُتَيبة قال: قال أبو عبيد في كتاب الأمثال: فلان يحْرقُ الأُرَّمَ، ولو كانت الأضراس لكانت الأُزَّم، بالزاي، وذهب الى الأَزْم، وهو العضّ، وأغفل الأرَّم، وإنما سُميت الأضراب أُرّماً لأن الأرْم الأكلُ، يقال: أرَمَ البعير يأرِمُ أرْماً فهو آرِم، والجمع الأُرَّم، وأنشد:
حَبَسْنا وكانَ الحَبْسُ منّا سَجيّةً ... عصائب أبْقَتْها السنونَ الأوارِمُ
يعني التي أكلت المالَ.

الهمزة والزاي

(ص) ويقولون: أزْدَشير بن بَابِك. والصواب: أرْدَشير، والصواب براءين وفتح الباء.
قلت: يريد الراء التي بعد الهمزة والراء التي في آخر الاسم وفتح الباء الثانية من بابَك.
(ق ح و) والعامة تجعل أزِفَ بمعنى حضَرَ ووقع، وبعضهم يريد به أنه ذهب وانصرم، وهو بمعنى أنه قرُبَ، قال الله تعالى: (أزِفَتِ الآزِفَة).
ويقولون: أزْمَعْتُ على المَسير. ووجه الكلام: أزمعتُ المَسيرَ، كما قال عنترة:
إنْ كُنتِ أزمعتِ المَسيرَ وإنّما ... زُمّتْ رِكابُكُمُ بلَيْلٍ مُظلمِ
(ق) ومن ذلك قولهم للشيء إذا كرهوا ريحَه: ما أزفَرَه! وإنما الكلام أن يقال: أذفَره، بالذال المعجمة، والذَّفَرُ حِدّةُ رِيحِ الشيء الطيب والشيء الخبيث الريح، قال الشاعر:
ومُأَوْلَقٍ أنضجتُ كَيّةَ رأسِه ... وتركتُه ذَفِراً كريح الجَوْرَبِ
(وز) ومن ذلك قولهم: الأزَليّ قبْلَ خَلْقِه، ولم يزَلْ واحداً في أزَليّتِه، وكان هذا في الأزَل. قال: وذلك كله خطأ لا أصل له في كلام العرب، وإنما يريدون المعنى الذي في قولهم: لم يزَلْ عالِماً، ولا يصح ذلك في اشتقاق ولا تصريف، وقد أولِع بالخطأ في هذا أهل الكلام والمدعون لحدود المنطق، حتى غَرّ ذلك جماعة من الخطباء فأدخلوه في خطبهم، ولا يجوز لأحد أنْ يصِفَ اللهَ بغيرِ ما وصَفَ بهِ نفسَه في مُحْكَمِ وحْيه أو ما ثَبَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صحت الكلمةُ في الاشتقاق والتصريف.
(ز) ويقولون: إزرار القميص، يريدون الواحِدَ، ويجمعونه على أزِرّة. قال: والصواب: زِرُّ القميص، والجمع أزرار، ويقال: زَرَّ قميصَه يَزُرّه زَرّاً، إذا شدّهُ على نفْسِه، وزرّرَه، إذا جعل له أزراراً، وقال اليزيديُّ: أزررتُ القميصَ، إذا جعلتَ له أزراراً.

(ز) ويقولون: أزجَلَتِ الدابة بالوَلد، إذا رَمَتْ به، والصواب: زجَلَتْ به، إذا رمته لغير تمامٍ، والزَّجْل الرّمْيُ، يقال: زجَلْتُ الشيء؛ إذا قذفتَ به، قال ذو الرّمة:
أرَبَّتْ عليها كلّ هوْجاءَ رادَةٍ ... زَجولٍ بجَوْلانِ الحَصى حين تُسْحَقُ

الهمزة والسين المهملة

(ز) ويقولون: اسْتَكْتَلَ في الأمر، إذا جدّ فيه، بالكاف، والصواب استَقْتَل، وأصله من القَتْل، وقد غلِطَ فيه بعضُ أهل الآداب.
قلت: قال الجوهريّ في صحاحه: استقتلَ الرجلُ، أي استماتَ، ثم قال: تقتَّلَ الرجلُ بحاجَتِه، تأتّى لها. وهذا أنسبُ من الأول.
(ز) ويقولون: استهْتَر الرجلُ فهو مُستَهتِر. والصواب: استُهْتِرَ فهو مُستَهْتَرُ، وهو الذي يخلِّطُ في أفعاله حتى كأنه بلا عقل.
قلت: الهِتْر بالكسر، السَّقَطُ من الكلام يقال فيه هِتْر هاتر، وهو توكيد، قال أوس بن حجر:
............ ... تراجع هِتْراً من تُماضِرَ هاترا
وأُهْتِر الرجلُ فهو مُهتَر، إذا صار خَرِفاً من كِبَرِه.
(ز) ويقولون: اسْتَضْحَك الرجلُ. والصواب: استُضحِكَ، وفي الحديث: أنّ عكرمة بن أبي جهل بارَزَ يوم أُحُد رجلاً من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فاستُضحِك النبي، صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما أضحكك يا رسول الله وقد فُجِعْنا بصاحبِنا؟ فقال: أضحكني أنهما في دَرجة واحدة في الجنة. ثم أسلم عكرمة، رضي الله عنه، يوم الفتح.
(ز) ولا يقولون: إسكافٌ إلا للخرّاز خاصة. وكلّ صانعٍ عند العرب إسكاف وأُسْكوف، قال الشاعر:
وشُعبَتا مَيْسٍ بَراها إسْكافْ
أي نجار.
(ز) ومن ذلك الاستحمام يكون عندهم بالماء الحار والبارد، وليس كذلك إنما الاستحمام بالماء الحار خاصة.
قلت: الحَمّة العينُ الحارّةُ يَسْتَشْفي بها الأعِلاّءُ والمرضى، وفي الحديث العالِمُ كالحَمّة، وحَمَمْتُ الماءَ، أي سخّنْتُه.
(ز) ويقولون: اسْفَرجل، والخاصة تقول سَفُرجُل بضم الجيم. والصواب: سَفَرجَل، بفتحها. وفي الحديث: إذا وجدَ أحدُكم طخاءً على قلبِه فليأكل السّفَرْجَل.
(ز) ويقولون: واثلة بن الأسْفع. والصواب الأسْقَع، بالقاف، فأما قوله صلى الله عليه وسلم: إنْ جاءتْ به أُسَيْفِع، فهو بالفاء تصغير أسْفَع، من السواد.
(ز) ويقولون: إذا استبريتَ الأمَة. والصواب: استبرأت، بالهمز.
(ز) ويقولون: أسْدَلْتُ عليه السِّتْرَ. والصواب سَدَلْتُه.
(ص) ويقولون: استرِحْتُ من كذا. والصواب استَرَحْتُ بفتح الراء.
(ص) ويقولون: استَيْمَنْتُ برؤيتك، واستطرت برؤية فلان. والصواب تيمَّنْتُ، وتطيّرْتُ.
(و) والعامة تقول: الإسكاف. والصواب: الأسكف، أنا ابن ناصر أنا أبو محمد بن السراج أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري أنا أبو عمر بن حَيّوَيْه أنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد صاحب ثعلب، عن ابن الأعرابي قال: العرب تقول: هو الأُسكف، للذي تسميه العامة الإسكاف، قال: والإسكاف عند العرب كل صانع.
(ز) ويقولون: أُسْطُوان للبيت الذي يشرَعُ الى الفناء، والصحيح أنّ الأسطوانَة الساريةُ، وكذلك سارية المسجد، وفي الحديث: أنّ أبا لُبابَة شدّ نفسَهُ الى أسطوانة المسجد، وهي الآسية أيضاً.
(ص) ويقولون: استغفار الميت، وهو خطأ، والصواب: استثفار، بالثاء، وهو شَدُّ مِئْزَرِه.
قلت: يريد الثاء المثلثة.
(م) ويقولون: اسطبل. والصواب: اصطبل، بالصاد، وجمعه أصاطب، وتصغيره أُصَيْطب.

الهمزة والشين المعجمة

ويقولون: فلان أشَرُّ من فلان. والصواب أن يقال: هو شَرٌ من فلان، بغير ألف، كما قال تعالى: (إنّ شَرَّ الدّوابِّ عندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ...)، وكذا فلان خير من فلان، بحذف الهمزة، لأن هاتين اللفظتين كثُرَ استعمالهما في الكلام، فحذفت الهمزة تخفيفاً ولم يلفظوا بها إلا في أفعل التعجب خاصةً، كما صححوا فيه المعتل فقالوا: ما أخيرَ زيداً، وما أشرَّ عَمْراً، كما قالوا: ما أقولَ زيداً. وكذلك قالوا في الأمر: أخْيرْ بزيدٍ، وأشرِرْ بعَمْرو.
ويقولون: اشتدّ ساعِدُه. والصواب: اسْتَدّ بالسين المهملة، المراد به السداد في المَرْمَى، وعليه قول امرئ القيس:
أعلّمُه الرمايةَ كُلَّ يومٍ ... فلما استدّ ساعِدُه رَماني

وقد رواه بعضهم بالشين المعجمة، وأراد به القوة.
(ص) الذي رواه أبو يعقوب بن خُرّزاذ وغيره من جِلّة العلماء بالسين غير المعجمة، قال: وسمعت أبا القاسم بن أبي مخلد العُماني يأخذ على رجل أنشده بحضرته بالشين فقال: معنى استدّ: صار سديداً، والرميُ لا يوصف بالشدة، وإنما يوصف بالسداد وهو الإصابة.
(ص) وكذا قول الأعشى:
وقد أُخرِجُ الكاعبَ المُسْتَرا ... ةَ مِن خِدْرها وأُشيعُ القِمارا
يقال: استريت الجارية، اخترتها سُرّيّةً، فهو بالسين مهملة، ومن رواه بالشين معجمة فقد وَهِم.
(ق ص) ويقولون: اشترّت الماشية. والصواب: اجْترّتْ. وهو أن تجتَرّ ما في بطنها، ومن أمثالهم: لا أكلِّمُك ما اختلفت الجِرّةُ والدِّرة، الدِّرةُ: اللبن، واختلافهما لأن الجِرّة تعلو الى الفم، والدِّرة تَسْفُل الى الضَّرْع.
(ص) ويقولون للفرس الأبيض: أشْهب، وليس كذلك، إنما يقال: هو أبيض وقِرْطاسيّ، فأما الشُهْبَة فهي سواد وبياض.
(ص) ويقولون للكُمَيْت، أو الأشقر تخالط شُقْرتَه شعرة بيضاء: أشْعَل. وليس كذلك، إنما يقال له صِنابيّ، نُسِب الى الصِّناب، وهو الخَرْدل والزبيب، فأما الأشعل فهو الذي في عُرْض ذَنَبِه بياض.
(و) تقول العامة: أشليتُ الكلبَ، إذا حرضته على الصيد وأغريته. وهو خطأ، والصواب: أشليته، إذا دعوته إليك.
قلت: وقد جاء أشليت: أي أغريته على الصيد.
(و) تقول العامة: اشْتَوى اللحم، والصواب: انْشَوى.
قلت: هم يقولونه بالتاء المثناة من فوق بعد الشين، والصواب فيه بالنون بعد الهمزة.
(و) وتقول العامة: أشفارُ العين، الشعرُ النابتُ على الأجفان. وهو خطأ، وإنما الأشفار حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر.
(ز) ويقولون: أشحنتُ صَدْرَه، إذا غِظْتَه. والصواب: خشّنْت صدْرَه وخشّنت بصدره وزعم سيبويه أن الباء هاهنا زائدة. ويروون أن أحمد بن المعذَّل كتب الى أخيه عبد الصمد في بعض رسائله: إنّك قد خشّنتَ بصَدْرٍ قلبُه لكَ ناصِح.
(ز) ويقولون: أشْحَنتُ السفينةَ. والصواب: شحَنْتُها.
(و) ويقولون: اشْتَكَتْ عيْنُه، وهو غلط، والصواب: اشْتَكى فلانٌ عيْنَه، لأنه هو المُشتَكي، لا العين.
(ز) ويقولون للأمرالذي يُشَكُّ فيه: ما أشُكُّ...، وذلك خلاف الأمر المراد.
قلت: لأن ما نافية لشَكّه، وهو يشُكُّ، فناقض الواقع.
(و) العامة تقول: أشْغَلته بكذا فهو في شُغْل مُشغِل. والصواب: شَغَلْته بكذا فهو في شُغل شاغِل.
قلت: يحكى عن الصاحب بن عباد، رحمه الله تعالى، أنه وقف له كاتب وقال له: إن رأى مولانا إشْغالي في شيء أرتزق به. فقال: مَنْ يقول إشْغالي لا يصلح لأشْغالي، (و) وتقول العامة للمريض: أشْفاك الله. والصواب: شفاكَ اللهُ؛ لأن معنى أشْفاك: ألقاك على شَفا هَلَكة.
قلت: وكثيراً ما يقولون: الله يُكفيك ويُشفيك بضم الياء، وهو مقلوب المعنى لأن أكفأت القدر، إذا قلبتها، وأشفيت تقدَّم شرْحُه.

الهمزة والصاد المهملة

(ص) ويقولون للفرس الذي يقارب حمرته السواد: أصْدَعُ. والصواب أصْدَأُ، بالهمز، مأخوذ من صدَأ الحديد.
قلت: يقال: كُمَيْت أصدأ، إذا علته كُدْرَة، وجَدْيٌ أصدأ، إذا كان أسود مشرباً حُمْرة، والصُّدْأة، بضم الصاد، اسم ذلك اللوم.
(م ز ص) ويقولون: أصْيَتُ من فلان، أي أشدّ صوتاً.
والصواب: أصْوَتُ، بالواو.
قلت: أما الصّوْتُ، فإنه بالواو، وأما الصّيتُ، وهو السُمعة والذكر، فلعله يكون بالياء، على أنه أصله من الصوت.
(ص) ويقولون: اصطَلَمت أذُناه. والصواب: اصطُلِمَتْ، ورجل مُصطَلَم.
قلت: يريد أنهم يفتحون الطاء واللام. والصواب ضم الطاء وكسر اللام مغيراً لما لم يُسمَّ فاعله.
(ص) ويقولون: اصْطَبَلُّ الدابة. والصواب اصْطَبْلُ، بتخفيف اللام وإسكان الباء.
قلت ألف اصْطَبْل أصلية، لأن الزيادة لا تلحق بنات الأربعة من أوائلها إلاّ الأسماء الجارية على أفعالها، وهي من الخمسة أبعد، قال أبو عمرو: وليس من كلام العرب.
(ص) ويقولون: أُصْطُرُلاّب. والصواب أَصْطُرْلاب، بتخفيف اللام وسكون الراء، ويقال: أسْطُرْلاب بالسين أيضاً وهو الأصل، وإنما قلبت صاداً لمجاورة الطاء.
(ص) ويقولون: اصْفارَ وجهه، واحمارَ. والصواب: اصفارّ وجهه واحمارّ، مشددة الراء.

قلت: يريد أن العوام يقولونه مخفَّف الراء.
(و) تقول العامة: أصرفته عَمّا أراد. والصواب: صرَفته.
ويقولون: اصْفَرّ لونه لمرض، واحمرّ خدّه من الخجل، وعند المحققين أنه يقال: اصفرّ واحمرّ عند اللون الخالص الذي قد تمكن واستقر، وأما إذا كان اللون عرَضاً يزول فيقال فيه: اصفارّ واحمارّ، وجاء في الحديث: فجعل يحمارُّ ويصفارُّ.

الهمزة والضاد المعجمة

(زص) يقولون: مِسْكٌ أظفر. والصواب: أذْفَرُ، بالذال المعجمة، والذّفَر حِدّة رائحة الطيب والخبيث.
(ص) قال أبو هِفّان: صحّف أبو عبيد في الغريب المصنف فقال: وأضرَّ يعدو. وإنما هو: وأصرّ يعدو.
قلت: يريد: الصحيح بالصاد الهملة.

الهمزة والطاء المهملة

(ص) ويقولون: إطريفَل. والصواب: إطريفُل بضم الفاء.
(ز) ويقولون: لشِقاق القُبّةِ المَخيطة بها: أطناب. والأطناب حبال القبة وهي الأواخيّ أيضاً، واحدتها آخيّة، وكانت العرب في أسفارها ومصايدها إذا عدمت الحبال طنّبت بأرسان خيلها.
(و) وتقول العامة: فلان أطْروش، على أن الطَرَش لم يُسمَع من العرب العَرْباء.
قلت: يريد أن العوام تفتح الهمزة والصواب ضمها، قال الجوهري: الطَرَشُ أهونُ من الصّمم، وهو مُولَّد.
(ص) ويقولون: فإذا أطَلَّهم السّاعي. والصواب: أظلّهم، بظاء معجمة، يقال أظلّني الأمرُ، بظاء معجمة، أي غشيني، وأطلّ، بالطاء مهملة، أشرف عليّ.

الهمزة والظاء المعجمة

(ص) ويقولون: اظْلامَ الليلُ. والصواب: أظْلَمَ الليلُ.

الهمزة والعين المهملة

(ص) ويقولون: بلغ الغبارُ أعنانَ السماء. والصواب: أعْناء السماء، جمع عَناً، والأعْناء: النّواحي، أو يقال: عَنان السماء، والعَنان السحاب، الواحدة عَنانة.
قلت: ويجوز تصحيح أعنان السماء، لأن أعنان السحاب صفائحها وما اعترض من طرائقها، كأنه جمع عَنَن.
(ص) ويقولون: أعَبْتُ على فلان فِعْلَه. والصواب: عِبْتُ، على مثال بِعْتُ، قال الشاعر:
أنا الرّجُلُ الذي قد عِبْتُموه ... وما فيه لِعَيّابٍ مَعابُ
وكبت رجلٌ الى صديق له: وقد أعبتُ عليك كذا، فكتب جوابه: أما بعدُ، فقد وصل كتابُك، فعِبْتُ عليك، أعَبْتُ، والسلام.
ويقولون: أعلَفتُ الدابّةَ. والصواب: علَفْتُها، كما قال الشاعر:
إذا كُنتَ في قومٍ عِدىً لست منهمُ ... فكُلْ ما عُلِفْتَ من خَبيثٍ وطيّبِ
(ز) ويقولون: أعرَضْتُ عليه الأمرَ. والصواب: عرَضْتُه.
قلت: يؤيد هذا قوله تعالى: (إنّا عرَضْنا الأمانة على السّموات والأرْضِ...).
(و) العامة تقول: أعِرْني سمْعَك. والصواب: أرْعِني سمْعَك.
(و) تقول: أعرابيّ إذا كان بدوياً، وأعجمي إذا كان لا يفصح، وإن كان نازلاً بالبادية. والعامة لا تراعي هذا الشرط.
(ص) ويقولون: إذا كان في رأس الفرس اعتزام.
وصوابه: اعْترام، بالراء، من العَرامة، وهي الشِّدّة.
(و) العامة تقول: أعنانِي الشيءُ وصوابه عَناني، بغير ألف.
(و) العامة تقول: رجُلٌ أعْزَب. والصواب: عَزَب.

الهمزة والغين المعجمة

(ز) ويقولون: غَمْدٌ، ويجمعونه: أغْمِدَة. والصواب: غِمْد وأغماد، وقد غَمَدت السيفَ أغمِده، وأغمدتُه أُغمده، لغة.
(ص) ويقولون: أغاظني فِعلُك، يُغيظُني. والصواب: غاظَني يَغيظُني، قال الله تعالى: (... هلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغيظُ).

الهمزة والفاء

(ص) يقولون: أفحلتُ الفرسَ وغيره. والصواب: فَحَلتُ، أنشد الأصمعي:
إنّا إذا قلّتْ طَخاريرُ القَزَعْ
وصدرَ الشاربُ منها عن جُرَعْ
نفْحَلُها البيضَ القَليلاتِ الطَبَعْ
ويقولون في جمع فَمٍ: أفمام، وهو من أفضح الأوهام.
والصواب فيه أن يقال: أفْواه، كما قال تعالى: (... يقولونَ بأفْواهِهم مّا ليسَ في قُلوبِهمْ)، لأن الأصل في فمٍ فَوْهٌ، على وزن سَوْط.
(ز) ويقولون لجماعة الفَرْو: أفْريَة، وذلك خطأ، لأنّ أفْعِلَة ل ايأتي جمعاً لفَعْل ولا لأمثاله من الثلاثي. والصواب: أفْرٍ وفِراء، مثل دَلْوٍ وأدْلٍ ودِلاء، وجَدْيٍ وأجْدٍ وجِداء.
(ز) ويقولون لضرب من ثياب الحربر: إفْرَند. والصواب: فِرِنْد، قال ذو الرمة:
كأنّ الفِرِنْدَ المَحْضَ معصوبةٌ به ... ذُرى قورِهاينْقَدُّ عنها ويُنْصَحُ

(ز) ويقولون: أفْرِنَة لجمع الفُرْن. والصواب: أفْران. فأما أفْعِلَة فليس من جمع فُعْل.
(ص) ومن ذلك الافتقاد، لا يعرفونه إلا الزيارة خاصةً، والافتقاد يقع على الزيارة وعلى الفَقْد، يقال: افتقدتُ المريضَ، إذا عدته، وافتقدتُ الشيءَ، إذا فقدته.
(ص) ويقولون: أفْلتَن، بالفاء. وهو تصحيف، إنما هو بالقاف من القَلَتِ وهو الهلاك، ومنه قولهم: إن المسافر ومتاعه على قَلَتٍ إلا ما وَقى اللهُ، ومنه: امرأةٌ مِقْلات، وهي التي لا يعيش لها ولد.
(ص) ويقولون لمن سقطتْ ثَنيّتُه أو ثَناياه: أفْرَم.
والصواب: أثْرَم، بالثاء.
(و) وتقول العامة: أنا أفْرَقُك. والصواب:أنا أفْرَقُ منْك.
ويقولون: زيدٌ أفضلُ إخوتِه، فيخطئون، لأن أفْعَل التفضيل لا تضاف إلا لما هو داخلٌ فيه ومتنزِّلٌ منزِلَةَ الجزءِ منه، وزيدٌ غيرُ داخلٍ في جملة إخوته، ألا ترى لو قال قائل: مَنْ إخوةُ زيد؟ لعددتهم دونه، كما لا يقال: زيدٌ أفضلُ النساءِ، وتحقيق الكلام أن يقال: زيدٌ أفضلُ الإخوة، وأفضلُ بَني أبيه.
(ق) تقول: أُفَّ وأفُّ وأفِّ، وأفّاً وأفٌّ وأفٍّ وأُفّي، مُضافاً، وأفّةً، وأفَّا، بالألف، ولا تقلْ: أُفيَّ بالياء فإنه خطأ.

الهمزة والقاف

(ز) يقولون: أقْفَزَةٌ لجمع القَفيز. والصواب: أقفِزَه، مثل كثيب وأكثبة، فأما أفْعَلَة فليس من أبنية الجمع.
قلت: يريد أنهم يفتحون الفاء.
(ز) ويقولون: أَقرِئ فلاناً السلامَ. والصواب: اقرأْ عليه السلام، فأما أقْرِئْه السلام فمعناه: اجعلْه أنْ يقرأ السلامَ، كما يقال: أقرأته السورةَ، وقد غلِطَ حبيبٌ في مثل هذا فقال:
أقْري السلامَ معرَّفاً ومُحَصَّباً ... من خالدِ المَعروفِ والهَيْجاءِ
والصواب ما أنشده أبو عليّ:
اقرأ علَى الوَشَلِ السلامَ وقُلْ له ... كُلُّ المشاربِ مُذْ هُجِرتَ ذَميمُ
(ص) ويقولون: اقتدى الطائر، إذا ذرَقَ، بالدال المهملة.
وصوابه: اقتذى، بالذال المعجمة.
(ص) ويقولون لنبت له زهر أصفر: أُقْحَوان، وليس إياه، إنما الأُقْحُوانُ البابونَج، والبابُونَق، لغتانِ، وهو الذي يقول له الناس البابونُق، بضم النون.
ويقولون: أقفية في جمع قَفاً. والصواب: أقْفاء.
(ص) ويقولون: كتاب إقليدس، وكان الشيخ ابن خُرّزاذ يقول: هو أُقْليدُس بضم الهمزة والدال.
(ز) ويقولون: أُقيمَ. والصواب: قِيمَ، بإسقاط الألف.
(ص) وتقول: عاصم بن ثابت بن أبي الأقْلَح، بالقاف، وأفْلَح مولى القُعَيْس، بالفاء.
(و) العامة تقول: أقْلبنا ماءً. والصواب: قلَبْنا.
(ص) ويقولون: أقلبتُ الثوبَ، وغيرَه. والصواب: قلَبْتُه ولا يقال أقلبتُ في شيء إلا في قولهم: أقلبت الخبزة، إذا حانَ أنْ تُقلَبَ.
(ص) ويقولون: أُقيمَ على الرجل في داره وعبده. والصواب: قِيمَ عليه.

الهمزة والكاف

(ز) ويقولون لجمع الإكاف: أكِفّة، بالتشديد، والصواب: آكِفَة، مثل إزار وآزرة، وقد آكفتُ الدابة فهي مُؤكَفَة، وأوكفتها أيضاً وهو الوُِكاف والإكاف.
(ص) ويقولون: يحيى بن أكْتَم، وأكتم بن صَييّ بالتاء. وصوابه بالثاء المثلثة، قال ابن دريد: الأكثم: الغليظ البطن، وبه سمي الرجل.
(ق) ويقولون: لهذا النبات الأصفر المُجْتَثّ الذي يتعلق بأطراف الشوك: الأُكشوث، وإنما هو الكُشوث، والكُشوثاء، قال الشاعر:
هو الكُشوثُ فلا أصلٌ ولا وَرَقٌ ... ولا نسيمٌ ولا ظلٌ ولا شجَرُ
(و) العامة تقول: أكريتُ النهر، وكَرَيتُ الدار، وهو بالعكس، تقول: كرَيتُ النهر، أكريه، وأكريتُ الدارَ.
(و) العامة تقول: أُكْرَة. والصواب: كُرَهٌ.

الهمزة واللام

يقولون: قُبضت ألفاً تامّةً. والصواب أن يذكر فيقال: ألفٌ تام، كما قالت العرب: ألفٌ صَتْمٌ وألف أقْرع، والدليل على تذكير الألف قوله تعالى: (يُمدِدْكُمْ ربُّكُم بخَمْسَةِ آلافٍ من الملائكة...)، وأما قولهم هذه ألف درهم، فلا يشهد ذلك بتأنيث؛ لأن الإشارة وقعتْ الى الدراهم، والتقدير: هذه الدراهم ألْف.
يقولون: ما آليْتُ جَهْداً في حاجتك. ومعنى ما آليْتُ: ما حلَفْتُ، وتصحيح الكلام أن يقال: ما ألَوْتُ، أي ما قصّرتُ.

ويقولون: جاءني القوم إلاّكَ فيوقعون الضمير المتصل بعد إلا كما يقع بعد غير، كما وهِم أبو الطيب في قوله:
ليس إلاّكَ يا عليُّ هُمامٌ ... سيْفُه دونَ عِرضِه مَسْلولُ
والصواب ألاّ يوقَع بعد إلاّ إلا الضمير المنفصل، كما قال تعالى: (أمرَ ألاّ تعبُدوا إلا إيّاه).
(ق ح) ويقولون: قرأتُ الحواميم والطواسين. والصواب: قرأت آل حاميم وآل طس، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: آل حاميم ديباجُ القرآن، وقال أيضاً: إذا وقَعْتُ في آلِ حاميم وقعتُ في روضاتٍ أتأنَّقُ فيهن، وعليه قول الكميت:
وجَدْنا لكُم في آل حاميم آيةً ... تأوّلَها منّا تقيٌ ومُعْرِبُ
يريد بذلك قوله تعالى في حم. عسق: (قُل لاّ أسْألُكُمْ عليه أجْراً...) الآية.
(و) العامة تقول: القتالُ غداً والذي إليه. والصواب: والذي يَليه.
(ز) ويقولون لجمع اللِّجام: ألْجُم. والصواب: لُجُم، قال النابغة:
خيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العَجاجِ وأخرى تَعلكُ اللُّجُما
ولا يكون أفْعُل جمعاً لِفعالٍ إلا أن يكون مؤنثاً نحو: لِسان وألْسُن، فمَنْ أنتّ اللِّسانَ والعُقاب قال: ألْسُن وأعْقُب.
(ص) ويقولون: قال النبيُّ عليه السلام: (ألِدوا وتَوالَدوا). والصواب: لِدوا.
قلت: ومنه قول الشاعر:
لِدوا للمَوْتِ وابْنوا للخَرابِ ... ............
(ق و) تقول العامة: سألتك ألاّ فعلتَ، بفتح الهمزة. والصواب بكسرها.
(م ز ص) ويقولون للجماعة يجتمعون على الإنسان في خصومة: هم إلْبٌ عليه. والصواب: ألْبٌ، بالفتح.

الهمزة والميم

(ص ز) ويقولون: سر الى فلان: بإمارة كذا، فيكسرون الهمزة والصواب: بأمَارة، بفتح الهمزة، وهي العلَمُ والسّيمَةُ.
ويقولون: امتلأتْ بطْنُه، فيؤنثون البطنَ، وهو مذكّر، بدليل قول الشاعر:
فإنّك إنْ أعطيتَ بطْنَكَ سُؤلَهُ ... وفرْجَكَ نالا مُنتَهى الذّمِّ أجْمَعا
فأما قول الشاعر:
فإنّ كِلاباً هذه عَشْرُ أبطُنٍ ... وأنتَ بَريءٌ منْ قَبائِلها العَشْرِ
فإنه أراد بالبطن القبيلة.
(ص) ويقولون في جمع مِرآة أمْرِيَة. والصواب: مَراءٍ على وزن مَعانٍ، والكثير: مَرايا.
(ص) ويقولون: عزلت من الغنم أمَّهات الأولاد. وذلك غلط، إنما يقال: أمّهات لبنات آدم خاصةً، فأما البهائم فإنه يقال فيها: أُمّات بغير هاء. قال الشاعر:
كانتْ هَجائِنُ مالِكٍ ومُحَرَّقٍ ... أُمّاتهنَّ وطَرْقُهنّ فَحيلا
(ص) ويقولون: امْلاسَ الشيءُ. والصواب: امْلاسَّ بالتشديد، على وزن اشهابّ، وادهامّ. وامَّلَسَ الشيءُ، تقديره: انفعل كقولك: امّاز وامَّحى.
(ص) ويقولون: قد أمَّنّا مَنْ أمَّنْتِ يا أمَّ هانئ، بالقصر، على بعض الروايات. والصواب: قد آمَنّا مَنْ آمَنْتِ، بالمد، ومن ذلك: مَنْ آمنَ رجلاً ثم قتلَه فأنّا بَريءٌ منه، وإنْ كان المقتولُ في النار.
(و) وتقول العامة: امْتَحى. والصواب: امَّحَى.
قلت: يريد أنهم يزيدون بعد الميم تاء، والصواب تشديد الميم.
(و) وتقول العامة: الناس في إمْنٍ. والصواب: فتح الهمزة.
(ق) يقولون: افعلْ كذا إمّالي. والصواب: إمّالا، ومعناه، وأصله: إنْ لا يَكُنْ ذلك الأمرفافعلْ هذا، وما زائدة.
(ز) ويقولون: بلَّغه اللهُ أماليَه. والصواب: آمالَه، وهو جمع الأمل.
(وق) ومن ذلك: أمّا وإمّا، لا يفرقون بينهما، والفرق أن التي يُفَصَّلُ بها الجمل وتجاب بالفاء مفتوحةُ الهمزة، تقول أمّا زيدٌ فعاقل وأمّا عمرو فعالِم. والتي تكون للشك أو التخيير مكسورة الهمزة، تقول: إمّا زيدٌ وإمّا عمرو، وخذ إمّا هذا، وإما ذاك.

الهمزة والنون

(ز) ويقولون: إن لم يكن كذلك فانبُصها، يعنون اللحية. والصواب: فانمُصْها، بالميم، أي انتُفها، يقال: نَمَصت الشعرَ أنْمُصه نمصاً، إذا نتَفْته، ويقال للذي يُنتَفُ به الشعر المِنْماص، وفي الحديث: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعَنَ النّامِصَةَ والمُتَنَمِّصَة.
(و) العامة تقول: أنْبَذْتُ نَبيذاً. والصواب: نبَذْتُ.
(و) ويقولون: أنْجَعَ الدواء، والصواب: نجَعَ.

ويقولون: انْضاف الشيءُ إليه، وانْفَسَدَ الأمرُ عليه. ووجه القول أُضيفَ إليه، وفسَدَ عليه، والعلة في امتناع انْفَعَل أن مَبْنَى فِعْل المُطاوعة المصوغ على انْفَعَل أن يأتي مطاوع الثلاثية المتعدية كقولك: سكبته فانسكب وجذبته فانجذب، وضاف وفسد إذا عُدِّيا بهمزة النقل صارا رباعيين.
ويقولون: انْساغَ لي الشرابُ فهو مُنْساغٌ، والاختيار: ساغَ فهو سائِغٌ، كما قال الشاعر:
فساغَ ليَ الشّرابُ وكُنْتُ قِدْماً ... أكادُ أغَصُّ بالماءِ الحَميمِ
وفي بعض اللغات: انْساغَ لي، مما لا يُعتَدُّ به.
ويقولون: فلان أنْصَفُ من فلان، يريدون تفضيله في النَّصَفَة عليه، فيُحيلونَ المعنى، لأن نصَفْتُ القوم معناه خدمتهم. والصواب أن يقال: هو أحسنُ منه إنصافاً، لأن الفعل من الإنصاف أنصَفَ، ولا يُبْنى أفْعَلُ من رُباعيّ.
ومن ذلك أنهم إذا ألحقوا لا بأنْ حذفوا النون في كل موطن، وليس ذلك على عمومه، ولكن إذا وقعت أنْ بعد أفعال الرجاء والخوف والإرادة كتبتْ بإدغام النون، نحو: رجوت ألاّ تهجرَ، وخِفتُ ألا تفعلَ، وأردت ألاّ تخرجَ، وذلك لاختصاص أنْ المخففة في الأصل به ووقوعها عاملة فيه فوجب الإدغام، كما تدغم في إن الشرطية إذا دخلت عليها لا وثبوت حكم عملها على ما كانت عليه قبل دخولها، فتكتب: إلاّ تفعلْ كذا يكنْ كذا. وإنْ وقعتْ بعد أفعال العِلْم واليقين أظهرت النون، لأن أصلها في هذا الموطن المشددة وقد خففت كقوله تعالى: (أفَلا يضرَوْنَ ألاّ يَرْجِعُ إليْهِمْ قوْلاً)، وذلك إن وقع بعد لا اسم، نحو: لا خَوْفَ عليك، فتقول: أنْ لا خَوْفَ. ووقوعها بعد أفعال الظّن والمَخْيَلَةِ يُجَوِّزُ إثباتَ النون وإدغامها لاحتمالها هنا أن تكون هي الخفيفة أو المخففة من الثقيلة، ولهذا قُرِئَ: (وحَسِبوا ألاّ تكون فِتْنَةٌ...) بالرفع والنصب: فمَنْ نصب بها أدغم النون في الكتابة، ومن رفع أظهرها.
(ز) ويقولون: آنية للإناء الواحد، ويجمعونه على أواني. وإنما الآنية أفْعِلَة، وهو جمع الإناء، تقول: إناء وآنية، مثل إزار وآزرة وحمار وأحمرة، قال زهير:
لقد زارتْ بُيوتَ بَني عُلَيْمٍ ... من الكلماتِ آنيةٌ مِلاءُ
(ز) ويقولون: أنْصابُ السكين والقدومِ. والصواب: نِصاب، وقد أنصبت السكينَ إنصاباً، إذا جعلتَ له نِصاباً، وأجزأتها، إذا جعلت لها جُزْأةً، وهي عَجُز السكين.
(ز) ويقولون: في تصغير الإنسان: أُنَيْسِيٌ. والصواب: أنَيْسان فيمن اشتقه من الإنس. ومن اشتقه من النِّسيان قال: أنَيْسِيان.
قلت: وعلى هذا جاء قول أبي الطيب:
وكانَ ابْنا عَدوٍ كاثَراه ... له ياءَيْ حُروف أُنَيْسِيانِ
يعني: هذه الزيادة عينُ النقص، لأنّ هاتين الياءين صَغّرَتا الاسم. وهو معنى غريب.
(ز) ويقولون: أنشَدتُ المالَ في الأسواق.
والصواب: أشَدتُه، قال يعقوب: أشدتُ بذكره: رفعتُ ذِكْرَه. وقال أبو عمرو: أشدته عرّفته.
قلت: تقول: أنشدتُ القصيدةَ، ونَشَدتُ الضّالّةَ، والأول: إنشاداً والثاني: نِشْداناً.
(و) العامة تقول: ملح أنْذَراني. والصواب: ذَرَآني بفتح الراء والهمزة.
(ز) ويقولون: أنحلتُ ولدي. والصواب: نَحَلْتُه، بغير همز.
(ص) ويقولون: انتذب فلان كذا. والصواب: انتدب بالدال وهو مطاوع ندَبْتُه.
قلت: يريد أنهم يقولون بالذال المعجمة، والصواب بالدال المهملة.
(ص) ويقولون: عندي طْرٌ وأُنْثاتُه. والصواب: طائر وأُنْثاه.
(ص) ويقولون: مائة وأُنيف. والصواب: ونَيِّف، بغير ألف.
(ص) ويقولون: تكلم من أنياط قلبه. والصواب: نِياط، والنياطُ معَلِّقُ القلب من الوتين.
(ص) ويقولون: أُنْفٌ. وصوابُه: أَنْف بفتح الهمزة.
(و) ويقولون: أَنافِي جمع أنْف. والصواب: آنف في القليل وأُنوف في الكثير.
(ص) ويقولون: أنْعَشَه اللهُ. والصواب: نَعَشَه اللهُ، أي رفَعَه، قال الشاعر:
كم فقيرٍ نعَشْتَهُ بعدَ عُدْمٍ ... ويتيم جَبَرْتَه بعدَ يُتْمِ
قلت: وبذلك سُمّي النّعْش نَعْشاً لرفع الموتى عليه.
(ص) ويقولون: انْقَلَع سِنُّه. والصواب: انْقَلَعتْ، فأما الأنياب والأضراب فمذكرة، وأنشد أبو زيد في أُحْجِيَة:
وسِرْبٍ ملاحٍ قد رأينا وُجوهَه ... إناث أدانيه ذكورٌ أواخرُه

(ص) ويقولون: إنّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أغنياءَ خيرٌ من أنْ تذرهم عالة.... والصواب: إنّك أنْ تَذَرَ...، بفتح الهمزة وفتح الراء.
(ص) ويقولون: وحَلْق العانة وانتفاض الماء، بالضاد والفاء، والصواب: انتقاص الماء، بالقاف والصاد، ومعنى ذلك: غسل الذكر بالماء ليرتد ما فيه، كالكَسْع في الضرع.
(ص) ويقولون: في قول الشريف الرضي:
لوْ أنّ قومَكِ نَصّلوا أرماحَهم ... بعيون سِرْبِكِ ما أبلّ طَعينُ
أنْصَلوا، فينقلب المعنى، لأن معنى أنْصَلتُ الرمحَ: نَزَعْت نصْلَه، ومنه قيل لرجب مُنْصِل الأسِنّة، لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسنة فلا يَغْزون، ومعنى نَصّلته: ركّبت فيه السِّنان.
(و) تقول العامة: انْفَلَتُّ من كذا. والصواب: أُفْلِتُّ.
قلت: يريد ضم الهمزة وسكون الفاء وكسر اللام.
(و) وتقول العامة: أُنْبوبَة، بفتح الهمزة. والصواب: ضمها، وجمعها أنابيب، والعامة تقول: أنبايب.
(و) وتقول العامة: الإنبار، بكسر الهمزة. والصواب فتحها.
(ز) ويقولون للجُرْح إذا نَغِلَ: قد اندَملَ. والاندمالُ البُرْدُ.
قال أبو زيد: يقال للرجل إذا بَرَأ من مرضه: قد اطْرَغَشّ واندمل. وقال يعقوب: قد اندمل، إذا تماثل بعد ثقل، ويقال: داملت الصديق، إذا استصلحته.
(ص) ويقولون: أنْحَسضه اللهُ. والصواب: تَحَسَه، بغير ألف.
(و) العامة تقول: أنْطاكيَة، بتخفيف الياء. والصواب تشديدها.
قلت: كذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي، رحمه الله تعالى، في مصنّفِه، وقد قال ابن الساعاتي في أماليه: ما كان من بلاد الروم وفي آخره ياء مكسوعةٌ بهاء، فهي مخففة، كمَلَطْيَة وسَلَمْيَة وأنْطاكيَة وقيْسارية وقُونِيَة. وقد استهوى الحريريَّ غرامُ المشاكلة والمقابلة أن قال: أنَخْتُ بملطيّة مطيّةَ البينِ، وخففها المتنبي، كما هو حقه، حيث قال:
............ ... مَلَطْيَة أمٌ للبنين ثَكولُ
انتهى.
قلت: الذي أعرفه أنّ قيسارية هي التي بساحل الشام عند عسقلان ومنها الشاعر المشهور مهذَّب الدين محمد بن نصر القيسراني، وأما البلد التي في الروم فإنها قيصرية، نسبة الى قيصر ملك الروم.
(ق) ومن ذلك الانتفاخ بالخاء، يضعه الناس موضع الانتفاج بالجيم، ولكل واحد منهما موضع يوضع فيه: فأماما هو بالخاء فعِظَمُ الجنين الحادث عن عِلّة أو أكل أو شرب، وأما ما هو بالجيم فإنه عظَمُ الجنين من غير علة، يقال: انتفجت الأرنب، إذا اقشعرتْ.
لا يقال للأنبوبة: قَلَمٌ إلاّ إذا بُرِيَتْ، وقال: أنشدني بعض شيوخنا رحمه الله تعالى:
لا أحِبُّ الدواةَ تُحْشى يَراعاً ... تلك عندي من الدُّوِيِّ مَعيبهْ
قلمٌ واحدٌ وجَوْدَةُ خَطٍّ ... وإذا شِئْتَ فاستزدْ أُنْبوبَهْ
(و) العامة تقول: انْساغَ ليَ الشرابُ، فهو نَساغٌ. والصواب ساغَ لي، فهو سائِغٌ.
قلت: والصواب بغير ألف ولا نون.

الهمزة والهاء

(ص) ويقولون: أهْزَلْتُ دابّتي. والصواب: هزَلْتُها، بغير ألف.
(ص) ويقولون: أهْوِيَةٌ مختلِفة، أي إراداتهم وشهواتهم. والصواب: أهْواؤهم، لأنها جمع هَوًى، مقصور، قال الله تعالى: (... واتّبَعوا أهْواءَهُمْ)، فأما الأهْوِيَة فجمع الهَواء الذي بينَ السماء والأرض، ممدود.
(و) والعامة تقول: أهْدَيْتُ العروسَ الى زوجها. والصواب: هَدَيْتُ.

الهمزة والواو

يقولون: في جمع أوقيّة: أواقٌ، على وزن أفعال، فيغلطون فيه؛ لأن ذلك جمع أوْقٍ وهو الثِّقَل. فأما أوقيّة فتجمع على أواقيّ بتشديد الياء، كما تجمع أمنيّة على أمانيّ، وقد خفَّف بعضهم فقال: أواقٍ كما قال في صحاري: صحارٍ.
ويقولون في التأوُّهِ: أوَّه، والأفصح أن يقال: أوْهِ بكسر الهاء وضمها وفتحها، والأغلب الكسر، وعليه قول الشاعر:
فأوْهِ لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن بعد أرضٍ بينَنا وسماءِ
وقد قلَبَ بعضُهم الواوَ ألفاً فقال: آهِ، وشدّد بعضهم الواو وسكّن الهاء فقال: أوَّهْ، وفيهم مَنْ حذف الهاء وكسر الواو فقال: أوِّ والمصدر الأهَّةُ.
(ص) ويقولون: أوْجَزْتُه الرمح. والصواب: أوجَرته، بالراء، ومعناه جعلت له في جسمه وِجاراً كوِجار السباع، ويقال: هو من الوَجور، يريد طعنته في فمه، قال شاعر من الخوارج:

أقتلُهم ولا أرى عَلِيّا
ولوْ بَدا أوْجَرْتُه الخَطّيّا
(و) والعامة تقول: هذه النعمة الأوَّلة. والصواب الأُولَى.
(ز) ويقولون: ما رأيتُه مُذْ أوّل أمْس، يعنون اليوم الذي قبل أمس. والصواب: ما رأيته مُذْ أوّل مِن أمس، قال ابن السكيت: تقول ما رأيته مُذْ أمس، فإن لم تره يوماً قلت: ما رأيته من أوّل من أوّل من أمس. قال أحمد بن يحيى: فإن لم تره يومين قلت: ما رأيته مذ أوّل من أول من أمس، قال: والعرب لا تزيد على هذا.
قال الزبيدي: فأما قول العامة: مُذْ أوّل أمس فهو بمنزلة مذ أمس؛ لأن أول أمس: صدرُ النهار، فكأنه قال: مِن صدرِ نهارِه، فإذا قلت: أوّل مِن أمس كان معناه النهار الذي فيه قبل أمس.
(ص) ويقولون: أوهبتك كذا، وأحرمتك كذا، والصواب: وهَبْتُ وحَرَمْتُ.
(ص) ومن ذلك: الأوْباش عندهم أنهم السَّفِلة، وليس كذلك. إنما الأوباش والأوشاب: الأخلاط من الناس من قبائل شتى، وإن كانوا رءوساً وأفاضل، وفي الحديث: وقد وَبّشتْ قريشٌ أوباشاً، أي جمعتْ جُموعاً.
(ص) ويقولون: هذا أوانُ قَطَعَتْ أبْهَري. بضم النون، والصواب فتحها.
(و) العامة تقول: أوقفتُ دابتي، والصواب: وَقَفْتُ. وحكى الكسائي ما أوقفك ها هنا، أي: أي شيء صيّرك الى الوقوف.

الهمزة والياء

آخر الحروف

ويقولون: أشرف فلان على الإياس من طَلَبِه، فيوهمون فيه كما وَهِمَ أبو سعيد السكري، وكان من جلة النحاة وأعلام العلماء، فقال: إن إياساً سُمّيَ بالمصدر، من أيِسَ، وليس كذلك. والصواب: أشرف على اليأس، لأن أصل الفعل يَئِسَ.
(ق) ويقولون: أيش فعلت. والصواب: أيُّ شيءٍ فعلتَ.
(ز) ويقولون: الأيِّل، بفتح أوله. والصواب: إيَّل، وفيه لغة أخرى يقال: هو الأُيَّل، قال يعقوب: بعض العرب يقول: هو الإجَّل، يُبدل الياء جيماً وجمعه أيائل مهموز.
(ز) وربما قالوا عند الاستعجال هَيّا، وربما قالوا: أيّا.
والصواب: هِيّا بالكسر، قال الراجز:
فقد دَنا اللّيلُ فهِيّا هِيّا
وأكثر ما تستعمله العربُ في استحثاث الإبل.
(ز) ويقولون: آيْ التي بمعنى التفسير والعبارة، فيمدون: آي. والصواب قصرها. وحكى بعض أصحابنا عن أبي عليّ أنه أجاز المد، وحدّثنا أبو عليّ عن ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى قال: إذا فسَّرت فِعْلَك بأي رددته على نفسك، وإذا فسرته بإذا رددته على المخاطَب، تقول: لبثتُ بالمكان، أي أقمتُ به، فإذا قلت: إذا قلت: أقمتَ به.
(زص) ويقولون: آيّ زيدُ أقبلْ. والصواب التخفيف والقصر، على وزن كي، وقد جاء في التي للنداء خاصة المدّ، إلا أنّ القصر أشهر وأفصح.
ويقولون في التحذير: إياك الأسدَ، إياك الحسدَ، ووجه الكلام إدخال الواو على الأسد والحسد، كما قال عليه الصلاة والسلام (إيّاكَ ومُصاحَبَةَ الكذّابِ، فإنّه يقَرِّبُ عليك البعيدَ ويبعدُ عليك القريبَ). والعلة في إدخال الواو أن إياك منصوبة بإضمار فعل تقديره اتقِ أو باعِدْ، واستُغني عن إظهار هذا الفعل لما تضمنَ هذا الكلامُ من معنى التحذير، وهذا الفعل إنما يتعدى الى مفعول واحد، فإذا تسوفى عمله ونطق بعده باسم آخر لزم إدخال حرف العطف عليه.
(ص) يقولون: ايْقَنْ واعْلَمْ. والصواب: اعْلَمْ وأيقِنْ، على وزن أكرِمْ.
(ص) ويقولون: الأيِّمُ، لم يريدوا إلا التي ماتَ عنها زوجُها أوْ طلّقَها. وليس كذلك، إنما الأيِّم التي لا زوج لها سواء أكانتْ بِكراً أم ثَيِّباً، قال الله عز وجل: (وأنكحُوا الأيامَى منْكُمْ...)، لم يردْ بذلك الثَّيِّبات دونَ الأبكار.
(و) العامة تقول: فلان أعسر أيْسر. والصواب: أعسر يَسَر.
(و) تقول: إيهٍ حَديثاً، إذا استزدتَه. وإيْهاً كُفَّ عنّا، ووَيْهاً إذا زجرتَه عن شيء، ووَاهاً إذا تعجبتَ منه. والعامة تخلط في هذا كُلِّه.

حرف الباء الموحدة

(ك) حدثنا عون بن محمد الكندي قال: ثنا محمد بن عمر الجُرجانيّ قال: صحّف ابنُ الأعرابي في شعر الكُمَيت وأنا حاضر فأنشد:
فبانُوا من بَني أسَدٍ عليهم ... نجارٌ مِنْ خُزَيْمَةَ ذي القَبولِ
فقلت له: إنما هم فباتوا، فلَوَى شِدْقَه، فقلت: إنّ بعد هذا البيت ذكر المبيت:
وقالوا والأيامِنُ مُنْتَماهُم ... فيا بُعْدَ المَبيتِ من المَقيلِ

فقال: لا يلتفت الى هذا. ثم بلغني أنه كان ينشده كما قلته له.
(ز) يقولون: باعٌ لأوسع الخُطا. والباع ما بينَ طَرَفَيْ يدَي الإنسان إذا مدَّهما يميناً وشمالاً، ويقال له بُوعٌ، وقد بُعتُ الحبلَ إذا قستَه بباعِك.
قلت: وقد ضبطوا طولَه، إذا أُطلقَ، كم مقداره؟ فقالوا: هو أربع أذرع.
(ص ز) ويقولون: باعوض، فيلحقون الألف. والصواب: بَعوض.
قلت: شاهده قوله تعالى: (إنّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أن يَضرِبَ مَثلاً مّا بَعوضةً فما فوْقَها).
(ق ص ح) يقولون إذا أصبحوا: سَهِرنا البارحةَ، وسَرَينا البارحةَ، والاختيار، على ما حكاه ثعلب، أن يقال: مذْ لَدُن الصبح الى أن تزول الشمس: سَرَينا الليلة، وفيما بعد الزوال الى آخر النهار: سهِرنا البارحة. ويتفرّع على هذا أنهم يقولون مذ انتصاف الليل الى وقت الزوال: صُبِّحتَ بخيرٍ، وكيف أصبحتَ، ويقولون إذا زالت الشمس الى أن ينتصف الليل: مُسّيتَ بخيرٍ، وكيف أمسيتَ، وجاء في الأخبار المأثورة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انْفَتَل من صلاةِ الصُبْحِ قال لأصحابه: (هلْ فيكُم مَنْ رأى رُؤْيا في لَيْلَتِه؟).
(س) أنا محمد، أنا أبو ذكوان: حدّثني أبو دُفاقة بن سعيد الباهلي قال: قرأنا على الأصمعي شعر الراعي فبلغت قوله:
وكأنّ رَيِّضَها إذا باشَرْتَها ... كانت معاودةَ الرحيل ذَلولا
فقلت له: ما معنى: باشرتها؟ قال: ركبتها، من المُباشرة. فسألنا أبا عبيدة عن ذلك فقال: صحّف واللهِ، إنما هو: ياسرتها، إذا لم تُعارِّها وتَعْتَسِرْها، قال: ومنه قول عنترة:
إذا يوسِرَتْ كانتْ وَقوراً أديبَةً ... وتحسِبُها إنْ عُوسِرَتْ لمْ تأدَّبِ
قلت: الصواب: ياسَرْتَها بالياء آخر الحروف والسين المهملة.
ويقولون: باقِلاني. والعربُ لم تُلحِقْ الألفَ والنونَ في النّسب إلا في أسماء محصورة، كقولهم للعظيم الرقبة رَقَبانيّ، وللكثيف اللّحية لِحْيانيّ، وللوافر الجُمّة جُمّانيّ، وللمنسوب الى الرّوح روْحانيّ، والى مَنْ يَرُبُّ العِلْمَ رَبّانيّ، والى من يَبيع الصّيْدَل والصّيْدَن صَيْدلانيّ وصَيْدَنانيّ.
والصواب أن يقال: باقِلّيّ فيمن قَصَر، لأن المقصور إذا تجاوز الرباعي حُذِفَتْ ألفه كقولهم في حُبارَى حُباريّ وفي قَبَعْثَرَى قَبَعْثَريّ، ومن مدّ الباقِلاء قال باقِلائيّ، كما ينسب الى حِرْباء حِرْباويّ وحِرْبائيّ. فأما النّسبُ الى بَهْراء بَهْراني والى صَنْعاء صنعانيّ فهو من شواذّ النسَب.
ويقولون باتَ فلنٌ، أي نامَ. وليس كذلك، بل معنى باتَ: أظَلّه المَبيتُ وأجنّه الليلُ، وذلك سواء أنام أم لم ينَمْ، ويؤيدُه قولُه تعالى: (والذين يَبيتون لَبِّهمْ سُجَّداً وقِياماً)، وقولُ الشاعر:
باتوا نِياماً وابْنُ هِنْدٍ لمْ ينَمْ
باتَ يقاسيها غلامٌ كالزلَمْ
(و) والعامة تقول: البارِيّة. وهو البورِيّ والباريّ.
(و) وهو الباءَة، اسم للنكاح، والعامة تقصره.
(ص) ويقولون في قول الشاعر:
أوَميضُ برْقٍ أمْ تألُّقُ بارِقِ ... أم رِيعَ قلْبُك للخَيالِ الطّارِقِ
يقولون بارِقِ بالباء الموحدة، وهو يارق، بالياء باثنتين من تحت، واليارق الحُليّ، يقال فيه: يارِق ويارَق، بفتح الراء وكسرها.
(و) العامة تقول: ما رأيته بَتّةً. والصواب: ما رأيته البَتّةَ.
(ص) ويقولون للذي يخرج في الأجسام: بَثَرٌ. والصواب: بَثْرٌ، بالسكون، الواحدة بَثْرَة، كتَمْرةٍ وتَمْرٍ.
(و) العامة تقول: بِثْقُ السّيْلِ، بكسر الباء، والصواب فتحها.
(ص) ويضمون الباء من بثنة حيثما وقعت من شعر جميل كقوله:
يا بَثنَ إنّكِ قد ملَكْتِ فأسْجِحي ... وخُذي بحَظِّكِ منْ كَريمٍ واصِل
والصواب فتحها، وإنما تضم إذا جاءت مصغرة، تقول بُثَيْنَة فإن كبرتها رددتها، كما تقول: عَمْرة وعُمَيْرَة.
(س ث) قال أبو عثمان: أنشد الأصمعي يوماً قول عنترة:
وآخر منهمُ أجررتُ رُمْحي ... وفي البَجَليّ مِعْبَلَةٌ وَقيعُ

فقال له كيسان: ثبِّتْ روايتَك يا أبا سعيد! فقال: كيف هو عندك يا أبا سليمان؟ فقال: وفي البَجْلي بإسكان الجيم، فقال الأصمعي: النسبة الى بَجيلَة بَجَليّ. فقال: من ها هنا جاء الغلط لأن هذا منسوب الى بِطْنٍ من سُلَيم يقال لهم بنو بَجْلة. فقَبِلَه منه.
(س) ويقولون: البُحْتَري لهذا الشاعر. والصواب البُحْتُري بضم التاء. فأما أبو البَخْتَري من رواة الأحاديث فبالخاء معجمة وفتح الباء والتاء.
ويقولون لِما ينْبُتُ من الزرع بالمطر بخس فيخطئون بما تلفظ به العجم ولا تعرفه العرب، ووجه الكلام أن يقال: عِذْيٌ كما تقول: أرض عَذاةٌ وعَذيّةٌ، إذا كانت لَيّنَ تكتفي بماء المطر.
(ص ز) ويقولون: بحْرٌ لِما كان مِلْحاً خاصة، والبَحْرُ يكون للعَذْب والمِلْح، قال الله تعالى: (وهو الذي مرَجَ البَحْرَيْنِ هذا عذْبٌ فُراتٌ)، فسمّى العذْب بَحْراً، وإنما يسمى البحر لاتساعه ومنه اشتقاق البَحِيرَة وهي المشقوقة الأُذن، وفرسٌ بَحْرٌ، إذا كان واسع الخَطْوِ.
ويقولون: اعملْ بحَسْبِ ذلك، بإسكان السين. والصواب فتحها، لتطابق معنى الكلام، لأن الحَسَبَ هو الشيء المحسوبُ المماثلُ والمقدَّرُ، وأما الحَسْب بالسكون فهو الكِفاية، ومنه قوله تعالى: (عَطاءً حِساباً)، والمعنى في الأول: اعملْ على قدر ذلك.
(و) العامة تقول البُخُور. بضم الباء. والصواب: بَخور، بفتح الباء.
(ص) ويقولون: بِختيار بكسر الباء. والصواب فتحها.
(و) والعامة تقول: بَخَسْتُ مُقْلَتَه. بالسين والصواب: بخصت، بالصاد.
(ص) ويقولون: ابن بَخْتِيشوع. والصواب: يَخْتَيْشُوع، بفتح التاء.
(ق) ويقولون: فلان بَدَنٌ من الأبْدان. وليس للبَدَنِ ها هنا موضع، وإنما هو: بَدَلٌ من الأبْدال، وهُم المُبَرِّزون في الصلاح، وسُمّوا أبْدالاً لأنهم إذا مات منهم واحد أبدل اللهُ مكانه آخر، والواحد بِدْلٌ وبَدَلٌ وبَديلٌ.
قلت: الأول بكسر الباء وسكون الدال، والثاني بفتح الباء والدال والثالث بزيادة ياء - آخر الحروف - بعد الدال.
(ز) ويقولون: لبستُ بَدْلَةً من ثيابي.
والصواب: بِذْلَة بالذال المعجمة وكسر الباء.
(ص) ويقولون: يوم بَدَريّ وليلة بَدَريّة، بفتح الدال.
والصواب: بَدْريّ بإسكان الدال، لأنه منسوب الى البَدْر.
(س) قال أبو عُمر الجَرْميّ في مجلس الأصمعي: ما بقي شيء من العربية والغريب إلاّ أحكمتُه، فقال له الأصمعي: كيف تنشد هذا البيت:
قد كُنّ يَخْبأْنَ الوجوهَ تَسَتُّراً ... فالآنَ حينَ بدَأْنَ للنُّظارِ
أو حينَ بَدَيْنَ؟ فقال: حينَ بَدَيْنَ، فقال: أخطأتَ فقال: حين بَدَأنَ، فقال: أخطأتَ، إنما هو حين بَدَوْنَ، من بَدا يَبْدو إذا ظهر.
(س) في كتاب العين: البَرَدُ: هو الماء البارد، حيث يقول:
يَسْقونَ مَنْ وَرَدَ البريصَ عليهمُ ... بَرَداً يُصَفِّقُ بالرحيقِ السّلْسَلِ
ثم فسّره فقال: يريد به الماء البارد. إنما هو بَرَدى، مُمالٌ، اسم نهر بدمشق معروف.
(ص ز) ويقولون لنبتٍ ينبت قبل الصيف: بِرْواق. والصواب: بَرْوَقٌ، على مثال فَعْوَل، واحدته بَرْوَقَةٌ، عن الأصمعي، قال الشاعر:
تطيحُ أكفُّ القومِ فيها كأنّها ... يُطيح بها في الرّوع عيدانُ بَرْوَقِ
(ز) ويقولون: لحْمٌ بُرّيْق، فيشددون. والصواب: بُرَيْق تصغير بَرْق، والبَرْق: الخروف إذا أكل واجْتَرّ، وجمعه بُرْقان، فارسيّ مُعرَّب، وكان أصله بَرَه، فقيل: برق، والقاف تخلف الهاء في الأسماء الفارسية إذا عُرِّبتْ.
(م ز) ويقولون: جئتُ مِن بَرّا. والصواب: جئتُ من بَرٍّ، وذهبتُ بَرّاً، والبَرُّ خلاف الكِنِّ، هو أيضاً ضد البحر، والبَرِيّة منسوبة الى البَرِّ.
(ص) ويقولون: قائم على بَراثِمه. والصواب: على براثِنِه، بالنون، والبراثنُ من السباع بمنزلة الأصابع من الإنسان.
(ص) ويقولون: بَرَغْواطة. والصواب: بَلَغْواطة بلام مفتوحة وسكون الغين، والنسب إليها: بَلَغْواطيّ. أخبرني بذلك الشيخ أبو بكر عن أبي عبد الله القزاز.
(ص) ويقولون لقبيلة من الروم البُرْغل. والصواب: البُلْغَر.
قلت: يريد بباء مضمومة ولام ساكنة بعدها غين معجمة مفتوحة.
(ص) ويقولون: بِرْبِريّ. والصواب: بَربَريّ، وهو يتكلم بالبَرْبَريّة، بفتح الباءين.

ويقولون للمأمور ببِرِّ والديه: بِرَّ والدك، بكسر الباء. والصواب فتحها، لأنها تفتح في قولك يَبَرُّ، وعقد هذا الباب: أن حركة أوَّل فعل الأمر من جنس حركة ثاني المضارع، فتقول بَرّ أباك، لانفتاحها في قولك يَبَرُّ، وتضم الميم في قولك مُدَّ لانضمامها في قولك يَمُدّ، وتكسر الخاء في خِفَّ في العمل، لانكسارها في قولك يَخِفُّ.
(وق) ويقولون لمن ينسبونه الى السَّرِقة: بُرجاص اللص. وإنما هو بُرجان بالنون، وهو فُضَيل بن بُرجان، ويقال: فَضْل، أحد بني عُطارد من بني سعد، كان مولى لبني امرئ القيس وكان له صاحبان يقال لهما سهم وبسّام، فقتلهم مالك بن المنذر بن الجارود، وصَلَبَ ابنَ بُرجان بعدما قتله في مقبرة العتيك، وكان الذي تولى ذلك شعيب بن الحبحاب، وأخذ اللصوص المُشَهَّرينَ بالبصرة فقتلهم، فقال خلَفُ بن خَليفة:
إنْ كُنتِ لم تسألي سهماً وصاحبه ... عن مالك فسَلي فَضْلَ بن بُرْجانِ
يُخْبِرْكِ عنه الذي أوفى على شَرَفٍ ... حتى أنافَ على دُورٍ وبنيانِ
(وق) ويقولون: دِيارٌ براقع للخالية. وإنما البراقع جمع بُرقع، وهو ما تجعله المرأة على وجهها. والصواب: بلاقع، وفي الحديث: اليمينُ الفاجرةُ تدَعُ الدّيارَ بَلاقِعَ.
(و) والعامة تقول: بَرَرت والدي وبَرَرت في يمين. والصواب بَرِرت، بكسر الراء.
(ز) ويقولون: بُرَكَة. والصواب: بُرْكَة، على مثال فُعْلَة، حكى ذلك أبو نصر عن الأصمعي، والجمع بُرَك مثل ظُلْمة وظُلَم وجُمّة وجُمَم، وهو الباب المطرد في فُعْلَة أن تُجْعَل على فُعَل، وربما أتى على فِعال مثل جُمّة وجِمام وبُرْمة وبِرام، ولا يطرد ذلك اطراد فُعَل، (ز) ويقولون: البِراز للغائط. والصواب: بَرازٌ، البَراز ما برز من الأرض واتسع فكُنِيَ به عن الحدَث، كما كني به عنِ الغائط.
قلت: يريد أنه يكسرون الباء والصواب فتحها.
(ز) ويقولون لضَرْبٍ من العصافير: بِراطيل. والبراطيل حجارة مستطيلة، قال ذو الرمة:
وآذانِ خيلٍ في براطيلَ خُشِّشَتْ ... بُراهُنَّ منها في مُتونِ عِظامِ
وواحدها بِرْطيل (و) والعامة تقول: بَرْهوت. والصواب فتح الراء.
قلت: بَرَهوت على وزن رَهَبوت: بئر عند حضرموت، يقال إن فيها أرواح الكافرين، وفي الحديث: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض بَرَهوت، ويقال: بُرْهوت، بضم الباء، مثل سُبْروت.
(و) وهو البِرْطيل للرّشوة، والعامة تفتح الباء.
(و) وهو البِرجِيس. والعامة تفتح الباء، والصواب كسرها، ويقال إنه اسم للمُشْتَري.
(ق) ويقولون: بَرَشْتَق...، وهي الفاختة، واشتقالها من الفخت وهو ضوء القمر، والصواب براشتق بثبوت الألف بعد الراء.
(ص) ويقولون: بيع البَرنامِج. والصواب: البَرنامَج، بفتح الميم، وهي ألواح مجموعة يكتب فيها الحساب، كأنه بيع عدة أثواب علي ما هي مكتوبة في البَرنامَج.
(ص) ويقولون: بُرنُوس. والصواب: بُرْنُس.
(ص) ويسمون عتاق الخيل العربية: براذين. والبراذين عند العرب الزوامل.
(ز) ويقولون: بَزيم للحديدة التي تكون في طرَف حزام السرج، يسرج بها، وقد تكون في طرف المنطقة ولها لسان يدخل في الطرف الآخر من الحزام والمنطقة. والصواب: إبزيم على مثال إفعيل، وفيه لغة أخرى يقال: إبزام والجمع أبازيم، ويقال أيضاً: إبزين ويجمع على أبازين، ويقال للإبزيم أيضاً: زِرْفن وزُرْفُن، وفي الحديث: أنّ درعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات زَرافن، إذا عُلِّقت بزرافنها شمّرت وإذا أُرسِلَت مستِ الأرض.
(ص) ويقولون لضرب من حلواء السُكَّر بِزْماوَرْد. والصواب: الزُماوَرْد، وكل ما عُمِلَ من السّكّر حَلْوى فهو زُماوَرْد.
(ص) ويقولون: بُزْرُجُمْهُر. والصواب: بُزْرُجُمِهْر. وهو الكثير الحُبّ بالفارسية.
قلت: يريد أنهم يسكنون الميم، والصواب ضم الباء وسكون الزاي وضم الراء والجيم وكسر الميم وسكون الهاء.
(و) العامة تقول: بِرزٌ وبُزور، بالزاي، وهو بالذال المعجمة.
(ص) ويقولون: ابن بَزيغ. والصواب: بزيع بعين غير معجمة.

ومن ذلك أنهم يكتبون بسم الله أينما وقع بحذف الألف، والألف إنما حُذفت منه، إذا كتب في أول فواتح السور لكثرة استعماله في كل ما يبدأ به، وتقدير الكلام: أبدأ باسم الله، فإذا بَرَز وجب إثباتها، كقوله تعالى: (اقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الذي خلَق).
(ز) ويقولون: بَسْطام فيفتحون أوله. والصواب: بِسْطام بكسر الباء، كذلك كل ما كان على هذا المثال من غير المضاعف لا يجيء إلا مكسورَ الأول أو مضمومَه، خلا حرفاً واحداً رواه الكوفيون فقالوا: ناقة بها خَزْعال أي ظلع.
ويقولون: أعطاه البِشارة. والصواب فيه ضم الباء، لأن البِشارة بكسر الباء: ما بشّر به، وبضمها: حق ما تعطي عليه، وأما البَشارة بفتح الباء فإنها الجَمال، ومنه قولهم: فلان بَشير الوجه، أي حسنُه.
(ص) ويقولون للجِلْدَةِ التي يخرج فيها الولَد: بَشيمة، ويجمعونها على بَشايم. والصواب: مَشيمة، بالميم، وجمعها مَشايم.
(و) العامة تقول: بَشَشْتُ به بفتح الشين. والصواب: بَشِشْتُ به بكسر الشين.
(ك) حدّثني إبراهيم بن المعلّى الباهلي قال: كنا عند الطوسي وما سمعته صحف قط إلا في قوله هذا: ما يوم حليمة بِشَرٍّ.
قلت: هو بالسين المهملة وحليمة التي ينسب إليها هذا اليوم هي حليمة بنت الحارث بن أبي شَمِر، كان أبوها وجّه جيشاً إلى المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم طِيباً في مِرْكَن فطيبتهم به، قال المبرّد: هذا أشهر أيام العرب، يقال ارتفع في هذا اليوم من العجاج ما غطّى عين الشمس حتى ظهرتِ الكواكبُ.
(و) بعض العامة يقول: البَصِرة بكسر الصاد. والصحيح سكونها.
(ص) ويقولون: أبو بُصْرة. والصواب: أبو بَصْرة، بفتح الباء.
(ص) ويقولون: بِضْعَة لحم. والصواب: بَضْعَة.
قلت: يريد أنهم يكسرون الباء والصواب فتحها.
(و) العامة تقول: بَطّيخ بفتح الباء. والصواب: بِطّيخ بكسرها.
(س ك) حدثنا السُّكّري والباهلي قالا: صحف أبو الحسن الطوسي في بيت حاتم فأنشد:
إذا كان بعض الخير مسحاً بخرقة ... ............
وإنما هو: إذا كان نفض الخبز.........
قلت: قاله بالباء الموحدة والعين المهملة في الحرف الأول، وبالياء آخر الحروف وبالراء. والصواب في الحرف الأول بالنون والفاء وفي الحرف الثاني بالباء الموحدة والزاي.
(ص) ويقولون في تصغير بَغْل: بُغَيِّل. والصواب: بُغَيْل.
قلت: هم يشدّدون الياء والصواب سكونها.
ويقولون: بعثتُ إليه بغلام وأرسلتُ إليه بهدية، فيخطئون. لأن العرب تقول فيما يتصرَّف: بعثته وأرسلته، كما قال تعالى: (ثمّ أرسَلْنا رُسُلَنا تَتْرى)، ويقولون فيما يُحمَل: بعثتُ به وأرسلتُ به، كما قال تعالى: (وإنّي مُرسِلَةٌ إليهِم بهَديّة).
وقد عيبَ على أبي الطيب قوله:
فآجرَك الإلهُ على عليلٍ ... بعثتَ الى المسيحِ به طبيبا
ومن تأوَّل له: قال أراد به أن العليل لاستحواذ العلة على جسمه قد التحق بحيز ما لا يتصرف بنفسه.
(س) روى الأصمعي بيت أوس بن حجر:
أجَوْن تَدارَكْ ناقَتي بِقرًى لَها ... وأكبرُ ظني أنّ جَوْناً سيَفْعَلُ
فقال ابن الأعرابي: صحّف الدعيُّ! إنما هو: تدارَكْ ناقَتي بقُرابِها، أي ما دمت أطمع فيها، وفي المثل: الفِرارُ بقُرابٍ أكْيَسُ.
قلت: الصواب: بقُرابِها بضم القاف وبعد الألف موحدة وبعدها هاء.
(س ث) خالف الخليلُ بن أحمد الناسَ في أشياء منها: بُغاث، بغين منقوطة، وهذا يوم مشهور من أيام الأوس والخزرج، وهو يوم بُعاث، بعين غير منقوطة.
قلت: قد وَهِمَ ابن دريد في نسبة هذا القول الى الخليل وإنما هو عن الليث وهو الذي ألف كتاب العين.
(وق) ومن ذلك أن العامة تذهب الى أنّ البَقْلَ ما يأكله الناسُ خاصةً دون البهائم من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله الى طبخ. وليس كذلك. إنما البَقْل العُشْبُ وما يُنبِتُه الربيعُ مما يأكله الناس والبهائم، قال الشاعر:
فلا مُزْنَةٌ ودقَتْ ودْقَها ... ولا أرضَ أبْقَلَ إبقالَها
(ز) ويقولون للعودِ الذي يُصبَغ به الثياب: بَقَمٌ. والصواب بَقَّمٌ، بالتشديد، قال الأعشى:
بكأسٍ وإبريقٍ كأنّ شَرابَه ... إذا صُبَّ في المِصْحَاةِ خالَطَ بَقَّما
(و) ويقولون: بقَّل وجهُ الغلام، بالتشديد. والصواب تخفيفه.

(م ز ح) يقولون بَكَرَ بمعنى غدا إليه بُكْرةً. والعرب تقول في كل ما يخفّ فيه فاعله ويعجل إليه: قد بَكَر إليه، مخففاً، ولو أنه فعل ذلك آخر النهار أو في أثناء الليل، يدل عليه قول ضَمْرة بن ضَمْرة النّهْشليّ:
بَكَرَتْ تلومُكَ بعد وهْنٍ في الدُجى ... بَسْلٌ عليكِ مَلامتي وعِتابي
(م ز) ويقولون: للذي يُستَقى عليه: بَكَرَةٌ، وبعضهم قد يُقحِم الألف فيقول: بَكارَةٌ. والصواب: بَكْرَة، بالتخفيف، قال زهير:
غَرْبٌ على بَكْرَةٍ أو لُؤلُؤٌ قلِقٌ ... في السِّلْكِ خان به رَبآهتِه النّظْمُ
ويجمع على بكَرات، قال الراجز:
شَرُّ الدِلاءِ الوَلْغَةُ المَلازِمهْ
والبَكَراتُ شرُّهُنّ الصّائِمهْ
(ز) ويقولون للجارية العذراء بَكْر. والصواب: بِكْر، والجمع أبكار.
قلت: يريد أنهم يفتحون الباء، والصواب كسرها. فأما البَكْر فهو الفَتيّ من الإبل، والأنثى بَكْرَةٌ.
ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين قولهم بِكَمْ ثوبُكَ مصبوغاً؟، وبِكَمْ ثوبُك مصبوغٌ؟ وبينهما فرق يختلف المعنى فيه، وهو أنك إذا نصبتَ مصبوغاً كان انتصابه على الحال، والسؤال واقع عن ثمن الثوب وهو مصبوغ. وإن رفعتَ مصبوغاً رفعتَه على أنه خبرُ المبتدأ الذي هو ثوبك، وكان السؤال واقعاً عن أجْرَةِ الصِّبغ، لا عن ثمن الثوب.
(ص) ويقولون للقميص الذي لا كُمَّيْنِ له: بَكيرة، بحرف بين الكاف والقاف. والصواب: بَقيرة بقاف محضة.
(س ث ك) حدثني علي بن الصباح الشيرازي قال: صحف ابن الأعرابي فأنشد بيت جرير، وحدّثنيه يحيى بن عليّ قال: حدثني مَنْ سمِعَ ابن الأعرابي صحّف بيت جرير فأنشد:
وبُكْرَةِ شابِكِ الأنيابِ عاتٍ ... منَ الحيّاتِ مَسْمومِ اللعابِ
فقال: وبُكْرة، فرد عليه فقال: إنما أراد أنه يُصبَّحُ بالحيّة بُكْرَة، فقيل له: الاحتجاج في هذا لا معنى له، فرجع.
ووجدته بخط ابن مهرة، حدثني محمد بن جرير بن مسفع قال: فقال عبد الله بن يعقوب: إنما هو: ونُكْزَة، فتبقى واجِماً.
قلت: تقول العرب: نَكَزَتْه الحيّةُ، بالنون والكاف والزاي، إذا لدغته بأنفها، فإذا عضته بنابها قيل: نَشَطَتْه ونَهَشَتْه، قال رؤبة:
لا تُوعِدَنّي حيَّةٌ بالنكْزِ
(س ك) ألْقى يوماً عليٌ الأحمر على الأمين ولَدِ الرشيد فقال: تقول العرب: حمراءة وبيضاءة. فقال الكسائي: ما سمعتُ هذا، قال الأحمر: بلى واللهِ سعتُ أعرابياً ينشد، يقال له مزيد:
كأنّ في رَيِّقِه لمّا ابتسَمْ
بلقاءةً في الخيل عن طفل مُتِمْ
يعني السحاب.
فقال الكسائي: إنما هو: بلقاء تَنْفي الخيلَ، أي تطرد.
(ث ك س) قال ابن الأعرابي: قد بَلّغ الشيبُ في لحيته، إذا ابتدأ، فرُدَّ عليه وقيل له: يونس يقول فيه: بلّع، فقال: ولا كرامة، هو بَلّغ، وبقي على هذا مدة ثم قال: يقال للشيب حين يبدو: بلّغ وبلّع.
قلت: قاله ابن الأعرابي بالغين معجمة. والصواب بالعين مهملة.
(ص) ويقولون لما حول الفم: بَلاعم. والصواب مَلاغِم، بالميم والغيم المعجمة، فأما البلاعم فجمع بُلْعوم وهو الحَلْق.
(وص) ويقولون: بَلعتُ بَلْعاً. والصواب: بَلَعاً، بفتح اللام.
(ص) ويقولون: فيك بَلْهٌ. والصواب بَلَهٌ، بفتح اللام.
(زص) ويقولون: بَلْقيس. والأكثر والأصوب: بِلْقيس، بكسر الباء.
(ص) وربما قالوا للأبقع من الكلام وغيرها: بُلَيَّق.
والصواب: بُلَيْقٌ، بتخفيف اللام على تصغير الترخيم. ومن أمثال العرب: يَجْري بُلَيْقٌ ويُذَمّ.
(ز) ويقولون للبيت المُحَسَّن البناء: بَلاط. والبلاط: الحجارة المفروشة بالأرض. وروى يعقوب عن الأصمعي أن البلاط الأرض الملساء، قال مزاحم:
عَوابِسُ ينْحَتنَ البلاطَ بشدّةٍ ... يُدارِكْنَ بالإيماضِ عن حَدَقٍ نُجْلِ
(و) والعامة تقول: البَلّور، فتفتح الباء وتضم اللام. والصواب كسر الباء وفتح اللام.
(ص) ويقولون للّقْلَق: بُلاّرِج. والصواب: بَلّورَج، عن ثعلب.
قلت: يريد الصواب بفتح الباء، وتشديد اللام مضمومة، وبعدها واو ساكنة وراء وجيم.
(ص) ويقولون: البَلْح. والصواب: البَلَح، بفتح اللام.
(س ث) حكى ابن دريد، عن أبي حاتم قال: أنشدتُ الأصمعي:
جأباً تَرى بِلِيتِه مُسَحّجاً

فقال: صحّفتَ، إنما هو: تَليلَه مُسَحَّجا، مَنْ أنشدَكه؟ قلت: أعلمُ الناس. فتغافل عني.
قال: ابن دريد: إنما عَنى أبو حاتم أبا زيد.
(وح) ويقولون: بَنى بأهله. ووجه الكلام أن تقول: بَنى على أهله، والأصل فيه أن الرجل إذا أراد أن يدخل على عِرْسِه بَنى عليها قُبّة، فقيل لكل مَنْ أعرس: بانٍ، وعليه فسّر أكثرُهم قولَ الشاعر:
ألا يا مَنْ لذِي البَرْقِ اليماني ... يلوحُ كأنّه مِصْباحُ بانِ
(م ص ز) ويقولون: بَنيقَة القميص، للقطعة من الشقة بجنب القميص. والبَنيقَةُ: لَبِنَةُ القميص التي فيها الأزرار، وأنشدنا: أبو عليّ قال: أنشدنا ابن الأنباري:
يضُمُّ إليّ الليلُ وأطفالَ حُبِّها ... كما ضمّ أزرارَ القميصِ البَنائِقُ
(ص ز) ويقولون: طعام ذو بَنّةٍ، إذا كان ذا طِيبٍ ومَساغ.
والبَنّةُ الرائحة الطيبة، يقال: شراب ذو بَنّةٍ، إذا كان طيب الريح.
(ص) ويقولون: بَنَفْسِج. والصواب: بنَفْسَج، بفتح السين.
(ص) ويقولون: بِنْدٌ وخِصْر، والصواب: بَنْد، على وزن طَبْل، وخَصْر، على وزن جَنْب وبَطْن.
(ص) ويقولون: بُنْك الشيء، وهو عند العامة معظمه. وليس كذلك. إنما بُنْكُ كل شيء: خالِصُه.
(س ك) ذكَرَ بسندِه الى عبد الله بن شيخ الأسدي قال: كنا عند أبي عمرو الشيباني فأنشد للكميت بن زيد الأسدي يمدح مُخلد بن يزيد المُهَلّبي:
وبنيَّ منك الى مَواهِبَ جَزْلَةٍ ... رِفْداً من المعروفِ غير تعرُّفِ
فقلت له: ما معنى وبَنيّ منك؟ فقال: وهَبَ له أمهاتِ أولاده.
فقلت له: يا هذا ما أنت أعلم بالكميت منا، إنه لم يكن له أمُّ ولدٍ قط، ولم يولَدْ له إلا من ابنة عمه حُبَّى بنت عبد الواحد، فقال: فكيف المعنى؟ قلت: ونُبِئُ منْكَ الى مواهب جزلة، فقال: حسْبُك؛ وقَفْتَني على الطريق.
(ك) صحَّف ابن الأعرابي في أول قصيدة عُبيد الله بن قيس الرقيات التي رثى بها مُصْعَباً:
أتاكَ بياسرٍ نَبأُ جَليلُ ... فلَيْلُكَ إذ أتاكَ بهِ طويلُ
فقال هو: أتاك بنا سَرنباء جليل، فسئل عن السرنباء، فقال: دابّة من دوابّ البحر! (س) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو ذكوان، عن التّوزي عن الأصمعي قال: كنتُ عند شُعبة فأتاه حماد بن سلمة قال شعبة: هذا الفتى الذي وصفته لك، يعنيني، قال حماد كيف تروي:
أولئك قومٌ إنْ بَنوا أحسَنوا...
فقلت: ... أحسنوا البِنا، وإنْ عاهدوا أوْفَوا، وإن عقَدوا شَدّوا، فقال حماد لشعبة: ليس كما روى. فقلت: فكيف يا عم؟ قال: البُنا، سمعت أعرابياً يقول: بَنى يَبْني بِناءً، من الأبنية، وبَنى يَبْنو، من الشَرَف. فكنت بعد ذلك أتوقّى حماداً.
قلت: يريدُ البُنا، بضم الباء.
(و) تقول العامة: البَهار بفتح الباء. والصواب ضمها. وهو الحِمْل.
قلت: البُهار بالضم شيء يوزَن به، وهو ثلاثمائة رطل. وقال عمرو ابن العاص: إن ابن الصعبة - يعني طلحة بن عبيد الله - ترك مائة بُهار، في كل بُهار ثلاثة قناطير ذهب، فجعله وِعاءً.
ويتوهمون أن البَهيم نعت يختص به الأسود، لاستماعهم: ليل بهيم، وليس كذلك، بل البَهيم: اللون الخالص الذي لا يخالطه لون آخر، ولذلك لم يقولوا لليل المقمر ليل بهيم لاختلاطه بضوء القمر، فعلى هذا تقول: أبيض بهيم، وأشقر بهيم. وجاء في الآثار: يُحْشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً بُهْماً، أي على صفة واحدة: وذلك صحة الأجساد والسلامة من الآفات، ليتم لهم خلود الأبد، والبقاء السرمد.
(ص) ويقولون بِهرام. والصواب فتح الباء. وهو بَهرام بن أرْدَشير، فارسي.
(ص) ويقولون للإصبع: بَهْمُ. والصواب: إبْهام.
(ق) ومن ذلك: البَهْنانة، تذهب العامة الى أنه ذمٌ، يعنون بها المرأة البَلْهاء، وليس كذلك. بل هي صفة مدح، إذا كانت ضحّاكة مُتهللة، وقيل هي الطيبة الريح الحسنة الخلق، السمحة لزوجها. قال الشاعر:
ألا قالتْ بهانُ ولم تأبّقْ ... نعِمْتَ ولا يَليقُ بكَ النّعيمُ
أراد بهنانة، وتأبّق: تتأثم.
(وق) ويقولون للشيء تذيب فيه الصّاغةُ من الصُّنّاع: البُوتقَة. قال الخليل: هي البوطَة.
(ق) ويقولون: البوتَنْك وهو الفوتنج، وهذان معربان، والفوتنج بالعربية يسمى الحَبَق.

(ق و) والعامة تقول: البُورَق، لهذا الذي يُلقى في العجين. وهو خطأ، لأنه ليس في الكلام فوعَل بضم الفاء، وكل ما جاء على وزن فَوْعَل فهو مفتوح الفاء، نحو جَوْرَب، ورَوْشَن.
(ص) بيت أبي صخْر الهُذَليّ وهو:
للَيْلَى بذاتِ الجَيْشِ دارٌ عرَفْتها ... وأخرى بذاتِ البِينِ آياتُها سَطْرُ
الرواية بفتح الجيم من الجَيْش، وكسر الباء من البِين.
يقولون: المال بين زيد وبين عمرو، بتكرير لفظة بين.
والصواب أن يقال: بين زيد وعمرو، كما قال تعالى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ)، والعلة فيه أن لفظة بين تقتضي الاشتراك، فلا تدخل إلا على مثنّى أو مجموع كقولك: المال بينهما والدار بين الإخوة. فأما قوله تعالى: (مُذَبْذَبينَ بينَ ذلك) فإنّ لفظة ذلِك تؤدي عن شيئين، ألا ترى أنك تقول ظننتُ ذلِك، فتقيم لفظ ذلك مقام مفعولَيْ ظننتُ.
ويقولون للمتوسط الصفة: بيْنَ البَيْنَيْن. والصواب أن يقال: بيْنَ بَيْن، كما قال عبيد بن الأبْرَص:
نَحْمي حَقيقتَنا وبعضُ القومِ يسقُطُ بينَ بيْنا
أي بين العالي والمنخفض.
(وح) ويقولون: بيْنا زيدٌ قام إذ جاءَ عمروٌ، فيتلقّون بينا بإذ. والمسموع عن العرب: بينا زيد قام جاء عمرو، بلا إذ؛ لأن المعنى فيه: بين أثناء الزمان جاء عمرو، وعليه قول أبي ذؤيب:
بينا تُعانِقُه الكُماةُ وروغه ... يوماً أتيحَ له جريءٌ سَلْفَعُ
فقال: أتيح، ولم يقل: إذ أتيحَ.
ويقولون في جمع بيضاء وصفراء وسوداء: بيضاوات وصفراوات وسوداوات. وهو لحن فاحش، لأن العرب لم تجمع فَعْلاء التي هي مؤنثة أفْعَل بالألف والتاء، بل جمعته على فُعْل، نحو: بيض وصُفْر وسُود، كما جاء في القرآن: (ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألوانُها وغَرابيبُ سودٌ).
(ص) قول امرئ القيس:
وتحْسِبُ سَلْمى لاتزالُ تَرى طَلا ... مِنَ الوحشِ أو بَيْضاً بمَيْثاء مِحْلالِ
يكسرون الباء من بَيْض، والميم من مَيْثاء. والصواب فتحهما.
(ص) ويقولون للبقعة البيضاء، تكون في البر أو البحر: بَيّاضة. والصواب: بَيَاضة، بالتخفيف، لأنه يقال: في عين الإنسان بَياضَة وبَيَاضٌ، وفي عينه كَوْكَبة وكوكب.
(ق) ويقولون: الأيام البيض، فيجعلون البيض صفة الأيام، والأيام كلها بيض، وهو غلط. والصواب أن يقال: أيام البيض، أي أيام الليالي البيض، لأن البيض وصف لها دون الأيام، وهي الثالثة عشرة، والرابعة عشرة والخامسة عشرة. وسميت بيضاً لطلوع القمر فيها من أولها الى آخرها.
(و) العامة تقول: بينهما بَيْنٌ. والصواب: بَوْنٌ بالواو.
(ق) يقولون: بِيْرم النجار، وهو حديدة، بكسر أوله. والصواب فتحه.
(ص) ويقولون: بِيْطار. والصواب: بَيْطار، وبَيْطَر، ومُبَيْطِر. وأصله من البَطْر وهو الشق.
قلت: يقولونه بكسر أوله. والصواب فتحه.

حرف التاء المثناة من فوق

(ق) ومن ذلك: التّابل والأبْزار، يفرِّق عوام الناس بينهما. والعرب لا تفرق بين التابل والأبزار والقِزْح والقَزْح والفِحا والفَحا، كلّه بمعنى: تَوْبَلتُ القِدْرَ، وقزحتها وفحيتها، إذا ألقيت فيها الأبزار.
ويقولون: في النسبة الى تاج الملك: التاج ملكيّ. وقياسه في كلام العرب: التاجيّ؛ لأنهم ينسبون الى تيم اللات: تيميّ، والى سعد العشيرة: سعديّ، إلا أن يعتَرِضَ لَبْسٌ في المنسوب فيُنْسَب الى الثاني، كما قالوا في عبد مَناف مَنافيّ، وفي النسب الى أبي بكر: بكْريّ.
(ز) ويقولون: التَّبْن، بفتح أوله. وهو التِّبْن، بالكسر، وهو أيضاً الحَثَى مثل الحَفا. قال الراجز:
كأنه حقيبةٌ مَلأى حَثى
والتِّبْن إناء يروي نحو العشرين رجلاً، وقد روى بعضهم تَبْن، بالفتح.
قلت: قال الكسائي: التِّبْن أعظم الأقداح يكاد يروي العشرين، ثم الصَّحْن مقارب له، ثم العُسّ يروي الثلاثة والأربعة، ثم القَدَح يروي الرجلين، ثم القَعْب يروي الواحد، ثم الغُمَر.
يقولون: تبرَّيْتُ من فلان، بمعنى بَرِئْتُ منه، فأما ما هو بمعنى البراءة فيقال: تبرّأْتُ، كما قال تعالى: (تبرّأْنا إلَيْك).
(و) ويقولون: ما هذا التباطِي؟. والصواب: التباطؤ.
قلت: يريد أنهم يقولون بالياء، وهو بالهمز وضم الطاء.

ويقولون: تتابعتْ عليه النوائِبُ. ووجه الكلام أن يقال تتايعتْ، بالياء المعجمة باثنتينِ من تحت، لأن التتابع يكون في الخير والشر، والتتايع يختص بالمنكر والشر، كما جاء في الخبر: (ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب كما يتتايع الفراش في النار).
(ص) ويقولون: المسلمون تتكافا دماؤهم. والصواب: تتكافأ، أي تتساوى.
قلت: الصواب: تتكافأ بهمز آخره.
(و) يقولون: تثاوبت. والصواب: تثاءبت، وهي الثُؤَباء، ممدودة.
قلت: يقولونه بالواو، وهي بالهمزة.
ويقولون لمن أصابته الجنابة: قد تجنَّب. ومعنى تجنَّب أنه أصابته ريح الجنوب، فأما الجنابة فيقال فيه: أجْنَبَ.
(ص ح و) تقول العامة: تَجيرِ، لعصارة التمر، بالتاء. وإنما هو ثَجير بالثاء.
قلت: الثجير، بالثاء المثلثة ثُفْل كل شيء يُعْصَر، وفي الحديث: لا تَثْجُرُوا، أي لا تخلطوا ثجير التمر مع غيره في النبيذ.
(ق) التحليق تذهب العامة الى أنه رمي شيء من علو الى أسفل، وهو غلط، إنما التحليق الارتفاع في الهواء، وحلق الطائر في كبد السماء إذا ارتفع في طيرانه.
(ز) ويقولون: قد تخلَّقتْ ثيابه، إذا بَلِيَتْ. والصواب: خَلِقَتْ ثيابه، تخْلَقُ، فهي خَلَقٌ، وأخلقتْ فهي مُخلِقة.
(ص) ويقولون: تخرّس على السلطان، إذا قال عليه ما لم يقل. والصواب: تخرَّصَ، بالصاد. وقد نطق القرآن به ماضع فقال: (قُتِلَ الخرّاصُونَ).
(و) وتقول العامة: تخاريس. والصواب: دخاريص، وهي فارسية معربة.
قلت: هي بالدال والصاد.
(وزص) ويقولون: تَرْكُوة. والصواب: تَرْقُوة.
قلت: يريد أنهم يقولونه: تركوة، بالكاف، وهي بالقاف. والترقوة العظم الذي بين ثُغْرة النّحْر والعاتِق، وهي فَعْلُوة، ولا تقل: تُرقُوة بالضم من أوله.
(و) تقول العامة: ما هذا التّرادُو؟. والصواب: ما هذا التّرادِي؟ وليس في العربية واو ساكنة في آخر الاسم ولا المصدر. وإنما العرب تقول: ترادأ فلان ترادؤاً، بالهمز، فإذا خففوا قالوا: الترادي.
(ز) ويقولون: جاء بلا تربُّق. والصواب: بلا ترفُّق، يقال: رَفَق الرجل يرفُق رِفْقاً وتَرفُّقاً.
(ص) ويقولون في قول كُثيّر:
ولما وقفنا والقلوبُ على الغَضَى ... وللدمعِ سَحٌ والفرائِصُ تُرْعَدُ
يقولون: ترعد بفتح التاء، والصواب: تُرعَد بضمها.
(ق و) وتقول العامة تَدَرْمَن على الشيء. والصواب: تمرّنَ.
قلت: يقولونه بدال وراء، والصواب بالميم والراء المشددة والنون.
(زص) ويقولون: تَدَعْدَعَ البناءُ. والصواب: تذَعْذَع، بالذال، وأصل التّذعْذُع: التفرُّق، قال الحسن البصري رضي الله عنه: لا أعلمنّ ما ضنّ أحدكم بماله، حتى إذا كان عند موته ذعذعه ها هنا وها هنا.
(ص) ويقولون: تدشَّيتُ. والصواب: تجشّأْتُ، بالجيم والهمزة، قال حسان بن ثابت:
ألا طِعانَ، ألا فرسانَ عاديةٍ ... إلا تَجشُّؤَكم عندَ التنانيرِ
ويقولون في مصدر ذَكَر: تِذْكار، بكسر التاء. والصواب فتحها كما تفتح في تَسْآل وتَسيار وتَهيام، وعليه قول كُثيّر عزة:
وإنّي وتَهيامي بعزةَ بعد ما ... تخلّيتُ مما بيننا وتخلَّتِ
وجميع المصادر كذلك، إلا قولك تِلقاء وتِبيان، فأما أسماء الأجناس والصفات فقد جاء منها عدة على تِفعال بكسر التاء، كقولهم: تِجْفاف، وتِمساح، وتِقْصار، وهي المخنقة القصيرة، وتمراد وهي بيت صغير يتخذ للحمام.
(ص) سأل أبو زيد الأخفشَ فقال: كيف تقول يوم التروية؟ أتهمز؟ قال: نعم، قال ولمَ؟ قال: لأني أقول: روّأتُ في الأمر.
قال: أخطأتَ، إنما هو تروَّيت من الماء، غير مهموز.
(س) أخبرني الهِزّاني عن الجَهْمِيّ قال: في الأنصار تَزيدُ ابن جُشم بن الخزرج بن حارثة، وليس في العرب تزيد إلا هذا وتزيد بن حَيْدان في مَهْرة، وهم الذين تنسب لهم الرِّحال التزيدية، قال علقمة بن عَبَدَة:
............ ... فكُلُّها بالتّزِيديّاتِ مَعْكومُ
ثم قال الجهمي: وبيت أبي ذؤيب:
......... كأنّما ... كُسِيَتْ بُرودَ بَني يَزيدَ الأذْرُعُ
بياء تحتها نقطتان.
(ص) ويقولون: تَسْبيجَة. والصواب: دسْتيجة.
(س ك) حدثنا عون بن محمد، ثنا محمد بن عمران الضبي قال: أنشدنا أبو عمرو الشيباني:

وقربنَ للأحداجِ كُلَّ ابن تسعةٍ ... يضيقُ بأعلاه الحَويَّةُ والرَّحْلُ
فقال رجل: ما ابن تسعة؟ فقال: حتى أفكر، فقال الرّجُلُ: إنما هو ابن نِسْعَة - أراد أنه ابن سريعة كالنسعة، وهو على هذه الصفة. فسكتَ.
قلت: قاله أبو عمرو بالتاء، والصواب أنه بالنون.
(و ص ق) ويقولون: الشاة تشْتَرّ. والصواب: تجْتَرّ.
قلت: يقولونه بالشين، والصواب بالجيم.
(ق) ويقولون لما يلقى من الشجر: خشب التشتيخ. والجيد أن يقال: خشب التشديخ، يقال: شَدَختُ الغصنَ، ونحوه، إذا كسرته، ويقال له أيضاً: الشُّذابة. وحُكِي عن أبي عمرو أنه يقال: شنّخَ نخلَه، إذا نزع عنه سُلاّه.
(ص) ويقولون: تشحّطَ الصبيُّ، إذا بكى، وتشحّطتِ المرأةُ إذا صاحتْ. وليس كذلك. إنما التشحُّط: التضرّج بالدم.
قلت: هو بالحاء المشددة والطاء المهملتين، تشحّط المقتول بدمه، أي اضطرب فيه وتلطخ به، وما أحسن قول أبي نواس:
يا ناظراً ما أقلعتْ نظراته ... حتى تشحّط بينَهنّ قتيلُ
(س ق ك) حدثنا محمد بن الرياشي قال: حدثنا أبي قال: أنشد المفضل الضبي والأصمعي حاضر:
بين الأراك وبينَ النّخْل تشْدَخُهم ... زُرْقُ الأسنّةِ في أطرافها الشَبمُ
فقال الأصمعي: يا أبا العباس، فقد صارت الرماح إذن كافر كوبات، لأنها تشدخ، قال: فكيف رويته؟ قال: تسْدَحهم، والسَّدْح: الصرع بطحاً على الوجه أو الظهر.
قلت: السّدْح، بالسين والدال والحاء المهملات، وهو الصرع بطحاً على الوجه أو على الظهر، لا يقع قاعداً ولا متكوراً.
(س ث) روى الأصمعي قول ذي الرمّة:
............ ... فيها الضفادعُ والحيتانُ تصطخِبُ
قال أبو علي الأصبهاني: أيُّ صوت للسمك؟! إنما هو تصطحب، أي تتجاور.
ويقولون: الحواملُ تطْلُقْنَ، والحوادثُ تطْرُقْنَ، فيغلطون فيه، لأنه لا يجمع في هذا القبيل بين تاء المضارعة والنون التي هي ضمير الفاعلات. ووجه الكلام أن يلفظ فيه بياء المضارعة كما قال تعالى: (تكادُ السّمَواتُ يتَفَطّرْنَ منه)، وعلى هذا يقال: الغواني يمرحنَ، والنّوق يسرحنَ.
(ز) ويقولون: تطأطأ لها تخْطيكَ، ويذهبون الى الخُطا.
والصواب: تخْطُكَ، أي تَجُزْكَ، ويقال أيضاً: تطامَنْ لها تَجُزْكَ.
(ص) ومن ذلك التطفيف، وهو عندهم التوفية والزيادة، لا يعرفون فيه غير ذلك، ويقولون: إناء مطَفَّف، أي ملآن حتى فاض، أو كاد. وليس كذلك. إنما التطفيف: النقصان، يقال: إناء طفّان، وهو الذي قاربَ أن يمتلئَ، ويروى عن سلمان أنه قال: الصلاةُ مكيال فمَنْ وفّى وُفِّيَ له، ومَنْ طفّف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطفِّفين.
(ق و) والعامة تقول للمرأة: تعالِي. والصواب تعالَيْ، بفتح اللام.
قلت: قال تعالى: (فتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنّ...).
(ص) ويقولون: خمِّروا الإناء، ولو أن تعرِضوا عليه عُوداً، وتَعرضوا، بضم الراء؛ وهو المختار.
(م) ويقولون: تعِبَ الخَضِرُ في حاجةِ الإسكندر. وإنما هو تَعِبَ الإسكندرُ في حاجة الخَضِر.
ويقولون: لمَنْ يأخذ الشيءَ بقوة: قد تَغَشْرَمَ وهو متغَشرِم.
والصواب أن يقال: تَغَشْمَر، بتقديم الميم على الراء، قال الراجز:
إنّ لها لسائٍِاً عَشَنْزرا
إذا ونَيْنَ ساعةً تَغَشْمَرا
(ق) ويقولون: تِغار. وهو التّيغار، بالياء، على وزن تِفْعال، مثل تِجفاف، وكذا أملاه عليّ أبو زكرياء عن أبي العَلاء في باب تِفعال.
(س) أنشد ابن الأعرابي:
تفاطيرُ الشبابِ بوجهِ سَلْمى ... حديثاً لا تفاطيرُ الشرابِ
قاله بتاء فوقها نقطتانِ، وقال: هي آثار الكِبَر، وقال: ليس: نفاطير، بالنون، بشيء.
قال العسكري: وقال أصحابنا: كلهم يقولونه: نفاطير، بالنون.
ويقولون: تفرّقت الأهواءُ والآراءُ. والاختيار افترقتْ، كما جاء في الخبر: تفترق أمتي كذا وكذا، أي تختلف. فأما التفرق فيستعمل في الأشخاص والأجسام، فإذا قيل: لزيدٍ ثلاثة إخوة متفرقين، كان المعنى أن كُلّ واحدٍ منهم ببقعة، وإن قيل: متفرقينَ، كان المعنى: أحدهم لأبيه وأمه، والآخر لأبيه، والثالث لأمه.
(ص) ويقولون: تفْتَرّ عن بَرَدٍ. والأفصح الأشهر تُفْتَرُّ، على ما لم يسمَّ فاعله، يقال: فُرَّ، وافْتُرَّ.

(ص) ويقولون: تَفَرُ الدابّة. والصواب: ثَفَرٌ، بالثاء. وسُمّي بذلك لمجاورته ثَفْر الدابة، بالإسكان، وهو حياؤها. وأصلها للبؤة.
(ز) ويقولون: تَقَعْور في كلامه. والصواب: تَقَعَّر، وقَعَّر، وهو أن يتكلم بملءِ فيه.
(ز) ويقولون: التَّقْدَمة، في الشيء يقدم فيه. والصواب: تَقْدِمَة، وكذلك ما كان على فَعَّل جاء مصدره على تَفْعِلَة قياساً.
(س) في كتاب العين: تقيّأَت المرأة على زوجها، إذا تثنّتْ عليه متغَنِّجَة. واحتجّ بقول الراجز المظلوم:
تقيأَتْ ذاتُ الدلالِ والخَفَرْ
وإنما هو تفيّأَتْ، بالفاء، وتفيؤها عليه: تميلها وتغنجها دَلاًّ، ومنه يقال: تفيّأَ الزَرعُ.
(وح) ويقولون: أنت تُكْرَمُ عليّ، بضم التاء وفتح الراء. والصواب: تَكْرُمُ عليّ، بفتح التاء وضم الراء؛ لأن فعله الماضي كَرُمَ، ومن أصول العربية: كُلُّ ما جاء من الأفعال الماضية على مثال فَعُلَ، بضم العين كان مضارعة على يَفْعُل، مثل حَسُن يحْسُن.
(ق و) العامة تقول: تِكريت، بكسر التاء. والصواب فتحها.
(ز) ويقولون: تَكّة. والصواب: تِكّة، والجمع تِكَك.
قلت: يريد أنهم يفتحون التاء والصواب كسرها.
(ص) ويقولون: تلَبّشَ فلان بفلان، إذا تعلق به ولم يفارقه.
والصواب: تلبّس، من اللباس.
(و) وتقول العامة: التّلِّيسة، بفتح التاء، وقال ثعلب: قول الكُتّاب لكيس الحساب: تَلّيسة بفتح التاء غلَطٌ. والصواب كسرها.
(ح ق) ويقولون: تَلِميذُ فلانٍ، بالفتح. والصواب بالكسر.
(ص) ويقولون: إذا كانت الكلابُ تَلِغُ في الماء. والصواب تَلَغُ، بفتح اللام.
(ص) ويقولون: تَماسَى الثوب. والصواب: تمَسّى. ذكر ذلك أبو عبيد في غريب الحديث، وفي رواية تَمَسّأَ، وقال أبو زيد تفَسّى الثوب. وقال: أبو سعيد السُكَّري: هكذا رُوِي عن أبي عبيد: تَمَسّى، والصواب عندي تفَشّى.
قلت: وقد جاء في تمسّى بالسين المهملة والألف، وتفسّى بالفاء والسين، وأيضاً تفشّى بالفاء والشين المعجمة. ولم يقل أحد بقول العوام.
ويقولون لمن تغيّر وجهُه من الغضب: قد تمَغّر وجهُه، بالغين المعجمة. والصواب فيه: تمَعّر، بالعين المغفلة. ذكر ذلك: ثعلب واستشهد عليه بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ اللهَ عزّ وجلّ أمرَ جبريلَ عليه السلام بأنْ يقلِبَ بعض المدائن، فقال: يا رب فيها عبدك الصالح، فقال: يا جبريل ابدأْ به، فإنه لم يتمعَّرْ وجهُه لي قط، أي لم يغضب لأجلي.
ومن ذلك أنهم لا يفرقون بين التمني والترجي، والفرق بينهما واضح، وهو أنّ التمني يقع على ما يجوز أن يكون ويجوز ألاّ يكون لقولهم: ليت الشبابَ يعود، والترجي يختص بما يجوز وقوعه، فلا يقال: لعل الشباب يعود، ولهذا فرق نحاة البصرة بينهما في باب الجواب بالفاء، وأجازوا أن تقع الفاء جواب التمني في مثل قوله عز وجل: (يا لَيْتَني كُنتُ معَهُم فأفوزَ فوْزاً عظيماً)، ونهوا أن تقع الفاء جواباً للترجي، وضعّفوا قراءة من قرأ: (لعَلّي أبْلُغُ الأسباب، أسْبابَ السّمَواتِ فأطّلِعَ الى إلهِ موسى)، بنصب أطّلِع.
(ص) ويقولون: تَنَوّر الرجلُ، من النُّوْرَة. والصواب: انْتَوَر، وانْتار ولا يقال: تنوّرَ، إلا إذا أبصر النار.
قلت: انتور، بهمزة وصل، وتقديم النوم على التاء. وأما تنوّرَ، من النار، فلقول امرئ القيس:
تنَوّرتُها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثربَ أدنى دارِها نظَرٌ عالِ
(ص) ويقولون: تنخّى الإنسان. والصواب: تنخّع، وتنخّمَ، وهي النُخاعة، والنُّخامة، فأما تنخّى فهو من النّخْوة وهي الكِبْر.
(س ك) قال حماد بن إسحاق: أنشدنا خالد بن كلثوم لرجل من كندة:
فلما رآني قد نزَلْتُ أريدُهُ ... تنَحْنَحَ عنّي ساعةً ثمّ أقدَما
فقلت له: ما معنى تنحنح؟ قال: سعَلَ من فرَقي، فقلت له: إن الأصمعي أنشدنا: تنجنج عني، فقال: وما معنى تنجنج؟ قلت: قال معناه تهيّب أمري ثم أقدم.
قلت: صوابه بالجيم، وهو بالحاء خطأ.
(و) تقول العامة: التَّنّين بفتح التاء. والصواب كسرها.
(ق و) وتقول العامة: تنهّسَ النصارى، بالهاء، إذا أكلوا اللحم قُبيل صومهم. والصواب: تنحّسَ، بالحاء.

قال: قرأتُ على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هذا غلط في اللفظ وقلْبٌ للمعنى الى ضده، أمااللفظ فإنما يقال بالحاء، وأما المعنى فإنما يقال لهم ذلك إذا تركوا أكل اللحم، ولا يقال لهم ذلك إذا أكلوه. قال ابن دريد: هو عربي معروف لتركهم أكل الحيوان، ويقال: تنحّس، إذا تجوّع - كما يقال: توحّش - وكأنه مأخوذ منه، كأنهم تجوّعوا من اللحم.
ويقولون: تنَوّقَ في الشيء. والأفصح أن يقال: تأنّقَ، كما رُويَ للمنصور، رحمه الله تعالى:
تأنّقْتُ في الإحسانِ لم أكُ جاهِداً ... الى ابن أبي لَيْلى فصيّره ذَمّا
فواللهِ ما آسَى على فوْتِ شُكْرِه ... ولكنّ فوْتَ الرأي أحدثَ لي هَمّا
(ص) ويقولون: فكُنّا نتحدّث أنّ غسّانَ تُنعِّلُ الخَيْلَ، بتثقيل العين. والصواب: تُنْعِل الخَيْلَ، بالتخفيف، وأكثر ما تقول العرب: أنْعَلْتُ فرسي.
(ز) ومما يوقعونه على الشيء خاصةً، وقد يَشْرَكُه في ذلك غيره، من ذلك قولهم لتنوير الآس خاصةً: تَنْوِير. والتّنوير: نَوْر الشجر كله، والجمع تناوير.
تهافَتَ لا تستعمل إلا في المكروه والحَزَن.
قلت: التهافت: التساقط قطعة قطعة، وتهافتَ الفراشُ في النار أي تساقط.
(ص) ويقولون: تُهامة. والصواب: تِهامة، بالكسر، وإذا نسبت إليها قلت: تَهامٍ، كيَمانٍ، وتَهاميّ كيَمانيّ.
ويقولون: التّوضّي، والتّباطي، والتّبرّي، والتهزّي. والصواب فيه أن يقال: التوضّؤ، والتّباطُؤ، والتّبرّؤ، والتّهزّؤ. وعقد هذا الباب أن كل ما كان على وزن تفعّل وتفاعَل مما آخره همزة كان مصدره على التّفعُّل والتّفاعُل وهمز آخره.
(و ح ق) ويقولون: تواتَرَتْ كُتبي إليك. يعنون: اتصلت من غير انقطاع، فيضعون التواتر في موضع الاتصال، وذلك غلط.
إنما التواتُر: مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه، وهو تَفاعُلٌ من الوتْر وهو الفَرْد، يقال: واتَرْتُ الخبرَ: اتبعتُ بعضَه بعضاً، وبين الخبرين هُنَيْهَة، قال الله تعالى: (ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى).
(ص) ويقولون: مَنْ تَوضّا بماء غير طاهر. بغير همز، وربما كتبوه بالياء، والصواب: توضّأ، بالهمز.
ويقولون لمن أخذ يميناً في سعيه: قد تَيامَنَ، ولمن أخذ شمالاً: قد تشاءَمَ.
والصواب أن يقال فيهما: يامَنَ وشاءَمَ، وأن يقال للمُستَرْشِد: يامِنْ يا هذا، وشائِمْ: أي خُذ يميناً وشمالاً.
فأما معنى تَيامَنَ وتشاءَمَ فأن يأخذ نحو اليَمَن والشام، فإذا أتاهما قيل: أيْمَنَ، وأشأمَ، كما يقال إذا أتى تهامة ونجداً: قد أَتْهَم، وأنْجَد.
(ص ح) ويقولون: للوَعِلِ المُسِنّ: تَيْتَل، بتاءين، يكْنُفانِ الياءَ، كلتاهما معجمةٌ باثنتين من فوق، وهو في كلا م العرب: الثّيْتَل، بإعجام الأولى منهما بثلاث.
(ق) يقولون: جئت تِي ألقاء. يريدون حتّى ألقاك.

حرف الثاء المثلثة

(زص) يقولون لما يخرج في الجسم: ثالولَة، وفي الجمع: ثالول.
والصواب: ثُؤلول، بضم الثاء والهمز، واحد مذكر، والجمع: ثآليل.
(ز) والمُتفَصِّح يقول: أثلولٌ.
(ص) ويقولون: ثَبُت لي شاهدٌ. والصواب: ثَبَتَ، وكذلك ثبَتَ، من قولك: رجل ثابِت.
قلت: يريد أنهم يضمون الباء الموحدة، والصواب فتحها.
ويقولون: عندي ثمان نِسوةٍ، وثمان عَشْرَةَ جاريةً، وثمانمائة درهم، فيحذفون الياء من ثماني في هذه المواطن الثلاثة. والصواب إثباتها فيها، فيقال: ثماني نسوةٍ، وثمانيَ عشرة جاريةً، وثماني مائة درهم، لأن الياءَ في ثمان ياءُ المنقوص، وياءُ المنقوصِ تثبت في حالة الإضافة وحالة النصب كالياء في قاض، وأما قول الأعشى:
ولقد شرِبتُ ثمانياً وثمانياً ... وثمانَ عشرةَ واثنتينِ وأربعَا
فإنه حذف الياء لضرورة الشعر.
ويقولون: ثلاثة شهور، وسبعة بحور. والاختيار أن يقال ثلاثة أشهر وسبعة أبحر، كما جاء في القرآن: (فَسيحُوا في الأرضِ أربَعَةَ أشْهُرٍ)، وقوله: (مِن بعْدِهِ سبعةُ أبْحُرٍ)، وذلك لأن العدد من الثلاثة الى العشرة وضْعُ القِلّةِ، وكانت إضافته الى مثال الجمع القليل المشاكل له أليقَ، وأمثلة الجمع القليل أربعة: أفْعال وأفْعُل، وأفْعِلَة وفِعْلَة.
قلت: قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله تعالى:

بأفعُلٍ وبأفْعالٍ وأفْعِلَةٍ ... وفِعْلَةٍ يُعرَفُ الأدنى من العَدَدِ
(ص) ويقولون: ثِلْج ونِسْر. والصواب: ثَلْج ونَسْر.
قلت: يريد أنهم يكسرون أولهما، والصواب فتحهما.
ومما يجب أن يكتب موصولين: ثلثمائة، لأن ثلثمائة حذف ألفها، فجعل الوصل عوضاً عن الحذف، وأن ستمائة كان أصله سِدْساً، فقلبت السين تاء، وجعل الموصول عوضاً من الإدغام.
(ح و) وتقول ثَدْيُ الرّجُل. وهو غلط. وإنما يقال: ثُنْدُوَة الرجل.
قلت: الثُنْدُوَة، بالثاء المثلثة مضمومة، وسكون النون، وضم الدال وهي للرجل بمنزلة الثدي للمرأة، وقال الأصمعي: وهي مَغْرِزُ الثّدي.
(س) أهدى سعيد بن العاص هدايا لأهل المدينة، وقال لرسوله: لا تُعذِرْني عند أحد إلا عند عليّ بن أبي طالب، وقل له: ما فضّلتُ عليكَ أحداً في الهدية إلا أميرَ المؤمنينَ عثمان، فقال عليّ لما قال له الرسول ذلك: لَشَدّ ما نَفِسَتْ علي أمَيّةُ وصالفَتْني، واللهِ لَئِنْ وَليتُها لأنفضنَّها نَفْضَ القَصّابِ الثِّراب الوَذِمَة.
فقال الأصمعي: الثِّراب جمع ثَرْب، وقال شعبة: ما سمعت إلا التِّراب، بالتاء، فتحاكما الى أبي عمرو، فحكم أنه كما قال شعبة. قال أبو محلم: والصواب ما قاله شعبة، والتِّراب: الكروش، وهذه كروش تربة قال: والوَذِمَةُ: ذوات زوائد. وقال تَّوزي: صحّف الأصمعي وأصاب شعبة؛ سمعتُ ابن دريد يقول: التِّراب الوَذِمَة، مقلوبٌ، وأصحاب الحديث قلبوه، فهو: الوذام التَّرِبة، وأصله أن كل سَيْر قدَدْتَه مستطيلاً فهو وذم، وكذلك اللحم والكرش، وهذا أراد.
(ص ح) ويقولون: ثَفَلَ في عينه. بثاء معجمة بثلاث، فيصحفون فيه، لأن المنقول عن العرب تَفَل، بإعجام اثنتينِ من فوق، وحكى الفراء عن الكسائي أن العرب تقول: تَفَلَ في عينه، ونفَثَ: فالتَّفْل ما صحبه شيء من الريق، والنَّفْث النفخ بلا ريق.
ويقولون: ما فعلت الثلاثة الأبواب؟ فيعرفون الاسمينِ ويضيفون الأول الى الثاني. والاختيار أن يُعرَّف الأخير من كل عدد مضاف، فيقال: ما فعلتْ ثلاثة الأبواب؟ وفيمَ انصرفتْ ثلثمائة الدرهم؟ وعليه قول ذي الرمة:
وهل يَرجِعُ التسليمَ أو يكشفُ العَمى ... ثلاثُ الأثافي والرسومُ البَلاقِعُ
ومن أوهامهم في الثّدْي جمعهم إياه على ثَدايا. والصواب جمعه على ثُدِيّ، وكان الأصل فيه ثُدُوي على وزن فُعُول، فقلبت الواو ياءً لكونها قبل الياء، ثم أدغمتْ إحدى الياءين في الأخرى.
(ص) ويقولون: ثَوى المالُ، ومالٌ ثاوٍ. والصواب تَوِيَ تَوًى، فهو تَوٍ، على وزن حَذِرَ يحذَرُ حَذَراً، فهو حَذِرٌ.
قلت: يريد أنهم يقولونه بالثاء المثلثة، وهو بالتاء ثالثة الحروف، لأن تَوِيَ معناه: هلَكَ، وثَوى بالثاء المثلثة، معناه: أقام.
(ص) ويقولون: ثُوبان مَوْلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
والصواب: ثَوْبان، بفتح الثاء.
(ص) ويقولون لضدِّ البِكْر من النساء خاصةً: ثَيِّبٌ، والثّيِّبُ يقع على الأنثى والذكر، يقال: امرأة ثَيِّب، ورجل ثَيِّب، كما يقال: امرأة بِكْر ورجل بِكْر.
ويقولون: ثَلْجم. وبعضهم يقول: شَلْجم، بالشين المعجمة، وكلاهما غلط، على ما حكاه أبو عمر الزاهد عن ثعلب، ونصّ على أنه سَلْجم، بالسين المهملة.
(ز) ويقولون للمرأة التي يطلقها زوجها بعد الدخول: ثَيِّب. والثّيّب يقع على الذكر والأنثى، يقال: رجل ثَيِّب وامرأة ثيّب، وقد ثيّبت المرأة. وكذلك الأيِّمُ يقع على المرأة والرجل.

حرف الجيم

(ص) يقولون: مَوْتٌ جاروفٌ. والصواب: جَروف.
قلت: أو جارِف، والجارِف: الموت العامّ يجْترِف أموالَ القومِ، والجارِف طاعون كان زمن ابن الزُّبير.
(و) والعوام تخصّ الجارية بالأمَةِ، وهو للصبية الصغيرة.
(ز) ويقولون: جائزة البيت، فيدخلون الهاء. والصواب: جائز، هكذا استعملته العرب بلا هاء، وفي الحديث أن امرأة أتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني رأيتُ في المنام كأنّ جائزَ بيتي انكسر، والجمع أجْوِزَة، وجُوزان، وجوائِز، عن أبي زيد.
قلت: الجائز الجذع، وهو سهم البيت، وهو الذي يقال له بالفارسية تير، بالتاء ثالثة الحروف والياء آخر الحروف وبعدها راء.
(س ك) حدثنا علي بن الصباح قال: أنشدنا خالد بن كلثوم لعمران بن عصام العنزي:

وكِلْمة حاسدٍ من غيْرِ جُرْمٍ ... سمعتُ فقلتُ: مُرّي فانْفُذيني
رَمَيْتُ بها كأنْ قِيلتْ لغَيري ... ولم يعرقْ لجانبها جبيني
فقال أبو محلم: صحف واللهِ، إنما هو لجابتها، وأنشد:
أصَمُّ الصّدى لم يدْرِ ما جابَةُ الرُّقَى ... ولم يُمسِ إلا نابُه يتفَطَّرُ
قال: ومنه المثل: أسأت سمعاً فساءتْ جابة.
(ك) حدثنا عون بن محمد الكندي، قال: حدثني أبي قال: حضرت خَلَفاً الأحمر وهو يملي باباً من النحو ويقول: تقول العرب: أوصيتك أباك، وأوصيتك جارك، تريد: بأبيك، وبجارك. وأنشد:
عجبتُ من دَهْماءَ إذْ تَشْكونا
ومن أبي دهماءَ إذْ يوصينَا
جيرانَها كأنّنا جافونَا
فقال له رجل: تقيسُ البابَ على باطلٍ، إنما هو:
... خَيْراً بِها كأنّنا جافُونا
فغَضِبَ وقام.
(ص ز) ويقولون للبئر المَطْوِيّة لماء المطر: جُبٌ.
وأبو عبيدة يقول: الجُبُّ: البئر التي لم تُطْوَ. وقال غيره: الجُبُّ والرّكيّة والطّويّة: أسماء آبار، ولم يفرِّقْ بينها بشيء.
(ص) ويقولون: جَبْرَؤُت، وذلك خطأ، وإنما يقال: جَبَروْت وجَبْرِيّة.
قلت: يريد أنهم يقولون بفتح الجيم وسكون الباء وفتح الراء وهمز الواو وضمها. والصواب: فتح الجيم والباء وضم الراء وسكون الواو.
(ص) ويقولون في جمع جُبَّة: جِبَبٌ. والصواب: جِباب.
قلت: يريد أنهم يقولون بكسر الجيم وفتح الباء، والصواب: كسر الجيم وبعد الباء ألف.
(م ز) ويقولون للذي يُلاطُ به البيوت: جَبْسٌ. والصواب: جِصٌّ، وهكذا أخبرني أبو عليّ، ويقال أيضاً: قصّ وشِيْدٌ، وفي الحديث: نهى عن تَقْصيص القبور، أي تبييضها بالقصة، والجَصّاص والقَصّاصُ واحد.
(و) والعامة تقول: الجبين لما يسجد عليه الإنسان. والصواب أنه الجَبْهَة، والجبينان ما يكتنفانِها.
(ص) ويقولون: جَبَدَ الحبلَ وغيره. والصواب: جَبَذَ، بالذال معجمة، يقال: جبَذَ يجبِذُ، وجذَبَ يجذِبُ بمعنى، ولا يقال: يجذُبُ بضم الذال.
(ق) ويقولون: جِبِّه، يريدون: جِئْ بِه.
(و) العامة تقول: جبَرْتُ فلاناً على كذا. والصواب أجْبَرتُه. ولا يقال جبَرتُ إلا في العَظْم والفَقْر.
(س ك) حدثنا أحمد بن يحيى، ثنا سلمة قال: قال الفراء: الجَبَى ما حول البئر، والجِبَى ما جمعت من الماء، وأنشد:
حتّى إذا أشرفَ في جوفِ جَبا
بإضافة جوفٍ الى جَبا. والذي قاله في الجَبَى والجِبَى صواب إلا أنه وَهِم في البيت لأنه من قصيدة للعجاج أولها:
ما هاجَ دمْعاً ساكِباً مُسْتَسْكبا
أراد: جَبَأ يا هذا، فترك الهمز، أي جبُنَ ورجَعَ، يعني الحمار.
(ق) والعامة تجعل الجُحْرَ للإستِ خاصةً. والجُحْر: كل ما تحتفره في الأرض الدوابُّ، ما لم يكن من عِظام الخَلْقِ، نحو جُحْر اليربوع والثعلب والأرنب وشبه ذلك.
(ك) الكسائيّ صحّف جَحْمَرِشاً فقال فيه بالسين مهملة، وإنما هو بالشين المعجمة.
(ك) حدثني أبو عبد الله الحسين بن عمر قال سمعت علي بن الحسين الإسكافيّ يقول: أنشدنا ابن الأعرابي للشماخ:
وقد عرِقَتْ مَغابِنُها وجادتْ ... بِدِرَّتِها قِرَى حَجنٍ قتينِ
فأنشد البيت أبا محلم فقال: سَلْه عن تفسيره، فسأله، فقال: جادتْ الناقة بعرَقِها: ظهر هذا القراد الحجن، قلت: ما الحَجنُ؟ قال: صغيرٌ فعرّفتُ أبا محلم فقال: صحّف واللهِ، إنما هو: قِرَى، أي عرَقُ الناقةِ قرًى لهذا القراد، وليس بحَجِن، إنما هو جحن، بالجيم قبل الحاء وهو السّيئُ الغذاء، وقتين: قليل الطّعْم.
(م) ويقولون: جَزّةُ صوفٍ، بفتح الجيم. والصواب كسرها، والجمع جِزَرٌ، وفيها لغة أخرى: جَزيرة صوفٍ.
(ز) ويقولون لدُوَيْبَّة تألف المياه: جَخْظَب. والصواب: جُخْدُب بالدال غير معجمة، ويقال لها أيضاً: جُخادِب، وقال الكسائي: هو أبو جُخادِب، وقال سيبويه: هو أبو جُخادِباء، بالمد، وأبو جُخادِبَى بالقصر، وزعم بعض اللغويين، أنه يقال للجراد الطويل الأخضر الرجلين: أبو حُخادِباء.
(س ث) قال ابن دريد: قال الخليل بن أحمد: بنو جَخْجَبَى، بخاء منقوطة. ولا خلاف بين الناس أنهم بنو جَحْجَبَى بحاء غير منقوطة.
قلت: يريد بذلك أنها حاء مهملة بين جيمين.
(ث) روى أبو عمرو بيت ابن مقبل:

مَنَحْتَ نَصارَى تغلبٍ إذْ منَحتهم ... على نأيِها حذّاء مانعة الغُبْرِ
جداء، لا لبن لها، فقال الأصمعي: هذا تصحيف، لأن الغُبْر بقية لبنها، وإنما هو حذاء، وهي الخفيفة السريعة.
قلت: هو بالحاء المهملة والذال المعجمة.
(ص) ويقولون في جمع جَدْي: جِدْيان، ويقول المتفصِّح منهم: الجَدا. وكل ذلك خطأ. والصواب: أجْدٍ في قليل العدد وجِداء في كثرته، ووزن أجْدٍ أفْعُل كقولك أكْلُب في قليل العدد وكِلاب في كثيره. والأصل في أجْدٍ أجْدُيٌ، ثقلت الضمة على الياء فحذفت وكسر ما قبل الياء؛ إذ ليس في الكلام ياء ساكنة قبلها ضمة، وحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين.
(و) ويقولون: جِدْيٌ، بكسر الجيم. والصواب فتح الجيم.
(و) العامة تقول: الجِدَري. والصواب: الجَدَري والجُدَري بضم الجيم وفتحها، لا بكسرها.
(ص) ويقولون: أصابه جُدام. والصواب: جُذام، بالذال معجمة، ورجل مُجَذَّم، ولا يقال: مِجْذام، إنما المِجْذام: النّافِذُ في الأمور الماضي فيها.
(ص) ويقولون: ثياب جُدَد. والصواب: جُدُد، بضم الدال.
(ص) ويقولون في أسنان الإبل: جَذْعة وحَقّة. والصواب: جذَعة وحِقّة، بكسر الحاء، قلت: يريد أنهم يقولون بسكون الذال، والصواب فتح الجيم والذال.
(و) والعامة تقول: قد ردّها جَذْعة. والصواب: جَذَعة.
قلت: يريد أنهم يسكنون الذال والصواب فتحها.
(ص) ويقولون: جذَعتُ أنفَه. والصواب جدَعته، بالدال المهملة.
(ص) ويقولون: حتّى يبْلُغَ الماءُ الجَذر. والصواب: الجَدْر، بدال غير معجمة.
(س ث ك) حدثنا الحرمازي قال: صحّف المفضل الضبي في بيت أوس بن حجر فقال:
وذاتُ هِدْمٍ عارِ نواشِرُها ... تُصْمِتُ بالماءِ تَوْلَباً جذَعا
فقال الأصمعي: تولبا جدِعا، وهو السيئ الغذاء، فقال المفضل: جَذَعاً، جذَعاً، وصاح. فقال له الأصمعي: والله لو نفَخْتَ في ألْفَيْ شَبّور ما كان إلا جَدِعا، ولا ترويه بعدها إلا جَدِعا، وما يغني الصياح؟ تكلمْ كلامَ النملِ وأصِبْ.
(وص) ويقولون للكثير من الفئران: جِرْدان. والصواب: جُرَذٌ، بالذال معجمة والجمع جِرْذان، كصُرَد وصِرْدان، وجُعَل وجِعْلان، وقد جاء في شعر بعض المُحدَثين بالدال غير معجمة، قال: ابن العلاّف:
يا هِرُّ فارقتَنا ولم تَعُدِ ... وكنتَ منّا بمنزلِ الولَدِ
تدْفَعُ عنّا الأذى وتنصُرنا ... بالغيب من خُنْفسٍ ومن جُرَدِ
(ص) وكذلك يقولون لداء يحدث في قوائم الدواب: جَرَدٌ. والصواب: جَرَذ، بالذال معجمة، وهذا قول أهل اللغة إلا ابن دريد فقال في الجمهرة: لا أدري بالدال هو أم بالذال.
(ص) ويقولون: جُرَبٌ وكُرَع. والصواب: جَوْرَب وكُراع. قال الشاعر:
أثْني عليّ بما علمتِ فإنّني ... أُثني عليكِ بمثلِ ريح الجَوْرَبِ
(و) والعامة تقول: الجَراب، والجَرْجير، وجَرْم الشمس، والجَريّ، لضرب من السمك، والجَراحة، وجميع ذلك بفتح الجيم.
والصواب كسر جيمها.
(و) العامة تقول: جرَعتُ الماءَ، بالفتح، والصواب بكسر الراء.
(ص) الجَريءُ، بالهمز: الشجاع، والجَرِيّ، بغير همز: الوكيل.
(و) العامة تقول: الجِرْجس. وصوابه: قِرقِس، بالقاف.
(ص) يكتب أصحاب الدواوين وغيرهم من الخاصة: جرْجِنْت، ويكتبها العامة بالكاف، وهو الصواب.
(ك) أنشد ابن الأعرابي أبياتاً منها:
إنّ لهم بعدَ الجِراءِ واللُّعَنْ
سَبّاً إذا ما ظهر السّبُّ بَطَنْ
ثم قرأناه على التَّوجي، فقال صحَّف واللهِ، إنما هو:
إنّ لهم بعدَ الخِزاءِ واللُّعَنْ
والخزاء والخزاية واحد.
قلت: قاله ابن الأعرابي بالجيم والراء. والصواب بالخاء المعجمة والزاي.
(ز) ويقولون: جَزّة صوف، بفتح الجيم. والصواب: جِزّة، والجمع جِزَرٌ، ويقال للرجل المُسْبِل كأنه عاضٌ على جِزّة. وفيه لغة أخرى، يقال: جَزيزة صوف، وجمعها جَزائِز، قال الشماخ:
عليها الدُجَى مُستَنْشِآتٌ كأنها ... هَوادِجُ مشدودٌ عليها الجزائِزُ
(ز) ويقولون للمكان المنفرد: جَشَرٌ، ومَجْشَرٌ.

والجَشَر: القوم يبيتون مكانهم ولا يرجعون الى أهلهم، يقال: أصبح بنو فلان جَشَراً، ويقال: مال جَشَرٌ، إذا رَعى في مكانه ولم يرجع الى أهله، وجَشَرنا دوابَّنا، إذا أخرجناها الى المرعى.
(و) والعامة تقول: جِفْن السيف، بالكسر. والصواب فتح الجيم.
(ص) ويقولون: جُلْجَلان، بفتح الجيم الثانية.
والصواب: جُلْجُلان، بضمها.
قلت: والجُلْجُلان، بضم الجيمين، حبّةُ القلب، يقال: أصبتُ جُلجُلان قلبه. والجُلجَلان، بفتح الثانية: ثمر الكُزْبرة، وقال أبو الغَوْث: هو السِّمسمُ في قِشْره قبل أن يُحصَد.
(و) العامة تقول: الجَلَم للحديدتين اللتين يُقَصّ بهما. والصواب: جَلَمان.
(و) وتقول العامة: جَلَيْتُ السيف وجَفَيْت الرجل. والصواب بالواو مكان الياء.
ويقولون للجالس بفنائه: جلس على بابه. والصواب فيه: جلس ببابه، لئلا يوهم السامع أنه استعلى على الباب.
(ص) ويقولون: جُلوليّ بضم الجيم واللام. والوصاب: جَلوليّ بفتح الجيم نسبة الى جَلولاء.
(ز) ويقولون: جُمادِي الأولى. فيكسرون الدال. والصواب فتحها، وليس في الكلام فُعالي إلا والهاء لازمة له نحو قُراسِيَة وعُفارِيَة وصُراحِية، قال الشاعر:
إذا جُمادَى منَعتْ قَطْرَها ... زانَ جَنابي عطَنٌ مُغْضِفُ
(ز) ويقولون للبستان الذي يُحَظَّر عليه: جِنان، ويجمعونه على أجَنّة وذلك خطأ لأن أجَنّة أفْعَلَة، وأفعَلَة لا تكون من أبنية الجمع، فأما أجِنّة فجمع الجَنين، قال الله تعالى: (وإذْ أنتُمْ أجِنّة...).
والصواب: جَنّة، ثم يجمع على جِنان، مثل ضَبّة وضِباب.
(ص) ومن ذلك الجِنان لا يعرفونه إلا البستان المفرد. وليس كذلك إنما الجِنان جمع جَنّة، كشَنّةٍ وشِنان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يوشِك يا مُعاذُ إنْ طالتْ بكَ الحَياةُ أن ترى ما ها هُنا قد مُلِئَ جِناناً.
(ص) ومن ذلك: الجَنْبُ والجانِبُ، لا يفرق كثير من الناس بينهما. والجَنْب للحيوان، والجانِبُ ناحية كل شيء، وليس لشيء من الحيوان غير جنبين، وله جوانب كثيرة، لأن كل ناحية من نواحيه جانب. والجَنْب أحد جوانبه، فكل جنْب جانِب، وليس كل جانبٍ جَنْباً، تقول: نزلنا بجانبي الوادي، ولا تقل بجنبيه إلا على سبيل المجاز.
(ق و) والعامة تقول: جَنِي وهو الطفل في بطن أمه، فيحذفون نوناً.
والصواب: جَنين.
(و) والعامة تقول: جُنّنار. والصواب: جُلّنار، بلام بعد الجيم.
(ص) ويقولون: الجُهاز بالضم. والصواب: جَهاز وجِهاز، بالفتح والكسر.
(و) والعامة تقول: جِهْدي، بكسر الجيم. والصواب أن تقول: جهَدتُ جَهْدي بفتح الجيم.
(و) والعامة تقول: الجُوْرَب والجُوذاب، بالضم. والصواب فتح أولهما.
(و) والعامة تقول: جواباتُ كُتبك. والصواب: جَوابُ كُتبِك، لأن الجَواب مثل الذّهاب، قال سيبويه: الجَواب لا يجمع، وقولهم جَوابات كتبي مولَّد، وإنما هو جواب كتبي.
ويقولون في جمع جُوالق: جُوالقات. والقياس المطرد ألا يجمع أسماء الجنس المذكر بالألف والتاء، وإنما أشذتِ العربُ عن هذا أسماءً تعويضاً لأكثرها عن تكسيره، نحو حمامات وسرادقات.
(ص) ويقولون: جَوْنة. والصواب: جُؤنَة.
قلت: الصواب أن تهمز الواو، والجمع جُؤَن.
(ص) ويقولون: جِيْد في معنى جَيِّد.
قلت: يريد أنهم يكسرون الجيم، وسكون الياء. على أنه قد جاء جِيْد مخففاً مكسور الجيم في لغة، إلا أنها رديئة.
(ص) ويقولون للذي تلاط به البيوت: جيْر والصواب: جَيّار.
(س) أخبرنا محمّد، ثنا عون بن محمّد، حدثني أبي قال: حضرت الأحمر وهو يملي باباً في النحو ويقول: تقول العرب: أوصيتك أباك، يريد: بأبيك، وأوصيتك جارك، يريد: بجارك، وأنشد:
عجبتُ من دهماءَ إذْ تَشْكونا
ومن أبي دهماءَ إذْ يوصِينا
جيرنَها كأنّها جافونا
فقال رجل: أن تقيس الباب على باطل، إنما هو:
خيراً بها كأننا جافونا
قلت: يريد الصحيح أنه خيراً بها بالخاء المعجمة من الخير وبها بالباء الموحدة، لا بالنون.
(م) ويقولون: جيعان، بالياء والصواب: جوعان، بالواو.

حرف الحاء المهملة

(ص) ويقولون: حالوق. والصواب حلوق، بغير ألف.

(ص) ويقولون لمجتمع الماء الحارّ: حامّة. وإنما هي حَمّةٌ على وزن فَعْلَة، من الحَميم وهو الماء الحارّ، فأما الحامّة فهي الخاصّة، ويقال: دُعينا في الحامّة لا في العامّة، ويقال: كيف حامَّتُك وعامّتُك؟ (ص) ويقولون للفرس السريع الحَسَن المشي: حادِر، وللمرأة الحسناء حادِرَة. والحَدارة إنما هي الغِلَظ، وإنما سمي الأسد حَيْدَرة لشدته وغِلَظه.
يقولون: يا حامِلُ اذكرْ حَلاً. وإنما هو: يا حابِل اذكرْ حَلاً، أي يا مَنْ يشد الحبل.
قلت: قال العسكري: كان ابن الأعرابي يذهبُ من الخلاف على الأصمعي كلّ مَذْهَب، فروى الأصمعي هذا المثل: يا عاقِدُ اذكرْ حَلاً، فخالفه ابن الأعرابي وقال: يا حامِلُ اذكرْ حلاً، وقال: سمعته من أكثر من ألف أعرابي فما رواه أحدٌ منهم يا عاقِدُ.
(ص) ويقولون: حُبَّا وكرامة، بغير تنوين، بعضهم يقول: حُبّةً. والصواب أن يقال: نعم وحُبّاً وكرامة، بالتنوين.
(ز) حُبَارة. والصواب: حُبارَى، على مثل فُعالَى، وقال ابن غلفاء الهُجَيميّ يرُدّ على يزيد بن الصَّعِق:
هُمُ تركوكَ أسْلَحَ من حُبارَى ... ............
(ص) ويقولون:
ولَها في الفُؤادِ حُبٌ مُقيمُ ... ............
وذلك غلط، وإنما هو صَدْعٌ مُقيم.
(ص) ويقولون للبخيل ينظر في الحَبّة والحبتين: حِبّي، بكسر الحاء. والصواب: حَبّي، بفتح الحاء، نسبة الى الحَبّة.
(و) تقول العامة: قِفْ حتّى أجيء، فيميلون حتّى، وهي حرف والحروف لا تدخلها الإمالة.
فأما حذفهم الحاء منها، فيقولون: تا أجي، فهو أشْهَرُ من أن يُعاب.
قلت: أطلق الشيخ جمال الدين بن الجوزي - رحمه الله - هذا وهو مقيد، فإنهم يقولون: افعلْ هذا إمّا لا. والعلة في إمالة لا في أنها: إن وما ولا، ثلاثة أشياء جعلت كلمة واحدة، فصارت الألف في آخرها كألف حبارَى. وقد أمالوا يا في النداء، والعلة فيهاأنها نابت عن الفعل الذي هو نادى، وأمالوا بلى وقد قامت بنفسها واستقامت بذاتها كأنها اسم، لا حرف.
ومن هذا أنهم لا يفرقون بين الحَثّ والحَضّ. وقال الخليل بن أحمد - رحمه الله تعالى - : الحَثُّ في السّيْر والسَّوْقِ وفي كل شيء، والحَضُّ يكون فيما عدا السّيْرَ والسَّوْقَ، قال الله تعالى: (ولا يَحُضّونَ على طَعامِ المِسْكين).
(ص) وتقول العامة في العدد حِدَ عَشْر، وتقول الخاصة حَدَ عْشَر. والصواب: أحدَ عَشَر.
لا يقولون للبستان: حديقة إلا إذا كان عليه حائط.
(وح) ويقولون: حدُثَ أمرٌ. فيضمون الدال، قياساً على قولهم: أخذه ما حدُثَ وما قَدُم، وإنما فُعِلَ هذا في الثاني للمزاوجة بين قدم وحدث، والصواب في الأول فتح الدال.
(ص) وينشدون قول الشاعر:
يَغْشى صَلا الموتِ بحَدّيْهِ إذا ... كان لَظى الموتِ كَريهَ المُصْطَلَى
وهو تصحيف، وإنما هو بخَدّيْهِ، بالخاء المعجمة.
(و) العامة تقول: صار فلان حُدُّوثة. والصواب أُحْدوثَة.
(و) العامة تقول: حذَقَ الصبيُّ، بفتح الذال. والصواب كسرها.
(ص) ويقولون: عام الحُدَيبيّة، بالتشديد. والصواب بالتخفيف، (ز) يقولون: مضى لذلك سُبوتٌ وحُدود. والصواب: وآحاد، وهو جمع أحد.
(س ث) قال الرياشي: سمعت كيسان يقول: كنت على باب أبي عمرو بن العلاء فجاء أبو عبيدة فجعل ينشد شعراً لأبي شجرة، وهو قوله:
ضَنَّ علينا أبو عمرو بنائِلِهِ ... وكل مُخْتَبِطٍ يوماً له وَرَقُ
مازال يضربني حتى حَذيتُ لهُ ... وحالَ من دونِ بعض البُغية الشَفَقُ
فقلت: حذيت حذيت! وضحكتُ، فغضب وقال: كيف هو؟ فلما أكثر قلت: إنما هو خَذيتُ، فانخزل وما أحار جواباً.
قلت: قاله أبو عبيدة بالحاء المهملة، والصواب بالخاء المعجمة، ومعناه استرخيت.
(ز) ويقولون لواحد الحراب: حَرَبة، يفتحون الراء. والصواب حَرْبة بالتخفيف قال الراجز:
أنا الذي أصْلي وفَرْعي من بَلي
أطْعَنُ بالحَرْبة حتّى تَنْثَني
(ص) ويقولون: لا يجوز بيع حَرْز مُمَوَّه بفضة. والصواب: حُرْز.
قلت: يريد أنهم يقولونه بفتح الحاء والصواب ضمها، وهي المِقْرعة التي يمسكها الجند بأيديهم لضرب الفرس.

(وح) ويقولون في حراء، اسم الجبل: حَرِي فيفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة. وحراء مما صرفته العرب ولم تصرفه.
(و) والعامة تقول: بصل حَرِّيف بفتح الحاء. والصواب حِرِّيف بكسر الحاء.
(ق) والحِرُ بتخفيف الراء، وهم يشددونه، وأصله حِرْح وجمعه أحراح.
(ص) ويقولون: حُزَّة السراويل. والصواب حُجْزَة.
قلت: بزيادة جيم ساكنة بعد الحاء.
(ص) ويقولون: لا تأخذ من حَزْرات الناس. والصواب: من حَزَرات الناس، بفتح الزاي، جمع حَزْرة، وهي خِيار مالِ الرجل.
(ص) قال حسن بن رشيق: إذا وقع في شعر جميل حِسْمَى فهي بالميم وكسر الحاء، وإذا وقع في شعر كُثَيِّر فهو حُسْنى بالنون وضم الحاء.
(و) العامة تقول: حُسِنَ الشيءُ، وحُمِضَ الخَلُّ؛ بضم الحاء وكسر السين والميم. والصواب فتح الحاء وضم السين والميم.
(س) قال عيسى بن عمر يوماً: حَسَّتْ يَدُه، بسين غير معجمة، فقال أبو عمرو: كيف قُلت؟! قال: حَشَّتْ.
قال ابن سلاّم: حَشّتْ يدُه، إذا يَبستْ، قال: حَشّ الصبيُّ في بطن أمه، إذا جَفّ، ومنه سُمّي الحشيش لجفافه.
(وح) ويقولون: حُسِدَ حاسدُك، بضم الحاء، فيعكسون المراد، ويجعلون المدعوَّ عليه مدعوّاً له.
والصواب: حسَدَ حاسدُك، بالفتح، بمعنى: لا انْفَكّ حاسِداً، أو لازلتَ محسوداً.
ويقولون: ما كان لك في حِسابي. والصواب: ما كان لك في حِسْباني، لأن مصدر حَسِبتُ، بمعنى ظننتُ، مَحْسَبة وحِسْبان، والمصدر من حَسَبْتُ بمعنى عدَدْتُ، حُسبان.
قلت: الظن بالكسر، والعدد بالضم.
(ص) ويقولون: حِيشَ الحشيش. والصواب: احتَشَّ، على وزن افْتَعَل، وحَشَّ أيضاً.
(ص) ويقولون للكلأ الأخضر: حشيش. وليس كذلك. إنما الحشيش اليابس، فأما الأخضر فيسمى الرُّطْب والخَلَى.
ويقولون للحشيش اليابس عُشْب. وليس كذلك.
وإنما العُشْب: الأخضر من المرعى.
(ص) ويقولون: فأزالا حَشْوَةَ بَطْنِه. والصواب حِشْوَة، بالكسر من الحاء.
(ص) ويقال للمرأة: حَصان، بفتح الحاء، للفرس: حِصان بكسرها.
(ز) ويقولون لِمَا لمْ ينضج من الفاكهة: حَصْرَم. والصواب حِصْرَم، وأصل الحَصْرمة الشدة، يقال: حَصْرَمَ قوسَه، إذا شدّ وترَها، ورجل حِصْرَم، وإذا كان بخيلاً.
(و) يقولون في كُنية الثعلب: أبو الحُسَين، بالسين: والصواب بالصاد.
(ث) قال ابن دريد: قال الخليل بن أحمد: الحصب: الحَيّة.
وإنما هو الحضب، بضاد منقوطة.
قلت: الحضب بالحاء المهملة والضاد المعجمة: الحَيّة.
(ز) ويقولون في التهجي حَطِّي، بالفتح. والصواب: حُطِّي بضم أوله.
(ص) ويوردون قول الشاعر:
ولمّا نزَلْنا مَنْزِلاً حَفَّهُ النّدَى ... أنيقاً وبُسْتاناً من النَّوْرِ حالِياً
فيقولون: حَفَّه وإنما الرواية طَلَّه النّدَى.
(زص) ويقولون: لبعض الأوعية: حُكّة. والصواب: حُقٌ وحُقّةٌ. وكذلك حُكُّ الوَرِك. والصواب حُقٌ؛ لأن الحُقّ هو خُرْبَة الورك.
ويقولون: حَكَّني جسَدي، فيجعلون الجسدَ هو الحاكَّ، وعلى التحقيق هو المحكوم، والصواب: أحكّني، أي ألجأني الى الحَكّ.
(ص) وينشدون قول الشاعر:
فهُنَّ كالحلل الموشَّى ظاهرها ... أو كالكتاب الذي قد مَسَّهُ بَلَلُ
فيقولونه بالحاء المهملة، وهو بالخاء المعجمة المكسورة، والخِلَلُ: بطائنُ السيوف.
(ق) الحليل تضعه العامة موضع الإحليل، يعنون به الذَكَر. والحليل: الزوج، والمرأة حليلة.
(ق) ويقولون على فلان حُلاّس. والصواب أحلاس، كأخلاق.
(و) ويقولون: حَلَبْتُ الناقةَ، بفتح الحاء واللام. والصواب حُلِبَتْ، على ما لم يسمَّ فاعله.
(ز) ويقولون لبعض الحبوب حِلْبا. والصواب حُلْبَة، وأعراب الشام يسمون الحُلْبَة الفَريقَة، والفريقة: نقوع يتخذ منها ومن أخلاط غيرها، قال الهذليّ:
ولقَدْ ورَدْتُ الماءَ لوْنَ جِمامِه ... لونُ الفَريقةِ صُفّيتْ للمُدْنفِ
(وز) ويقولون لثوب الوشي: حُلّة. والحُلّة الإزارُ والرِّداء معاً، ولا يقال حلة حتى يكونا ثوبين.
(زص) ويقولون: حَلْوة العَسَل، وحَلْوة السُكّر. والصواب: حَلْوى العسل، وحَلواء السّكّر، بالمد والقصر.

(ص) ومن ذلك الحِلْم، لا يعرفونه إلا الصَّفْح والتغاضي. والحَليم يكون الصفوح والعاقل، قال الله عز وجل: (أمْ تأمُرُهُمْ أحْلامُهُم بهذا)، أي عقولهم.
(و) وتقول: حلَمتُ في النوم، بفتح اللام. وإذا أردتَ الحِلْم ضمَمْتها.
قلت: يريد بالثاني إذا أردت الأناة والتغاضي.
(وز) ويقولون: حَلْفة، للنبت الذي يُتَّخذ منه الحِبال. والصواب حَلَفَة، وتجمع على حَلْفاء، مثل قَصَبَة وقَصْباء. ويجمع أيضاً: حَلَفٌ، مثل قَصَبَة وقَصَب، وقيل: واحد الحَلفاء: حلفاءة.
(ز) ويقولون: للدود الذي يغيب في قِشْرِه: حُلْزوم.
والصواب: حلَزون، والجمع حَلازين، وقال الأصمعي: هو دابّة تكون في الرِّمْث.
(وح) ويقولون: حلا الشيء في صدري، وبعيني. والعرب تقول: حَلا في فمي وحَلِيَ في عيني، وليس الأول من نوع الثاني، بل الأول من الحُلو والثاني من الحَلْي الملبوس.
(ث) قال خلف الأحمر: روى المفضل بيت المُتلمِّس:
يكون نذيرٌ من ورائيَ جُنّةً ... وينصرني منهم حُليّ وأحْمَسُ
فقلت: إنما هو جُلَيّ، بالجيم، وأحْمَس، بطنانِ في ضُبَيعة، فقَبِلَه.
(ز) ويقولون لتصغير الحَمام: حُمَيم. والصواب حُمَيْميم.
(ز) ويقولون: حماليق، للحدَقِ. والصواب أنّ الحماليقَ بواطنُ الأجفان، وقد حمْلَقَ الرجلُ، إذا انقلب حِملاقُه من الجزَع.
(ص) ويقولون: حُمَّيْض. والصواب حُمّاض.
(ص) ويقولون: حُمًّى شديدة. والصواب حُمَّى، بغير تنوين.
(و) تقول العامة: حُمَةُ العقرب والزنبور: شوكتهما اللتانِ يلسعانِ بهما. والصواب أنهما سمهما.
(و) تقول العامة: الحمامُ: الدواجنُ التي تسكن البيوت خاصة. والعرب تقول ذلك لكل ذات طوق.
(ص) ويقولون: حُمادَى أنْ فعَلَ فلان كذا فعلتُ أنا كذا. فيجعلونه مثل مقدار ومسافة وما أشبه ذلك، وقد يضعون هذه الكلمة موضع بالحَرَي. وإنما هي بمعنى قُصارَى، يقال: حُماداك أنْ تفعل كذا، أي قُصاراك.
(ص) ومن ذلك: حَمُو المرأةِ، لا يعرفونه إلا والد زوجها خاصة. وليس كذلك. بل أخو زوجها وابن أخيه وابن عمه وسائر أهله، كُلّ واحدٍ منهم حموها. قالت عائشة رضي الله عنها يوم منصرفها من البصرة: إنه واللهِ ما كان بيني وبينَ عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي - على معتبتي - لمن الأخيار.
(ق ز) ويقولون: حِمْص، بالتخفيف. والصواب: حِمِّص بالتشديد، على مثال فِعِّل. وزعم سيبويه أنه لا يوجد على هذا المثال إلا ثلاثة أسماء وهي حِمِّص وجِلِّق وحِلِّز. وقال ابن الأعرابي: حِمَّص بالفتح على مثال قِنَّب.
(وح) ويقولون: أجد حَمَى. والصواب حَمْياً أو حَمْواً، لأن العرب تقول لكل ما سخن: حَمِيَ يَحْمى حَمْياً، ومنه قوله تعالى: (في عَيْنٍ حامية).
(و) العامة تطلق الحَمْولة لكل الإبل. والصواب أنها للتي تحمل الأمتعة خاصة.
(و) ويقولون: حِماحِم للون من الصبغ فيكسرون الحاء. والصواب ضمها.
(و) العامة تقول: طاب حَمّامُك. والصواب: طاب حَميمُك، وإن شئت قلت: طابتْ حِمَّتُك، أي عرَقُك، لأن عرَق الصحيح طيب وعرق العليل خبيث.
(س ث ك) أنشد حماد الراوية لأبي ذؤيب:
أكل الحميمَ فطاوعتْه سَمْحَجٌ ... مثلُ القناةِ وأرغلتْه الأمرُعُ
قال: حدثنا محمد بن موسى، ثنا حماد بن إسحق عن أبيه، حدثني أبو حنش قال: صحف حماد الراوية في موضعين، وأنشد البيت، فقلت له: الجميم، وهو ما جَمّ من النّبْت، وقلتُ له: ما أرغلته؟ فقال: أطابتْ عَيْشَه وأخصبتْه، وعيش أرغل: واسع. فقلت: إنما هو: أزعلتْه: نشَطَتْه.
قلت: الجميم بالجيم، لا بالحاء، وأزعلته بالزاي والعين المهملة لا بالراء والغين المعجمة.
(ص ز) ويقولون: لبعض بُسُط الصوف: حَنْبَل. والحَنْبَل: الفَرْو، عن الشيباني، والحَنْبَل: القصير من الرجال أيضاً.
(ص) ويقولون: إذا حنَثَ في يمينه. والصواب حنِثَ بكسر النون.
(م ز) ويقولون لبائع الحِنّاء: حِنّي، وقد حنّن يديه. وهو خطأ، والحِنّاء اسم مذكر ممدود مهموز، واحدته حثنّاءة، والنسبة إليه حِنّائيّ، وقد حنّأتَ يديك.
(ز) ويقولون: حَنْشٌ، فيسكنون. والصواب حَنَشٌ وبه سمي حَنَش الصنعانيّ.
قال أبو عَمْرو: الحَنَش كلُّ شيء يصطادُ من الطير والهوام، ويقال منه: حَنَشْتُ الصيدَ أحنِشُه.

(و) العامة تقول: في صدر فلان عليَّ حِنّة. والصواب: إحْنَة.
(ص و) العامة تقول: دقيق حَوّارَى، فتفتح الحاء. والصواب: حُوّارَى بضم الحاء.
(و) تقول العامة: حَوّاقة القوم، بفتح الحاء. والصواب حُوَاقة بضمها.
(ق و) تقول: في عينه حَوَر، بفتح الحاء. والعامة تقول: حِوَرٌ بالكسر.
(ز) ويقولون لجمع الحارة: حواير. والصواب حارات. وكل أهل محلة دنت منازلهم فهم أهل حارة لأنّهم يحورون إليها، أي يرجعون. أما الحوائر فجمع الحائر، وهو المكان المطمئن يتحيّرُ فيه الماء.
(وح) يقولون: حوائج في جمع حاجة. والصواب أن تجمع في أقل العدد على حاجات، كما قال الأوّل:
وقد تُخرجُ الحاجاتُ يا أمَّ مالِكٍ ... كرائمَ من ربٍّ بهنّ ضَنينُ
وأن تجمع في أكثر العدد على حاجٍ، مثل هامَة وهامٍ، وعليه قول الراعي:
ومُرْسِل ورَسول غير مُتَّهمٍ ... وحاجة غير مُزْجاةٍ منَ الحاجِ
(ص) يقولون: حَوْصَلَة ودَوْخَلَة. والصواب: حوْصَلّة ودوْخَلّة، بتشديد لاميهما.
ويكتبون الحياة والزكاة والصلاة بالواو في كل موضع، وليس على عمومه، لوجوب ثبوت الألف فيها عند الإضافة ومع التثنية كقولك: حياتك، وصلاتك، وزكاتك، وحياتان، وصلاتان. وإنما فعل ذلك لأن الإضافة والتثنية فرعان على المفرد، ويجوز في الأصل ما لا يجوز في الفرع.
(ز) ويقولون في تصغير حِيتانٍ: حُوَيْتنات. والصواب أُحَيّات، ترده الى أحوات لأنه أدنى العدد، وكذلك تفعل بكل جمع كثير، إذا صغرته رددته الى أدنى العدد، فإن لم يكن له أدنى عدد جمعته بالتاء، وذلك أنهم كرهوا أن يصغروه على البناء الذي يدل على الكثرة فيقع التضاد بين تقليله وتكثيره.
(ق) ويقولون: حَيُّ الشاة. وإنما هو حياؤها، ممدود.
(ص) ويقولون: حياة بن شُرَيح. والصواب حَيْوَة، وليس في الكلام ياء ساكنة بعدها واو إلا حَيْوَة وضَيْون، وهو القط، وكَيْوان وهو زُحَل.

حرف الخاء المعجمة

(و) العامة تقول: الخاتم لما كان فيه فصّ أو لم يكن. والصواب أنه لا يدعى خاتماً إلا وهو بفصّ، فإن لم يكن به فصّ فهو حَلْقة.
(س) قرأ رجل يوماً على أبي عبد الله المفَجَّع:
ولمّا نزَلْنا منزِلاً طَلَّه النّدى ... أنيقاً وبُسْتاناً منَ النَّوْرِ خالِيا
فحرك المفجَّع كتفيه وقال: يا سيدَ أمِّه! فعلى أي شيء كنتم تشربون؟ على الخَسْف؟ قلت: يريد أنه قاله بالخاء المعجمة، وصوابه بالحاء المهملة.
(م ص) ويقولون: خُبَّيز. والصواب خُبّاز، وخُبّازَى.
(ص) ويقولون: خَبّشْتُ وجهَه. والصواب: خَمَشْتُ، بالميم مخففة، إلا أن يراد التكثير فتشدد.
(ص) ويقولون للذي يروي الأخبار: خُبَريّ. والصواب خَبَريّ، بفتح الخاء.
(و) فلان خِبٌ. والصواب خَبٌ بفتحها.
قلت: الخَبُّ والخِبُّ، بفتح الخاء وكسرها: الرجل الخَدّاع الجُرْبُز.
(ص) ويقولون في قول الشاعر:
رَبِّ فارحمْهما كما رَحِماني ... وأقَلاّ عندَ الوداعِ الخِداجا
بالخاء. والصواب الحِداجا، بالحاء مهملة، والحِداج: إدامة النظر، ومنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه: حدِّث القوم ما حدَجوكَ بأبصارِهم، أي ما أقْبَلوا عليك ورمَقوك.
لا يكون السِّتْرُ خِدْراً إلا إذا اشتمل على امرأة.
(ص) رافع بن خَديج الصحابي ومعاوية بن حُدَيْج، تابعيّ كان قد ولِيَ مصر في أيام معاوية.
قلت: الأول بالخاء المعجمة مفتوحة وكسر الدال، والثاني بضم الحاء المهملة وفتح الدال مصغَّراً.
(ص) ما خُدِّر لفلان في كذا، ومَنْ خُدِّر له في شيء فليلزمْه. والصواب خُضِّرَ بالضاد.
(س) وقال ابن دريد: سمعت أبا حاتم يقول: رويَ:
والشوقُ شاجٍ للعيونِ الخُذَّلِ
بالخاء المعجمة، وهو تصحيف. وإنما هو للعيون الحُذَّل، وهو حُمْرة وانسلاق في جفن العين ويقال: حَذِلتْ عينه، وعين حَذلاء.
قال أبو حاتم: ولا أدري أي شيطان فسّر لهم هذا البيت فقالوا الخذل إذا بكى أصحابها خذلتهم فلم تبكِ معهم؟! (ص) ويقولون خُرّافة. والصواب خُرَافة، بالتخفيف.
قلت: خُرافة اسم رجل من عُذْرة استهوته الجِنُّ، وكان يُحدِّثُ بما رأى وعاينَ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وخُرافَة حقٌ.

(ز) ويقولون لثقب الإبرة خَرْتٌ. والصواب خُرْتَة الإبرة وخُرْتُها، وجمع الخُرْت أخْرات، وكذلك خُرْت الفأس، ويقال جَمَلٌ مخْروت الأنف، إذا خَرَتَه الخِشخاش.
ويقولون خرَج عليه خُرّاج. ووجه القول أن يقال: خرَجَ به خُرّاج.
(ص ز) ويقولون: رجل خُرْطوم، إذا كان عظيم الأنف.
والصواب رجل خُرْطُمانيّ. والخرطوم: الأنف نفسه، ووصف بعض العرب ابنه فقال: كان أشدق خرطمانياً، والعرب تمدح بطول الأنف.
(س ك) قال محمد بن إبراهيم السَّكّوني: نظر حماد في المصحف فقرأ: (حتّى يُعْطوا الخُربَة عن يدٍ وهُمْ صاغِرون)، فقيل له الجِزْيَة فقال: إنما عنَى السّرِقَة، وكان احتجاجه للخطأ أعجب من خطئه.
قلت: الخاربُ اللصُّ، قال الأصمعي: هو سارق البُعران خاصة.
(ص ز) ويقولون للنَّبْت الكثير الشوك المنبسط في الأرض: خُرْشُف.
والصواب: حَرْشف، قال أبو نصر: الحَرْشف نبتٌ خشِن الشوك، ولذلك قيل للرجالة في الحرب حَرْشف، شُبِّهوا لاجتماعهم وحملهم الرماح بهذا النبت.
قلت: يريد أن الصواب فيه بالحاء المهملة.
(ز) ويقولون: خَرْنَق لواحد الخَرانِق. والصواب خِرْنِق، على مثال فِعْلِل.
قلت: يريد أنهم يفتحون الخاء والصواب كسرها وكسر النون، والخِرْنِق ولد الأرنب.
(ز) ويقولون لبعض الرُّكُب المنوطة من السّرْج: خَرْز.
والصواب غَرْز، ومنه قولهم: أغرزت السير، إذا دنا بمسيره كأنه تمشّق من الغرز، وهو ركاب لا يكون إلا للإبل، كأنه وضع رجله فيه، وقال بعضهم: كل ما كان مسّاكاً للرجلين فهو غرز.
(ق) ومن ذلك الخِرْوَع، تذهب العامة الى أنه نبت بعينه، ويفتحون خاءَه، والخروع: كل نبتي يتثنى، أيّ نبتٍ كان، ولهذا قيل للمرأة اللينة الجسد خَريع.
(ص) ويقولون للقُرْط: خُرْس. والصواب خُرْص.
(ص) ويقولون: خَرُبَتِ الدارُ، تخْرُب. والصواب: خرِبَتْ تخْرَبُ.
قلت: يريد أنهم يضمون الراء فيهما، والصواب كسرها في الماضي.
(ص) ويقولون في النسبة الى الخَريف: خُرْفيّ. والصواب: خَرْفيّ، بفتح الخاء على غير قياس.
(و) تقول العامة: الخَرْنوب، بفتح الخاء. والصواب ضمها، وفيه لغة أخرى: الخَرّوب، بفتح الخاء وتشديد الراء من غير نون.
(و) العامة تقول: الخُرّافات بتشديد الراء. والصواب تخفيفها.
(ق و) تقول العامة: خرمش الكتاب، إذا أفسد. والصواب خرشن.
قلت يريد أنهم يقولونه بميم بعد الراء بغير نون. والصواب بشين بعد الراء وبعدها نون.
(ص ز) ويقولون: الخَزانة فيفتحون. والصواب: الخِزانة، وهو المكان الذي يخزن فيه المتاع، والخِزانة أيضاً: عمل الخازن، كالوِلاية والإمارة.
(ص) ويقولون لقبيلة من الترك: الخَزَر. والصواب: الخُزْر بالإسكان، ويقال: إنما سموا بذلك لخزر أعينهم.
(س) قال خلف الحدّاني كنا عند أبي عمرو فقرأ عليه الأصمعي:
ألا قتلتْ مَذْحِجٌ ربَّها ... وكانت خزايتُها في مُرادِ
فضحك أبو عمرو وقال: اجعل مكان الزاي راءً والياء باءً، إنما هو وكانت خرابتها في مراد، أي سرِقتها، والخارب: اللص.
(ق و) تقول العامة: ما بفلان خَساسَة بالسين. والصواب: خَصاصَة، بالصاد.
قلت: من قوله تعالى: (ويؤْثِرونَ على أنفُسِهِمْ ولوْ كانَ بهِمْ خَصاصةٌ).
(ز) ويقولون: خَسٌ. والصواب خَسا، وزعم ابن الأنباري أنه مُنَوَّن، يقال خَساً وزَكاً، ومن لم ينونه جعله بمنزلة مَثنى ومَوْحَد، ولا يدخلها ألف ولام.
قلت: خَسا فرد، وزَكا زوج.
(س ك) حدثنا محمد بن الرياشي ثنا أبي قال: أنشدني بعض أصحاب الفراء ببغداد عن الفراء:
والعطيات خساس بيننا ... وسواءٌ قبْرُ مُثْرٍ ومُقِلّ
فقلت: ما معنى خساس؟ قال: قال الفراء: قليلة، لأن أمر الدنيا كله قليل. فقلت: أنشدني الأصمعي خصاص بيننا، وفسّره فقال: الاختصاص في العطايا: يُحَرم هذا أو يُعطَى هذا ويستوون في القبور، فقالت الجماعة: هذا هو الصواب وغيره خطأ.
(ص) ويقولون: خُشكَنان والصواب: خُشْكنانَج، لا غير، الواحدة خُشْكَنانجة.
(و) ويقولون لرءوس الحَلْي وما تكسّر منه: خَشْرٌ. والصواب أنه خَشْل باللام.
(ق ص ز) ويقولون لحشرات الأرض: خُشاش. والصواب: خَشاش بالفتح، واحده خَشاشة.
(ق) ويقولون: الخِشخاش، بكسر الخاء، وهو بفتحها.

(ص) ويقولون لنوع من البقول: خَصّ. والصواب خَسّ.
(ص) ويقولون لواحد أخصام العِدْل، وهي أركانه: خِصْم. والصواب خُصْم، بالضم.
قلت: يريد بذلك حركة الخاء، وأنهم يكسرونها.
(ص) ويقولون: خَصْلة غزل، وخَصْلة شعَر، وفي الجمع خَصالي، والصواب خُصْلة وجمعها خُصَلٌ، فأما الخَصْلة بالفتح، فهي الخَلَّة من الخِلال.
(ص) ويقولون: ابن الخَصّاصيّة، بتشديد الصاد. والصواب تخفيفها، وهو رجل من الصحابة.
(ز) ويقولون: خِصْر الإنسان وغيره، بالكسر. والصواب بالفتح.
(و) العامة تقول: خَصْوة. والصواب خُصْيَة، بالياء.
(و) العامة تقول: أباد الله خضراءَهم. والصواب غضراءَهم، لأنه من غضارة العيْش.
(ص) ويقولون: القنا الخِطِّية. والصواب: الخَطّيّة، بالفتح، منسوب الى الخَطّ، وليس الخطّ مَنبِتَها، وإنما تأتي بها سفن الهند فتُرفأ في خَطّ البحرين فنسبت إليه، وهو ساحل ترفأ فيه السفن.
(ص) ومن ذلك الخَطاء بالمد، جائز عند بعض العرب، وقد قرأ الحسن: (وما كانَ لمُؤْمِنٍ أنْ يقْتُلَ مُؤمِناً إلاّ خَطاءً)، بالمد.
(زو) العامة تقول: الخَطْمي بفتح الخاء ولا تشدد الياء. والصواب أنه خِطْميّ بتشديد الياء وكسر الخاء.
(وح) ويقولون للذهب: خَلاصٌ، بفتح الخاء. والاختيار فيه الكسر، واشتقاقه من أخلصتْه النارُ بالسَّبْك.
(ز) ويقولون لذراع من البحر: خَلَنْج. والصواب: خَليج، بالياء، وأصل الخَلْج الجَذْب يقال: خَلَجه يَخلِجه، إذا جذَبه.
قلت: يريد أنهم يقولونه بنون بعد اللام بدل الياء، آخر الحروف.
(ص ز) ويقولون: خِلخال بكسر أوّله. والصواب خَلْخال بفتح أوّله، وكل ما كان من المضاعف على هذا المثال لا يكون إلا مفتوح الأوّل مثل الجَثْجاث والصَّلْصال والجَرْجار وما أشبهه، إلا حرفاً واحداً وهو الدّيداء، وهو آخر الشهر، ويقال: الدّأداء، فإن كان مصدراً جاء مكسور الأول مثل القِلْقال والزِّلْزال.
(ص) ويقولون: ظهرت الشمس من خِلل السحاب، ورأيت الصبحَ من خِلل الديار. والصواب خَلَل بالفتح.
(ص) ويقولون: فلان حسَنُ الخُلَق بفتح اللام. والصواب ضمها وإسكانها أيضاً.
(ث) قال خلف الأحمر: روى المفضل بيتي حاتم الطائي:
لَحى اللهُ صُعْلوكاً مُناهُ وهمُّهُ ... منَ العيْشِ أنْ يَلْقى لَبوساً ومَطْعَما
يرى الخِمْسَ تعْذيباً وإنْ يَلْقَ شَبْعةً ... يَبتْ قلبُهُ من قِلّة الهمّ مُبْهَما
فقلت: لا معنى لذكر الخِمْس ها هنا، إذا كان ورود الإبل الخِمْس، والصواب: يرى الخَمْص، من خَماصة البطن، فقَبِلَه أحسن قَبول.
(ز) ويقولون: خِمار المرأة: لما خمّرتْ به المرأة رأسها من شقاق الحرير خاصة. والخمار كل ما خمّرت به الرأس من ثوب أو ما أشبهه، وفي الحديث: خَمّروا الآنيةَ وأوْكوا السِّقاء.
(ز) ويقولون: خمّمتُ الشيءَ تخميماً، إذا قدّرته. والصواب: خمّنتُ، بالنون وهو من التخمين.
(ص) ويقولون: الخميرة. والصواب: الخمير.
(ص) يقولون: عليك بالخَمول. والصواب الخُمول بالضم لا غير.
(ص) ويقولون: لا يُضَحّى بالشاةِ الخَمِرة، أي البَشِمَة.
والصواب: الحَمِرة، بالحاء غير المعجمة، وهي التي أنتن فمُها من البَشَمِ.
(ص) ويقولون: الخُنفَسا بفتح الفاء وقصر الألف. والصواب فتح الفاء والمد.
(ق) الخُنان تضعه العامة موضع الحَنَك، ويقولون: خَنّنه، إذا ضرب حنكه. والخُنان: داءٌ يأخذ الإبل مثل الزُكام.
(ص) وينشدون قول مالِك بن الرّيْب:
وأشقَرَ خنذيد يجُرّ عِنانَهُ ... الى الماءِ لم يتركْ لهُ الموتُ ساقِيا
يقولون خنذيد بالدال غير معجمة، وهو بالذال.
قلت: والخنذيذ بالذال المعجمة يطلق على الفحل وعلى الجَيّد من الخيل، وعلى الخَصيّ أيضاً، فهو من الأضداد.
(ص) ويقولون: لولد الخنزير: خَنّوس. والصواب خِنَّوص بالصاد.
قلت: يريد بكسر الخاء وفتح النون المشددة وسكون الواو، وبالصاد المهملة.
(س) قال الحزنبل: كنت عند ثعلب فأنشد للمُسيَّب بن عَلَس:
جَزى اللهُ عنّي والجزاءُ بكفّه ... عُمارَة عَبْسٍ نَضْرةً وسَلاما
هو المشْتَري من طَيّئٍ بخَميسهِ ... خميس بن بدر رجعةً وتَماما

فلما خلا قلت له: حُمَيْس بن بدر، فقال: خميس يعني جَيْشاً، فعرّفته أن التوزي حدثنا عن أبي عبيدة أنّ عُمارة بن زياد العَبْسيّ أسرتْه طيّئ ومعه حُميس بن بدر، فقامر عُمارة بعضَ طيِّئ عن نفسه وإبِله فقَمَر عمارةُ فأُطلِقَ، وقامرَ عن حُميس ابن بدر فخلّصه، فجعل القِداحَ بمنزلة الجيش لمّا كان فكاكهما به، فقال لي: ويحك! هذا الحق، ولكن كذا أنشدنيه ابن أبي عمرو الشيباني عن أبيه.
قلت: حُمَيْس بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف مصغر أحمس.
(ص) ويقولون: لكن البائِس سعد بن خَوَلة، بفتح الواو. والصواب سكونها.
(ز) ويقولون للقُضُب التي يتخذ منها المخاصر ويعمل بهاالأطباق: خَيْزَران. والصواب: خَيزُران. والعرب تسمي كل قضيب لدْنٍ ناعمٍ خيزُراناً.
قلت: يريد ضم الزاي.
(ز) يقولون لريحانة طيبة الريح: خَيْريّ. والصواب: خِيْريّ بالكسر، كأنه نسَبٌ الى الخِيْر، قال الأعشى:
وآسٌ وخِيْريّ وسَرْوٌ وسَوْسَنٌ ... ............
قلت: هو معرَّب.
(ص) ويقولون: الخِيْرَة، والطِّيرَة. والصواب الخيرَة والطّيرَة، بفتح الياء.
(ص) ويقولون لضرب من العود: الخيزُران. والخيزُران كلّ عود يتثنى.
(ص) ويقولون البيت:
متى كان الخِيامُ بذي طُلوحٍ ... سُقيتِ الغيْثَ أيتُها الخِيامُ
فيفتحون الخاء. والصواب كسرها أينما وقع.
(ص) ويقولون خَياطَة وقَصارة، بالفتح. والصواب الكسر فيهما.

حرف الدال المهملة

(ص) يقولون: دامُوس. والصواب: ديماس، والجمع دياميس، فأما الداموس فهو القبر.
قلت: الديماس سجن كان للحجاج بن يوسف، فإن فتحت الدال جمعته على دياميس، مثل شيطان وشياطين، وإن كسرتها جمعته على دماميس مثل قيراط وقراريط، وسمي بذلك لظلمته، ويسمى السَّرَب ديماساً. وفي حديث المسيح: أنه سَبْط الشعرِ كثيرُ خِيْلانِ الوجهِ كأنه خرَج من ديماس، يعني في نضرته وكثرة ماء وجهه كأنه خرج من كنّ.
ومن أوهامهم في الهجاء أنهم لا يفرقون بين ما يجب أن يكتب بواو واحدة وما يكتب بواوين.
والاختيار عند أرباب العلم أن يكتب داود وطاوس وناوس بواو واحدة للتخفيف، وكذلك يكتب مسئول ومسئوم ومشئوم بواو واحدة، ويكتب ذوو بواوين لئلا يشتبه بواحدِه وهو ذو.
(ز) ويقولون: الدِّبيران لذباب يلسَع. وهي الزنابير، واحدها زُنبور.
(و) تقول العامة: آخر الداء الكيّ. والصواب آخر الدواء الكيّ.
(ص) ويقولون في الدُّبّا والمزفت، بالقصر. والصواب الدُبّاء بالمد.
قلت: الدُبّاء القرع، الواحدة دُبّاءَة، قال امرؤ القيس:
إذا أقبلتْ قلتَ دُبّاءَةٌ ... ............
(ق) ومن ذلك الدُّبُر. تذهب العامة الى أنه الاست.
ودبر كل شيء خلاف قُبُله، بضم الدال ما خلا قولهم: جعل فلان قولك دَبْرَ أذنه، أي خلف أذنه، بفتح الدال.
(ص) ويقولون: دُبَير الأسدي، تصغير أدبر كما في قول من قال في أبلق: بليق، وفي أسود: سويد.
وإنما هو تصغير دَبِر لأنه سمي بذلك من كون السلاح أدبر ظهره، أي ترك به دَبْراً، وهؤلاء القبيلة بنو دُبَير.
(س ك) حدثنا محمد بن عبد الله الحَزَنْبَل قال: سمعت الطوسي يقول: سمعت أبا عبيد يقول: ما بالدار عَريب ولا دِبّيح، فقلت: إن العلماء يقولون دِبّيج بالجيم، فأنكر قليلاً ثم قال: اضربوا عليه.
قلت: قال الجوهري: ما بالدار دِبّيج، بالكسر والتشديد، أي ما بها أحد، وشكّ أبو عبيد في الجيم والحاء، وقال ابن السكيت: وسألت عنه بالبادية جماعة من الأعراب فقالوا: ما بالدار دِبِّيّ، وما زادوني على ذلك، ووجدت بخط أبي موسى الحامض: ما بالدار دِبّيج، موقع بالجيم، عن ثعلب، انتهى.
قلت: أنشد ابن الأعرابي:
هلْ تعرِفُ الرّسومَ من ذاتِ الهُوجْ
ليْسَ بِها منَ الأنيسِ دِبّيجْ
قلت: كأنه من الدَّبْج وهو النقش والتزيين، من الدِّيباج.
(س) قُرئ على الأصمعي يوماً في شعر أبي ذؤيب:
بأسفل ذاتِ الدَّبْر أُفرِدَ جحشها ... فقد ولِهَتْ يومين فهْيَ خَلوجُ
فقال الأصمعي: ذات الدبر مكان. فقال أعرابي حضر المجلس: إنما هو ذات الدير وهي ثَنّية عندنا. فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد.
قلت: يريد الصواب ذات الدير بالياء آخر الحروف.

(ص) ويقولون أبو دِجانة. والصواب دُجانَة، بضم الدال.
قلت: هذه كُنية سِماك بن خَرَشَة الأنصاريّ رضي الله عنه.
(ص و) وهذه دَجاجَة، والجمع دَجاج. والعامة تكسر الدال، وهي لغة رديئة.
(و) تقول العامة: دَرْهم بفتح الدال. والصواب دِرْهم، بكسر داله. وقال ابن الأعرابي: تقول العرب: دِرْهَم ودِرْهِم ودِرْهام.
قلت: الثلاثة بكسر الدال. والأول بفتح الهاء والثاني بكسرها.
(و) العامة تقول: أتيت الدِّجْلَة، بالألف واللام. والصواب دِجْلة، كما تقول: أتيت مكة.
(وص) ويقولون: فلان يطلب دَحْلِي. والصواب: ذَحْل بالذال المعجمة، والذّحْل: الثأر والتِّرَة.
(وق) ويقولون دُخّان الأذن، بالنون، لدابّة كثير الأرجُل، ويذهبون الى تشبيهها بالدخان. ولا معنى لذلك. إنما هو دَخّال الأذن، فعّال من الدخول، أي أنه يدخل الأذن كثيراً، والعرب تسمي هذه الدابة الحريش، على وزن حريص.
(و) وهذا الدُّخَان بتخفيف الخاء وجمعه دواخن. والعامة تشدد الخاء وتجمعه على دخاخين.
(ص) ويقولون: جعله الله دُخراً في الآخرة، وهذا دخيرة من دخائر الملوك. والصواب بالذال المعجمة في جميع ذلك.
فأما قولهم: ادّخرت ادِّخاراً وهو مُدَّخر، فإنما انقلبت دالاً للإدغام لأن الأصل اذدخرت واذتخرت ومذتخر. ومثلُ ذلك مُدَّكِر.
فإذا قلت: مذخور فهو بالذال معجمة لأنه لا إدغام فيه، وإنما هو كقولك مذكور.
(ز) ويقولون: دُرْعَة القميص. والصواب: دُرّاعة، على مثال فُعّالة واشتقاقها من الدِّرْع.
والعامة لا تعرف الدِّرْع إلا درع الحديد. والدِّرْع أيضاً القميص، قال امرؤ القيس:
............ ... إذا ما اسبكرّتْ بين دِرْعٍ ومِجْوَلِ
(ز) ويقولون: دَرّاج بفتح أوله. والصواب: دُرّاج، ودرائج للجميع.
ويقولون: أرض مَدْرَجة، إذا كثر فيها الدُّرّاج، وقال يعقوب: يقال لبعض الطير دَرَجَة، وروى سيبويه دُرَّجة بالتشديد.
(زص) ويقولون لِما نتأ في بدن الإنسان وسائر جسمه من علّة أو مهنَة: دَرَن. وليس كذلك.
إنما الدّرَن الوسَخُ يعلو الجِسْم وغيرَه، ومن أمثالهم: لا دَرَنَكِ أنقيتِ ولا ماءَكِ أبقيتِ.
(ص) ويقولون: هم في دَرْكَلة. والصواب دِرْكِلَة، وهي لعبة للعجم، وفيها ثلاث لغات: دِرْكِلة، بكاف محضة ودِركلة، بحرف بين القاف والكاف وقال ابن خُرَّزاذ: قال أبو زيد: الدَّرْقِلة، بالقاف، لعبة للعجم، ويقال دَرْقَلَ، إذا رقص.
قلت: أما الثاني فلا تؤخذ معرفته إلا بالسماع مشافهة.
(و) العامة تقول: دَرِيَ بكسر الراء. والصواب فتحها.
والعربُ فرّقتْ بين ما يُرتقَى فيه وبين ما يُنحَدر فيه الى السُفل. فسمّتْ ما يُرتقَى فيه دَرَجاً وما يُنحَدَر فيه دَرَكاً، بالكاف.
(م) ويقولون لما في الجسم إذا نَتأ: درَنٌ، وهو غلط لأن الدرن وسخ الجسم ودنَسه.
(ص) ويقولون: ثوب دُسْتَريّ، والصواب تُسْتَريّ بالتاء، منسوب الى تُسْتَر.
(وح) ويقولون: دَستور بفتح الدال. وقياس كلام العرب أن تضم، كما يقال: بُهْلول وعُرْبون وخُرْطوم وجُمْهور، لأنهم ما جاء في كلامهم خارجاً عن هذا إلا صَعْفوق اسم قبيلة باليمن.
(و) العامة تقول: دَسْتَك. والصواب: دَسْتج، وهو الذي يُدَق به، أعجمي معرب.
(زص) ويقولون: دَشِيش لما يُطْحَن من البُرّ غليظاً، وهو غلط. والصواب فيه جَشيش.
(ز) ويقولون: دَعْبل فيفتحون. والصواب: دِعْبِل على مثال فِعْلِل، والدِّعْبِل: الناقة المُسنّة، وبه سمي الرجل.
قلت: هو أبو عليّ دِعْبِل بن علي الخزاعي الشاعر المشهور الهجاء للخلفاء، ولكنه كان مدّاحاً لآل البيت رضوان الله عليهم، توفي سنة ست وأربعين ومائتين.
(و) تقول العامة للصوص: ذُعّار، بالذال معجمة. والصواب: دُعّار، بالدال المهملة، مأخوذ من العود الدَّعِر، وهو الذي يؤذي بكثرة دخانه، قال ابن مقبل:
باتتْ حواطِبُ ليلى يلتمسنَ لَها ... جَزْلَ الجِذَى غيْرَ خوّارٍ ولا دَعِرِ
(و) العامة تقول: موضع دَفِيّ، بتشديد الياء. والصواب: دَفِيء، مقصور مهموز.
(ز) ويقولون لضرب من الشجر: دَفْلَة. والصواب: دِفْلَى على مثال فِعْلى، والألف للتأنيث، قال أبو علي: العرب تقول: هو أمرُّ من الدِّفْلَى وأحلى من العسل.

(ز) ويقولون: دِفْتَر، بكسر أوّله. والصواب: دَفْتَر بالفتح على مثال فَعْلَل؛ لأن فِعْلَلاً قليل، وإنما جاء منه حروف يسيرة.
قلت: جاء منه خِرْوَع وعِتْود.
(وص) ويقولون: دِقْنٌ. والصواب ذَقَنٌ.
قلت: يريد أنهم يقولونه بكسر الدال وسكون القاف، لأنّه نظّره فيما بعد بقولهم كِفْل في كفَل، والصواب ذَقَنٌ بالذال معجمة والقاف مفتوحة، وذقَنُ الإنسان: مجمع لِحْيَيْه.
(ص) ويقولون: دِكْدان. والصواب دَيْدَكان، بزيادة الياء وفتح الدال، وهي فارسية.
(ص) ويقولون: دَلَّ فلان على صديقه، إذا وثِقَ بمحبته فأفرط عليه. والصواب: أدَلّ، ومن أمثالهم: أدَلَّ فأمَلّ.
(ص) وإذا أرادوا المبالغة في الحُسْن قالوا: إنها الدلفاء. والصواب الذَّلفاء، بالذال معجمة، قال الشاعر:
إنّما الذّلْفاءُ ياقوتةٌ ... أُخْرِجَتْ من جيسِ دِهْقانِ
قلت: الذَّلَف، بالتحريك، صِغَر الأنف واستواء الأرنبة، ورجل أذْلَف وامرأة ذَلْفاء.
(ص) ويشددون الميم من دَمّ. والصواب تخفيفها، وقد جاءت فيه لغة ولكنها ضعيفة، كما يشددون الراء من حِر المرأة.
(ز) ويقولون لما قرب من الأحقال من الدور: دَمْنَة.
والصواب: دِمْنَة، وجمعه دِمَنٌ، مثل سِدْرة وسِدَر وسِدْر، وهو ما اسودّ وأسِنَ من البَعْر.
قلت: يريد أنهم يقولونه: دَمْنة، بفتح الدال، والصواب كسرها.
(ص) ويقولون إذا نسبوا الى الدم: دَماوِيّ.
والصواب دَمَويّ، وإن شئت: دَميّ. وكذلك ما كان من هذا الضرب المحذوف اللام - الذي لا ترد إليه لامه في التثنية ولا في الإضافة - أنت مخير في رد لامه في النسب إليه وتركها، فإذا نسبت الى غَدٍ قلت: غَدِيّ، وإن شئت غدَوِيّ.
(و) العامة تقول: دِمِشق. والصواب فتح الميم.
(و ح ص) ويقولون: دُنيائي. والصواب: دُنْيِيّ، على وزن قُمْريّ ودُنْيَويّ ودُنْياوِيّ أيضاً.
(وح) ويقولون: هذه دُنْياً متعبة، فينونونها. وهو من مشائن اللحن، لأن دُنْيا وما هو على وزنها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ولا يدخله التنوين بحال، ومن ذلك: حُبْلى وبُشْرى.
(وص) ويقولون للسرداب تحت الأرض: دَهْليز، بفتح الدال.
وليس كذلك، وإنما الدِّهْليز، سقيفة الدار، بكسر الدال.
(ص) ويقولون: مشينا في دَهَس. والصواب: في دَهاس، بزيادة الألف.
قلت: هذا فيه نظر، بل هو مردود، قال الجوهري: الدَّهْس والدَّهاس مثل اللّبْث واللَّباث: المكان السهل لا يبلغ أن يكون رملاً، وليس هو بترابٍ ولا طين حُرّ.
(س) حدثنا يزيد بن محمد عن إسحاق الموصلي قال: قال الأحمرأبو الحسن: قد قالت العرب حمراءة وصفراءة فجاءت بعلامتين. فقلت له: أين ذلك؟ قال: أما قال الشاعر:
دَهْماءة في الخَيْل عن طِفْلٍ مُتِمْ
يريد:
دَهْماء تَنْفِي الخيْلَ عن طفلٍ مُتِمْ
قلت: وقد تقدم في قوله بلقاء تنفي.
(وق) يقولون: الدوابُ بتخفيف الباء. والصواب تشديدها.
قلت: لأنه جمع دابّة، وهو من دَبّ، وكذلك هوامٌ جمع هامّة من الهَميم.
(وح) ويقولون لمن يحمل الدواة: دواتي بإثبات التاء، وهو من أقبح اللحن، ووجه القول أن يقال: دَوَوِيّ، لأن تاء التأنيث تحذف في النسب، كما يقال في النسبة الى فاطمة فاطِميّ والى مكّة مَكيّ، لمشابهتها ياء النسب في عدة وجوه: لأن كلتيهما طارفة، وكلاً منهما قد جعل علامةً للواحد وحذفها علامة للجمع، وأن كل واحد منهما إذا التحق بالجمع الذي لا ينصرف صرفه.
(ص) ويقولون للكروم: الدّوالي، وللواحدة: دالِيَة. وليس كذلك.
إنما الدالية: التي تدلو الماء من البئر والنهر، أي تستخرجه، من دَلَوت الدلو، إذا أخرجتها، وأدليتها إذا أرسلتها، والدالية كالدولاب والناعورة ونحو ذلك.
(وص) ويقولون: دوّامة. والصواب: دُوَّامة.
قلت: والدُوّامة فَلْكة يرميها الصبي بخيط فتُدوِّم على الأرض أي تدور، وبعضهم يقول: سميت دُوّامة من قولهم دوّمت القدر، إذا سكنتْ بعد غليانها بالماء؛ لأنها من سرعة دورانها كأنها ساكنة هادئة.
(ز) يقولون: أخذه دَوّارٌ فيشددون. والصواب دُوَار بالتخفيف، وكذلك أخذه دُوام، وفُعال يأتي للأدواء كثيراً مثل البُوال والكُلاب والسُعال.
(س ث) قال كيسان: كنت على باب أبي عمرو بن العلاء فجاء أبو عبيدة وأنشد للقيط بن زُرارة في يوم جَبلة:

شتانَ هذا والعناقُ والنَّومْ
والمشربُ البارِدُ في ظِلّ الدَّومْ
وقال: يعني في ظل نخل المقل، فقال الأصمعي: قد أحال بن الحائك، ليس بنجدٍ دَوْم، وجَبَلةُ بنجدٍ، والرواية: في الظِّل الدَّوْم أي الدائم، كما قالوا: زائِر وزَوْر، ونائم ونَوْم.
(وص) ويقولون: كتاب الدِيّات بالتشديد. والصواب: الدِّيَات بالتخفيف، الواحدة دِيَة، قال تعالى: (... فَدِيَةٌ مُسلَّمةٌ الى أهلِه...).
(ز) ويقولون: دَيموس للبناء العالي القديم. والصواب دِيماس، والديماس في كلام العرب: السَّرَب.
قلت: قد تقدم الكلام عليه في أوّل هذا الحرف.
(ز) يقولون لعدد ثمانيةِ دراهم: دينار؛ لأنها كانت صرفاً للدينار في بعض الأزمنة، فسميت باسم الدينار فاستمرت.
والدينار هو المضروب من الذهب، يقال: فرس مُدَنَّر، وهو الذي فيه نُكَتٌ فوق البَرَش.
(و) والعامة تقول: دِيْزَج. والصواب فتح الدال.
قلت: الدَّيْزَج هو الفرس ذو لَوْنٍ بين لونين: بين السواد والبياض.
(ص و) العامة تقول: دَيْباج، بفتح الدال. والصواب كسرها.
(ز) ويقولون: دَيَكَة وفَيَلَة لجماعة الدِّيْك والفِيل.
الصواب: دِيَكَة وفِيَلَةٌ، وكل ما كان على فِعْل أتى جمعه كثيراً على فِعَلَة، نحو قِرد وقِرَدَة، وهِرّ وهِرَرَة، وكذلك فُعْل نحو قُرْط وقِرَطَة، ودُبّ ودِبَبَة.

حرف الذال المعجمة

(ق ح) يقولون للخبيث: ذاعِر، الذال المعجمة، فيحرفون المعنى، لأن الذاعر هو المُفْزِع لاشتقاقه من الذُّعْر. فأما الخبيث الدِّخْلة فهو الدّاعِر بالدال المهملة، لاشتقاقه من الدِّعارة، وهي الخُبث، ومنه قول زُمَيْل بن أُبَيْر لخارجة بن ضِرار:
أخارِجَ هَلاّ إذ سَفِهْتَ عَشيرةً ... كفَفْتَ لِسانَ السّوءِ أنْ يتَدَعَّرا
(ق) ومن ذلك قول المتكلمين في صِفة الله تعالى: الذّات، قال ابن بَرْهان:
وذلك جهل منهم، لا يصح إطلاق الذات في اسم الله تعالى؛ لأن أسماءَه، جلتْ عظمتُه، جلّت عظمتُه، لا يصح فيها إلحاق تاء التأنيث، ولهذا امتنع أن يقال فيه علاّمة، وإنْ كان أعلم العالمين، فذات بمعنى صاحِبة تأنيث ذو الذي بمعنى صاحِب، وقولهم الصفات الذاتية جهل منهم أيضاً، لأن النسبة الى ذات ذووي. أخبرني بذلك أبو زكرياء عنه.
قلت: أما ابن الجواليقي فهو معذور في غلطه، لأنه قلّد ابن بَرْهان وغيره ممن يقول إن المتكلمين يطلقون الذات في أسماء الله تعالى، قد غلط ولم يعرف مصطلح القوم في ذلك، وإنما أراد المتكلمون بالذات: الحقيقة من كل شيء، فقولهم: ذات زيد، أي حقيقته ولهذا تسمعهم يقولون: ألحدوا في الذات والصفات، والعطف يدلّ على المغايرة، ولا يريدون بذلك إلا أنهم ألحدوا في الحقيقة وفي صفاتها، ثم إنه إذا توارد قوم واصطلحوا على ألفاظ فيما بينهم نقلوها عن أصل وضعها الى ما أرادوه فما لمعترِض أن يعترض عليهم في ذلك، لأنه لا مُشاحّةَ في الاصطلاحات، فقد اصطلح النحاة على أشياء خالفوا فيها موضوع اللغة فقالوا: الاسم والفعل والحرف، وخالفهم في ذلك بعض أرباب المنطق فقالوا: الاسم والكلمة والأداة، وقال النحاة: المبتدأ والخبر، وقال المنطقيون: الموضوع والمحمول، وقال النحاة: الشرط والجزاء، وقال المنطقيون: المقدَّم والتالي، والاصطلاح والتواضع لا يُعاب فيهما أحد ولا يُغلَّط، اللهم إلا إن وقع خَلَلٌ في القواعد التي استقرت، وهذا أمر ظاهر، نعم يَرِدُ على أرباب المعقول قولهم: المَحْسوسات لأنهم أخطأوا في هذا التصريف، إذ أصل الفعل أحَسَّ بكذا، فاسم المفعول منه مُحَسّ بضم الميم وفتح الحاء وتشديد السين.
(ص) ويقولون: ذافَ بها مرارة الموتِ، في خَتْمة قِيام رمضان.
والصواب: دافَ، بالدال المهملة.
(ق) ويقولون: ذَبّاح، بالفتح، والصواب: ذُبّاح بالضم، وهو تحرُّزٌ وتشقّق بين أصابع الصبيان من التراب.
(ص) ويقولون: أخذته الذَّبحة. والصواب: الذُّبْحة والذِّبْحة.
قلت: الضم والكسر هو الصواب، والفتح خطأ.
(ص ز) ويقولون: ذِبابة لواحد الذِّبّان. والصواب: ذُبابٌ ثم يجمع الذباب أذِبّة في أدنى العدد، وذِبّاناً للكثير، وأنشدوا لمزاحِم:
هِجانٌ كوَقْفِ العاجِ مِصْباحُ قَفْرِهِ ... مَصوغٌ لذِبّان الفَلاةِ يَذودُها

(ص) ويقولون: مرضه الذَّبول. والصواب: الذُّبول.
قلت: يريد أنهم يفتحون الذال والصواب ضمها.
(وص) ويقولون: ذِبْل. والصواب: ذَبْل، بفتح الذال، قال أبو عمر أخبرني ثعلب عن ابن الأعرابي: أن الذَّبْل ظهر سلحفاة يُعمَل منه المُشْط.
(ص) ويقولون: ذَبُلَ البقل وغيره. والصواب ذَبَلَ يذْبُلُ.
(س ث ك) حدثنا الحسن بن الحسين الأزدي، ثنا أبو الحسن الطوسي قال: كنا عند اللحياني فأملى: مُثْقلٌ استعان بذَقَنَهِ، فقال له ابن السكيت: بدَفَّيهِ، فوجم لذلك.
قلت: يريد أنه قال بذقنه بالذال المعجمة، والقاف والنون. والصوابأنه بالدال مهملة والفاء والياء آخر الحروف، والدَّفّانِ الجنبان.
(ص ق زح) ينشدون قول الشاعر:
كضرائرِ الحسْناءِ قُلنَ لوَجْهها ... حسَداً وبَغْياً إنّه لذَميمُ
بالذال المعجمة، وهو غلط، إنما هو بالدال، لاشتقاقه من الدمامة، وهي القُبْح، والى هذا أشار الشاعر، إذ بقباحة الوجه تتعايب الضرائر.
ويقولون: رأيتُ الأميرَ وذويه، فيوهمون فيه، لأن العرب لم تنطق بذي التي بمعنى صاحِب إلا مضافاً الى اسم جنس، كقولك: ذو مال، وذو نَوال، فأما إضافته الى الأعلام أو الى أسماء الصفات المشتقة من الأفعال فلم يُسمَع في كلامهم بحال، ولهذا لُحِّن مَن قال صلّى الله على نبيّه محمّد وذويه، وكما لم يقولوا: ذوو نبيّ، ولا ذوو أمير، وقصروا ذا على إضافته الى الجنس، فلا يجوز أن تقول: مررت برجل ذي مال أبوه، فإن أردت تصحيح الكلام جعلت الجملة مبتدأ به فقلت: مررتُ برجل ذو مال أبوه، لأن النكرة تختص بزن توصف بالجملة.
(وص) يقولون: ذَوّابةُ شعرٍ. والصواب: ذُؤَابة، بالهمز والتخفيف وضم الذال.
(و) والعامة لا يفرقون في قولهم: ذَوْدٌ أكان ذلك للذكور من الإبل أم للإناث. والصواب أنه للجماعة القليلة من إناث الإبل.
(ز) لا يجوز أن يلحق الألف واللام ذو ولا ذات في حال إفراد ولا تثنية ولا جمع، ولا تضاف الى المضمرات.
وإنما تقع أبداً مضافة الى الظاهر، ألا ترى أنك لا تقول: الذو ولا الذوان ولا الذوونَ، ولا الذات ولا الذوات، ولا ذوك ولا ذوه، ولا ذوهما ولا ذوهن ولا ذواتها، ولا تقول مررت بذيه ولا بذيك.
وقد غلط في ذلك أهل الكلام وأكثر المُحدَثين من الشعراء والكتاب والفقهاء، وكذلك زعم أبو جعفر بن النحاس عن أصحابه. فأما قولهم في ذي رُعَين وذي أصبح وذي كَلاع: الأذواء وقول الكميت:
فلا أعني بذلك أسْفَلَيْهِم ... ولكنّي أريدُ به الذوينا
فليس من كلامهم المعروف، ألا ترى أنك لا تقول: هؤلاء أذواء الدار ولا مررت بأذواء المال، وإنما أحدث ذلك بعض أهل النظر كأنه ذهب الى جمعه على الأصل، لأن أصل ذو ذوا فجمعه على أذواء، مثل قفا وأقفاء. وكذلك الذوون، كأن الكميت جمعه مفرداً وأخرجه مخرج الأذواء في الانفراد، وذلك غير مقول، لأن ذو لا تكون إلا مضافة.
قلت: قد تقدم الكلام على ذات في صدر هذا الحرف ما فيه مقنع.
ومن أوهامهم أيضاً في التصغير قولهم في تصغير ذي الموضوعة للإشارة الى المؤنث: ذيَّا، فيخطئون فيه، لأن العرب جعلتْ تصغير ذَيّا لذا الموضوعة للإشارة الى المذكر، ولم تصغر ذي الموضوعة للإشارة الى المؤنث لئلا تلتَبِسَ بتصغير ذا، بل عدلتْ في تصغير الاسم الموضوع الى الإشارة الى المؤنث عن ذي الى تا فصغرته على تَيّا، كما قال الأعشى:
أتشفيكَ تَيّا، أم تُرِكْتَ بدائكَا ... وكانتْ قتولاً للرجال كَذالِكا

حرف الراء

(وق) يقولون: شَممتُ راحَةَ الشيءِ. والصواب: رائحته، فأما الراحة فراحة اليد والرفاهية.
(وح) ومن أوهامهم: أفعل ذاك من الرّأس والعرب تقوله: فعلته من رأس من غير أن تلحقه أداة التعريف.
ويقولون في النسبة الى رامْ هُرْمُز: رامْ هُرْمُزيّ فينسبون الى مجموع الاسمين المركبين. ووجه الكلام أن ينسب الى الصدر منهما فيقال: رامِيّ؛ لأن اسم الثاني من الاسمين المركبين بمنزلة تاء التأنيث، وعلى هذا قيل في النسبة الى أذربيجان: أذْرَبِيّ.

(وح) ومن ذلك توهمهم أن الراحلة اسم يختص بالناقة النجيبة. وليس كذلك، بل الراحلة تقع على الجمل والناقة، والهاء فيها هاء المبالغة كالتي في داهية، وإنما سميت راحلة لأنها تُرحَل، أي يشد عليها الرَّحْل، وهي فاعِلة بمعنى مَفعولة.
(ص) ويقولون: أنت على رَاس أمرك. والصواب: على رِئاس.
قلت: قولهم على رِئاس أمرك، مهموز الياء، أي على أوّله، ورئاس السيف مقبضه.
(م و) والعامة تسمي المزادة راوية. والصواب أن الراوية للبعير أو الحمار الذي يُستقَى عليه.
(و) العامة تقول: راوُق، وليس في كلام العرب فاعُل والعين منه واو. والصواب: راووق.
(س ك) حدثنا علي بن الصباح قال: أنشدنا ابن الأعرابي:
بعْلُكِ يا ذات الثنايا الغُرِّ
والرَّبَلاتِ والجبينِ الحُرِّ
فقال أبو محلم: ما موضع الربلات ها هنا؟ إن كان أرادها فهذا أبعد بعيد وأقبح كلام، وإنما هو في الوجه، فقال:
والرتلات والجبين الحر
والرَّتْلَة: استواء الأسنان لا يزيد منها شيء على شيء.
فقال محمد بن يحيى الصولي: وهو الآن على الخطأ في نوادر ابن الأعرابي.
قلت: الرَّبْلة والرَّبَلة: باطن الفخذ، والجمع الرَّبَلات، قال الشاعر يصف فرساً عَرِقَتْ:
يَنِشُّ الماءُ في الرَّبَلاتِ منها ... نَشيشَ الرّضْفِ في اللّبَنِ الوَغيرِ
(ز) ويقولون: فرس رَبَعٌ، للأنثى والذكر. والصواب رَباعٍ بالكسر منقوص على مثال يَمانٍ، ورَباعِيَة للأنثى والجمع رُبْعان ورِباع، قال امرؤ القيس:
أقَبُّ رَباعٍ من حمير عَمايةٍ ... يَمُجُّ لُعاعَ البَقْل في كلِّ مَشْرَبِ
(س) وفي كتاب العين: شيء رَبيدٌ، تحت الباء نُقطة، أي منضودٌ بعضُه على بعض.
وإنما هو رَثيد، بالثاء فوقها ثلاث نقط، يقال: رثدت المتاعَ بعضَه على بعض، هكذا رواه الأصمعي وابن الأعرابي وابن السكيت، ولم يذكروه بالباء.
(ح و) العامة تقول: رُبَّ مالٍ كثيرٍ أنفقته، وهو تناقض لأن رُبَّ للتعليل فلا يخبر بها عن الكثير. والصواب: رُبَّ مالٍ أنفقته، تشير الى القليل.
قلت: هذا هو الأصل، ولكنه قد جاءت رُبَّ والمراد بها الكثير كقوله تعالى: (رُبما يوَدُّ الذين كفَروا لوْ كانوا مُسْلِمين).
(و) العامة تقول للذي ينظر للقوم سواء أكان من موضع عالٍ أم لم يكن: رَبيئَة.
والصواب أنه لا يقال له رَبيئَة إلا إذا كان ينظر من مكان عالٍ.
(ص) ويقولون لما حول المدينة: رَبَطٌ. والصواب ربَضٌ.
قلت: يريد أنهم يقولونه بالطاء المهملة، وصوابه بالضاد المعجمة.
(ص) ويقولون: مائتانِ رُباعِيّاً. والصواب مائتا رُباعيّ، على الإضافة.
(ص) ويقولون: الرَّثَم، لضرب من النَّبْت. والصواب: الرَّتَم، بالتاء.
قلت: يريد أنهم يقولونه بالثاء المثلثة، وهو بالتاء ثالثة الحروف.
(م ص ز) ويقولون: في لسانه رَثّةٌ، والمتفصح يقول رَتّةٌ. والصواب رُتّة ورَتَتٌ، ويقال: رجل أرَتُّ بيّنُ الرُّتّة، على مثال حُمْرَة، من قوم رُتٍّ، وامرأة رَتّاء، وبه سمي خَبّاب بن الأرَتّ، والرُّتّة حُبْسَة في اللسان، قال العجاج:
حتّى تَرى الألْسَنَ كالأرَتِّ
(ص) ويقولون: الرُّثَيْلَى. والصواب رُتَيْلَى بالتاء، وتُمَدّ وتُقصَر.
قلت: يريد أنهم يقولونها بالثاء المثلثة وهي بالتاء ثالثة الحروف.
(س ك) حدثنا إبراهيم بن المعلى قال: حدثني أبو العباس محمد بن الحسن الأحول قال: أملَى اللحياني أراجيزَ للعرب فمرّ منها:
مُجْمَرة الخُفِّ رَثيم المَنْسِمِ
عوّامة وسْطَ المَطي العُوَّمِ
وكل نَضّاحِ القَفا عثَمْثَمِ
فقال له أعرابيٌ حاضر: إنما هو: رَتيمِ المَنسِم، فقال اللحياني: بل رثيم، فما هو الرتيم؟ قال: يرْتُم الأرضَ: يدقها، وارتُمْ هذا شديداً، أي دُقَّه دَقّاً شديداً، فقال اللحياني: فما يكون أراد به رثيم بالدم؟ قال الأعرابي: يا رجل لم يصفها بجهدٍ وضرٍّ وإنما وصفها بعَوْم ونشاط فما يصنع الرثيم هنا؟ قلت: يريد أنه قاله بالثاء وهو بالتاء المثناة من فوق، ويقال رثمه: أدْماه، وأنف رثيم، قال الشاعر:
إنّ بِشْراً، واللهُ يرْحَمُ بِشْراً ... ووَقى وجْهَهُ عَذابَ السَّمومِ
حادَ عنه عُبيدةُ بنُ هِلالٍ ... ثم عَمْرو القَنا بأنفٍ رَثيمِ

لا يفرقون بين قولهم: لا رجلَ في الدار، ولا رجلٌ عندك، والفرق أن لا رجلَ بالفتح عمّت جنسَ الرجال بالنفي وهو جواب لمن قال: هل مِن رجل في الدار؟ فإذا قلت: لا رجلٌ، بالرفع فالمراد بالنفي الخصوص، ويجوز في هذا الجواب أن يقال: لا رجلٌ في الدار بل رجلان، ولا يجوز أن يقال: لا رجلَ في الدار، بالفتح، بل رجلان.
(ص) ويقولون: هو يملك رِجْعَةَ المرأةِ، وطلاق رِجْعِيّ، بكسر الراء. والصواب فتح الراء فيهما.
(و) تقول العامة أحمقُ من رِجْلِه، يريدون: قدَمَه. والصواب من رِجْلَة، وهي البقلة الحمقاء، لأنها تنبت في مجاري السيل.
ويقولون: نقل فلان رَحْلَه، إشارة الى أثاثه وآلاته، وليس في أجناس الآلات ما يسمونه رَحْلاً الى سَرْج البعير، وإنما رَحْلُ الرجلِ: منزله، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ابْتَلّتِ النِّعالُ فالصلاةُ في الرِّحال)، وقيل النّعْل هنا ما صَلُبَ من الأرض.
وكذلك يكتبون الرّحمن، بحذف الألف في كل موطن، وإنما تحذف الألف عند دخول لام التعريف عليه، فإذا تعرّى منها كقولك: يا رحمان الدنيا والآخرة، أثبت الألف فيه.
(و) العامة تقول رِحَى، بكسر الراء. والصواب رَحَى بفتح الراء.
(ح ص) ويقولون للأنثى من أولاد الضان: رَخْلة. والصواب: رَخِل، بحذف الهاء وكسر الخاء، والجمع رُخال، بضم الراء.
(و) والعامة تقول: هو رَخْو، بفتح الراء. والصواب كسرها.
(و) العامة تقول: رُخِصَ السِّعرُ، بضم الراء وكسر الخاء. والصواب رَخُصَ، بفتح الراء وضم الخاء.
(ك) ثنا يعقوب بن بيان والحسين بن عمر، قالا: ثنا علي بن الحسين بن عبد الأعلى الإسكافي قال: قرأنا على ابن الأعرابي شعر ذي الرمة من قصيدته التي أولها:
ألا حَيِّ المنازلَ بالسلامِ ... على بُخْلِ المنازل بالكلامِ
لمَيّةَ بالمِعاد رختْ عليها ... رياحُ الصيفِ عاماً بعدَ عامِ
فقلت له: ما معنى: بالمعاد؟ فقال: أمكنة يعودون إليها. فقلت: رخت؟ قال: مرت ساكنة، قال الله عز وجل: (... رُخاءً حيثُ أصابَ).
قال: وكان أبو محلم يسألني دائماً عما قرأناه عليه وسمعته منه فيقول: أعِدْه علَيّ، فأعدتُ هذا عليه فضحك ثم قال: أصلحته على هذا في كتابك؟ قلت: نعم، فقال: إنا للّه! مَنْ مَضى ومَنْ بقى، ويل للشيطان! إنما هو: ... بالمِعَى درَجَتْ....
(ز) ويقولون: رَدّ العسكر، ويجمعونه على رُدود. والصواب رِدْءٌ. والرِّدْءُ: المُعين، تقول: أردأته أُردِئُه إرداء، إذا أعنته، قال الله عز وجل: (فأرْسِلْهُ معي رِدْءاً يُصَدِّقُني)، وإن خففت الهمزة قلت رِدٌ.
(ق) ويقولون للأمر الفظيع: هذه رِدّة. والصواب: هذه إدّة، أي داهية.
قلت: يقولونه بالراء قبل الدال. والصواب بالهمزة مكسورة.
(و) العامة تقول: رُسْتاق بضم الراء وسكون السين المهملة.
والصواب: رَزْداق ورَسْداق.
(ص) ويقولون لضرب من المطر: رُشاش. والصواب رَشاش، بفتح الراء، على وزن رَذاذ، والرَّشاش فوق الرّذاذ، وكذلك رَشاش الدم.
(و) العامة تقول: الرِّصاص والرِّضاع، بالكسر. والصواب بفتح الراء.
(ص ز) ويقولون للحجارة المحماة: رَضَفٌ. والصواب: رَضْفٌ، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: بَشِّر الكنّازينَ برَضْفَةٍ في الناغض، والناغض فرع الكتف.
لا يقال لماء الفم رُضاب إلا مادام في الفم.
(و) العامة تقول: رضاء الله، بالمد. والصواب رِضَى بالقصر.
(ص) وينشدون قول ابن دريد:
رَضيتُ قَسْراً وعلى القَسْرِ رِضَى ... مَنْ كان ذا سُخْطٍ على صرْف القَضا
فينونون رِضًى. والصواب أنه غير منون، ومَنْ في موضع خفض بالإضافة.
(ص) ويقولون: إذا رَعِفَ في صلاته. والصواب رَعَفَ، ورَعُفَ، بالفتح والضم.
(و) العامة تقول: رَغِمَ أنفُه، بالكسر والصواب فتحها.
(ص) ومن ذلك قولهم: رِفْقَة هو جائز مسموع، يقال: رِفْقَة ورُفْقَة، إلا أن الضم أفصح، وليس الرِّفاق بجمع لها، وإنما الرِّفاق جمع رفيق، مثل كريم وكرام.

ويقولون في رَفْهَة، والمسموع عن العرب: هو في رَفاهَة ورَفاهيَة، كما قالوا طَماعَة وطَماعية وكَراهة وكَراهية، وقد قيدٌ لا يضِلُّ سالكُه، ومِهادٌ لا يُزَحْزَح مالِكُه، وزَنْدٌ لا يُصلِدُ قادِحُه، وإمدادٌ لا يُنزَفُ ماتِحُه. فمن ذلك قولُه (ص): (... منَ الشعرِ لَحِكمة)، وفي موضع آخر (إنّ من الشعرِ لحِكما). هذا قولُه، وهو (ص) لا ينطبقُ عن الهَوى بعدَ أن قال الله تعالى في شأن داودَ عليه السلام: (وآتَيْناهُ الحِكمةَ وفصْلَ الخِطابِ). وقال تعالى: (ولوطاً آتَيناهُ حُكْماً وعِلْماً)، فجعل (ص) بعضَ الشِّعر جُزْءاً من الحكمةِ التي خصّ اللهُ تعالى بها أنبياءَه ووصفَ بها أصفياءَه، وامتنّ عليهم بذلك إذ جعلَهم مخصوصينَ بها من قِبَلِا شَفَياني (ز) ويقولون لمن به قحة: رَقيع. والصواب أن الرقيع هو الأحمق، وقال بعض اللغويين: الرقيع هو الذي يتمزق عليه رأيه حُمْقاً.
(و ص ح) ويقولون: اقطعه من حيث رَقَّ. وكلام العرب من حيث رَكَّ، أي من حيث ضَعُفَ، ومنه قيل للضعيف الرأي: ركيك، وفي الحديث: إنّ الله لَيُبْغِضُ السلطانَ الرّكاكَةَ، والرَّكَكَة.
ولا يقال للبئر رَكِيّة إلا إذا كان فيها ماءٌ.
ويقولون: ركضَ الفرسُ، بفتح الراء، وقد أقبلت الفرس تركُضُ. والصواب فيه أن يقال رُكِضَ الفرس، بضم الراء، وأقبلت تُركَضُ، بضم التاء.
وأصل الركض تحريك القوائم، ومنه قوله تعالى: (ارْكُضْ برِجْلِكَ)، ولهذا قيل للجنين إذا اضطرب في بطن أمه: قد ارتكضَ.
(و) العامة تقول لكل راكب: رَكْبٌ. والصواب أنه لرُكّاب الإبل خاصة.
ويقولون: سار رِكابُ السلطان، إشارة الى موكبه المشتمل على الخيل والرَّجْل وأجناس الدوابّ، وهو وهمٌ، لأن الرِّكاب اسم يختص بالإبل.
(زص) ويقولون: رَمْكَةٌ. والصواب: رَمَكَة.
قلت: يريد أنهم يسكنون الميم. والصواب فتحها. والرَّمَكَة: الأنثى من البراذين، والجمع رِماك ورَمَكات وأرْماك أيضاً، عن الفراء، مثل ثمار وأثمار.
(ص) ويقولون: رَمَيْتُ العِدْل، وركبت الفرس فرَماني.
والصواب أرميتُ العِدْل، وأرماني الفرسُ ويقولون: رَمَيْتُ بالقوس. والصواب رميتُ عن القوس، أو على القوس، كما قال الراجز:
أرْمي عليها وهْيَ فرْعٌ أجْمَعُ
وهْيَ ثلاثُ أذْرعٍ وإصبَعُ
فإن قيل: هَلاّ أجزتم أن تكون الباء ها هنا قائمة مقام عن أو على كما جاءت بمعنى عن في قوله تعالى: (سألَ سائِلٌ بعذابٍ واقِعٍ)، وبمعنى: على في قوله تعالى (وقالَ ارْكَبوا فيها بسْمِ الله). فالجواب عنه: أن إقامة بعض حروف الجر مقام بعض إنما جُوِّزَ في المواطن التي يَنْتَفي فيها اللَّبْسُ ولا يستحيل المعنى الذي صيغ له اللفظ، ولو قيل هاهنا: رمى بالقوس لدل ظاهر الكلام على أنه نبذها من يده، وهو ضد المراد بلفظه، فلهذا لم يجز التأويل للباء فيه.
(و ح) ولا يقال للقناة: رُمْحٌ إلا إذا رُكِّبَ عليها السِّنان.
(ز) ويقولون: أصاب فلاناً رَمْدٌ، إذا رمِدَتْ عينُه.
والصواب أن يقال: رَمَدٌ، يقال: رَمِدَتْ عينه، تَرْمَدُ رَمَداً، فهو رَمِدٌ ومَرْمودٌ وأرْمَد، قال ابن مقبل:
تأوَّبَني دائِي الذي أنا حاذِرُه ... كما اعتادَ مرْموداً من الليل عائِرُهْ
قلت: يريد أنهم يسكنون الميم، والصواب فتحها.
(ص) ويقولون: رَمَستْ عينُه ترْمُسُ. والصواب: رَمِصَتْ بالصاد وكسر الميم، ترْمَصُ، بفتح الميم.
قلت: الرَّمَص، وسخٌ يجتمع في المُوْق، فإن سالَ فهو غَمَصٌ، بالغين معجمة، وإن جَمدَ فهو رَمَصٌ، بالراء، ورجل أرمصُ.
ويقولون: سررتُ برؤيا فلان، إشارة الى مرْآهُ. فيوهمون فيه كما وهم أبو الطيب في قوله:
مَضى الليلُ والفضلُ الذي لك لا يَمْضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغُمْضِ
والصواب أن يقال: سررت برؤيتك، لأن العرب تجعل الرؤية لما يرى في اليقظة، والرؤيا لما يرى في المنام، كما قال تعالى: (إنْ كُنتمْ للرُّؤيا تعْبُرون).
(وص) ويقولون لبائع الرّءوس: رَوّاس. والصواب رآّس.
(و) العامة تقول: الرُّوزَنة والرُّوشَن، بضم الراء، والصواب فتحها.
(وح) ويقولون: رُوشن. والصواب فتح الراء، لا ضمها.
(ص) يقولون: أنت عندي كرَوْحي، وخرجت رَوْح زييد. والصواب رُوْح.
قلت: الصواب ضم الراء.

(و) العامة تقول: رُوْزَنة، بضم الراء. والصواب فتحها.
(ص ز) ويقولون: رَيْحان للآس خاصة دون الرياحين.
والرَّيْحان: كل نبت طيب الريح كالورد النُّعْنُع والنّمّام، والرَّيْحان أيضاً الرزق، قال الله تعالى: (فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ)، قال النَّمْر بن تَوْلَب:
سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه ... ورحمتُه وسَماءٌ دِرَرْ
(م ص وز) ويقولون: رِيّة الإنسان، فيشددون.
والصواب: رِئَة بالهمز والتخفيف، وتصغيرها رُؤَيّة على وزن رُعَيّة، وقد رأيتُ الرجلَ، إذا أصبت رِئَتَه.
(ز) ويقولون للذَّلول: رَيِّضٌ. والرَّيِّض: الصعبة المحتاجة الى رِياضة. قال يعقوب: رضت الدابة أروضها رَوْضاً ورِياضة.
ويقال: دابة ذَلول، ورجل ذَليل.

حرف الزاي

(س) في كتاب العين: كيس زَبير، أي مُكتَنَز مملوء، بتقديم الزاي على الراء. وإنما هو رَبيز، بتقديم الراء على الزاي.
(و) العامة تقول لمُرسِل الحمام: زَجّان. وهو خطأ، والصواب: زَجّال باللام، والزَّجْل: إرسال الحمام الهادي من مَزْجَل بعيد.
(ز) يقولون لبعض الدوابّ: زُرافة. والصواب: زَرافة، بالفتح، وجمعها زَرافات وزَرافِي.
وزعم ابن قتيبة أن الناقة من نوق الحُبوش يَسفِدها الضبعانُ ببلد الحبشة فتأتي بولد خَلْقُه بين الناقة والضَّبُع، فإن كان ذكراً سَفَدَ البقرة الوحشية فأتت بالزرافة، وإنما سميت زرافة، لأنها من جماعة، والزرافة: الجماعة من الناس وغيرهم.
(ز) ويقولون للسِّرْقين: زَبْل. والصواب: زِبْل، بكسر الزاي، والجمع زُبول.
(ق) يقولون: حطَبٌ زَجْلٌ. وإنما هو جَزْلٌ، وهو الغليظ اليابس من الحطب.
(ز) ويقولون لما وُقِيَ به الحائط من حطَب أو حشيش: زَرْب.
والزَّرْب: حفرة تُحفَر مثل البيت يُبنى حولها فتحبس فيها الجِداء، والعُنوق عن أماتها، وتجمع على الزِّراب والزُّروب.
(ق ح) ويقولون للقناة الجوفاء التي يُرمَى عنها بالبُندق: زِرْبطانة والصواب أن يقال: سِبطانة، لاشتقاق اسمها من السُّبوطة وهو الطول والامتداد، ومنه سمي السّاباط لامتداده بين الدارين.
(ص) ويقولون لبعض العصافير: زُرْزُر. والصواب زُرْزور.
(ز) ويقولون للطائر: زُرْزُل، باللام. والصواب: زُرْزُر، والجمع زَرازير.
(و) العامة تقول: زَرَدتُ اللقمة. والصواب كسر الراء.
(ص) ويقولون للطَنْفَسة: زِرْبِيّة. والصواب: زِرْبيَة، بكسر الزاي وتخفيف الياء، آخر الحروف.
(و) العامة تقول: زُربانقة، للجُبّة الصوف. والصواب: زُرْمانقة، وهي عبرانية تكلمت بها العرب.
(ص) ويقولون: زَرْنيخ. والصواب كسر الزاي.
(ص) ويقولون: زَرْمومِيّة. والصواب: زَرَمومِيّة وزَلَمومِيّة، بفتح الراء واللام.
(ز) ويقولون: زِرّيعة، فيشددون، ويجمعون على زَرارِع.
والصواب: زَريعة، بالتخفيف، والجمع زَرائِع وهي فَعيلة في معنى مَفعولَة من زَرَعتُ، فإن كان للتشديد في ذلك أصل فهي زِرِّيعة، بكسر الأول على مثال فِعِّيلة.
(و) تقول العامة: زَعْرور بفتح الزاي. والصواب ضمها.
(و) تقول العامة: فيه زَعارَة. والصواب: زَعارّة بتشديد الراء.
(ص) ويقولون: زَعْفُران بضم الفاء. والصواب الفتح.
(ز) ويقولون للذي يُعصَر من شجر الصَّنوبَر: زَفْت. والصواب: زِفْت بكسر الزاي.
(ص) وينشدون قول الشاعر:
وهل زَفَّتْ عليك قرون ليلى ... زَفيفَ الأُقْحوانة في نَداها
بالزاي، والصواب رَفَّتْ، بالراء.
(ص) ويقولون للمزمار: زُلامِيّ. والصواب: زُنامِيّ، منسوب الى زامرٍ يقال له زُنام.
(ح و س) ويقولون: زُمُرّد، بالدال المغفلة. وإما هو الزُّمُرّذ بالذال المعجمة.
(ص) وقال فيه بفتح الراء.
(ص) ويقولون: زُمُّج. والصواب فيه فتح الميم.
قلت: الزُّمَّج في اللغة القصير الدميم، وأهل اللعب بالطير، يقولون فيه ذكر العُقاب وهو أصغر حجماً من العقاب.
(ق و) العامة تقول لأصل ذنب الطائر: زمكّاة. والصواب زِمكّى.
قلت: بكسر الزّاي والميم وتشديد الكاف وبعدها ألف مقصورة، مثل الزِّمِجَّى.
(ز) ويقولون: زَنَدٌ فيفتحون. والصواب: زَنْدٌ، وهو العود الأعلى، ويقال للأسفل الزَّنْدَة، والجمع الزِّناد.

(م و ح) ويقولون للاثنين: عندي زَوْجٌ. وهو خطأ، لأن الزوج في كلام العرب هو الفرد المزاوج لصاحبه، فأما الاثنان المصاحبان فيقال لهما زوجان، كما قالوا عندي زوجان من النعال، أي نعلان، وزوجان من الخفاف، أي خفان، كذلك يقال للذكر والأنثى من الطير زوجان كما قال تعالى: (وأنّهُ خلقَ الزَّوْجيْن الذَّكَرَ والأنثى).
(م ز ص) ويقولون: قمح كثير الزَّوال. والصواب: الزُّؤان بالنون وضم الزاي، ويُهْمَز ولا يُهْمَز.
(و) العامة تقول للعبد اللئيم: زُوْش بالضم. والصواب فتح الزاي.
(و) العامة تقول: زَهِقَتْ نفْسُه، بكسر الهاء. والصواب فتحها.
(وص) ويقولون للنجم: الزُّهْرَة. والصواب: الزُّهَرَة، قال الراجز:
وأيقَظتْني لطُلوعِ الزُّهَرَهْ
قلت: الصواب هو بتحريك الهاء.
(و) العامة تقول: الزَّنبور، بفتح الزاي. والصواب ضمها.
(و) العامة تقول: زَنْبيل. والصواب زَبِيْل، بفتح الزاي، فإن كسرت زدته نوناً.
(م ز) ويقولون: لفلان زَيٌّ حسَنٌ، بالفتح، يريدون الهيئة. والصواب بكسر الزاي.
(و) العامة تقول: الزَّيْبَق، بفتح الزاي والباء. والصواب كسرهما.
(و) العامة تقول: زَيَّتُ الطعام، إذا جعلت فيه الزّيتَ.
والصواب: زِتّه بكسر الزاي، وتاء مشددة، من غير ياء آخر الحروف.
(ق) يقولون للريح: زِيقا. وكلام العرب: الصِّيق وهو الغبار.
(م) ويقولون: الزيكَران، بالزاي وفتح الكاف. وصوابه بالسين المهملة وضم الكاف.

حرف السين المهملة

يقولون: سارَرَ فلانٌ فلاناً، وقاصَصَه وحاجَجَهُ وشاقَقَهُ، فيبرزون التضعيف كما يظهرونه في مصادر هذه الأفعال، فيقولون المساررة والمقاصصة وغير ذلك، فيغلطون، لأن العرب استعملت الإدغام في هذه الأفعال ونظائرها طلباً للخفة واستثقالاً للحرفين المتماثلين، ولم تفرّق بين ماضي هذه الأفعال وما تصرّف منها فقالوا: سارَّه مُسارّةً وحاصّه مُحاصّةً. وقالوا من نوع آخر منه: تصامَّ عنه، أي أرى أنه أصَمُّ، قال الله تعالى: (وحآجّهُ قومُه).
وهذا الحكم مُطّردٌ في كل ما جاء من الأفعال المضاعفة على وزن فَعَل وأفعَلَ وفاعَلَ وافتَعَلَ وتفاعَلَ واستَفْعَلَ نحو: مدّ الحبلَ وامتدّ وأمدّ وتمادَّ واستمدَّ، اللهم إلا أن يتصل به ضمير مرفوع، أو يؤمر فيه جماعة المؤنث فيلزم حينئذ فكُّ الإدغام في هذين الموطنين لسكون أحد الحرفين، كقولك: رددْتُ ورَدَدْنا ونظائره، ولقولك لجماعة المؤنث: ارْدُدْنَ. وقد جُوِّز الإدغام والإظهار في الأمر للواحد كقولك: رُدَّ، وارْدُدْ، وقاصّ وقاصِص واقتصّ واقتصِصْ وكذلك، جُوِّز الأمران في المجزوم، كما قال تعالى: (مَنْ يرْتَدَّ منكُم عن دينِه)، وفي مكان آخر: (ومَنْ يرتَدِدْ منكُمْ عن دينِه)، ولا يجوز إبراز التضعيف إلاّ في ضرورة الشعر كما قال الراجز في الاسم:
إنّ بَنيَّ لَلِئامٌ زَهَدَهْ
ماليَ في صُدورِهم من مَوْدَدَهْ
وقد شذّ منه: قَطِطَ شعرُه، من القَطَط، ومَشِشَت الدابة، من المَشَش، ولَحِحَتْ عينه، أي التصقتْ، وألِلَ السقاء، إذا تغيرتْ ريحُه، وصَكِكَتْ الدابة، من الصّكَكِ في القوائم، وكلّ ذلك مما لا يعتد به ولا يقاس عليه.
(وح) ويقولون للبلدة التي أحدثها المعتصم بالله: سامَرّا، فيوهمون فيه كما وهم البحتري، إذ قال في صَلْبِ بابك:
أخْلَيْتَ منه البَدْوَ، وهْي قَرارُهُ ... ونصَبْتَه علَماً بسامَرّاءِ
والصواب أن يقال فيها: سُرَّ مَنْ رأى على ما نطق به في الأصل، لأن المسمى بالجملة يُحكى على صيغته، كما يقال: جاء تأبط شراً ولهذا قال دعبل في ذمها:
بغدادُ دار الملوك كانت ... حتى دَهاها الذي دَهاها
ما سُرَّ مَنْ رأى سُرَّ مَن را ... بل هي بُؤسَى لمَنْ رآها

==================

ج2.  كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثرابن أبي الأصبع

فهذا الاستثناء تضمن تعظيم الشاعر لما فيه من تعظيم أحبائه، ودل على شرف نفسه وعلو همته، إذ لا يسمو إلا لحب الكرماء من الناس، وذلك أنه استثنى من آيات الطلل ذكره الخوالد الجون وهو يريد الأثافي، فكونه وصفها بالخلود يدل على عظمها دليل على عظم القدور، وعظم القدور دليل على عظم الكرم، وأكد ذلك بجعلها جوناً أي سوداً لكثرة الوقود عليها، وإن كان الجون يطلق على الأبيض والأسود ولكن القرينة هاهنا خلصته إلى السواد فتم للشاعر من الفخر إلى أه لهذا الطلل ما أراد، وهذا مثل قول عمر بن أبي ربيعة طويل:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
ومن الاستثناء نوع وقع لي فسميته استثناء الحصر، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير، كقول القائل طويل:
إليك وإلا ما تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب
فإن خلاصة هذا البيت قول الشاعر للممدوح: لا تحث الركائب إلا إليك، ولا يصدق المحدث إلا عنك، ولا يحصل هذا الحصر من الاستثناء الأول، فإن قوله تعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " لا يمنع أن يقال: إلا خمسين عاماً وعاماً، لولا توخي الصدق في الخبر، وقوله ورهطه، لولا مراعاة الصدق، ولأن الصيغ التي قدرها المعترض لا يقع مثلها في الكلام الفصيح، فإنها عبارة أهل العي والفهه، فإن قلت: كل الاستثناء موضوع للحصر، فلا اختيار لهذا الاستثناء على الأول، وما قدرته في الاستثناء الأول يلزم مثله في هذا الاستثناء إذا أزلت منه التقديم والتأخير، وأتيت بالكلام على استقامته، قلت: الذي ميز هذا الاستثناء على الأول: هو ما فيه من التقديم والتأخير، فإنه على الصورة التي جاء عليها يفيد حصراً أشد من حصر جنس الاستثناء كله. والله أعلم.

باب الاشتراك

وهو قسمان: معنوي ولفظي، وكل من هذين القسمين معيب، وغير معيب وحسن: فالمعيب المعنوي كقول الفرزدق طويل:
وما مثله في الناس إلا مملك ... أبو أمه حيي أبوه يقاربه
فإن لفظة حي مشتركة بين ضد الميت وبين القبيلة، فلما لم يميز بينهما في البيت بقرينة، أو ما يخلصه من الاشتراك ولا يبينه فيما بعد عد اشتراكاً معيباً، على أن البيت معيب من وجه آخر، وهو تعسف السبك، وقد مضى ذكره.
ومثال المعنوي الذي ليس بمعيب ولا يحسن قول كثير طويل:
وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم يشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر
فإن لفظة قصيرة مشتركة، فلو اقتصر على البيت الأول كان الاشتراك معيباً، لكنه لما أتى بالبيت الثاني زال العيب فبقي الاشتراك ليس بمعيب ولا بحسن، والذي منعه أن يعد حسناً ما في البيتين من التضمين، فإن ذلك جعل له منزلة بين منزلتين.
وأما الاشتراك الحسن المعنوي فهو اشتراك الشاعرين في معنى واحد، إذا شارك الأخير الأول اشتراكاً يوجبه له دون الأول، كسائر المعاني التي يتناولها الشعراء بعضهم من بعض.
وأما الاشتراك اللفظي الذي ليس بمعيب مثل اشتراك الناس في مفردات الألفاظ، فإنها ليس أحد أحق بها من أد، فلا يعد الاشتراك في الألفاظ المفردة سرقة، فإن تضمنت معنى من معاني النفس، أو معاني اللفظ عد تناولها سرقة، ومثال الأول قول أبي نواس طويل:
ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقل جفونها
فلفظة الاستعفاء مشتركة بينه وبين الأبيرد في قوله يرثي أخاه أو ابنه طويل:
وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن عظم الأجر
فمثل هذا هو الاشتراك الحسن ومن الاشتراك الحسن اشتراك الشاعرين أو الشعراء في عمل شعر، وتسميه العرب التمليط بحيث يصنع كل واحد قسيماً، كما حكى عن امرئ القيس والتوءم إذ قال له: ملط أنصاف أبيات آتيك بها، ثم قال وافر:
أحار ترى بريقاً هب وهناً
فقال التوءم:
كنار مجوس تستعر استعاراً
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو سريج
فقال التوءم:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
وأما الاشتراك المعيب فكقول الأسود بن يعفر في صفة الفرس كامل:
بمقلص عبل جهير شده ... قيد الأوابد والرهان جواد

فلفظ قيد الأوابد مشترك بين الأسود وامرئ القيس في قوله:
قيد الأوابد هيكل
وهذا الضرب مما يعد سرقة لتضمن اللفظ معنى الإرداف لا سيما والبيتان من باب الوصف للفرس.
والاشتراك الذي ليس بمعيب ولا بحسن تناول الشاعر اللفظ المتضمن معنى من معاني البديع بحيث ينقله من فنن إلى فن، وذلك أن يأتي المتكلم بلفظ " قيد الأوابد " مثلاً في غير صفة الفرس وهذا وإن لم يقع فذكره مثال يقاس عليه.
وكل هذه الأقسام التي قدمت ذكرها ليست من البديع في شيء، وإنما هي أقسام أحد ضربي الاشتراك.
وأما الضرب الثاني منه، وهو الذي يتعلق بكتابنا، فهو مثل قول امرئ القيس طويل:
كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل
وقول ذي الرمة بسيط
كحلاء في برج صفراء في دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب
فوقوع الاشتراك بينهما في وصف المرأة بالصفرة، غير أن الأول شبه الصفرة ببيضة النعام، والآخر بالفضة المموهة، فنقل الثاني لكونه من أهل المدر، متأخر الزمان، وقد رأى الخلف والملوك التشبيه العربي إلى التشبيه الملوكي.
والفرق بين الاشتراك اللفظي الذي ليس بمعيب وبين الإيضاح أن الاشتراك في الألفاظ، والإيضاح في المعاني. والله أعلم.
هذا الباب مما ظننت أنني استخرجته ولم أسبق إليه، فلما عثرت عليه بعد إتياني به لغيري غيرته باب سميته باب الفرائد فلينزل موضعه؟ ويعد هذا في أبواب من تقدمني، وموضعه بعد باب الاستثناء، وقد أتيت بالباب، فلينقل باب الاشتراك إلى موضعه.

باب التلفيف

وهو أن يقصد المتكلم التعبير عن معنى خطر له أو سئل عنه، فيلف معه معنى آخر يلازم كلمة المعنى الذي سئل عنه، كقول الله تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام وقد قال سبحانه له: " وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " وكقول الرسول عليه السلام وقد سئل عن البحر في حديث أوله: إنا نركب البحر، فحواه السؤال عن ماء البحر هلا تجوز به الطهارة؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته.

باب جمع المختلفة والمؤتلفة

رأيت من المؤلفين من فسر هذه التسمية بما لا يليق بها، وقد استشهد عليها بشواهد من جنس ما فسر به، فاطرحت ذلك وفسرتها بما يليق واستشهدت عليها بشواهد مطابقة لتفسيري، وكذلك فعلت في أكثر الأبواب، ومن وقف على كتابي وكتب الناس في هذا الشأن علم صدق دعواى.
والذي أقول في هذه التسمية: إنها عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح بمعان تخالف معاني التسوية، كقول الخنساء في أخيها، وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة فضل لا ينقص بها حق الولد كامل:
جاري أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر
وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا إلى وكر
حتى إذا نزلت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر
وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك: لا أدري
برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أول فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
وأول من فتح باب هذا المعنى فيما أظن زهير حيث قال بسيط
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا
لكن لشعر الخنساء من الفضل في هذا المعنى ما ليس لغيره، وتداول الناس هذا المعنى بعدها، وابتذله الشعراء، فكان فيه أول تابع من المولدين أبو نواس حيث يقول منسرح:
ثم جرى الفضل فانثنى قدماً ... دون مداه بغير ترهيق
فقيل راشا سهماً تراد به ال؟ ... غاية والنصل سابق الفوق
وقال البحتري لابن أبي سعيد الثغري كامل:
جد كجد أبي سعيد إنه ... ترك السماك كأنه لم يشرف
قاسمته أخلاقه وهي الردى ... للمعتدي وهي الندى للمعتفي
فإذا جرى من غاية وجريت من ... أخرى التقى شأواكما في المنصف

ومعنى البحتري هذا خالف فيه معاني من تقدمه من أبي نواس والخنساء وزهير، فإنهم رجحوا الأول في الفضل على الثاني ترجيحاً لا ينقص من فضل الثاني ولا يغض منه، والبحتري ساوى بين الثاني والأول من غير ترجيح، وكذلك قوله أيضاً كامل:
وإذا رأيت شمائل ابنى صاعد ... أدت إليك شمائل ابنى مخلد
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم تعل رتبة فرقد عن فرقد
ومقطوعتا البحتري ليستا من شواهد هذا الباب لما فيهما من المساواة دون الترجيح، وإنما ساق ذكرهما ذكر المعنى الذي ألم به البحتري من المعنى الأول، والله أعلم.
ومن جمع المختلفة والمؤتلفة ضرب يأتي الشاعر فيه بأسماء مؤتلفة ثم يصفها بصفات مختلفة، كقول الشاعر بسيط
لله ليلتنا إذ صاحباى بها ... بدر وبدر سماوي وأرضي
إن الهوى والهواء الطلق معتدلا ... هذا وهذا ربيع طبيعي
بتنا جميعاً وكل في السماع وفي ... شرب المدام حجازي عراقي
أسقى وأسقي نديماً غاب ثالثنا ... فالدور منا يميني شمالي
ومن جمع المختلفة والمؤتلفة قو العباس بن الأحنف طويل:
وصالكم صرم وحبكم قلى ... وعطفكم صد وسلمكم حرب
فإن الوصل والحب، والعطف والسلم من المؤتلفة، والصرم والقلى والصد والحرب من المختلفة.
وقد جاء الكتاب العزيز من باب المختلفة والمؤتلفة بمعجز لا يلحق سبقاً وهو قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " فإن القرآن ساوى بين داود وسليمان في المنصب إذ أخبر أن كلاً منهما مرشح للحكم وأهل له، ثم رجح سلميان إذ أخبر عنه بأنه سبحانه فهمه القضية القاطعة للحكم بالعدل، ثم عاد إلى المساواة مراعاة لحرمة الوالد وفضله على الولد بقضية صرح فيها بالمساواة، إذ جعل فهم سليمان وجه المعدلة في الحكم فناله فضل الأبوة، فكان بمعنى الخنساء الذي أخرجته مع فصاحتها وشدة بلاغتها في عدة أبيات مسوقاً في آية وبعض أخرى، هذا إلى ما تضمن القرآن من الزيادة التي لم تقع للخنساء، وهي النكتة في قوله تعالى " وكنا لحكمهم شاهدين " إذ جمع الضمير الذي أضيف إليه الحكم، ومن حقه أن يكون مثنى لعلمه سبحانه أن الحكم من نوادر الأحكام المعادلة، ومثله يتبع ويعمل به، فأخبر أنه سبحانه شهد عليهما في هذا الحكم، وعلى كل من يحكم به تشريفاً لحكم العدل، وإن كان شهيداً على العدل والجور، ولكنه سبحانه يخص العدل بشهادته تشريفاً للعدل، كما قال تعالى " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " نظراً لمن يعمل بحكم الله تعالى في الوصايا، ومن يتبعه، وأن حكم العدل يقتدي به، والخطأ ليس بقدوة، ولهذا قال: " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها " والله أعلم.
؟

باب التوهيم

وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها، ومراده على خلاف ما يتوهمه السامع فيها، كقول المتنبي متقارب:
وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس
فإن لفظة الأرجل أوهمت السامع أن لفظة الفئام بالقاف لا بالفاء، ومراد الشاعر الفئام بالفاء التي هي الجماعات، هكذا روى البيت، والمبالغة تقتضيه، إذ القيام بالقاف يصدق على أقل الجمع من العدد، والفئام بالفاء: الجماعات، وأقل ما تكون كل جماعة أقل الجمع فمفهومها أكثر من مفهوم الأول، وما في ذكر القيام بالقاف من تعظيم الممدوح بقيام الناس على رأسه حاصل في عجز البيت في قوله:
لتحسد أرجلها الأرؤس
فإن مفهوم ذلك قيام من عاد الضمير من أرجلها عليه.
ومن التوهيم قسم آخر، وهو أن يأتي المتكلم بلفظة يوهم بها أن في كلامه لحناً، فإذا انتقد من جهة المعنى وجد فيه جناس من البلاغة يصححه ويمشيه على طريق الإعراب، كقول الرسول عليه السلام: " وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر " فإن لفظة العشر توهم أنها جاءت على غير الصواب، إذ كانت مؤنثة، والمعدود بها مذكر.

والانفصال عن هذا الإشكال أنه لما كان العمل في العشر لا يخص الأيام دون الليالي، والمراد التحضيض على العمل فيها، اقتضت البلاغة الإتيان بما يدل عليهما فصرح بلفظ الأيام ليدل بها على ظرف الصيام، وأبدل منها لفظاً مؤنثاً ليدل به على ظرف القيام، ولما كان لفظ الأيام مؤنثاً ساغ أن يبدل منه المؤنث لكون الصناعة لفظية، ولهذا الموضع من البدل نظائر في القرآن: منها قوله تعالى: " أياماً معدودات " وقوله تعالى " وتلك الأيام نداولها بين الناس " وقد تخالف طريق الإعراب لأجل صحة المعنى المراد، وفي ذلك قوله تعالى: " وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " والقياس أن يكون ينصرون مجزومة لأنها معطوفة على مجزوم، ولكن لما كان المراد الإخبار بأنهم لا ينصرون أبداً ألغى العطف، وأبقى صيغة الفعل على حالها، لتدل على الحل والاستقبال، ولو جزم لما دل إلا على الحال.
ومن التوهيم توهيم يوهم أنه طباق أو تورية، أو غير ذلك من المحاسن وليس عند التحقيق كذلك، كقول أبي تمام طويل:
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فإن قوله: حمر، وخضر يوهم أن ذلك طباق، وليس بطباق، إذا الأحمر لا يضاد الأخضر، فهذا شاهد توهيم المطابقة.
وأما شاهد توهيم التورية، فكقولي بسيط
رمى ولا وتر عندي قوس حاجبه ... قلبي فقدرت أن القوس موتور
فإن لفظة موتور توهم أن فيها تورية، وليست بتورية، لأن الصحيح أن يقال: قوس موترة لا موتورة، لأنها من فعل رباعي، والموتور هو الذي ثار لطلب وتره، والوتر والترة والتار بمعنى.
وقد جاء من التوهيم في القرآن الكريم قوله تعالى: " ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " فإن لفظ " غفور رحيم " يوهم أن الغفران والرحمة للمكره لهن، وهما في الحقيقة لهن، وإنما ظهر اللفظ يوهم الأول قبل التدبر. والله أعلم.

باب الاطراد

وهو أن تطرد للشاعر أسماء متتالية يزيد الممدوح بها تعريفاً، لأنها لا تكون إلا أسماء آبائه تأتي منسوقة صحيحة التسلسل غير منقطعة، من غير ظهور كلفة على النظم، ولا تعسف في السبك، بحيث يشبه تحدرها باطراد الماء لسهولته وانسجامه، فمتى جاءت كذلك دلت على قوة عارضة الشاعر وقدرته، كقول الأعشى طويل:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذي ترجو حباءك وائل
وأحسن من هذا البيت قول دريد لكون الأسماء المطردة جاءت في عجز البيت طويل:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
حتى قال عبد الملك بن مروان لما سمع هذا البيت: لولا القافية لبلغ به آدم.
ومن هذا الباب قول الحارث بن دوس الإيادي " رمل " :
وشاب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد وقد أربى على هؤلاء الشعراء بعض القائلين خفيف:
من يكن رام حاجة بعدت عن؟ ... ه وأعيت عليه كل العياء
؟فلها أحمد المرجى ابن يحيى ب؟ - ن معاذ بن مسلم بن رجاء فلو لم يقع في هذا البيت التضمين والفصل بين الأسماء بلفظة المرجى لكان غاية لا تدرك، وعقلية لا تملك، هكذا أعظم المؤلفون قبلي أمر هذا البيت، وأثنوا عليه بما حكيته عنهم، وعندي أنه دون بيت دريد بطبقات، وهي أن دريداً اطردت له أربعة أسماء سهلة السبك، مسلسلة الألفاظ بغير فصل في أربعة أجزاء من الطويل: جزآن خماسيان، وجزآن سباعيان، وهذا الشاعر اطردت له خمسة أسماء في ستة أجزاء سباعية، من الخفيف، مع الفصل والتكليف، والتضمين، " ولي في هذا الباب بيت لا بأس به بسيط
أجل ملك إلى العلياء منسوب ... محمد بن أبي بكر بن أيوب
وهو وإن قلت الأسماء فيه، إلا أن كونه في ابتداء القصيدة، وهو مصرع يحسن أن يكون من أمثلة الباب.
وهذه شواهد ما جاء من الاطراد بأسماء إذا فصلت من الإضافة استقل المضاف إليه بنفسه، وأما ما جاء الاطراد فيه بأسماء إذا فصلت لم يستقل المضاف إليه بنفسه، فكقول أبي تمام كامل:
طلبت ربيع ربيعة الممهى لها ... ووردن ظل ربيعة الممدودا

بكريها علويها صعبيها ال؟ ... حصنى شيبانيها الصنديدا
ذهليها مريها مضريها ... يمنى يديها خالد بن يزيدا
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا
والبيتان الأوسطان أردت. والله أعلم.

الجزء الثالث

باب التكميل

وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى من معاني المدح أو غيره من فنون إذا لشعر وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، فيكمله بمعنى آخر، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة ورأى مدحه بالاقتصار عليها دون الكرم مثلاً غير كامل، فكمله بذكر الكرم، أو بالبأس دون الحلم، وما أشبههه، وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فانظر هذه البلاغة، فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين وإن كانت صفة مدح، إذ وصفهم بالرياضة لأخوانهم المؤمنين والانقياد لأمورهم كان المدح غير كامل، فكمل مدحهم بأن وصفهم بالعزة على الكافرين فأتى بوصفهم بالامتناع منهم، والغلبة لهم، وكذلك قوله سبحانه " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " ومثال التكميل في الشعر قول كعب بن سعد الغنوي طويل:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
فقوله: حليم مدح حسن، وقوله: إذا ما الحلم زين أهله احتراس، لولاه لكان المدح مدخولاً، إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم ، فإن التجاوز لا يكون حلماً محققاً إلا إذا كان عن قدرة، وهو الذي قصده الشاعر بقوله: " إذا ما الحلم زين أهله " ويعضد هذا التفسير قول سالم ابن وابصة: بسيط
وحلم ذي العجز ذلك أنت عارفه ... والحلم عن قدرة ضرب من الكرم
فحاصل قول الغنوي أن ممدوحه حليم في الموضع الذي يحسن فيه الحلم، ثم رأى أن المدح بمجرد الحلم لا يكمل به المدح، لأن من لم يعرف منه إلا الحلم، ربما طمع فيه عدوه ونال منه ما يذم بسببه، فكمل مدحه بأن قال:
مع الحلم في عين العدو مهيب
ولقد أحسن هذا الشاعر في احتراسه في صدر البيت وعجزه معاً باحتراسين حسنين.
أما الذي في الصدر فقد تقدم تنبيهنا عليه، وهو قوله: " إذا ما الحلم زين أهله " ، وأما الذي في العجز فقوله:
مع الحلم في عين العدو مهيب
لأن المهابة قد تكون مع الجهل.
ومن مليح التكميل قول السموءل: طويل:
وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
فإنه لو اقتصر على صدر البيت كان مدحاً غير كامل، لأن موت الجميع قتلى وإن اقتضى وصفهم بالصبر، فهو يحتمل أن يكون عن ضعف وقلة جد في الحروب، فاحترس عن ذلك بأن قال:
وما طل منا حيث كان قتيل
وأحسن من ذلك كله قوله: " حيث كان " فإنه أبلغ وصف في الشجاعة من التكميل في النسيب قول كثير كامل:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
فقوله: عند موفق تكميل حسن، غلا أنه دون الأول، وإنما كان مثل هذا تكميلاً لأنه لو قال: عند محكم لتم المعنى، لكن في قوله عند موفق زيادة كمل بها حسن البيت، والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكم موفقاً، فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله، وفي ذلك إشارة إلى أن عزة تستحق الحسن دون شمس الضحى، فيكون بهذه اللفظة مع التكميل مبالغة، والتكميل هاهنا من تكميل المعاني النفسية لا تكميل المعاني البديعية ولا الفنون.
ومن التكميل الحسن قول أبي الحسين المتنبي وافر:
أشد من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا
فإنه فطن إلى أنه لو أقتصر على وصفه بشدة البطش دون أن يضيف إلى البطش الكرم كان المدح غير كامل، فكمل المدح في عجز البيت بذكر الكرم، ولم يتجاوز في ذلك كله وصفي الريح التي شبه ممدوحه بها في حالتي بطشه وكرمه، وما حسن بيت أبي الطيب إلا لأنه أشرقت عليه أنوار أوصاف النبوة، فإنه نظر إلى الحديث الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ كان كالريح المرسلة " .

وما وهم فيه المؤلفون في الموضع أنهم خلطوا التكميل بالتتميم، إذ ساقوا في باب التتميم شواهد التكميل، لأن كلا منهم ذكر قول عوف بن محلم السعدي سريع:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
من شواهد التتميم، ومعنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها وإذا لم يكن المعنى ناقصاً فكيف يسمى هذا تتميماً!!، وإنما هو تكميل، وما غلطهم إلا من كونهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني، فلو سموا مثل هذا تتميماً للوزن لكان قريباً، وإنما ساقوه على أنه من تتميم المعاني البديعة ولذلك أتوا بقول المتنبي طويل:
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
في باب التتميم، وهو مثل الأول، وإن زاد على الأول أدنى زيادة، لما في لفظة حاشاك بعد ذكر الفناء من حسن الأدب مع الممدوح، وربما سومح بأن يجعل هذا البيت في شواهد التتميم لهذه الشبهة.
وأما الأول فمحض التكميل، ولا مدخل له في التتميم اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتتميم تتميم الوزن، لا تتميم المعنى، فيجوز بهذا الاعتبار أن يسمى كل ماورد من الحشو الحسن سوءا كان متمماً للمعنى أو مكملاً تتميماً، لأنه به تم الوزن، ويكون من قسم تتميم الألفاظ، وما قدمناه من تتميم المعاني.
ومن مليح التكميل قول النابغة الذبياني في وصف حمار وأتان وحشيين طويل:
فإن هبطا سهلاً أثارا عجاجة ... وإن طلعا حزنا تشظت جنادل
فإنه لو اقتصر على وصف صلابة حوافرهما بالمشي في السهل كان المدح لهما غير كامل، حتى يصفهما بالمشي في الحزن، فلا جرم أنه لما أراد تكميل المدح وأوجبت عليه الصناعة أن يقول في عجز البيت: الحزن كما قال في صدره: السهل، فوصفهما بما يوجب لهما بلوغ الغاية في صلابة الحوافر هذا ما نقلته من كلام الناس على هذا البيت، وفيه ما فيه، لأن الاقتصار على وصفهما بالمشي في السهل، وهو يريد وصفهما بصلابة الحوافر، نقص تام في المعنى المراد، فبقية البيت على هذا تتميم لا تكميل.
والفرق بين التتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ كان الكمال أمراً زائداً على التمام.
والتتميم لا يكون إلا في المعاني دون الفنون، أعني بالمعاني معاني النفس، لا معاني البديع، التي هي أنواعه، وأعني بالفنون أغراض المتكلم ومقاصده، والتكميل يكون فيهما معاً، هذا إذا لم يرد بالتتميم تتميم الوزن كما قدمت.
ومن أحسن التكميل تكميل وقع في قول شاعر الحماسة بسيط
لو قيل للمجد: حد عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا
فقوله: بما احتكمت من الدنيا، من التكميل العجيب، والله أعلم.

باب المناسبة

المناسبة على ضربين: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ، فالمعنوية أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، كقول الله سبحانه وتعالى: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " فإنه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له، عطف على ذلك قوله: " وهو اللطيف " خطاباً للسامع بما يفهم، إذ معترف العادة أن كل لطيف لا تدركه الأبصار ألا ترى أن حاسة البصر لا تدرك إلا اللون من كل متلون، والكون من كل متكون، فإدراكهما إنما هو للمركبات دون المفردات، ولذلك لما قال: " وهو يدرك الأبصار " عطف على ذلك قوله " الخبير " تخصيصاً لذاته سبحانه بصفات الكمال، لأن كل من أدرك شيئاً كان خبيراً بذلك الشيء، ومثل ذلك قوله عز وجل: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون " لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة، وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، صار الليل كأنه سرمداً بهذا التقدير، وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر، لا سميا وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة، فصار النهار كأنه معدوم، إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والليل كأنه لا موجود سواه، إّ جعل كونه سرمداً منسوباً إليه سبحانه فاقتضت البلاغة أن يقول: " أفلا تسمعون " لمناسبة ما بين السماع، والظرف الليلي الذي يصلح للإسماع ولا يصلح لإبصار ولذلك قال في الآية التي تليها: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون لأنه لما أضاف جعل النهار سرمداً إليه صار النهار كأنه سرمد، وهو ظرف مضيء تنور فيه الأبصار، وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة، فصال الليل كأنه معدوم، إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والنهار كأنه لا موجود سواه، إذ جعل وجوده سرمداً منسوباً إليه، فاقتضت البلاغة أن يقول: أفلا تبصرون، إذ الظرف معنى صالح للأبصار، وهذا من دقيق المناسب المعنوية. ومنها قوله تعالى: " أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون بمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون، أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون " فانظر إلى قوله سبحانه في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية " أولم يهد لهم " ولم يقل أولم يروا، وقال تعالى بعد ذكر الموعظة " أفلا يسمعون " وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية " أو لم يروا " وقال بعد الموعظة: " أفلا يبصرون " وكذلك قوله تعالى: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله: " وكفى الله المؤمنين القتال " أوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم، ولم يبلغوا ما أرادوا، وربما توهموا ألا تكون من عند الله وإنما تقع اتفاقاً كما يجري في حروب المشركين بعضهم لبعض، فأخبر في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة، ليعلم المؤمنين ويزيدهم يقيناً وثباتاً على أنه الغالب الممتنع، وأن حزبه كذلك، وإنما هو تنوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيماناً بعميم قدرته، فينصرهم مرة بالقتال كيوم بدر، وتارة بالريح كيوم الأحزاب، ومرة بالرعب كبني النضير، وطوراً ينصر عليهم كيوم أحد، وحيناً يعلمهم أن الكثرة لا تغني شيئاً، وأن النصر من عنده كيوم حنين وأمثال ذلك في الكتاب العزيز كثيرة لمن استقراه.
ومن أمثلة المناسبة المعنوية في الشعر قول المتنبي طويل:
على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل
فإن بين لفظة السباحة، ولفظة الموج، ولفظة الوبل تناسباً معنوياً صار البيت به متلاحماً شديد ملاءمة الألفاظ وأحسن منه قول ابن رشيق القيرواني طويل:
أصح وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم

وهذا أحسن شعر سمعته في المناسبة المعنوية، لأنه ناسب فيه بين الصحة والقوة، والرواية والخبر المأثور، والقدم مناسبة معنوية إذ هذه الألفاظ يناسب بعضها بعضاً، وكذلك ناسب في البيت الثاني بين الأحاديث والرواية والعنعنة مناسبة معنوية أيضاً، وأحسن من المناسبة الواقعة في البيت الأول ما وقع في البيت الثاني من صحة ترتيب العنعنة حيث أتى بها صاغراً عن كابر، وآخرا عن أول، كما يقع سند الأحاديث، لأن السيول فرع، والحيا أصله، ولذلك جعلها تروي عن الحيا إذ هي بمنزلة الولد، وهو بمنزلة الوالد، وكذلك الحيا فرع، والبحر أصله، ولذلك جعل الحيا يروي عن البحر، إذ الحيا بمثابة الولد والبحر بمثابة الوالد، ثم نزل البحر بمنزلة الولد، وجود الممدوح بمنزلة الوالد له لقصد المبالغة في المدح، ولذلك جعل البحر راوياً عن جود الممدوح، وهذا الذي تقتضيه الصناعة من الأدب مع الممدوح وحسن المبالغة في وصف جوده وفي الناس من سمى المناسبة المعنوية ملاءمة، إلا قدامة فإنه جعل الملاءمة ائتلاف ألفاظ الكلام بالمعنى الذي المتكلم آخذ فيه، وقصده بذلك أن يقال في لفظة من ألفاظ المعنى: لو كان موضع هذه غيرها لكان الكلام مؤتلفاً بمعانيه وألفاظه ملائمة له وما ذكرته من المناسبة فيه زيادة على هذا المقدار، إذ غيرها من الألفاظ يوفي بما قاله الناس في تفسير الائتلاف، ويزيد عليه زيادة معلومة عند أرباب النقد.
وأما المناسبة اللفظية فهي توخي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة وغير تامة، فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة وأخرى ليست بمقفاة، فالتقفية غير لازمة للمناسبة.
ومن شواهد المناسبة التي ليست بتامة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب " ومن شواهد التامة في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان يرقي به الحسنين عليهما السلام " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لامة " ولم يقل ملمة، وهي القياس، لمكان المناسبة اللفظية التامة؛ ومثله قوله عليه السلام " ارجعن مأزورات غير مأجورات " والمستعمل موزورات، لأنه من الوزر غير مهموز فلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم مهموزاً لمكان المناسبة اللفظية التامة، وهذا من الفصاحة العجيبة.
وأما ما جاء من السنة من أمثلة المناسبة الناقصة، فكقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً " فناسب صلى الله عليه وسلم بين أخلاق وأكناف مناسبة اتزان دون تقفية. ومما جمع بين المناسبتين قوله عليه السلام في بعض دعائه: " اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء؛ اللهم إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء " فناسب صلى الله عليه وسلم بين قلبي وأمري، وغائبي وشاهدي، مناسبة غير تامة بالزنة دون التقفية، ثم ناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامة بالزنة والتقفية، ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة الشعرية قول أبي تمام طويل:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

فناسب حبيب بين مها وقنا مناسبة تامة، وبين الوحش والخط وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة، وهذا البيت من أفضل بيوت المناسبة لما انضم إليها فيه من المحاسن، فإن فيه مع المناسبتين التشبيه بغير أداة والمساواة، والاستثناء، والطباق الفظي، وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين، فأما المناسبة فقد ذكرناها، وأما التشبيه ففي قوله: مها وقنا، فإن التقدير كمها وقناً، فحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به، وأما الاستثناء البديعي ففي قوله: إلا أن هاتا أوانس وقوله: إلا أن تلك ذوابل ليثبت للموصوفات التأنيس والتحبب، وينفي عنهن النفار والتوحش، وكذلك فعل في الاستثناء الثاني، فإنه أثبت به لهن اللين واللدونة؛ ونفى عنهن ما يستهجن، وأما المطالبة ففي قوله الوحش والأوانس، وهاتا وتلك فإن هاتا للقريب، وتلك للبعيد، وأما المساواة فلأن لفظ البيت لا يفضل عن معناه، ولا يقصر عنه، وأما الائتلاف فلكون ألفاظه من واحد متوسطة بين الغرابة والاستعمال، وكل لفظة منها لائقة بمعناها، لا تكاد يصلح موضعها غيرها، وأما التمكين فلأن قافية البيت مستقرة في موضعها، غير نافرة من محلها، ومن غير أن يتقدمها شيء من لفظها يدل عليها، كما يقع في التوشيح والتصدير وقد غلط الأمدي في تغليط أبي تمام في هذا البيت، حيث زعم أنه نفى عن النساء لين القدود، معتقداً أن الرماح سميت ذوابل للينها، والمعروف عند أهل اللسان ضد ذلك، لأن العرب تقول رمح ذابل إذا كان صلب الكعوب، ومن ذلك قولهم ذبلت شفتاه إذا يبستا، ولا تعرف العرب الذابل إلا اليابس الذي جفت رطوبته، ومن ذلك قولهم: نوارة ذابلة إذا جف ماؤها وأخذت في اليبس، وأوب تمام لا يشك أحد أنه أبصر من الآمدي باللغة، وأقعر منه بمعرفة اللسان العربي، ويقرب من هذا البيت قول البحتري طويل:
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا
فناسب بين أحجم وأقدم مناسبة تامة، وكذلك بين قوله: فيك وعنك، ومطمعاً ومهرباً، إلا أن مناسبة هاتين الجملتين غير تامة، وقد حصل في هذا اللفظ أيضاً المطابقة في أحجم وأقدم، والمساواة والائتلاف والتمكين، فقد استوى هو وبيت أبي تمام فيما ذكرنا وزاد عليه بيت أبي تمام بالتشبيه والاستثناء، ففضل بيت أبي تمام بالمعاني، وفضل بيت البحتري بالألفاظ، لأن ألفاظه أكثر استعمالاً وأعذب مذاقاً، وللمناسبة التامة فيه نصاعة وظهور أكثر من المناسبة التي في بيت أبي تمام، وإذا قست ما بين البيتين بما قدمت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم سقطا دون كل جملة منه، إذ كل جملة منه يلي بعضها بعضاً؛ ومفردات الألفاظ تسير إلى معاني شتى، وإلا فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم تهدي بها قلبي، وما يحصل بها من منافع الدنيا والآخرة، ويتوقى من مضار الدنيا والآخرة بهدية القلب، والى قوله " وتجمع بها أمري " وما يكون من اجتماع الأمر من عدم التذبذب في كل شيء وحصول التثبت وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: " وتصلح بها غائبي " وما تشير هذه الجملة إليه من إصلاح الباطن، وما يكون في ذلك من الإخلاص، وكذلك قوله: وتدفع بها شاهدي، فإن من أصلح الله سبحانه باطنه أصلح الله تعالى ظاهره، وما وقع في ضمن هاتين الجملتين مع المناسبة من المطابقة بين غائبي وشاهدين وبذلك فاعتبر بقية الدعاء؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: الفوز بالقضاء فإنه رب قضاء نزل بغير صابر محتسب، فأوبقه وقل من يفوز عند نزول القضاء وكذلك قوله: ونزل الشهداء، أي قراهم أو منزلتهم، وهي أرفع المنازل، وما أعد لهم، ومثله قوله: وعيش السعداء، والنصر على الأعداء؛ فالحظ بدقيق النظر ما اشتملت عليه الألفاظ من المعاني تجدها لا تدخل تحت الإحصاء إلى سلاسة هذا النظم وعذوبة هذا اللفظ وعلوه مع كونه مستعملاً معروفاً، وفصاحته على كونه متداولاً مألوفاً، ووضوح معانيه، وحسن البيان فيه، بحيث لا يفتقر أحد إلى السؤال عن لفظ فيه قد استوى في فهمه الذكي والبليد والقريب من العل والبعيد، وما فيه من الماء والديباجة التي لا توفى العبارة بها، ولا يقدر البليغ على أن يصفها؛ وهذا أمر يدركه كل ذي ذوق سليم، وذهن مستقيم، والله أعلم.
باب التفريع

التفريع نوعان: أحدهما أن يبدأ الشاعر بلفظة هي إما اسم، وإما صفة، ثم يكررها في البيت مضافة إلى أسماء وصفات يتفرع من جملتها أنواع من المعاني في المدح وغيره، كقول أبي الطيب المتنبي متقارب:
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي ... أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السنان
حديد اللحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان
وهذا النوع لم أسبق إلى استخراجه، وإنما لم أثبته فيما ابتكرته من الأبواب لكونه نوعاً من التفريع، فالذي يجب أن يسمى به تفريع الجمع، لأن كل بيت ينطوي على فروع من المعاني شتى من المدح تفرعت من أصل واحد؛ والنوع الآخر من التفريع وهو الذي تقدمني الناس باستخراجه وتسميته، إنما يتفرع منه معنى واحد من أصل واحد، إما في بيت أو أبيات، وإما في جملة من الكلام أو جمل، وهو أن يصدر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي بما خاصة ثم يصف الاسم المنفي بمعظم أو صافه اللائقة به إما في الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلاً يفرع منه معنى في جملة من جار ومجرور متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفي الموصوف كقول الأعشى بسيط
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
وقد سمى بعض المتأخرين هذا القسم من التفريع النفي والجحود لتقدم حرف النفي على جملته. وأكثر ما يقع الأصل في بيت والتفريع منه في بيت آخر إما قريباً منه، وإما بعيداً عنه، وقد يقع منه ما يكون الأصل والفرع معاً في بيت واحد كقول أبي تمام بسيط
ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب
ومن التفريع نوع غير النوعين الأولين، وهو تفريع معنى من معنى من غير تقدم نفي ولا جحود، كقول ابن المعتز سريع:
كلامه أخدع من لفظه ... ووعده أكذب من طيفه
وهو مختص بمعاني النفس دون معاني البديع، والله أعلم.

باب التكرار

وهو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة لتأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد، فأما ما جاء منه للذم فكقول عبيد بن الأبرص كامل:
هلا سألت جموع كن؟ ... دة يوم ولوا أين أينا
وكقول مهلهل بن ربيعة أخي كليب في التهديد والوعيد مديد:
يا لبكر أنشروا لي كليباً ... يا لبكر أين أين الفرار
وأما ما جاء منه للمدح فكقول كثير عزة في عمر بن عبد العزيز طويل:
فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
وكقول أبي تمام خفيف:
بالصريح الصريح والأروع الأر ... وع منهم وباللباب اللباب
وأما ما جاء منه في النسيب وهو لطيف جداً لبعض المحدثين متقارب:
يقلن وقد قيل إني هجعت ... عسى أن يلم بروحي الخيال
حقيق حقيق وجدت السلو ... فقلت لهن محال محال
وقد يجيء التكرار بالأسماء المضمرات أو المبهمات، كما يجيء بالمظهرات كقول الهذلي طويل:
رفوني وقالوا يا خويلد لاترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وأما ما جاء منه للمدح منه للمدح في الكتاب العزيز فكقوله سبحانه: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " وأما ما جاء منه للتهويل والوعيد فكقوله تعالى: " الحاقة ما الحاقة " وقوله عز وجل: " القارعة ما القارعة " وأما ما جاء منه للاستبعاد فكقوله تعالى: " هيهات هيهات لما توعدون " ومما جاء في السنة من التكرار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن أم زرع: " أبو زرع وما أبو زرع " في معرض المدح.
؟

باب نفي الشيء بإيجابه

وهو أن يثبت المتكلم شيئاً في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازاً. والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته كقوله سبحانه وتعالى: " ... أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها " فإن ظاهر هذا الكلام يقتضي نفي هذه الجوارح، وملزومه يقتضي إثبات الإلهية لمن يكون له مثل هذه الجوارح؛ وباطن الكلام يوجب نفي الإلهية عمن يكون له، فضلاً عمن لا يكون له، لأنه المراد، وكقوله سبحانه: " لا يسألون الناس إلحفاً " فإن ظاهره نفى الإلحاف في المسألة، لا نفي المسألة، والباطن نفي المسألة بتة، وعليه إجماع المفسرين، وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وكقوله تعالى: " ولا شفيع يطاع " فالظاهر نفى شفيع يطاع، والمراد نفي الشفيع مطلقاً.
ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول امرئ القيس طويل:
على لاحب لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
وظاهر هذا الكلام يقتضي إثبات منار لهذه الطريق، ونفي الهداية به مجازاً، وباطنه في الحقيقة يقتضي نفي المنار جملة وتقدير المعنى أن هذه الطريق لو كان لها منار لكان لا يهدي به، فيكفف لا منار لها؟ كما تقول ملن تريد أن تسلبه الخير: ما أقل خيرك، فظاهر كلامك يدل على إثبات خير قليل وباطنه نفي الخير كثيره وقليله.
ومن أمثلة هذا الباب أيضاً قول الزبير بن عبد المطلب يمدح عملية بن عبد الدار، وكان نديماً له طويل:
صبحت بهم طلقاً يراح إلى الندى ... إذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره
ضعيف يحث الكأس قبض بنانه ... كليلاً على وجه النديم أظافره
وظاهر البيتين يقتضي أن للممدوح مفاقر لم تحضره إذا انتشى، وأن له أظافر تخمش وجه نديمه خمشاً خفيفاً. وباطن الكلام في الحقيقة نفي المفاقر جملة والأظافر بتة.
ومن هذا الباب قسم يوجب فيه المتكلم لنفسه شيئاً وينفيه بعينه عن غيره، أو ينفي عن موصوف ما صفة يوجبه لموصوف آخر، كقول السموءل طويل:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
وكقول الآخر طويل:
هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج

باب الإيداع

هذا الباب يسميه من لا يعرف اصطلاح أهل هذه الصناعة تضميناً، وكذلك يسمى الباب الذي بعده، وقد تقدم الفرق بين هذه الأبواب في باب التضمين، وشرح هذه التسمية أن يعمد الشاعر أو المتكلم إلى نصف بيت لغيره يودعه شعره سواء أكان صدراً أم عجزاً، وأما الناثر فإن أتى في نثره بنصف بيت لغيره سمى إيداعاً، وإن كان لنفسه سمى تفصيلاً، ومثال ما وقع من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات " وإن أوقعت الفصاحة مثل هذا غير مقصود، وكان من الأدب ألا يذكر هذا والله أعلم.
والموهم أنه مودع في الكتاب العزيز قول امرئ القيس مجزوء الرمل:
وجفان كالجواب ... وقدور راسيات
إن صحت الرواية أنه كذلك، وإن روى التقديم والتأخير فبطل ذلك ومثال ما وقع من ذلك في النثر قول علي عليه السلام في جواب كتابه لمعاوية: " ثم زعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست بالجناية عليك، فيكون العذر إليك " .
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وهذا عجز بيت تمثل به أيضاً عبد الله بن الزبير وقد قال أهل الشام له: يا بن ذات النطاقين على سبيل المعيرة لها بذلك، نظر إلى أنها كانت خادمة لا مخدومة، على طريقة الجاهلية في مدح النساء وذمهم، فأنشد طويل:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
لأن هذا الاسم من فخر أسماء رضي الله عنها، فإنه سماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخرجت له ولأبيها رضي الله عنه زاد الهجرة، فأخذ الإمام عجز هذا البيت فأودعه كلامه بعد أن وطأ له توطئة لائقة به. ملائمة له.
ومن شواهده في الشعر قول أبي نواس طويل:
تغنى وما دارت له الكأس ثالثاً ... تعزى بصبر بعد فاطمة القلب
وقد يجتمع الإيداع والتضمين في شعر واحد، كقول علي ابن الجهم في فضل الشاعرة، وبنان المغنى مجزوء الرمل:
كلما غنى بنان ... اسمعي أو خبرينا

أنشدت فضل ألا ... حييت عنا يا مدينا
عارضت معنى بمعنى ... والندامى غافلينا
فوقع التضمين في البيت الأول، والإيداع في البيت الثاني وكنت نظرت إلى بيت لأبي الطيب وهو طويل:
تذكرت ما بين العذيب بارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
فأودعت كل قسيم منه بيتاً من قصيدة مطلعها طويل:
أعر مقلتي إن كنت غير مرافقي ... دموعاً لتبكي فقد حي مفارق
فقد نضبت يوم الوداع مدامعي ... وشابت لتشتيت الفراق مفارقي
والبيتان منهما:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
وإن أخذ نصف بيت لغيره، فابتدأ به وثنى عليه تتمة البيت لا غير فذلك تمليط.
وإن بنى عليه كل ما يخطر له من أبيات لتمام غرضه، فذلك توطيد، والله أعلم.

باب الاستعانة

وهو أن يستعين الشاعر ببيت لغيره، في شعره بعد أن يوطئ له توطئة لائقة به هنا بحيث لا يبعد ما بينه وبين أبياته، وخصوصاً أبيات التوطئة له، وقد شرط بعض النقاد التنبيه عليه، إن لم يكن البيت مشهوراً، وبعضهم لم يشترط ذلك، وهو الصحيح، فإن أكثر ما رأينا ذلك في أشعار الناس غير منبه عليه، وأما الناثر فإن أتى في أثناء نثره ببيت لنفسه سمى ذلك تشهيراً، وإن كان البيت لغيره سمى استعانة، كقول علي عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية: بينا هو يستقبلها في حياته، إذ عقد لآخر بعد وفاته سريع:
شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر
فهذا البيت للأعشى استعان به علي عليه السلام كما ترى: ومثال الاستعانة في الشعر قول الحارثي طويل:
وقائله والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالماء منها المحاجر
وقد أبصرت حمان من بعد أنسها ... بنا وهي منا موحشات دواثر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت له والقلب مني كأنما ... ييقلبه بين الجوانح طائر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فاستعان هذا الشاعر ببيتي حرقة بنت تبع، وأرشق من هذا وأخصر قول أبي نواس بسيط
حتى تغني وما تم الثلاث له ... حلو الشمائل محمود السجيات
يا ليت حظى من مالي ومن ولدي ... أني أجالس ليلى بالعشيات
ووقع لي من طريق الاستعانة أبيات هجوت بها متطبباً يهودياً طويل:
رأيت أبا الخير اليهودي ممسكا ... بقارورة كالورس راق حليبها
وقد رش منها فوق صفحة وجهه ... وقال: لقد أحيا فؤادي طيبها
فقلت له: ما هذه؟ قال: بولة ... لأسود يشفى الداء مني قضيبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها
ولا يضر تصحيف الحرف أو تحريفه من الكلام المتقدم، ليدخل في معنى الكلام المتأخر عند الاستعانة كما فعلت ببيت من الحماسة حيث قلت طويل:
إذا ما خليل صد عنك ملالة ... وأصبح من بعد الوفا وهو غادر
فلا تحتفل واستغن بالله إنه ... على أن ترى عنه غنياً لقادر
وهبه كشيء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيبته المقابر
فإن هذا البيت كان نسيباً، وكان أوله وهبها فحرفت ضمير التأنيث لضمير التذكير حتى دخل في معناي.
والفرق بين هذا القسم من الاستعانة، وبين المواربة، أن المواربة تكون في كلام المتكلم نفسه، والاستعانة لا تكون إلا بكلام غيره، وإن ابتدأ ببيت غيره وبنى عليه فذلك تأسيس، مشتق من أس البناء، فإن هذا الشاعر يكون قد جعل بيت غيره أساساً بنى عليه شعره، والله أعلم.

باب الموازنة

وهو أن تأتي الجملة من الكلام، أو البيت من الشعر متزن الكلمات، متعادل اللفظات في التسجيع والتجزئة معاً في الغالب، كقول امرئ القيس متقارب:
أفاد، وساد، وقاد، وزاد ... وشاد، وجاد، وزاد، وأفضل
وكقول الآخر متقارب:
وهوب، مهيب، رحيب الفناء ... ربيع، مرئ، رفيع الذرا

والفرق بين الموازنة والمماثلة التزام التسجيع في الموازنة، وخلو المماثلة عنه، والفرق بينها أعني الموازنة وبين التجزئة مخالفة تسجيع أجزاء التجزئة، ومشابهة تسجيع أجزاء الموازنة.

باب التذييل

وهو أن يذيل المتكلم كلامه بجملة يتحقق فيها ما قبلها من الكلام، وتلك الجملة على قسمين: قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى به للتوكيد والتحقيق.
وقسم يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر ليحقق به ما قبله.
وإما أن يكتفي بما يتضمن من زيادة المعنى والفرق بينه وبين التكميل أن التكميل يرد على معنى يحتاج إلى الكمال، ولا كذلك معنى التذييل.
ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز متضمناً القسمين معاً قوله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله " ففي هذه الآية الكريمة تذييلان: أحدهما قوله تعالى: " وعداً عليه حقاً " ، فإن الكلام قد تم قبل ذلك، ثم أتى سبحانه بتلك الجملة لتحقق ما قبلها.
والآخر قوله سبحانه: " ومن أوفى بعهده من الله " ، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر لتحقيق ما تقدمه، فهو تذييل ثان للتذييل الأول وقد جاء في السنة من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك " فقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا يهلك على الله إلا هالك " ، تذييل في غاية الحسن، خرج الكلام فيه مخرج المثل.
ومن هذا الباب في الشعر قول النابغة الذبياني طويل:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
فقوله: أي الرجال المهذب من أحسن تذييل وقع في شعر.
وكقول بعض العرب كامل:
ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
فعجز هذا البيت كله تذييل حسن، وكلا التذييلين من بيت الأعرابي وبيت النابغة من القسم الثاني من التذييل، وهو الذي خرج الكلام فيه مخرج المثل، وتذييل النابغة من القسم الوجيز من البلاغة لاختصار لفظه، وتذييل الأعرابي من القسم البسيط منهما، وإنما بسط الكلام فيه لما تضمن معنى التذييل من المطابقة في قوله أركبه وأنزل وتذييل النابغة خال من ذلك، ولقد أحسن بعض المحدثين في هذا الباب حيث قال المتقارب:
صدقتكم الود أبغي الوصال ... وليس المكذب كالصادق
فجازيتموني بطول البعاد ... وكم أخجل الحب من واثق
فكل من عجزي البيتين تذييل من القسم الثاني، لخروج الكلام فيهما مخرج المثل.
وأحسن من ذلك كله قول الحطيئة طويل:
نزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد
فإن عجز البيت كله تذييل خرج مخرج المثل في غاية الحسن، لأن صدر البيت استقل بالمعنى المراد على انفراده، وفيه مع اتصاله بالعجز تعطف حسن في قوله: يعطي ويعط، وبالتعطف صار بين العجز والصدر ملاحمة وملاءمة شديدة، ورابطة وثيقة، مع أن العجز إذا انفرد استقل مثلاً وتذييلاً، كما أن الصدر إذا انفرد استقل بالمعنى المقصود من جملة البيت، والغرض المطلوب والتمثيل أيضاً، وقل أن يوجد بيت بين صدره وعجزه مثل هذا التلاحم على استقلال كل قسم بنفسه وتمام معناه ولفظه. ومن التذييل الحسن قول أبي الشيص كامل:
وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ... ما من يهون عليك ممن أكرم
فعجز البيت كله تذييل في ضمنه مطابقة لذكره الهوان والكرامة.
ومن بعيد التذييل قول ابن نباتة السعدي بسيط
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
فإنه لما انقضى ما أراده من المدح بقوله:
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله
ثم احتاج إلى تتميم البيت وأراد إتمامه بتكرار المعنى المتقدم فيه استحساناً له وتوكيداً، وكره التكرير لا لمعنى زائد، وعلم أن لا مزيد على معناه في بابه، فأخرجه مخرج المثل حيث قال:
تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

ليحصل ما أراده من التوكيد وزيادة المعنى، لأن المدح إذا خرج مخرج المثل كان أسير في الأرض، وفي ضمن ذلك لهج الناس بالمدح الخارج مخرج المثل، وهذا البيت وإن نظر فيه إلى قول المتنبي بسيط
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فلا يقول لشيء ليت ذلك لي
فبيت ابن نباته أفضل من بيت المتنبي، لأنه أحسن الأدب مع ممدوحه، فلم يجعله في حيز من يتمنى شيئاً، وجعل قدرته وجوده أصاراً مادحة قد بلغ كل أمنيته فلم يبق له أمل: وإن كان في بيت المتنبي زيادة من جهة المبالغة في قوله: دون مبلغه واستعارة في اللفظ لقوله: تمسي الأماني صرعى ففي بيت ابن نباتة أن كل ما جعله المتنبي للممدوح، جعله ابن نباتة لشاعر الممدوح من نعمته وزيادة المبالغة في المدح بكونه أخرج المدح مخرج المثل كما بينا، فهو أسير وأبقى، وإذا أنصف الناظر في البيتين وجد معنى بيت المتنبي بكماله في صدر بيت ابن نباتة لأن حاصل بيت المتنبي أن الممدوح قدر على كل الأماني، وهذا قد استقل به صدر بيت ابن نباتة، والذي في صدر البيت هو الذي في عجزه لأنه ملزومه، أعني بيت المتنبي، وكله في قول ابن نباتة:
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله
وعجز بيت ابن نباتة ملزوم صدره، لأن من نال كل أمل صحب الدنيا بلا أمل، غير أن ابن نباتة لكونه أخرج العجز مخرج المثل صار كأنه قد استأنف معنى آخر مستقلاً بجميع معنى بيت المتنبي، مع كونه زاد بأن جعل للممدوح، حسن أدب معه، وبالغ بإخراج المدح مخرج المثل، فقد ترجح بيت ابن نباتة على بيت المتنبي من وجوه شتى، والله أعلم.
وقد يختلط على بعض الناس هذه الأبواب الأربعة، وهي باب الإيغال، والتكميل، والتمكين، والتذييل، وأنا أشير إلى الفرق بينها فأقول: الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق بها، وهو أيضاً مما يأتي بعد تمام المعنى كالتكميل والتذييل وأما التمكين فيفارق هذه الأبواب مزن كونه عبارة عن استقرار القافية في مكانها، لكنها لا تزيد معنى البيت شيئاً، ومتى حذفت القافية نقص المعنى، مع كونها غير نافرة من البيت، والتكميل وإن أتى بعد تمام المعنى فهو يفارق الإيغال من وجهين، أحدهما: كونه يأتي في الحشو والمقاطع، والإيغال التذييل لا يكونان إلا في المقاطع دون الحشو، والإيغال والتذييل لا يخرجان عن معنى الكلام المتقدم، والتميل لا بد أن يأتي بمعنى يكمل الغرض المتقدم إما تكميلاً بديعياً أو تكميلاً عروضياً، لأنه يكون بمعنى البديع كمطابقة تكمل جناساً، أو مبالغة تكمل تشبيها، أو بالفنون، والفنون عند أهل الصناعة هي ما ينتجها المتكلم من الأغراض والمقاصد كالمديح، والهجاء، والرثاء، والفخر، والوصف، وغير ذلك، والتذييل يفارق الإيغال لكونه يزيد على الكلمة التي تسمى إيغالاً، آخذاً في البيت من الجزء الذي هو الضرب إلى أول العجز والله أعلم.

باب المشاكلة

وهي أن يأتي المتكلم في كلامه أو الشاعر في شعره باسم من الأسماء المشتركة في موضعين فصاعداً من البيت الواحد، وكذلك الاسم في كل موضع من الموضعين مسمى غير الأول، تدل صيغته عليه بتشاكل إحدى اللفظتين الأخرى في الخط والفظ، ومفهومهما مختلف، ومن انشادات التبريزي في هذا الباب قول أبي سعيد المخزومي مديد:
حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتال
وأنشد فيه قول الشماخ بسيط
كادت تساقطني والرحل أن نطقت ... ورقاء حين دعت ساقاً على ساق
وقال التبريزي: فلفظة الآجال الأولى أسراب البقر الوحشية، والثانية منتهى الأعمال، وبينهما مشاكلة في الخط واللفظ، وكذلك ساق الأولى التي هي ذكر الحمام، والثانية التي هي ساق الشجرة، وعندي أن ما أنشده التبريزي في هذا الباب داخل في أحد قسمي التجنيس المماثل، والذي ينبغي أن تفسر به المشاكلة قولنا: إن الشاعر يأتي بمعنى مشاكل لمعنى في شعر غير ذلك الشعر، أو في شعر غيره بحيث يكون كل واحد منهما وصفاً أو نسباً أو غير ذلك من الفنون، غير أن كل صورة أبرز المعنى فيها غير الصورة الأخرى، فالمشاكلة بينهما من جهة الغرض الجامع لهما، والتفرقة بينهما من جهة صورتيهما اللفظية، ومثال مشاكلة الشاعر نفسه قول امرئ القيس في صفة الفرس طويل:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وقوله في صفة الفرس أيضاً طويل:
إذا ما جرى شوطين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فامرؤ القيس في هذين البيتين قاصد وصف الفرس بشدة العدو، غير أنه أبرز المعنى الأول في صورة الإرداف، حيث قال: قيد الأوابد فجعله يدرك الوحش إدراك المطلق للمقيد، وأبرز الثاني في صورتي وصف وتشبيه بغير أداة، إذ شبه عدوه بعد جريه شوطين، وعرقه بهزيز الريح تمر بهذا الشجر الذي يسمع للريح فيه هزيز كفيف الفرس الحاد إذا خرق الريح بشدة عدوه، فكل معنى من هذين المعنيين مشاكل لصاحبه إذ الجامع بينهما وصف الفرس بشدة العدو، غير أن قدرة الشاعر تلاعبت به، فأبرزته في صور مختلفة، فهذا ما شاكل الشاعر فيه نفسه.
وأما ما شاكل فيه غيره فكقول جرير بسيط
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
فإن مشاكلة قول عدي بن الرقاع كامل:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
فالمشاكلة بين الرجلين من جهة أن كلا منهما وصف العيون بالمرض والفتور، فأبرز معناه في صورة غير الصورة الأخرى بحسب قوة عارضته في السبك، وحسن اختياره الفظ، وجودة ذهنه في الزيادة والنقص في التفضيل بين هذين الشعرين: شعر جرير، وعدي، بحيث لا يسعه هذا المكان. وقد اعترض على بيت عدي الأول بما اعترض به على بيت أبي تمام الذي يقول فيه طويل:
جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد
فإن بعض الناس قال: ظباء جاسم كظباء غيرها من المواضع، فليس لذكرها فائدة إلا كونها قافية ليصير بها الكلام بيتاً من الشعر، كما أن غدوة السبت في بيت أبي تمام كغدوة الأحد وغيره من الأيام، فذكرها دون غيرها لا يفيد معنى زائداً، وإذا لم يفد معنى علم أنه حشو جئ به لإقامة الوزن، وقد اعترض على قول امرئ القيس طويل:
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
باعتراض ظاهره يشبه الاعتراض على بيتي عدي وأبي تمام، وباطنه يخالفهما، فإن ابن سنان الخفاجي خطأ أبا هاشم في كونه ذهب إلى أن بيت امرئ القيس معيب بالحشو الذي لا يفيد معنى، لأنه قال: صعبة، حشو أو لفظة، فذلت، وسب أبا هاشم أقبح سب، والصواب مع أبي هاشم، لأن الذي قاله الخفاجي يردي به عليه قوله لو قال الشاعر، فرضت فذلت لم يكن في الكلام دليل على أن ثم صعوبة، وهذا عين الخطأ من الخفاجي، لأنه دل على وجود الصعوبة مرتين بقوله: فرضت، وقوله: فذلت، إذ لا يراض إلا الصعب، ولا يذل إلا ما كان ذا صعوبة، ولو لم يكن ثم صعوبة لكان قوله: فذلت، خطأ، لأن ما ليس بصعب فهو ذليل، إذ لا واسطة بين الذل والصعوبة، فبيت امرئ القيس معيب، بخلاف بيتي عدي وأبي تمام.
والرد على هذا المعترض الذي اعترض على بيتي عدي وأبي تمام بأن قال: ذكر عدي جاسم دون غيرها من المواضع لأنها معروفة بأدم الظباء، وأدمة اللون دليل على الحرارة واليبس، وذلك يوجب شدة سواد العيون ونقاء بياضها، ولهذا قال: أحور، والحور نقاء بياض العين وشدة سوادها، وكذلك ذكر أبي تمام غدوة السبت وهو الوقت الذي وقعت فيه عطية الممدوح دليل على تعظيم العطية وتفخيم أمرها وجعلها من الغرائب التي لم يقع قبلها مثلها، فلأجل ذلك أرخ يوم وقوعها، وإذ لا يؤرخ إلا الكوائن العظام، والحوادث الجسام، ولو لم يذكر وقت وقوعها معيناً باسمه لم تحصل هذه المبالغات التي تزيد الممدوح مدحاً فدل على أنه قصد بها إفادة هذه المعاني، لا إقامة الوزن، ولو قصد إقامة الوزن فحسب، لما اقتصر على غدوة السبت دون غيرها مما يسد مسدها، فإنه لو قال:
جذبت نداه بالمدائح جذبة
استقام له الوزن، لو لم يكن أراد ما ذكرت، وقد عيب من هذا البيت قوله: جذبت نداه وما ناسبها من ألفاظ البيت، فإنهم قالوا: هذا دليل على أن نداه عسر على طالبه، صعب على محاوله، كما عابوا على ليلى الأخيلية قولها كامل:
ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الجيوش زعيما

وقالوا: لا يتحاج إلى أن يجذب لقضاء الحوائج حتى تتخرق قميصه إلا متقاعد عن الحوائج، وهذا الاعتراض غير جار على طريق الحق، فإن المعطي لا بد وأن يعطى بسبب من نفسه عشقاً في العطاء، فلا يحتاج إلى أحاديث تجذبه، وإما أن يعطي بسبب من خارج، والأول مطاوع لغرض نفسه، مسكن لغليل قلبه، ليست عليه مشقة في عطية، والأجر على قدر المشقة، وقد تقدم ذكر هذا الفصل، ونحن هاهنا مفتقرون إلى إعادته، والمشكور كل الشكر من غالب نفسه الأمارة، وأرغم أنف شيطانه، وأعطى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المتصدق لا يخرج الصدقة حتى يفكها من لحيي سبعين شيطاناً " أو كما قال، وقال صلى الله عليه وسلم " إنما الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر، وتأمل الغنى " ، وخير المعطين من كان السبب الذي يجذبه إلى العطاء، سماع المدح والثناء، فقد ثبت أن بيتي عدي وأبي تمام مبرآن مما وسما به من العيب، وكذلك بيت الأخيلية، وهو يزيد عليهما بما تضمن من وصف الممدوح بالصبر على أذى أرباب الحوائج، والرضا من العيش بأدنى ملبس وأدنى عيش، مع القدرة التي دلت عليها بقولها:
... ... ... ... رأيته ... تحت اللواء على الجيوش زعيما
فلزم من ذلك أن لذته في اقتناء المحامد، لا في انتخاب الملابس، وما قيل إنه أحوج ذوي الحاجات إلى تخريق قميصه مدفوع بوصفها الممدوح بإفراط الحياء، فإن من كان بهذه المثابة كان أسرع إلى قضاء الحوائج للمحتاجين حال رؤيتهم، ويحمل تخريق القميص إما على كثرة المطالبين، وازدحام المحتاجين، أو على ما قدمناه من الرضا بأدنى العيش، والله أعلم.

باب المواردة

وهي توارد الشاعرين المتعاصرين اللذين تجمعهما طبقة واحدة على معنى واحد إما مجرداً، أو ببعض ألفاظه أو بأكثرها أو كلها، فإن كان أحدهما أقدم، أو طبقته أرفع، حكم له على صاحبه بالسبق، وقد رأيت من يجعل اتفاق الشاعرين من طبقتين مختلفتين في عصرين متباينين إذا تقارب ما بينهما بعض التقارب في الأمرين، أو في القوة والقدرة توارداً، فمثال الأول قول امرئ القيس طويل:
وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقول طرفة طويل:
وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ومثال ما جاء من القسم الثاني ما جرى لابن ميادة وقد أنشد محمد بن زياد الأعرابي قوله طويل:
ونواره ميل إلى الشمس ظاهر
فقال له محمد: أي يذهب بك؟، هذا للحطيئة، فقال ابن ميادة: الآن علمت أني شاعر حين وافقته، والله أعلم.

باب التهذيب والتأديب

التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح، ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل، فيغير منه ما يجب تغييره، ويحذف ما ينبغي حذفه، ويصلح ما يتعين إصلاحه، ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه، ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه، حتى تتكامل صحته، وتروق بهجته، فإنه من رزق من أرباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن، وغوص فكر، وكمال عقل، واعتدال مزاج، وحسن اختيار، ووقف على أقوال النقاد في حقيقة البلاغة، وكنه الفصاحة، وما عد من محاسن الكلام وعيوبه، ووقى شح نفسه، بحيث يسمح بطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه، كان كلامه موصوفاً بالمهذب، منعوتاً بالمنقح، وإن قل ابتكاره للمعاني، وقد كان زهير معروفاً بالتنقيح، فإنه روى أنه كان يعمل القصيدة في شهر ، وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمى شعره الحولي المحكك ولا جرم أنه قلما يسقط منه شيء، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جلالته في العلم، وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته؛ قال ليلة لعبد الله بن العباس وهم سائرون إلى الشام: أنشدني شعر أشعر القوم، فقال: ومن ذاك؟ قال: زهير، قال: وبم استحق عندك ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيته لا يعاضل بين الكلام، ولا يتبع حوشي الألفاظ، ولا يمدح الرجال إلا بما يكون للرجال، وما ذاك إلا لتنقيحه شعره، وترداد نظره في كلامه ولهذا المعنى أشار أبو تمام بقوله كامل:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب

فإنه إنما خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات، وتسكن الحركات، فيكون الفكر فيه مجتمعاً، والخاطر خالياً، ولا سميا في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من الراحة، وتنال قسطها من النوم، ويخف عليها ثقل الغذاء، فحينئذ يكون الذهن صحيحاً، والصدر منشرحاً، والقلب منبسطاً، واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء، وخفة الغذاء، وأخذ النفس سهمها من الراحة، لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم، وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات، وتقشع الظلماء، بطلائع الأضواء. وببعض ذلك يتقسم الفكر، ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب، ويتفرق مجتمع الهم، ووسط الليل خال عما ذكرنا، ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل التي ذكرناها، وإنما دخلت لفظة الدجى على وسط الليل، لأنها جمع دجية، وطرف الليل لقربهما من الشمس لا يكون غيهبهما شديد الظلمة، والدجى شدة الظلمة، لأنه مجموع ظلمات، وإن كان الدجى قد يطلق على الليل كله، سواء كان مظلماً أو مقمراً، لكنه إطلاق مجازي حقيقته ما ذكرناه، وأبو تمام أراد هاهنا الحقيقة لا المجاز، لقصد المبالغة، ولما لحظ أبو تمام أن لفظة الدجى لعمومها وصلاحيتها في حالتي المجاز والحقيقة إلى أن تكون اسماً لليل كائناً ما كان احترس من ذلك بما جاء به التذييل حيث قال:
... ... ... ... ... والليل أسود رقعة الجلباب
ليخلص من الاشتراك الحاصل من لفظة الدجى على انفرادها، وليتبين أنه أراد الليالي السود التي سمتها العرب بالدآرى، لا الليالي البيض، ولا غيرها من الليالي التي فيها وقت مضئ في الجملة فراراً من ليل لا يخلو من الأصوات والحركات، مبالغة في وصف القصيدة بالتنقيح المرضي، في الوقت المختار لذلك، وقد جمع الكتاب العزيز هذه المعاني وأتى بها في أوجز لفظ وأجزله حيث قال سبحانه " إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً " واعلم أن التهذيب لا شاهد له يخصه، لأنه وصف يعم كل كلام منقح محرر، إلا أنا نلخص فيه ما يعرف به، وهو أن نقول: كل كلام قيل فيه لو كان موضع هذه الكلمة غيرها، أو لو تقدم هذا المتأخر، أو تأخر هذا المتقدم، أو لو تمم هذا النقص، أو تكمل هذا الوصف، أو لو حذفت هذه اللفظة بتة، أو لو طرح هذا البيت جملة، أو لو وضح هذا المقصد أو تسهل هذا المطلب، لكان الكلام أحسن، والمعنى أبين، فهو خال من التهذيب، عار من التنقيح والتأديب.
ومن أمثلة ما ذكرناه قول سيف الدولة بن حمدان يخاطب أخاه ناصر الدولة طويل:
وما كان لي عنها نكول وإنما ... تجاوزت عن حقي ليغدو لك الحق
فإن سيف الدولة كما قيل: كان قد عمل أولاً: وما كان عنها لي نكول ثم فطن إلى أن هذا السبك يستثقل لقرب الحروف المتقاربة المخارج بعضها من بعض، وإذا قدم لفظة " لي " على لفظة عنها سهل التركيب، وحصل التهذيب، فتقول وما كان لي عنها نكول لفصل لفظة عنها بين لي وبين نكول.
ومن الأمثلة المبينة لهذا الباب قول القاضي السعيد ابن سناء الملك طويل:
تغنى عليها حليها طرب بها ... وفاحت فقلنا: هذه الروضة الغنا
فإنه لو لم يقدم في صدر هذا البيت لفظة مشتقة من الغناء حصل بها في هذا البيت من الرونق ما لا يحصل بدونها، لكان البيت خالياً من التهذيب، فإن بوجودها حصل في البيت تصدير وتجنيس وائتلاف وتهذيب، وانتفى عنه من العيوب عدم الائتلاف، وقلق القافية، وبذلك تقدم التهذيب، وذلك أنه لو كان قال طويل:
زهت بأزاهير الجمال وحسنها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا
لتبين قلق هذه القافية وتمكن تلك القافية الأولى، بسبب ما في البيت من التصدير.

ومما جاء في الكتاب العزيز من أمثلة هذا الباب قوله تعالى: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " فإن حسن الترتيب في نظم الكلام البليغ أمر مطلوب، ومن حسن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل، وتعقيبه بالفعل، ثم الإتيان بالمفعول، فإن كان في الكلام مفعولان أحدهما تعذر وصول الفعل بنفسه إليه، والآخر تعدى إليه بنفسه قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وإذا علم ذلك كان لقائل أن يقول: لو توخى حسن الترتيب في عجز الآية لأتى وزن صدرها، والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع قوي، وهو مخافة أن تتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخارج، فيثقل الكلام بسبب ذلك، فإنه لو جاء الكلام فيه مرتباً لقيل: لئن بسطت يدك إلي، والطاء والتاء والياء متقاربات المخارج، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على المفعول الذي تعدى إليه بنفسه، ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية بما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية، لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة، جاء الكلام على ترتيبه من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه، على المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف، وهذا من أحسن شواهد التهذيب والترتيب، والله أعلم. وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر، كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها، وإيضاح ما أشكل منها، وزيادات يفتقر إليها فحررت منها ما يجب تحريره، وأضفت إليها ما تتعين إضافته، وذكرتها في كتابي المنعوت بالميزان في الترجيح بني كلام قدامة وخصومه وعلمت أن هذا الباب من هذا الكتاب أحوج إليها من ذلك، فأثبتها هاهنا بعد أن رأيت تقديم مقدمة يحتاج إليها، ويجب الاعتماد عليها، وهي التي يجب على من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يعتبر أولاً نفسه، ويمتحنها بالنظر في المعاني وتدقيق الفكر في استنباط المخترعات، فإذا وجد لها فطرة سليمة، وجبلة موزونة، وذكاء وقاداً، وخاطراً سمحاً، وفكراً ثاقباً، وفهماً سريعاً، وبصيرة مبصرة، وألمعية مهذبة، وقوة حافظة، وقدرة حاكية، وهمة عالية، ولهجة فصيحة، وفطنة صحيحة، وإن كانت بعض هذه الأوصاف غير لازمة لرب الإنشاء، ولا يضطر إليها أكثر الشعراء، لكنها إذا كملت في الشاعر والكاتب كان موصوفاً في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفسية التي إذا أضيفت إليها الصفات الدرسية تكمل وتجمل من حفظ اللغات العربية، وتوابعها من العلوم الأدبية كالنحو والتصريف، والعروض والقوافي، وما سومح به الشعراء من الضرورات التي يلجئ إليها ضيق الوزن والتزام التقفية، ليعلم ما يجوز له استعماله، وما يجب عليه إهماله، ولينعم النظر في كتب البلاغة، ليعرف محاسن اللفظ مفرداً ومركباً، ومعانيه، ويحيط بما يتفرع من أصول النقد من البديع الذي هو رقوم الكلام، ونتائج مقدمات الأفهام، وليجعل عمدته على كتاب الله العزيز وليميز إعجازه أدق تمييز، فإنه البحر الذي لا تفنى عجائبه، ولا يظمأ فيه راكبه، منه استخرجت درر المحاسن، واستنبطت عيون المعاني، وعرف كنه البلاغة، وتحقق سر الفصاحة، وكذلك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن صاحبها بعث بجوامع الكلم، وبدائع الحكم، صلى الله عليه وسلم، وليحفظ أشعار العرب وأمثالها، وأنسابها وأيامها وسائر أخبارها، ومحاسن أثاراها، ومقاتل فرسانها الأنجاد، نوادر سمحائها الأجواد، ولا غنى به عن معرفة النجوم والأنواء، وعلم بهيئة المساء، وتعقل الآثار العلوية، والحوادث الأرضية، والمشاركة في الطب والطبائع والحساب، وما يحتاج إليه الكتاب من الفقه والحديث، ونقل التاريخ الصحيح ويكون ذلك المكتسب، من وراء أشياء لا تكتسب، ولا تحصل بالطلب، بل هي مما يجبل عليه الإنسان، ومن مواهب الرحمن، من عقل راجح، وذهن صاف، ورأي سديد ينتج ذلك مزاج معتدل ليحسن اختياره، ويجود انتخابه، فيتخير الألفاظ الرقيقة، والمعاني الرشيقة، ويتقن تأليف الكلام، وتركيب الألفاظ، وما بإيراد أبيات قلتهن في هذا المعنى من بأس وهي خفيف:
انتخب للقريض لفظاً رقيقاً ... كنسيم الرياض في الأسحار
فإذا اللفظ رق شف عن المع؟ ... نى فأبداه مثل ضوء النهار
مثل ما شفت الزجاجة جسماً ... فاختفى لونها بلون العقار

وأحسن من قولي ومن كل ما قيل علي ما بلغني في هذا المعنى قول أبي تمام في الحسن بن وهيب كامل:
لم يتبع شنع اللغات ولا مشى ... رسف المقيد في طريق المنطق
تنشق في ظلم المعاني إن دجت ... منه تباشير الكلام المشرق
وكقول البحتري فيه كامل:
فإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه
فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه
حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة وقليبها في قلبه
كروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه
هذا إذا أراد المتكلم أن ينعت فاضلاً، أو يسمى أديباً كاملاً، فتعلو بين العلماء درجته، وتطير بين الفضلاء سمعته، ويقبل قوله في لفظ كل كلام ومعناه، وليحذر من أن يقف خاطره بسبب معاندة الزمان، وتواتر صروف الحدثان، وتعذر المكسب، وعز المطلب وتقدم الجهال، واختصاص الأرذال بالأموال، فيكون ذلك داعياً إلى ترك الاشتغال، وسبباً في فتور عزمه عن تحصيل العلوم، وذريعة لقعوده عن رياضة نفسه، واستعمال خاطره، فيلحق بالأخسرين أعمالاً، والمخطئين أفعالاً وأقوالاً، بل يكون اجتهاده في ذلك اجتهاد راغب في الكمال، شديد الأنفة من مساومة الجهال، عاشق في تزكية نفسه، مائلاً للتقدم بنفس العلم على أبناء جنسه، وما أحسن قول القائل طويل:
تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل
ولا بد للمجتهد من يوم تحمد فيه عاقبة اجتهاده، ويحصل فيه على مراده، وإن كان قصير الهمة مهين النفس، قد أوتي طبعاً في العمل سليماً، وذهناً مستقيماً، فظن أنه يستغني بذلك عن الاشتغال، ويبعد عم مماثلة الجهال، إدلالاً بطبعه، واتكالاً على حذقه، كأكثر شعراء زماننا وكتابه، والمنتظمين في سلك أرباب آدابه، حاشا من احتفل بالأدب احتفالاً أوجب لذوي الآداب، والانتفاع بهذا الكتاب، فلا يأنف من عرض ما يسمح به خاطره على من يحسن الظن بمعرفته، ويتحقق أن مرتبته في العلم فوق مرتبته، ولا تهمل ذلك فإن خطره عظيم، " وفوق كل ذي علم عليم " ، هذا وإن كنت في ذلك كمن يصف الدواء ولا يستعمله، ويأمر بالعرف ولا يمتثله، غير أني أنهج الطريق، وأحض على التوفيق، لتحصل لي مثوبة الدلالة، وأكسب أجر الهداية، فإن الدال على الخير كفاعله، والمحرض على العمل كعامله، وليعتمد الراغب في نظم الشعر، وإنشاء النثر في وقت العمل على وصية الإمام أبي تمام التي وعدت سالفاً بنشرها، وهذا أوان ذكرها، وهي ما أخبر به الثقة عن أبي عبادة البحتري الشاعر أنه قال:

كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة: تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، وصفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات، إذا قصدت الإنسان تأليف شيء أو حفظه، قصد وقت السحر، وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، وصفاً من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء، وسكنت الغمائم، ورقت النسائم، وتغنت الحمائم، وتغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه، واجتهد في إيضاح معانيه، فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، والتعلل باستنشاق النسائم، وغناء الحمائم، والبروق اللامعة، والنجوم الطالعة، والتبرم بالعذال والعواذل، والوقوف على الطلل الماحل، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فاشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقاومه، وأرهف من عزائمه، ورغب في مكارمه، وتقاص المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الزرية، والألفاظ الوحشية، وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، وكن كأنك خياط يقدر الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر أرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما استقبحوه فاجتنبه ترشد، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: الذي أوردته قبل هذه الوصية في بيت أبي تمام الذي هو:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
البيت، وما فسرت به الدجى واختياره لوسط الليل دون طرفيه يناقض قوله في هذه الوصية: واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه، أن يختار وقت السحر.
قلت: المقصد في البيت غير المقصد في الوصية، فإن المقصد في البيت التنقيح، وفي الوصية العمل والحفظ، والتنقيح يحتاج إلى خلو الخاطر وتدقيق النظر، وغوص الفكر أكثر من وقت الحفظ والعمل، والله أعلم. وما رأيت ولا رويت مثل وصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وصى بها كاتباً له يقول فيا: ألق دواتك، واجمع أداتك، وأرهف حدى قلمك إرهافاً، واحترس عند شقه احتراساً فإنك إن لم تتائم لسانه كدرت بيانه، واستصلب المقط، وحرف القط، فإن لم تسمع لقطتك طنيناً غير خفي، وتنظر لها حرفاً كذباب المشرفي وإلا أعد القطة، فالقلم حف، وقرب بين الحروف، وباعد بين الصفوف، وتصفح ما كتبته وكرر النظر فيما حبرته، ليظهر لك رأيك قبل أن يخرج عنك كتابك، فالحظ هداك الله ما اختص الله سبحانه هؤلاء القوم من الخصائص التي أطلعهم على علوم ليست علومهم والى ما لم يهتد إليه أرباب تلك العلوم، ولم يدركها فهم حاذق من أرباب الفهوم، حتى صارت كلمات أحدهم قدوة يقتدى بها أرباب المعارف من الكتاب، وعلماً يهتدى به من ضل ومن أولى الألباب.
وكنت قد جمعت فصولاً يحتاج إليها العامل في البلاغتين، والواضع في الصناعتين، من عدة كتب من كتب البلاغة، وحذفت منها ما لا يحتاج إليه، ونقحتها، وحررتها، وها أنا ذا أسوقها خاتمة لهذا الباب، والله الموفق للصواب، وهي: ينبغي لك أيها الراغب في العمل، السائل فيه عن أوضح السبل، أن تحصل المعنى عند الشروع في تحبير الشعر وتحرير النثر قبل اللفظ، والقوافي قبل الأبيات، ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص، وروى مقصود، وتوخ الكلام الجزل، دون الرذل، والسهل، دون الصعب، والعذب دون المستكره، والمستحسن دون المستهجن، ولا تعمل نظماً ولا نثراً عند الملل، ولا تؤلف كلاماً وقت الضجر، فإن الكثير معه قليل، والنفيس به خسيس، والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت، وإذا عنف عليها نزحت، واكتب كل معنى يسنح، وقيد كل فائدة تعرض، فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق، ولمحة الطرف، إن لم تقيد شردت وندت، وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت، والترنم بالشعر مما يعين عليه، قال الشاعر بسيط
تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار

وقد يتحيل الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً، كما روى عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر على الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً، فإذا كان كذلك فاتركه حتى يجيئك عفواً، وينقاد إليك طوعاً، وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ، واعمل في أحب الأغراض إليك، وفيما وافق طبعك، فالنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطى على الرهبة، واعمل الأبيات مفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر، ثم انظمها في الآخر، واحترس عند جمعها من عدم الترتيب، وتوخ حسن التنسيق عند التهذيب، ليكون كلامك بعضه آخذاً بأعناق بعض، فهو أكمل لحسنه، وأمتن لرصفه وجمل المبدأ والتخلص والمقطع، فإن ذلك أصعب ما في القصيد، واجتهد في تجويد هذه المواضع، وتجنب معارض أرباب الخواطر فيها، وتواردهم عليها، وميز في فكرك محط الرسالة، ومصب القصيدة قبل العمل، فإن ذلك أسهل عليك، وأشعرها أولاً، ونقحها ثانياً، وكرر التنقيح، وعاود التهذيب، ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر، وقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين، وينقحها في شهرين اقتداء بزهير، فإنه كان راويته، وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل، حتى قيل لشعره: المنقح الحولي، والحولي المحكك. وفي ذلك يقول عدي بن الرقاع كامل:
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها

وفي الناس من رزق بديهة حسنة، وحدة خاطر، ونفاذ طبع؛ وسرعة نظم، يرتجل القول ارتجالاً، ويأتي به عفواً صفواً، فلا تقعد به عن قوم قد أتعبوا خواطرهم، وكدوا نفوسهم في التهذيب، وبذلوا جهدهم في التنقيح والتأديب واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر، فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً، ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً، ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله، فتظهر عليه الكلفة، ويبين فيه أثر المشقة، ويتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط، واللفظ النازل، وربما اشتد عيب كلمة المقطع رغبة في السجع، فجاءت نافرة من أخواتها، قلقة في مكانها بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ، وصحة المعاني، واجتهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عز ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه، وتباينت في التقفية مقاطعة، فقد كان المتقدمون لا يحلفون بالسجع ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق عن غير قصد ولا اكتساب، وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائقة وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة، وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام، ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام، كابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء، ولا تجعل كل الكلام شريفاً عالياً، ولا وضيعاً نازلاً، بل فصله تفصيل العقود، فإن العقد إذا كان كله نفيساً، لا يظهر حسن فرائده، ولا يبين كمال واسطته، وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع طبقات البلاغة الثلاث، ليظهر فضل كل طبقة في بابها، وتبين محكم أسبابها، ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها يعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء، ويربى عليها، فإن الكلام إذا كان منوعاً افتنت الأسماع فيه، ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه، واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواحا، فإذا قويت الألفاظ فقو المعاني، وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام، وتتناسب في الأفهام، واقصد القوافي السهلة المستحسنة، دون المستصعبة المستهجنة، والأوزان المستعملة الحلوة، دون المهجورة الكزة، فإن الشعر كالجواد، والقوافي حوافره، والألفاظ صورته، والمعاني سرعته، والأوزان جملته، واجعل كلامك كله كالتوقيعات، وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل، وفي المجالس أرشق وأجول، وبالأسماع أعلق، وبالأفواه أعبق، فإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه، وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت، أو معظمها، وغيرا لوزن والقافية، وزد في معناه، وانقص من لفظه، واحترس مما طعن عليه به، لتكون أملك له من قائله وإن كان التفضيل قد يقع بغير ما ذكرت، ومما يقدم به المتكلم على غيره حسن الأدب مع الممدوح، كقول ابن نباتة السعدي في سيف الدولة بن حمدان عفا الله عنه بسيط
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
فإنه أحسن الأدب مع ممدوحه، بخلاف المتنبي، فإن المتنبي قال في هذا المعنى بسيط
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي
فإن المتنبي جعل ممدوحه ممن يصح منه التمني لو كانت بقيت له أمنيته. وابن نباتة جعل مادح ممدوحه لم تبق له أمنيته، ورفعه عن أن يكون هو ممن يصح أن يتمنى شيئاً، فكل ما جعله المتنبي لممدوحه، جعله ابن نباتة لشاعر ممدوحه، وهذا الأدب من قول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: " الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين " فأسند أفعال الخير كلها لله، وأسند فعل الشر لنفسه، حسن أدب مع ربه. صلى الله عليه وسلم.

ومثل ذلك قوله تعالى: " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " مقتضى الصناعة أن يؤتى بتجنيس الازدواج في صدر الآية، كما أتى به في عجزها، لكنه منع منه توخي التأديب والتهذيب في نظم الكلام، وذلك أنه لما كان الضمير الذي في " ليجزي " عائداً على الله سبحانه، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى ردفه، حتى لا تنسب السيئة لله تعالى، فقال سبحانه في موضع .. " بالسيئة " " بما علموا " فعوض عن تجنيس المزاوجة الإرداف، لما في الإرداف من حسن الأدب مع الله تعالى، ليعلمنا ذلك، ولما كان قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قد أمن فيه هذا المحذور، أتى الكلام فيه على مقتضى الصناعة، والله أعلم.
ومن أحسن ما وقع في هذا قوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " لأنه سبحانه أدمج وهو أعلم في هذا الكلام وصف نفسه بالعدل فعلق فن الفخر بفن الأدب، إذ ظاهر الآية التأدب والموعظة، ووصف نفسه تعالى بالعدل فخر متعلق بذلك، مع ما في لفظ هذا الكلام من الملاءمة التي حصل بها ائتلاف اللفظ بالمعنى ،لأن الركون إلى الظالم دون فعل الظالم نفسه، ومس النار دون إحراقها والدخول فيها، والعدل يقتضي أن يكون العقاب على قدر الذنب، فكان ذلك المساس ملائماً للركون دون غيره، فانظر ما انطوى عليه نظم هذه الألفاظ السبع من المعاني، وأنواع البديع، والائتلاف الذي دلت عليه الملاءمة، والإدماج، والتعليق والافتنان، والبسط، إذ عدل عن قوله " إلى الظالمين " إلى قوله " إلى الذين ظلموا " لما يحتمل الأول من الاستمرار في الظلم على سبيل الندور، ليلائم المعنى لفظ الركون ولفظ المساس، والمبالغة، لأنه إذ نهى عن الركون إلى من وقع منه الظلم في وقت دون وقت كان النهي عن الركون لمن استمر منه الظلم بطريق أولى، لترى ما تحت نظم هذا الكتاب العزيز من الخبايا التي هذا بعضها، وما خفي منها أكثر مما ظهر، والله أعلم.
وإذا تقاربت الديار، تقاربت الأفكار، ولهذا قيل: الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر، كوقوع الحافر على الحافر. واعلم أن من الناس من شعره في البديهة أبدع منه في الروية، ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة، وقلما يتساويان، ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصر، ومنهم من بضد ذلك، ومن قوى نظمه ضعف نثره، ومن قوى نثره ضعف نظمه، وقلما يتساويان، وقد يبرز الشاعر في معنى من معاني مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد، ولهذا قيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وعنترة إذا كلب، والأعشى إذا طرب.
وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب، واستعمال اللفظ الوحشي، فإن خير الكلام ما سبق معناه إلى القلب، قبل وصول جملته إلى السمع، فإن علي بن عيسى الرماني ذكر أن أسباب الإشكال ثلاثة وكلها تغير الكلام عن الأغلب، كالتقديم، والتأخير، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك وقد جمع هذه الأسباب الثلاثة قول الفرزدق طويل:
وما مثله في الناس إلا مملك ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
فإن الممدوح: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام ابن عبد الملك، فأبو أم هشام بن عبد الملك وهو المملك أبو إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي، فجد المملك وهو المملك لأمه أبو الممدوح، فالممدوح على هذا خال المملك، وحاصل معنى هذا البيت: وما مثل هذا الممدوح إلا ابن أخته، وأما التقديم والتأخير مع قوله وما مثله البيت فإن صحته وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه، فلما قدم وأخر حصل التعقيد. وأما سلوك الطريق الأبعد، فقوله: أبو أمه أبوه، وكان يجزئه قوله: جده أبوه. وأما المشترك ففي قوله حي لصلاحية اللفظ لضد الميت، وللقبيلة. انتهى كلام الرماني.
وليكن كلامك سليماً من التكلف، بريئاً من التعسف، وليحط لفظك بمعناك، وتشتمل عبارتك على مغزاك، واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه، فإن البلاغة لمحة دالة، وقيل: سرعة جواب في صواب، وقيل: أن تقول فلا تبطئ، وأن تصيب فلا تخطئ، والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق أسهلها، وإذا روعي الاشتقاق فيها قيل في حدها: هي بلوغ المتكلم بعبارته أقصى ما في نفسه، وإيصال ذلك لمخاطبه بأقرب الطرق وأسهلها والعي إكثار من مهدار، وإخطاء بعد إبطاء، كما جاء في المثل: " سكت ألفاً ونطق خلفاً " .

وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه، ولا ناقصاً عنه، كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه، وقيل في آخر: كان إذا أخذ شبراً كفاه، وإن أخذ طوماراً ملأه واستعمل التطويل في مكانه، والتقصير في مكانه، فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً، كان الطويل عياً، وإذا كان التطويل واجباً، كان التقصير عجزاً ولهذا حد بعضهم البلاغة بأنها إيجاز من غير إخلال، وإطناب من غير إملال، وما أحسن ما أنشده الجاحظ في هذا الموضع، وهو كامل:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وإياك أن تفرط فتكثر، أو تفرط فتقصر، وقد ذكر في كتابه المترجم بالبيان والتبيين أن الفارسي: سئل عن البلاغة فقال: معرفة الفصل من الوصل.
وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وسئل الرومي عنها فقال: حسن الاقتصار عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة.
وسئل الهندي عنها فقال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقال مرة: التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني، أو غمض وشرد في اللفظ وتعذر، ورتبته أن تكون الشمائل مذروبة يعني المتكلم، والألفاظ معدلة، واللهجة نقية، وألا يكلم سيد الأمة بما يكلم به الأمة، ويكون في قوله فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، بل يصفيها كل التصفية، ويهذبها غاية التهذيب.
ثم قال، أعني الجاحظ، وأما البراعة فقد قالوا فيها: يعني أهل اللغة: إنها الحذق بطريقة الكلام وتجويده، وأما الفصاحة فمختلف فيها فمن قائل بأنها جزالة اللفظ، وحسن المعنى، وقيل: الاقتدار على الإبانة عن كل معنى كامن في النفس، بعبارات جليلة، ومعان نقية بهية، والذي صح في تعريفها: أنها خلوص الألفاظ من التعقيد المبعد عن إدراك معانيها، وعن العيوب التي تعرض فيها، فإن اشتقاقها من الفصيح، وهو اللبن الذي خلص من رغوته أو لبئه، وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت تارة وجيزة، ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل:
به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد
وطوراً بإيجاز يبث لذي حجاً ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد
وعلى الجملة، مهما كان الإيجاز كافياً، والمعنى به واضحاً، فالإطالة إن لم تكن عياً كانت عبثاً، ولم تزل الأجلاء المتقدمون يحمدون ذلك، ويذمون ما سواه، ويدلك على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب، فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يديه كتاب، وهو يعاود قراءته تارة بعد أخزى، ويصعد نظره فيه ويصوبه، قال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلى وقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، فقلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المكاره، وأعاذه من المخاوف، فقال: إنه لا مكروه في الكتاب، ولكني قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله يقوله في البلاغة، فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقريب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إلي وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا، قال: فقرأته، فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قوداه وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كافة تراخت أعطياتهم، فاختلت لذلك أوالهم، والتاثت معه أمورهم، فقال: فلما قرأته قال لي: يا أحمد، إن استحساني هذا الكلام بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطياتهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه محله من صناعته، وروى أيضاً عن المأمون أنه أمر عمرو بن مسعدة الكاتب هذا أن يكتب لرجل يعني به إلى بعض العمل بالوصية عليه، وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد، فكتب إليه عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله، إن شاء الله تعالى. وقد كان جعفر بن يحيى من تقدمه في هذه الصناعة يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيعات فافعلوا.

وأما قول قيس بن خارجة لما قيل له: ما عندك في حمالات داحس؟ فقال: عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى عن التقاطع، فإن ذلك لم يخرجه مخرج المدح للإطالة المذمومة، لأن الإطالة المذمومة هي إطالة العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة، وإنهما أراد قيس الإكثار من المعاني، فإذا كثرت المعاني احتاج المتكلم إلى كثرة الألفاظ للعبارة عنها لإيضاحها وليوفي بمقصوده فيها، ومتى طال الكلام كذلك كانت إطالته بلاغة لاعيا، فإن حقيقة البلاغة إيجاز من غير إخلال، وإطناب من غير إملال، لاسيما خطب الإملاكات، والسجلات التي تقرأ على رءوس الجماعات، فالمحمود في هذه المواضع الإطناب، والمذموم الإسهاب، وإنما كان الإطناب محموداً، والإسهاب مذموماً، لأن الإطناب تفخيم الأمر وتقويته وتوكيده وشد أواخيه، والإسهاب مأخوذ من السهب وهو المتسع من الفلاة التي لا ينتهي النظر فيه إلى علم يهتدى به، ولا معلم يؤوى إليه، فكأن المسهب اتسع في الكلام اتساعاً لا فائدة فيه، وقد شفيت الغليل في هذا الباب، وخرجت فيه عن شرط الكتاب، لاحتياج العامل إليه، واعتماد الناقد عليه.

باب حسن النسق

حسن النسق من محاسن الكلام، وهو أن تأتى الكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات، متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً، لا معيباً مستهجناً، والمستحسن من ذلك أن يكون كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفه مجاوره صار بمنزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزأ حسنهما، ونقص كمالهما، وتقسم معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والافتراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع.
ومن شواهد هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين " . فأنت ترى إتيان هذه الجمل معطوفاً بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة لأنه سبحانه بدأ بالأهم، إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من سجنها، ولا يتهيأ ذلك إلا بانحسار الماء عن الأرض، فلذلك بدأ بالأرض، فأمرها بالابتلاع، ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها من الماء ولم تقطع مادة الماء تأذى بذلك أهل السفينة عند خروجهم منها وربما كان ما ينزل من السماء مخلفاً لما تبتلعه الأرض، فلا يحصل الانحسار فأمر سبحانه السماء بالإقلاع بعد أمره الأرض بالابتلاع، ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ما على الأرض، وانقطعت مادة السماء، وذلك يقتضي أن يكون ثالث الجملتين المتقدمتين، ثم قال تعالى: " وقضي الأمر " ، أي هلك من قدر هلاكه، ونجا من قضيت نجاته، وهذا كنه الآية، وحقيقة المعجزة، ولا بد وأن تكون معلومة لأهل السفينة، ولا يمكن علمهم بها إلا بعد خروجهم منها، وخروجهم منها موقوف على ما تقدم، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون هذه الملة رابعة الجمل، وكذلك استواء السفينة على الجودي، أي استقرارها على المكان الذي استقرت فيه استقراراً لا حركة معه، لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها، وذلك يقتضي أن يكون بعد ما ذكرنا، وقوله سبحانه: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " ، هذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق، فدعا سبحانه على الهالكين، ووصفهم بالظلم احتراساً من هذا الاحتمال، وذلك يقتضى أن تكون بعد كل ما تقدم، والله أعلم.
فانظر إلى حسن هذا النسق، وكيف وقع القول فيه وفق الفعل سواء.
ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول زهير طويل:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
فإنه نسق على هذا البيت اثنى عشر بيتاً كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من غير تضمين.
وحسن النسق تارة يكون في الأبيات بحيث يعطف بيت على بيت كما قدمنا من شعر زهير، وتارة في جمل البيت الواحد، كقول ابن شرف القيرواني بسيط
جاور علياً ولا تحفل بحادثةٍ ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل
سل عنه، وانطق به، وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل

فالحظ حسن هذا النسق؛ وصحة هذا الترتيب فيه، واستيعاب هذا التقسيم، ووضوح هذا التفسير، وما رأيت من شواهد حسن النسق مما هو داخل في القسم الأول منه كقول أبي نواس كامل:
وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس
وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس
فإن حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين: وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد، والله أعلم.

باب الانسجام

وهو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره، مع خلوه من البديع، وبعده عن التصنيع. وأكثر ما يقع الانسجام غير مقصود، كمثل الكلام المتزن الذي تأتى به الفصاحة في ضمن النثر عفواً كمثال أشطار، وأنصاف، وأبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن وقع من ذلك في غير القرآن بيتان فصاعداً سمى ذلك شعراً وإن لم يقصد، وأما القرآن العزيز فلم يقع فيه إلا مثال النصف، أو البيت الواحد، والبيت المفرد لا يسمى شعراً، وعلى ذلك أدلة لا يتسع هذا المكان لذكرها، وقد أتيت بها مستقصاة في كتابي المنعوت بالميزان الذي شرعت في عمله، أرجح فيه بين كلام قدامة وبين كلام خصومة، ولم يتكلم.
ومثال الانسجام الذي وقع في الأشعار المقصودة قول الإمام أبي تمام بسيط
إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
وكقوله أيضاً كامل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وكقول البحتري طويل:
فيا لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين، وأخرى قبلها لتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهباً غير مذهبي
وكقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي طويل:
على عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي بالشرب
سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
ومن هذا الباب للمتقدمين أكثر لامية الشنفري كقوله طويل:
وفي الأرض مناى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
وكقول امرئ القيس طويل:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمر القلب يفعل
ولم أسمع في الانسجام كقول عبد الصمد بن المعذل يرثي الأمير سعيد بن سلم بقوله خفيف:
كم يتيم خبرته بعد يتم ... وعديم نعشته بعد عدم
كلما عضت الحوادث نادى ... رضى الله عن سعيد بن سلم
والبيت الثاني أردت.
وكقول شاعر الحماسة طويل:
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه، فقد تجري الأمور على قدر
وقد يحصل الانسجام مع البديع الذي أتت به القريحة عفواً من غير استدعاء ولا كلفة، كقول أبي تمام بسيط
إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
فأنت ترى انسجام هذا الكلام مع كون البيت قد وقع فيه المبالغة، والتعليق، والإشارة، فإنه علق عدم صبر المصطبرين برؤية الطلل على تلك الحالة، وأشار بقوله: " على أي حال أصبح الطلل " إلى أحوال كثيرة لو عبر عنها بلفظها لاحتاجت إلى ألفاظ كثيرة، وعلق أحد الأمرين بالآخر، إذ جاء بلفظ الشرط والمشروط.
ومن الانسجام في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " والآية التي بعدها. وقوله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " .
وقوله سبحانه: " ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " وأكثر القرآن من شواهد هذا الباب.

ومن الانسجام في السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن: " إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنة خالية ومثلاً مضرباً، فيه نبأكم، وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول المدد، ولا تنقضي عجائبه، هو الحق، ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن ابتعه، لا يعوج فيقوم، ولا يريغ فيستعتب " .
فانظر إلى انسجام هذه العبارة وما جاء فيها من البديع غير مقصود، تشهد الخواطر السليمة أنه كلام مسترسل غير مرو ولا مفكر، فصلوات الله وسلامه على من بعث بجوامع الكلم، وأوتى هذه الفصاحة الرائعة، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب براعة التخلص

وهو امتزاج آخر ما يقدم الشاعر على المدح من نسب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح. وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين، وقد يقع في بيت واحد، وهذه وإن لم تكن طريقة المتقدمين في تغالب أشعارهم، فإن المتأخرين قد لهجوا بها وأكثروا منها، وهي لعمري من الماسن وهذا الباب قديم، وهو من أجل أبواب المحاسن، ويسمى معرفة الفصل من الوصل.
وقد ذهب أصحاب الإعجاز إلى أنه وجه الإعجاز، وهو دقيق في عين الغبي خفي يخفى على غير الحذاق من ذوي النقد. وهو مبثوث في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره، فإنك تقف من الكتاب العزيز على مواضع تجدها في الظاهر فصولاً متنافرة لا تعرف كيف تجمع بينها، فإذا أنعمت النظر وكنت ممن له دربة بهذه الصناعة، ظهر لك الجمع بينهما، كقوله سبحانه وتعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير، وأتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً " فإنك إذا نظرت إلى قوله تعالى: " وآتينا موسى الكتاب " وجدت هذا الفصل مبايناً لما قبله حتى تفكر فتجد الوصل بين الفصلين في قوله: " سبحان الذي أسرى بعبده " فإنه سبحانه أخبر بأنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته، ويرسله إلى عباده، كما أسرى بموسى من مصر ين خرج منها خائفاً يترقب، فأتى مدين، وتزوج بابنة شعيب، وأسرى بها فرأى النار، فخاطبه ربه وأرسله إلى فرعون، وآتاه الكتاب، فهذا الوصل بين هذين الفصلين، وأما الوصل بين ما ذكرت وبين قوله تعالى: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً " فقد كان على بني إسرائيل نعمة عليهم قدماً حيث نجاهم في السفن، إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا، وأخبرهم أن نوحاً كان شكوراً، وهم ذريته، والولد سر أبيه، فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم.
وأما في الشعر فأتم الناس براعة في التخلص وأول من أحسن في ذلك من القدماء في غالب ظني زهير، حيث قال بسيط
إن البخيل ملوم حيث كان ول؟ ... كن الكريم على علاته هرم
ولقد اتفق له في هذا البيت اتفاق صالح حيث جاء مدمجاً من جهة عروضه، فامتزج المعنيان والقسيمان امتزاجاً كلياً لفظياً ومعنوياً مع ما وقع في البيت من المطابقة اللفظية، ثم تأنث المتأخرون في ذلك، فمن مجيد مبرز، ومن ضعيف مقصر، فمن المجيدين في ذلك الذي أتى فيه بما لا يلحق سبقاً مسلم بن الوليد، حيث قال طويل:
أجدك ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
سريت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر
فإن التخلص وقع في بيت واحد، وهو أحسن قسميه، إلى ما جاء في البيت من التعليق والإشارة، فإنه علق الغزل بالمدح، حيث أشار إلى فرط حب يحيى لولده جعفر، وهو الممدوح، وفي ذلك مدحه بالبر لأبيه، الذي أوجب له ذلك عليه، وفي وصفه بالبر لأبيه جما خير الدنيا والآخرة، فأدمج المبالغة في التعليق.
ومن المجيدين في ذلك أيضاً أبو نواس حيث يقول طويل:
تقول التي من بيتها خف محملى ... يعز علينا أن نراك تسير

أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها، واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في إثرهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وكقول أبي تمام كامل:
لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم
وكقوله حيث يقول وافر:
لقد أنست مساوئ كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وكقوله معتذراً في وصف الإبل طويل:
سرت تحمل العتبى إلى العتب والرضا ... إلى السخط والعذر المبين إلى الحقد
وكقوله بسيط
يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ومما تقدم فيه غيره قوله بسيط
إساءة الحادثات استنبطى نفقاً ... فقد أظلك إحسان ابن حسان
وكقوله بسيط
لم يجتمع قط في مصر ولا طرفٍ ... محمد بن أبي أيوب والنوب
وكقوله كامل:
فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس
على أن أبا الطيب المتنبي قد أتى في هذا الباب بما لا يقصر به عن لحاق أبي تمام ولا أمثاله من المجيدين، ويكفيه من ذلك قوله بسيط
مرت بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا
وأما إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب، فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب، ومن ذلك قوله وافر:
وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي
كما لابن العميد جميع مدحى ... ودنيا ابن العميد جميعها لي
وكقوله خفيف:
فبهم قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير خوف زماني
ومن براعة التخلص في الكتاب العزيز قوله تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص " فإنه سبحانه أشار بقوله: أحسن القصص إلى قصة يوسف، فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة مشيراً إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز، وإنما كانت أحسن القصص بكون كل قضية منها كانت عاقبتها إلى خير، فإن أولها رميه في الجب، فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبداً فاتخذ ولداً، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن، وخروجه ملكاً، وظفر إخوته به أولاً، وظفر بهم آخراً، وتطلعه إلى أخيه بنيامين، واجتماعه به، وعمى أبيه، ورد بصره، وفراقه له، ولأخيه، واجتماعه بهما، وسجود أبويه وإخوته له تحقيقاً لرؤياه من قبل.
وكقوله تعالى: موطئاً للتخلص لذكر مبدأ خلق المسيح عليه السلام: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً " الآية. والله أعلم.
؟

باب الحل

وهو أن يعمد الكاتب إلى شعر ليحل منه عقد الوزن فيصيره منثوراً، كما روى عن إبراهيم بن العباس الصولي أنه قال: ما اتكلت قط في مكاتباتي إلا على ما يجلبه خاطري، ويجيش به صدري، إلا قولي: " فأبدلوه آجالاً من آمال " فإني حللت قول مسلم بن الوليد بسيط
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
وقولي: وقد صار ما يحرزهم يبرزهم، وما يعقلهم يعتقلهم، فإني حللت فيه قول أبي تمام طويل:
فإن باشر الإصحار فالبيض والقنا ... قراه، وأحواض المنايا مناهله
وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقله
والبيت الثاني أردت.
ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات " فإن ذلك حل قول امرئ القيس " رمل " :
وقدور راسيات ... وجفان كالجواب
على أن بعض الرواة ذكر أنه وضعه بعض الزنادقة، وتكلم على الآية الكريمة، وأن امرأ القيس لم يصح أنه تلفظ به، والله أعلم.

باب العقد

وهو ضد الحل، لأنه عقد النثر شعراً.

ومن شرائطه أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه، فيزيد فيه، أو ينقص منه، أو يحرف بعض كلماته ليدخل به في وزن من أوزان الشعر، ومتى أخذ معنى المنثور دون لفظه كان ذلك نوعاً من أنواع السرقات بحسب الآخذ الذي يوجب استحقاق الأخذ للمأخوذ، ولا يسمى عقداً إلا إذا أخذ المنثور برمته، وإن غير منه بطريق من الطرق التي قدمناها كان المبقى منه أكثر من المغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع، كما فعل أبو تمام في كلام عزى به علي عليه السلام الأشعث بن قيس في ولده، فعقده أبو تمام شعراً فقال طويل:
وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم
ومنه قول أبي العتاهية سريع:
ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر
فإنه عمد إلى قول علي بن أبي طالب عليه السلام: ما ابن آدم والفخر، وإنما أوله نطفة وآخره جيفة، فقعده شعراً.
وكقوله، أعني أبا العتاهية وافر:
كفى حزناً بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا
فإنه عقد قول بعض الحكماء في الإسكندر حين مات: إن كان الملك أمس أنطق منه اليوم، فهو اليوم أوعظ منه أمس، والله أعلم.

باب التعليق

وهو أن يأتي المتكلم بمعنى في غرض من أغراض الشعر، ثم يعلق به معنى آخر من ذلك الغرض يقتضى زيادة معنى من معاني ذلك الفن، كمن يروم مدحاً لإنسان بالكرم فيعلق بالكرم شيئاً يدل على الشجاعة، بحيث لو أراد أن يخلص ذكر الشجاعة من الكرم لما قدر. ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فإنه سبحانه لو اقتصر على وصفهم بالذل على المؤمنين، لاحتمل أن يتوهم ضعيف الفهم أن ذلهم عن عجز وضعف، فنفى ذلك عنهم، وكمل المدح له بذكر عزهم على الكافرين، ليعلم أن ذلهم للمؤمنين عن تواضع لله سبحانه، لا عن ضعف ولا عجز بلفظ اقتضت البلاغة الإتيان به، ليتمم بديع اللفظ كما تمم المدح، فحصل في هذه الألفاظ الاحتراس مدمجاً في المطابقة، وذلك تبع للتعليق الذي هو المطلوب من الكلام.
ومن أمثلة التعليق قول المتنبي طويل:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام
فعلق الكرم بالشجاعة لكونه شبه رسل العدو بالملام في الهبة، فهو كثير ما يردهم عما يطلبون منه تهاوناً بمرسلهم، وشجاعة عليهم، وتسرعاً إلى حربهم، ورغبة في ما دون سلمهم، ثم حصل من التشبيه الذي علق به الكرم بالشجاعة وصفه بغاية الكرم، إذ دل على أنه عاشق في الجود، ولا يسمع فيه ملاماً، ولا يصغي إلى عاذل، وقد يعلق المتكلم فناً من فنون الكلام بمعنى من معاني البديع، وما سمعت في ذلك أحلى من قول بعض العراقيين في بعض القضاة، وقد شهد عنده برؤية هلال الفطر، فلم يجز الشهادة " رمل مجزؤ " :
أترى القاضي أعمى ... أم تراه يتعامى
سرق العيد كأن ال؟ ... عيد أموال اليتامى
فعلق خيانة القاضي في أموال اليتامى بما قدمه من خيانته في أمر العيد برابطة التشبيه.
ومن مليح التعليق قول المتنبي في صفة الليل، وهو من الصنف الأول من التعليق وافر:
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد به على الدهر الذنوبا
فإنه علق فن عتاب الزمان بفن الغزل اللازم من فن الوصف بواسطة أداة التشبيه، فعلق الافتنان بالتشبيه، فأحسن ما شاء.
ومن أحسن ما سمعت في التعليق قول أبي نواس، وهو من الصنف الثاني من التعليق " مجزوء الوافر " :
لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب
لقد زنوا عجوزهم ... ولو زنيتها غضبوا
فإنه علق هجاءهم بفجور أمهم بدعونهم في النسب، فكان في ذلك هجاء أبيهم، لكونهم لم يرضوا نسبتهم إليه، فكأن الشاعر رأى هجاءهم بفجور أمهم دون هجائهم بدناءة أبيهم ناقصاً، فيتم ما أراد من هجائهم بما قال، وظرف ما شاء بقوله: " ولو زنيتها غضبوا " .
ومثله قوله أيضاً إلا أن فيه زيادة على كل ما قدمنا لكونه يجمع صنفي التعليق.
أما التعليق الأول فلأنه علق على التهكم بالهجاء، ولم يقتصر على الهجاء.

وأما الثاني فكونه علق الافتنان الذي هو الهجاء والفخر على ما بينه بمعنى التشبيه والإدماج وافر:
فأعرض هيثم لما رآني ... كأني قد هجوت الأدعياء
وقد آليت لا أهجو دعياً ... ولو بلغت مروءته السماء
ومن لطيف تهكمه في هذا البيت قوله:
ولو بلغت مروءته السماء
وقد أدمج الافتنان في التهكم لأن معناه أني لا أهجو إلا من بلغت مروءته الغاية القصوى.
وكذلك قصد الشعراء وعقلاء البلغاء، يتخيرون لهجائهم كما يتخيرون لمديحهم.
وقد وقع لي في هذا الباب من المدح ما لا بأس بذكره، وهو الصنف الأول من التعليق طويل:
تخيل أن القرن وافاه سائلا ... فقابله طلق الأسرة ذا بشرا
ونادى فرند السيف دونك نحره ... فأحسن ما تهدي اللآلي إلى النحر
فإني علقت ذكر الكرم بذكر الشجاعة، حيث وصفت الممدوح بطلاقته وتهلله استبشاراً بالقرن لما تخيله سائلاً، واهدائه فرند السيف وهو جوهره إلى نحره لما تخيل الفرند لآلئا، هذا إلى ما وقع في البيت الثاني من التورية بذكر النحر، والترشيح بذكر اللآلي.
ومن التعليق العجيب قولي أيضاً مما علقت فيه الاستعطاف بالعتب بطريق الإدماج طويل:
؟أإخواننا بالله ما لجفائكم ... غدا لي بعد السلم وهو مصالت
أحين أمنتم من ملامي وأيقنت ... نفوسكم أني مدى الدهر ساكت
تخليتم عني وخنتم مواثقاً ... لها بعد توكيد العهود تهافت
وأقررتم عين الحسود عليكم ... فسرت نفوس بالبعاد شوامت
سأصبر حتى ينفد الصبر كله ... وينطق حالي والقوافي صوامت
وأعطفكم بالشعر ما ذر شارق ... وأخلبكم بالنثر ما عج قانت
وأعذر إن عرضت يوماً بعتبكم ... ليحيا وداد بالتجنب مائت
وهأنا موصيكم وصية ناصح ... لكم وده عند الحفيظة ثابت
بأن تتحاموا من فوات بوادري ... فإن بعيداً رد ما هو فائت
وأن تهدموا ما قد بنيتم وتعطشوا ... من الود غرساً قد غدا وهو نابت
ومن التعليق فرع يسمى تعليق الشرط، وهو أن يعلق المتكلم مقصوده على شرط يلزم من تعليقه مبالغة في ذلك المعنى، أو نوعاً من المحاسن زائداً على وقوع المشروط لوقوع الشرط، وذلك كقول أبي تمام طويل:
فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد
فعلق صحة حمده لممدوحه على حمد عوده صاغراً إن لم يحمد الممدوح عدوه صاغراً لا يكون الشاعر له حامداً. وقد استقصيت الكلام على هذا البيت في باب المقارنة والفرق بين التعليق التكميل شدة ملاحمة الفنين في التعليق، واتحادهما، وإن وجد لفظيهما فيه وتخليص أحدهما من الآخر في التكميل، ولأن من التعليق تعليق الشرط، ومنه تعليق الفنون بالمعاني، والله أعلم.

باب الإدماج

وهو أن يدمج المتكلم غرضاً له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد إليه، كقول عبيد الله بن عبد الله لعبد الله بن سليمان بن وهيب حين وزر للمعتضد، وكان ابن عبيد الله قد اختلت حاله، فكتب لابن سليمان طويل:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
فأدمج شكوى الزمان، وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة وتلطف في المسألة، ودقق التحليل لبلوغ الغرض، مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال، وحمايته من الإذلال، لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله.
ومن لطيف الإدماج قول ابن نباتة السعدي طويل:
ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده

فإنه أدمج الفخر في الغزل حين جعل حلمه لا يفارقه بتة، ولا ترغب نفسه عنه جملة، وإنما عزم على أن يودعه، إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب، لأن الوادائع تستعاد، ثم استفهم عن الخل الصالح أن يستودع الحلم بلفظ يشعر بالاستبعاد والتعذر، فيكون مفهوم الخطاب بقيا حلمه لعدم من يصلح لأن يودعه عنده وأدمج الفخر في الغزل من جهة تصريحه بذكر الحلم، ورشح بالإدماج الطباق بين الحلم والجهل، ثم أدمج فيهما شكوى الزمان لتغير الإخوان بحيث إنهم لم يبق منهم من يستصلح لمثل هذا الشأن في الإشارة.
ومثل هذا الإدماج ما وقع لبعض الأندلسيين في قوله وافر:
أأرضى أن تصاحبني بغيضاً ... مجاملة وتحملني ثقيلا
وحقك لا رضيت بذا لأني ... جعلت وحقك القسم الجليلا
والبيت الثاني أردت، لأنه أدمج فيه الغزل في العتاب من الفنون، والمبالغة في القسم من البديع.
ومن شواهد الإدماج في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وله الحمد في الأولى والآخرة " فإن هذه الجملة أدمج فيها المبالغة في الحمد في ضمن المطابقة، إذ أفرد نفسه سبحانه بالحمد حيث لا يحمد سواه، إذ قال: وهو أعلم: " وله الحمد في الأولى والآخرة " .
والفرق بين التعليق والإدماج أن التعليق يصرح فيه بالمعنيين المقصودين على شدة اتحادهما، والإدماج يصرح فيه بمعنى غير مقصود قد أدمج فيه المعنى المقصود، والله أعلم.

باب الإزدواج

وهو أن يأتي الشاعر في بيته من أوله إلى آخره بجمل: كل جملة فيها كلمتان مزدوجتان، كل كلمة إما مفردة أو جملة. وأكثر ما يقع هذا النوع في أسماء مثناة مضافة كقول أبي تمام متقارب:
وكانا جميعاً شريكي عنان ... رضيعى لبان، خليلى صفاء
ومن الازدواج نوع يؤتى فيه بكلمتين صورتهما واحدة، ومفهومهما واحد، كقول ابن الرومي: مجزوء الكامل:
أبدانهن وما لبس؟ ... ن من الحرير معاً حرير
أردانهن وما مسس؟ ... ن من العبير معاً عبير
وكقول بعض العرب بسيط
ومطعم النصر يوم النصر مطعمه ... أني توجه والمحروم محروم
فقوله: ومطعم النصر مطعمه، والمحروم محروم، ازدواج، والفرق بينه وبين التجنيس المماثل اختلاف معنى الكلمتين في التجنيس واتفاقهما في الازدواج، على أن الرماني قد عد الازدواج تجنيساً، وذكر منه قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " وأفرده غير الرماني باباً، واستشهد عليه بالبيت الثاني من شواهد هذا الباب وأمثاله بغير ذلك، والله أعلم.

باب الاتساع

وهو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه التأويل على قدر قوي الناظر فيه، وبحسب ما تحتمل ألفاظه، كقول امرئ القيس طويل:
إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
فإن هذا البيت اتسع النقاد في تأويله، فمن قائل تضوع مثل المسك منهما نسيم الصبا، ومن قائل تضوع نسيم الصبا منهما، ومن قائل تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا، وهذا هو الوجه عندي، ومن قائل تضوع المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا.
وكقوله في صفة الفرس طويل:
مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
لأن الحجر يطلب جهة السفل لكونها مركزه، إذ كل شيء يطلب مركزه بطبعه الذي جبل عليه، فالحجر يسرع انحطاطه إلى السفل من العلو من غير واسطة، فكيف إذا أعانته قوة دفاع السيل من عل، فهو حال تدحرجه يرى وجهه في الآن الذي يرى فيه ظهره لسرعة تقلبه، وبالعكس، ولهذا قال الشاعر، مقبل مدبر معاً يعني يكون إدباره وإقباله مجتمعين في المعية، ولا يعقل الفرق بينهما، وحاصل الكلام وصف الفرس بلين الرأس، وسرعة الانحراف، وشدة العدو، لكونه قال في صدر البيت إنه حسن الصورة، كامل النصبة في حالتي إقباله وإدباره، وكره وفره، ثم شبهه في عجز البيت بجلمود صخر حطه السيل من العلو لشدة العدو، فهو في الحالة التي يرى فيها لبته يرى فيها كلفه وبالعكس.
هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل.

وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه، ولذلك قال الأصمعي: خير الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة، وقد غلط بعض الناس في تفسير هذا الكلام، وغلط الأصمعي فيه لسوء تفسيره، لأنه توهم أن الأصمعي أراد الشعر الذي ركب من وحشي الألفاظ، أو وقع فيه من تعقيد التركيب ما أوجب له غموض معناه، ولو كان كذلك كان ذلك شراً للشعر، وإنما أراد الأصمعي الشعر القوي الذي يحتمل مع فصاحته، وكثرة استعماله ألفاظه، وسهولة تركيبه، وجودة سبكه معاني شتى يحتاج الناظر فيه إلى تأويلات عدة، وترجيح ما يترجح منها بالدليل وجميع فواتح السور المعجمة من هذا الباب، فإن العلماء قد اتسعوا في تأويلها اتساعاً كبيراً، وإن ترجح من جميع أقوالهم كونها أسماء للسور، ثم اختلفوا في إعراب ما يتأتى فيه الإعراب منها، فبعضهم يرى فيه الحكاية، كما يرى ذلك في صاد، وقاف، ونون، فإن هذه الأسماء محكية ليس إلا، وبعضهم يرى الإعراب في المجموع خاصة، وينشد قول شريح بن أوفى العبسي قاتل محمد بن طلحة السجاد طويل:
يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وأما ما جاء من باب الاتساع في غير الفواتح فقوله تعالى: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " الآية فإن لفظها محتمل تأويلات شتى، فإن ظاهر الآية يقتضي إباحة الجمع بين تسع، ثم قوله بعد: " رباع " . " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ومن لم يعدل في الأربع جاز أن يعدل في الثلاث، فلم نزل إلى الواحدة؟ وهذه الظواهر مفتقرة إلى تأويلات تميط عنها هذه الإشكالات. والله أعلم.

باب المجاز

المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة، بحيث يأتي المتكلم لاسم موضوع لمعنى فيختصره إما بأن يجعله مفرداً بعد أن كان مركباً، أو غير ذلك من وجوه الاختصار، أو يذكر ما هو متعلق به، أو كان من سببه لفائدة.
والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة، كالاستعارة والمبالغة والإشارة، والإرداف، والتمثيل، والتشبيه، وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد، فهذه الأنواع وإن كانت من المجاز فلكونها متعددة جعل لكل منها اسم يعرف به، ويميزه عن غيره من جنسه، كما جعل لأنواع جنس الحيوان من الأسماء التي تعرف أنواعها بالفصول، كالفرس، والجمل، والطائر، والإنسان وغير ذلك من قسمي الناطق والبهيم، وقد خص النقاد نوعاً من أنواع المجاز بإبقاء اسم المجاز عليه، وهو أقسام: منها: حذف الموصوف وإبقاء الصفة تدل عليه، كقوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله " فإن المراد هو الذي أرسل محمداً رسوله، وحذف الفاعل الذي فعله المستند إليه دال عليه كقوله تعالى: " حتى توارت بالحجاب " .
ومنها حذف الأجوبة كقوله تعالى في حذف جواب لو: " ولو أن قرآناً سيرت به الجبال " الآية.
ومنها الإتيان بجواب عن سؤال مقدر لدلالة الجواب عليه كقوله سبحان. " قيل ادخل الجنة " فإن المعنى كأن قائلاً قال: فما كانت عاقبة هذا الذي نصر الحق وبذل نفسه في ذات الله، فيقال: قيل له: ادخل الجنة.
ومنها الاسم المضاف الذي حذف المضاف منه، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل، وقوله تعالى: " ويا سماء أقلعي " أي ويا مطر السماء، أو يا سحاب السماء، أو يا سحاب لكونه بالنسبة للمخاطب عالياً، وكل ما علا الإنسان من سقف وسحاب وغيره يسمى سماء، وقد تجاوزت العرب حذف المضاف إلى حذف مضاف ثان بعد حذف المضاف الأول، كقول جرير وافر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فقوله: إذا نزل السماء، يريد مطر السماء، وهذا القسم الأول من المجاز، وقوله: رعيناه يريد رعينا ما ينبته مطر السماء، وهذا القسم الثاني من المجاز، وإنما اتفقوا على اسم المجاز على هذا القسم لخلوه من معنى زائد عن تجوز الحقيقة، يليق أن يكون تسميته من جنسه، كالاستعارة، والتشبيه، والمبالغة، والإرداف، والإشارة وغير ذلك، فلما لم يكن في هذا القسم غير تجوز الحقيقة اختصار أفرد باسم المجاز، إذ لا يليق به غيره، والمراد بذلك الاختصار.

باب الإيجاز

الإيجاز اختصار بعض ألفاظ المعاني ليأتي الكلام وجيزاً من غير حذف لبعض الاسم، ولا عدول عن لفظ المعنى الذي وضع له، فإن الاختصار أن نحذف بعض الاسم كما قدمناه، فهو مجاز، وإن كان بتغير لفظ المعنى بوجه من وجوه التغير كان من أنواع المجاز التي قدمنا ذكر بعضها، كالاستعارة، والإشارة، والإرداف وغير ذلك.
ومثاله أن يقتص المتكلم قصة بحيث لا يغدر منها شيئاً، في ألفاظ قليلة موجزة جداً، بحيث لو اقتصها غيره ممن لم يكن في مثل طبقته من البلاغة، أتى بها في أكثر من تلك الألفاظ، وأكثر قصص الكتاب العزيز من هذا القبيل، كقصة موسى عليه السلام في " طه " ، فإن معانيها أتت بألفاظ الحقيقة تامة غير محذوفة، وهي مستوعبة في تلك الألفاظ.
وقد رأيت أكثر العلماء على تقديم الأعشى في اقتصاصه قصة السموءل في أدراع امرئ القيس الشاعر التي أودعها عنده لما قصد قيصر، ووفاء السموءل بها، حتى سلمها لأهل امرئ القيس وبذل دونها دم ولده وهو يشاهده، وهي بسيط
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... مهما تقول فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
إن له خلفا إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير عوار
مالاً كثيراً وعرضاً غير ذي دنس ... وإخوة مثله ليسوا بأشرار
جروا على أدب مني بلا نزق ... ولا إذا شمرت حرب بأغمار
وسوف يخلفه إن كنت قاتله ... رب كريم وبيض ذات أطهار
لا سرهن لدينا ضائع هدراً ... وكاتمات إذا استودعن أسرارى
فقال يقدمه إذ قام يقتله ... أشرف سموءل فانظر للدم الجاري
أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها ... طوعاً فأنكر هذا أي إنكار
فشد أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطويا كاللذع بالنار
واختار أدراعه ألا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار
وقال: لا نشتري عاراً بمكرمة ... واختار مكرمة الدنيا على العار
والصبر منه قديماً شيمة خلق ... فزنده في الوفاء الثاقب الواري
فانظر كيف أغنى الأعشى عن تحفظ القصة بطولها من يريد حفظها بهذه الأبيات التي استوعبها فيها مع ما انطوت عليه ألفاظها التي خرجت كلها مخرج الحقيقة من المدح للسموءل بالوفاء، ولابنه بالصبر على البلاء، والتحريض للممدوح على التخلق بمثل هذا الخلق، ليبقى له مثل هذا الذكر، والاحتراس في البيت الذي يقول فيه:
أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها
فإنه لما أضمر فيه ذكر الأدراع، فطن إلى أن البيت مفتقر إلى شرح إن لم يؤت به يتوقف السامع في فهمه، فاحترس عن ذلك بقوله:
واختار أدراعه ألا يسب بها
ليوضح أن الضمير في البيت الذي قبله يعود على الأدراع، فتلافى في ذلك الخلل، واستغنى عن الشرح المطول.
وقد ذكر الحاتمي في الحلية بعد هذه الأبيات قول بعض العرب يمدح بني كعب بقوله طويل:
لعمري لنعم الحي حي بني كعب ... إذا نزل الخلخال منزلة القلب
وقال الحاتمي: إذا ريعت ربة الخلخال، فأبدت ساقها للهرب فتكون قد أنزلت الخلخال منزلة القلب في الظهور، لأن عادة المرأة من العرب أن تبدى معصمها وتستر ساقها، ولا عار عليها في ذلك، وحاصل هذا الكلام مدح الحي بالمحاماة، وشدة البأس عند الخوف.
وقد قيل فيه غير ذلك، وهو أن المرأة من الروعة تذهل فتلبس الخلخال موضع القلب دهشاً وحيرة، والمرجع في التفسيرين إلى مقصد واحد.

وعندي أن هذا البيت لا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأن حقيقة الإيجاز إخراج المعاني في قوالب ألفاظها الحقيقة الموضوعة لها، فإن الإيجاز إيجازان: إيجاز مجازى، وإيجاز حقيقي، فما كان منه حقيقياً بقي عليه اسم الإيجاز، وما كان مجازياً وضعوا لكل قسم منه اسماً يخصه ويناسب اشتقاقه، فإن المجاز إيجاز، وهو حذف بعض الكلام لدلالة الباقي عليه، أو للاستغناء بالقرينة، كقوله تعالى: " واسئل القرية " والإشارة والإرداف والتمثيل إيجاز، لكن هذه الأبواب تجيء بغير ألفاظ المعاني الموضوعة لها، وقول هذا الشاعر:
إذا نزل الخلخال منزلة القلب
وهو يريد إذا ارتاعت فلبست خلخالها في معصمها، أو ذهلت للخوف عن تخفرها، معلوم أنه غير لفظ المعنى الخاص، وهذا بالإشارة أولى، فإن شئت جعلته من شواهد الإشارة، ومن شواهد الاتساع، أو منهما، ثم ذكر أعني الحاتمي بيتي لبيد، وهما " رمل " :
وبنو الديان أعداء للا ... وعلى ألسنهم ذلت نعم
زينت أحسابهم أنسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم
ولفظ البيت الأول لفظ الأرداف، فلا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأنه أراد أن يقول: بنو الديان أجواد، فعدل عن هذا اللفظ إلى لفظ هو ردفه، وهو ذكر معاداتهم للا ليبالغ في وصفهم بالجود، والبيت الثاني جاء بلفظ الإشارة، إذ التزيين يكون بضروب من المحاسن، فإن قيل: إذا كان المجاز نوعاً من الإيجاز جاز أن يسمى كل صنف من ذلك النوع إيجازاً.
قلت للتسميات علامات تعرف بها المسميات، ومن سمى النوع باسم الجنس فهو غير معرف لذلك النوع، فإنك لو قلت في حد الإنسان: هو حيوان، من غير ذكر الفصل لكنت غير معرف لحقيقته، لكونك لم تأت إلا بالقدر القدر المميز، ولما كان من الإيجاز ما يدل على المعنى بلفظ المعنى بلفظ الموضوع له، ومنه ما يدل على المعنى بلفظ هو ردف لفظه تارة، وبلفظ هو مثل لفظه، أو به، وبلفظ مستعار من لفظه حيناً والحقيقة أصل، والمجاز فرع، والإيجاز أصل نفي الاسم الأصلي على الكلام الذي دل لفظه على معناه بظاهره، وسمى ما دل على معناه بالتأويل بأسماء مجازية، إذ كانت مسمياتها مجازية.
ومن أمثلة الإيجاز قول النابغة الذبياني في اقتصاصه قصة الزرقاء. للنعمان بسيط
فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع واردي الثمد
يحفه جانبا نيقٍ وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد
وكملت مائة منها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فإن النابغة سرد هذه القصة بألفاظ الحقيقة عرية عن الحشو الخشن والمعيب، ولم يغادر منها شيئاً، ويروى البيت الأول سراع بسين مهملة، وهو أبلغ في وصف نظر الزرقاء، ويدل على صحة هذه الرواية أن قوله: واردى الثمد يغني عن قوله: شراع بشين معجمة فلم يبق الإسراع بسين مهملة لما يدل عليه من المبالغة في حدة نظر الزرقاء بدليل قوله بعد هذا البيت: وأسرعت حسبة.
فإن قيل: فما الفرق إذا بين الإيجاز والمساواة؟ قلت: المساواة لا تكون إلا في المعنى المفرد يعبر عنه بلفظ مساو له لا يزيد عليه ولا يقصر عنه، والإيجاز يكون في ذكر القصص والأخبار التي تضمنت معاني شتى متعددة، وخلاصة ذلك أن المساواة في معاني الجمل التي تتركب منها الأبيات والفصول، والإيجاز في الأبيات والفصول.
ومن الإيجاز نوع يختصر فيه بعض اللفظ ويؤتى بلفظ الحقيقة كقوله سبحانه: " والذين تبوءوا الدار والإيمان " فإن تقديره تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كما تقول: " رجز " :
علفتها تبناً وماء باردا
وكما قال الشاعر كامل مجزوء:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلد سيفاً ورمحا

أي ومعتقلاً رمحاً ومن إيجاز الكتاب العزيز قوله سبحانه وتعالى: " إن الله يأمر العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " فإنه عز وجل أمر في أول الآية بكل معروف، ونهى بعد ذلك عن كل منكر ووعظ في آخرها أبلغ موعظة وذكر ألطف تذكير بألفاظ اتفق فيها ضروب من المحاسن مع كونها ألفاظ الحقيقة، وهي صحة الأقسام، لأنها استوعبت جميع أقسام أجناس المعروف والمنكر، والطباقين اللفظي والمعنوي وحسن النسق والتسهيم، وحسن البيان، والإيجاز، وائتلاف لفظ الكلام مع معناه، والمساواة، وصحة المقابلة، وتمكين الفاصلة، فأما استيعاب الأقسام فلأنه سبحانه أمر بالعدل، وهو معاملة المكلف نفسه وغيره بالإنصاف، ثم أمر بعد العدل بالإحسان، وهو اسم عام يدخل تحته التفضل بعد العدل، وقدم ذكر العدل لأن العدل واجب، وتلاه بالإحسان لأن الإحسان مندوب، ليقع وضع الكلام على أحسن ترتيب، وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمره بمعاملته بالعدل والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي بصيغة تعريف الجنس ليستغرق كل ما يجب أن ينهى عنه، كما استغرق كل ما يجب أن يؤمر به، والمطابقة اللفظية في قوله تعالى: " يأمر " " وينهي " ، والمعنوية في قوله سبحانه " بالعدل والإحسان " وإيتاء ذي القربى وقوله " الفحشاء والمنكر والبغي " فإن الثلاثة الأخر أضداد الثلاثة الأول، لأن الأول من الفعل الحسن، والآخر من الفعل القبيح، فطابق بين الحسن والقبح مطابقة معنوية.
وحسن التنسيق في ترتيب عطف بعض الجمل على بعض كما ينبغي، حيث قدم العدل وعطف عليه الإحسان الذي هو جنس عام، وخص منه نوعاً خاصاً، وهو إيتاء ذي القربى، وعطفه عليه، ثم أتى بالأمر مقدماً، وعطف عليه النهي ثانياً، ثن رتب جمل المنهيات كما رتب جمل المأمورات في العطف، بحيث لم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه ولم يتقدم في ما يجب تأخيره.
وأما التسهيم فهو أن صدر الآية يدل على عجزها كما يدل صدر البيت المسهم على عجزه.
وأما حسن البيان فلأن لفظ الآية لا يتوقف في فهم معناه أحد إذ سلم من التعقيد في نظمه، فقد دل على معناه دلالة واضحة بأقرب الطرق، واستوى في فهمه الذكي والبليد، والقريب من هذه الصناعة والبعيد.
وأما الإيجاز فهو دلالة الألفاظ القليلة الحقيقية على المعاني الكثيرة من غير إشارة ولا إرداف ولا حذف.
وأما ائتلاف لفظ الكلام مع معناه، فلأن كل لفظة لا يصلح مكانها غيرها.
وأما المساواة فلأن ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه، لا تزيد عليها، ولا تقصر عنها.
وأما صحة المقابلة فلأن النهي قابل الأمر، والمنهيات قابلت المأمورات مع مراعاة الترتيب.
وأما تمكن الفاصلة فلأن مقطع الآية مستقر في مكانه، مطمئن في موضعه ومعناه متعلق بما قبله إلى أول الكلام، لأنه لا تحسن الموعظة إلا بعد الأمر والنهي، فإن الوعد والوعيد لا يقعان إلا بعد امتثال الأمر أو مخالفته والتذكرة بعد الموعظة.
ومن إيجاز الكتاب العزيز أيضاً قوله: " ولكم في القصاص حياة " لأنه قد أجمع النقاد على أن أبلغ كلام قيل في هذا المعنى قول القائل: " القتل أنفى للقتل " وإذا نظرت بين هذا الكلام وبين لفظ القرآن وجدت هذا الكلام ليس فيه من ضروب البديع سوى الإيجاز، مع كونه لم يخل من عيب، ووجدت لفظ القرآن قد جمع الآجام والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع، وسلم من العيب الذي جاء في ذلك الكلام.
فأما الإيجاز فلأن اللفظ المماثل من لفظ القرآن للأول هو قوله تعالى: " القصاص حياة " وهو عشرة أحرف، والأول أربعة عشر حرفاً، وأما الإيضاح فإن لفظة القصاص أوضحت المعنى المراد، إذ هو قتل مقيد، لا قتل مطلق، وأما الإشارة، ففي قوله سبحانه: " حياة " فإن هذه اللفظة أشارت إلى أن القتل الذي أوجبه العدل يكف القتل الذي يأتي به العدوان، وفي ذلك حياة الأحياء.
والكناية في قوله تعالى: القصاص فإنه كنى بهذه اللفظة عن الموت المستحق الذي يوجبه العدل.

وأما الطباق ففي قوله " القصاص حياة " لأن القصاص الموت، فكأنه سبحانه قال: الموت حياة، وهذا طباق معنوي. وأما حسن البيان، فكون المخاطب فهم المراد من هذا النظم من غير توقف، وأما الإبداع فلأن في كل لفظة من هذا الكلام عدة من المحاسن، وأما السلامة من العيوب بالنسبة فلأن الكلام خلا عن التكرار الذي وقع في الكلام الأول، فإن قيل لا يعد التكرار الذي وقع في قول القائل: " القتل أنفى للقتل " عيباً لاختلاف المعنى قلت: لكن اللفظ إذا اختلف معناه واتحدت صيغته اتحاداً لا يعد تحسيناً وكان الكلام به معيباً، فهذا عيب لفظ الكلام الأول الذي سلم منه لفظ القرآن، وأما عيب المعنى فلأن القائل سمى الخاص باسم العام، فإن مطلق القتل صالح للقصاص ولغيره، كما أنه صالح للعدوان ولغيره، وهذه العبارة موجبة للبس المضاد لحسن البيان الذي هو خارج مخرج العدوان ولفظ القرآن مخلص للعدل.
وإذا وصلت في هذا الباب إلى قوله تعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فإنه سبحانه أتى في هذه الآية الكريمة بأمرين ونهيين، وخبرين متضمنين بشارتين، في أسهل نظم، وأحسن لفظ، وأوجز عبارة، ولم يخرج الكلام عن الحقيقة في شيء من ذلك.
واعلم أن الإيجاز على ضربين: ضرب بسيط وضرب مختصر، ويكون البسيط مختصراً بالنسبة لغيره، فالبسيط كقصة يوسف عليه السلام من قوله: " نحن نقص عليك أحسن القصص " إلى آخر القصة، والمختصر مثل قوله على لسان يوسف عليه السلام: " هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " اختصر القصة كلها في هذه الآية، لأنه ذكر أصول الأسباب المستلزمة جميع المسببات التي هي جملة القصة، فإن قوله: " هذا تأويل رؤياي من قبل " اقتصر على ذكر رؤياه التي كانت سبب حسد اخوته حين فعلوا به ما فعلوا، وذكر خروجه من السجن الذي كان سبباً في الملك الذي كان سبباً في اجتماعه بأبيه واخوته، فكأنه قد اقتص جميع القصة مختصرة لمن يشارك في علمها، فالأولى لعلم تفاصيلها، والثانية لعلم جملها، وهذا أحسن إيجاز وقع في كلام، والله أعلم.

باب سلامة الاختراع من الإتباع

وهو أن يخترع الأول معنى لم يسبق إليه ولم يتبع فيه كقول، عنترة في وصف الذباب كامل:
هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
وكقول ابن الرقاع في تشبيه قرن الخشف كامل:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وكقول ذي الرمة في تشبيه الليل طويل:
وليل كجلباب العروس أدرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
وكقول النابغة الذبياني في وصف النسور طويل:
تراهن خلف القوم زوراً عيونها ... جلوس الشيوخ في مسوك الأرانب
فهذه اختراعات المتقدمين التي سبقوا إليها، ولم يلحقوا فيها.
وما اختراعات المولدين التي سبق إليها قائلها ولم يتبع فيها قول السيد الحميري في علي عليه السلام بسيط
لكن أبو حسن والله أيده ... قد كان عند اللقا للطعن معتادا
إذا رأى معشراً حرباً أنامهم ... إنامة الريح في أبياتها عادا

قال الحاتمي بعد إيراد هذين البيتين في هذا الباب: لم يسبق السيد إلى هذا المعنى، ولم يتبع فيه، فإنا ما سمعنا من شبه إنساناً بالريح غيره، وهذا وهم من الحاتمي لأن هذا المعنى لعبد الله بن العباس رضي الله عنه في الحديث الصحيح الذي وصف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجود في كل زمان، وخصوصاً في شهر رمضان حيث قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، كان كالريح المرسلة " فغاية ما فعله السيد أنه نقل المعنى من الوصف بالجود إلى الوصف بالشجاعة، وإلا فنفس المعنى في الموضعين تشبيه الإنسان بالريح، غير أن السيد أخذ المعنى نثراً، فعقده بالوزن شعراً فله هذه الفضيلة لا فضيلة الاختراع، وعلى هذا يكون باب حسن الإتباع أحق بهذا الشعر من باب سلامة الاختراع، ومن الجب كيف ذهب ذلك على الحاتمي مع تقدمه في الأدب وحذقه بالنقد هذا على أننا جعلنا تشبيه الحميري نفس الإمام علي رضي الله عنه بالريح مجازاً، والحقيقة في ذلك غير هذا، لأن لفظ البيت يدل على أنه شبه بإنامة الإمام محاربيه بإنامة الرياح عاداً، فالشاعر إنما شبه إنامة بإنامة، لأنفس المنيم بنفس الريح، ومن اختراعات المحدثين قول ابن الرومي في تشبيه الرقاقة حين يبسطها الخباز في القطعة المشهورة التي أولها بسيط
لا أنس ما أنس خبازاً مررت به ... يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
إلى قوله:
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمي فيه بالحجر
وإذا وصلت إلى قول ابن حجاج في هذا البيت وصلت إلى الغاية التي لا تلحق، حيث يقول في رئيس كان قريباً من قلبه، بعيداً من رفده طويل:
وإني والمولى الذي أنا عبده ... طريفان في أمر له طرفان
بعيداً تراني منه أقرب ما ترى ... كأني يوم العيد من رمضان
ومتى شئت أن تتلاشى في هذه المعاني عندك قديمها وحديثها فتدبر ما جاء من هذا الباب في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " فانظر إلى غرابة هذا التمثيل الذي يتضمن هذا الإفراط في المبالغة مع كونه جارياً على الحق خارجاً مخرج الصدق، إذا اقتصر فيه على ذكر أضعف المخلوقات وأقلها سلباً لما تسلبه، وتعجيز كل من دون الله سبحانه كائناً من كان عن خلق مثله، ثم نزل بهم في التمثيل عن رتبة الخلق إذ هي مما يعجز عن مثلها كل قادر غير الله عز وجل إلى استنقاذ النزر التفه الذي تسلبه الذباب على ضعفها، لأن الظفر بنفسها أيسر من الظفر بما تسلبه، ولم يسمع مثل هذا التمثيل في بابه لأحد قبل نزول القرآن العزيز، ولم يتناوله متناول كما فعل في أكثر المعاني إلى الآن، ولو تتبع ذلك في الكتاب الكريم لوجد لهذا الموضع أمثال شتى كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " حمى الوطيس " و " مات حتف أنفه " " ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " ، " والسعيد من وعظ بغيره " في أشياء كثيرة مما اخترعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبع فيه إلى الآن.

باب حسن الإتباع

وهو أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيره فيحسن إتباعه فيه، بحيث يستحقه بوجه من وجوه الزيادات التي وجب للمتأخر استحقاق معنى المتقدم إما باختصار لفظه، أو قصر وزنه أو عذوبة قافيته وتمكنها، أو تتميم لنقصه، أو تكميل لتمامه، أو تحليته بحلية من البديع يحسن بمثلها النظم، ويوجب الاستحقاق كقول جاهلي في وصف جمل له طويل:
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاد شوقي من معاهدها ذكر
وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر، إن عادتك الصبر
فأحسن ابن المعتز ابتاعه في هذا المعنى حيث قال يصف خبله طويل:
وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذبل
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بنا أيد سراع وأرجل

فإن ابن المعتز عمد إلى معنى البيتين المتقدمين فعمله في صدر بيته الثاني، وذلك أن حاصل قول الجاهلي في بيته: إن هذا الجمل لا ذنب له. وإنما ضربته مرة بعد أخرى لما هيج لي ذكر معاهد هذه المعشوقة من الشوق، فتوهمت أنه بالضرب يخرج عن حد الاستطاعة، ويأتي من السير بما ليس في الطاقة، وأكد كون هذا العود لا ذنب له بقوله في البيت الثاني:
وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر، إن عادتك الصبر
يعني أنك لولا اشتياقي لذلفاء لم تكن محتاجاً إلى الضرب جملة، وأكد هذا التأكيد بكونه شهد له أن عادته الصبر فإن قيل: ظاهر قوله: قليل الذنب يدل على ذنب قليل، ولذلك قال عاودت ضربه أي أنه أذنب فضربته بها ثم لما اشتقت عاودت ضربه، فالضرب الأول، استحقاقاً، والثاني ظلماً.
قلت: لو انفرد البيت الأول من الثاني ساغ هذا التأويل حملاً على الظاهر لكنه، مع انضمامه إلى البيت الثاني لا يسوغ، فإنه قال فيه:
وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب .. ... ... ... ...
وآلة التعريف في الضرب للجنس، لأن ذلفاء هي التي سببت لك الضرب أولاً وأخراً، فإنك لولاها ما هاج لي من شوقي لمعاهدها فأذهلني حتى توهمت أن الضرب يخرج بك عن الحد الذي لم تكن محتاجاً إليه، ويدل على صحة ذلك شهادته له بالصبر مطلقاً في كل حال، إذ الألف واللام فيه للجنس أيضاً، وإذا كان صابراً مطلقاً دل صبره على شدة السير ومتابعته يجري ذلك الجري، فلا يقع ضربه إلا ظلماً، وأما قوله: قليل الذنب، فعلى عادة العرب في استعمال هذه اللفظة، وهي تريد مطلق النفي في قولهم: فلان قليل الخير وهم يريدون نفي الخبر عنه كثيره وقليله، وكل هذا حاصل في قول ابن المعتز " صببنا عليها ظالمين سياطنا " فإن قوله: صببنا هو عين قول العرب " عاودت ضربه " وما دل عليه لفظه من كون الضرب كان ظلماً هو عين قول ابن المعتز: ظالمين بلفظ الإيجاز، فحسن البيان في كلام ابن المعتز بخلاف كلام الأول، لأن دلالة اللفظ في كلام ابن المعتز دلالة مطابقة، ودلالة الأول دلالة التزام، ولم يعوز ابن المعتز من معنى الأول إلا التعليل، فإنه ذكر العلة التي لأجلها ضرب جملة ظلماً كما أعوز الأول من معنى ابن المعتز ذكر ثمرة الضرب وفائدته، فإن ابن المعتز لما قال:
صببنا عليها ظالمين سياطنا
قال عقيب ذلك: فطارت، وأدمج في ضمن هذه المبالغة التي هي ثمرة الضرب وصف الخيل بعدوها من موجبات الضرب، وحقق ظلمه لهن أنها لما خرجت من الوحشية إلى الطيرية فقد أحسن ابن المعتز الإتباع غاية الإحسان.
ومن حسن الإتباع اتباع أبي نواس جريراً في قوله " الوافر " :
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضاباً
حيث قال ونقل المعنى من الفخر إلى المديح: سريع
ليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
فزاد على جرير زيادات: منها أن جريراً أخرج كلامه مخرج الظن حيث قال: حسبت وإن كانت قد تقع بمعنى العلم خرجت المبالغة إلى حد الغلو، وعيب الكلام بما هو أشد من التقصير.
ومنها أن جريراً لم يذكر من العالم سوى نوع الإنسان، وأبو نواس زاد على جرير بما يتضمنه ذكر العالم من الملائكة والجن والأفلاك وكل موجود سوى الله سبحانه، وأخرج كلامه مخرج الإسجال، بثبوت دعواه في هذا الممدوح بتعظيم قدرة الله تعالى على الإتيان بهذا الخارق الذي لا يقدر عليه غيره، واتبع أبا نواس في هذا المعنى الوزير المغربي فقال بسيط
حتى إذا ما أراد الله يسعدني ... رأيته فرأيت الناس في رجل
فإن الوزير أحسن إتباعه لأبي نواس بما وقع له من الزيادات، منها الإيجاز، فإنه عمل معنى عجز بيت أبي نواس في بعض عجز بيته، فنقله من ثمانية عشر حرفاً إلى أربعة عشر حرفاً، والتعليل في كونه جعل العلة في إسعاده رؤية هذا الممدوح، وجعل ذلك مراد الله سبحانه ليحقق مدحه بتحقيق وقوعه، وإن كان قد قصر عن أبي نواس في كونه اقتصر من العالم على ذكر الناس، كما فعل جرير، فقد جبر ذلك الوهن بما زاد من المبالغة في المدح فإنه جعل ممدوحه ابتداء سعادته ونقص من اللفظ. على أن ذكر الناس في بيتي جرير والوزير ملائم لذكر جرير بني تميم وذكر الوزير لفظة رجل، ولو لم يكن بيت أبي نواس أخصر وزناً من بيت جرير لكادا يتساويان.

ومن أحسن ما سمعت في حسن الإتباع إتباع منصور الفقيه المصري رحمه الله تعالى عنترة في قوله كامل:
إني أمرؤ من خير عبس منصبا ... شطري، وأحمي سائري بالمنصل
فإن الفقيه قال في شريف سبه وكان شريفاً من جهة أبيه دون أمه " مجتث " :
من فاتني بأبيه ... ولم يفتني بأمه
ورام شتمي ظلماً ... سكت عن نصف شتمه
فإن هذا الفقيه رحمه الله تعالى أحسن غاية الإحسان من وجوه: أحدها الإيجاز، فإنه عمل معنى عنترة الذي جاء به بيت من تام الكامل، المركب من اثنين وأربعين حرفاً في بيت من المجتث مركب من ستة وعشرين حرفاً.
والمطابقة المعنوية حيث قال بأبيه وأمه، فإنه طابق في ذلك بين الذكر والأنثى.
هذا وبيته الذي أتى فيه على معنى غيره وزاد ما أبديناه من الزيادة بيت توطئه، كبيت وقع فيه من الإغراب والطرفة ما لم يقع في مثله، وهو قوله:
سكت عن نصف شتمه
ومن هذا الباب قول ابن الرومي طويل:
تخذتكم درعاً حصيناً لتدفعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها
وقد كنت أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي ... ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي للعدا ونبالها
فاتبعه ابن سنان الخفاجي الحلبي فقال كامل:
أعددتكم لدفاع كل ملمة ... عوناً فكنتم عون كل ملمة
وتخذتكم لي جنة فكأنما ... نظر العدو مقاتلي من جنتي
فلأنفضن يدي يأساً منكم ... نفض الأنامل من تراب الميت
وألطف ما قيل في هذا المعنى قول القائل وافر:
وإخوان تخذتهمو دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وقد تقدمت هذه الأبيات، وإنما أتيت بها هاهنا ليظهر لطفها بالنسبة إلى ما تقدمها في معناها.
ومن مليح حسن الإتباع ما وقع بي ابن الرومي وبين أبي حية النميري فيما قاله في زينب أخت الحجاج حيث قال طويل:
تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات
يخمرن أطراف البنان من التقى ... ويبرزن شطر الليل معتجرات
فهن اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطعن الحشا حسرات
والبيت الأخير أردت، فإن ابن الرومي اتبعه فيه فقال وأتى بمعنى البيت كاملاً في نصف بيت: كامل:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وغير السعيد ابن سناء الملك رحمه الله من وجوه قائلي هذا المعنى قديماً وحديثاً حيث قال طويل:
إذا هجرتني شيبتني بهجرها ... وإن واصلتني شيبتني بطيبها
ومن محاسن هذا الباب أيضاً إتباع المعري أبا عبادة البحتري في قوله كامل:
أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجب وبر راح وهو جفاء
فقال المعري بسيط
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
لأنه استوعب معنى البيتين في صدر بيته، وأخرج العجز مخرج المثل السائر الصحيح، وعوض عما فاته من بديع الألفاظ مثل المطابقة المقابلة بالتجنيس والتمثيل، ففي بيت أبي عابدة من الإغراب والطرفة معنى لم يفت أبا العلاء، فإن كون الصلة بعينها قطيعة، والبر بنفسه جفاء، من الغريب الظريف، ولا جرم أنه أتى بذكر التعجب من ذلك، وكذلك طلب الاختصار من الإنسان، وجعل ما هو من أقوى أسباب الزيادة سببا في قطع الزيادة من الغريب الطريف أيضاً، وإذا نظرت إلى ما في بيت المعري من كونه يسد في التمثيل به مسد البيتين مع إيضاح معناه وما فيه من حسن البيان، وكون ما فيه من التجنيس والتصدير ليكون صلة بين المعنى والزيادة، وأساً لقافيته المستجادة، ثبت الفضل لبيت المعري.
ولقد أحسن البحتري في إتباع الحزين الكناني في قوله بسيط
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
فإن البحتري قال بسيط

إن أطرق استوحشت للخوف أفئدة ... ويملأ الأرض من أنس إذا ابتسما
ومن حسن الإتباع اتباع ابن المعتز بشار في قول بشار طويل:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فإن ابن المعتز قال: طويل:
إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا ... وسارت ورائي هاشم ونزار
وعم السماء النقع حتى كأنه ... دخان وأطراف الرماح شرار
فإن بشاراً قال فوق رءوسنا والليل لا يخص رءوسهم لعموم ظلمته الآفاق، وابن المعتز تخلص من هذا الدخل بقوله: وعم السماء النقع دليل على كثرة الجيش وانتشاره، ولذلك قال في بيت التوطئة: أوقرت البلاد حوافراً، وكان مثل هذا لائقاً به لمكانه من الملك.
ومن حسن الإتباع إتباعي ابن الرومي في قوله بسيط
سد السداد فمى عما يريبكم ... لكن فم الحال مني غير مسدود
فإني اتبعته في هذا المعنى فقلت كامل:
هبني سكت أما لسان ضرورتي ... أهجى لكل مقصر عن منطقي
فإن بيت ابن الرومي وقع فيه من المحاسن أربعة عشر ضرباً، وهي التجنيس في قوله سد السداد، والتفسير في قوله عما يريبكم، والاستدراك في قوله: لكن وما بعدها، والاستعارة في قوله: فم الحال، والتصدير فيما بين القافية وأول البيت، والتمثيل، فإن البيت خرج مخرج المثل، والمساواة، لأن لفظ البيت طبق معناه، والائتلاف، لأن كل لفظة من مفردات ألفاظه لا يصلح مكانها غيرها، والإرداف في قوله: لكن فم الحال، العجز كله: فإنه أراد أن يقول: سوء حالي ينطق بذمكم، فعبر عن المعنى بلفظ هو ردفه حيث قال:
لكن فم الحال مني غير مسدود
فراراً من التصريح بالذم والافتنان لأنه أشار إلى فن الفخر بوصف نفسه بالسداد، والبيت من فن العتاب، والتعليق لأن فن الفخر متعلق بفن العتاب، والإدماج لأن الإشارة فيه مندمجة في التفسير في قوله: عما يريبكم، لأن كل ما يريب لو عدد بلفظه الموضوع له لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة، والتعطف في ذكر الفم في صدر البيت مع ذكره في عجزه، والتهذيب لمجيء جملة صدره على ترتيب الوضع اللغوي البليغ، من تقديم الفعل على الفاعل، وتقديم الفاعل على المفعول، وتقديم المفعول الذي تعدى الفعل بنفسه إليه على الفعل الذي تعدى إليه بالحرف، وكذلك رتب العجز من تقديم حرف الاستدراك على الجملة الابتدائية، وتقديم المبتدإ على الخبر.
واتفق في بيتي سبعة عشر ضرباً من البديع، وهي المطابقة في السكوت النطق، واستعارة اللسان للضرورة، والمبالغة في قولي: أهجى والتكميل في قولي: لكل مقصر، والتفسير في قولي: من منطقي، والتمكين من أجل أن القافية مستقرة في مكانها، والمساواة في كون لفظ البيت طبق معناه، والائتلاف في أن كل لفظة لا يقوم غيرها مقامها، والإيجاز في تفاصيل البيت وجملته بالنسبة إلى البيت الذي قبله، فإن قولي هبني سكت أوجز من قول ابن الرومي: سد السداد فمى، لأن ملخص كلامي سكت، وملخص كلامه: سد فمي. وقولي: لسان ضرورتي، أوجز من قوله فم الحال مني، وقولي: أهجي، أوجز من قوله غير مسدود، فهذا إيجاز تفاصيل البيت، وأما إيجاز جملته فلأن حروف بيتي اثنان وأربعون حرفاً، وبيت ابن الرومي خمسة وأربعون حرفاً، مع أنهما قد استويا في عدة المتحركات، إذ كل بيت منهما سبعة وعشرون متحركاً والانسجام بالنسبة، لأن بيتي جاء عرياً عن الكلفة بخلاف بيته، والإيضاح لأن المعنى المراد في ألفاظ بيتي أشد وضوحاً من معناه، فإن بيتي لا يفتقر في دلالته على معناه لشيء مقدر بخلاف بيته، ومفردات ألفاظي أشد وضوحاً لمعانيها من مفردات بيته، لأن قولي: أهجى، أدل على معنى الهجاء بظاهره من قوله: عما يريبكم، وكلا البيتين المراد به التهديد بصريح الهجاء نطقاً دون هيئة، وفي قولي هبني سكت، إشارة إلى أني لا أسكت، ثم قلت على حكم التنزل الجدلي: وهبني سكت أيسكت لسان ضرورتي؟ وفي قول ابن الرومي:
سد السداد فمى عما يريبكم

إسجال على نفسه بالسكوت عن هجوهم، وهذا غير مراده الذي أراده من التهديد، وإذا وضح معنى الكلام هذا الوضوح في لفظ قد انتخبت مفرداته وحسن تركيبه وسهل فهمه، كان موصوفاً بحسن البيان دون غيره، ومنعوتاً بالتهذيب دون سواه، وإذا استوى البيتان في المعنى وكان أحدهما أخصر وزناً وأبلغ معنى وكانت محاسنه أكثر، وعرى مما وقع في أخيه من العيوب، كان قائل موصوفاً بحسن الإتباع، وبيتي كذلك، لا سيما وقد وقع فيه مع هذا الإبداع، وهو تضمن كل لفظة بديعاً أو بديعين، مثل تضمن هبني سكت، الترشيح للاستعارة التي في لسان ضرورتي، وفيها بعدها الضرب الجدلي الذي سماه أهل الصناعة المذهب الكلامي، وفي الضرب تفسير وتمكين، وفي جملة البيت ما تقدم، فحصل في البيت سبعة عشر ضرباً من البديع قد تقدم ذكرها مفصلة، وسياقها جملة: المطابقة، المذهب الكلامي، الترشيح، الاستعارة، المبالغة، التكميل، التفسير، التمكين، المساواة، الائتلاف، الإيجاز، الإيضاح، حسن البيان، الإبداع، التهذيب، الانسجام، حسن الإتباع، ففضل بيتي بيت ابن الرومي بثلاثة أضرب من البديع، وخلوه من العيب الذي بسببه امتنع به أن يوصف بالانسجام.
ومن حسن الإتباع إتباع الأخطل النابغة الذبياني في قوله طويل:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فقال طويل:
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما صنع الدهر
فهذا من الإتباع الذي ليس بحسن، وإنما ذكرته في هذا الباب لأذكر بعده الإتباع الحسن فيبين فضله:
والضد يظهر حسنه الضد
ومنه قول علي بن جبلة طويل:
وما لامرئ حاولته منك مهرب ... ولو رفعته في السماء المطالع
بلى هارب لا يهتدي لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع
فإني رأيت أكثر العلماء رجحوا هذا البيت على بيت النابغة، وفي الشعرين عندي بحث يضيق عنه هذا المكان، ومثل هذا المعنى قول سلم الخاسر بسيط
فأنت كالدهر مبتوتاً حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح أصرفها ... في كل ناحية ما فاتك الطلب
وتناوله البحتري فقال: كامل:
ولو أنهم ركبوا الكواكب لم يكن ... ينجيهم من خوف بأسك مهرب
وكل هذه المعاني متلاشية في جنب قول الله تعالى: " يا معشر الجن الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " وقد جاء من ذلك في السنة النبوية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالرعب، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل " .
ومن حسن الإتباع إتباع نصيب الأعشى في قول الأعشى طويل:
وإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق
فقال نصيب طويل:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ومنه ابتاع أبي تمام عنترة في قول عنترة كامل:
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم
فقال: أعني أبا تمام بسيط
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخر يلثم منه موطئ القدم
وابتعه البحتري فقال كامل:
ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
واتبعه المتنبي فقال: كامل:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
وكل هذا من قوله تعالى: " يوم نقول لجهنم هل امتلأت " الآية، وقوله سبحانه: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها " الآية وقوله عز وجل: " تكاد تميز من الغيظ " ، والله أعلم.

باب حسن البيان

حسن البيان عبارة عن الإبانة عما في النفس بألفاظ سهلة بليغة بعيدة من اللبس، كما قال الشاعر خفيف:
خطباء على المنابر فرسا ... ن على الخيل قالة غير خرس
لا يعابون صامتين وإن فا ... هوا أبانوا ولم يفوهوا بلبس
والبيت الثاني أردت.

وهو أعني حسن البيان إما بالأسماء والصفات المنفردة وإما بهما مؤتلفة، ودلالة الأول متناهية، ودلالة الثاني غير متناهية، فإن قائلاً لو قال: قد انتهى تأليف الشعر بحيث لا يمكن أن يؤتى بقصيدة إلا وقد قيلت من قبل، كان قوله محالاً، إلا أن تقول: أردت الوزن والتقفية لا غير، وأما جملة القصيد ومجموع صورتها فلا، لأن دلالة التأليف غير متناهية، كما أن الأعداد الممكنة ليس لها نهاية، غير أن البيان فيه الأقبح والأحسن، والوسائط بين هذين الطرفين، فالأقبح كبيان باقل وقد سئل عن ثمن ظبي كان معه، فأراد أن يقول: أحد عشر، فأدركه العي، حتى فرق أصابع يديه وأدلع لسانه، فأفلت الظبي، وهذا أقبح بيان، مع أن قد بالغ في الإفهام، لكونه أخرج تعريف العدد من السماع إلى العيان، ومن هاهنا يعلم أنه ليس كل إيجاز بلاغة، ولا كل إطالة عيا، فإنه لا إيجاز في الإفهام أوجز من بيان باقل، لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة واحدة، ومع ذلك ضرب به المثل في العي بهذا البيان، والأحسن أن يقول: أحد عشر، والوسائط أن يقول مثلاً: ستة وخمسة، أو عشرة وواحد، أو خمسة وخمسة وواحد، والوسائط تعلو وتسفل بحسب قربها من البلاغة وبعدها بالنسب والإضافات، وبيان الكتاب العزيز وكل كلام بليغ فصيح من الأحسن دون الأقبح ودون الوسائط، لكن الأحسن أيضاً تتفاوت طبقاته كالوسائط، فمنه الأعلى والأدنى والأوسط بالنسبة، وحقيقة حسن البيان إخراج المعنى المراد في أحسن الصور الموضحة له، وإيصاله لفهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها، لأنه عين البلاغة، وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز، وطوراً من طريق الإطناب كثرة العبارة بسبب كثرة المعاني، والإسهاب كثرة العبارة عن المعنى الواحد، والمعاني القليلة، والأول بعينه هو حد البلاغة وحقيقتها، وبه جاء كل بيان القرآن، كقول الله تعالى وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين " وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن الوعد " إن المتقين في مقام أمين " الآية، وكقوله عز وجل وقد أراد أن يبين عن الوعيد " إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين " وكقوله في الاحتجاج القاطع للخصم: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وكقوله تبارك وتعالى وقد أراد أن يبين عن تقريع الكفار: " أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين " وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن التحير: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن العدل: " ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه " وأمثال هذه المواضع كثيرة لمن يتتبعها.
ومما جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية منسرح:
يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكر
وكقول الآخر طويل:
له لحظات عن خفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
فإن هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة، ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم المهابة بعد الله سبحانه، فإذا نظر أحدهما نظرة، أو حرك القضيب مرة، أو أطرق مفكراً لحظة، اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس، فأبانا عن هذه المعاني أحسن إبانة بخلاف قولي طويل:
بكفيه نفع العالمين وضرهم ... فنعمى لذي حسني وبؤسي لمجرم
فإني أردت الإبانة عن معنى أبي العتاهية والذي بعده، فأبنت عنه بياناً غير حسن ولا قبيح، ولم يكن في قوتي الإبانة عن المعنى بأحسن بيان كما فعلاً، فإن بيتي يصلح أن يكون في شواهد الوسائط في هذا الباب، وإن كان أبو العتاهية والذي بعده ألما في معناهما بالحزين الكناني حيث يقول في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقد وفد عليه وهو عامل مصر لأبيه بسيط
لما وقفت عليه في الجموع ضحى ... وقد تعرضت الحجاب والخدم
حييته بسلام وهو مرتفق ... وضجة الناس عند الباب تزدحم
في كفه خيزران ريحها عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
والبيت الأخير أردت.

والفرق بين ما سميته في بيت أبي العتاهية والذي بعده حسن بيان وبين الإشارة، أن الإشارة لا تكون بلفظ الحقيقة، وحس البيان يكون بلفظ الحقيقة وبغيره، فما كان منه بلفظ الحقيقة فهو من البيان الأحسن، وما كان بغير لفظ الحقيقة فهو من البيان الحسن، ولا بد أن يكون لفظه أقرب إلى لفظ الحقيقة من لفظ الإشارة، كما أن لفظ الإشارة أقرب إلى لفظ المعنى من لفظ الإرداف، ولفظ الإرداف أقرب من لفظ التمثيل، ألا ترى أن لحظات الناظر تدل على الغضب والرضا أسرع ما يدل قيد الأوابد على سرعة عدو الفرس، والإنسان يجد الفهم يسرع إلى مدلول اللحظات أقرب من سرعته إلى مدلول قيد الأوابد والفرق أيضاً بين حسن البيان والإيضاح، أن الإيضاح يكون بالعبارة الفاضلة والعبارة النازلة، وحسن البيان لا يكون إلا بالعبارة الفاضلة، والله أعلم.

باب التوليد

التوليد على ضربين: من الألفاظ ومن المعاني، فالذي من الألفاظ على ضربين أيضاً، توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره، وتوليده من لفظ نفسه، والأول هو أن يزوج المتكلم كلمة من لفظه إلى كلمة من غيره، فيتولد بينهما كلام ينقض غرض صاحب الكلمة الأجنبية، وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة.
مثاله ما حكى أن مصعب بن الزبير وسم خيله بلفظة عدة فلما قتل وصار إلى العراق رآها الحجاج فوسم بعد لفظة عدة لفظة الفرار فتولد بين اللفظتين غير ما أراده مصعب.
ومن لطيف التوليد قول بعض العجم، وهو توليد المتكلم ما يريد من لفظ نفسه وافر:
كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشي العذب صاد
وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد
فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص، وولد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم، فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج، وهذا من أغرب ما سمعت في ذلك، وهو الثاني من التوليد اللفظي.
ومن توليد الألفاظ توليد المعنى من تزويج الجمل المفيدة.
ومثاله ما حكى أن أبا تمام أنشد أبا دلف:
على مثلها من أبع وملاعب
فقال: من أراد نكتة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فولد بين الكلامين كلاماً ينافي غرض أبي تمام من وجهين: أحدهما خروج الكلام من النسيب إلى الهجاء بسبب ما انضم إليه من الدعاء، والثاني خروج الكلام من أن يكون بيتاً من شعر إلى أن صار قطعة من نثر.
ومن هذا الضرب قول الشاعر طويل:
ألوم زيادا في ركاكة عقله ... وفي قوله أي الرجال المهذب
وهل يحسن التهذيب منك خلائقا ... أرق من الماء الزلال وأطيب
تكلم والنعمان شمس سمائه ... وكل مليك عند نعماك كوكب
ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصر منه شمسه وهو غيهب
فإن هذا الشاعر زوج مدحة ممدوحه بتهذيب الأخلاق إلى قول النابغة أي الرجال المهذب فتولد بين الكلام ما ينافي غرض النابغة، حيث أخرج الشاعر كلامه مخرج المنكر على النابغة ذلك الاستفهام، وأوضح مناقضته للنابغة في بيته الثاني، وهو قوله: وهل يحسن التهذيب، البيت، وزوج قوله في عجز البيت الثالث:
وكل مليك عند نعماك كوكب
إلى قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب
بدليل قول الشاعر عن النابغة:
تكلم والنعمان شمس سمائه
البيت، فتولد بين الكلامين قوله طويل:
ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصر منه شمسه وهو غيهب
فهذا الضرب الأول من التوليد بأقسامه، وهو ما تولد من اللفظ.
وأما الضرب الثاني منه، وهو ما تولد من المعاني، كقول القطامي بسيط
قد يدرك المتأنى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
فقال من بعده بسيط
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله، ومعنى عجز البيت مولد بينهما، وهو قوله:
إن التخلق يأتي دونه الخلق
والقطامي أخذ معناه من عدي بن زيد العبادي حيث قال سريع:
قد يدرك المبطئ من حظه ... والخير قد يسبق جهد الحريص
وعدي نظر إلى قول جمانة الجعفي طويل:
ومستعجل والمكث أدنى لرشده ... لم يدر في استعجاله ما يبادر

ومن التوليد توليد بديع من بديع كقول أبي تمام طويل:
له منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب
فإنه ولد قوله: قيد النواظر من قول امرئ القيس: " قيد الأوابد " لأن هذه اللفظة التي هي قيد انتقلت بإضافتها من الطرد إلى النسيب، فكأن النسيب تولد من الطرد، وتناول اللفظة المفردة لا يعد سرقة كتناول هذه اللفظة.
ومن التوليد نوع آخر وهو توليد المعاني، والذي مضى توليد الألفاظ، وهو أن يزوج المتكلم معنى من معاني البديع بمعنى فيه، فيتولد بينهما فن مدمج في فن كقولي طويل:
شفيعي عند الغيد مسود وفرتي ... إذا ما غدا غيري وشافعه الوفر
فإني لما زوجت التجنيس بالمبالغة تولد بينهما تفضيل الشباب على المال، فالتجنيس قولي: وفرتي والوفر والمبالغة تسميتي الشباب شفيعاً والوفر شافعاً، وفعيل من أبنية المبالغة بخلاف فاعل، وتفضيل الشباب جاء مدمجا في الغزل، لأن البيت بمعناه الذي قصد التغزل، وهذا توليد كما ترى، ولا يقع في الكتاب العزيز من التوليد إلا توليد المعاني البديعية، ومن ذلك ما وقع في قوله تعالى: " قل رب احكم بالحق " فإني استخرجت من هذه الآية أربعة عشر نوعاً من البديع أمهاتها خمس، وهي: الأرداف والتتميم والائتلاف والتهذيب، وتولد من هذه الأمهات تسعة أضرب، وهي الإيضاح والإدماج والافتنان وحسن البيان والمقارنة والامتزاج والإيجاز والإبداع، والمثل السائر، وشرح ذلك يضيق عنه هذا المكان، وقد أفردته في صحيفة على انفراده، والله أعلم.

باب التنكيت

وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون أشياء كلها يسد مسده، لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود ترجح اختصاصه بالذكر دون ما يسد مسده، ولولا تلك النكتة التي انفرد بها لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهراً عند أهل النقد.
ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله سبحانه: " وأنه هو رب الشعرى " فإنه سبحانه وتعالى خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم، وهو رب كل شيء، لأن العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعرى، ودعا خلقاً إلى عبادتها، فأنزل الله سبحانه: " وأنه هو رب الشعرى " التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم. وكقوله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فإنه سبحانه إنما خص " تفقهون " دون " تعلمون " لما في الفقه من الزيادة على العلم، والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام والتفقه في معرفة كنه التسبيح من الحيوان البهيم والنبات والجماد الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه.
ومن غريب التنكيت قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء " فإنه يقال: لم اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر التي يكون الله سبحانه المولدات الثلاث منها؟، فيقال: النكتة التي رجحت الاقتصار على الماء دون بقية العناصر قوله " كل دابة " بلفظ الاستغراق لكل ما دب، وليس في العناصر الأربعة ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء، ليدخل الحيوان البحري فيها.
من أمثلة هذا الباب الشعرية قول الخنساء وافر:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
فخصت هذين الوقتين وإن كانت تذكره في كل وقت، لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة تأبين الميت، والمبالغة في وصفه بالشجاعة والكرم، لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدى، ووقت غروبها وقت وقود النيران للقرى.
ومن أمثلة الباب أيضاً قول المتنبي كامل:
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها
فإنه إنما خص الميمات دون غيرها من الحروف، لكونها تشبه الحوافر من جهة استدارتها، فإن قيل: إن كان أراد تشبيه الحوافر فالعدول إلى العينات أولى، لأنها بالحوافر أشبه، ولا سيما عنده، حيث شبه الحافر بالعين، في قوله لسيف الدولة منسرح:
أول حرف من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد

قلت: يترجح ذكر الميمات دون العينات لوجهين: أحدهما أن الميمات في الكلام أكثر من العينات، لأنها تقع أصلاً وزائدة، والعينات لا تقع إلا أصلية، والثاني أنها أصغر شكلاً، واختصاص ما هو أصغر وأكثر في باب الإحصاء أمدح للموصوف بالإحصاء من ذكر ما هو أقل وأكبر وإنما مدحه بالإحصاء في حالة الركض، لأن الإحصاء يدل على ثبات الجأش وحضور الحس وعدم الدهش والطيش في وقت الركض.
ومن دقيق ما وقع في البيت من ملاءمة الألفاظ بعضها لبعض الدالة على الائتلاف قوله: مهره ولم يقل طرفه لكونه الطرف يقع على المهر، وعلى القارح فيتخلص من الاشتراك الموجب عدم الملاءمة لأن صغر حافر المهر ملائم لصغر شكل الميم، فحصل في البيت إدماج الائتلاف في المبالغة وتعليق المدح بالنبات بالوصف، وهذا من ألطف ما وقع في هذا الباب.
ومن بديع أمثلة هذا الباب قول عنترة، وهو مما يسأل عنه كامل:
ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغراب الأسحم
فإن لفظة الحمولة تدل على الرحيل، وكذلك كونها وسط الديار وعلوفتها هذا الحب المخصوص يدل على بعد الرحلة، فإنه حب يقوي أعصاب الإبل، وهذا العدد من الحلوبات السود الصقيلة الحسان يدل على كثرة المال وانتخابه، وكذلك لا يكون إلا للملوك، فهو يدل على أن المعشوقة من بنات الملوك، وفي ذلك فخر لمن يميل إليها، والله أعلم.

باب الاتفاق

وهو أن تتفق للشاعر واقعة تعلمه العمل في نفسه، فإن للسبق إلى معاني الوقائع التي يشترك الناس في مشاهدتها أو سماعها فضلاً لا يجحد، كما اتفق لبعض شعراء مصر، ويقال إنه الرضى بن أبي حصينة، وقد أغزى الملك الناصر صلاح الدين حاجبه حسام الدين لؤلؤ الإفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، فظفر الحاجب بهم، فقال ابن أبي حصينة في تهنئته مخاطباً للإفرنج بسيط
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير
ثم قال بعد أبيات مخاطباً للملك الناصر رحمه الله بسيط
فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كان منسوب إلى البحر
وكما قال ابن الساعاتي وقد قصد الملك الناصر رحمه الله بيت يعقوب من حصون الشام فقال مخاطباً الإفرنج طويل:
دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
وكما اتفق لي وقد لقي الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب بن عمه الملك الظافر الخضر بن يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى بملتقى الخابور والفرات، فاتفق لي أن قلت طويل:
غدا مجمع البحرين شاطئ فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقى الخضرا
وكما قلت عند اجتماع الملك الأشرف هذا بأخيه الملك الكامل رحمهما الله تعالى بمصر من قصيدة أهنئ فيها مصر بذلك مخبراً عنها طويل:
تقول وموسى قد أتى لمحمد ... أهل ليلة الإسراء عاد بها الدهر؟!
وكقولي من قطعة هنأت بها فخر الدين عثمان بن قزل رحمه الله تعالى بمولودين جاءاه في ليلة واحدة " مجتث " :
ليهن علياك بدرا ... ن زينا الخافقين
الآن صرت يقينا ... عثمان ذا النورين
ومن الاتفاق أن يتفق للشاعر أسماء لممدوحه ولآبائه يمكنه أن يستخرج منها مدحاً لذلك الممدوح، ولو لم تتفق تلك الأسماء على ما هي عليه لما اتفق استخراج ذلك المدح، كقول أبي نواس كامل:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقد وقع في هذا البيت مع لطيف الاتفاق مليح الازدواج في قوله:
عباس عباس، والفضل فضل ... والربيع ربيع ولأبي نواس
من القسم الأول من الاتفاق ما لم يتفق مثله في مرثية يرثى بها خلفاً الأحمر منسرح:
وكان ممن مضى لنا خلفاً ... وليس إذ بان منه من خلف
فإنه اتفق له من اسم المرثي تورية حسنت موقع هذا البيت إلى أن أتى في الطبقة العليا والغاية القصوى.

باب النوادر

وهو الذي سماه قدامة قديماً الإغراب والطرفة، ولم يفرد له باباً في المحاسن فاذكره في أبوابه، وسماه من بعده التطريف، وسماه قوم النوادر، وقوم أبقوا عليه تسمية قدامة، وأفردوه باباً، فتبعتهم في ذلك، وأتيت به، وهو آخر أبواب من تقدمني من جميع الناس في غالب ظني وهو أن يأتي الشاعر بمعنى غريب لقلته في كلام الناس وليس من شرطه على رأي قدامة فيه غير ذلك وقال: لا يكون في المعنى إغراب إلا إذا لم يسمع مثله، والاشتقاق يعضد التفسير الثاني، والشواهد تعضد تفسير قدامة، لأن شواهد الباب وقع فيها ما يجوز أن يكون قائله لم يسبق إليه، وما يجوز أن يكون قد سبق إليه على قلته، واستدل قدامة على مراده بقول الناس: ورد طريف غريب، إذا جاء في غير وقته، أما كونه لم يرقط فهذا محال، وإنما المراد لم يوجد مثله في ذلك الزمان.
ومن أمثلته للأوائل مدح زهير للفقراء والأغنياء معاً فإنه غريب، إذ العادة جارية بمدح الأغنياء غالباً، لأنه يقال: ما سمع قط مدح فقير حتى قال طويل:
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ومن الغريب الطريف قول أبي تمام كامل:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
ومن الغريب الطريف أيضاً قول دريد طويل:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل من ماجد محض
فإنه ما سمع من مدح من لا يعرفه قبله، وتبعه أبو نواس في ذلك فقال في القطعة التي أولها طويل:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
ولم أدر منهم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابس
ومن الإغراب اللطيف قول القائل كامل:
عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا ... وتقوضت خيم الشباب فقوضوا
إن كان في الليل البهيم تبسطوا ... خفراً وفي الصبح المنير تقبضوا
ولقد سمعت وما سمعت بمثلها ... بيتا غراب البين فيه أبيض
ومن لطيف الإغراب وطريفه قول بعضهم " البسيط " :
ظلت تبشرني عيني إذا اختلجت ... بأن أراك وقد كنا على حذر
فقلت للعين أما كنت صادقة ... إني ببشراك لي من أسعد البشر
فما جزاؤك عندي لست أعرفه ... بلى جزاؤك أن أحبوك بالنظر
وأستر المقلة الأخرى فأحجبها ... عن أن تراك كما لم تأت بالخبر
ومن الإغراب قسم آخر، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى متداول معروف ليس بغريب في بابه فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره، ليصير بها ذلك المعنى المعروف غريباً طريفاً، وينفرد به دون كل من نطق بذلك المعنى، وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر متداول معروف، فلما أراد أبو تمام ارتكاب هذا المعنى، وفطن إلى أنه قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله تحيل له في زيادة طريفة لم تقع لغيره يصير بها المعنى غريباً بعد أن كان معروفاً، فقال طويل:
فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
فإن حاصل كلامه تشبيه المرأة الموصوفة بالشمس، لكن التشكيك الذي أدخله في كلامه وذكر يوشع بعد إغرابه في التوطئة بإخباره بان هذه المرأة ردت بها الشمس برغم الليل، نقل المعنى من المعرفة إلى الغرابة، فلا جزم أنه استحقه بذلك دون كل من تناوله، ودون المبتدئ به ومن هذا القسم قول المتنبي بسيط
يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع
فإنه عمد إلى المعنى المعروف في هذا الفن من كون الطير تقع على القتلى وتتبع الجيوش ثقة بالشبع، فتجاوز بزيادة المبالغة المستحسنة إلى ما قال، والذي حسن البيت جداً إتيانه فيه بلفظة " تكاد " فإنها قلبت المستحيل ممكناً، فساغت المبالغة، وحصل له ما أراد من الإغراب والطرفة.
ومن الإغراب أيضاً قول ابن شرف القيرواني كامل:

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
لو لم يبغضه عنده ابن رشيق حين أنشده إياه وقال: هل سمعت بهذا المعنى؟ فقال: سمعته وأخذته أنت أفسدته، فقال: ممن؟ فقال: من النابغة الذبياني حيث قال: طويل
وكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذى العرى يكوي غيره وهو راتع
فأما إفساده فلأنك قلت في صدر بيتك إنك عوقبت بجناية غيرك، ولم تعاقب صاحب الجناية. ثم قلت في عجز بيتك: إن صاحب الجناية قد شركك في العقوبة: فناقض معناك، وذلك أنك شبهت نفسك بسبابة المتندم، وسبابة المتندم أول شيء يتألم في المتندم، ثم يشركها المتندم في الألم فإنه متى تألم عضو من الحيوان تألم كله لأن المدرك من كل مدرك حقيقته، وحقيقته على المذهب الصحيح هي جملته المشاهدة منه، والمكوى من الإبل: يألم وما به عر البتة، وصاحب العر لا يألم جملة، فمن هاهنا أخذت المعنى وأفسدته، غير أن ابن شرف هذا له في هذا الباب ما لا يلحق، وهو قوله " رمل " :
قلم قلم أظفار العدا ... وهو كالإصبع مقصوص الظفر
أشبه الحية حتى أنه ... كلما عمر في الأيدي قصر
والبيت الثاني أردت، وأما الأول فهو من باب الإغراب في البرد لأنه لا نكاية للعدى في تقليم أظفارهم، بل ذلك مما يحسن صورهم، ويزداد به نشاطهم، ويماط به الأذى عنهم عند تناول الطعام والشراب، وتقبل بذلك النفوس عليهم، ولا يقال: إنه أراد بالأظفار السلاح، فإن ذلك من الغيب الذي لا يعلم، إذ ليس في الكلام ما يشعر بهذه الاستعارة ومما يفسد هذا التأويل قوله: كالإصبع، فإنه ذكر الإصبع، والمراد به ظاهر اللفظ فإنه يدل على أن الظفر على ظاهره إلا أن يتأول الإصبع، وأما تشبيه القلم بالإصبع فهو تشبيه يسلبه جميع المنافع والمضار، فإن الإصبع الواحدة على انفرادها قلما تعمل عملاً، وإن عملت عملاً كان غير متقن وكانت غير متمكنة منه، فلا معنى لها على انفرادها، وأنت ترى من ولد خداجاً ليس في كفه إلا إصبع واحدة غير منتفع بيده، ويشاهد ما بها من القبح، ولا يكون للإصبع جمال إلا مع انضمامها إلى أخواتها، واستعارة قصر الظفر له من أبرد الاستعارات، إلا أنه كفر بحسنات البيت الثاني سيئات البيت الأول أن الحسنات يذهبن السيئات وقد أتى أيضاً في هذا الباب بما هو أحسن من الأول وهو قوله بسيط
أغنيتني عن جميع الناس كلهم ... ولم أجد مغنياً من سائر البشر
كالحمد تجزي المصلى حين يقرأها ... وليس يغنيه عنها سائر السور
هذا على مذهب الجمهور، فإنه مذهب مالك والشافعي وأحمد، إلا أبا حنيفة وصاحب الشعر مالكي، إذ هو مذهب أهل المغرب ولابن رشيق في هذا الباب ما لا يشق غباره وهو قوله " رجز " :
كأنما الصبح الذي تفرا ... ضم إلى الشرق النجوم الزهرا
فاختلطت فيه فصارت فجرا
وقوله أيضاً متقارب:
وما ثقلت كبراً وطأتي ... ولكن جررت ورائي السنينا
وقد رأيت الحجاري صاحب الحديقة وصاحب المسهب في أخبار أهل المغرب سمى هذا الباب في الحديقة مناقلة، وفسره بأن قال: هو من مناقلة الخيل، وهي وضع الفرس في الوعر يده موضع رجله مخالفاً لمشيته المعتادة، وأنشد فيه قول ابن الرومي سريع:
تستغفر الناس بأيديهم ... وهن يستغفرن بالأرجل
فيا له من عمل صالح ... يرفع الله إلى أسفل
فأغرب بمخالفة العادة. حيث ذكر أن هذه النسوة يفعلن بالأرجل ما يفعله الناس بالأيدي، والارتفاع إلى الأسفل من أغرب الغريب.
ومن نوادر الإغراب قول الأرجاني كامل:
شعري إذا ما قيل يرويه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء
كالصوت في قنن الجبال إذا بدا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء
ومن مليح هذا الباب قول بعضهم طويل:
تواضع كالنجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
ومن دونه يسمو إلى النجم صاعداً ... سمو دخان النار وهو وضيع
ومن الإغراب نوع يغرب المتكلم فيه بأن يخرج معنى المدح في لفظ الغزل، فيأتي المدح هزازاً للمعاطف من الطرب، يكاد يؤكل بالضمير ويشرب، كقول أبي تمام في صفة عمورية بسيط

ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
ولا الحدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب
سماحة غنيت منا العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب
وحسن منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب
وكقول ابن سنان الخفاجي كامل:
صبحتهم باللاذقية فالتقى ... بحران ماء راكد وعتاق
سبق الظلام لها فعضت ورودها ... تبعاً وأنت لمثلها سباق
حتى إذاً متع الضحى وتمارت ال؟ ... أبصار أيكما له الإشراق
غادرتها دمنا على أطلالها ... يبكي الخليط وتذكر الأشواق
وسننت دين قراك في عرصاتها ... فالنار تضرم والدماء تراق
والبيت الرابع أردت، وإنما ذكرت ما قبله وما بعده لارتباطه بذلك، ولما في المجموع من كمال حسن المعنى، دون انفراد أحد الأبيات وما رأيت في عصرنا أغرب معان من القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله.
ومن غرائب معانيه قوله في عمياء تظرفا سريع:
شمس بغير الليل لم تحتجب ... وما سوى العينين لم تكسف
بغمده المرهف لكنها ... تقتل بالغمد بلا مرهف
أبصرت منها الخلد في جؤذر ... ومقلتي يعقوب في يوسف
وقوله كامل:
ومع المشيب فبعد عندي صبوة ... يبلى القميص وفيه عرف المندل
؟أنا جد أنصار النبي لأنني ... يا أشهل العينين عبد الأشهل
وكقوله طويل:
فلا تنكروا منها الخضاب فإنها ... هي الغصن في أطراف الورق الخضر
وكقوله طويل:
عليك زكاة فاجعليها وصالنا ... لأنك في العشرين وهي نصاب
وكقوله في صبي مستحسن ضرب وحبس طويل:
بنفسي الذي لم تضربوه لريبة ... ولكن ليبدو الورد في سائر الغصن
وقالوا له شاركت في الحسن يوسفاً ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن
وغرائب معانيه لو استقصيت لخرجنا بها عن الغرض المطلوب من الكتاب.
ومما وقع لي من باب الإغراب والطرفة قولي طويل:
أراني لا ينفك نجمي هابطاً ... تراه يراه ربنا حسب الرجم
حنتني الليالي فاغتديت كأنني ... أفتش دهري في التراب على نجمي
فصرت إذا قوساً وعقلي رامياً ... ورامي الذي أصمى الرمايا به سهمي
وقولي طويل:
تحلمنا الأيام وهي سفيهة ... فيهدي إلينا برها من عقوقها
وتهدي الدراري وهي من حيرة ترى ... وقد رجعت من مستقيم طريقها
كما تحدث الطيش الطلى من سكونها ... فتغرب شمس العقل عند شروقها
ومن الإغراب والطرفة نوع لا يكون الإغراب فيه في ظاهر لفظه، بل في تأويله، وهو الذي إذا حمل على ظاهره كان الكلام به معيباً جداً وإذا تؤول رده التأويل إلى نمط الكلام الفصيح، وأميط من ظاهره حدث العيب، فيكون التأويل هو الموصوف بالإغراب لا الظاهر، وذلك كقوله: " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " فإنهم أمسوا كما أصبحوا، فتكون لفظة فأصبحوا حشوا لا فائدة فيه، ومثل هذا يتحاشى عنه نظم القرآن، فإنك إذا قلت أصبح العسل حلواً وهو قد أمسى كذلك، كان قولك أصبح حشاً، لكن لما كان الأشقياء حالهم حال المرضى، وكان المريض تشتد عليه الآلام في الليل، وتخف في النهار، فتكون حاله عند الصباح صالحة بالنسبة إلى حاله بالليل، إلا المريض الذي لا يرجى برؤه، فإنه يصبح كما أمسى، فإذا أصبح كذلك يئس من فلاحه، ولما أشبهت حال هؤلاء الأشقياء حال المريض الذي قد تيقن هلاكه، أخبر عنهم بأنهم أصبحوا كما أمسوا خاسرين، وعلى هذا تكون لفظة أصبحوا قد تضمنت معنى أخرجها عن كونها حشواً، ورد الكلام الذي جاءت فيه إلى حده من الفصاحة، فعد التأويل الذي فعل بها ذلك غريباً طريفاً، والله أعلم.
هذا آخر أبواب المتقدمين، وقد بقيت أبواب الأجدابي الثلاثة التي أولها:

باب الالتزام

وهو أن يلتزم الناثر في نثره، أو الشاعر في شعره، قبل روي البيت من الشعر حرفاً فصاعداً على قدر قوته، وبحسب طاقته، مشروطاً بعدم الكلفة وقد جاء من ذلك في الكتاب العزيز مواضع رائعة الحسن، كقوله تعالى: " والطور وكتاب مسطور " وقوله سبحانه: " فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس " وقوله تعالى: " والليل وما وسق والقمر إذا اتسق " وقوله عز وجل " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر " وقوله تعالى: " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " وقوله عز من قائل: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون " وقوله جلت قدرته: " فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون " وقوله جل جلاله " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق " وقوله عز وجل: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " وأشياء كثيرة من فواصل القرآن العزيز تعجز الفصحاء أشد تعجيز وقد جاء في السنة من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع حكاية عن الأولى من النسوة قولها: " لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وقول أم زرع في صفة حالها مع أبي زرع: فعنده أنام فأتصبح، وأقول فلا أقبح " وقولها في صفة الخادم " لا تقش طعامنا تقشيشاً ولا تملأ بيتنا تعشيشاً، ولا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنفث ميرتنا تنفيثاً " ، هذه رواية، وليست من أمثلة هذا الباب، والرواية الأخرى التي من أمثلة الباب تتمة القرائن الشينية، وهي قولها: ولا تخرج حديثنا تعشيشاً. وقولها أعني أم زرع: " فتزوجت بعده رجلاً سرياً، ركب فرساً شريا، وأراح على نغماً ثريا " ، وكقول السادسة منهن: " إن أكل اقف وإن شرب اشتف وإن رقد التف " ، وكقول الثامنة: " المس مس أرنب، والريح ريح زرنب " ، ومن هذا الباب في الشعر قول امرئ القيس طويل:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول
وقد أكثر المتأخرون من هذا الباب قاصدين عمله، وما وقع منه لمتقدم فغير مقصود، حتى عمل المعري من ذلك ديواناً كاملاً مفرداً من ديوان شعره المعروف بسقط الزند، ومنه قوله طويل:
لك الحمد أمواه البلاد بأسرها ... عذاب وخصت بالملوحة زمزم
هو الحظ غير الوحش يستاف أنفه ... خزامى وأنف العود بالعود يخزم
وكقول بعضهم بسيط
سلم على قطن إن كنت نازله ... سلام من كان يهوى مرة قطنا
أحبه والذي أرسى قواعده ... حباً إذا ظهرت آياته بطنا
ما من غريب وإن أبدى تجلده ... إلا تذكر عند الغربة الوطنا
ومن مليح ما جاء في الالتزام قول أبي نواس كامل:
وأما وزند أبي علي إنه ... زند إذا استوريت سهل قدحكا
إني لتأبى الصنع عالي همتي ... من غيركم وتعاف إلا مدحكا

باب تشابه الأطراف

هذا الباب سماه الأجدابي التسبيغ، وفسره بأن قال: هو أن يعيد لفظ القافية في أول البيت الذي يليها، والتسبيغ زيادة في الطول، ومنه قولهم: درع سابغة، إذا كانت طويلة الأذيال، وهذه اللفظة في اصطلاح العرضيين عبارة عن زيادة حرف ساكن على السبب الخفيف في آخر الجزء، وعلى هذا لا تكون هذه التسمية لائقة بهذا المسمى، فرأيت أن أسمى هذا الباب تشابه الأطراف، لأن الأبيات فيه تتشابه أطرافها وما بأبيات قلتهن في هذا النوع من بأس، وهي طويل:
خليلي إن لم تعذراني في الهوى ... ولم تحملا عني اذهبا ودعاني
دعاني إليه الحب فالحب آنفا ... دعاني قلبي إذ دعاه جناني
جناني في سكر فلا رعى عنده ... بكأس بها ساقي الغرام سقاني
سقاني من لم يعنه من صبابتي ... ووجدي به ما شفني وعناني
عناني منه ما براني ولم يكن ... ليرثي لما قد حل بي ودهاني
دهاني الهوى من حيث لم أدر عندما ... رأى ما شجى قلبي الكئيب عياني
عياني على قلبي تعدى بنظرة ... إلى ناظر باللحظ منه رماني
رماني بسهم من كنانة لحظه ... أصاب فؤادي شجوه فشجاني

شجاني بسقم من مراض جفونه ... وغض حياء منه حين سباني
سباني بسحر ليس يبطل بالرقى ... تقر له في بابل الملكان
ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري " وأنشد فيه قول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج طويل:
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون صراها
وأحسن من هذه الأبيات قول أبي نواس سريع:
خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم
ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم
إلا البهاليل بنو هاشم ... وهم سيوف لبني هاشم

باب التوءم

وهذا الباب أيضاً سماه الأجدابي التشريع، وفسره بأن قال: هو أن يبني الشاعر البيت أو الناثر النثر على قافيتين إذا اقتصر على إحداهما كان البيت له وزن، وإن كمله على القافية الأخرى كان له وزن آخر، وتكون القافيتان متماثلتين، وتكونان مختلفتين، وهذه التسمية وإن كانت مطابقة لهذا المسمى فهي غير معلومة عند الكافة، فسميته التوأم، وهو أن يكون للبيت كما ذكر قافيتان، وصحة القول في تفسيره أن يقال: أنه متى اقتصر به على القافية الأولى كان من ضرب ذلك البحر الذي عمل الشاعر بيته منه، فإذا استوفى أجزاءه وبناه على القافية الثانية كان البيت من ضرب غير ذلك الضرب من ذلك البحر، وغالبه أن يختلف الرويان وإن جاز توافقهما، هذا إن كان الكلام شعراً، وذلك كقول الشاعر كامل:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هدج الرئال، تكبهن شمالا
ألفيتنا نفرى العبيط لضيفنا ... قبل القتال، ونقتل الأبطالا
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرئال، والقتال كان الشعر من الضرب المجزوء المرفل من الكامل، فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه، فقدر أن لكل بيت من هذين البيتين قافيتين على تساوي القافيتين في الردف وتماثل الرويين وإن اختلف المجرى فيهما، وعلى هذا بنى الحريري قوله في المقامات كامل:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى، وقرارة لأكدار
لأن اقتصاره على قوله شرك الردى تجعل الشعر من الضرب المجزوء من الكامل، وتمامه يجعله من الضرب المضمر المقطوع منه، وإن اختلف القافيتان والرويان والمجرى فيهما، وقد جاءت من هذا الباب في الكتاب العزيز أكثر سورة الرحمن كقوله تعالى: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلآء ربكما تكذبان " يرسل عليكما شواظ من نار وغاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان وهكذا إلى آخر السورة فإنه يجوز الاقتصار على أولى الفاصلتين دون الثانية لو كان التنزيل كذلك، والله أعلم.
هذا آخر ما جمعته من كتب الناس بعد التنقيح والتحرير، وتغيير ما حسن فيه التغيير، وقد تكملت الأبواب بهذه الثلاثة التي عوضت بها ما تداخل في باب التمكين التهذيب تسعين باباً غير متداخلة ولا متواردة، والله أعلم.

الجزء الرابع

ومن هاهنا أشرع في إثبات الأبواب التي استنبطتها، والأنواع التي استخرجتها مفصلة مكملة، فأولها:

باب التخيير

وهو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ أن يقفي بقواف شتى، فيتخير منها قافية مرجحة على سائرها بالدليل، تدل بتخيرها على حسن اختياره، كقول الشاعر بسيط
إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت

فإنه يسوغ أن يقول: فكيف حال غريب ما له حال أي ما له مال، ما له نشب، ما له سبب، ما له صفد، ما له سبب، ما له خطر، ما له أحد، ما وجد، ما له شيع، وإذا نظرت إلى قوله: ما له قوت وجدتها أبلغ من الجميع، وأدل على الفاقة، وأمس بذكر الحاجة، وأبين للضرورة، وأشجى للقلوب، وأدعى للاستعطاف، فلذلك رجحت على كل ما ذكرناه ومن هذا النوع في الكتاب العزيز قوله تعالى في أول الجاثية: " إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى: المؤمنين، لأنه سبحانه ذكر العالم بجملته، حيث قال: السموات والأرض، ومعرفة ما في العالم من الآيات دالة على صفاته لتقدم الموصوف وجوداً واعتقاداً على الصفات وكذلك قوله في الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم وإن دل على وجود صانع مختار فدلالتها على صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته، فلا بد أولاً من التصديق بذاته حتى تكون هذه الآيات دالة الثانية: لقوم يوقنون، فإن نفس الإنسان وتدبر خلق الحيوان، أقرب إليه من الأول، وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، تقتضي رجاحة العقل ورصانته، ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي التي هي أحسن منه، وعوارض عنه، ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا بعد قيام البرهان على أن للعالم الكلي صانعاً مختاراً، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة لقوم يعقلون وأن احتيج للعقل في الجميع، إلا أن ذكره هاهنا أمس بالمعنى من الأول، إذ بعض من يعتقد صانعاً للعالم ربما قال: إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا، فلا بد إذاً من التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل ، ومنه قوله تعالى: " فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر " ولا يجوز التبديل بينهما، إذ لا يجوز النهي عن انتهار اليتيم لمكان تأديبه، وإنما ينهى عن قهره وغلبته، كما لا يجوز أن ينهر السائل إذا حرم، وليرد رداً جميلاً، ومن ذلك قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فإن قوله تعالى: " وإن تغفر لهم " ربما أوهم بعض الضعفاء أن الفاصلة لو كانت " غفوراً رحيماً " كانت أنسب لمكان " وإن تغفر لهم " ويذهل عن كونهم يستحقون العذاب دون الغفران، وإن قوله " العزيز الحكيم " بعد قوله " وإن تغفر لهم " أنسب، لأن من يغفر لمن يستحق العذاب إنما يكون من لا فوقه أحد يرد عليه حكمه، ومن كان كذلك كان عزيزاً ممتنعاً من الرد عليه، ومن كان حكيماً وضع الشيء في موضعه، وإن كان ظاهر فعله موهماً بأنه على خلاف الحكم، لخفاء وجه الحكمة بمكنون الغيب عن المخلوق القائم عن إدراك أسرار الربوبية.
ومن التخيير ضرب غير هذا، وهو أن يؤتى بقطعة من الكلام أو بيت من الشعر قد عطف بعض جمله على بعض بأداة التخيير كقوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " وكقول الشاعر بسيط
خلو التفاخر أو حلوا اليفاع إذا ... ما أسنت الناس أولبوا الصريخ ضحى
ولا يكون هذا الضرب من المحاسن حتى تكون الجمل المعطوف بعضها على بعض متضمنه صحة التقسيم كما جاء في الآية الكريمة، إذ حصر سبحانه وتعالى فيها أنواع الكفارة التي لا يجزئ الموسر غيرها، كما جاء في البيت من حصر أعظم الأسباب التي نفاخر بمثلها، وهي نهاية الكرم، وغاية الشجاعة إذا لا يحل بالمكان المرتفع من الأرض في المجاعة ليدل على بيته إلا الجواد المؤثر، كما قال شاعر الحماسة وافر:
له نار تشب على يفاع ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا

كما أنه لا يبادر إلى تلبية الصريخ عند الضحى، وهو وقت الغارات إلا أشجع القوم، ومن هذا القسم من التخيير قوله سبحانه وتعالى: " قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " فانظر إلى حسن هذا التخيير وصحة الترتيب في الانتقال من الأدنى إلى الأعلى حتى بلغ النهاية في أوجز إشارة بقوله سبحانه بعد الانتقال من الحجارة إلى الحديد الذي هو أصلب منها: " أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " غير حاصر لهم في صنف من الأصناف.
والفرق بين التخيير بأو وحسن النسق من وجهين: أحدهما أن حسن النسق يكون بجميع حروف العطف وغالباً ما تقع الواو، وربما وقع منه شيء بالفاء للتعاقب، أو بثم للمهلة والتراخي، ووقوعه بالواو أكثر، والتخيير لا يكون إلا بأو التي هي للتخيير خاصة.
والثاني أن التخيير يشترط فيه صحة التقسيم، ولا كذلك حسن النسق، والفرق بين تخيير مقطع الكلام دون كل مقطع يسد مسده وبين التسهيم أن صدر كلام التخير لا يدل إلا على المقطع فقط، وصدر كلام التسهيم يدل على ما زاد على المقطع، إلى أن يبلغ عجز البيت، والفرق بين التخير والتوشيح التوطئة بتقديم لفظة القافية في أول البيت من التوشيح، ولا كذلك التخيير، والله أعلم.

باب التدبيج

وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألوانا يقصد الكناية بها أو التورية بذكرها عن أشياء من مدح أو وصف أو نسيب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون، أو لبيان فائدة الوصف بها كقوله تعالى: " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود " فإن المراد بذلك والله أعلم الكناية عن المشتبه والواضح من الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق الملحوب التي كثر السلوك فيها جداً، وهي أوضح الطرق وأبينها، ولهذا قيل: ركب بهم المحجة البيضاء ودونها المراء، ودون الحمراء السوداء التي كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الظهور والوضوح. ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور البياض والطرف الأسفل في الخفاء السواد، والأحمر بينهما على حكم وضع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل علم نصب للهداية تنقسم هذه القسمة، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم، وهي مسوقة للاعتداد بالنعم على ما هدت إليه من السعي في طلب المصالح والمنافع، والفرار من المضار والمعاطب.
ومن التدبيج الحسن قول الحريري: فمذ أزور الحبيب الأصفر، واغبر العيش الأخضر، أسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر، إلا أن تدبيج الآية الكريمة جاء بلفظ الكناية لبيان فائدة الوصف بالألوان، وتدبيج المقامة أتى بطريق التورية.
ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول ابن حيوس الدمشقي خفيف:
إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو نزال
تلق بيض الوجوه سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النصال
وكقول بعض العرب طويل:
زياد بن عين عينه تحت حاجبه ... وبيض الثنايا تحت خضرة شاربه

وقد ساق بعض النقاد هذا البيت من شواهد العيوب، وقال: وجه العيب فيه كون العين لا تكون إلا تحت الحاجب، والثنايا تحت الشارب، وقد قال بعضهم في الرد على هذا العائب: الشاعر أراد أنه غير مشوه، قد خلق في أحسن تقويم، فلم تأت صورته مخالفة للصور، وعندي أن مثل هذا لا يعد عيباً، ولا يحتاج فيه إلى تكلف مثل هذا العذر، فإنه قد ورد مثله في الكتاب العزيز للتوكيد والتهويل ليحصل الازدجار عن فعل من حل به ذلك، وهذا من بليغ الموعظة، وهو قوله سبحانه " فخر عليهم السقف من فوقهم " والسقف لا يكون إلا من فوق ولا سيما في هذا الموضع، لأنه سبحانه رفع فيه الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون تحت بالنسبة، فإن كثيراً من السقوف يكون أرضاً لقوم وسقفاً لآخرين، فرفع تعالى هذا الاحتمال بجملتين، وهما قوله تعالى " عليهم " ولفظة " خر " لأنها لم تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى السفل، ومن ذلك أيضاً حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، الذي بين جمادى وشعبان " ورجب لا يكون إلا كذلك، وإنما هو صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخبر عن شهر فرد غير موال للأشهر الحرم التي قبله عرفه بأنه بين هذين الشهرين احتراساً من كونه لو اقتصر على قوله: ورجب توهم بعض السامعين أنه ربما أراد صفر، لا سيما وقد كانت الجاهلية تحل صفر عاماً، وتحرمه عاماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: صفر، في حديث خرجه الترمذي وأبو داود، وربما ظن الظان أنه أراد برجب صفر وسماه رجباً ليعرف بتعظيمه، إذ الترجيب التعظيم، فاحترس من وقوع هذا اللبس بأن عرفه بأنه هو الذي بين جمادى، ليقطعه عما قبله، وبين شعبان، ليقطعه عما بعده، والتأويلات أوسع وأفسح من أن يخطئ معها عربي متقدم في لغته التي وضعها، وهو أعرف بمواقعها منا، لا سيما وقد قال امرؤ القيس مما يؤيد ذلك متقارب:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
وفرج الفرس لا يكون إلا من دبر، لأن فرجها الذي يسد بذنبها هو ما بين قائمتي رجليها من عجب الذنب، إلى حافر الرجلين، وفي بعض ذلك ما يخرج بيت الشاعر عن العيب.
ومن التدبيج قول أبي تمام في مرثيته لمحمد بن حميد الطوسي طويل:
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وكقول البحتري طويل:
تحسنت الدنيا بعدلك فاغتدت ... وآفاتها بيض وأكنافها خضر

باب التمزيج

وهو أن يمزج المتكلم معاني البديع بفنون الكلام، أعني أغراضه ومقاصده بعضها ببعض بشرط أن تجمع معاني البديع والفنون في الجملة أو الجمل من النثر، والبيت أو البيوت من الشعر، كقول بكر بن النطاح طويل:
بذلت لها ما قد أرادت من المنى ... لترضى فقالت: قم فجئني بكوكب
فقلت لها: هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب
سلي كل شيء يستقيم طلابه ... ولا تذهبي يا بدر بي كل مذهب
فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيا بما رمت مطلبي
فتى شقيت أمواله بعفاته ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب
فإن التمزيج وقع في الثلاثة المتواليات من هذا الشعر بعد الأول، فأما الأول من الثلاثة فإنه مزج في صدره العتاب بالغزل بالمراجعة حيث قال:
فقلت لها هذا التعنت كله

لارتباط هذا الصدر بما قبله بسبب المراجعة التي فيهما إذ قال: " فقالت " ، وأتى في عجز البيت بالتذييل ليتحقق العتاب، ويستدل على صحة ما ادعاه من التعنت، فمزج المذهب الكلامي بالتذييل في العجز، كما مزج العتاب والغزل في الصدر، مع الارتباط بما قبل، وحقق ذلك بالمراجعة الحاصلة فيهما، فوقع التمزيج في البيت المذكور من الفنون في العتاب. والغزل ومن المعاني في المراجعة بسبب الارتباط والتذييل والمذهب الكلامي، ثم مزج المبالغة بالقسم في البيت الثاني من الثلاثة، والمدح بالغزل بواسطة الاستطراد، وأتى بالطامة الكبرى في البيت الثالث من الثلاثة، إذ مزج فيه الإرداف بالتشبيه والشجاعة بالكرم ومدح قبيلة الممدوح بمدحه وذم أعداءها والإيغال بالتشبيه.
فأما الإرداف ففي قوله: شقيت أمواله بعفاته فإن أراد أن يقول: فتى جواد، فعدل عن هذا اللفظ إلى ردفه، لما في لفظ شقاوة الأموال بالعفاة من زيادة المعنى، وديباجة اللفظ التي لا توجد في لفظ الحقيقة، والتشبيه في قوله: كما شقيت هذه القبيلة بهذه القبيلة والقبائل المتعادون كثير، وإنما اقتصر على هاتين القبيلتين لما في ذكرهما من النكتة التي يزيد بها معنى المدح، وخص الممدوح به وأراد تكميل المدح ورأى أنه لو اقتصر على مدحه بالكرم كان المدح غير كامل، وأراد تكميل المدح بالشجاعة فأوجبت عليه الصناعة أن يأتي بالتنكيت في عجز البيت بحيث يكون بين العجز والصدر ارتباط يوجب لهما التلاحم، فوصل بينهما بكاف التشبيه مقتصراً على ذكر القبيلتين اللتين في ذكرهما نكتة حسنة، وهي مدح قبيلة الممدوح، والتعريض بذم قبيلة أعدائه، والمدح لقبيلة الممدوح مدح له، فيكمل له المدح الذي أراده، والتمزيج الذي قصده، والفرق بين التمزيج والتكميل والافتنان والتعليق والإدماج، فإن هذه الأبواب الخمسة ربما اشتبهت على كثير من الناس لكونها تجمع المعاني والفنون غالباً إذ أن التكميل لا يكون إلا في معاني النفوس وأغراضها معاً في البديع، ولا يكون أحد الأمرين فيه قد اتحد بالآخر، بحيث لا يظهر من الكلام إلا صورة أحد الأمرين دون الآخر، وإنما يؤخذ المعنى الآخر من الكلام بطريق القوة لشدة امتزاج المعنيين أو الفنين أو أحدهما بالآخر، وهذه حال التمزيج بمعاني النفوس ومعاني البديع والفرق بين التمزيج والافتنان أن الافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم كالغزل والمدح والعتاب، والهجاء، والتهنئة، والتعزية، والتمزيج بخلاف ذلك، إذ هو يجمع الفنون والمعاني ويكون الأمران فيه متداخلين، والفنان فيه ظاهران، والفرق بين التمزيج والتعليق أن التعليق كالافتنان في اختصاصه بالفنون دون المعاني وظهور الفنين فيه معاً، إلا أن أحدهما متعلق بالآخر، والافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم كالغزل والمدح، والعتاب والهجاء، والتهنئة والتعزية، والتمزيج بخلاف ذلك، إذ هو يجمع الفنون والمعاني، ويكون الأمران فيه متداخلين أي أحد الفنين فيه متعلقاً بالآخر ولا بد، وكلاهما يفارق الامتزاج في ظهور صور الأشياء التي تكون فيه، فإنها تمتزج في الامتزاج بحيث لا يظهر منها لكل شيئن إلا صورة واحدة، والفرق بين التمزيج والإدماج أن الإدماج كالتعليق، لا يكون إلا بالفنون دون المعاني بخلاف التمزيج، وإن اشتبه التمزيج في إيجاد الصور لا يكون إلا بالمعاني البديعية دون المعاني النفسية، ودون الفنون، والفرق بين التعليق والتكميل دقيق وقد جاء في الكتاب العزيز من التمزيج قوله تعالى " رب احكم بالحق " فإنها امتزج فيها فنا الأدب والهجاء بمعنى الإرداف والتتميم وتولد من ذلك ما استخرجته منا من بقية المحاسن، فكان ذلك أربعة عشر نوعاً يضيق هذا المكان عن ذكرها مفصلة، وقد ذكرتها مفصلة في " بديع القرآن " العزيز والله أعلم.

باب الاستقصاء

وهو أن يتناول الشاعر معنى فيستقصيه إلى أن لا يترك فيه شيئاً، كقول ابن الرومي في صفة الحديث كامل:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفز

فانظر إلى كون هذا الشاعر وصف حديث هذه المحبوبة بنهاية الوصف الحسن اللائق بمثله، حيث قال: وحديثها السحر الحلال، لفعله في العقول فعل السحر، وجعله حلالاً لصدق الوصف، وليضمن كلامه في صفته معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن من البيان لسحراً، فإن سحر البيان سحر حلال، ثم رجع فاستدرك فيه فقال:
... ... ... ... ... لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
لكون قتل المسلم بغير حق حرام، فحصل في البيت طباق معنوي، فكأنه قال سحر حلال لو لم يجن حرام، فطابق بين الحلال والحرام وأحدث براءة المسلم المقتول بالحديث من الإيغال الذي في قافية البيت، وهو قوله: المتحرز لأن المتحرز لا يقع في شيء من موجبات القتل، وفي ذلك مبالغة في وصف الحديث بإفراط الالتذاذ الذي يزهق حبه النفس، ثم فكر فيما يعرض من الملل بسبب، طول الحديث فاحترس عن تلك بقوله: إن طال لم يملل ثم رأى أنه متى اقتصر على وصفه بالحسن حالة الإطالة دون الإيجاز كان مقصراً، فقال: وإن هي أوجزت إلى آخر البيت، ثم أراد وصفه بميل النفوس إليه إما اضطراراً أو اختياراً فقال، في الميل الاضطراري: شرك العقول، فأخبر أنه يصيد العقول قنصاً، ثم قال في الميل الاختياري مقسماً له قسمين حاصرين في حالتي الريث والعجل كامل:
.. ... ... ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز
وليس للمختار حالة زائدة على هاتين الحالتين إما أن يكون مطمئناً، أو مستوفزاً، فإن كان مطمئنا كان هذا الحديث نزهته، وإن كان مستوفزاً كان عقلته، فلم يبق في هذا المعنى مقالاً لمن بعده، ولقد أحسن ابن مناذر في استقصائه معنى من معاني الغزل حيث قال طويل:
فوالله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جحد جد البين أم أنا غلبه
فإن استطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
فإنه لما علم أنه متى اقتصر على البيت الأول لا يكون مستقصياً للمعنى أتى بتفصيل ما أجمله في البيت الأول بما جاء به في البيت الثاني، ليكون قد أتى على جميع ما يجب ذكره من المعنى الذي قصده: وإذا وصلت في هذا الباب إلى قول البحتري في صفة إنضاء الإبل خفيف:
كالقسي المعطفات بل الأس؟ ... هم مبرية بل الأوتار
وصلت إلى الغاية في الشعر، لأنه جمع مع الاستقصاء المبالغة والرمي على الترتيب، على مقتضى البلاغة، والتتميم في موضعين، في قوله: المعطفات، وقوله: مبرية والإيغال في القافية، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك ما لا يلحق سبقاً، وهو قوله تعالى: " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " فانظر إلى استقصاء هذا المعنى حين لم يبق فيه بقية لأحد، وذلك أنه بعد قوله: " جنة من نخيل وأعناب " قال: " تجري من تحتها الأنهار " وكمل الوصف بقوله: " له فيها من كل الثمرات " فأتى بكل ما في الجنان ليشتد الأسف على إفسادها ثم قال " وأصابه الكبر " ثم استقصى المعنى الذي يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر " وله ذرية " ولم يقتصر على كونه له ذرية حتى قال: " ضعفاء " ثم ذكر استئصالها بالهلاك في أسرع وقت حيث قال: " فأصابها إعصار فيه نار " فلو اقتصر على ذكر الإعصار لكان كافياً، لكن لما علم الله سبحانه: " فيه نار ثم أخبر باحتراقها لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا يقوم إحراقها بإطفاء أنهارها وتجفيف كل أوراقها وثمارها، فأخبر بإحراقها احتراساً من ذلك، وهذا أحسن استقصاء وأتمه، بحيث لم يبق في المعنى المقصود موضع استدراك، والفرق بين الاستقصاء والتتميم، والتكميل كون التتميم يرد على معنى ناقص فيتمم بعضه، والتكميل يرد على التام فيكمل وصفه، والاستقصاء له مرتبة ثالثة، فإنه يرد على الكامل فيستوعب كل ما تقع عليه الخواطر من لوازمه، بحيث لا يترك لآخذه مجالاً لاستحقاقه من هذه الجملة، والله أعلم.
؟

باب البسط

وهو أن يأتي المتكلم إلى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل، فيدل عليه باللفظ الكثير ليضمن اللفظ معاني أخر يزيد بها الكلام حسناً، لولا بسط ذلك الكلام بكثرة الألفاظ لم تحصل تلك الزيادة ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها " فانظر هداك الله إلى هذا البسط في الآيات الكريمات بالنسبة إلى قوله في غير موضع. من القرآن: " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام " لتعلم أنه بسط سبحانه الكلام في هذه الآية ليفيد البسط معاني من تفصيل الأخبار، وإيضاح المعنى وتفسير ذلك الإجمال، وإخراجها مخرج التفريع لمن جعل لله تبارك وتعالى أنداداً من مخلوقاته فإن قلت التفريع يحصل بقوله: " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام " فما فائدة البسط؟ قلت فائدته جليلة، فإن الاستدلال بما قرب من نظر الخصم أوضح من الاستدلال بما بعد، فإن تقدير أقوات الحيوان البري والبحري، وتخصيص كل صنف بقوت مألوف يميل إليه بطبعه، كاللحوم للسباع، والحب للبهائم، والأوساخ وما أشبهها للهمج، والبقول وسائر الخضروات لغير هذه الأصناف، وجميع بعض أصناف الحيوان البهيم البري والبحري، وتركه تلك الأقوات الموجبة لكفاية ما يخرج من الأرض من جميع الحيوان أقرب لفهم المخاطب، ولاحتمال أن يقع في بعض النفوس أن هذه الأمور من صنع السموات والأرض، لا من صنع صانعهما كما يعتقد بعض الناس فاقتضت البلاغة أن يقدم ذكر الأرض لقربها من المخاطب، ولأن الأنداد منها كالحجارة التي نحتت وعبدت والأنصاب التي نجرت من الأخشاب، والصور التي اتخذت من المعادن، وليعرف بعظمة قدرته في خلقه الأرض كلها في يومين، ثم ثنى بذكر الجبال التي تثبت الأرض، وتكون الجواهر المعدنية منها.
ثم يذكر البركة التي لولاها لما نبت النبات، ولا عاش الحيوان، ولا تنوع الجماد، ولا حصلت المنافع التي بها قوام الأجسام، ممتناً بذلك على عباده، وحق له الامتنان، ثم ثلث بذكر تقدير الأقوات، ليحض بذلك على التوكل، ويبعث النفوس على الاشتغال عن الفكر في التكسب بصالح الأعمال، ثم أخبر أن ذلك كله في يومين آخرين، بقوله سبحانه: " في أربعة أيام " يعني. والله أعلم. أنه أرسى الجبال وبارك في الأرض وقدر فيها أقواتها، مع خلقه لها في أربعة أيام، ثم ختم بذكر خلق السموات السبع، والعناصر الأربعة، إذ هي سموات بالنسبة إلى المخاطب، غير أنه أفرد من ذلك السموات السبع بالذكر، منبهاً على فضلها بالنسبة إلى العناصر وعظمتها، وما تعرف العرب وغيرهم من نجومها، والهداية بها، وأنوائها، وإنزال الغيث من جهتها، ومقدمات ذلك من الرعد والبرق والرياح، ومنافع النيرين، ثم أخبر سبحانه أنه خلق ذلك كله في يومين ثم اقتصر عز وجل في هذه الآية الكريمة على ذكر الأفلاك السبعة دون الفلكين الآخرين، منطقة البروج والأطلس، لكون السبعة هي المعروفة عند العرب الذين نزل عليهم القرآن وجاء بلسانهم، لأن معرفة الفلكين الآخرين موقوفة على علوم ليست من علوم العرب، فإن قلت: فالعرب تعرف الأنواء وكواكبها في الفلك الثامن، فلم اقتصر على ذكر السبعة دونه؟ قلت: إنما عرفت الأنواء بالقمر لحلوله في المنازل، ومسير القمر أسرع مسير، وهي كثيراً ما تتأمله، لسفرها فيه وسراها، وعرفت الكواكب السيارة لقرب سيرها بالنسبة، وعرف مسير المنازل أيضاً بحركاتها القسرية وأما حركة فلكها التي دلت عليها كواكبه الثابتة، فليس من علوم العرب وإن كانت تعرفها، كما ذكرت تنقل القمر، وقد ذكره الله سبحانه على انفراده، وخصه من بين الأفلاك السبعة بالذكر لميزته، فقال تعالى: " والسماء ذات البروج " فأفاد سبحانه بهذا البسط حصول ضروب من البديع في الكلام لولا البسط لم تحصل، وهي المذهب الكلامي والإدماج والإرداف والتفسير.

فأما المذهب الكلامي ففي قوله تعالى: " ذلك رب العالمين " فإنها نتيجة قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء " إلى قوله سبحانه: " قالتا أتينا طائعين " فإن تقدير الكلام في ذلك والله أعلم. لا تطيع السماء والأرض إلا رب العالمين، فإنهما عبارة عن العالمين، وقد أطاعت الله سبحانه فهو رب العالمين، والإدماج: إدماج الإرداف في المذهب الكلامي، لأنه وهو أعلم أن يقول: " قل أئنكم لتكفرون " بالقادر المطلق، فعدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ هو ردفه حيث قال: بالذي فعل وصنع وعدد من قدرته ما لا يقدر عليه غيره، والتعليق في كونه تبارك وتعالى علق فن الفخر بفن العتاب، إذ وصف نفسه صادقاً بما هو أهله، وأثنى على ذاته بما يستحقه في ضمن العتب الموبخ، والتقريع المثرب حيث قال: أئنكم لتكفرون، وتجعلون، والتفسير في قوله " ذلك رب العالمين " فإنه أتى بهذه الجملة مفسرة لذلك الإجمال الذي في قوله تعالى: الذي خلق وفعل وصنع، فأتى بالصفات قبل ذكر الموصوف، ولما أراد تبيين ذكر الموصوف وتعريفه قال سبحانه: " ذلك رب العالمين " فهذه فائدة البسط والإطناب في الكلام الذي عدل فيه عن الإيجاز والاختصار.
ومما جاء من ذلك في السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الدين النصيحة " قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم " وحاصل هذا الكلام إذا ورد من طريق الاختصار أن يقول بعد تخصيص الله تعالى بالذكر وكتابه ونبيه أن يقول: وللمسلمين فإنها لفظة جامعة للأئمة وللعامة، فبسط هذه اللفظة ليفرد الأئمة بالذكر من جملة المسلمين، ولم يمكن الاقتصار على الأئمة فيكون المعنى ناقصاً، إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة المسلمين، فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر، والله أعلم.
ومن شواهد البسط الشعرية للمتقدمين قول امرئ القيس كامل:
نظرت إليك بعين جازئة ... حوراء حانية على طفل
فإن حاصل البيت تشبيه عين هذه الموصوفة بعين الظبية، فبسط الكلام ليزيده البسط معنى لولاه لم يوجد فيه، فإن لنظر الظبية إلى خشفها عاطفة عليه بحنو واشفاق من الحسن ما ليس لمطلق نظرها أو لنظرها في غير هذه الحالة.
ومن أمثلته للمحدثين قول ابن المعتز في الخيري منسرح:
قد نفض العاشقون ما صنع ال؟ ... دهر بألوانهم على ورقه
فإن حاصل هذا المعنى الإخبار بصفرة الخيرى فبسط هذا اللفظ الذي لو اقتصر عليه حصل به المراد، لما في البسط من إدماج الغزل في الوصف بغير لفظ التشبيه، ولا قرينته المعتادة، إذ هو من قسمي التشبيه اللذين بأداة وبغير أداة، بل تشبيه لا ظاهر ولا مقدر يفهم من فحوى الخطاب، إذ مفهوم اللفظ أن صفرة الخيرى تشبه صفرة ألوان المهجورين.
من هذا الباب أيضاً قول البحتري وقد تقدم في باب حسن الإتباع كامل:
أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبر راح وهو جفاء
فإن حاصل البيتين أنك قطعتني عنك خجلاً من كثرة عطائك، فبسط هذا الكلام لتحصل زيادات من البديع لولا البسط ما حصلت كالطباق في البيت الأول، بذكر السواد والبياض، والمقابلة في البيت الثاني بذكر الصلة والقطيعة، والغدو والرواح، والبر والجفاء، وعلى هذا فاعتبر ما تسمعه من الكلام الذي يقع فيه مثله، وقسه عليه.
والفرق بين البسط والاستقصاء أن الاستقصاء هو حصر كل ما يتفرع من المعنى ويتولد عنه، ويكون من سببه ولوازمه، بحيث لا يترك فيه موضعاً قد أخلقه بجدة الآخذ له، فيستدركه ليستحقه بذكره، والبسط نقل المعنى من الإيجاز إلى الإطناب بسبب بسط العبارة عنه، وإن لم يستقص كل ما يكون من لوازمه، والله أعلم.
؟

باب الهجاء في معرض المدح

وهو أن يقصد المتكلم إلى هجاء إنسان فيأتي بألفاظ موجهه ظاهرها المدح وباطنها القدح، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه، كقول بعضهم في بعض الأشراف وافر:
له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول

فأما ألفاظ البيت الأول على انفرادها فلا تكاد تصلح إلا للمدح ولا يفهم منها غيره؛ وأما البيت الثاني لو انفرد أيضاً لما فهم منه مدح ولا هجاء، وكان إلى باب من الأبواب أقرب من هذين البابين، لكمه لما اقترن بالأول أهل نفسه وأخاه للهجاء، وعدل بألفاظهما عن الثناء وحصل من اجتماعهما ما ليس لكل منهما على انفراده.
ومن أمثلة هذا الباب أيضاً قول عبد الصمد بن المعدل أو أبي العميثل في أبي تمام وقد كانت في لسانه حبسة رمل مجزوء:
يا نبي الله في الشع؟ ... ر ويا عيسى بن مريم
أنت من أشعر خلق الله ... ما لم تتكلم
فإن حال هذين البيتين حال البيتين اللذين قبلهما، إذ الأول منهما إذا انفرد كان مدحاً محضاً، وإ؟ذا اجتمعا صار هجواً بحتاً، غير أن ثاني الآخرين مخالف لثاني الأولين.
ومن ملح هذا الباب قول السعيد بن سناء الملك رحمه الله في قواد سريع:
لي صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأني حسن الإحتيال
لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال
يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجور طيف الخيال
وهذا النمط غير النمط الأول الذي قدمناه، وهذا من لطيف التوجيه، ولقد تشبثت بأذيال القاضي السعيد رحمه الله في هذا المقطوع بقولي فيمن ادعى الفقه والكرم وانتحل هاتين الشيمتين دون بقية الشيم، وهو ممن يتهم سريع:
ابن فلان أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه
وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه
يستحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه
وكل توطئة وقعت في هذا النمط الثاني صالحة للمدح البحت فإذا اقترنت بأبيات المعاني انقلب ما كان فيها مدحاً تهكماً، وصارت هي بنفسها هجاء، والذي أفرد هذا الباب بنفسه عن باب التهكم مع أن الذي فيه من المدح تهكم هو أن التهكم لا تخلو ألفاظه من لفظة من اللفظ الدال على نوع من أنواع الذم، أو لفظة يفهم من فحواها الهجو، وسيأتي بيان ذلك في باب التهكم، وألفاظ المدح في هذا الباب لا يقع فيها شيء من ذلك، ولا تزال مفرقة ومجتمعة تدل على مجرد المدح حتى يقترن بها ما يصرفها عن ذلك، وشواهد التهكم لا تخلو عن ألفاظ التهكم في أبيات التوطئة، وأبيات المعاني، وما يقع في هذا الباب من التهكم إنما يقع في التوطئة دون أبيات المعاني، والله أعلم.

باب العنوان

وهو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أبو مدح أو هجاء أو عتاب أو غير ذلك، ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة، كقول أبي نواس بسيط
يا هاشم بن خديج ليس فخركم ... بقتل صهر رسول الله بالسدد
أدرجتم في إهاب العير جثته ... لبئس ما قدمت أيدكم لغد
إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت ... حجراً بدارة ملحوب بنو أسد
ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم ... قتل الكلاب لقد أبرحت بالولد
ورب كندية قالت لجارتها ... والدمع ينهل من مثنى ومن وحد
ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية ... عن ثأره وصفات النؤي والوتد
فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبي بكر، وقتل حجر أبي امرئ القيس، وقتل عمرو بن هند كندة في ضمن هجاء من أراد هجوه، ومعيرة المهجو بما أشار إليه من الأخبار الدالة على هجاء قبيلته وملوكهم، ومثل ذلك قول أبي تمام في استعطافه مالك بن طوق على قومه كامل:
رفدوك في يوم الكلاب وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كلاب
وهم بعين أباغ راشوا للعدا ... سهميك عند الحارث الحراب
وليالي الثرثار والحشاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب
فمضت كهولهم ودبر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب
ثم قال بعد ذلك: كامل
لك في رسول الله أعظم أسوة ... وأجلها في سنة وكتاب
أعطى المؤلفة القلوب رضاهم ... كملاً ورد أخائذ الأحزاب
والجعفريون استقلت ظعنهم ... عن قومهم وهم نجوم كلاب

حتى إذا أخذ الفراق بقسطه ... منهم وشط بهم عن الأحباب
ورأوا بلاد الله قد لفظتهم ... أكنافها رجعوا إلى جواب
فأتوا كريم الخيم مثلك صافحاً ... عن ذكر أحقاد وذكر ضباب
فانظر إلى ما أتى به أبو تمام في هذه الأبيات من العنوانات من السيرة النبوية وأيام العرب كيوم الكلاب، وأخبار بني جعفر بن كلاب مع ابن عمهم جواب، وكقوله أيضاً لأحمد بن أبي دواد: وافر:
تثبت إن قولاً كان زوراً ... أتى النعمان قبلك في زياد
فأرث بين حي بني جلاح ... لظى حرب وحي بني مصاد
وغادر في صدور الدهر قتلى ... بني بدر على ذات الإصاد
فأتى بعنوان مشيراً إلى قصة النابغة حين وشى به الواشون إلى النعمان، وما جر ذلك السعي من الحروب التي انطوت عليها قطعة من أيام العرب، وكقوله لابن أبي دواد أيضاً: كامل
فاسمع مقالة زائر لم تشتبه ... آراؤه عند اشتباه البيد
أسرى طريداً للحياء من التي ... زعموا وليس لرهبة بطريد
كنت الربيع أمامه ووراءه ... قمر القبائل خالد بن يزيد
فالغيث من زهر سحابة رأفة ... والركن من شيبان طود حديد
وغدا تبين ما براءة ساحتي ... لو قد نفضت تهائمي ونجودى
هذا الوليد رأى التثبت بعد ما ... قالوا يزيد بن المهلب مودى
فتزحزح الزور المؤسس عنده ... وبناء هذا الإفك غير مشيد
وتمكن ابن أبي سعيد من حجى ... ملك بشكر بني الملوك سعيد
ما خالد لي دون أيوب ولا ... عبد العزيز ولست دون وليد
نفسي فداؤك أي باب ملمة ... لم يرم فيه إليك بالإقليد
لما أظلتني غمامك أًصبحت ... تلك الشهود على وهي شهودي
من بعد ما ظنوا بأن سيكون لي ... يوم ببغيهم كيوم عبيد
نزعوا بسهم قطيعة يهفو به ... ريش العقوق فكان غير سديد
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... ما كان يعرف فضل عرف العود
لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسود
العنوانات في بعض هذه الأبيات، وإنما جئت بجملتها لئلا يتجرأ حسنها، فمن عنواناتها إشارته إلى خبره مع ابن أبي دواد فيما نقل عنه من غضه من مضر على سبيل الحسد له، حتى حجبه عنه وجفاه، ولم يرجع إليه إلا بشفاعة خالد بن يزيد الشيباني، ثم ذكر قصة يزيد بن المهلب حين هرب من حبس الحجاج، وكتب فيه إلى الوليد بما أحفظه عليه، حتى حلف على قتله، فاستشفع بسليمان أخيه، واستجار به، فأجاره، وأرسل به مع ولده أيوب، وولد الوليد عبد العزيز، ووصى ولده ألا يدع يده من يده إلا بعد أمانه، وألا يوصل إليه بسوء إلا بعد قتله، ثم أشار إلى قصة عبيد بن الأبرص مع النعمان حين لقيه في ويوم بؤسه وقتله، وهذه القصص معروفة عند الأخباريين، فلم أطل بسياقة تفاصيلها، والكتاب العزيز محشو بعنوانات العلوم، فمنها قوله سبحانه: " ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد " الآية، فإن فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية، ومن ذلك قوله تعالى: " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب " وهذا عنوان العلم المنسوب إلى أقليدس، لأن المثلث الشكل أول أشكاله، وهو أصل الأشكال، وهو شكل إذا نصب في الشمس لا يوجد له ظل لتحديد رؤوس زواياه، والله أعلم.
ومن ذلك قوله تعالى: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين " ثم ذكر سبحانه في تفسير ذلك ملكوت السموات، مدمجاً فيه ملكوت الأرض، فإن أفول الكواكب والنيرين إنما يكون بما يحول بين الأبصار وبينها من مخروط ظل الأرض، وهذا عنوان العلم المعروف بالمجسطي والله أعلم وقوله تعالى في بقية الآية المذكورة: " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً " إلى آخر الآية، وهذا عنوان علم الكلام في ترتيب نظم الدليل على حدوث العالم بما دل عليه أفول الكواكب من التغيير، والله أعلم.

باب الإيضاح

وهو أن يذكر المتكلم كلاماً في ظاهره لبس، ثم يوضحه في بقية كلامه، كقول الشاعر طويل:
يذكرنيك الخير والشر كله ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده على السامع، لجمعه بين ألفاظ المدح والهجاء، فلما قال بعده طويل:
فألقاك عن مكروهاً متنزها ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل
أوضح المعنى المراد، ورفع اللبس، وأوضح الشك وقد يكون الإيضاح في الوصف الذي لا يتعلق به مدح ولا هجاء، وذلك أن يخبر المتكلم بخبر واحد عن شيء واحد يقع التعجب منه، ويشكل الأمر فيه، ثم يوضح ذلك الإشكال بأن يخبر عنه بما يفهم منه كشف اللبس عن الجزء الأول، كقول ابن حيوس الدمشقي كامل:
ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه
فإنه لو اقتصر على البيت الأول أشكل الأمر على السامع من جهة الوجه وإن كان حسناً لا يغني به النديم عن الخمر فأوضح اللبس في البيت الثاني. والفرق بين الإيضاح والتفسير أن التفسير تفصيل الإجمال، والإيضاح رفع الإشكال، لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال ألبتة، وقد جاء من الإيضاح في الكتاب العزيز قوله تعالى " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " فإنه لو قدر الاقتصار على هذا المقدار لالتبس الأمر على المخاطب لكونه لا يدري هل أراد الله تعالى بقوله حكاية عنهم " هذا الذي رزقنا من قبل " الإشارة إلى صنف الثمرة، أو مقدار اللبس بقوله " وأتوا به متشابهاً " يعني والله أعلم أشياء يشبه بعضها بعضاً، وهي متغايرة الأصناف، لأن الوجه الثاني يوجب اللبس الذي وقع الفرار منه، لأنه لا يدري هل قولهم: " هذا الذي رزقنا من قبل " أي غير ما رزقنا، وحقيقته أو غيره، لكنه هو في المقدار مثله، فلما قال سبحانه: " وأتوا به متشابهاً " ارتفع هذا اللبس أيضاً لكون البلاغة تقتضيه، وإنما اقتضته البلاغة لكونه من المعلوم، إذ المداومة على مأكول واحد توجب السأم والملل، وإن كمال التنعم وتمام التفكه التلون في المطاعم، والتفنن في المآكل، فعلم من فحوى الخطاب أنه أراد سبحانه وهو أعلم الصنف لا المقدار ومن الإيضاح قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم " وقال في غير هذا الموضع " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم " ثم قال سبحانه في الأولى: " نحن نرزقكم " ، وفي الثانية: " نحن نرزقهم " ، وإيضاح هذا الإشكال أن يقال: إنه سبحانه لما قال في الأولى " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " دل هذا اللفظ على أن الفقر كان حاصلاً بقتلهم الأولاد بسبب وجوده، فلا جرم أنه سبحانه وتعالى قال: " نحن نرزقكم " أي ما يغني فقركم، ولما قال في الثانية " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " ، دل على أنهم أغنياء وإنما هم يخشون الفقر فلا جرم أنه قال: نحن نرزقهم، أي لا تظنوا أنكم ترزقون الأولاد من رزقكم فتفتقرون، نحن نرزقهم.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: " إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي " فلقائل أن يقول: لم قدم التمدح بذكر الحب قبل النوى؟ ولم قال سبحانه: يخرج الحي من الميت، بلفظ الفعل؟، ثم قال: " ومخرج الميت من الحي " بلفظ الفاعل، والجواب أن يقال: تقديم الحب على النوى من المهم، والبلاغة تقديم المهم، كما قيل: إن المهم المقدم فإن ما كان مهماً فتقديم التمدح به أولى، لأنه قوت المخاطب وقوت دوابه، وذكر ذلك إنما هو في معرض الاعتداد بالنعم عليه، فكان تقديمه أولى، والنوى إنما ذكر لتتميم المعنى، ليكمل التمدح فإنه في ذكره إشارة إلى الاعتداد على المخاطب بما يتفكه به، وطريق التهذيب والترتيب أن يكون ذكر ما يتفكه به بعد ذكر الأقوات التي لا غنى عنها، ولا بد للحيوان منها.

وأما قوله: " يخرج الحي " بلفظ الفعل عند تقديم إخراج الحي لما في الحي من الحركة التي تعينه عند الخروج، فخروجه أسهل على مخرجه من خروج الميت من الحين فاقتضت البلاغة تقديمه بلفظ الفعل المقتضى للحال والاستقبال ليكون ذكر خروج الميت بعده انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى، وجعل خروج الميت مستنداً إلى لفظ الفاعل المضاف الدال على المضي ليكون خروج الأصعب مفروغاً من وقوعه، ليكون أدل على القدرة وأبلغ في التمدح، والله أعلم.
ومن الإيضاح نوع يتقدم الإيضاح فيه على الإشكال كقوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " إذ لو لم تتقدم تسمية النساء بالحرث، وهو موضع الزرع لوهم متوهم من قوله " أنى شئتم " إباحة الوطء في غير المكان المشروع، والله أعلم.

باب التشكيك

وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تشكك المخاطب هل هي حشو أو أصلية لا غنى بالكلام عنها، مثل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " فإن لفظة " بدين " تشكك السامع هل هي فضلة، إذ لفظة " تداينتم " تغني عنها، والناظر في علم البيان يعلم أنها أصلية، لأن لفظة الدين لها محامل، وتقول: داينت فلاناً المودة يعني جازيته ومنه " كما تدين تدان " . ومن ذلك قول رؤبة " رجز " .
داينت أروى والديون تقضى ... فمطلت بعضاً وأدت بعضا
وأمثال هذا.
وكل هذا هو الدين المجازى الذي لا يكتب ولا يشهد عليه، ولما كان المراد في الآية الكريمة تبيين الدين المالي الذي يكتب ويشهد عليه وفيه، وتبيين الأحكام المعلقة به، وما ينبغي أن يعمل فيه، أوجبت البلاغة أن تقول " بدين " معناه يكتب ويشهد فيه، ليقول: " فاكتبوه " ، والله أعلم.
ومن التشكيك ضرب آخر، وهو أن يأتي المتكلم بجمل من المعاني في كلامه، كل جملة معطوفة على الأخرى بأو التي هي موضوعة للتشكيك لا التي للتخيير والإباحة، كقول البحتري سريع:
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو بر أو أقاح
ومن التشكيك نوع التبس على بعض المؤلفين حتى أدخله في باب تجاهل العارف، وهو أن يرى المتكلم شيئاً شبيهاً بشيء فيشكك نفسه فيه، لقصد تقريب المشبه من المشبه به، ثم يعود عن المجاز إلى الحقيقة، فيزيل ذلك التشكيك، فإن لم يعد إلى الحقيقة فهو تجاهل العارف وإن عاد فهو التشكيك المحض، وهو كقول سلم طويل:
تبدت فقلت الشمس عند طلوعها ... بجلد غنى اللون عن أثر الورس
فلما كررت الطرف قلت لصاحبي ... على مرية ما هاهنا مطلع الشمس
فانظر كيف رجع إلى التحقيق بعد التشكيك، وقد خفى هذا الفرق عن ابن رشيق وغيره حتى أدخلوه في باب تجاهل العارف، وهذا خلاف قول أبي تمام طويل:
فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
فإن سلماً رجع عن التشكيك وأبو تمام لم يرجع، فكان بيت سلم من التشكيك المحض، وبيت حبيب من تجاهل العارف، وقد ظهر الفرق بين البابين، والله أعلم.

باب الحيدة والانتقال

وهو أن يجيب المسؤول بجواب لا يصلح أن يكون جواباً عما سئل عنه، أو ينتقل المستدل إلى الاستدلال غير الذي كان آخذاً فيه، وإنما يكون هذا بلاغة إذا أتى به المستدل بعد معارضة بما يدل على أن المعترض لم يفهم استدلاله، فينتقل عنه إلى استدلال يقطع به الخصم عند فهمه، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام في قوله للجبار: " ربي الذي يحيي ويميت " فقال الجبار: " أنا أحيي وأميت " ثم دعا بإنسان فقتله، ودعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه، فلما علم الخليل أنه لم يفهم معنى الإماتة والإحياء اللذين أرادهما انتقل إلى استدلال آخر فقال: " إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فأتاه باستدلال لا يجد لاسمه اسماً مشتركاً معه، فتعلق بظاهره على طريق المغالطة، أو لأنه لم يفهم إلا ذلك الوجه الذي تعلق به، فلا جرم أن الجبار انقطع وأخبر الله سبحانه عنه بذلك حيث قال تعالى: " فبهت الذي كفر " وفيه نوع يحيد المسئول عن خصوص الجواب إلى عمومه، لتفيد تلك الحيدة زيادة بيان لا تحصل بخصوص الجواب كقول عائشة رضي الله عنها وقد سألتها امرأة أتدخل المرأة الحمام؟ فقالت: " كل امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد عصت " أو كما قالت: " فانظر إلى حيدتها عن الخصوص إلى العموم، لتفيد زيادة في البيان، وتستوعب جميع أحكام الباب " صواب الحديث: ما من امرأة خلعت ثيابها في غير بيتها، إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب. فهذا مثال ما يأتي من الحيدة بسبب سوء فهم الخصم أو لقصد الزيادة المفيدة.
وأما ما يأتي بسبب صحة المعارضة على طريق المغالطة كقول الشاعر منسرح:
رأيته في الظلام منبطحاً ... يضرب في باب سرمه بوق
فقلت ماذا؟ فقال يبهتني ... أنت تقول القرآن مخلوق
وقول الآخر منسرح:
قالت أحب العذار أول ما ... يبدو على الخد غير معوج
قلت: اسكتي لا يقال لائطة ... قالت: وإلا عذارك الثلجى

باب الشماتة

وهو إظهار المسرة بمن نالته محنة، أو أصابته نكبة، ولم أستمع في ذلك مثل قول ابن الرومي كامل:
لا زال يومك عبرة لغدك ... وبكت بشجوعين ذي حسدك
فلئن بكيت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك
لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فت في عضدك
يا نعمة ولت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك
فلقد غدت بردا على كبدي ... لما غدت ناراً على كبدك
ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النقص في عددك
لم يبق لي مما برى جسدي ... إلا بقايا الروح في جسدك
وقد جاء من الشماتة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " فلفظة " ذق " شماتة، وبقية الكلام تهكم.
وأما الشماتة المحضة في القرآن فقوله تعالى لفرعون: " آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " .

باب التهكم

يقال: تهكمت البئر إذا تهدمت، وتهكم عليه: اشتد غضبه. والمتهكم المتكبر وقال أبو زيد: تهكمت: تعتبت، وهكمت، عيرته تهكيماً عبته، وعلى هذا يكون التهكم إما لشدة الغضب قد أوعد بلفظ البشارة أو لشدة الكبر وتهاونه بالمخاطب قد فعل ذلك أو ذكر بفعله عند العقوبة على سبب المعيرة له، فهذا أصله.
وهو في الاستعمال عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء، فشاهد البشارة من الكتاب العزيز قوله تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً " وقد مر في الباب الذي قبله قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وهو شاهد الاستهزاء بلفظ المدح.
ومن التهكم قول الزمخشري في تأويل قوله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " قال: هم الحرس من حول السلطان يحفظونه على زعمه من أمر الله على سبيل التهكم به، فإنهم لا يحفظونه من أمر الله في الحقيقة إذا جاء، والله أعلم.
ومنه أيضاً قوله تعالى: " قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين " فقوله سبحانه " إيمانكم " تهكم، والله أعلم.
ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم " بشر مال البخيل بحادث أو وارث " .

وشاهد المدح في موضع الاستهزاء قول ابن الذروى في ابن أبي حصينة من أبيات خفيف:
لا تظنن حدبة الظهر عيباً ... فهي في الحسن من صفات الهلال
؟وكذاك القسي محدودبات وهي أنكى من الظبا والعوالي
وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال
وذنابى القطاة وهي كما تع ... لم كانت موصوفة بالجلال
وأرى الانحناء في منسر البا ... زي لم يعد مخلب الرئبال
كون الله حدبة فيك إن شئ ... ت من الفضل أو من الإفضال
فأتت ربوة على طود حلمٍ ... طال أو موجةً ببحر نوال
ما رأتها النساء إلا تمنت ... لو غدت حليةً لكل الرجال
ثم ختمها بقوله:
وإذا لم يكن من الهجر بدٌ ... فعسى أن تزورني في الخيال
وكقول ابن الرومي سريع:
فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل
وأحسب أن أول من نطق بالتهكم في شعره امرؤ القيس، حيث يقول: متقارب:
فأنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألا تبصر
فإن قوله للثور هبلت ألا تبصر من التهكم اللطيف. وأطرف ما سمعت في التهكم قول حماد عجرد مجزوء الكامل:
فيا ابن نوح يا أخا ال؟ ... حلس ويا بن القتب
ومن نشا والده ... بين الربا والكثب
يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي
والفرق بين التهكم والهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل، وهو ضد الأول، لأن الهزل الذي يراد به الجد يكون ظاهره هزلاً وباطنه جداً.
؟

باب التنذير

وهو أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة، أو مجنة مستطرفة، وهو يقع في الجد والهزل ومن لطيف ما جاء منه في الجد وبديعه قوله تعالى: " فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " فانظر مبالغته سبحانه وتعالى في وصف المنافقين بالجبن والخوف حيث أخبر عنهم بالخبر الصادق أنهم عند الخوف تدور أعينهم عند النظر كحالة من يغشى عليه من الموت، ولو اقتصر سبحانه وتعالى على قوله " كالذي يغشى عليه " كان كافياً في المقصود، لكن أراد الزيادة على المقدار الذي قصد من المبالغة، فأوغل بقوله سبحانه " من الموت " إذ حالة المغشى عليه من الموت أشد من حالة غيره، ولا شك في أن المنافقين من الجبن والخوف من الموت بهذه المثابة، وذلك الذي دعاهم إلى النفاق، فإن من كان قوي النفس شجاع القلب، لا يرتضي النفاق، إذ هو لا يخشى الموت ولا يخافه، وفي هذا الكلام من طريف التندير لمن يتدبره ما يبهرج كل نادرة.
وأما ما جاء منه في الهزل فكقول أبي تمام فيمن سرق له شعراً، وهو محمد بن يزيد الرقى خفيف:
من بنو بحدل من ابن الحباب ... من بنو تغلب غداة الكلاب
من طفيل من عامر أو من الحا ... رث أم من عتيبة بن شهاب
إنما الضيغم الهصور أبو الأش؟ ... بال هتاك كل خيس وغاب
من عدت خيله على سرح شعري ... وهو للحين راتع في كتاب
يا عذارى الكلام صرتن من بع؟ ... دي سبايا تبعن في الأعراب
؟لو ترى منطقي أسيراً لأصبح؟ ... ت أسيراً ذا عبرة واكتئاب
ثم ختمها بقوله: ؟طال رغبي إليك مما أقاسي؟ - ه ورغبي يا رب فاحفظ ثيابي وكقوله في هجاء موسى بن إبراهيم الرافقي كامل:
عجباً لقوم يسمعون مدائحي ... لك لم يقولوا قم فأنت مصاب
نبزوا بكذاب مسيلمة فقد ... غلطوا ومانوا بل أنا الكذاب
وما رويت ألطف من قول ضياء الدين موسى بن ملهم الكاتب في الرشيد عمر الفوى وكان به داء الثعلب وهو من نوادر ما قيل في أقرع وافر:
أقول لمعشر غلطوا وغضوا ... من الشيخ الرشيد وأنكروه
هو ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى يضع العمامة تعرفوه
والفرق بين التندير وما قبله من باب التهكم وما يلتبس بالتهكم من الهزل الذي يراد به الجد أن التندير ظاهره وباطنه هزل بخلاف البابين، والله أعلم.
؟

باب الإسجال بعد المغالطة

وهو أن يقصد الشاعر غرضاً من ممدوح، فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض، فيسجل عليه ذلك، مثل أن يشترط لبلوغ ذلك الغرض شرطاً يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض، ثم يقرر وقوع ذلك الغرض مغالطة، ليقع المشروط كقول بعض المحدثين بسيط
جاء الشتاء وما عندي لقرته ... إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني
فإن هلكت فمولانا يكفنني ... هبني هلكت فهبني بعض أكفاني
وقد تأتى المغالطة بلا إسجال إذا أراد المتكلم إخفاء مراده فسأل عن شيء وهو يريد غيره بشرط أن يكون المسئول عنه يتعلق بمراده تعلقاً قريباً لطيفاً، كقول أبي نواس خفيف:
أسأل القادمين من حكمان ... كيف خلفتم أبا عثمان
فيقولون لي جنان كما س ... رك من حالها فسل عن جنان
ما لهم لا يبارك الله فيهم ... كيف لم يغن عندهم كتماني
فإنه سأل عن أخى سيد جنان وإنما أراد جناناً، ويقع الإسجال بغير مغالطة، وهذا القسم هو الذي يأتي في الكتاب العزيز كثيراً، ومنه قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " والله أعلم.

باب الفرائد

هذا باب مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأن مفهومه إتيان المتكلم بلفظة تتنزل من كلامه منزلة الفريدة من حب العقد تدل على عظم فصاحته وقوة عارضته، وشدة عربيته، حتى إن هذه اللفظة لو سقطت من الكلام لعز على الفصحاء غرامتها وهي كقول أبي نواس كامل:
وكأن سعدي إذ تودعنا ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا
فلفظة اشرأب من الفرائد التي لا نظير لها في فصيح الكلام، ولا يقع مثلها إلا على سبيل الندور، وكقوله أيضاً بسيط
حتى إذا ما غلا ماء الشباب لها ... وأفعمت في تمام الجسم والعصب
فاستعارة الغليان لماء الشباب من الفرائد البديعة، وكذلك قول أبي تمام وافر:
وقدما كنت معسول الأماني ... ومأدوم القوافي بالسداد
فلفظة مأدوم من الفرائد التي لا يقدر على نظيرها، ولا يعثر على شبيهها وكقول البحتري في المعتز بالله خفيف:
لا بس حلة الوفاء ومن أب ... هة السيف أن يكون محلى
فقوله أبهة من الفرائد الغريبة في مكانها التي يعجز الفصحاء عن الإتيان بها، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك غرائب يعز حصرها، منها قوله سبحانه وتعالى: " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " وانظر إلى قوله تعالى: " فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً " فألفاظ هذه الجملة كلها فرائد معدومة النظائر، وكقوله عز وجل: " حتى إذا فزع عن قلوبهم " فانظر إلى لفظة " فزع " وغرابة فصاحتها، تعلم أن الفكر لا يكاد يقع على مثلها وكقوله تبارك وتعالى: " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " وهذه الفريدة في هذه الآية أعجب من كل ما تقدم، فإن لفظة " خائنة " سهلة مستعملة، كثيرة الجريان على ألسن الناس، لكن على انفرادها، فلما أضيفت إلى " الأعين " حصل لها من غرابة التركيب ما جعل لها في النفوس هذا الموقع العظيم، بحيث لا يستطاع الإتيان بمثلها، ولا يكاد يقع في شيء من فصيح الكلام شبهها، وأشباه ذلك في الكتاب العزيز لا يدخل تحت الحصر، وقد ورد في السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام مواضع شريفة، منها قوله عليه السلام: استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها فالمح لفظتي استذكروا، وتفصيا لترى ما يذهل عقل السامع فصاحة، ويروعه جزالة وحلاوة، وكذلك قوله عليه السلام: " إذا ذكر الصالحون فحى هلاً بعمر " فإن لفظة " حى، هلاً " من الفرائد العجيبة وفيها من الفصاحة ما يعجز عن مثله كل فصيح، وعلى هذه الأمثلة فقس ترشد إن شاء الله تعالى.

باب الإلغاز والتعمية

ويسمى المحاجاة، والتعمية أعم أسمائه، وهو أن يريد المتكلم شيئاً فيعبر عنه بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليها، وهو يكون في النثر والشعر، فمما جاء منه في النثر ما أملاه على السيد الشريف العالم الفاضل تاج الدين والشرف ابن الحلبي أبقاه الله من رسالة ذكر أنها أملاها عليه منشئها، فحفظها ثم نسيها، ولم يبق على خاطره منها إلا ما أذكره، وهو، بلغني أيدك الله أنك ركبت الأفق، وسرت تطأ ذوائب النجم من عن يمين جعفر، وشمال سعيد، حتى أتيت إلى الضرير، فطفقت تستحسن عينيه ملياً، وقصدت ابنة الوادي فبقرت بطنها عن خمس كأصابع الكف، وأتاك الغلام ببيضاء من ملاح القرية، فأصليت الجميع ناراً تلظى، فبردت بنارهن ناراً محرقة، ورأيت عثمان وهو يسر أبا بكر فقتلته.
ومنها ورويت أن الشافعي قال: لا بأس بالمرأة إذا احتاجت أن تبيع زوجها لتنفق ثمنه.
وذكر لي الشريف تاج الشرف أن منشئها كان شريفاً عباسياً، وانسى اسمه.
ومن النثر الذي جاء في هذا الباب قول ابن جراح ملغزاً في دملج: ماشئ وجهه قمر، وقلبه حجر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر، وإن قرعته ملأ الأسماع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن فككت شطره دعا لك، وإن ركبت نصفه الآخر هالك، وربما كثر مالك، وإن رخمته آلمك عند الفجر، وأورثك الضجر وقت العصر.
ومثال ما أتى من هذا الباب في الشعر قول بعض العرب ملغزاً في الأيام " رجز " :
وسبعة كلهم إخوان ... ما إن يموتون وهم شبان
لم يرهم في موضع إنسان
ومن ذلك قول أبي العلاء المعري ملغزاً في الإبرة مما أنشدنيه الفاضل عفيف الدين علي بن عدلان النحوي عفا الله عنه طويل:
سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثراً والله شاف من السم
كست قيصراً ثوب الجمال وتبعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وللمعري ملغزاً في الهريسة: طويل
أتتنا وما لاح الصباح وقد سرت ... إلينا الدجى إن الحرائر لا تسرى
منعمة بيضاء ما نفحاتها ... بعطر ولكن هن أشهى من العطر
لها والد عال وأم كريمة ... وحاضنة سوداء جائشة الصدر
إذا أودعت سراً غلا في ضميرها ... فباتت من السر المصون على الجمر
وكقوله ملغزاً في قطعة ملح من ملح الطعام من إنشاد المذكور طويل:
وبيضاء من سر الملاح ملكتها ... فلما قضت إربي حبوت بها صحبي
فباتوا بها مستمتعين ولم تزل ... تحثهم بعد الطعام على الشرب
وأمثلة هذا الباب من الشعر لا تحصى كثرة.

باب التصرف

وهو أن يأتى من قوة الشاعر إلى معنى فيبرزه في عدة صور، تارة بلفظ الاستعارة، وطوراً بلفظ الإيجاز، وآونة بلفظ الإرداف، وحيناً بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل طويل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فإنه أبرز هذا المعنى في لفظ الاستعارة، تم تصرف فيه فأتى به بلفظ الإيجاز، فقال: طويل:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فإن التقدير: فيا لك من ليل طويل، فحذف الصفة، لدلالة التشبيه عليها، ثم تصرف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال طويل:
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
ثم تصرف فيه فعبر عنه بلفظ الحقيقة فقال طويل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ولا شبهة في أن هذا إنما يأتي من قوة الشاعر وقدرته، ولذلك أتت قصص القرآن الكريم في صور شتى من البلاغة ما بين الإيجاز والإطناب واختلاف معاني الألفاظ، وشهرة ذلك تغني عن شرحه. والله أعلم .

باب النزاهة

وهو يختص غالباً بفن الهجاء، وإن وقع نادراً في غيره، فإنه عبارة عن نزاهة ألفاظ الهجاء وغيره من الفحش حتى يكون الهجاء كما قال فيه أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن أحسن الهجاء فقال: الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها، مثل قول جرير كامل:
لو أن تغب جمعت أحسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا
وكقوله وافر:==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

باقي مؤلفات الشيخ الالباني

  ...